استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

استخراج المرام من استقصاء الإفحام0%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 456

استخراج المرام من استقصاء الإفحام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 456
المشاهدات: 209608
تحميل: 7048


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 209608 / تحميل: 7048
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ابن كعب قراءة آيةٍ ، فقال له أُبي : لقد سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنتَ يلهيك ـ يا عُمر ـ الصفق بالبقيع فقال عمر : صدَقت ) (١) .

بل لقد اعترف بذلك عُمر نفسه في بعض الموارد ، كالحديث في ( البخاري ) ، في قضيّة خبر أبي موسى في حكم الاستيذان وشهادة أبي سعيد الخدري له ، قال عُمر : ( خفِي عليَّ هذا مِن أمر النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ألهاني الصفق بالأسواق )(٢) .

وفي ( حياة الحيوان ) : ( كان أبو بكر الصدّيق بزّازاً ، وكذلك عثمان وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وكان عُمر دلاّلاً يسعى بين البائع والمشتري )(٣) .

وأمّا عليّعليه‌السلام ، فإنّه وإنْ نصّ السيوطي على أنّه أكثر مَن رُوي عنه التفسير من الخلفاء ، لكنّ بعض المتعصّبين منهم ينفي ذلك ، ويحمله على الأكثريّة الإضافيّة ، ألا ترى المتكلّمين منهم ـ حينما يُريدون الردّ على استدلال أهل الحقّ على أعلميّة الإمام بالقرآن والتفسير ، بانتشار هذا العلم عنه بين المسلمين ـ يُبادرون إلى القول بأنّ ما رُوي عن عليّ ليس إلاّ أخباراً آحاداً ، حتّى أنّ ابن تيميّة يقول بأنّ رواية ابن عبّاس في التفسير عن عليّ ( قليلةٌ جدّاً ، ولم يخرج أصحاب الصحيح شيئاً مِن حديثه عن عليّ )(٤) ويقول : ( وما يُعرف بأيدي المسلمين تفسيرٌ ثابتٌ عن عليّ )(٥) .

بل لقد قال غير واحدٍ منهم : بأنّ كلّ ما رُوي عنهعليه‌السلام فهو مكذوبٌ عليه :

ـــــــــــــــــــ

(١) كنز العمّال ١٣ : ٢٦١/ ٣٦٧٦٦ .

(٢) صحيح البخاري ٣ : ٧٢ كتاب البيوع ، باب الخروج في التجارة .

(٣) حياة الحيوان ١ : ٢٧٥ ( الجزور ) .

(٤) منهاج السنّة ٤ : ٢٤٢ .

(٥) منهاج السنّة ٤ : ٢٤٢ .

٢١

قال الذهبي في ( ميزان الاعتدال ) : ( حصين ، عن الشعبي : ما كُذِب على أحدٍ مِن هذهِ الأُمّة ما كُذِب على عليٍّرضي‌الله‌عنه . وقال أيّوب : كان ابن سيرين يَرى أنّ عامّة ما يُروى عن عليٍّ باطل )(١) .

وفي ( البخاري ) : ( وكان ابن سيرين يرى أنّ عامّة ما يُروى عن عليّ الكذب )(٢) .

وعلى هذا... فلِنعطف عنان البحث والكلام نحو سائر الصحابة الأعلام ، الذين ذكرهم السيوطي في الطبقة الأُولى :

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ١ : ٤٣٦/ ١٦٢٧ .

(٢) صحيح البخاري ٥ : ٢٤ باب مناقب المهاجرين ـ باب مناقب عليّ بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسنرضي‌الله‌عنه .

٢٢

عبد الله بن مسعود

فأمّا ابن مسعود ، فهذا ما رَووه أو ذكروه في كُتُبِهم ، ممّا هو مِن القوادح على أُصولهم ، فيه وفي مُصحَفِه ، وما أخرجوا عنه في التفسير .

بين عثمان وابن مسعود

إنّ من ضروريّات التاريخ أنّ عُثمان بن عفّان قد أحرق مصحف ابن مسعود ، فقال علماؤهم دفاعاً عنه وتبريراً لِما فعل :

( إنّه لو بَقيَ مصحفه في أيدي الناس ، لأدّى ذلك إلى فتنةٍ كبيرةٍ في الدين ) ، ثمّ علّلوا ذلك بقولهم : ( كثرة ما فيه مِن الشذوذ المنكرة عند أهل العلم بالقرآن )(١) .

وقال الراغب الإصفهاني في( المحاضرات ) :

( أثبت ابن مسعود في مصحفه : ولو كان لابن آدم واديان مِن ذهب لابتغى إليهما ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب ، ويتوب الله على مَن تاب )(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) تاريخ الخميس ٢ : ٢٧٣ وغيرهما .

(٢) محاضرات الأُدباء ٤ : ٤٣٤ .

٢٣

وقال :

 ( أثبت ابن مسعود بسم الله في سورة البراءة )(١) .

ومن المعلوم الواضح لدى كلّ أحدٍ : أنّ مَن أدرج في القرآن أدعية القنوت وغيرها ممّا ليس من القرآن ، وكان قرآنه يشتمل على الشذوذ المنكرة عند أهل العلم بالقرآن ، بحيث لو بقي في أيدي الناس لأدّى إلى فتنةٍ كبيرةٍ في الدين ، ولانجرَّ إلى قبائحٍ كثيرةٍ ، وصار المسلمون مختلفين في كتابهم كاختلاف اليهود والنصارى في كتابهم ، ولم يرفع اليد عن كلّ ذلك إلاّ بالسبّ والشتم... كان من المقدوحين والمجروحين...

بل المُستفاد من تتبّع كلمات القوم في المقام أنْ ليس لابن مسعود على أُصولهم من الإيمان والإسلام نصيب ، فضلاً عن الجلالة والسيادة والفضل والسعادة ؛ لأنّه كان مِن المُخالفين لعثمان والمنكرين عليه ، حتّى أنّه كان يدعو عليه على رؤوس الأشهاد :

قال الحلَبي في( السيرة ) :

( وكان الوليد شاعراً ظريفاً شجاعاً كريماً ، يشرب الخمر كلّ ليلة من أوّل الليل إلى الفجر ، فلمّا أذّن المؤذّن لصلاة الفجر ، خرج إلى المسجد وصلّى بأهل الكوفة الصبح أربع ركَعَات ، وصار يقول في ركوعه وسجوده : اشرب واسقني ، ثمّ قاءَ في المحراب ، ثمّ سلّم وقال : هل أزيدكم ؟

فقال له ابن مسعود : لا زادك الله خيراً ولا مَن بعثك إلينا )(٢) .

هذا، وقد نصّ صاحب( التحفة ) على أنْ مَن يطعن في الصهرين ـ يعني : عليّاً وعثمان ـ فهو ليس من أهل الإيمان .

ـــــــــــــــــــ

(١) محاضرات الأُدباء ٤ : ٤٣٤ .

(٢) إنسان العيون = السيرة الحلبيّة ٢ : ٢٨٤ ، وفيه : شرب الخمر ليلةً...

٢٤

وقال ابن حَجَر في( الصواعق ) في مطاعن عثمان :

( ومنها : أنّه حَبَس عطاء ابن مسعود وأُبَي بن كعب ، ونَفَى أبا ذر إلى الربَذَة ، وأشخص عبادة بن الصّلت مِن الشام إلى المدينة لمّا اشتكاه معاوية ، وهَجَر ابن مسعود ، وقال لابن عوف : إنّك منافق ، وضرب عمّار بن ياسر ، وانتهك حُرمة كعب بن عجرة ، فضربه عشرين سوطاً ونفاه إلى بعض الجبال ، وكذلك حرمة الأشتر النخعي .

وجواب ذلك : أمّا حبْسه لعطاءِ ابن مسعود وهجره له ، فلِما بلغه ممّا يُوجب ذلك ، إلقاءً [إبقاءً] لأُبّهة الولاية )(١) .

فكان قد وقَع مِن ابن مسعود ما استحقّ به حبْس العطاء والهجر ، بل يظهر مِن ذلك أنّه ما كان يعتقد بولاية عثمان وخلافته ، فلو كان يعتقد لَمَا ألقى أُبّهتها !

وقال الفخر الرازي في( نهاية العقول ) :

( قوله : سادساً : ضرب ابن مسعود وعمّاراً وسيّر أبا ذر إلى الربَذَة .

قلنا : كما فعل ذلك ، فقد قيل عن هؤلاء أنّهم أقدموا على أفعالٍ استوجبوا ذلك )(٢) .

ومن الضروري : إنّ الأفعال المستوجبة لضرب أعيان الصحابة وهتك عدولهم ، ليست إلاّ الكبائر المُوبقة والمعاصي المهلكة...

٢٥

مشكلة الفاتحة والمعوّذتين وطُرق حلّها

ثمّ إنّ ابن مسعود كان لا يرى الفاتحة والمعوّذتين قرآناً ، وهذا ممّا يحزّ في قلوب القوم ، ويجعلهم يضطربون في حلّه .

قال الراغب في فصل بيان ما ادّعي أنّه من القرآن ممّا ليس في المُصحف ، وما ادّعي أنّه ليس منه وهو فيه :

( وأسقط ابن مسعود من مصحفه أُمّ القرآن والمعوّذتين )(١) .

وفي( المسند ) : ( عن عبد الرحمان بن يزيد قال : كان عبد الله يحكّ المعوّذتين مِن مصاحفه ويقول : إنّهما ليستا مِن كتاب الله تبارك وتعالى )(٢) .

وفي( الدرّ المنثور ) : ( أخرج عبد بن حميد ومحمّد بن نصر المروزي في كتاب الصّلاة ، وابن الأنباري في المصاحف ، عن محمّد بن سيرين : إنّ أُبي ابن كعب كان يكتب فاتحة الكتاب والمعوّذتين ، واللّهمّ إيّاك نعبد ، واللّهمّ إنّا نستعينك ، ولم يكتب ابن مسعود شيئاً منهنَّ ، وكتب عثمان بن عفّان فاتحة الكتاب والمعوّذتين )(٣) .

وفي (الدرّ المنثور) أيضاً : ( أخرج عبد بن حميد عن إبراهيم قال : كان عبد الله لا يكتب فاتحة الكتاب في المصحف وقال : لو كتبتها لكتبت في أوّل كلّ شيء )(٤) .

وفي ( تاريخ الخميس ) بعد العبارة المنقولة آنفاً : ( ولحذفه المعوّذتين من

ـــــــــــــــــــ

(١) محاضرات الأُدباء ٤ : ٤٣٤ .

(٢) مسند أحمد بن حنبل ٦ : ١٥٤/ ٢٠٦٨٣ .

(٣) الدرّ المنثور ١ : ١٠. وفيه : إيّاك نستعين ، بدل : اللهمّ إنّا نستعينك .

(٤) الدرّ المنثور ١ : ١٠ .

٢٦

مصحفه ، مع الشهرة عند الصحابة أنّهما من القرآن ) (١) .

هذا ، وقد قالوا بأنّ إنكار الفاتحة والمعوّذتين كُفر ، فقد جاء في( الإتقان ) :

( قال النووي في شرح المهذّب : أجمَع المسلمون على أنّ المعوّذتين والفاتحة مِن القرآن ، وأنّ مَن جَحَد منها شيئاً كَفَر )(٣) .

وإذا كان ( مَن أنكر شيئاً منها كَفَر ) فقد أنكر ابن مسعود كلّها !!

ومن هنا وقعوا في المشكلة :

قال السيوطي في ( الإتقان ) : ( مِن المشكل على هذا الأصل : ما ذكره الإمام فخر الدين الرازي قال : نُقِل في بعض الكتب القديمة ، أنّ ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة والمعوّذتين من القرآن ، وهو في غاية الصعوبة ؛ لأنّا إنْ قلنا : إنّ النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة بكون ذلك من القرآن ، فإنكاره يُوجب الكفر ، وإنْ قلنا : لم يكن حاصلاً في ذلك الزمان ، فيلزم أنْ [يكون] القرآن ، ليس بمتواتر في الأصل )(٣) .

وتحيّروا كيف يَخرجون مِن هذهِ العويصة :

١ ـ تكذيب الأخبار

قال في ( الإتقان ) نقلاً عن الرازي بعد ما تقدّم : ( والأغلب على الظنّ أنّ نقل هذا المذهب عن ابن مسعود نقلٌ باطل ، وبهِ يحصل الخلاص عن هذه

ـــــــــــــــــــ

(١) تاريخ الخميس ٢ : ٢٧٣ .

(٢) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٧١ .

(٣) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٧٠ ـ ٢٧١ .

٢٧

العقدة ) (١) .

وهكذا أجاب القاضي أبو بكر والنووي وابن حزم... وزعموا أنّ به يحصل الخلاص عن هذه العقدة ، ولكنْ لات حين مناص ، فقد تعقّب المحقّقون ذلك وتتبّعوا الأخبار به ، ووجدوها صحيحةً ، ولا مَجال لتكذيب الأخبار الصحيحة أبداً..

ففي ( الإتقان ) : ( قال ابن حَجَر في شرح البخاري : قد صحّ عن ابن مسعود إنكار ذلك ، فأخرج أحمد وابن حبّان عنه أنّه كان لا يكتب المعوّذتين في مصحفه وأخرج عبد الله بن أحمد في زيادات المسند ، والطبراني وابن مردويه من طريق الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي قال : كان ابن مسعود يحكّ المعوّذتين من مصاحفه ويقول : إنّهما ليستا من كتاب الله .

وأخرج البزّار والطبراني مِن وجه آخر عنه أنّه كان يحكّ المعوّذتين من المصحف ويقول : إنّما أمر النبيّ أن يتعوّذ بهما ، وكان [عبدالله] لا يقرأ بهما .

أسانيدها صحيحة .

قال البزّاز : لم يُتابع ابن مسعود على ذلك أحد من الصحابة وقد صحّ أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ بهما في الصّلاة .

قال ابن حجَر : فقول مَن قال إنّه كذبٌ عليه ، مردود ، والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يُقبل ، بل الروايات صحيحة )(٢) .

فهذا الطريق ـ طريقُ الطعن في هذهِ الروايات ـ لا يفيد .

ـــــــــــــــــــ

(١) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٧١ .

(٢) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٧١ ـ ٢٧٢ .

٢٨

٢ ـ الإبهام

ومنهم مَن سلَك طريقَ الإبهام ، فوضَع بدل كلمة حكّ ابن مسعود وإنكاره الفاتحة والمعوّذتين ، كلمة ( كذا وكذا ) وتخيّل أنّه بذلك يُمكن إخفاء الحقيقة والخروج عن العقدة ، وقد جاء ذلك في ( صحيح البخاري ) حيث قال :

( حدّثنا عليّ بن عبد الله ، حدّثنا سُفيان ، حدّثنا عبدة بن أبي لُبابة ، عن زر ابن حبيش ، وحدّثنا عاصم عن زر قال : سألت أُبيّ بن كعب : يا أبا المنذر ، إنّ أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا ، فقال أُبّي : سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لي :( قل ) ، فقلت : [قال] فنحن نقول كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )(١) .

على أنّ في هذا النقل مزيداً مِن الطعن والجرح على ابن مسعود...

وقال ابن حجر في ( فتح الباري ) :

( هكذا وقع هذا اللّفظ مُبهماً ، وكأنّ بعض الرواة أبهمه استعظاماً ، وأظنّ ذلك مِن سفيان ، فإنّ الإسماعيلي أخرجه مِن طريق عبد الجبّار بن العلاء ، عن سُفيان كذلك على الإبهام ، وكنت أظنّ أوّلاً أنّ الذي أبهمه البخاري... )(٢) .

٣ ـ التأويل والحمل

ومنهم مَن سلَك طريق التأويل للأخبار المنقولة عن ابن مسعود :

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٦ : ٢٢٣ كتاب التفسير ـ سورة قل أعوذ بربّ الناس .

(٢) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٨ : ٦٠٣

٢٩

قال ابن حجَر في ( فتح الباري ) :

( وقد تأوّل القاضي أبو بكر الباقلاّني في كتاب الانتصار ، وتبعه عياض وغيره ما حكي عن ابن مسعود فقال : لم ينكر ابن مسعود كونهما من القرآن ، وإنّما أنكر إثباتهما في المُصحف ، فإنّه كان يرى أنْ لا يكتب في المصحف شيئاً ، إلاّ إنْ كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أذِن في كتابته فيه ، وكأنّه لم يبلغه الإذن في ذلك قال : فهذا تأويلٌ منه وليس جحداً لكونهما قرآناً وهو تأويل حسن ) .

لكنّه تأويلٌ عجيب وتوجيهٌ غريب ، فأيّ مانعٍ مِن درْج ما هو قرآن في القرآن حتّى لا يجوّز ابن مسعود ذلك ، ويهتمّ بمحوه من المصحف ؟ إنّ مثل هذا التأويل غيرُ مُجدٍ للدفاع عن حرمة ابن مسعود والمحافظة على مقامه...

إنّ هذا التأويل لا يُمكن قبوله أصلاً ، ولذا قال ابن حَجَر بعد العبارة المتقدّمة :

( إلاّ أنّ الرواية الصريحة التي ذكرتها تدفع ذلك حيث جاء فيها : ويقول : إنّهما ليستا مِن كتاب الله ) إلاّ أنّه حاول التأويل لهذه الرواية فقال :

( نعم ، يُمكن حمل لفظ ( كتاب الله ) على ( المُصحف ) فيتمّ التأويل المذكور وقال غير القاضي : لم يكن اختلاف ابن مسعود مع غيره في قرآنيّتهما ، وإنّما كان في صفة من صفاتهما ، انتهى .

وغاية ما في هذا أنّه أبهم ما بيّنه القاضي )(١) .

لكنّ هذا التأويل باطل أيضاً ، إذ لا يساعده لفظ الرواية عند البزّار والطبراني التي أوردها ابن حجر أيضاً ، فإنّها صريحة في أنّ ابن مسعود كان

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٨ : ٦٠٤ .

٣٠

يقول بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما عوّذ بالمعوّذتين ، ولم يكن يقرأ بهما ، وهذا يدلّ بكلّ وضوح على أنّ ابن مسعود ما كان يرى المعوّذتين قرآناً ، اللّهمّ إلاّ أنْ يزعموا أنّ عدم القراءة بالمعوّذتين لا يثبت عدم كونهما قرآناً ، وحينئذٍ ، فما هو الكلام المعبّر عن ذلك ؟

ومِن هنا نرى أنّ بعض المتكلّمين منهم لمّا لم يتمكّنوا مِن توجيه رأي ابن مسعود ، ولا مِن إنكار ما لاقاه مِن عثمان ، اضطرّ إلى هتك حرمة ابن مسعود وتوهينه... ولم يتعرّض لشيء مِن هذه التأويلات...

وكيف يُمكن تأويل ما اُخرج في ( المسند ) من أنّه ( لقد كان ابن مسعود يرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعوّذ بهما الحسن والحسين ، ولم يسمعه يقرؤهما في شيء مِن صلواته ، فظنّ أنّهما معوّذتان ، وأصرَّ على ظنّه ، وبالغ في إنكار كونهما من القرآن )(١) ؟

ولذا نرى الحافظ ابن حجَر يتراجع عن كلّ التأويلات ، وقد قال في آخر كلامه السّابق :

( ومَن تأمَّل سياق الطُرق التي أوردتُها للحديث ، استبعَد هذا الجمع ) .

واختار بالآخرة الحمل على عدم تواتر المعوّذتين عند ابن مسعود ، قال :

( قد قال ابن الصبّاغ في الكلام على مانعي الزكاة : وإنّما قاتلهم أبو بكر على منع الزكاة ، ولم يقل إنّهم كفروا بذلك ، وإنّما لم يكفروا ؛ لأنّ الإجماع لم يكن استقر ، قال : ونحن الآن نكفّر مَن جحدها ، وكذلك ما نُقل عن ابن مسعود في المعوّذتين ، يعني : إنّه لم يثبت عنده القطع بذلك ، ثمّ حصل الاتفاق بعد ذلك .

ـــــــــــــــــــ

(١) مسند أحمد بن حنبل ٦: ١٥٤/ ٢٠٦٨٤ .

٣١

وقد استشكل هذا الموضع الفخر الرازي فقال : إنْ قلنا : إنّ كونهما مِن القرآن كان متواتراً في عصرِ ابن مسعود ، لزِم تكفير مَن أنكرهما ، وإنْ قلنا : إنّه لم يكن متواتراً ، لزِم أنّ بعض القرآن لم يتواتر قال : وهذه عقدةٌ صعبة .

وأُجيب : باحتمال أنّه كان متواتراً في عصر ابن مسعود ، ولكنْ لم يتواتر عند ابن مسعود ، فانحلّت العقدة بعون الله تعالى )(١) .

إلاّ أنّ هذا الحمل أضعف وأفسد من الكلّ ، وذلك :

أوّلاً : إنّه يُنافي ما رواه القوم ـ كما في ( الاستيعاب ) وغيره ـ مِن أنّ ابن مسعود حضَر العرض الأخير للقرآن الكريم ، وعَلِم ما نُسِخ منه وما بُدّل ، وهذا نصّ ما رواه ابن عبد البر حيث قال :

( روى وكيع وجماعة معه ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان قال : قال لي عبد الله بن عبّاس : أيّ القراءتين تقرأ ؟ قلت : القراءة الأُولى قراءة ابن أُمّ عبد فقال لي : بل هي الآخرة ، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعرض القرآن على جبرئيل في كلّ عام مرّةً ، فلمّا كان العام الذي قبض فيه ، عرضه عليه مرّتين ، فحضر ذلك عبد الله ، فعلِم ما نُسِخ مِن ذلك وما بُدّل )(٢) .

وهل من الجائز أن يقال بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعرض الموّذتين ، وجبريل أيضاً لم ينبّهه على ذلك ؟!

وثانياً : إذا كان تواتر المعوّذتين ثابتاً عند الصّحابة وغير ثابت عند ابن مسعود فقط ، نقول : إنْ كان سائر الصحابة قد أخبروه بكون المعوّذتين مِن القرآن فلم يقبل منهم ولم يصدّقهم ، أو لم يثبت بخبرهم تواترهما عنده ، لزم

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٨ : ٦٠٤ .

(٢) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٣ : ٩٩٢/ ١٦٥٩ .

٣٢

فسق الصّحابة ، بل دلّ ذلك على كونِهم أسوَء حالاً من الكُفّار والفسّاق ؛ لأنّ التواتر يحصل بإخبار الكفّار أيضاً كما بُيِّنَ في محلّه وإنْ كان سائر الصّحابة لم يخبروه بكون المعوّذتين قرآناً ، مع علمهم بأنّه كان يحكّهما مِن المصاحف ـ كما في ( المسند ) : ( عن زر قال : قلت لأُبَي : إنّ أخاك يحكّهما مِن المصحف )، وكما في ( الرياض النضرة ) في مطاعن عثمان : ( وأمّا الخامسة عشر ، وهي إحراق مصحف ابن مسعود ، فليس ذلك ممّا يُعتذر عنه ، بل هو من أكبر المصالح ، فإنّه لو بقيَ في أيدي الناس أدّى ذلك إلى فتنةٍ كبيرةٍ في الدين ؛ لكثرة ما فيه من الشذوذ المنكرة عند أهل العلم بالقرآن ، ولحذفِهِ المعوّذتين من مُصحفه مع الشهرة عند الصحابة أنّهما من القرآن وقال عثمان لمّا عُوتب في ذلك : خشيت الفتنة في القرآن ) (١) ـ فالصّحابة ـ وعلى رأسهم عثمان ـ كلّهم فسّاق!!

وبعد ، فإذا كان ابن مسعود مُنكِراً للمعوّذتين ، فإنّ جميع ما يُشنِّع به المخالفون على أهل الحق ـ لوجود بعض الأخبار الظاهرة في تحريف القرآن ـ القابلة للحمل على المحامل الصحيحة في كُتبِنا ـ يتوجّه على ابن مسعود بالأولويّة القطعيّة ؛ فإنّه ينكر بصراحة سورتين كاملتين ، بل ثلاث سور ، هي المعوّذتان وأُمّ الكتاب ، وهو في نفس الوقت من أعلام الصحابة وأجلاّئهم ، ومن أئمّة القرآن والتفسير وأكابرهم !! بل هو محكومٌ عليه بالكُفر والخروج عن زمرة المسلمين ، وقد جاء في كتاب ( فصول الأحكام ) لعِماد الدين حفيد بُرهان الدين صاحب الهداية(٢) :

ـــــــــــــــــــ

(١) الرياض النضرة في مناقب العشرة ٣ : ٩٩.

(٢) المعروف بكتاب ( فصول العمادي ) كما في ( كشف الظنون ٢ : ١٢٧٠ ) وهو في فروع الحنفيّة وصاحب الهداية هو : برهان الدين المرغيناني المتوفّى سنة ٥٩٣

٣٣

 ( وبعض المشايخ على أنّه ـ أي مَن زعَم أنّ المعوّذتين ليسَتَا من القرآن ـ يكفر وحكى عن خاله ، الإمام جلال الدين أنّه قد ذكر في آخر تفسير أبي اللّيث حديثاً : مَن زعَم أنّ المعوّذتين ليسَتَا من القرآن فأولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ومثل هذا الوعيد إنّما ورد في حقّ الكفّار دون المؤمنين ) .

وتَلَخّص :

سقوط جميع التأويلات ، وبقاء العقدة العويصة على حالها .

فهذا حال ابن مسعود عند القوم على أُصولهم .

ولعلَّ هذا هو السبب في توقّف عبد الله بن عُمر عن قبول خبر ابن مسعود عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في ( صحيح مسلم ) :

( عن أبي رافع ، عن عبد الله بن مسعود : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( ما من نبيٍّ بعَثَه الله في اُمةٍ قبلي ، إلاّ كان له من أُمّته حواريّون وأصحاب ، يأخذون بسنّته ويقتدون بأمره ، ثمّ إنّها تخلف من بعدهم خُلُوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون مال لا يُؤمرون ، فمَن جاهدهم بيده فهو مؤمن... وليس وراء ذلك مِن الإيمان حبّة خردل ) .

قال أبو رافع : فحدّثت عبد الله بن عمر ، فأنكره عليَّ ، فقدم ابن مسعود فنزل بقناةٍ ، فاستتبَعَني إليه عبد الله بن عمر يعوده ، فانطلقتُ معه ، فلمّا جلسنا سألتُ ابن مسعود عن هذا الحديث ، فحدّثنيه كما حدّثت ابن عمر ).

٣٤

عبد الله بن العبّاس

وأمّا الحبر الجليل والمفسّر النبيل عبد الله بن العبّاس ، الذين لقّبوه بـ ( ترجمان القرآن ) ، وقالوا بأنّه عَلِم تأويل القرآن بدعاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما قال ابن القيّم في ( زاد المعاد ) في الاستدلال على أنّ الخُلْع ليس بطلاق بقوله تعالى :( الطَّلاقُ مَرَّتَانِ... ) الآية : ( وهذا فهْم ترجمان القرآن، الذي دعا له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنْ يعلّمه الله تأويل القرآن، وهي دعوة مُستجابة بلا شك )(١) .

قوله بالمتعة وهي عند جمهورهم حرام

فهو ـ بمقتضى هفَواتهم الشنيعة وخُرافاتهم القبيحة ـ من المجوّزين للحرام ؛ لأنّه كان يقول بحلّيّة المتعة وهي عندهم من السفاح الزنا ، فاستحقّ بذلك أشدّ التشنيعات واتّصف بأقبح العيوب .

هذا ، مضافاً إلى روايتهم في الصحيح ـ وهي مكذوبة يقيناً ـ عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قد زَجَره عن هذا القول ، وحكَم عليه بأنّه رجلٌ تائه(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) زاد المعاد في هدي خير العباد ٤ : ٣٧ .

(٢) صحيح مسلم ٢ : ١٠٢٧/ ١٤٠٧ كتاب النكاح الباب٣ ، المعجم الأوسط للطبراني ٣ : ١٢٧/ ٢٢٦٥، سنن البيهقي ٧ : ٢٠١ كتاب النكاح ، باب نكاح المتعة ، الناسخ والمنسوخ للنحّاس : ٩٩ .

٣٥

وعن عبد الله بن الزبير أنّه وصَفَه بالفاجر ، كما روى القاري في ( المرقاة ) :( عن عروة بن الزبير : إنّ عبد الله بن الزبير قام بمكّة فقال : إنّ أُناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يُفتون بالمتعة ، ـ يُعرِّض برجل ـ فناداه فقال : إنّك لَجِلْف جاف ، فلعمري لقد كانت المتعة تُفعَل في عهد إمام المتقين ـ يُريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقال له ابن الزبير : فجرت بنفسك ، فو الله لئن فعلتها لأرجمنَّك بأحجارك. الحديث. رواه النسائي.

ولا تردّد في أنّ ابن عبّاس هو الرجل المُعرَّض به وكان قد كفّ بصَرُه ، فلذا قال ابن الزبير : كما أعمى أبصارهم ، وهذا إنّما كان في حال خلافة ابن الزبير ، وذلك بعد وفاة عليّ ، وقد ثبت أنّه كان مستمرّ القول على جوازها) (١) .

قوله برؤية النبي ربّه

وأيضاً ، فإنّ ابن عبّاس ـ بحسب روايات القوم المكذوبة عليه قطعاً ـ كان من المفترين على الله والرسول ؛ إذ كان يقول بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد رأى الله ـ سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً ـ كما جاء في ( صحيح الترمذي ) :

( عن عكرمة عن ابن عبّاس قال : رأى محمّدٌصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه قلت : أليس الله يقول :( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ... ) ؟ قال : ويحك ، ذاك إذا تجلّى بنورِه الذي هو نورُه ، وقد رأى محمّدٌ ربّه مرّتين هذا حديث حسن غريب )(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) المرقاة في شرح المشكاة ٦ : ٣١٨/ ٣١٥٨ كتاب النكاح الباب ٣ .

(٢) صحيح الترمذي ٥ : ٣٩٥/ ٣٢٧٩ كتاب تفسير القرآن ، الباب ٥٤ .

٣٦

بل إنّه كان يُبالغ في هذا الاعتقاد ويصرّ عليه ، حتّى أنّه لمّا سُئل عنه مرّةً جعل يكرّر ذلك ويُؤكّده ، ففي ( عيون الأثر ) : ( في تفسير النقّاش : عن ابن عبّاس أنّه سُئل : هل رأى محمّدٌ ـصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ربّه ؟ فقال : رآه رآه رآه ، حتّى انقطع صوته )(١) .

إنكار عائشة ذلك

وقد أخرجوا أنّ عائشة قد بالغت في الإنكار على ابن عبّاس ، فقد جاء في ( صحيح الترمذي ) : ( حدّثنا ابن أبي عمر ، نا سفيان ، عن مجالد ، عن الشعبي قال : لقي ابن عبّاس كعباً بعَرَفَة ، فسألهُ عن شيءٍ ، فكبّر حتّى جاوبته الجبال ، فقال ابن عبّاس : إنّا بنو هاشم ، فقال كعب : إنّ الله قسّم رؤيته وكلامه بين محمّدٍ وموسى ، فكلّم موسى مرّتين ، ورآه محمّد مرّتين .

قال مسروق : فدخلتُ على عائشة فقلت : هل رأى محمّدٌ ربّه ؟ فقالتْ : لقد تكلّمتَ بشيء قفّ له شعري قلت : رويداً ، ثمّ قرأتُ( لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) قالت : أين يذهب بك ؟ إنّما هو جبرئيل من أخبرك أنّ محمداً رأى ربّه أو كتم شيئاً ممّا أُمِر به ؟ أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ... ) فقد أعظَم الفرية ، ولكنّه رأى جبرئيل ، ولم يره في صورته إلاّ مرّتين : مرّةً عند سدرة المنتهى ، ومرّةً في جياد ، له ستّ مائة جناح ، قد سدّ الأُفق )(٢)

ـــــــــــــــــــ

(١) عيون الأثر في المغازي والسير ١ : ٢٥٠ .

(٢) صحيح الترمذي ٥ : ٣٩٤/ ٣٢٧٨ كتاب تفسير القرآن ٥٤٥ .

٣٧

وقد أخرج البخاري ومسلم إنكار عائشة وتكذيبها رؤية النبيّ ربّه(١) .

وفي ( عيون الأثر ) :

( وقد تكلّم العلماء في رؤية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لربّه ليلة الإسراء ، فرُوي عن مسروق ، عن عائشة أنّها أنكرت أنْ يكون رآه قالت : ومُن زعم أنّ محمداً رأى ربّه فقد أعظم الفرية على الله ، واحتجّت بقوله سبحانه :( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ... ) (٢) .

وإذا كان ابن عبّاس قد أعظم الفرية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد سقَطَت رواياته كلّها عن الاعتبار ، سَواء ما كان منها في الصحاح وفي غيرها من الكتب ، لِما قرّروا في محلّه من أنّ مَن كذب في خبرٍ وجَب إسقاط جميع أخباره :

قال النووي في ( التقريب ) : ( قال السمعاني : من كذب في خبرٍ واحدٍ وجب إسقاط ما تقدّم من حديثه ) .

وكذا قال شارحه السيوطي : ( من كذب في حديثٍ واحدٍ رُدَّ جميع حديثه السابق )(٣) .

تأويل إنكار عائشة

ومن القوم من تجاسر على عائشة ، فزعم أنّ تكذيبها رؤية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان رأياً منها لا روايةً عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٦ : ١٧٥ كتاب التفسير ـ سورة والنجم ، صحيح مسلم ١/ ١٥٩/ ١٧٧ كتاب الإيمان الباب ٧٧ .

(٢) عيون الأثر في المغازي والسير ١ : ٢٥٠.

(٣) تداريب الراوي ـ شرح تقريب النواوي ١ : ٣٣٠ و٣٣٢.

٣٨

العجائب ذهاب النووي إلى ذلك ، كما في ( المواهب اللدنيّة ) حيثُ قال :

( قال النووي ـ تبعاً لغيره ـ لم تنفِ عائشة وقوع الرؤية بحديثٍ مرفوع ، ولو كان معها لذكرته ، وإنّما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرته من ظاهر الآية ، وقد خالفها غيرها من الصحابة ، والصّحابي إذا قال قولاً وخالفه غيره منهم لم يكن ذلك القول حجّة اتفاقاً )(١) .

لكنْ يُبطله أنّ الحديث موجود في صحيح مسلم الذي شرحه النووي، وقد نبّه على ذلك الحافظ ابن حجَر أيضاً، حيث قال في ( فتح الباري ) :

( وجزْمه بأنّ عائشة لم تنفِ الرؤية بحديثٍ مرفوع ، تبع فيه ابن خزيمة ، فإنّه قال في كتاب التوحيد من صحيحه : النفي لا يُوجب علماً ، ولم تحكِ عائشة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرها أنّه لم يرَ ربّه ، وإنّما تأوّلت الآية إنتهى .

وهو عجب ، فقد ثبت ذلك عنها في صحيح مسلم الذي شرحه الشيخ ، فعنده من طريق داود بن أبي هِند ، عن الشعبي ، عن مسروق في الطريق المذكور قال مسروق : وكنت متّكياً فجلست فقلت : ألم يقل الله تعالى :( وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) ؟ فقالت : أنا أوّلُ هذه الأُمّة سألَ رسولَ الله عن ذلك ، فقال :( إنّما هو جبرئيل ) .

وأخرجه ابن مردويه من طريق أُخرى عن داود بهذا الإسناد : فقالت : أنا أوّل من سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذا ، فقلت : يا رسول الله ، هل رأيت ربّك ؟ فقال :( لا ، إنّما رأيت جبريل منهبطاً ) (٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة ٢ : ٣٨٩.

(٢) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٨ : ٤٩٣.

٣٩

أقول :

وإذا كان هذا في صحيح مسلم ، فكيف يقول القائلون منهم برؤيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه ؟ نعوذ بالله من استيلاء الجهالة والانهماك في الضلالة !

إنكار الصحابة

وأنكر غير عائشة من الصحابة رؤية النبيّ ربّه ، قال في ( تاريخ الخميس ) :

( واختلف أيضاً في رؤية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه ، فأنكرت عائشةرضي‌الله‌عنه ا... وقال جماعة بقول عائشة ، وهو المشهور عن ابن مسعود ، ومثله عن أبي هريرة في قوله( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) ـ قال : رآه بقلبهِ ولم يرَه بعينه )(٢) .

محاولة الجمع

وقد تكلّف بعض أكابر القوم الجمع بين إثبات ابن عبّاس ـ حسبَما

ـــــــــــــــــــ

(١) تاريخ الخميس ١ : ٣١٣ .

(٢) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ٣ : ٦٣ .

٤٠