استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

استخراج المرام من استقصاء الإفحام0%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 456

استخراج المرام من استقصاء الإفحام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 456
المشاهدات: 209345
تحميل: 7031


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 209345 / تحميل: 7031
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الجنّة على الكافرين )(١) .

وفي رواية أُخرى ( فيقول : يا رب ، إنّك وعدتني أنْ لا تخزني يوم يُبعثون ، فأيّ خزيٍ أُخزى مِن أبي الأبعد )(٢) .

قال الفخر الرّازي : ( وأمّا قوله تعالى :( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ.... ) ففيه مسائل : المسألة الأُولى : في تعلّق هذه الآية بما قبلها وجوه :

الأوّل : إنّ المقصود منه أنْ لا يتوهّم إنسان أنّه تعالى منع محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعض ما أذن لإبراهيمعليه‌السلام فيه .

والثاني : أنْ يُقال : إنّا ذكرنا في سبب اتّصال هذه الآية بما قبلها المبالغة في إيجاب الانقطاع عن الكفّار أحيائهم وأمواتهم ، ثمّ بيّن تعالى أنّ هذا الحكم غير مختصّ بدين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتكون المبالغة في تقرير وجوب الانقطاع كانت مشروعة أيضاً في دين إبراهيمعليه‌السلام ، فتكون المبالغة في تقرير وجوب المقاطعة والمباينة من الكفّار أكمل وأقوى .

الثالث : إنّه تعالى وصَف إبراهيم في هذه الآية بكونه حليماً أي قليل الغضب ، وبكونه أوّاهاً ، أي كثير التوجّع والتفجّع عند نزول المضار بالناس ، والمقصود أنّ مِن كان موصوفاً بهذه الصفة ، كان ميل قلبه إلى الاستغفار لأبيه شديد ، وكأنّه قيل : إنّ إبراهيم مع جلالة قدره ، ومع كونه موصوفاً بالأوّاهيّة والحليميّة ، منعه الله مِن الاستغفار لأبيه الكافر ، فلأن يكون غيره ممنوعاً من هذا المعنى كان أولى )(٣) .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحي البخاري ٦ : ٢٠٢ كتاب التفسير ، سورة الشعراء .

(٢) صحيح البخاري ٤ : ٢٧٧ ـ ٢٧٨ كتاب أحاديث الأنبياء .

(٣) تفسير الرازي ١٦ : ٢١٠ .

٣٦١

وعلى الجملة ، فإنّه ـ بعد العلم بأنّ إبراهيمعليه‌السلام كان ممنوعاً مِن ذا الاستغفار ، وأنّه قد تبرّء منه ـ لا يستريب مسلمٌ في أنّ حديث البخاري موضوع !

ومع قطع النظر عن هذا ، فإنّ الدلائل العقليّة أيضاً قائمة على منع الاستغفار للمشركين ، كما قال الرّازي :

( قوله تعالى :( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ) يحتمل أنْ يكون المعنى : ما ينبغي لهم ذلك فيكون كالوصف ، وأنْ يكون معناه ليس لهم ذلك على معنى النهي .

فالأوّل معناه : أنّ النبوّة والإيمان يمنع من استغفار المشركين ، والثاني معناه : لا يستغفروا ، والأمران متقاربان .

وسبب هذا المنع ما ذكره الله تعالى في قوله :( ....مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) .

وأيضاً : قال :( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ.... ) والمعنى : أنّه تعالى لمّا أخبر عنهم أنّه يدخلهم النّار فطلب الغفران لهم ، جارِ مجرى طلَب أنْ يخلف الله وعده ووعيده وإنّه لا يجوز ، وأيضاً : لمّا سبق قضاء الله تعالى بأنّه يعذّبهم ، فلو طلبوا غفرانه لصاروا مردودين ، وذلك يوجب نقصان درجة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحطّ مرتبته .

وأيضاً : إنّه تعالى قال :( ...ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ... ) وقال :( ...أأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) ، فهذا الاستغفار يوجب دخول الخلف في أحد هذين النصّين وأنّه لا يجوز )(١) .

وعلى الجملة ، فإنّ هذا الحديث موضوعٌ باطل ، ولا سبيل إلى إصلاحه بوجهٍ مِن الوجوه .

ولعلّه لذا اضطرّ بعضهم إلى التصرّف في لفظه ، بوضع كلمة ( رجل )

ـــــــــــــــــــ

(١) تفسير الرّازي ١٦ : ٢٠٩ .

٣٦٢

مكان اسم سيّدنا إبراهيمعليه‌السلام ، ما في( فتح الباري ) : ( وفي رواية أيّوب : يلقى رجلٌ أباه يوم القيامة فيقول له : أيّ ابنٍ كنت لك ؟ فيقول : خيرُ ابن ، فيقول : هل أنت مطيعي اليوم ؟ فيقول : نعم ، فيقول : خذ بأزرتي ، فيأخذ بأزرته ، ثمّ ينطلق حتّى يأتي ربّه... )(١) .

ولكنْ لا مناص من الاعتراف ببطلانه... كما عن الحافظ الإسماعيلي وغيره .

قال ابن حجر : ( وقد استشكل الإسماعيلي هذا الحديث مِن أصله ، وطعن في صحّته ، فقال بعد أنْ أخره : هذا حديثٌ في صحّته نظر ، مِن جهة أنّ إبراهيم عالِمٌ أنّ الله لا يُخلف الميعاد ، فكيف يجعل ما بأبيه خزياً له مع علمه بذلك ؟

وقال غيره : هذا الحديث مخالفٌ لظاهر قوله تعالى :( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ.... ) (٢) .

وأمّا محاول ابن حر تأويل هذا الحديث وتوجيهه بقوله :

( والجواب عن ذلك : أنّ أهل التفسير اختلفوا في الوقت الذي تبرّأ إبراهيم فيه من أبيه.

فقيل : كان ذلك في حياة الدنيا لمّا مات آزر مشركاً وهذا الوجه أخرجه الطبري مِن طريق حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عبّاس ، وإسناده صحيح ، وفي رواية : فلمّا مات لم يستغفر له ، ومِن طريق علي بن أب طلحة عن ابن عبّاس نحوه قال : استغفر له ما كان حيّاً ، فلمّا مات أمسك ، وأورد أيضاً مِن طريق مجاهد وقتادة وعُمر بن دينار نحو ذلك .

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري ٨ : ٤٠٥ .

(٢) فتح الباري ٨ : ٤٠٦ .

٣٦٣

وقيل : إنّما تبرّأ منه يوم القيامة لمّا أيس منه حين مُسخ ، على ما صرّح به في رواية ابن المنذر التي أشرت إليها ، وهذا أخرجه الطبري أيضاً من طريق عبد الملك بن أبي سليمان ، سمعت سعيد بن جُبير يقول : إنّ إبراهيم يقول يوم القيامة : ربّ والدي ، ربّ والدي ، فإذا كانت الثالثة أخذ بيده فيلتفت إليه وهو غضبان فيتبرّ منه ، ومن طريق عبدي بن عمير قال : يقول إبراهيم لأبيه : إنّي كنت آمرك في الدنيا فتعيني ، ولست تاركك اليوم ، فخذ بحقوتي ، فيأخذ بضبعيه فيمسخ ضبعاً ، فإذا رآه إبراهيم مسخ تبرّء منه .

ويمكن المع بين القولين : بأنّه تبرّء منه لمّا مات مشركاً ، فترك الاستغفار ، لكن لمّا رآه يوم القيامة أدركته الرأفة والرقّة فسأل فيه ، فلا رآه مُسخ يئس منه حينئذ ، وتبرّأ منه تبرّياً أبديّاً .

وقيل: إنّ إبراهيم لم يتيقّن موته على الكفر ، لجواز أنْ يكون آمن في نفسه ولم يطلع إبراهيم على ذلك ، ويكون وقت تبريته منه بعد الحالة التي وقعت في هذا الحديث )(١) .

فسقوطها واضح لدى كلّ عاقلٍ فضلاً عن الفاضل .

لأنّ حاصل الجواب الأوّل هو بيان الاختلاف في وقت تبرّي إبراهيم مِن آزر ، وأيّ ربطٍ لهذا بأصل الإشكال ؟ اللّهمّ إلاّ أنْ يُريد ابن حجَر أنّه بناءً على القول بكون التبرّي في يوم القيامة ، فلا منافاة بين ذلك وبين الآية المباركة( وَمَا كَانَ... ) ، لكنّه وجهٌ سخيف جدّاً ، وذلك لأنّه :

أوّلاً : تأويلٌ للآية( ...فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ.... ) الظاهرة في وقوع ذلك في الزمان الماضي ، ورفع اليد عن الظاهر بلا دليلٍ ممنوعٌ ، كما هو معلوم .

وثانياً : إذا كان التبرّي في دار الدنيا ، كما هو مفاد رواياتٍ متعدّدة ، وقد صحّح ابن حجر نفسُه بعضها ، فالتنافي بين الشفاعة والآية المباركة لازمٌ لا محالة .

وثالثاً : على فرض ثبوت الاختلاف في وقت التبرّي ، ورجحان القول الثاني على الأوّل ، يندفع الإشكال المنقول عن غير الإسماعيلي ، أمّا إشكال الإسماعيلي فلا يندفع بما ذكر .

ورابعاً : حمل التبرّي على يوم القيامة ، يوجب الاختلاف في سياق الآية المباركة ؛ لأنّ الغرض من ذكر القصّة إفادة أنّ إبراهيمعليه‌السلام قد مُنع من الاستغفار لأهل

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ٨ : ٤٠٦ .

٣٦٤

الشرك ، وأنّه قد تبرّأ من أبيه مع كونه أوّاهاً حليماً ، فيكون غيره من سائر المؤمنين ممنوعاً من ذلك بالأولويّة.. وهذا ما فهمه الفخر الرّازي أيضاً إذ قال :

( اعلم أنّه تعالى إنّما وصفه بهذين الوصفين في هذا المقام ؛ لأنّه تعالى وصفه بشدّةِ الرقّة والشفقة والخوف والوجَل ، ومَن كان كذلك فإنّه تعظم رقّته على أبيه وأولاده ، فبيّن تعالى أنّه مع هذه العادة تبرّ مِن أبيه وغلظ قلبه عليه ، لما ظهر له إصراره على الكفر ، فإنّهم بهذا المعنى أولى ، ولذلك وصفه أيضاً بأنّه حليم ؛ لأنّ أحد أسباب الحِلم رقّة القلب وشدّة العطف ؛ لأنّ المرء إذا كان حاله هكذا اشتدّ حلمه عن الغضب )(١) .

وعلى هذا ، فلو كان المراد التبرّي في الآخرة ، فأين تكون أولويّة أُمّة الإسلام بذلك ؟

هذا ، وكأنّ ابن حجر عالم بضعف هذا الجواب ، فاضطرّ إلى أنْ يقول : ( ولا يُمكن الجواب... ) لكنّه غير مطمئن بهذا الجواب ، ولذا ذكره بلفظ ( يُمكن ) .

كما أنّ السيوطي قد اقتصر على هذا الجواب إذ قال في كتاب( التوشيح ) : ( واستشكل سؤال إبراهيم ذلك مع علمه بأنّه تعالى لا يُخلف الميعاد ، في إدخال الكافرين النار وأُجيب : بأنّه لمّا رآه أدركته الرأفة والرقّة ، فلم يستطع إلاّ أنْ يسأل فيه )(٢) .

لكن هذا الجواب ـ في الحقيقة ـ التزامٌ بالإشكال ؛ لأنّه بيان للداعي إلى الاستغفار ، وهو الرحمة والرأفة ، فيعود الإشكال بأنّه كيف تحقّقت منه هذه الرأفة وصدرت هذه الرحمة ، مع علمه بعدم الجواز والحرمة ؟ اللّهمّ إلاّ أنْ يقولوا : بأنّ الرحمة والرأفة تُجوّز طلب ما لا يجوز ، وهذا بديهي البطلان وضحكة للصبيان ، لا يقول به عاقلٌ بل جاهلٌ فضلاً عن فاضل ! وأمّا قول ابن حجر : ( وقيل : إنّ إبراهيم... ) .

فإنْ أراد مِن ذكره بيان ضعفه ، فلا كلام فيه... وإنْ أراد دفع الإشكال به ، فهو يُنافي الأخبار الصحيحة الواردة في عِلم سيّدنا إبراهيم بموت آزر على الكفر ، وقد أورد ابن حجر بعضها ، وفي( الدر المنثور ) :

( أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله ( ..فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ.. ) (٣) حين مات وعلم أنّ التوبة قد انقطعت منه .

ـــــــــــــــــــ

(١) تفسير الرّازي ١٦ : ٢١١ .

(٢) التوشيح في شرح الصحيح ٤ : ٢٥٠ .

(٣) سورة التوبة ٩ : ١١٤ .

٣٦٥

وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو بكر الشافعي في فوائده والضياء في المختارة ، عن ابن عبّاس قال : لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتّى مات( ...فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ.... ) يقول : لمّا مات على كفره )(١) .

حديث الصلاة على ابن أبي سلول

( ومنها ) ما أخرجه ـ مسلم أيضاً ـ في كتاب التفسير : ( عن ابن عمر قال : لمّا توفّي عبد الله بن أُبيّ ، جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسأله أنْ يعطيه قميصه يُكفِّن فيه أباه ، فأعطاه ، ثمّ سأله أنْ يصلّي عليه .

فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليصلّي عليه .

فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله فقال : يا رسول الله ، تصلّي عليه وقد نهاك ربّك أنْ تصلّي عليه ؟

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّما خيّرني الله فقال : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً.... ) ) وسأزيده على السبعين .

قال : إنّه منافق !

قال : فصلّى عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال : فأنزل الله( وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ

ـــــــــــــــــــ

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٠٠ .

٣٦٦

قَبْرِهِ .. ) (١) .

وهذا الحديث ـ الذي وضعوه فضيلةً لعمر بن الخطّاب ـ مكذوبٌ حتماً وموضوعٌ قطعاً وقد نصّ ـ والحمد لله ـ على ذلك غير واحدٍ من أئمّة القوم :

كالغزالي بعد ذكر أخبار : ( هذا مزيّف ، فإنّ هذه الوقائع لو جمعت ونقلت دفعةً واحدةً لم تُورث العلم ، ولي ذلك كوقائع حاتم وعليّ مع كثرتها .

على أنّ ما نقل في آية الاستغفار كذِب قطعاً ، إذ الغرض منه التناهي في تحقيق اليأس مَن المغفرة ، فلا يظنّ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذهول عنه )(٢) .

وكالباقلاّني وإمام الحرمين في جماعةٍ ، كما ذكر شرّاح البخاري :

قال القسطلاني : ( وقد استشكل فهم التخيير من الآية على كثير ، وسبق جواب الزمخشري عن ذلك ، وقال صاحب الانتصاف : مفهوم الآية زلّت فيه الأقدام ، حتّى أنكر القاضي أبو بكر الباقلاّني صحّة الحديث وقال : لا يجوز أنْ يقبل هذا ، ولا يصحّ أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاله .

وقال إمام الحرمين في مختصره : هذا الحديث غير مخرّج في الصحيح وقال في البرهان : لا يصحّحه أهل الحديث وقال الغزالي في المستصفى : الأظهر أنّ هذا الخبر غير صحيح وقال الداودي الشارح : هذا الحديث غير محفوظ ، وهذا عجيب... )(٣) .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٦ : ١٣١ .

(٢) المنخول في علم الأُصول : ٢١٢ .

(٣) إرشاد الساري إلى صحيح البخاري ٧ : ١٥٥ .

٣٦٧

وقال ابن حجر : ( قال ابن المنير : مفهوم الآية زلّت فيه الأقدام ، حتّى أنكر القاضي أبو بكر صحّة الحديث وقال : لا يجوز أنْ يقبل هذا ولا يصحّ أنّ الرسول قاله انتهى .

ولفظ القاضي أبي بكر الباقلاّني في التقريب : هذا الحديث مِن أخبار الآحاد التي لا يُعلم ثبوتها ، وقال إمامُ الحرمين في مختصره : هذا الحديث غير مُخرّج في الصحيح ، وقال في البرهان : لا يصحّحه أهلُ الحديث ، وقال الغزالي في المستصفى : الأظهر أنّ هذا الخبر غير صحيح ، وقال الداودي الشارح : هذا الحديث غير محفوظ )(١) .

حديث : كذِب إبراهيم ثلاث كِذبات

( ومنها ) ما أُخرج في الكتابين من أنّ إبراهيمعليه‌السلام كذَب ثلاث كذبات ، ففي( الجمع بين الصحيحين ) :

( عن محمّد عن أبي هريرة : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( لم يكذِب إبراهيم النبيّ قط ، إلاّ ثلاث كِذبات ، ثنتين في ذات الله : قوله : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) وقوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) ، وواحدة في شأن سارة ، فإنّه قدِم أرض جبّار ومعه سارة ـ وكانت أحسن الناس ـ فقال لها : إنّ هذا الجبّار إنْ يعلم أنّك امرأتي يغلبني عليك ، فإنْ سألك فأخبريه أنّك أُختي في الإسلام ) (٢) .

وقد تكلّم الفخر الرّازي على هذا الحديث وأبطله ، وعبَّر عن رواته بالحشويّة ، فانظر إلى نصّ كلامه حيث قال :

( واعلم أنّ بعض الحشويّة روى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري ٨ : ٢٧٢ .

(٢) الجمع بين الصحيحين ٣ : ١٨٤ / ٢٤١٥ .

٣٦٨

 ( ما كذب إبراهيم إلاّ ثلاث كذبات ) .

فقلت : الأولى أنْ لا يقبل مثل هذه الأخبار .

فقال ـ على طريق الاستنكار ـ : إنْ لم نقبله لزمَنا تكذيب الرواة .

فقلت له : يا مسكين ، إنْ قبلناه لزمنا الحُكم بتكذيب إبراهيمعليه‌السلام ، وإنْ رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة ، ولا شكّ أنّ صَون إبراهيم عن الكذِب أولى مِن صون طائفة من المجاهيل عن الكذِب )(١) .

هذا ، وقد أورد عمر بن عادل كلام الرّازي هذا وارتضاه(٢) .

حديث : أنّ نبيّاً أحرق بيت النمل

( ومنها ) ما أخرجه البخاري مِن أنّ نبيّاً من الأنبياء أحرق بيت النمل بسبب أنّ نملةً لدغته ! قال :

( حدّثنا إسماعيل ، ثني مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : نزل نبيّ من الأنبياء تحت شجرة ، فلدغته نملة ، فأمر بجهازه فأُخرج من تحتها ، ثمّ أمر ببيتها فأُحرِق بالنار ، فأوحى الله إليه : فهلاّ نملة واحدة !! )(٣) .

ويكفي في إبطال هذا الحديث كلام الفخر الرّازي ، الذي أورده الشاه عبد العزيز الدهلوي واستحسنه وارتضاه حيث قال : ( وللإمام فخر الدين الرّازي في هذا المقام كلام يصدّقه العقل ، ويقع في القلب إذ قال : إنّ الروافض عندي

ـــــــــــــــــــ

(١) تفسير الرّازي ٢٦ : ١٤٨ .

(٢) اللباب في علوم الكتاب ١٦ : ٣٢٤ .

(٣) صحيح البخاري ٤ : ٢٦٢ ، كتاب بدء الخلق .

٣٦٩

أقلّ عقلاً وفهماً من نملة سليمان ؛ لأنّ النملة قد خاطبت رفيقاتها قائلةً :( يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) فهي قد علمت أنّ جنود سليمان قد أثّرت فيهم المعاشرة معه فكانوا مهذّبين ببركة صحبته ، حتّى أنّهم لا يحطّمون النمل عن علمٍ وعمد ، ولا يظلمون الضعيف عن قصدٍ ، لكنّ الروافض لم يفهموا أنّ صحبة النبيّ الخاتم ـ وهو أفضل الأنبياء ـ تؤثّر في صحابته الملازمين له على الدّوام ، فلا يرتكبون الخيانة والشرّ ، فكيف ينسبون إليهم الظلم لبنت رسول الله وصهره وولده ، وإحراق بيتهم عليهم ، والاستيلاء على أموالهم ، وإيذائهم بشتّى أنوا الأذى ؟ )(١) .

وذلك : لأنّ البخاري وسائر مَن يقول بصحّة هذا الحديث سيكونون أقلّ فهماً مِن النملة ؛ لأنّهم بتصديقهم هذا الحديث يجوّزون الظلم على النبيّ المعصوم !!

حديث أمر النبيّ بالأكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه

( ومنها ) ما أخرجه البخاري في كتاب الذبائح قال :

( حدّثنا معلّى بن أسد ، حدّثنا عبد العزيز بن المختار قال : حدّثنا موسى بن عقبة قال : أخبرني سالم أنّه سمِع عبد الله يحدّث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه لقي زيد بن عمرو بن فضيل بأسفل بلدح ـ وذاك قبل أنْ ينزل على رسول الله الوحي ـ فقدّم إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سُفرةً فيها لحم ، فأبى أنْ يأكل منها ، ثمّ قال : إنّي لا آكل ممّا تذبحون على أنصباكم ، ولا

ـــــــــــــــــــ

(١) مختصر التحفة الاثنا عشريّة : ١٩٣ ـ باب الإمامة .

٣٧٠

نأكل إلاّ ممّا ذكر اسم الله عليه )(١) .

فهل يشكّ المسلم في كذب هذا الحديث ؟

والعجب مِن واضعه ، فلم يستح أنْ ينسب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الرجل بالأكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه ، في حين ينسب إلى الرجل الإباء عن الأكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه ، فيكون أورع وأفضل من النبيّ ، والعياذ بالله ؟! وكيف يصدّقون بمثل هذا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حين يبذلون كلّ جهودهم لتبرئه أبي بكر مِن شرب الخمر قبل التحريم ، ويكذّبون الخبر في ذلك، ويقولون : قد أعاذ الله الصدّيقين من فعل الخنا وأقوال أهله وإنْ كان قبل التحريم ، كما في ( نوادر الأصول ) للحكيم الترمذي وسيجيء عن قريب ؟ ألم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الصدّيقين ؟

تصرّف بعضهم في لفظ الحديث !

لكنّ ابن روزبهان التجأ إلى الكذب والافتراء على العلاّمة الحلّي ، واضطرّ إلى وضع تتمّةٍ لهذا الحديث الموضوع ، وذلك أنّه قال في الجواب عن كلام العلاّمة الحليّ :

( أقول : مِن غرائب ما يستدلّ به على ترك أمانة هذا الرجل وعدم الاعتماد والوثوق على نقله : رواية هذا الحديث ، فقد روى بعض الحديث ليستدلّ به على مطلوبه وهو الطعن في رواية الصحاح ، وما ذكر تمامه ، وتمام الحديث : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قال زيد بن عمرو بن نفيل

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٧ : ١٦٥ .

٣٧١

هذا الكلام قال : وإنّا أيضاً لا نأكل مِن ذبيحتهم وممّا لم يذكر عليه اسم الله تعالى ، فأكلا معاً .

وهذا الرجل لم يذكر هذه التتمّة ليتمكّن من الطعن في الرواية نسأل الله العصمة مِن التعصّب فإنّه بئس الضجيع )(١) .

أقول :

لكنَّ هذا الذي وصَف به العلاّمة الحلّي يرجع إليه ، وهو المتّصف به ؛ لأنّ الحديث في كتاب الذبائح من( صحيح البخاري ) كما تقدّم ، وهكذا نقله العلاّمة الحلّي ، ومن شاء فليراجع أصل كتاب البخاري !!

وقد أخرج البخاري هذا الحديث الموضوع في كتاب المناقب ، وليس فيه التتمّة التي زعمها ابن روزبهان ، وهذه عبارته : ( باب حديث زيد بن عمرو ابن نفيل ، حدّثني محمّد بن أبي بكر قال : حدّثنا سالم بن عبد الله بن عمر : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح ، قبل أنْ ينزل على النبيّ الوحي ، فقدّمت إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفرة فأبى أنْ يأكل منها ، ثمّ قال زيد : إنّي لست آكل ممّا تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلاّ ما ذكر اسم الله عليه ، وإنّ زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول : الشاة خلقها الله ، وأنزل لها مِن السماء الماء وأنبت لها مِن الأرض ، ثمّ تذبحونها على غير اسم الله ، إنكاراً لذلك وإعظاماً له )(٢) .

فقد تبيّن أنّ العلاّمة الحلّي رحمه الله لم يخن في نقل الحديث ، فلم يزد عليه ولم يحذف منه شيئاً ، بل ابن روزوبهان قد كذب في دعوى التتمّة ،

ـــــــــــــــــــ

(١) إبطال الباطل ـ مخطوط .

(٢) صحيح البخاري ٥ : ١٢٤.

٣٧٢

لغرض الدفاع عن البخاري وكتابه ، فحقّ أنْ يقال في جوابه : إنّ من غرائب ما يستدلّ به على ترك أمانة هذا الرجل وعدم الاعتماد والوثوق على نقله : رواية تتمّة مخترعة لهذا الحديث ، وقد اخترعها ليستدلّ بها على مطلوبه وهو دفع الطعن في رواية الصحاح ، نسأل الله العصمة من التعصّب فإنّه بئس الضجيع .

وظهر أيضاً : أنّهم يحاولون التغطية على شناعة بعض أحاديثهم بالزيادة فيه أو النقيصة عنه ، على حسب ما عرض لهم من ضيق الخناق .

وكما تصرّف ابن روزبهان في الحديث بدعوى الزيادة كما تقدّم ، فقد تصرّف محمّد بن يوسف الصالحي الدمشقي في لفظه بشكلٍ آخر ، فقد قال في( سبُل الهدى والرشاد ) :

( روى البخاري والبيهقي من طريق موسى بن عقبة ، عن سالم بن عبد الله ابن عمر عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقي زيد ابن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح ، قبل أنْ ينزل عليه الوحي ، فقدّمت إلى رسول الله سفرة فيها لحم ، فأبى أن يأكل منها ، ثمّ قال لزيد : إنّي لست آكل ممّا تذبحون على أنصباكم ، ولا آكل إلاّ ما ذكر اسم الله عليه ، وإنّ زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول : الشاة خلقها الله تعالى وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض ، ثمّ تذبحونها على غير اسم الله تعالى ، إنكاراً لذلك وإعظاماً له )(١) .

لقد التفت هذا الرجل إلى شناعة لفظ هذا الحديث ، فلم يجد بُدّاً من أنْ يضيف اللاّم الجارة إلى لفظ زيد ، فصارت الجملة : ( ثمّ قال لزيد ) ليكون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو فاعل ( قال ) ، وتكون جملة : ( إنّي لست

ـــــــــــــــــــ

(١) سبُل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ٢ : ١٨٢ .

٣٧٣

آكل ) مقول قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... والحال أنّ لفظ البخاري في كتاب المناقب من ( صحيحه ) خالٍ من اللام والجملة هي : ( ثمّ قال زيد ) فكان زيد الفاعل للفعل ( قال ) وهو القائل : ( إنّي لست آكل ) !

وأمّا الضمير في ( أبى ) وإنْ احتمل ـ في رواية كتاب المناقب ـ عوده إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكنّه غير مُحتمل في لفظ رواية كتاب الذبائح ؛ لأنّ الحدث هناك بلفظ ( فقدّم ) ـ وكذلك هو في رواية الجرجاني والإسماعيلي كما سيأتي ـ وعليه ، فلا يكون الضمير في ( أبى ) عائداً على النبيّ ، بل يعود إلى زيد...

وسيأتي أنّ أحمد بن حنبل وغيره مِن الأئمّة ينسبون أكل ذبيحة الأنصاب في هذه القصّة إلى نفس رسول الله... فيكون الضمير في ( أبى ) في حديث كتاب المناقب أيضاً عائداً على ( زيد ) ؛ لأنّ الحديث يفسّر بعضه بعضاً .

ومن هنا ، فقد أسند ابن حجر والزركشي والسهيلي والقسطلاني وغيرهم من شرّاح الحديث الفعل ( أبى ) إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...

والحاصل : إنّ القضية واحدة ، والحديث واحد ، فما لا يكون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الفاعل لِلَفظ ( أبى ) في حديث كتاب الذبائح ، كذلك لا يكون هو الفاعل له في لفظ كتاب المناقب... وإلاّ لزِم تكذيب حديث كتاب الذبائح بحديث كتاب المناقب ، فيكون الإشكال أقوى والإفحام آكد .

توجيه البعض معنى الحديث

وكيف كان ، فلا دلالة في حديث البخاري على إباء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأكل من ذبيحة الأصنام ، ولذا اعترض ابن حجَر على ابن بطّال لمّا ادّعى ذلك ، وردّ عليه بعدم الوقوف على ذلك في روايةٍ من روايات القصّة... وهذا نصّ كلام ابن حجَر بشرح الحديث في كتاب المناقب :

( قوله : فقدّمت بضم القاف قوله : إلى النبيّ ، كذا الأكثر ، وفي رواية الجرجاني : فقدّم إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفرة قال عياض : الصّواب الأوّل قلت : رواية الإسماعيلي توافق رواية الجرجاني ، ولذا أخرجه الزبير بن بكار والفاكهي وغيرهما .

٣٧٤

وقال ابن بطّال : كانت السفرة لقريش ، قدّموها للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأبى أنْ يأكل منها ، فقدّمها النبيّ لزيد بن عمرو بن نفيل ، فأبى أنْ يأكل منها ، وقال مخاطباً لقريش الذين قدّموها أوّلاً : إنّا لا نأكل ما ذبح على أنصابكم انتهى .

وما قاله يحتمل ، ولكنْ لا أدري من أين له الجزم بذلك ؟ فإنّي لم أقف عليه في روايةٍ ، وقد تبعه ابن المنير في ذلك )(١) .

أقول :

لقد أجاد ابن حجر في الرّ على ابن بطّال ، لكنّ قوله ( وما قاله يحتمل ) باطل جدّاً ، فقد نقل ابن حجَر ـ كما سيأتي ـ عن أكابر الأئمّة تصريحهم بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والعياذ بالله ـ قد أكل من ذبيحة الأصنام ، ودعا زيداً إلى الأكل منها ، فأبى زيد عن ذلك... فلا أساس لقول ابن بطّال من الصحّة أصلاً .

على أنّ عبارة ابن بطّال صريحة في أنّ النبيّ ـ بعد أنْ أبى عن الأكل من تلك الذبيحة ، دعا زيداً إلى الأكل منها وهذا من القبح والشناعة بمكان ، إذ كيف يحتمل أنّ النبيّ ـ مع ما عليه من الصيانة والأمانة والأخلاق الكريمة والأوصاف الحميدة ـ يأبى عن أمرٍ ثمّ يدعو غيره إليه بلا ضرورة ، فيواجه بالإباء ويُجاب بما يقتضي الطعن والملامة ؟ كلاّ وحاشا ، لا يُجوّز ذلك ذو دينٍ وعقل...

التزام بعضهم بمفاده الباطل

إلاّ أنّ أكثر المحقّقين منهم لم يسلكوا سبيل الخيانة والتحريف ، كما صنع ابن روزبهان وصاحب سُبل الهدى ، بل استحوذ عليهم حبّ البخاري ، فصدّقوا بأكاذيبه وافتراءاته ، وسلّموا لغرائب مجعولاته وهفَواته ، فترى الدّاودي يذهب إلى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأكل مِن ذبائح المشركين ، لكونه جاهلاً بحرمة الأكل منها ، أمّا زيد فقد علِم بذلك فلم يأكل !! قال ابن حجَر :

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ـ رح صحيح البخاري ٧ : ١١٢ .

٣٧٥

 ( قال الداودي : كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعث يجانب المشركين في عباداتهم ، ولكنْ لم يكن يعلم ما يتعلَّق بأمر الذبائح ، وكان زيد قد علم ذلك من أهل الكتاب الذين لقيهم )(١) .

فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والعياذ بالله ـ يأكل من ذبائح أهل الكتاب عن جهلٍ بحكمها ، وقد علم بذلك أهل الكتاب ، وتعلّمه منهم زيد بن عمرو ، ولم يأكل... فانظر كيف يطعن في رسول الله ويحطّ عليه ؟ وكيف يجوّز المؤمن الدّين في حقّ الرسول الأمين ، المؤيّد بالتأييد الإلهي والمسدّد بالمدد الربّاني ، أنْ يجهل حكماً مِن الأحكام الشرعيّة ، ويرتكب شيئاً من المحرّمات الإلهيّة ، ويدعو غيره لارتكابه ؟

تكلّفات الآخرين في حلّ العقدة

ومن القوم مَن يأبى تكذيب حديث البخاري ، ويستحيي من الإلتزام بمدلوله ومعناه الظاهر بل الصريح فيه ، فأُشكل عليه الأمر ، وجعل يتكلَّف للخروج من المأزق !

قال السهيلي ـ بعد نقل حديث البخاري في كتاب الذبائح ـ :

( وفيه سؤال : يقال : كيف وفّق الله زيداً إلى ترك أكل ما ذُبح على النصُب وما لم يُذكَر اسم الله عليه ، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أولى بهذه الفضيلة في الجاهليّة ، لِما ثبت مِن عصمة الله له ؟

فالجواب من وجهين :

أحدهما : إنّه ليس في الحديث حين لقيه ببلدح ، فقدّمت إليه السفرة ، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكل منها ، وإنّما في الحديث إنّ زيداً قال حين قدّمت إليه السفرة : لا آكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه .

الجواب الثاني : إنّ زيداً إنّما فعل ذلك برأيٍ رآه لا بشرعٍ مُتقدّم ، وإنّما تقّدم شرع إبراهيم بتحريم الميتة لا بتحريم ما ذُبح لغير الله ، وإنّما نزل تحريم ذلك في الإسلام ، وبعض الأُصوليّين يقولون : الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة .

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري ٧ : ١١٣ .

٣٧٦

فإن قلنا : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأكل ممّا ذبح على النصُب ، فإنّما فعل أمراً مُباحاً وإنْ كان لا يأكل منها ، فلا إشكال ، وإنْ قلنا أيضاً : إنّها ليست على الإباحة ولا على التحريم ، وهو الصحيح ، فالذبائح خاصّة لها أصلٌ في تحليل الشرع المتقدّم ، فالشاة والبعير ونحو ذلك ممّا أحلّهالله تعالى في دين مَن كان قبلنا ، ولم يقدح في ذلك التحليل المتقدّم ما ابتدعوه ، حتّى جاء الإسلام وأنزل الله سبحانه : ( وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ.... ) ، ألا ترى كيف بقيت ذبائح أهل الكتاب على أصل التحليل بالشرع المتقدّم ، ولم يقدح في التحليل ما أحدثوه من الكفر وعبادة الصلبان ، فكذلك كان ما ذبحه أهل الأوثان محلّلاً بالشرع المتقدّم حتّى خصّه القرآن بالتحريم ) (١) .

أقول :

وهذا الكلام في غاية السخافة والركّة ، فإنّ مناط الإشكال ليس على مجرّد أكل ذبيحة الأصنام ، بل إنّ تجويز أكلها ودعوة الغير إلى ذلك قبيحٌ جدّاً ، فحصر الإشكال في الأكل دليلٌ على عدم التدبّر وقلّة التأمّل ، وكيف يُصدّق العاقل الديّن أنْ لا يتنزّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّا تنزّه منه زيد ، وهو المعصوم بالعصمة الإلهيّة ـ بالإجماع القطعي ـ وأعقل الناس طُرّاً بلا خلاف :

قال القاضي عياض : ( وأمّا وفور عقله ، وذكاء لبّه ، وقوّة حواسّه ، وفصاحة لسانه ، واعتدال حركاته ، وحسن شمائله ، فلا مِرية أنّه كان أعقل الناس وأذكاهم ، ومَن تأمّل تدبيره أمر بواطن الخلْق وظواهرهم وسياسة العامّة والخاصّة ، مع عجيب شمائله وبديع سيره ـ فضلاً عمّا أفاضه مِن العلم وقدّره الشرع ، دون تعلّمٍ سَبَقَ ولا ممارسةٍ تقدّمت ولا مطالعة للكتب منه ـ لم يَمْتَرِ في رجحان عقله وثقوب فهمه لأوّل بديهة ، وهذا ما لا يحتاج إلى تقريرٍ لتحقّقه .

ـــــــــــــــــــ

(١) الروض الأنف ٢: ٣٦٠ ـ ٣٦٣.

٣٧٧

وقد قال وهب بن مُنبِّه : قرأت في أحد وسبعين كتاباً ، فوجدت فيجميعها أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرجح الناس عقلاً وأفضلهم رأياً وفي رواية أُخرى : فوجدت في جميعها أنّ الله تعالى لم يعطِ جميع الناس مِن بدء الدنيا إلى انقضائها مِن العقل في جنب عقله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلاّ كحبّة رملٍ من رمال الدنيا ) (١) .

فأيّ عاقلٍِ يقبل كلام السهيلي في حقّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع هذا المقام في العصمة والعقل والسداد ؟

على أنّ أكابر القوم وأئمّتهم يصرّحون بأكل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مِن ذبيحة الأصنام بالفعل .

يقول ابن حجَر : ( وقد وقع في حديث سعيد بن زيد الذي قدّمته ، وهو عند أحمد : فكان زيد يقول : عذت بما عاذ إبراهيم ، ثمّ يخرّ ساجداً للكعبة ، قال : فمرّ بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزيد بن حارثة وهما يأكلان من سفرةٍ لهما ، فدعياه ، قال : يا ابن أخي لا آكل ممّا ذُبح على النُصب ، قال : فما رُؤي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأكل ممّا ذُبح على النُصب من يومه ذلك .

وفي حديث زيد بن حارثة عند أبي يعلى والبزار وغيرهما قال : خرجت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً من مكّة وهو مردفي ، فذبحنا شاةً على بعض الأنصاب ، فأنضجناها ، فلقينا زيد بن عمرو ، فذكر الحديث مطوّلاً وفيه : فقال زيد : إنّي لا آكل ممّا لم يُذكر اسم الله عليه )(٢) .

فهذا حديث أحمد وغيره مِن الأئمّة الأعلام... فأيّ فائدةٍ في كلام السهيلي ؟

ـــــــــــــــــــ

(١) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ١ : ١٦١ ـ ١٦٢ .

(٢) فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري ٧ : ١١٣ .

٣٧٨

على أنّ ما ادّعاه ، مِن عدم حرمة أكل ما ذُبِح لغير الله في شريعة سيّدنا إبراهيمعليه‌السلام ، فكذِبٌ صِرف ، لكنّ القوم يرتكبونه ، حمايةً لأسلافهم وخرافاتهم !!

وقد كان مِن فضل الله أنْ ردّ الزركشي دعوى السهيلي هذه ، ونصَّ على حرمة ما ذُبِح لغير الله في الشرعيّة الإبراهيميّة ، إذ قال في( التنقيح ) بشرح الحديث مِن كتاب المناقب :

( فقدّمت له سفرة ، فأبى أنْ يأكل .

إنْ قيل : كان نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى بهذه الفضيلة .

قلنا : ليس في الحديث أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكل مِن السّفرة .

وأجاب السهيلي : بأنّ زيداً إنّما قال ذلك برأيٍ منه ، لا بشرعٍ متقدّم ، وفي شرع إبراهيم تحريم الميتة لا تحريم ما ذُبِح لغير الله ، وإنّما نزل تحريم ذلك في الإسلام .

وهذا الذي قاله ضعيف ، بل كان في شريعة الخليل تحريم ما ذُبِح لغير الله ، وقد كان عدوّ الأصنام ، والله تعالى يقول :( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً .... ) (١) )(٢) .

فالحمد لله على أنْ جرت كلمة الحقّ هذه على لسان الزركشي ، وظهر أنّ دعوى السهيلي كذِبٌ وبهتانٌ مبين ، قصد به الحماية على أسلافه الضالّين .

وجاء الخطّابي فسلك مسلكاً آخر... ذكره ابن حجَر حيث قال : ( قوله : على أنصابكم بالمهملة ، جمع نُصُب بضمّتين ، وهي أحجار

ـــــــــــــــــــ

(١) سورة النحل ١٩ : ١٢٣ .

(٢) التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح ٢ : ٧٩٧ .

٣٧٩

كانت حول الكعبة يذبحون عليها للأصنام .

قال الخطابي: كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يأكل ممّا يذبحون عليها للأصنام ، ويأكل ما عدا ذلك ، وإنْ كانوا لا يذكرون اسم الله عليه ؛ لأنّ الشرع لم يكن نزل بعد ، بل لم ينزل الشرع بمنع أكل ما لم يذكر اسم الله عليه إلاّ بعد البعث بمدّة طويلة )(١) .

أقول :

لكنّ هذا الكلام شعري خطابي ، ولا يرفع الإشكال عن حديث البخاري ؛ لأنّه صريح في أنّ اللّحم الذي أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيداً بالأكل منه كان مذبوحاً على النُصُب ، حتّى أنّ زيداً قال للنبيّ : إنّي لست آكل ممّا تذبحون على أنصابكم ومن هنا أورد الخباري ، هذا الحديث في كتاب الذبائح ، باب ما ذبح على النصب والأصنام .

وأيضاً ، فما أخرجه أحمد والبزار وأبو يعلى ، ونقله ابن حجر العسقلاني ، صريح في أنّ ذلك اللّحم كان مذبوحاً على النُصُب .

على أنّ القول بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه ، باطلٌ كذلك ، لما تقدَّم في كلام الزركشي مِن تحريم ما ذبح لغير الله في شريعة سيّدنا الخليلعليه‌السلام ، فكيف ينسب ذلك إلى رسول الله ؟

فظهر أنّ كلام الخطابي أيضاً ضرب في بارد الحديد ، لا ينفع أصلاً في الخلاص عن الإشكال الشديد ، وكيف يجوّز ذو عقلٍ وفهمٍ سديد أنّ البشير النذير أكل مِما ذُبِح على غير اسم الملك الحميد ؟ فالله يعصمنا بفضله مِن اتّباع الشيطان المريد .

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ٧ : ١١٢ ـ ١١٣ .

٣٨٠