استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

استخراج المرام من استقصاء الإفحام0%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 456

استخراج المرام من استقصاء الإفحام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 456
المشاهدات: 209610
تحميل: 7048


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 209610 / تحميل: 7048
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

حديث نفي توريث الأنبياء

( ومنها ) ما أخرجه البخاري ، وهذه ألفاظه في كتاب الفرائض :

( حدّثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة : إنّ أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين توفّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أردْن أنْ يبعثْن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهنّ ، فقالت عائشة : أليس قد قال رسول الله :لا نورّث ، ما تركناه صدقة )(١) .

وقد بيّن علماؤنا الأعلام في كتبهم المبسوطة أنّ هذا موضوع(٢) ، وقد وضعوه لأنْ يحرموا بضعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا ترك ، فراجع كتاب ( تشييد المطاعن ) وغيره ويكفي في تكذيبه أنّ عليّاًعليه‌السلام ردّ عليه في كلامٍ له مع أبي بكر ، وأثبت مخالفته لكتاب الله :

قال ابن سعد : ( أخبرنا محمّد بن عمر ، حدّثني هشام بن سعد ، عن عبّاس بن عبد الله بن معبد ، عن أبي جعفر قال : جاءت فاطمة إلى أبي بكر تطلب ميراثها، وجاء العبّاس بن عبد المطّلب يطلب ميراثه ، وجاء معهما عليّ ، فقال أبو بكر : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا نورّث ، ما تركنا صدقة ) ،

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٨ : ٢٦٦.

(٢) بل لقد أجرى الله هذه الحقيقة على لسان أحد الأئمة الحفّاظ منهم ، وهو الحافظ ابن خراش ، المتوفّى سنة ٢٨٣ ، وقد ذكر ذلك عنه الحافظ الذهبي بترجمته من كتاب تذكرة الحفّاظ ٢ : ٦٨٤ / ٧٠٥ : ( قال ابن عدي : سمعت عبدان يقول : قلت لابن خراش : حديثُ ما تركنا صدقة ؟ قال : باطل ، اتّهم مالك بن أوس بالكذِب ) .

وكذا الحافظ ابن حجر بترجمته من لسان الميزان ٣ : ٥٠٩ : ( وقال عبدان : قلت لابن خراش : حديث : لا نورّث ما تركنا صدقة ؟ باطلٌ قلت : مَن تتّهم به ؟ قال : مالك بن أوس ) .

٣٨١

وما كان النبيّ يعول فعليَّ فقال عليّ : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (١) وقال زكريّا :( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (٢) قال أبو بكر: هو هكذا، وأنت تعلم مثل ما أعلم فقال عليّ : هذا كتاب الله ينطق فسكتوا وانصرفوا )(٢) .

حديث مجادلة الإمام مع النبي في صلاة الليل

( ومنها ) ما أخرجه البخاري ، على ما في كتاب( التحفة ) للدهلوي ، حيث جاء فيه :

( روى البخاري ـ الذي هو أصحّ الكتب عند أهل السنّة بعد القرآن ـ بطرقٍ متعدّدة أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذهبَ إلى بيت الأمير والبتول ليلةً وأيقظهما من مضجعهما ، وأمرهما بصلاة التهجّد مؤكَّداً ، فقال الأمير : ( والله ما نصلّي إلاّ ما كتب الله علينا ، أي الصّلاة المفروضة ، وإنّما أنفسنا بيد الله ) يعني : لو وفّقنا الله لصلاة التهجّد لصلّينا فرجع النبيّ وهو يضرب على فخذيه ويقول :( ...وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ) )(٤) .

وإنْ ذا لمن أقبح الافتراءات وأشنع الأكاذيب ، أيّاً كان واضعه وراويه ، لكنّ القوم لا يستحيون ، وبه وبمثله يحتجّون ؟

فهل يصدِّق أحدٌ إباء أمير المؤمنينعليه‌السلام عن قيام الليل ، والصلاة لله نافلةً ، مع ما هو عليه من العبادة والعبوديّة لله عزّ وجل ؟

وهل يصدَّق مجادلته مع رسول الله في دعوته إيّاه إلى القيام والصّلاة ،

ـــــــــــــــــــ

(١) سورة النمل ٢٧ : ١٦ .

(٢) سورة مريم ١٩ : ٦ .

(٣) الطبقات الكبرى ٢ : ٣١٥ .

(٤) مختصر التحفة الاثني عشريّة : ٢٨١ ، وانظر التحفة الاثني عشريّة : ٢٨٦ .

٣٨٢

مع ما كان عليه مِن كثرة إطاعته له في كلّ شيء ؟

وهل يصدَّق أنْ يستدلّ أمام النبيّ كاستدلال أهل الجبر ؟

إنْ هذا إلاّ مِن وضْع النواصب المبغضين للنبيّ والوصيّ ، ولا يصدِّق به إلاّ مَن كان على شاكلتهم!!

إنّك لن تجد أحداً من آحاد المؤمنين يُؤمر بالصلاة فيأبى بهذه الشدّة ويقول : ( والله لا نصلّي إلاّ ما كتب الله لنا ) ، لا سيّما والآمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّ مثل هذا الكلام معه ـ وفي قِبال دعوته إلى الصلاة والعبادة ـ استخفاف به وبأمره ، وهذا ما لا يصدره مِن أحدٍ من سائر المؤمنين ، فكيف بمولانا عليّعليه‌السلام ، الممتثل لأوامر رسول الله ، والتابع له في كلّ شيء ، والذي كان أعبد الناس بعده؟

يقول ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي عن عبادتهعليه‌السلام :

( وأمّا العبادة ، فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاةً وصوماً ، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل وملازمة الأوراد وقيام النافلة ، وما ظنّك برجلٍ يبلغ مِن محافظته على وِرده أنْ يُبسط له نطع بين الصفّين ليلة الهرير ، فيصلّي عليه ورده والسهام تقع بين يديه ، وتمرّ على صماخَيه يميناً وشمالاً فلا يرتاع لذلك ، ولا يقوم حتّى يفرغ من وظيفته ، وما ظنّك برجلٍ كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده !

وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته ، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله ، وما يتضمّنه من الخضوع لهيبته ، والخشوع لعزّته والاستحذاء له ، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص ، وفهمت من أيّ قلبٍ خرجت ، وعلى أيّ لسانٍ جرت .

٣٨٣

وقيل لعليّ بن الحسينعليه‌السلام ـ وكان الغاية في العبادة ـ : أين عبادتك من عبادة جدّك ؟ قال : عبادتي عند عبادة جدّي كعبادة جدّي عن عبادة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

ويقول الشيخ محمّد بن طلحة الشافعي :

( الفصل السابع : في عبادته وزهده وورعه : أمّا عبادتهعليه‌السلام ، فاعلم سلَك الله بنا وبك سبيل السعادة : أنّ حقيقة العبادة هي الطاعة ؛ فكلّ مَن أطاع الله تعالى ، وقام بامتثال الأوامر واجتناب المناهي فهو عبّاد ، ولمّا كانت متعلّقات الأوامر الصادرة من الله تعالى على لسان نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت العبادة بحسب ذلك متنوّعة ، فمنها الصلاة ومنها الصدقة ومنها الصيام إلى غيرها من الأنواع ، وكلّ ذلك كانعليه‌السلام قائماً فيه ، مُقبلاً عليه مسارعاً إليه متحلّياً به ، حتّى أدرك بمسارعته إلى طاعة الله ورسوله ما فات غيره ، فإنّه مع بين الصلاة والصدقة ، فتصدّق وهو راكع في صلاته ، فجمع بينهما في وقت واحد ، حتّى أنزل الله تعالى فيه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة ) .

وقال بعد ذكر قصّة الصدقة ونزول الآية( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ... ) في أنهعليه‌السلام ، وذكر تفرّدهعليه‌السلام بالعمل بآية النجوى ، ونزول( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ.... ) في حقّه :

( اعلم أنّ أنواع العبادة كثيرة ، وكان عليّعليه‌السلام جامعاً لجميعها ، فإنّ مَن تيقّن حقيقة الآخرة بأحوالها وتحقّق شدائد أهوالها ، وأنّ كلّ نفس عند مردّها ومآلها تلزم بواب سؤالها ، وتجثو بين يدي خالقها لجدالها ، وتجازى على ما أسلفته من أعمالها ، إمّا بنعيمها وإمّا بنكالها ، خليقٌ أنْ يكون عن ساق

ـــــــــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٧ .

٣٨٤

جدّه في عبادته مشمّراً ، وأنْ يجعل وقته على اكتساب طاعات ربّه متوفّراً ، فإنّه لا يقر في العبادة إلاّ من فقد اليقين ولم يكن من المتّقين، وقد كان عليّ منطوياً على يقين لا غاية لمداه ولا نهاية لمنتهاه ، وقد صرّح بذلك تصريحاً مبيّناً فقال : لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً ، فكانت عبادته إلى الغية القصوى تبعاً ليقينه ، وطاعته في الذروة العليا لمتانة دينه ) .

وقال أيضاً بعد ذكر طائفة من الروايات الأخبار :

( فهذهِ الوقائع والقضايا المفصّلة ـ التي أسفَر له فجر نهارها وأبدر لديه قمر شعارها ، وظهر عليه سرُّ آثارها وانتشر عنه خبر أسارها ـ شاهدةٌ له أنّه في العبادة ابن جلاها وفارع ذروة عُلاها ، وضارب في أعشارها بمعلاها ، وراكب مِن مطيّتها غارب مطاها ، قد صدعت منطوقها ومفهومها ، بأنّه قد حوى مقامات العابدين حتّى حلّ مقام الإمامة ، واتّصف بسِمات الزاهدين ، فبيده زمام الزعامة ، فتحلّى بالأمانة والعبادة والمحبّة والزهد والورع والمعرفة والتوكّل والخوف والرجاء والصبر والشكر والرضا والخشية .

فهو ذو إخباتٍ وتفكّر ، ونُسكٍ وتدبّر ، وتهجّدٍ وتذكّر ، وتأوّهٍ وتحسّر ، وأذكارٍ وأوراد وإصدارٍ وإيراد ، فكابد من أنواع العبادات ووظائف الطّاعات ما لا يكاد الأقوياء ينهضون بحمل أعبائه ، إلى أنْ نزل القرآن الكريم بمدحته ، وأسفَر بالثناء عليه من التنزيل وجه صحّته ، حتّى نقل الواحديرضي‌الله‌عنه في تفسره ، يرفعه بسنده إلى ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه قال : إنّ عليّ ابن أبي طالب تملّك أربعة دراهم ، فتصدّق بدرهمٍ ليلاً ، وبدرهمٍ نهاراً، وبدرهمٍ سرّاً ، وبدرهمٍ علانيةً ، فنزلت فيه قوله تعالى :( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) ومن تأمّل ما قصَصْناه مِن الوقائع والقضايا ، وتدبّر ألفاظها ومعانيها ، وجَدها صادعة بالشهادة له بهذهِ المقدّمات ، جامعة فيه ما فصّله القلم من الصفات ، وكفاه شرفاً إنزال الله عزّ وجلّ مدحه في السوَر والآيات ، وإنّها تُتلى بألسنة الأُمّة إلى يوم القيامة في وظائف الصلاة .

٣٨٥

هذه المزايا بعض ما جلى بها

وجنى مِن الخيرات والبركات

وله وظائفٌ طاعةُ أورادها

معمورةُ الآناء والأوقاتِ

بعبادةٍ وزهادةٍ وتورّعٍ

وتخشّعٍ وتدرّعِ الإخباتِ

وتقلقلٍ وتوكّلٍ وتفكّرٍ

وتدبّرٍ وتذكّرٍ المثلاتِ

وإذا الظلام سجى يُناجي ربّه

مُتضرّعاً بالذكرِ والدعواتِ

يعنو له بخضوعِ قلبٍ خاشعٍ

وهموعِ طرفٍ مُسبل العبراتِ

عِلمٌ علَت درجاتُه وفضائلٌ

شرُفت معارجها على الشُرُفاتِ

ومناقبٌ نطقت بها آيُ الكتابِ

وحسبُها إنْ جاءَ شاهدُها مِن الآياتِ(١)

قال : ( ونُقل أنّ معاوية قال بعد موت عليّ لضِرار بن صرد : صِف لي عليّاً فقال : أوَ تعفني ؟ قال : بل صِفه .

ـــــــــــــــــــ

(١) مطالب السؤول : ١٣٧ .

٣٨٦

قال : أوَ تعفني ؟ قال : لا أعفيك قال : أمّا إذا لا بدّ فأقول ما أعلمه منه :

كان ـ والله ـ بعيد المدى ، شديد القِوى ، يقول فصلاً ، ويحكُم عدْلاً ، يتفجّر العِلم من جوانبه ، وتنطُق الحكمة مِن نواحيه ، يستوحِش مِن الدنيا وزهرتها ، ويَستأنِس بالليل وظلمته ، كان ـ والله ـ غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يقلّب كفّيه ، ويُخاطب نفسه ، يعجبه من اللّباس ما خشِن ، ومِن الطعام ما جَشب ، كان ـ والله كأحدِنا ، يُجيبنا إذا سألناه ، ويبتدينا إذا أتيناه ، ويأتينا إذا دعوناه ، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منّا ، لا نكلّمه هيبةً ولا نبتديه عظمةً ، إنْ تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، يُعظِّم أهل الدين ، ويحبّ المساكين ، لا يطمع القويّ في باطله ، ولا ييأس الضعيفُ من عدله ، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه ، وقد أرخى الليل سجوفه وغارت نجومه ، وقد مثُل في محرابه قابضاً على لحيته ، يتَمَلْمَل تَمَلْمُل السليم ويبكي بكاء الحزين ، وكأنّي أسمعه ويقول : يا دنيا يا دنيا ، أبِي تعرّضت أم إليّ تشوّقت ! هيهات هيهات ، غرّي غيري ، قد بتتّك ثلاثاً لا رجعة لي فيك ، فعمرُك قصير وعيشُك حقير وخطَرُك كثير ، آهٍ من قلّة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق قال :

فذُرفت دموع معاوية على لحْيَته ، فلم يملكها وهو ينشفها بكُمّه ، وقد أخفق القوم بالبكاء .

فقال معاوية : رحم الله أبا الحسن ، كان ـ والله ـ كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟

قال : حزنُ مَن ذُبِح ولدُها في حِجرها ، فلا ترقَ عبرتُها ولا يسكن حزنُها )(١) .

وعلى الجملة ، فلا يُمكن وصف زهد الإمام في دار الدنيا ، وعبادته لله تبارك وتعالى ، ولا يُمكن لأحدٍ إنكار ذلك ، بل حتّى أعداؤه يعترفون ، وليت أتباع معاوية اعترفوا كما اعترف ، ولم يوافقوا على الحديث الموضوع المختلق !

وأمّا ما في الحديث ، مِن نسبة التمسّك بشبه الجبريّة إلى الإمامعليه‌السلام ، فإنّها أقبح وأشنع مِن نسبة الإباء عن الصّلاة عليه ؛ لأنّ التمسّك بالقدر

ـــــــــــــــــــ

(١) مطالب السؤول : ١٣١ ـ ١٣٢ .

٣٨٧

عند مُثبتيه في غاية الشناعة ، ونسبة ذلك إلى أمير المؤمنين كُفرٌ وضَلال... وإليك جملة مِن عبارات ابن تيميّة في بطلان الاحتجاج بالقدر :

( الاحتجاج بالقدر حجّةٌ باطلةٌ داحضة باتّفاق كلّ ذي عقلٍ ودين مِن جميع العالمين ، والمُحتج به لا يقبل مِن غيره مثل هذه الحجّة ، إذا احتجّ بها في ظلمٍ أتاه وترَك ما يجب عليه مِن حقوقه ، بل يطلب منه ما لهُ عليه ويُعاقبه على عداوتِه ، وإنّما هي من جنس شبه السوفسطائيّة التي تعرض في العلوم ، فكما أنّك تعلم فسادها بالضرورة وإنْ كانت تعرض لكثير من الناس ، حتّى قد يشكّ في وجود نفسه وغير ذلك من المعارف الضروريّة ، فكذلك هذا يعرض في الأعمال حتّى يظنّ أنّها شبهةٌ في إسقاط الصدق والعدل الواجب وغير ذلك ، وإباحة الكذِب والظلم وغير ذلك .

ولكن تعلم القلوب بالضرورة أنّ هذه شبهةٌ باطلة ، وهذه لا يقبلها أحدٌ عن التحقيق ، ولا يحتجّ بها أحدٌ إلاّ مع عدم علمه بالحجّة بما فعله ، فإذا كان مع علمه بأنّ فعله هو المصلحة وهو المأمور ، وهو بالذي ينبغي فعله ، لم يحتجّ بالقدر ، وكذلك إذا كان معه علمٌ بأنّ الذي لم يفعله ليس عليه أنْ يفعله ، أو ليس بمصلحة ، أو ليس هو مأموراً به ، لم يحتجّ بالقدر ، بل إذا كان متّبعا لهواه بغير علم احتجّ بالقدر ، ولهذا لمّا قال المشركون :( ..لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ... ) قال الله تعالى :( هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ* قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) .

فإنّ هؤلاء المشركين يعلمون بفطرتهم وعقولهم ـ أنّ هذه الحجّةَ داحضةٌ وباطلة ، فإنّ أحدهم لو ظلم الآخر في ماله ، أو فرج امرأته ، أو قتل ولَده ، أو كان مُصرّاً على الظلم ، فنهاه الناس عن ذلك فقال : لو شاء الله لم أفعل هذا ،لم يقبلوا هذه الحجّة ، وهو لا يقبلها مِن غيره ، وإنّما يحتجّ بها المُحتج دفعاً للّوم بلا وجه ، فقال الله لهم : ( هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ) بأنّ هذا السؤال مِن أمرِ الله ، وأنّه مصلحةٌ ينبغي أنْ يفعل ( إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ) تحرزون وتفترون .

٣٨٨

فعمدتكم في نفس الأمر طلبكم وحرصكم ، ليس عمدتكم في نفس الأمر كون الله شاء ذلك وقدّره ، فإنّ مردّ المشيّة والقدرة لا تكون عُُمدةً لأحدٍ في الفعل ، ولا حجّةً لأحدٍ على أحد ، ولا عُذراً لأحد ، والناس كلّهم مشتركون في القدر ، فلو كان هذا حجةً وعمدة ، لم يحصل فرقٌ بين العادل والعالم ، والصادق والكاذب ، والعالم والجاهل ، والبرّ والفاجر ، فلم يكن فرق بين ما يُصلِح الناس من الأعمال وما يُفسدهم ، وما ينفعهم وما يضرّهم .

وهؤلاء المشركون المحتجّون بالقدر على ترك ما أرسل الله به رُسَله مِن توحيده والإيمان به ، لو احتجّ بعضهم على بعض في سقوط حقوقه ومخالفة أمره لم يقبله منه ، بل كان هؤلاء المشركون يذمّ بعضهم بعضاً على فعل ما يرَونه تركاً لحقّه أو ظلماً ، فلمّا جاءهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعوهم إلى حقّ الله على عباده وطاعة أمره احتجّوا بالقدر ، فصاروا يحتجّون بالقدر على ترك حقّ ربّهم ، ومخالفة أمره بما لا يقبلونه ممّن ترك حقَّهم وخالف أمرَهم )(١) .

وله كلامٌ آخرٌ طويلٌ في تقبيح الاحتجاج بالقدر وإبطاله ، ثمّ إنّه في آخر الكلام ، ـ لنصبه وعداوته لأمير المؤمنينعليه‌السلام ـ يَنْسِب القدر إليه ، ويتعرّض للخبر الموضوع عليه ، وهذه عبارته :

ـــــــــــــــــــ

(١) منهاج السنّة ٢ : ٣ ـ ٥ .

٣٨٩

 ( ثمّ نعلم إنّ هذه الحجّة باطلة بصريح العقل عند كلّ أحد مع الإيمان بالقدر ، وبطلان هذه الحجّة لا يقتضي التكذيب بالقدر ، وذلك أنّ بني آدم مفطورون على احتياجهم إلى جلب المنفعة ودفع المضرّة ، ولا يعيشون ولا يصلح لهم دنيا ولا دين إلاّ بذلك ، فلا بدّ أنْ يأتمروا بما فيه تحيل منافعهم ودفع مضارّهم ، سَواء بُعِث إليهم رسول أم لم يَبعث ، لكن علمهم بالمنافع والمضار بحسب عقولهم وقصودهم ، والرسُل صلوات الله عليهم بُعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ، فأتباع الرسُل أكمل الناس في ذلك ، والمكذّبون للرُسُل انعكس الأمر في حقّهم ، فصاروا يتّبعون المفاسد ويعطّلون المصالح ، فهم شرّ الناس ، ولا بدّ لهم مع ذلك مِن أُمورٍ يجتلبونها وأُمورٍ يجتنبونها ، وأنْ يدافعوا جميعاً ما يضرّهم مِن الظلم والفواحش ونحو ذلك .

فلو ظلم بعضُهم بعضاً في دمه وماله وحرمته ، فطلب المظلوم الاقتصاص والعقوبة ، لم يقبل أحدٌ مِن ذوي العقول احتجاجه بالقدر ، ولو قال : اعذروني فإنّ هذا كان مقدّراً عليّ ، لقالوا : وأنت لو فُعِل بك ذلك فاحتجّ عليك ظالمك بالقدر لم تقبل منه ، وقبول هذه الحجّة تُوجب الفساد الذي لا صلاح معه ، وإنْ كان الاحتجاج بالقدر مردوداً في فطر جميع الناس وعقولهم ، مع أنّ جماهير الناس مقرّون بالقدر ، فعُلِم أنّ الإقرار بالقدر لا يُنافي دفع الاحتجاج به ، بل لا بدّ مِن الإيمان به ولا بدّ من ردّ الاحتجاج به .

ولمّا كان الجدل ينقسم إلى حقٍّ وباطل ، وكان مِن لغة العرب أنّ الجنس إذا انقسم إلى نوعين أحدهما أشرف مِن الآخر ، خصّوا الأشرف باسم الخاص وعبّروا عن الآخر باسم العام ، كما في لفظ الجائز العام والخاص والمباح العام والخاص ، وذوي الأرحام العام والخاص ، ولفظ الجواز العام والخاص ، ويطلقون لفظ الحيوان على غير الناطق ، لاختصاص الناطق باسم الإنسان ، غلوا في لفظ الكلام والجدل ، فلذلك يقولون فلان صاحب كلام ومتكلّم إذا كان يتكلّم بلا علم ، ولهذا ذمّ السلف أهل الكلام والكلام ، وكذلك الجدل إذا لم يكن الكلام بحجّة صحيحة لم يكن إلاّ جدلاً محضاً .

٣٩٠

والاحتجاج بالقدر من هذا الباب ، كما في الصحيح : عن عليّرضي‌الله‌عنه قال :( طرقني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفاطمة فقال : ألا تقومان تصلّيان ؟ فقلت : يا رسول الله ، إنّما أنفسنا بيد الله ، إنْ شاء أنْ يبعثنا بعثنا قال :فولّى وهو يقول : ( ...وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ) ) ، فإنّه لمّا أمرهم بقيام اللّيل فاعتلّ عليّ بالقدر وأنّه لو شاء الله لأيقظنا ، عَلِم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ هذا ليس فيه إلاّ مجرّد الجدل الذي ليس بحقّ ، فقال :( وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ) (١) .

وإذا كان التمسّك والاحتجاج بالقدر بهذه المثابة مِن القبح ، فإنّ نسبة ذلك إلى الإمام عليه الصلاة والسلام ، لا يكون إلاّ عن النصب والعناد له ، ولا يصدّق به أحدٌ من ذَوي الفهم والعقل ، فضلا عن أهل الإيمان والإيقان .

بل لقد ذكر ابن تيميّة في موضع آخر مِن كتابه ، أنّ مَن يحتجُّ بالقدر فهو شرٌّ من اليهود والنصارى... إلى غير ذلك ، وهذا نصّ كلامه .

( وهذا السؤال ـ أعني لزوم إفحام الأنبياء في جواب الكفّار ـ إنّما يتوجّه على من يسوّغ الاحتجاج بالقدر ، ويقيم عذر نفسه أو غيره إذا عصى بأنّ هذا مقدّر ، على أنّ شهود الحقيقة الكونيّة ـ وهؤلاء كثيرون في الناس ، وفيهم مَن يدّعي أنّه مِن الخاصّة العارفين أهلَ التوحيد ، الذين فَنوا في توحيد الربوبيّة ـ يقولون : إنّ العارف إذا فنى في شهود توحيد الربوبيّة لم يستحسن حسنه ولم يستقبح قبحه ، وهذا الضرب كثيرٌ في متأخّري الشيوخ النسّاك والصوفيّة والفقراء ، بل في الفقهاء والأُمراء والعامّة ، ولا ريب أنّ هؤلاء شرٌّ مِن الشيعة والمعتزلة الذين يقرّون بالأمر والنهي وينكرون القدر .

وبمثل هؤلاء طال لسان المعتزلة والشيعة في المنتسبين إلى السنّة ، فإنّ مَن أقرّ بالأمر والنهي والوعد والوعيد وفعل الواجبات وترَك المحرّمات ، ولم يقُل أنّ الله خلَق أفعال العباد ، ولا يقدر على ذلك ولا شاء المعاصي ، هو قد قصد تعظيم الأمر وتنزيه الله تعالى عن الظلم وإقامة حجّة الله على نفسه ، لكن ضاق عَطْنه فلم يخيّل الجمع بين قدرة الله التامّة ، وبين المشيّة العامّة وخلقه الشامل ، بين عدله وحكمته وأمره ونهيه ووعده ووعيده ، فجعل لله الحمد ولم يجعل له تمام الملك .

ـــــــــــــــــــ

(١) منهاج السنّة ٢ : ١٣ ـ ١٥ .

٣٩١

والذين أثبتوا قدرته ومشيّته وخلقه ، وعارضوا بذلك يجعل له تمام الملك ، والذين أثبتوا قدرته ومشيّته وخلقه ، وعارضوا بذلك أمره ونهيه ووعده ووعيده شرّ من اليهود والنصارى ، كما قال هذا المصنّف ، فإنّ قولهم يقتضي إفحام الرُسُل ، ونحن إنّما نرد من أقوال هذا وغيره ما كان باطلاً ، وأمّا الحقّ فعلينا أنْ نقبله من كلّ قائل ، وليس لأحدٍ أن يرد بدعة ببدعة ولا يقابل باطلاً بدعة ، وإنْ كان أولئك يشبهون المجوس ، فهؤلاء يشبهون المشركين المكذّبين للرسل الذين قالوا( لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ) وقد كان في أواخر عصر الصحابة رضي الله تعال عنهم جماعة من هؤلاء القدريّة ، وأمّا المحتجّون بالقدر على الأمر ، فلا يعرف لهم طائفة من طوائف المسلمين معروفة ، وإنّما كثروا في المتأخّرين )(١) .

حديث خطبة بنت أبي جهل

( ومنها ) ما أخرجه البخاري : من أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام خطب بنت أبي جهل على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي حياة الصدّيقة الطاهرة... في قضيّة موضوعة مكذوبّةٍ... قال :

( حدّثنا أبو اليمان ، أنا شعيب ، عن الزهري ، ثني عليّ بن حسين : أنّ المِسْوَر بن مخرمة قال : إنّ عليّاً خطب بنت أبي جهل ، فسمعَت بذلك فاطمة ، فأتت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت :( يزعم قومك أنّك لا تغضب لبناتك ، وهذا عليٌّ ناكحٌ بنت أبي جهل ) فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسمعته حين تشهد يقول :( أمّا بعد ، فإنّي أنكحت أبا العاص ابن الربيع فحدّثني وصدقني ، وإنّ فاطمة بضعةٌ منّي ، وإنّي أكره أنْ يسوءها ، والله لا يجتمع بنت رسول الله وبنت عدوّ الله عند رجل ) . فترك عليُّ الخطبة )(٢) .

فإنّ هذا الحديث فيه ذمٌّ ومنقصة ، ولا يصدِّق به مؤمنٌ أبداً ، وكيف يُمكن صدوره مِن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد كان يعلن منذ بدء الإسلام إلى ساعة وفاته عن فضائل أمير المؤمنين ومناقبه ويشيعها بين الناس ؟

ـــــــــــــــــــ

(١) منهاج السنّة ٢ : ١١ ـ ١٢ .

(٢) صحيح البخاري ٥ : ٩٥ و ٤ : ١٨٥ .

٣٩٢

وقد اعترف بعض أئمّة القوم بدلالته على الذمّ ، فهذا ابن حجَر يقول بشرحه : ( ولا أزال أتعجّب مِن المِسْوَر كيف بالغ في [تغضيبه] لعليّ بنالحسين ، حتّى قال إنّه أودع عنده السيف ، لا يُمكّن أحداً منه حتّى تزهق روحه ، رعايةً لكونه ابن فاطمة ، ولم يراع خاطره في أنّ ظاهر سياق الحديث غضاضةٌ على عليّ بن الحسين ، لما فيه مِن إيهام غضّ مِن جدّه عليّ بن أبي طالب ، حيث أقدم عل خطبة بنت أبي جهل على فاطمة ، حتّى اقتضى من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك من الإنكار ما وقع ) (١) .

وقد ذكر الدهلوي صاحب( التحفة ) خبر الكلام الذي دار بين أبي حنيفة والأعمش حول هذا الحديث ، وقول أبي حنيفة للأعمش بأنّ نقل هذا الحديث مِن سوء الأدب(٢) .

فكيف يُصدّق بأنّ الإمام السجّادعليه‌السلام قد روى هذا الحديث وسكت عليه ؟(٣)

حديث شأن نزول :( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ... )

( ومنها ) ما أخرجه البخاري : مِن قصّة أصحاب النبيّ مع أصحاب عبد الله ابن أُبيّ ، الذي كان رئيس المنافقين بعد تظاهره بالإسلام ، ونزول الآية( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا... ) في القصّة ، وهذه ألفاظه في كتاب الصلح :

( حدّثنا مسدّد ، ثنا معتمر قال : سمعت أُبيّ أنّ أنَسَاً قال : قيل للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو أتيت عبد الله بن أُبيّ ، فانطلق إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وركب حماراً ، فانطلق المسلمون يمشون معه ، وهي أرض سبخة ، فلمّا أتاه

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ٧ : ٦٩ ، ٦ : ١٦٢ ، ٩ : ٢٦٨ ـ ٢٦٩ .

(٢) التحفة الاثني عشريّة : ٣٥٥ .

(٣) وفي هذا الموضوع رسالة مطبوعة ضمن ( الرسائل العشر في الأحاديث الموضوعة ) تأليف السيّد علي الحسيني الميلاني ، فليرجع إلهيا مَن شاء التفصيل .

٣٩٣

النبيّ قال : إليك عنّي ، والله لقد آذاني نتن حمارك ، فقال رجلٌ من الأنصار منهم : والله لحمار رسول الله أطيب ريحاً منك ، فغضب لعبد الله رجلٌ مِن قومه ، فشتما ، فغضب لكلّ واحدٍ منهما أصحابُه ، فكان بينهما ضربٌ بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنّها نزلت( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا..... ) (١) .

فإنّ القول بنزول الآية المباركة في هذه القضيّة كذِبٌ قطعاً ؛ لأنّ هذه القضيّة قد وقعت قبل الإسلام الظاهري للرجل ، ولو كانت بعده فلا ريب في كفره وضلاله وكذا أصحابه ، لقوله لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إليك عنّي ، والله لقد آذاني نتن حمارك ) فكيف يسمّيه الله وأصحابه بـ ( المؤمنين ) ؟

ومن هنا قال ابن بطال : ( يستحيل نزولها في قصّة... ) كما قال الزركشي في( التنقيح ) في شرحه :

( فبلغنا أنّها نزلت( وَإِنْ طَائِفَتَانِ.. ) قال ابن بطّال : يستحيل نزولها في قصّة عبد الله بن أُبيّ وأصحابه ؛ لأنّ أصحاب عبد الله ليسوا بمؤمنين ، وقد تعصّبوا له بعد الإسلام في قصّة الإفك ، وقد رواه البخاري في كتاب الاستيذان عن أُسامة بن زيد رضي الله عنهما : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ في مجلسٍ فيه أخلاط مِن المشركين والمسلمين وعَبَدَة الأوثان واليهود ، وفيهم عبد الله بن أُبي ، فذكر الحديث ، فدلّ على أنّ الآية لم تنزل فيه ، وإنّما نزلت في قومٍ من الأوس والخزرج ، اختلفوا في حقٍّ ، فاقتتلوا بالعصيّ والنعال )(٢) .

ومن الطرائف محاولة ابن حجر الردّ على كلام ابن بطّال بقوله :

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٤ : ١٩ .

(٢) التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح ٢ : ٥٩٦ .

٣٩٤

 ( وقد استشكل ابن بطّال نزول الآية المذكورة وهي قوله تعالى :( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا... ) (١) في هذه القصّة، لأنّ المخاصمة وقعت بين من كان مع النبيّ من الصحابة وبين عبد الله بن أُبي ، وكانوا إذ ذاك كفّاراً ، فكيف ينزل فيهم( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ... ) ولا سيّما إن كانت قصّة أنْ وأُسامة متّحدة ، فإنّ في رواية أُسامة : فاستبَّ المسلمون والمشركون .

قلت: يمكن أن يحمل على التغليب، مع أنّ فيها إشكالاً من جهة أُخرى ، وهي : إنّ حديث أُسامة صريح في أنّ ذلك كان قبل وقعة بدر وقبل أنْ يسلم عبد الله بن أُبي وأصحابه، والآية المذكورة في الحجرات ونزولها متأخّر جدّاً وقت مجيء الوفود، لكنّه يحتمل أنْ يكون آية الإصلاح نزلت قديماً، فيندفع الإشكال )(٢) .

أقول :

إنّ الحمل على التغليب بلا دليل من الكتاب أو السنّة غير مقبول ، ولعلّه ملتفت إلى ضعفه فقال : ( يمكن...) .

خبر عدم تفضيل الإمام على الصّحابة بعد الخلفاء

( ومنها ) ما أخره البخاري في مناقب عثمان :

( عن ابن عمر قال : كنّا في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً ، ثمّ عمر ، ثمّ عثمان ، ثمّ نترك أصحاب النبيّ لا نفاضل بينهم )(٣) .

ـــــــــــــــــــ

(١) سورة الحجرات ٤٩ : ٩ .

(٢) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٥ : ٢٢٨

(٣) صحيح البخاري ٥ : ٨٢ .

٣٩٥

لكنّ الأدلّة القاطعة والبراهين الساطعة على أفضليّة أمير المؤمنينعليه‌السلام مِن الشيخين ـ فضلاً عن الثالث ـ كثيرةٌ جدّاً ، غير أنّ واضع هذه الفِرية لم تسمح له نفسه الدنيّة لأنْ يقول بأفضليّته عمّن سوى الثلاثة ، فزعم المساواة بينه وبين معاوية وعمرو بن العاص وأمثالهما... والعياذ بالله .

وما أكثر الأحاديث والأخبار في بطلان هذه الفِرية وسقوطها ، حتّى مِن طُرق أهل السنّة وأسانيدهم... ومن هنا ، فقد بالغ ابن عبد البرّ في ردّ الخبر ، ونقل كلام ابن معين في إبطاله ، فقال ما نصّه :

( أخبرنا محمّد بن زكريّا ويحيى بن عبد الرحمان وعبد الرحمان بن يحيى قالوا : حدّثنا أحمد بن سعي بن حزم ، ثنا أحمد بن خالد ، ثنا مروان بن عبد الملك قال : سمعت هارون بن إسحاق يقول : سمعت يحيى بن معين يقول : مَن قال : أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ ، وعرف لعليّ سابقته وفضله ، فهو صاحب سنّة فذكر له هؤلاء الذين يقولون : أبو بكر وعمر وعثمان ثمّ يسكتون ، فتكلَّم فيهم بكلامٍ غليظ. وكان يحيى بن معين يقول: أبو بكر وعمرو وعلي وعثمان.

قال أبو عمرو : من قال بحديث ابن عمر : كنّا نقول على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبو بكر ثم عمر ثمّ عثمان ثمّ نسكت ، يعني لا نفاضل ، وهو الذي أنكر ابن معين وتكلّم فيه بكلامٍ غليظ ؛ لأنّ القائل بذلك قد قال بخلاف ما اجتمع عليه أهل السنّة من السلف والخلف من أهل الفقه والأثر : إنّ عليّاً أفضل الناس بعد عثمان ، هذا ممّا لم يختلفوا فيه ، وإنّما اختلفوا أيّهما أفضل عليّ أو عثمان ، واختلف السّلف أيضاً في تفضيل علي وأبي بكر .

وفي إجماع الجميع الذي وصفنا دليل على أنّ حديث ابن عمر وهمغليظ، وأنّه لا يصحّ معناه وإنْ كان إسناده صحيحاً ، ويلزم مَن قال به أنْ يقول بحديث جابر وأبي

٣٩٦

سعيد: كنّا نبيع أُمّهات الأولاد على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم لا يقولون بذلك فقد ناقضوا ، وبالله التوفيق ) (١) .

حديث أخذ الأجر على كتاب الله

( ومنها ) ما أخرجه البخاري في كتاب الطب :

( حدّثنا سيدان بن مضارب أبو محمّد الباهلي قال : حدّثنا أبو معشر يوسف بن يزيد البراء قال : حدّثني عبيد الله بن الأخنس أبو مالك ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عبّاس : إنّ نفراً مِن أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّوا بماءٍ فيهم لديغ أو سليم ، فعرض لهم رجلٌ من أهل السماء فقال : هل فيكم مِن راق ؟ إنّ في الماء رجلاً لديغاً أو سليماً ، فانطلق رجلٌ منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء ، فبَرأ ، فجاء بالشاء إلى أصحابه ، فكرهوا ذلك قالوا : أخذت على كتاب الله أجراً ، حتّى قدموا المدينة فقالوا : يا رسول الله ، أخذ على كتاب الله أجراً ! فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( إنّ أحقّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ) (٢) .

وهذا الحديث أورده أبو الفرج ابن الجوزي برواية عائشة في كتاب( الموضوعات ) (٣) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٣ : ١١١٦ .

(٢) صحيح البخاري ٧ : ٢٤١ .

(٣) كتاب الموضوعات ١ : ٢٢٩ .

٣٩٧

حديث أسباط في الاستسقاء

( ومنها ) ما أخره ـ بعد رواية ابن مسعود ـ في استسقاء الكفّار : عن مسروق قال :

( أتيت ابن مسعود فقال : إنّ قريشاً أبطؤوا عن الإسلام ، فدعا عليم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخذتهم سنة حتّى هلكوا فيا ، وأكلوا الميتة والع ؟ ام ، فجاء أبو سفيان فقال : يا محمد ، جئت تأمر بصلة الرحم ، وإنّ قومك قد هلكوا ، فادع الله ، فقرأ :( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ) الآية ثمّ عاوا إلى كفرهم ، فذلك قوله تعالى :( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ) يوم بدر ـ :

وزاد أسباط عن منصور : فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسقوا الغيث ، فأطبقت عليهم سبعاً ، وشكا الناس كثرة المطر فقال :

( اللّهمّ حوالينا ولا علنيا ) ، فانحدرت السحابة عن رأسه ، فسقوا الناس حولهم )(١) .

وقد تكلّم الأئمّة في هذه الزيادة :

قال العيني : ( واعترض على البخاري بزيادة أسباط هذا .

فقال الداودي : أدخل قصّة المدينة في قصّة قريش وهو غلط .

وقال أبو عبد الملك : الذي زاده أسباط وهمٌ واختلاط ؛ لأنّه ركّب سند عبد الله بن مسعود على متن حديث أنَس بن مالك ، وهو قوله : فدعا رسول الله فسقوا الغيث إلى آخره .

وكذا قال الحافظ شرف الدين الدمياطي وقال : حديث عبد الله بن مسعود كان بمكّة ، وليس فيه هذا .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٢ : ٧٤ ـ ٧٥ .

٣٩٨

العجب من البخاري كيف أورد هذا وكان مخالفاً لما رواه الثقات ؟

وقد ساعد بعضهم البخاري بقوله : لا مانع أنْ يقع ذلك مرّتين .

وفيه نظر لا يخفى .

وقال الكرماني : فإنْ قلت : قصّة قريش والتماس أبي سفيان كانت في مكّة لا في المدينة قلت : القصة مكيّة ، إلاّ القدر الذي زاد أسباط ، فإنّه وقع في المدينة )(١) .

حديث تكثر لكم الأحاديث من بعدي

( ومنها ) حديث نصّ التفتازاني على إيراد البخاري إيّاه في صحيحه ، وقد طعن فيه المحدّثون ، وقال يحيى بن معين بأنّه حديث وضعته الزنادقة ، وهو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( تكثر لكم الأحاديث مِن بعدي ، فإذا رُوي لكم حديث فاعرضوه على كتاب الله ) ذكر ذلك كلّه التفتازاني في( التلويح ـ شرح التوضيح ) في كلامٍ له حيث قال :

( قوله : وإنّما يرد خبر الواحد في معارضة الكتاب ؛ لأنّه مقدّم لكونه قطعيّاً متواتر النظم لا شبهة في متنه ولا في سنده ، لكنّ الخلاف إنّما هو في عمومات الكتاب وظواهرها ، فمن يجعلها ظنّيّة يعتبر بخبر الواحد ، إذا كان على شرائطه عملاً بالدليلين ، ومن يجعل العام قطعيّاً ، فلا يعمل بخبر الواحد في معارضته ، ضرورة أنّ الظنّي يضمحلّ بالقطعي ، فلا ينسخ الكتاب به ولا يزاد عليه أيضاً ؛ لأنّه بمنزلة النسخ .

واستدلّ على ذلك بقولهعليه‌السلام :( تكثر لكم الأحاديث من بعدي ، فإذا روي لكم حديث فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فاقبلوه وما خالفه فردّوه ) .

وأُجيب : بأنّه خبر واحد قد خصّ منه البعض ، أعني المتواتر والمشهور ، فلا يكون قطعيّاً ، فكيف يثبت به مسألة الأُصول ؟ على أنّه ممّا يُخالف عموم قوله تعالى :( ..وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ... ) .

قد طعن فيه المحدّثون بأنّ في رواته يزيد بن ربيعة ، وهو مجهول ، وترك في إسناده واسطة بين الأشعب وثوبان فيكون منقطعاً .

ـــــــــــــــــــ

(١) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري ٧ : ٢٧ ـ ٢٩ .

٣٩٩

وذكر يحيى بن معين : إنّه حديث وضعته الزنادقة .

وإيراد البخاري إيّاه في صحيحه لا ينافي الانقطاع أو كون أحد رواته غير معروفٍ بالرواية )(١) .

حديث تحريم المعازف

( ومنها ) حديث رواه ابن حزم عن البخاري وحكم بوضعه ، قال :

( ومن طريق البخاري : قال هشام بن عمّار، نا صدقة بن خالد ، نا عبد الرحمان بن يزيد بن جابر ، نا عطيّة بن قيس الكلابي ، نا عبد الرحمان بن غنم الأشعري ، حدّثني أبو عامر أبو مالك الأشعري ـ ووالله ما كذبني ـ إنّه سمِع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :( ليكوننَّ من أُمّتي قوم يستحلّون الحرير والخمر والمعازف ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) التلويح في شرح التوضيح ٢ : ٢١ .

٤٠٠