استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

استخراج المرام من استقصاء الإفحام0%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 456

استخراج المرام من استقصاء الإفحام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 456
المشاهدات: 209612
تحميل: 7048


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 209612 / تحميل: 7048
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقال الإمام أبو القاسم سعد بن عليّ الزنجاني : إنّ لأبي عبد الرحمان النسائي شرطاً في الرجال أشدّ مِن شرط البخاري ومسلم وقال أبو زرعة الرّازي لمّا عرض عليه ابن ماجة السُنن ( كتابه ) : أظنّ إنْ وقع هذا في أيدي الناس تعطّلت هذه الجوامع كلّها ، أو قال أكثرها .

ووراء هذا بحث آخر وهو : إنّ قول الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح : إنّ الأُمّة تلقّت الكتابين بالقبول .

إنْ أراد كلّ الأُمّة ، فلا يخفى فساد ذلك ، إذ الكتابان إنّما صُنِّفا في المئة الثالثة بعد عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ، وأئمّة المذاهب المتّبعة ورُؤوس حفّاظ الأخبار ونقّاد الآثار ، المتكلّمين في الطُرق والرجال المُمَيّزين بين الصحيح والسقيم .

وإنْ أراد بالأُمّة الذين وجدوا بعد الكتابين ، فهم بعض الأُمّة ، فلا يستقيم له دليله الذي قرّره مِن تلقّي الأُمّة وثبوت العصمة لهم ، والظاهريّة إنّما يعتنون بإجماع الصحابة خاصّة ، والشيعة لا تعتدّ بالكتابين وطعنت فيهما ، وقد اختلف في اعتبار قولهم في الإجماع وانعقاده .

ثمّ ، إنْ أراد كلّ حديث فيهما تُلقّي بالقبول مِن الناس كافّة ، فغير مستقيم ، فقد تكلّم جماع مِن الحفّاظ في أحاديث فيهما .

فتكلّم الدارقطني في أحاديث وعلّلها .

وتكلّم ابن حزم في أحاديث ، كحديث شريك في الإسراء قال : إنّه خلط .

ووقع في الصحيحين أحاديث متعارضة لا يُمكن الجمع بينهما ، والقطع لا يقع التعارض فيه .

وقد اتّفق البخاري ومسلم على إخراج حديث محمّد بن بشّار بندار ، وأكثرا مِن الاحتجاج بحديثه ، وتكلّم فيه غير واحدٍ من الحفّاظ وأئمّة الجرح والتعديل ونُسِب إلى الكذِب ، وحلّ عمرو بن عليّ الفلاّس شيخ البخاري أنّ بنداراً يكذب في حديثه عن يحيى ، وتكلّم فيه أبو موسى ، وقال عليّ بن المديني في الحديث الذي رواه في السجود : هذا كذِب ، وكان يحيى لا يعبأ به ويستضعفه ، وكان القواريري لا يرضاه .

وأكثرا مِن حديث عبد الرزّاق والاحتجاج به ، وتُكُلِّم فيه ونُسِب إلى الكذِب .

وأخرج مسلم لأسباط بن نصر ، وتكلّم فيه أبو زرعة وغيره .

٤٢١

وأخرج أيضاً عن سمّاك بن حرب وأكثر عنه ، وتكلّم فيه غير واحد ، وقال الإمام أحمد بن حنبل ، هو مضطرب الحديث ، وضعّفه أمير المؤمنين في حديث شعبة وسفيان الثوري ، وقال يعقوب بن شيبة : لم يكن من المتثبّتين وقال النسائي : في حديثه ضعف قال شعبة : كان سمّاك يقول في التفسير : عكرمة ولو شئت لقلت له ابن عبّاس لقاله وقال ابن المبارك : سمّاك ضعيفٌ في الحديث ، وضعّفه ابن حزم وقال : كان يُلَقَّن فَيَتَلَقَّنُ .

وكان أبو زرعة يذمّ وضع كتاب مسلم ويقول : كيف تسمّيه الصحيح وفيه فلان وفلان ؟ فذكر جماعة .

وأمثال ذلك تستغرق أوراقاً .

فتلك الأحاديث عندهما ولم يتلقّوها بالقبول .

وإنْ أراد غالب ما فيهما ، سلِم مِن ذلك ولم يبقَ له حجّة ) .

وقال الشيخ عبد القادر القرشي :

( فائدة ـ حديث أبي حميد السّاعدي في صفة صلاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في مسلمٍ وغيره ، يشتمل على أنواعٍ منها : التورّك في الجلسة الثانية ، ضعّفه الطحاوي ، لمجيئه في بعض الطُرق عن رجل ، عن أبي حميد ، قال الطحاوي : فهذا مُنقطع على أصل مخالفينا ، وهُم يردّون الحديث بأقلّ مِن هذا .

قلت : ولا يحنّق علنيا لمجيئه في مسلم ، وقد وقع في مسلم أشياء لا تقوى عند الاصطلاح ، فقد وضع الحافظ الرّشيد العطّار على الأحاديث المقطوعة المخرّجة في مسلم كتاباً سمّاه بـ( غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقَع في مسلم من الأحاديث المقطوعة ) ، سمعته على شيخنا أبي إسحاق إبراهيم بن محمّد بن عبد الله الطاهري سنة اثنتي عشر وسبعمئة ، بسماعه من مصنّفه الحافظ رشيد الدين ، بقراءة الشيخ فخر الدين أبي عمرو عثمان المقابلي ، وبيّنها الشيخ محيي الدين في أوّل شرح مسلم .

وما يقوله الناس : إنّ مَن روى له الشيخان فقد جاز القنطرة ، هذا أيضاً مِن التحنّق ولا يقوى ، فقد روى مسلم في كتابه عن ليث عن أبي مسلم وغيره من الضعفاء ، فيقولون : إنّما روى في كتابه للاعتبار والشواهد والمتابعات ، وهذا لا يقوى ؛ لأنّ الحفّاظ قالوا : الاعتبار والشواهد والمتابعات والاعتبارات ، أُمورٌ يتعرّفون بها حال الحديث ، وكتاب مسلم التزم فيه الصحّة ، فكيف يتعرّف حال الحديث الذي فيه بطريق ضعيفة .

٤٢٢

واعلم أنّ ( عن ) مقتضية للانقطاع عند أهل الحديث ، ووقع في مسلم والبخاري مِن هذا النوع شيء كثير ، فيقولون على سبيل التحنّق : ما كان من هذا النوع في غير الصحيحين فمنقطع ، وما كان في الصحيحين فمحمول على الاتّصال .

وروى مسلم في كتابه ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، أحاديثَ كثيرة بالعنعنة وقال الحافظ : أبو الزبير محمّد بن مسلم بن مسلم بن تدرس المكّي يدلّس في حديث جابر ، فما كان يصفه بالعنعنة لا يقبل ، وقد ذكر ابن حزْم وعبد الحقّ عن الليث بن سعد أنّه قال لأبي الزبير: علّم لي أحاديث سمعتها مِن جابر حتّى أسمعها منك ، فعلّم لي أحاديث أظنّ أنّها سبعة عشر حديثاً فسمعتها منه ، قال الحافظ : فما كان مِن طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر ، صحيح .

وقد روى مسلم في كتابه أيضاً ، عن جابر وابن عمر ، في حجّة الوداع ، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توجّه إلى مكّة يوم النحر ، وطاف طواف الإفاضة ثمّ رجع فصلّى الظهر بمنى ، فيتحنّقون ويقولون : أعادها لبيان الجواز ، وغير ذلك مِن التأويلات ، ولهذا قال ابن حزم في هاتين الروايتين : إحداهما كذِبٌ بلا شك .

وروى مسلم أيضاً حديث الإسراء وفيه : ( وذلك قبل أن يوحى إليه ) وقد تكلّم الحفّاظ في هذه اللّفظة وبيّنوا ضعفها .

وروى مسلم أيضاً : ( خلق الله التّربة يوم السبت ) ، واتّفق الناس على أنّ يوم السبت لم يقع فيه خلْق .

وروى مسلم عن أبي سفيان أنّه قال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أسلم : ( يا رسول الله ، أعطني ثلاثاً ، تزوّج ابنتي أُمّ حبيبة ، وابني معاوية اجعله كاتباً ، وأمّرني أنْ أُقاتل الكفّار كما قاتلت المسلمين ، فأعطاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحديث معروف مشهور ، وفي هذا من الوهم ما لا يخفى ، فأُمّ حبيبة تزوّجها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي بالحبشة وأصدقها النجاشي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعمِئة دينار ، وحضر وخطب وأطعم ، والقصّة مشهورة ، وأبو سفيان إنّما أسلم عام الفتح ، وبين الهجرة والحبشة والفتح عدّة سنين ، ومعاوية كان كاتباً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مِن قبل ، وأمّا إمارة أبي سفيان فقد قال الحافظ : إنّهم لا يعرفونها .

٤٢٣

فيجيبون على سبيل التحنّق بأجوبة غير طائلة ، فيقولون في نكاح ابنته : اعتقد أنّ نكاحها بغير إذنه لا يجوز وهو حديث عهد بكفر ، فأراد من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجديد النكاح ، ويذكرون عن الزبير بن بكار بأسانيد ضعيفة ، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمّره في بعض الغزوات ، وهذا لا يعرف .

وما حملهم على هذا كلّه إلاّ بعض التعصّب ، وقد قال الحافظ : إنّ مسلماً لمّا وضع كتابه الصحيح عرضه على أبي زرعة الرّازي فأنكر عليه وقال : سمّيته الصحيح ، فجعلتَ سلّماً لأهل البِدع وغيرهم ، فإذا روى لهم المخالف حديثاً يقولون هذا ليس في صحيح مسلم فرحم الله تعالى أبا زرعة فقد نطق بالصواب فقد وقع هذا .

وما ذكرت ذلك كلّه إلاّ أنّه وقع بيني وبين بعض المخالفين بحث في مسألة التورّك ، فذكر لي حديث أبي حميد المذكور أوّلاً ، فأجبته بتضعيف الطحاوي ، فما تلفّظ وقال : مسلم يصحّح والطحاوي يضعّف ، والله تعالى يغفر لنا وله ، آمين )(١) .

ترجمة عبد القادر القرشي

ترجم له الحافظ السيوطي بقوله : ( عبد القادر بن محمّد بن محمّد بن نصر الله بن سالم ، محيي الدين أبو محمّد بن أبي الوفا القرشي ، درّس [وأفتى] وصنّف ، شرح معاني الآثار ، وطَبَقَات الحنفيّة ، وشرح الخلاصة ، وتخريج أحاديث الهداية ، وغير ذلك ولِد سنة ستٍّ وسبعين وستّمِئة ، ومات في ربيع الأوّل سنة خمسٍ وسبعين وسبعمِئة )(٢) .

وقال محمود بن سليمان الكفوي بترجمته : ( المولى الفاضل والنحرير الكامل عبد القادر ، كان عالماً فاضلاً ، جامعاً للعلوم ، له مجموعات وتصانيف ، وتواريخ ومحاضرات وتواليف... )(٣) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الجواهر المضيّة في طبقات الحنفيّة ٢ : ٤٢٨ ـ ٤٣٠ .

(٢) حسن المحاضرة في محاسن مصر والقاهرة ١ : ٤٧١ .

(٣) كتائب أعلام الأخيار مِن فقهاء مذهب النعمان المختار للكفوي ـ مخطوط ـ وله ترجمة في الدرر الكامنة ٢ : ٣٩٢ وشذرات الذهب ٦ : ٢٣٨، وتاج التراجم : ٢٨ ، وغيرها أيضاً .

٤٢٤

صحيح الترمذي

أمّا صحيح الترمذي الذي مدحوه وأثنوا عليه ، وجعلوه قريباً من الصحيحين في الصحّة والاعتبار ، ووصفوه بأنّه أحسن الكتب وأكثرها فائدة... كما قال ابن الأثير بترجمة الترمذي : ( وله تصانيف كثرة في علم الحديث ، وهذا كتابه الصحيح أحسن الكُتب وأكثرها فائدة ، وأحسنها ترتيباً وأقلّها تكراراً ، وفيه ما ليس في غيره مِن ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال ، وتبيين أنواع الحديث من الصحيح والحسن والغريب ، وفيه جرحٌ وتعديل ، وفي آخره كتاب العلل ، قد جَمَع فيه فوائدٌ حسنة لا يخفى قدرها على مَن وقف عليها .

قال الترمذي رحمه الله : صنّفت هذا الكتاب ، فعرضته على علماء الحجاز فرضوا به ، وعرضته على علماء خراسان فرضوا به ، ومَن كان في بيته هذا الكتاب فكأنّما في بيته نبيّ يتكلّم )(١) .

وقال القاري في ( مجمع الوسائل ـ شرح الشمائل ) : ( هو أحد أئمّة عصره وأجلّة حفّاظ دهره ، قيل : ولِد أكمه ، سمع خلقاً كثيراً مِن العلماء الأعلام وحفّاظ مشايخ الإسلام ، مثل قُتيبة بن سعيد ، والبخاري ، والدارمي ، ونظرائهم ، وجامعه دالٌّ على اتّساع حفظه ووفور علمه ، كأنّه كافٍ للمجتهد وشافٍ للمقلّد .

ونُقل عن الشيخ عبد الله الأنصاري أنّه قال : جامع الترمذي عندي أنفع من كتابي البخاري ومسلم .

ومن مناقبه أنّ الإمام البخاري روى عنه حديثاً واحداً خارج الصحيح .

وأعلى ما وقع له في الجامع حديث ثلاثي الإسناد ، وهو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( يأتي على الناس زمانٌ ، الصابر على دينه كالقابض على الجمر ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) جامع الأُصول ١ : ١٩٤.

٤٢٥

الموضوعات في صحيح الترمذي

ولكنّ هذا الكتاب الذي وصفوه بهذه الأوصاف وشبّهوه بنبيٍّ يتكلّم... قالوا : فيه موضوعات كثيرة...

قال الحافظ ابن دحية ـ في كلامٍ له على الحدث في أنّ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أكرم وِلْد آدم على ربّه ـ قال : ( أخرجه الترمذي في جامعه الكبير ، في باب أبواب المناقب ، عن رسول الله ، وقد تقدّم بعض أسانيدي إليه .

قال : ثنا الحسين بن يزيد الكوفي... هذا حديثٌ حسنٌ غريب .

قال ذو النسبين ـ رحمه الله ـ : الحسِن ما دون الصحيح ، ممّا لا تنتهي رواته إلى درجة العدالة لا وتنحطّ إلى درجة الفسق وقال الترمذي في آخر كتابه : وما ذكرنا في هذا الكتاب حديثٌ حسنٌ فإنّما أردنا حُسن إسناده عندنا ، كلّ حديث يُروى ، لا يكون في إسناده ممّن يُتّهم بالكذِب ولا يكون الحديث شاذّاً ويُروى من غير وجه نحو ذلك ، فهو عندنا حديثٌ حسن ، وما ذكر في هذا الكتاب حديثٌ غريب ، فإنّ أهل الحديث يستغربون الحديث لمعان ، رُبّ حديث يكون غريباً لا يُروى إلاّ من وجهٍ واحد .

ثمّ تمادى في شرح ذلك ووجوهه .

وقد ذكرت في كتابي المسمّى بـ( العلم المشهور ) أحاديث كثيرة ، أوردها أبو عيسى في كتابه هذا ، عن قومٍ كذّابين وحسّنها ، وهي موضوعة ولا يصحّ أنْ تكون مرفوعة ، فليرجع الناظر إليه فيما انتقدته عليه )(١) .

وقال ابن تيمية بعد حديثٍ في مناقبِ أمير المؤمنينعليه‌السلام :

( والترمذي قد ذكر أحاديث مُتعدّدة في فضائله ، وفيها ما هو ضعيفٌ بل موضوعٌ )(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) شرح أسماء النبيّ = المستكفى ـ مخطوط .

(٢) منهاج السنّة ٥ : ٥١١ .

٤٢٦

هذا ، ونحن ذاكرون هنا بعض الأحاديث الموضوعة :

حديثٌ فيه بعث أبي بكر بلالاً مع النبيّ إلى الشام

فمن أحاديثه المكذوبة والباطلة : ما رواه في قضيّة سفر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الشام مع رجالٍ مِن قريش ، وأنّ أبا بكر بعث معه بلالاً ، وهذه عبارته : ( حدّثنا الفضل بن سهل أبو العبّاس البغدادي ، نا عبد الرحمان بن غزوان ، أنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري عن أبيه قال : خرج أبو طالب إلى الشام ، وخرج معه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أشياخٍ من قريش ، فلمّا أشرفوا على الراهب هبَط فحلّوا رحالهم ، فخرج إليهم الراهب ـ وكانوا قبل ذلك يمرّون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت ـ قال : فهم يحلّون رحالهم ـ فجعل يتخلّلهم الراهب حتّى جاء فأخذ بيد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : هذا سيّد العالمين ، هذا رسول ربّ العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين .

فقال له أشياخٌ من قريش : ما علمك ؟

فقال : إنّكم حين أشرفتهم مِن العقبة لم يبقَ حجَر ولا شجَر إلاّ خرّ ساجداً ، ولا يسجدان إلاّ لنبيّ ، وإنّي أعرفه بخاتم النبوّة أسفل مِن غضروف كتفه مثل التفّاحة .

ثمّ رجع فصنع لهم طعاماً ، فلمّا أتاهم به فكان هو في رعية الإبل فقال : أرسلوا إليه ، فأقبل وعليه غمامة تُظِلُّه ، فلمّا دنا من القوم وجدَهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة ، فلمّا جلس مال فيء الشجرة عليه فقال : أُنظروا إلى فيء الشجرة مال عليه .

قال : بينما هو قائم عليهم وهو يُناشدهم أنْ لا يذهبوا به إلى الروم ، فإنّ الروم إنْ رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه ، فالتفت فإذا بسبعةٍ قد أقبلوا مِن الروم فاستقبلهم فقال : ما جاء بكم ؟ قالوا : جئنا أنّ هذا النبيّ خارجٌ في هذا الشهر ، فلم يبقَ طريقٌ إلاّ بعث إليه بأُناس ، وإنّا قد أُخبرنا خبره بعثنا إلى طريقك هذا ، فقال : هل خلفكم أحدٌ هو خيرٌ منكم ؟ قالوا : إنّما اخترنا خيرةً لك لطريقك .

قال : أفرأيتم أمراً أراد الله أنْ يقضيه هل يستطيع أحدٌ من الناس ردّه ؟ قالوا : لا قال : فبايعوه وأقاموا معه قال : أُنشدكم بالله أيّكم وليّه ؟ قالوا : أبو طالب فلم يزل يناشده حتّى ردّه أبو طالب ، وبعث معه أبو بكر بلالاً ، وزوّده الراهب من الكعك والزيت .

٤٢٧

قال أبو عيسى : هذا حديثٌ حسنٌ غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه )(١) .

فقد نصّ كبار الأئمّة على أنّه حديثٌ موضوع :

قال الذهبي ـ بترجمة عبد الرحمان بن غزوان ـ : ( قلت : أنكر ماله حديثه عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي بكر بن أبي موسى ، في سفَر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو مُراهق ـ مع أبي طالب إلى الشام وقصّة بحيرا ، وممّا يدلّعلى أنّه باطلٌ قوله : وردّه أبو طالب وبعث معه أبو بكر بلالاً ، وبلال لم يكن بعد خلق ، وأبو بكر كان صبيّاً ) (٢) .

وقال ابن القيّم : ( فلمّا بلغ اثني عشر سنة خرَج به عمّه إلى الشام ، وقيل : كان تِسع سنين ، وفي هذه الخرجة رآه بحيرا الراهب وأمر عمّه أنْ لا يقدِم به إلى الشام خوفاً عليه مِن اليهود ، فبعثه عمّه مع بعض غلمانه إلى المدينة ، ووقَع في كتاب الترمذي وغيره : إنّه بعث معه أبو بكر بلالاً ، وهو مِن الغلط الواضح ، فإنّ بلالاً إذْ ذاك لعلّه لم يكن موجوداً ، وإنْ كان فلم يكن معه عمّه ولا مع أبي بكر )(٣) .

وقال محمّد بن يوسف الشامي : ( تنبيهات : الأوّل : وقع في حديث أبي موسى عند الترمذي : فلم يزل بحيرا يناشد جدّه حتّى ردّه ، وبعث معه أبو بكر بلالاً .

قال الحافظ شرف الدين الدمياطي ـ وتبعه في المورد والعيون ـ في قوله : وأرسل معه أبو بكر بلالاً نكارة ، وأبو بكر حينئذٍ لم يبلغ العشر سنين ، فإنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسنّ مِن أبي بكر بأزيد مِن عامين ، وقد قدّمنا ما كان سنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سافر هذه السفرة .

وأيضاً : فإنّ بلالاً لم ينتقل لأبي بكر إلاّ بعد ذلك بأكثر مِن ثلاثين عاماً ، فإنّه كان لبني خلف الجمحيين ، وعندما عُذِّب في الإسلام اشتراه أبو بكر رحمةً له واستنقاذاً له من أيديهم ، وسيأتي بيان ذلك .

وذكر نحو ذلك الحافظ في الإصابة وزاد : أنّ هذا اللفظ مقتطع من حديثٍ آخر أُدرج في هذا الحديث .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح الترمذي ٥ : ٥٩٠ / ٣٦٢٠ .

(٢) ميزان الاعتدال ٤ : ٣٠٦ / ٤٩٣٩ .

(٣) زاد المعاد ١ : ٧٦ ـ ٧٧ .

٤٢٨

وفي الجملة هو وهم من أحد رواته .

وروى ابن مندة بسندٍ ضعيف عن ابن عبّاس قال : إنّ أبا بكر صحِب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة ، والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن عشرين سنة ، وهُم يُريدون الشام في تجارة ، حتّى إذا نزل منزلاً فيه سدرة فقعد في ظلّها ، ومضى أبو بكر إلى راهب يُقال له بحيرا يسأله عن شيء ، فقال له : مَن الرجل الذي في ظلّ السّدرة ؟ فقال له : محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب .

فقال له : هذا والله نبيّ هذه الأُمّة ، ما استظلّ تحتها بعد عيسى بن مريم إلاّ محمّد ، وذكر الحديث .

قال الحافظ : فهذا ـ إنْ صحّ ـ يُحتمل أنْ يكون في سفرةٍ أُخرى بعد سفرة أبي طالب .

وذكر نحوه فيالزهر وزاد : وقول ابن دحية يُمكن أنْ يكون أبو بكر استأجر بلالاً حينئذ ، أو يكون أُميّة بن خلف بعثه ، غير جيّد لأمرين : أحدهما : إنّ أبا بكر لم يكن معهم ولا كان في سنّ مَن يملك ، وذكر نحو ما سبق في سنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ ذاك ، ثانيهما : إنّ بلالاً كان أصغر مِن أبي بكر ، فلا يتّجه ما قاله بحال )(١) .

وقال الدياربكري بعد ذكر هذا الحديث : ( وفي حياة الحيوان : قال الحافظ الدمياطي : وفي الحديث وهْمٌ في قوله : وبعث معه أبو بكر بلالاً ، إذ لم يكونا معه ولم يكن بلال أسلم ، ولا ملَكه أبو بكر ، بل كان أبو بكر حينئذٍ لم يبلُغ عشر سنين ، ولم يملك أبو بكر بلالاً ، إلاّ بعد ذلك بأكثر من ثلاثين ، وكذا ضعّفه الذهبي .

ـــــــــــــــــــ

(١) سبُل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ٢ : ١٤٤ .

٤٢٩

قال ابن حجَر : رجال هذا الحديث ثقات ، وليس فيه مُنكِر سوى قوله : وبعث معه أبو بكر... )(١) .

وقال ابن سيّد الناس : ( قلت : ليس في إسناد هذا الحديث إلاّ مَن خرّج له في الصحيح ، وعبد الرحمان بن غزوان ـ أبو نوح لقبه قراد ـ انفرد به البخاري ، ويونُس بن أبي إسحاق انفرد به مسلم .

ومع ذلك ففيه نكارة ، وهي إرسال أبي بكر مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلالاً ، وكيف ؟ وأبو بكر حينئذٍ لم يبلغ العشر سنين ، فإنّ النبيّ أسنّ مِن أبي بكر بأزيد من عامين ، وكانت للنبيّ يومئذٍ تسعةُ أعوام على ما قاله أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري وغيره ، أو اثنا عشر عاماً على ما قاله آخرون .

وأيضاً : فإنّ بلالاً لم ينتقل لأبي بكر إلاّ بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاماً ، فإنّه كان لبني خلف الجمحيين ، وعندما عُذِّب في الله على الإسلام اشتراه أبو بكر استنقاذاً له من أيديه ، وخبَره بذلك مشهور )(٢) .

حديث الائتمام بأبي بكر!!

ومِن ذلك : الحديث في فضل أبي بكر ، وهذه ألفاظ الترمذي : ( حدّثنا نصر بن عبد الرحمان الكوفي ، نا أحمد بن بشير ، عن عيسى بن ميمون الأنصاري ، عن القاسم بن محمّد ، عن عائشة قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا ينبغي لقومٍ فيهم أبو بكر ، أنْ يؤمّهم غيره ) هذا حديثٌ

ـــــــــــــــــــ

(١) تاريخ الخميس ١ : ٢٥٨ ـ ٢٥٩ .

(٢) عيون الأثر في المغازي والسير ١ : ١٠٨ .

٤٣٠

غريب )(١) .

وقد أدرج ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات إذ قال : ( الحديثُ الثالث عشر ـ أخبرنا محمّد بن عبد الباقي... حدّثنا أحمد بن بشير قال : حدّثنا عيسى بن ميمون ، عن القاسم بن محمّد ، عن عائشة... قال المصنّف : هذا حديثٌ موضوعٌ على رسول الله أمّا عيسى فقال : البخاري مُنكر الحديث وقال ابن حبّان : لا يحتجّ بروايته وأمّا أحمد بن بشير ، فقال يحيى : هو متروك )(٢) .

حديث إعزاز الله الإسلام بعمر بن الخطّاب !

ومن ذلك : روايته : ( حدّثنا محمّد بن بشار ومحمّد بن رافع قالا : نا أبو عامر العقدي ، نا خارجة بن عبد الله الأنصاري ، عن نافع ، عن ابن عمر : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( اللهمّ أعزّ الإسلام بأحبّ هذين الرجلين إليك : بأبي جهل ، أو بعمر بن الخطّاب ) قال : وكان أحبّهما إليه عمر هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ غريب من حديث ابن عمر )(٣) .

وهذا الحديث كذّبته عائشة .

قال الحلبي : ( ثمّ قالوا : يا ابن الخطّاب ، إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا فقال :( اللّهمّ أعزّ الإسلام بأحبّ هذين الرجلين بأبي جهل وعمر بن الخطّاب ) ، وفي رواية : بعمر مِن غير ذكر أبي جهل وعن عائشة إنّها قالت : إنّما

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح الترمذي ٥ : ٦١٤ / ٣٦٧٣ .

(٢) كتاب الموضوعات ١ : ٣١٨ .

(٣) صحيح الترمذي ٥ : ٦١٧ / ٣٦٨١ .

٤٣١

قال رسول الله :( اللّهمّ أعزّ عمر بالإسلام ) ؛ لأنّ الإسلام يُعِزّ ولا يُعَز )(١) .

وقال السيوطي : ( ذكر أبو بكر التاريخي عن عكرمة أنّه سُئل عن حديث : اللّهمّ أيّد الإسلام ، فقال : معاذ ال له ، دين الإسلام أعزّ من ذلك ، ولكنه قال : أعزّ عمر بالدين أو أبا جهل )(٢) .

حديث عدم صلاة النبيّ على مَن مات مُبغضاً لعثمان !!

ومن ذلك : حديثه كما في( التحفة الاثني عشريّة ) حيث قال : ( روى الترمذي أنّه أُتِي بجنازةٍ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم يصلّ عليه وقال :( إنه كان يبغض عثمان ، فأبغضه الله ) (٣) .

وقد أورده ابن الجوزي في كتاب الموضوعات ، حيث قال : ( الحديث الثاني : أخبرنا محمّد بن عبد الملك بن خيرون قال : أخبرنا إسماعيل بن مسعدة قال : أخبرنا حمزة بن يوسف قال : أنا أبو أحمد ابن عدي قال : حدّثنا عبد الكريم بن إبراهيم بن حيّان قال : ثنا الليث بن الحارث البخاري قال : حدّثنا عثمان بن زفر قال : حدّثنا محمّد بن زياد ، عن محمّد بن عجلان ، عن أبي الزبير ، عن جابر : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُتي بجنازة رجل ، فلم يصلّ عليها ، فقيل له : يا رسول الله ، ما رأيناك تركت الصلاة على أحدٍ إلاّ هذا قال: إنّه كان يبغض عثمان ، أبغضه الله عزّ وجلّ .

طريق آخر : أخبرنا علي بن عبيد الله الزاغوني قال : أنا عليّ بن أحمد بن

ـــــــــــــــــــ

(١) السيرة الحلبيّة ١ : ٣٣٠ .

(٢) كتاب الموضوعات ١ : ٣٣٢ .

(٣) التحفة الاثني عشريّة عن سُنن الترمذي ٥ : ٥٨٨ كتاب المناقب ، باب مناقب عثمان بن عفّان .

٤٣٢

البندار قال : أنبأنا عبيد الله بن محمّد الفقيه قال : ثنا أبو بكر أحمد بن هشام الأنماطي قال : ثنا يحيى بن أبي طالب قال : ثنا أحمد بن عمران الأخنسي قال : ثنا محمّد بن زياد قال : حدّثنا محمّد بن عجلان ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : توفّي رجلٌ من الأنصار ، فأتينا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبرناه بجنازته ، فلم يُصلّ عليه فدفناه ، ثمّ رجعنا فقلنا قد دفنّاه يرحمه الله ، فلم يترحّم عليه ، فقلنا : يا رسول الله ، ما أخبرناك بميّتٍ إلاّ صلّيت عليه وترحّمت عليه ، فما بال هذا ؟ قال : إنّه كان يبغض عثمان ، أبغضه الله .

قال المصنّف : الطريقان على محمّد بن زياد ، قال أحمد بن حنبل : هو كذّابٌ خبيثٌ يضع الحديث .

وقال يحيى : كذّاب خبيث وقال السعدي والدارقطني : كذّاب وقال البخاري والنسائي والفلاس وأبو حاتم الرّازي : متروكُ الحديث وقال ابن حبّان : كان يضع الحديث على الثقات ، لا يحلّ ذكره في الكتب إلاّ على وجه القدح فيه )(١) .

حديث نزول( لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ... ) الآية

ومن ذلك : الحديث الموضوع المُفترى على أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين وإمام المتّقين... وهذه عبارة الترمذي : ( حدّثنا عبد بن حميد ، نا عبد الرحمان بن مسعد ، عن أبي جعفر الرّازي ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمان السلمي ، عن عليّ بن أبي طالب قال : ( صنع لنا عبد الرحمان بن عوف طعاماً ، فدعانا وسقانا الخمر ، فأخذَتْ الخمر منّا ، وحضَرَتْ الصلاة فقدموني فقرأت)( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ* لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ) ونحن نعبد ما

ـــــــــــــــــــ

(١) كتاب الموضوعات ١: ٣٣٣.

٤٣٣

تعبدون فأنزل الله :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ.... ) ، هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ صحيح(١) .

وإنّ بطلان هذا البهتان واضحٌ من جهات :

١ ـ إنّه يلزم بناءً على هذا الحديث المكذوب ، أنْ يكون أمير المؤمنين ـ والعياذ بالله ـ مُرتكباً لشرب الخمر بعد نزول تحريمه في الكتاب ؛ لأنّ تحريمه نازلٌ قبل نزول الآية( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ... ) التي زعم المفتري نزولها في هذه القضيّة ، ولو أنّ المتعصّبين لا يقولون بعصمة مولانا أمير المؤمنين ، فإنّهم يقولون بعدالته ولو لساناً ، فكيف يُمكنهم تصديق هذا البهتان ؟

أمّا أنّ تحريم الخمر كان قبل نزول الآية المذكورة ، فلا يخفى على المُتتبّعين ؛ لأنّ العلماء ينصّون على نزول الآية :ر يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ... ) قبل( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ... ) الآية... فقد جاء بتفسير النسفي ما نصّه :

( نزل في الخمر أربَع آيات ، نزل بمكّة : ( وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً ) وكان المسلمون يشربونّها وهي لهم حلال ، ثمّ إنّ عمر ونفراً من الصحابة قالوا : يا رسول الله ، أفتنا في الخمر فإنّها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل :( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ) فشربها قومٌ وتركها آخرون ، ثمّ دعا عبد الرحمان بن عوف جماعةً فشربوا وسكروا ، فأمَّ بعضهم فقرأ :( قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ) ، فنزل :( لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ) فقلَّ مَن يشربها ، ثمّ دعا عتبان بن مالك جماعةً ، فلمّا سكروا منها تخاصموا وتضاربوا ، فقال عمر : اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل :( إِنَّمَا الْخَمْرُ

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح الترمذي ٥ : ٢٣٨ / ٣٠٢٦ .

٤٣٤

وَالْمَيْسِرُ ) ـ إلى قوله ـ ( فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) فقال عمر : انتهينا يا ربّ )(١) .

وقال الجصّاص في بيان دلالة :( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ... ) الآية على حرمة الخمر : ( باب تحريم الخمر ، قال الله تعالى :( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا... ) ، وهذه الآية قد اقتضت تحريم الخمر ، لو لم يرد غيرها في تحريمها لكانت كافيةً مُغْنية ، وذلك لقوله :( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) ، والإثم كلّه محرَّم بقوله تعالى :( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ... ) ، فأخبر أنّ الإثم محرَّم ، ولم يقتصر على إخباره بأنّ فيهما إثماً حتّى وصفه بأنّه كبير ، تأكيداً لحظرهما .

وقوله( مَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) لا دلالة فيه على إباحتها ؛ لأنّ المراد منافع الدنيا ، وأنّ في سائر المحرّمات منافع لمرتكبيها في دنياهم ، إلاّ أنّ تلك المنافع لا تفي بضررها مِن العقاب المستحق بارتكابها ، فذِكْره لمنافعها غير دالّ لإباحتها ، لا سيّما وقد أكّد حظرها بقولهِ في سياق الآية( وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) يعني : إنّ ما يستحقّ بهما من العقاب أعظم من النفع العاجل الذي يبتغى منهما) (٢) .

٢ ـ لقد روى الحاكم هذا الخبر بإسنادٍ له مِن طريق أحمد عن أبي عبد الرحمان السلمي ، عن عليّعليه‌السلام ، وفيه : أنّ الذي أمّهم وقرأ كذلك هو عبد الرحمان بن عوف ، فنزلت الآية ، قال في المستدرك :

( حدّثنا أبو عبد الله محمّد بن يعقوب الحافظ ، ثنا عليّ بن الحسن ، ثنا عبد الله بن الوليد ، ثنا سفيان ، حدّثنا أبو زكريّا يحيى بن محمّد العنبري ، ثنا

ـــــــــــــــــــ

(١) تفسير النسفي ١ : ١٢٠ ـ ١٢١ .

(٢) أحكام القرآن ١ : ٣٢٢ .

٤٣٥

أبو عبد الله البوشنجي ، ثنا أحمد بن حنبل ، ثنا وكيع ، ثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمان السلمي عن عليّرضي‌الله‌عنه قال : دعانا رجل مِن الأنصار قبل أنْ تحرم الخمر ، فتقدّم عبد الرحمن بن عوف فصلّى بهم المغرب فقرأ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) فالتبس عليه فيها فنزلت :( لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ) هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يُخرجاه )(١) .

فانظر كيف حرّف النواصب هذا الحديث ، ووضعوا اسم أمير المؤمنين في مكان عبد الرحمان؟

٣ ـ إنّه حتّى لو كانت القصّة قبل تحريم الخمر ، فلا ريب في كونِها مفتراة ؛ لأنّ شرب الخمر كان قبيحاً عند أهل العقل والدّين ، كما أنّ جعفر بن أبي طالب لم يشربه قط ، لا في الجاهليّة ولا في الإسلام ، قال : ( لأنّي رأيتها تذهب العقول ، وكنت إلى زيادة العقل أحوج مِن نقصانه ) .

فهل يعقل أنْ يدرك جعفر هذهِ الحقيقة ولا يدركها أمير المؤمنين ، وهو أفضل وأعقل وأفهم من جعفر بالقطع واليقين ؟

وقد ذُكر مثل ذلك عن قصي ، كما في( السيرة الحلبيّة ) قال : ( ولمّا احتضر قال لأولاده : اجتنبوا الخمرة ، فإنّها تصلح الأبدان وتفسد الأذهان )(٢) .

وقال صاحب( المستطرف ) في الخمر :

( وممّن تركها في الجاهليّة : عبد الله بن جدعان ، وكان جواداً مِن سادات قريش ، وذلك أنّه شرب مع أُميّة بن الصّلت الثقفي ، فضربه على عينه ،

ـــــــــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ٤ : ١٤٢ .

(٢) السيرة الحلبيّة ١ : ١٣ .

٤٣٦

فأصبحت عين أُميّة مخضرّةً يخاف عليها الذهاب ، فقال له عبد الله : ما بال عينك ؟ فسكت ، فألحّ عليه ، فقال : ألست ضاربها بالأمس ؟ فقال : أو بلغ منّي الشراب ما أبلغ معه إلى هذا ؟ لا أشربها بعد اليوم ، ثمّ دفع له عشرة دراهم وقال : الخمر عليّ حرامٌ ، لا أذوقها بعد اليوم أبداً .

وممّن حرّمها في الجاهليّة أيضاً : قيس بن عاصم ، وذلك أنّه سكر ذات ليلة فقام لابنته أو لأُخته ، فهربت منه ، فلمّا أصبح سأل عنها فقيل له : أو ما علمت ما صنعت البارحة ، فأُخبر القصّة ، فحرّم الخمر على نفسه .

وممّن حرّمها في الجاهليّة أيضاً : العبّاس بن مرداس ، وقيس بن عاصم ؛ وذلك أنّ قيساً شرب ذات ليلة ، فجعل يتناول القمر ويقول : والله لا أبرح حتّى أنزله ، ثمّ يثب الوثبة بعد الوثبة ويقع على وجهه ، فلمّا أصبح وأفاق قال : مالي هكذا ، فأخبروه بالقصّة ، فقال : والله لا أشربها أبداً وقيل للعبّاس بن مرداس : لم تركت الشراب وهو يزيد في سماحتك ؟ فقال : أكره أنْ أصبح سيّد قومي وأُمسي سفيههم) (١) .

٤ ـ إنّه قد صرّح الإمام عليه‌السلام باجتنابه الخمر مطلقاً ، فيما رواه الحافظ ابن شهر آشوب السروي (٢) عن تفسير القطّان ، عن عمر بن حمران ، عن سعيد ، عن قتادة عن الحسن البصري قال :

اجتمع عثمان بن مظعون ، وأبو طلحة ، وأبو عبيدة ، ومعاذ بن جبل ، وسهيل ابن بيضاء ، وأبو دجانة في منزل سعد بن أبي وقّاص ، فأكلوا شيئاً ، ثمّ قدّم إليهم شيئاً من الفضيخ ، فقام عليّ وخرج من بينهم ، فقال عثمان في ذلك ، فقال عليّ :( لعن الله الخمر ، والله لا أشرب شيئاً يذهب بعقلي ، ويضحك بي من رآني ، وأُزوّج كريمتي مَن لا أُريد ) ، وخَرج مِن بينهم فأتى المسجد ، وهبط جبرئيل بهذه الآية :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ) يعني هؤلاء الذين اجتمعوا في منزل سعد( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ... ) الآية .

ـــــــــــــــــــ

(١) المستظرف من كلّ فنّ مستطرف ٢ : ٢٦١ .

(٢) هو : محمّد بن عليّ بن شهر آشوب ، أبو جعفر السروي المتوفّى سنة ٥٨٨ ، ترجم له الصفدي ( الوافي بالوفيات ٤ : ١٦٤) قال : ( أحد شيوخ الشيعة ، حفظ أكثر القرآن وله ثمانِ سنين ، وبلغ النهاية في أُصول الشيعة ، كان يرحل إليه من البلاد ، ثمّ تقدّم في علم القرآن والغريب والنحو ، ووعظ على المنبر أيّام المقتفي ببغداد فأعجبه وخلع عليه ، وكان بهيّ المنظر حسن الوجه والشيبة ، صدوقُ اللهجة مليح المُحاورة ، واسع العلم ، كثير الخشوع والعبادة والتهجّد ، لا يكون إلاّ على وضوء ) .

٤٣٧

فقال عليّ : تبّاً لهما ، والله يا رسول الله ، لقد كان بصري فيها نافذاً منذ كنت صغيراً قال الحسن :( والله الذي لا إله إلاّ هو ، ما شربها قبل تحريمها ولا ساعة قط ) (١) .

٥ ـ لقد سعى القوم سعياً حثيثاً وراء تبرئة أبي بكر وتنزيهه من شرب الخمر ، ولو قبل التحريم ، حتّى قال الحكيم الترمذي في كتاب( نوادر الأُصول ) : ( من الحديث الذي تنكره القلوب : حديثٌ رَووه عن عوف ، عن أبي القموص قال : شرب أبو بكر الخمر ـ يعني مِن قبل نزول تحريمها ـ فقعد ينوح على قتلى بدر وهو يقول :

تحيّي بالسلامة أُمّ بكر

وهل لك بعد رهطك من سلام

ذريني أصطبح يا أُمّ بكر

رأيت الموت نقّب عن هشام

فنقب عن أبيك وكان قرماً

من الأشرافِ شرّاب المدام

وودّ بنو المغيرة لو فدوه

بألفٍ من رجال أو سوام

كأنّي بالطوي طوي بدر

من الفتيان والخيل الكرام

فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرج يجرّ ثوبه من الفزع حتّى أتاه ، فدفع عليه شيئاً في يديه ، فقال أبو بكر : أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول الله ، فأُنزلت( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ... ) الآية.

وزاد غيره في الأبيات :

يخبرنا رسول الله بأن سنحيى

فكيف حياة أصلاء وهام

ـــــــــــــــــــ

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤ .

٤٣٨

فهذا منكر من القول والفعل ، وقد أعاذ الله الصدّيقين من فعل الخنا وأقوال أهله ، وإنْ كان قبل التحريم... )(١) .

أقول : فكيف يَنسب الترمذي هذا الفعل الشنيع إلى أفضل الصدّيقين وإمام المتقين؟

وفي( الرياض النضرة ) : ( عن أبي العالية الرياحي قال : قيل لأبي بكر في مجمع من أصحاب رسول الله : هل شربت الخمر في الجاهليّة ؟ قال : أعوذ بالله ، فقيل : ولِمَ ؟ قال : كنت أصون عرضي وأحفظ مالي ، فمَن شرب الخمر كان مضيّعاً في عرضه ومروّته ، فبلغ ذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال :( صدق أبو بكر ـ مرّتين ) . أخرجه الدارمي )(٢) .

ومن هذا أيضاً يظهر شناعة الفِرية التي افتراها الترمذي...

أقول : لكنّ الحقيقة هي أنّ هؤلاء كانوا يشربون الخمر ، فلمّا رأى المتعصّبون لهم ذلك ، عمدوا إلى نِسبة الشرب إلى أمير المؤمنين حمايةً لهم وتغطيةً على مساويهم ، وهذا هو السبب الأصلي لوضع حديث الترمذي...

لقد خرج البزّار وابن مردويه والفاكهي وغيرهم خبر شرب أبي بكر ، واضطرّ ابن حجَر للاعتراف بثبوت الخبر... قال البخاري : ( حدّثنا إسماعيل بن عبد الله قال : حدّثني مالك بن أنَس ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنَس بن مالك قال : كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأُبي بن كعب من فضيخ زهو وتمر ، فجاءهم آتٍ فقال : إنّ الخمر قد حُرمت ، فقال أبو طلحة : قم يا أنَس فأهرِقْها ، فأهرَقَتها .

ـــــــــــــــــــ

(١) نوادر الأُصول ، وقد حذفته الأيدي الأثيمة لكونه ممّا تنكره القلوب !!

(٢) الرياض النضرة في مناقب العشرة ١ : ٢٠١ .

٤٣٩

حدّثنا مسدّد قال : حدّثنا معتمر عن أبيه قال : سمِعت أنَساً قال : كنت قائماً على الحيّ أسقيهم عمومتي ، وأنا أصغرهم ، الفضيخ ، فقيل : حُرمت الخمر ، فقالوا : أكفأها ، فكفأناها .

قلت لأنَس : ما شرابهم ؟ قال : رطب وبسر فقال أبو بكر بن أنَس : وكانت خمرهم ، فلم ينكر أنَس ) .

فقال ابن حجَر بشرح الحديث الأوّل ما نصّه :

( قوله : كنت أسقي أبا عُبيدة هو ابن الجرّاح ، وأمّا أبو طلحة هو زيد بن سهل زوج أُمّ سليم أُمّ أنَس وأُبيّ بن كعب كذا اقتصر في هذه الرواية على هؤلاء الثلاثة ، فأما أبو طلحة ، فلكون القصّة كانت في منزله كما مضى في التفسير مِن طريق ثابت عن أنَس : كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة وأمّا أبو عبيدة فلأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخى بينه وبين أبي طلحة ، كما أخرجه مسلم من وجه آخر عن أنَس ، وأمّا أُبي بن كعب ، فكان كبير الأنصار وعالِمهم .

ووقع في رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنَس في تفسير المائدة : إنّي لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً وفلاناً ، كذا وقع بالإبهام .

وسمّى في رواية مسلم منهم أبا أيّوب .

وسيأتي ـ بعد أبواب ـ مِن رواية هشام عن قتادة عن أنَس : إنّي لأسقي أبا طلحة وأبا دجانة وسهيل بن بيضاء وأبو دجانة بضمّ المهملة وتخفيف الجيم وبعد الألف نون اسمه سمّاك بن خَرَشَة بمعجمتين بينهما راء مفتوحات .

ولمسلم من طريق سعيد عن قتادة نحوه ، وسمّى فيهم معاذ بن جبل .

ولأحمد عن يحيى القطّان ، عن حميد عن أنَس : كنت أسقي أبا عُبيدة ، وأُبيّ بن كعب ، وسُهيل بن بيضاء ، ونَفَراً من الصحابة عند أبي طلحة .

ووقع عند عبد الرزّاق عن معمر عن ثابت وقتادة وغيرهما عن أنس: أنّ القوم كانوا أحد عشر رجلاً.

٤٤٠