استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٣

استخراج المرام من استقصاء الإفحام0%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 478

استخراج المرام من استقصاء الإفحام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 478
المشاهدات: 242797
تحميل: 6749


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 478 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 242797 / تحميل: 6749
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء 3

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فخطب ، وهذا وهْمٌ ظاهر ، فإنّ الأذان إنّما كان بعد الخطبة .

ومنها : وهْمُ مَن روى أنّه قدّم أُمَّ سَلَمَة ليلة النَحْر وأمرها أن تُوافيه صلاة الصبح بمكّة ، وقد تقدّم بيانه .

فصلٌ : ومنها وهْمُ مَن زعم أنّه أخّر طواف الزيارة يوم النَحْر إلى الليل ، وقد تقدّم بيان ذلك ، وأنّ الذي أخّره إلى الليل طواف الوداع ومستند هذا الوَهم ـ والله أعلم ـ أنّ عائشة قالت : أفاض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مِن آخر يومه كذلك ، قال عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عنها ، فحمل عنها على المعنى وقيل آخر طواف الزيارة إلى الليل .

فصلٌ : ومنها وهْمُ مَن وَهمَ وقال إنّه أفاض مرّتين : مرّة بالنهار ومرّة نسائه بالليل ، ومستند هذا الوَهم ما رواه عمرو بن قيس عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أذِن لأصحابه فزاروا البيت يوم النَحْر ظهيرةً ، وزار رسول الله مع نسائه ليلاً ، وهذا غلط ، والصحيح عن عائشة خلاف هذا ، إنّه أفاض نهاراً إفاضةً بعد أن بالغ في الردّ على مَن رام دفْع هذا الوَهم .

فصلٌ : ومنها : وهْمُ مَن زعم أنّه طاف للقدوم يوم النَحْر ثمّ طاف بعده للزيارة وقد تقدّم مستند ذلك وبطلانه .

ومنها : وهْمُ مَن زعم أنّه يومئذٍ سعى مع هذا الطواف ، واحتجّ بذلك على أنّ القارن يحتاج إلى سعيَيْن ، وقد تقدّم بطلان ذلك عنه ، وأنّه لم يسْعَ إلاّ سعياً واحداً كما قالت عائشة وجابر .

فصلٌ : ومنها ـ على القول الراجح ـ وهْمُ مَن قال إنّه صلّى الظهر يوم النَحْر بمكّة ، وفي الصحيح أنّه صلاّها بمِنى كما تقدّم .

١٤١

ومنها : وهْمُ مَن زعم أنّه لم يُسرع في وادي محسِّر حين أفاض مِن جمع إلى مِنى ، أنّ ذلك إنّما هو مِن فِعْلِ الأعراب ومستند هذا الوَهم قول ابن عبّاس إنّما كان بدء الإيضاع مِن أهل البادية ، كانوا يقِفون جانبَي الناس قد علّقوا العقاب والعصا فإذا أفاضوا تقعقوا فانفرت بالناس ، فلقد رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّ ذفرى ناقته لتمسّ حاركها وهو يقول : يا أيّها الناس عليكم بالسكينة ، وفي لفظ : أنّ البرّ ليس بإيجاف الخيل والإبل ، فعليكم بالسكينة ، فما رأيتها رافعة يديها حتّى أتى منه ، رواه أبو داود ولذلك أنكره طاوس والشعبي .

وقال الشعبي : حدّثني أُسامة بن زياد أنّه أفاض مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مِن عرَفة ، فلم ترفع راحلته رجليها عادية حتّى بلغ جمْعاً قال : وحدّثني الفضل بن عبّاس أنّه كان رديف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مِن جَمْع ، فلم ترفع راحلته رجليها عادية حتّى رمى الجمرة .

وقال عطا : إنّما أحدثَ هؤلاء الإسراع يريدون أن يفوتوا الغبار ، ومنشأ هذا الوَهم اشتباه الإيضاع وقت الرفْعِ مِن عرَفة الذي تفعله الأعراب وجُفاة الناس بالإيضاع في وادي محسّر ، فإنّ الإيضاع هناك بدعة لم يفعله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل نهى عنه ، والإيضاع في وادي محسّر سُنّة نقلها عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جابر وعليّ بن أبي طالب والعبّاس بن عبد المطّلب وفعله عمر بن الخطّاب ، وكان ابن الزبير يوضِع أشدّ الإيضاع ، وفعلته عائشة وغيرهم مِن الصحابة، والقول في هذا قول مَن أثبت لا قول مَن نفى ، والله أعلم .

فصلٌ : ومنها ، وهْمُ طاوس وغيره أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان

١٤٢

يفيض كلّ ليلة مِن ليالي مِنى إلى البيت وقال البخاري في صحيحه : ويُذكر عن أبي حسّان عن ابن عبّاس أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يزور البيت أيّام مِنى ، ورواه ابن عروة قال : دفع إلينا معاذ بن هشام كتاباً قال : سمعته عن أبي ولم يقرأه. قال : وكان فيه عن أبي حسّان عن ابن عبّاس أنّ نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يزور البيت كلّ ليلة ما دام بمِنى. قال : وما رأيت أحداً واطأه عليه انتهى رواه الثوري في جامعه عن ابن طاوس عن أبيه مُرسلاً ، وهو وهْمٌ ، فإنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرجع إلى مكّة بعد أن طاف للإفاضة ورجع إلى منى إلى حين الوداع ، والله أعلم .

فصلٌ : ومنها ، وهْمُ مَن قال إنّه ودّع مرّتين ، ووَهْمُ مَن قال : إنّه جعل مكّة دائرة في دخوله وخروجه ، فبات بذي طوى ثمّ دخل مِن أعلاها ثمّ خرج مِن أسفلها ، ثم رجع إلى المحصّب عن يمين مكّة ، فكمُلَتْ الدائرة .

ومنها : وهْمُ مَن زعم أنّه انتقل مِن المحصّب إلى ظَهر العقَبة .

فهذه كلّها الأوهام نبّهنا عليها مفصّلاً ومجملاً وبالله التوفيق )(١) .

ـ ١٤ ـ

وقال القاضي عياض والنووي في حديث أخرجه مسلم في صحيحه :

( فيه تصحيف ) .

قال القاضي عياض : ( قوله في كتاب مسلم : نحن نجيء يوم القيامة على كذا وكذا ، اُنظر أي : ذلك فوق الناس .

كذا في جميع النُسَخ وفيه تغيير كثير أوجبه تحرّي مسلم في بعض

_______________________

(١) زاد المعاد في هدْي خير العباد ١ : ٢٤٢ ـ ٢٤٥ .

١٤٣

ألفاظه ، فأشكلت على مَن بعده ، وأدخل بينهما لفظة ( اُنظر ) التي نبّه بها على الإشكال ، وظنّ أنها مِن الحديث .

والحديث إنّما هو : نحن يوم القيامة على كوم فوق الناس .

فتغيّرتْ لفظة ( كوم ) على مسلم أو راويه له أو عنه ، فعبّر عنها بـ ( كذا وكذا ) ثم نبّه بقوله ( انظر ) أي : فوق الناس ، أو كان عنده فوق الناس ، على ما في بعض الحديث فجاء مَن لم يفهم الغرض وظنّه كلّه مِن الحديث ، فضمّ بعضه إلى بعض... )(١) .

وقال النووي بشرحه :

( هكذا وقع هذا اللفظ في جميع الأُصول مِن صحيح مسلم ، واتّفق المتقدّمون والمتأخّرون على أنّه تصحيف وتغيير واختلاط في اللفظ... )(٢) .

_______________________

(١) مشارق الأنوار على صِحاح الآثار ١ : ٤٢٤ .

(٢) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج ٣ : ٤٧ .

١٤٤

الباب الرابع : أئمّة المذاهب الأربعة

وبعد الفراغ مِن البحث والتّحقيق عن التفسير والمفسِّرين ، وعن الصِحاح الستّة وأصحابها ، تصل النوبة إلى دراسةٍ موجزة عن الأئمّة الأربعة : مالك ومُوطّئِه ، وأبي حنيفة وفقهه ، والشافعي ، وأحمد ومسنده... على ضوء أقوال كبار علماء القوم ، كما في أشهر كُتُبِهم :

مالك بن أَنَسْ

فقد تكلّم غير واحدٍ مِن الأئمّة... في مالك... وذكروا لذلك عدّة أسباب :

إطلاق لسانه في الصالحين

منها : إنّه قد أطلق لسانه في قومٍ معروفين بالصلاح والثقة ، فقد قال المزّي :

( قال الحافظ أبو بكر الخطيب : قد ذكر بعض العلماء أنّ مالكاً عابه جماعة مِن أهل العِلم في زمانه بإطلاق لسانه في قومٍ معروفين بالصلاح والديانة والثقة والأمانة ، واحتجّ بما أخبرني الرمّاني قال : حدّثني محمّد بن أحمد بن محمّد بن عبد الملك الآدمي قال : حدّثنا محمّد بن علي الأيادي قال : ثنا زكريّا بن يحيى الساجي قال : حدّثني أحمد بن محمّد البغدادي قال : حدّثنا إبراهيم بن المنذر قال : حدّثنا محمّد بن فليح قال : قال لي مالك بن أنس : هشام بن عروة كذّاب.... )(١) .

ولا يخفى : أنّ إطلاق اللسان في الصالحين ذنبٌ عظيم وفسقٌ كبير ، وقد ذكر ابن الجوزي أنّ مِن تلبيس إبليس على أصحاب الحديث قدح بعضهم في

_______________________

(١) تهذيب الكمال ٢٤ : ٤١٥ / ٥٠٥٧ .

١٤٥

بعض طلباً للتشفّي...(١) .

وهشام بن عروة مِن أكابر الثقات عند القوم ، قال الذهبي : ( هشام بن عروة أبو المنذر ، وقيل : أبو عبد الله ، القرشي ، أحد الأعلام ، سمع عمّه ابن الزبير ، وعنه : شعبة ومالك والقطّان ، تُوفيَ سنة ١٤٦هـ قال أبو حاتم : ثقة إمام في الحديث )(٢) .

وكما تكلّم في ( هشام بن عروة ) بلا دليل فقد تكلّم في ( محمّد بن إسحاق ) ، فقد قال سبط ابن الجوزي بعد حديثٍ : ( فإن قيل : الحديث ضعيف ، في إسناده ابن إسحاق ، كذّبه مالك ، وفيه أيضاً : علي بن عاصم متروك...

والجواب : قد أخرجه أحمد في الفضائل وأمّا ابن إسحاق فقد قال أحمد : يُقبل قوله في المغازي والسِيَر ، وأثنى عليه جماعة مِن العلماء وكان إماماً كبيراً ، وإنّما طعن عليه مالك ؛ لأنّه لمّا صنّف الموطّأ قال أروني إيّاه فأنا بيطاره ، فبلغ ذلك مالكاً فشقّ عليه وقال : ذاك دجّال مِن الدجاجلة وقد أخذوا على مالك في هذا ، فإنّه لا يُقال مِن الدجاجلة بل مِن الدجّالين )(٣) .

وقد قال الذهبي : ( محمّد بن إسحاق بن يسار أبو بكر ويُقال : أبو عبد الله ، المطّلبي مولاهم ، المدني ، الإمام ، رأى أَنَساً وروى عن عطاء والزهري ، وعنه : شعبة والحمّادان والسفيانان ويونس بن بُكَيْر وأحمد بن خالد كان صدوقاً ، مِن بحور العِلم... )(٤) .

وقال اليافعي : ( الإمام محمّد بن إسحاق بن يسار المطّلبي ، مولاهم ،

_______________________

(١) تلبيس إبليس : ١٣٥ .

(٢) الكاشف ٣ : ٢١١ / ٦٠٥١ .

(٣) تذكرة خواص الأُمّة ٣ : ٧ / ٤٧٦٨ .

(٤) الكاشف ٣ : ٧ / ٤٧٦٨ .

١٤٦

المدني صاحب السيرة ، وكان بحراً مِن بحور العلم ، ذكيّاً حافظاً ، طلاّبةً للعِلم ، أخبارياً نسّابةً ثَبْتاً في الحديث عند أكثر العلماء .

وأمّا في المغازي والسِيَر فلا يُجهل إمامته قال ابن شهاب الزهري : مَن أراد المغازي فعليه بابن إسحاق وذكر البخاري في تاريخه ، ورُوي عن الشافعي أنّه قال : مَن أراد أن يتبحّر في المغازي فهو عِيال على ابن إسحاق ، وقال سفيان بن عُيَيْنة : ما أدركت أحداً يتّهم ابن إسحاق في حديثه ، وقال شعبة بن الحجّاج : محمّد بن إسحاق أمير المؤمنين في الحديث )(١) .

تكلّم جماعة مِن الأئمّة فيه

مِن لطائف الأُمور : أنّ ابن أبي ذئب وعبد العزيز بن ماجشون وابن أبي حازم ومحمّد بن إسحاق ، وهم أئمّةٌ ثقات مِن الأعلام ، تكلّموا في مالك وجرحوه .

قال المزّي : ( قال إبراهيم بن المنذر : حدّثني عبد الله بن نافع قال : كان ابن أبي ذئب وعبد العزيز بن ماجشون وابن أبي حازم ومحمّد بن إسحاق يتكلّمون في مالك بن أنس ، وكان أشدّهم فيه كلاماً محمّد بن إسحاق ، كان يقول : ايتوني ببعض كُتُبه حتّى أُبيّن عيوبه ، أنا بيطار كُتُبه )(٢) .

هذا ، ولا بأس بذكر طَرَفٍ مِن كلماتهم في الثناء على هؤلاء الأشخاص :

_______________________

(١) مرآة الجنان ١ : ٢٤٤ .

(٢) تهذيب الكمال ٢٤ : ٤١٥ / ٥٠٥٧ .

١٤٧

ترجمة ابن أبي ذئب

قال الذهبي بترجمة ابن أبي ذئب : ( ع ـ محمّد بن عبد الرحمن بن المغيرة ابن أبي ذئب ، أبو الحرث العامري ، أحد الأعلام ، عن عكرمة ونافع والزهري ، وعنه : معمر وابن المبارك وابن وهب والقطّان وعلي بن الجعد ، وكان كبير الشأن ، ثقة )(١) .

وقال ابن حجر : ( ثقة فقيه فاضل )(٢) .

ترجمة عبد العزيز بن ماجشون

وقال اليافعي بترجمة ابن ماجشون : ( عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سَلَمَة الماجشون ، المدني ، الفقيه ، كان إماماً مُفتياً صاحب حلقة )(٣) .

وقال السمعاني : ( عبد العزيز بن عبد الله... عنه : الليث بن سعد وبشر بن المفضّل ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي ويزيد بن هارون وعلي بن الجعد وأبو نعيم الفضل بن دكين وغيرهم وكان عالماً فقيهاً ، قَدِم بغداد وحدّث بها إلى حين وفاته ، وحجّ أبو جعفر المنصور فشيّعه المهدي ، فلمّا أراد الوداع قال : يا بُني استهد لي ، قال : استهديك رجلاً عاقلاً ، فأهدى له عبد العزيز الماجشون )(٤) .

_______________________

(١) الكاشف ٣ : ٥٢ / ٥٠٥٦ .

(٢) تقريب التهذيب ٢ : ١٩٤ / ٦٨٤٦ .

(٣) مرآة الجنان ١ : ٢٧٣ .

(٤) الأنساب ٥ : ١٥٧ .

١٤٨

وابن حجر : ( ثقة فقيه مصنّف )(١) .

وقال الذهبي : ( كان إماماً معظّماً قال أبو الوليد : كان يصلح للوزارة )(٢) .

ترجمة ابن أبي حازم

وقال الذهبي بترجمة ابن أبي حازم :

( عبد العزيز بن أبي حازم المديني ، عن أبيه وسهيل والعلاء وابن الهاد ، وعنه : أبو مصعب وقتيبة وابن حجر قال أحمد : لم يكن يُعرف بطلب الحديث ولم يكن بالمدينة بعد مالك أفقه منه ، ويُقال : إنّ كُتُب سليمان بن بلال وقعت إليه ولم يسمعها ، وقال ابن معين : ثقة )(٣) .

وقال ابن حجر : ( صدوق فقيه )(٤) .

وقال اليافعي : ( فقيه المدينة عبد العزيز بن أبي حازم )(٥) .

هذا ، وفي ( طبقات السبكي ) : ذكر ابن عبد البرّ كلام ابن أبي ذئب وإبراهيم بن سعد في مالك بن أنس وقال : ( قد تكلّم أيضاً في مالك : عبد العزيز بن أبي سَلَمَة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ومحمّد بن إسحاق وابن أبي يحيى وابن أبي الزناد ، وعابوا أشياء مِن مذهبه وقد برّأ الله عزّ وجلّ مالكاً عمّا قالوا ، وكان عند الله وجيهاً )(٦) .

_______________________

(١) تقريب التهذيب ١ : ٤٧٢ / ٤٦٠٢ .

(٢) الكاشف ٢ : ١٩٣ / ٣٤٣٢ .

(٣) الكاشف ٢ : ١٩١ / ٣٤١٧ .

(٤) تقريب التهذيب ١ : ٤٧١ / ٤٥٨٣ .

(٥) مرآة الجنان ١ : ٣٠٦ .

(٦) طبقات الشافعية ٢ : ١٠ .

١٤٩

تكلّم الشافعي فيه لقدحه في عكرمة وروايته عنه !

ومِن دلائل ضلال مالك ومتابعته للهوى : قدحه في عكرمة البربري وروايته عنه في كتابه ! الأمر الذي حمل الشافعي على الطعن فيه ، وذلك ما حكاه الفخر الرازي في ( مناقب الشافعي ) حيث قال في عداد اعتراضات الشافعي على مالك :

( ومنها : أخبرنا مالك ، عن أبي الزبير ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عبّاس أنّه : سُئل عن رجلٍ واقَعَ أهله وهو مُحرِم بمِنى قبل أنْ يفيض ، فأمره أن ينحر بُدْنَة قال الشافعي : وبه نأخذ وقال مالك : عليه عمرة وحجّة تامّة وبُدْنَة ، ورواه عن ربيعة ، وعن ثور بن زيد عن عكرمة يظنّه عن ابن عبّاس ، فإن كان قد ترك قول ابن عبّاس لرأي ربيعة فهو خطأ ، وإنْ ترك لرأي عكرمة فهو يُسيء القول في عكرمة ، ولا يرى لأحدٍ أنْ يقبل حديثه وهو يروي بيقين عن عطاء عن ابن عبّاس خلافه ، وعطاء ثقة عنده وعند الناس .

قال الشافعي : والعجب أنّه يقول في عكرمة ما يقول ثمّ يحتاج إلى شيء مِن عِلمه يوافق قوله ، فيسمّيه مرّة ويسكت عنه أُخرى ، ويروي عن ثور بن زيد عن ابن عبّاس في الرضاع وذبائح نصارى العرب وغيره ويسكت عن ذكر عكرمة ، وإنّما يحدّثه ثور عن عكرمة ، وهذا مِن الأُمور التي ينبغي لأهل العِلم أنْ يتحفّظوا فيها ) .

وعلى الجملة ، فإنّ قدْحَه في عكرمة والرواية عنه مع ذلك ! يوجب الطعن فيه ، وهذا ما نصّ عليه الفخر الرازي أيضاً على تقدير صحّته إذ قال : ( وأمّا الاعتراض الثاني وهو : أنّ مالكاً كان إذا احتاج إلى التمسّك بقول عكرمة

١٥٠

ذكره وإذا لم يحتج إليه تركه ، فهذا إنْ صحّ مِن مالك أورث ذلك طعْناً في روايته وفي ديانته ، ولو كان الأمر كذلك ، فكيف جاز للشافعي أنْ يتمسّك بروايات مالك ؟ وكيف يجوز أنْ يقول : إذا ذكرت الأئمّة فمالك النجم ؟ ) .

لكنّ المقدّم ـ وهو قدح مالك في عكرمة وروايته عنه ـ ثابت بنقل الرازي نفسه عن الشافعي ، فالتالي ـ وهو إيراث ذلك الطعن في روايته وديانته ـ ثابت... وتشكيك الرازي باطل مردود ؛ وإلاّ لتوجّه الطعن إلى الشافعي ، وقد وضع الرازي كتابه للإشادة بفضله وترجيح مذهبه على المذاهب ، وإقامة الحجّة على ذلك كقوله :

تكلّم أحمد بن حنبل فيه

( الحجّة الثالثة : إنّ أكابر علماء الحديث أقرّوا له بالفضل والقوّة في هذا العِلم ، رُويَ أنّ أحمد بن حنبل سُئل هل كان الشافعي صاحب حديث ؟ فقال : إي والله كان صاحب حديث وكرّرها ثلاثاً ورَوَيْنا أنّه سمع الموطّأ عليه وقال : إنّه ثَبْتٌ فيه. وسُئل أحمد بن حنبل عن مالك فقال : حديثٌ صحيح ورأيٌ ضعيف ، وسُئل عن الأوزاعي فقال كذلك ، وسُئل عن الشافعي فقال : حديثٌ صحيح ورأيٌ قويّ ، وسُئل عن أبي فلان فقال : لا رأي ولا حديث .

قال البيهقي : وإنّما قال أحمد عن مالك ذلك ، لأنّه كان يترك الحديث الصحيح لعمل أهل المدينة ، وإنّما قال عن الأوزاعي ذلك ، لأنّه كان يحتجّ بالمقاطيع والمراسيل في بعض المسائل ثمّ يقيس عليها ، وإنّما قال في الشافعي ذلك ، لأنّه كان لا يرى الاحتجاج إلاّ بالحديث الصحيح ثمّ يقيس الفروع عليها ، وإنّما قال في أبي فلان ذلك ، لأنّه كان يقبل المجاهيل والمقاطيع

١٥١

والمراسيل وماوقع إليه مِن حديثِ بَلَدِه وإنْ كان ضعيفاً يترك القياس لأجله ، وما رُفع إليه مِن أحاديث سائر البلاد وإنْ كان صحيحاً لم يقبله بل عَدَلَ إلى الاستحسان والقياس ) .

ففي هذا النقل توهينٌ مِن أحمد بن حنبل لمالك بن أنس والأوزاعي وأبي حنيفة ، ومدح وتفضيلٌ للشافعي عليهم .

وأيضاً : فإنّ الفخر الرازي يرى أنّ تخطئة الشافعي في شيء إيذاء لله وللرسول ، إذ قال في الرسالة المذكورة في حُجَج ترجيح الشافعي على غيره مِن المجتهدين : ( الحجّة السادسة : القول بأنّ قول الشافعي أخطأ في مسألة كذا ، إهانة للشافعي القرشي ، وإهانةُ قرشيّ غير جائز .

إنّما قلنا إنّ تخطئته إهانة ، لأنّ اختيار الخطأ إن كان للجهل ، فنسبة الجهل إلى الإنسان إهانة ، وإن كان مع العلم فإنّ مخالفة الحقّ مع العِلم بكونه حقّاً مِن أعظم أنواع المعاصي ، وكانت نسبة الإنسان إليه إهانة له ، وإنّما قلنا إنّ إهانة القرشيّ غير جائزة ، لِما روى الحافظ بإسناده عن سعد بن أبي وقّاص أنّه قال : سمعتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : مَن يُرِد هوان قريش أهانه الله .

وروى أيضاً بإسناده عن أبي هريرة : أنّ سبيعة بنت أبي لهب جاءت إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله ، إنّ الناس يصيحون بي ويقولون إنّك ابنة حمّالة حطب النار ، فقامعليه‌السلام ـ وهو مغضب شديد الغضب ـ فقال : ما بال أقوام يؤذونني في قرابتي ، ألا مَن آذى قرابتي فقد آذاني ومَن آذاني فقد آذى الله ، ومَن آذى الله كان ملعوناً لقوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) .

فإذن ظهر وجه الاستدلال ظهوراً لا يرتاب فيه عاقل .

١٥٢

وكان الحاكم أبوعبد الله الحافظ يقول : يجب على الرجل أن يعذر مِن معاندة الشافعي وبغضه وعداوته ، لئلاّ يدخل تحت هذا الوعيد ) .

وإذا كان كذلك فلا معنى لتشكيكه في كلام الشافعي في مالك بقوله : ( لو كان الأمر كذلك فكيف جاز للشافعي... ) وأمثال ذلك...

وعلى الجملة ، فقضيّة عكرمة مورد مِن موارد تكلّم الشافعي في مالك .

تكلّم الشافعي فيه بسبب ردّه الأحاديث الصحيحة

وأيضاً : فقد تكلّم فيه بسبب ردّه للأحاديث الصحيحة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدم عمله بها... قال الرازي ـ بعد نقل قاعدةٍ في الأحاديث عن الشافعي ـ :

( ولمّا قرّر الشافعي هذه القاعدة ، ذكر أنّ مالكاً اعتبر هذه القاعدة في بعض المواضع دون البعض ، ثمّ ذكر المسائل التي ترك الأخبار الصحيحة فيها لقول واحدٍ مِن الصحابة أو لقول بعض التابعين أو لرأي نفسه ، ثم ذكر ما ترك فيه مِن أقاويل الصحابة لرأي بعض التابعين أو لرأي نفسه ، وذلك أنّه ربّما يدّعي الإجماع وهو مختلَفٌ فيه ، ثمّ بيّن الشافعي أنّ ادّعاء أنّ إجماع أهل المدينة حجّة قولٌ ضعيف .

وذكر مِن هذا الباب أمثلة :

منها : إنّ مالكاً قال ، أقول : أجمع الناس على أنّ سجود القرآن إحدى عشرة سجدة وليس في المفصّل منها شيء ثمّ قال الشافعي : قد روى هو عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سجد في( إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ) ، وإنّ عمر بن الخطّاب سجد في النّجم ، فقد روى السجود في المفصل عن النبيّعليه‌السلام وعن عمر وعن أبي هريرة رضي الله عنهما ، فليت شعري مَن الناس الذين أجمعوا على أنّه لا

١٥٣

سجدة في المفصّل ، ثمّ بيّن أنّ أكثر الفقهاء ذهبوا إلى أنّ في المفصّل سجوداً .

ومنها : إنّ مالكاً زعم أنّ الناس أجمعوا على أنّه لا سجدة في الحجّ إلاّ مرّةً واحدة ، وهو يروي عن عمر وابن عمر أنّهما سجدا في الحجّ سجدتين ثمّ قال الشافعي : وليت شعري مَن هؤلاء المُجْمعون الذين لا يُسَمَّوْن ، فإنّا لا نعرفهم ، ولا يكلِّف الله أحداً أن يأخذ دينه عمّن لا يعرفه )(١) .

وقال أيضاً بعد كلام الشافعي في عكرمة : ( ولقائلٍ أن يقول : حاصل هذه الاعتراضات يرجع إلى أمرَيْن :

الاعتراض الأوّل : إنّ مالكاً يروي الحديث ثمّ إنّه يترك العمل به ؛ لأجل أنّ أهل المدينة تركوا العمل به ، وهذا يقتضي تقديم عمل علماء المدينة على قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّه لا يجوز .

ولمالك أن يُجيب عنه فيقول : هذه الأحاديث ما وصلت إلينا إلاّ برواية علماء المدينة ، فهؤلاء إمّا أن يكونوا مِن العدول أو لا يكونوا مِن العدول ؛ فإن كانوا مِن العدول وجب أن يعتقدوا أنّهم إنّما تركوا العمل بهذا الحديث لاطّلاعهم على ضعفٍ فيه ، إمّا لأجل ضعفٍ في الرواية أو لأجل أنّه وُجد ناسخ أو مخصّص ، وعلى جميع التقديرات فترْك العمل به واجب .

فإن قالوا : فلعلّهم اعتقدوا في هذا الحديث تأويلاً خاطئاً ؛ فلأجل ذلك التأويل الخاطئ تركوا العمل به ، وعلى هذا التقدير لا يلزم مِن ترْكِهم العمل بالحديث حصول ضعفٍ فيه .

قلنا : إنّ علماء المدينة الذين كانوا قبل مالك كانوا أقرب الناس إلى زمان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأشدّهم مخالطة للصحابة وأقواهم رغبة في الدين ، وأبعدهم عن المَيْل إلى الباطل ، فيبعد اتّفاق

_______________________

(١) مناقب الإمام الشافعي : ٥٣ .

١٥٤

جمهور علماء المدينة على تأويلٍ فاسد .

وأمّا إن قلنا : إنّ علماء المدينة ليسوا بعدول ، كان الطعن فيهم يوجِب الطعن في الخبر .

فثَبَتَ بهذا الطريق أنّ الدليل الذي ذكرناه يقتضي ترجيح عمل علماء المدينة على ظاهر خبر الواحد ، وليس هذا قولاً بأنّ إجماعهم حجّة ، بل هو قول بأنّ عملهم إذا كان على خلاف ظاهر الحديث أورث ذلك قدحاً وطعناً في الحديث... )(١) .

أقول :

وما ذكره الرازي حمايةً لمالك ومذهبه ركيك جدّاً ؛ لأنّه تخطئة للشافعي ، وقد اعترف هو بأنّه إيذاء لله ورسوله وموجب للّعن والعذاب ؛ ولأنّ القول بوجوب ترك العمل بالأحاديث الصحيحة بسبب عمل أهل المدينة على خلافها .

وكذا ما قاله في الجواب عن احتمال الخطأ في التأويل... مِن غرائب الهفوات ، ويكفي للردّ على دعوى حجّيّة إجماع أهل المدينة كلام وليّ الدين العراقي ، حيث قال في مقام بيان تأويلات حديث خيار المجلس الذي أخذ به المالكيّة والحنفيّة :

( أحدها ـ ما تقدّم مِن مخالفته لإجماع أهل المدينة ، وتقدّم ردّه بأنّهم لم يُجمعوا على مخالفته ، وأيضاً فإجماعهم ليس بحجّة، وقال الشيخ تقيّ الدين في شرح العمدة : الحقّ الذي لا شكّ فيه أنّ إجماعهم لا يكون حجّة فيما طريقه الاجتهاد والنظر ؛ لأنّ الدليل العاصم للأُمّة مِن الخطأ في الاجتهاد لا

_______________________

(١) مناقب الإمام الشافعي : ٥٤ ـ ٥٥ .

١٥٥

يتناول بعضهم ، ولا مستند للعصمة سواه .

وكيف يُمكن أن يقال : إنّ مَن كان بالمدينة مِن الصحابة يقبل خلافه ما دام مُقيماً بها فإذا خرج منها لم يقبل خلافه ، هذا محال فإنّ قبول قوله باعتبار صفاتٍ قائمةٍ به حيث حلّ ، وقد خرج منها عليٌّ وهو أفضل أهل زمانه بإجماع أهل السُنّة ، وقال أقوالاً بالعراق كيف يمكن أن تُهدَر إذا خالفها أهل المدينة وهو كان رأسهم ، وكذلك ابن مسعود... )(١) .

تكلّم الشافعي فيه لروايته حديث خيار المجلس ومخالفته له

وأيضاً : فقد تكلّم الشافعي في مالك بسبب مخالفته لحديث خيار المجلس مع إيراده إيّاه في الموطّأ ، فقال كلمةً موجزةً لكنّ معناها عظيم ، قال : ( ما أدري أتّهم مالكاً نفسه أو نافعاً )؟!

قال وليُّ الدين العراقي في ( شرح الأحكام الصغرى ) :

( وذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى إنكار خيار المجلس وقالوا : إنّه يلزم البيع بنفس الإيجاب والقبول ، و به قال إبراهيم النخعي واختلف في ذلك عن ربيعة وسفيان الثوري قال ابن حزم الظاهري : ما نعلم لهم مِن التابعين سلفاً إلاّ إبراهيم وحده ، ورواية مكذوبة عن شريح ، والصحيح عنه موافقة الحقّ ، وكذا قال ابن عبد البرّ : لا أعلم أحداً ردّه غير هذين الاثنين إلاّ ما رُوي عن إبراهيم النخعي ، انتهى .

وقال مالك في الموطّأ لمّا روى هذا الحديث : وليس هذا عندنا حدّ معروف ولا أمر معمول به .

_______________________

(١) شرح الأحكام الصغرى ـ مبحث خيار المجلس .

١٥٦

قال ابن عبد البرّ : واختلف المتأخّرون مِن المالكيّين في تخريج قول مالك هذا ، فقال بعضهم : دفعه بإجماع أهل المدينة على ترْك العمل به ، وإجماعهم حجّة .

وقال بعضهم : لا يصحّ دعوى إجماعهم في هذه المسألة ؛ لأنّ سعيد بن المسيّب وابن شهاب ـ وهما أجلّ فقهاء أهل المدينة ـ رُويَ عنهما منصوصاً العمل به ، ولم يُروَ عن أحدٍ مِن أهل المدينة ترْك العمل به نصّاً إلاّ عن مالك وربيعة ، وقد اختلف فيه على ربيعة وكان ابن أبي ذئب ـ وهو مِن فقهاء أهل المدينة في عصر مالك ـ يُنكِر على مالك اختياره ترْك العمل به ، حتّى جرى منه لذلك في مالك قولٌ خشن .

قال : وإنّما أراد مالك بهذا إنكار القول بأنّ خيار الشرط لا يكون إلاّ ثلاثة أيّام ، فإنّه عند مالك وأهل المدينة يكون ثلاثاً وأكثر وأقل بحسب المبيع .

وقال : وأمّا خيار المجلس فإنّما ردّه اعتباراً أو نظراً مال فيه إلى رأي بعض أهل بلده ، انتهى .

وحكى ابن العربي حمل كلام مالك هذا على دفْع الحديث بعمل أهل المدينة عمّن لا تحصيل له مِن أصحابهم قال : وقد توهّم ذلك عليه ابن الجويني ـ يعني إمام الحرمَيْن ـ ، فقال : يروي الحديث عن نافع عن ابن عمر عن فَلْق في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم يتركه لعمل أهل المدينة قال : ولم يفهم ابن الجويني عنه .

ثمّ ذكر ابن العربي ما حاصله ، أنّ مقصود مالك ردّ الحديث بأنّ وقت التفريق غير معلوم ، فالتحق ببيوع الغرر ، كالملامسة والمنابذة ، وسنحكي عبارته في ذلك .

وسبق إمام الحرمين إلى إنكار ذلك على مالك الشافعي فقال : ما أدري

١٥٧

أتّهمُ مالكاً نفسه أو نافعاً ، وأُعظِم عبد الله بن عمر أن أذكره إجلالاً له )(١) .

ولا يخفى أنّ ما قاله الشافعي في مالكٍ يتوجّه على أبي حنيفة أيضاً ، فإنّه قد خالف كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك ، حتى قال ابن المديني : ( إنّ الله سائله عمّا قال ) ، ذكر ذلك وليّ الدين العراقي حيث قال :

( روى البيهقي في سُننه عن علي بن المديني عن سفيان بن عُييْنة أنّه حدّث الكوفيّين بحديث ابن عمر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أنّ البيّعين بالخيار ما لم يتفرّقا ، قال : فحدّثوا به أبا حنيفة فقال : ليس هذا بشيء ، أرأيت إن كانا في سفينة ! قال علي : إنّ الله سائله عمّا قال )(٢) .

كما أنّ المالكيّة والحنفيّة قد خالفوا الحديث عن النبيّ تقليداً لإماميهما ، وجعلوا يؤوّلونه بتأويلاتٍ سخيفة ردّ عليها وليّ الدين أبو زرعة ، وقد بلغت في الضعف والركّة حدّاً اضطرّ ابن عبد البرّ ـ وهو مِن أئمّة المالكيّة ـ لأنْ يعترف بسقوطها ، قال أبو زرعة بعد الردّ على التأويلات :

( وقد ظهر بما بسطناه أنّه ليس لهم متعلّق صحيح في ردّ هذا الحديث ؛ فلذلك قال ابن عبد البرّ : أكثر المتأخّرين مِن المالكيّين والحنفيّين مِن الاحتجاج لمذهبنا في ردّ هذا الحديث بما يطول ذكره ، وأكثره تشغيب لا يحصل منه على شيء لازم لا مدفع له .

وقال النووي في شرح مسلم : الأحاديث الصحيحة ترِدُ عليهم ، وليس لهم عنها جواب صحيح ، فالصواب ثبوته كما قاله الجمهور ) .

_______________________

(١) شرح الأحكام الصغرى ـ مبحث خيار المجلس ، بشرح الحديث : المتبايعان بالخيار ما لم يتفرّقا .

(٢) شرح الأحكام الصغرى ـ مبحث خيار المجلس .

١٥٨

هذا ، وقد تعرّض أبو زرعة لكلام ابن العربي المالكي في الانتصار والدفاع عن مذهب المالكيّة ، وأجاب عنه بالتفصيل .

تكلّم أحمد وغيره فيه لمخالفته أخبار التبكير إلى الجمعة

ومِن موارد التكلّم في مالك والطعن عليه ، مخالفته لأخبار التبكير إلى الجمعة ، إذْ تكلّم فيه بهذه المناسبة أحمد بن حنبل ، وكذا ابن حبيب ـ وهو مِن أصحاب مالك ـ ذكر ذلك وليّ الدين أبو زرعة ، حيث قال بشرح الحديث الثالث مِن أحاديث باب صلاة الجمعة : ( عن سعيد عن أبي هريرة يبلغ به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان يوم الجمعة كان على كلّ باب مِن أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأوّل فالأوّل ، فإذا خرج الإمام طُويَت الصحف وعنه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المهجر إلى الجمعة كالمُهدي بُدْنة ، والذي يليه كالمُهدي كبشاً حتّى ذكر الدجاجة والبيضة ) .

قال أبو زرعة : ( وقال القاضي عياض : وأقوى معتمَد مالك في كراهيّة البكور إليها ، عملُ أهل المدينة المتّصل بترْك ذلك وسعْيِهم إليها قُرْب صلاتها ، وهذا نقل معلوم غير مُنكَر عندهم ولا معمول بغيره ، وما كان أهل عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومِن بعدهم ممّن يترك الأفضل إلى غيره ويتمالؤن على العمل بأقلّ الدرجات .

وذكر ابن عبد البرّ أيضاً أنّ عمل أهل المدينة يُشهد له ، انتهى .

وما أدري أين العمل الذي يُشهد له ، وعمر يُنكِر على عثمان رضي الله عنهما التخلّف ، والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يندب إلى التبكير ، في أحاديث كثيرة منها حديث أوس بن أوس : مَن بكَّر وابتكر ، وفي آخره كان له بكلّ

١٥٩

خطوة أجْر عمل سنة صيامها وقيامها ، وهو في السُنن الأربعة وصحيحَيْ ابن حبّان والحاكم .

وقد أنكر غير واحد مِن الأئمّة على مالك ـ رحمه الله ـ في هذه المسالة فقال الأثرم : قيل لأحمد : كان مالك يقول : لا ينبغي التهجير يوم الجمعة فقال : هذا خلاف حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : سبحان الله إلى أيّ شيء ذهب في هذا والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : كالمُهدي جزوراً ؟! .

وأنكر على مالك أيضاً ابن حبيب إنكاراً بليغاً فقال : هذا تحريف في تأويل الحديث ومحال مِن وجوه ؛ لأنّه لا يكون ساعات في ساعة واحدة ، فشرْحُ الحديث بيّن في لفظه ، ولكنّه حُرِف عن موضعه وشُرِح بالخُلف مِن القول وزهد فيما رغب فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مِن التهجير في أوّل النهار ، وزعم أنّ ذلك كلّه إنّما يجتمع في ساعة واحدة قُرْب زوال الشمس ، حكاه عنه ابن عبد البرّ وقال : هذا منه تحامل على مالك ) .

حُكْمُه على السائل عن خَلْقِ القرآن بالزندقة !

ومِن غرائب مالك الموبقة : حكمه على مَن سأل عن أنّ القرآن مخلوق أو غير مخلوق ، بأنّه زنديق ، ثمّ أمْره بقتله ، فقد أسند أبو نعيم في ( الحُلية ) إلى يحيى بن خلف بن الربيع الطرطوسي ـ قال : وكان مِن ثقات المسلمين وعبّادهم ـ أنّه قال : ( كنت عند مالك بن أنس ودخل عليه رجل فقال : يا أبا عبد الله ، ما تقول فيمَن يقول : القرآن مخلوق ؟ فقال مالك : هذا زنديق فاقتلوه فقال : يا أبا عبد الله ، إنّما أحكي كلاماً سمعته ، فقال مالك : لمْ أسمعه أنا مِن أحدٍ إنّما سمعته منك ، وعظّم هذا القول تعظيماً كبيراً )(١) .

_______________________

(١) حُلية الأولياء ٦ : ٣٢٥ .

١٦٠