استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٣

استخراج المرام من استقصاء الإفحام0%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 478

استخراج المرام من استقصاء الإفحام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 478
المشاهدات: 243108
تحميل: 6757


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 478 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 243108 / تحميل: 6757
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء 3

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وكذلك مَن قاتله مِن الصحابة كطلحة والزبير ، كلّهم مجتهدون ومصيبون ، وهذا قول مَن يقول كلّ مجتهدٍ مصيب ، كقول البصريّين مِن المعتزلة ، أبي الهذيل وأبي علي وأبي هاشم ومَن وافقهم مِن الأشعريّة كالقاضي أبي بكر وأبي حامد وهو المشهور عن أبي الحسن الأشعري ، وهؤلاء أيضاً يجعلون معاوية مجتهداً مصيباً في قتاله كما أنّ عليّاً مصيب .

وهذا قول طائفة مِن الفقهاء مِن أصحاب أحمد وغيرهم ، ذكره أبو عبد الله ابن حامد ، ذكر لأصحاب أحمد في المقاتلين يوم الجمل وصفّين ثلاثة أوجه : أحدهما : كِلاهما مصيب ، والثاني : المصيب واحد لا بعينه ، والثالث : أنّ عليّاً هو المصيب ومَن خالفه مخطئ .

والمنصوص عن أحمد وأئمّة السُنّة أنّه لا يذمّ أحد منهم ، وأنّ عليّاً أولى بالحقّ مِن غيره ، أمّا تصويب القتال فليس هو قول أئمّة السنّة ، بل هو يقولون إنّ ترْكه كان أولى .

وطائفة رابعة : تجعل عليّاً هو الإمام ، وكان مجتهداً مصيباً في القتال ، ومَن قاتله كانوا مجتهدين مخطئين ، وهذا قول كثير مِن أهل الكلام والرأي مِن أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم .

وطائفة خامسة تقول : إنّ عليّاً مع كونه خليفة وهو أقرب إلى الحقّ مِن معاوية ، فكان تَرْك القتال أَوْلى وينبغي الإمساك عن القتال لهؤلاء وهؤلاء ، فإنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ستكون فتنة ، القاعد فيها خيرٌ مِن القائم ، والقائم خير مِن الساعي ، وقد ثبت أنّه قال للحسن : إنّ ابني هذا سيّد وسيُصلح الله به بين فئتين عظيمتين مِن المؤمنين ، فأثنى على الحسن بالإصلاح ، ولو كان القتال واجباً أو مستحبّاً لما مدح تاركه قالوا : وقتال البغاة لم يأمر الله به ولم يأمر بقتال باغٍ بل قال :

١٨١

( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) فأمر إذا اقْتَتَل المسلمون ؛ بالإصلاح بينهم فإن بغت إحداهما قوتلت قالوا : ولهذا لم يحصل بالقتال مصلحة ، والأمر الذي يأمر الله به لابدّ أن يكون مصلحة راجحة على مفسدته .

وفي سُنن أبي داود : حدّثنا الحسن بن علي ، ثنا يزيد ، ثنا هشام عن محمّد ـ يعني ابن سيرين ـ قال : قال حذيفة : ما أحد مِن الناس تُدركه الفتنة إلاّ أنا أخافها عليه إلاّ محمّد بن مسلمة ، فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لا تضرّك الفتنة .

قال أبو داود : حدّثنا عمرو بن مرزوق ، ثنا شعبة عن الأعمش بن سليم ، عن أبي بردة عن ثعلبة بن ضبيعة قال : دخلت على حذيفة فقال : إنّي أعرف رجلاً لا تضرّه الفتن شيئاً ، فخرجنا فإذا فسطاط مضروب فإذا فيه محمّد بن مسلمة ، فسألناه عن ذلك ، فقال : ما أُريد أن يشتمل علي شيء مِن أمصاركم حتّى تنجلي عمّا انجلت .

فهذا الحديث يُبيّن أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر أنّ محمّد بن مسلمة لا تضرّه الفتنة ، وهو ممّن اعتزل في القتال فلم يقاتل لا مع عليٍّ ولا مع معاوية ، كما اعتزل سعد بن أبي وقّاص وأُسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وأبو بكرة وعمران بن حُصَيْن وأكثر السابقين الأوّلين ، وهذا يدلّ على أنّه ليس هناك قتال واجب ولا مستحب .

إذ لو كان كذلك لم يكن ترْك ذلك ممّا يُمدح به الرجل بل كان مِن فِعْل الواجب ، وفاعل الواجب أفضل ممّن تركه ، ودلّ ذلك على أنّ القتال قتال فتنة كما ثبت في الصحيح عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : ستكون فتنة القاعد فيها خيرٌ مِن القائم ، والقائم فيها خيرٌ مِن

١٨٢

الماشي ، والماشي خيرٌ مِن الساعي ، والساعي خيرٌ مِن المرضع ، وأمثال ذلك مِن الأحاديث الصحيحة تبيّن أنّ ترك القتال كان خيراً مِن فعله مِن الجانبين .

وعلى هذا جمهور أئمّة أهل الحديث والسُنّة ، وهو مذهب مالك والثوري وأحمد وغيرهم ، وهذه أقوال مَن يُحسن القول في عليّ وطلحة والزبير ومعاوية )(١) .

فأيّ ريبٍ وشك يبقى في ضلال مالك وهلاكه بعد هذا ؟ لا سيّما بالنظر إلى كلام الفخر الرازي في أنّ مَن تكلّم في الشّافعي فقد آذى الله ورسوله واستحقّ اللّعن ، وذلك ليس إلاّ لكونه قرشيّاً ، فكيف بمَن تكلّم في عليٍّ أمير المؤمنين ، الذي هو بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيّد قريش وبني هاشم ، وهو سيّد الوصيّين ؟!

أللّهمّ إلاّ أنْ يكون ابن تيميّة كاذباً في نسبة تلك الأقوال إلى مالك !!

كان لا يروي عن الإمام الصادق حتّى يضمّه إلى أحد !

ومِن ذلك : ما ذكره الذهبي قال : ( قال مصعب بن عبد الله عن الدراوردي قال : لم يَرْوِ مالك عن جعفر حتّى ظهر أمْرُ بني العبّاس قال مصعب بن عبد الله : كان مالك لا يروي عن جعفر حتّى يضمّه إلى أحد )(٢) .

وكفى طعناً في مالك وكتابه ورواياته أن يكون هذا رأيه في الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام ؟ وكيف يكون القادح في الإمام الصادق ، ثقةً ؟

وعلى الجملة ، فهذا حال مالك وديانته وثقته وأمانته !!

_______________________

 (١) منهاج السنّة ٤ : ٤٣٧ .

(٢) ميزان الاعتدال ٢ : ١٤٤ / ١٥٢١ .

١٨٣

مِن الأباطيل والموضوعات في المُوَطّأ

وكيف يُطمئنّ بروايات مَن هذا حاله وبكتابه ؟! وكيف يُقال بصحّة كتابٍ رُبع رواياته ـ تقريباً ـ عن هشام بن عروة الذي قال مالك عنه : ( كذّاب ) كما تقدّم ؟!

بل لقد ذكر الغزالي أنّه ( كان أحمد بن حنبل يُنْكِر على مالك في تصنيفه الموَطّأ ويقول : ابتدع ما لم يفعلْه الصحابة )(١) .

وفي هذا الكتاب أباطيل وموضوعات كثيرة ، نكتفي بإيراد بعضها :

حديث لا نورّث

( فمنها ) حديثه : ( عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة : ( إنّ أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين تُوفيَ رسول الله أردْنَ أن يبعثْنَ عثمان ابن عفّان إلى أبي بكر الصدّيق فيسألْنَه ميراثهنّ مِن رسول الله فقالت لهنّ عائشة : أليس قد قال رسول الله : لانوّرث ما تركناه صدقة )(٢) .

فقد تقدّم سابقاً : أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام كذّب هذا الحديث ، وكيف يُصدّق ما كذّبه عليّ ؟

على أنّ أبا بكرٍ نفسه أيضاً يُكذّبه ، فقد جاء في الأحاديث الصحيحة

_______________________

 (١) إحياء علوم الدين ١ : ٧٩ .

(٢) الموطّأ ٢ : ٩٩٣ / ٢٧ .

١٨٤

تصريحه بأنّ الوارث لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهلُه وليس غيرهم :

أخرج أحمد بإسناده عن أبي الطفيل قال : (لمّا قُبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أرسلَتْ فاطمة إلى أبي بكر : أنت ورِثْتَ رسول الله أم أهله ؟ قال : فقال : لا بل أهله قالت : فأين سهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال : فقال أبو بكر : إنّي سمعت رسول الله... )(١) .

وقد رواه المتّقي عن جماعة مِن الأئمّة : أحمد في المسند ، وأبي داود ، وابن جرير والبيهقي(٢) .

والمحبّ الطبري تحت عنوان ( ذكر اقتفائه آثار النبوّة واتّباعه إيّاها )(٣) .

فهذا الحديث صريحٌ في أنّه كان يرى أنّ لرسول الله إرثاً ووارثاً .

بل لقد رُوي أنّه لمّا قالت له ذلك نزل عن المنبر وكتب لها كتاباً بفَدَك...

قال سبط ابن الجوزي : ( قال علي بن الحسين ( رضي الله عنهما ) : جاءت فاطمة بنت رسول الله إلى أبي بكر ـ وهو على المنبر ـ فقالت : يا أبا بكر ، أفي كتاب الله أن تَرِثُك ابنتك ولا أرِثُ أبي ؟ فاستعبر أبو بكر باكياً ثمّ قال : يا بأبي أنتِ ، ثمّ نزل فكتب لها بفَدَك ودخل عليه عمر فقال : ما هذا ؟ فقال : كتاب كتبتُه لفاطمة ميراثها مِن أبيها قال : فماذا تُنْفِق على المسلمين وقد حاربَتْك العرب كما ترى ؟ ثمّ أخذ عمر الكتاب فشقّه )(٤) .

فظهر أنّ الحديث المذكور كِذْبٌ مفترى .

_______________________

 (١) مسند أحمد ١ : ٩ / ١٥ .

(٢) كنز العمّال ٥ : ٦٠٤ / ١٤٠٦٩، وورد بنحوه في مواضع عدّة .

(٣) الرياض النضرة ١ : ١٩٠ .

(٤) مرآة الزمان ، ورواه عن سبط ابن الجوزي : نور الدين الحلبي في السّيرة النبوية ٣ : ٤٨٨ : باب يذكر فيه مدّة مرضه وما وقع فيه ووفاته .

١٨٥

حديث ولاء بريرة

( ومنها ) الحديث : ( مالك : عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة زَوْج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّها قالت : جاءت بريرة فقالت : إنّي كاتبْتُ أهلي على تسع أواق في كلّ عام أوقيّة فأعينيني ،فقالت عائشة : إن أحبَّ أهلكِ أن أُعدُّها لهم عنك عددتها ، ويكون لي ولاؤك ، فعلتُ فذهبت بريرة إلى أهلها ، فقالت ذلك لهم ، فأبَوْا عليها ، فجاءت مِن عند أهلها ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس ، فقالت لعائشة : إنّي قد عرضتُ عليهم ذلك فأبَوْا عليّ ، إلاّ أنْ يكون الولاء لهم ، فسمع ذلك رسول الله ، فسألها فأخبرَتْه عائشة ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خُذيها واشترطي لهم الولاء ، فإنّما الولاء لمَن أعتق... )(١) .

وقد أنكر هذا الحديث بعض العلماء :

منهم : قاضي قُضاتهم يحيى بن أكثم ، فقد جاء بشرحه في ( عمدة القاري ) : ( الموضع الثاني : قوله عليه الصلاة والسلام : اشتريها... إلى آخره مُشكِل ، مِن حيث الشراء وشرط الولاء لهم ، وإفساد البيع بهذا الشرط ومخادعة البايعين ، وشرط ما لا يصحّ لهم ولا يحصل لهم ، وكيفيّة الإذن لعائشة ولهذا الإشكال ؛ أنْكَر بعض العلماء هذا الحديث بجملته ، وهذا منقول عن يحيى بن أكثم... )(٢) .

ومنهم : الشافعي ، قال ابن حجر في ( الفتح ) : ( واستشكل صدور الإذن

_______________________

 (١) الموطّأ ٢ : ٧٨٠ / ١٧ .

(٢) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري ١٣ : ١٢٢ .

١٨٦

منه في البيع على شرط فاسد واختلف العلماء في ذلك ، فمنهم مَن أنكر الشرط في الحديث ، فروى الخطّابي في المعالم بسنده إلى يحيى بن أكثم أنّه أنكر ذلك ، وعن الشافعي في الأُم الإشارة إلى تضعيف رواية هشام المصرّحة بالاشتراط ؛ لكونه انفرد بها دون أصحاب أبيه ، وروايات غيره قابلة للتأويل... )(١) .

حديث انتقاض الوضوء بمسّ الذَكَر

( ومنها ) حديثه في انتقاض الوضوء بمسّ الذَكَر ، الذي أبطله كبار علماء القوم ، وهو : ( مالك : عن عبد الله بن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم : أنّه سمع عروة بن الزبير يقول : دخلت على مروان بن الحكم ، فتذاكرنا ما يكون منه الوضوء ، فقال مروان : ومَن مسّ الذَكَر الوضوء فقال عروة : ما علمتُ هذا ، فقال مروان : أخبرتني بسرة بنت صفوان أنّها سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إذا مسّ أحدُكم ذَكَره فليتوضّأ )(٢) .

فهذا الحديث ردّوه بوجوه عقلية ونقليّة كثيرة ، وأقاموا البراهين الجليّة على كذبه وبطلانه ، بل لم يستدل به القائلون بهذا القول أيضاً ، لكون راويه مروان بن الحكم الفاسق الفاجر .

وقال الشيخ عبد العليّ الأنصاري في ( الأركان الأربعة ) :

(ولا ينقض مسُّ الذَكَرِ الوضوءَ عندنا ، وقال الإمام الشافعي : وإن مسّ بلا حائل ينقض ، وكذا عند الإمام مالك وقال الإمام أحمد في رواية : ينقض مسّ

_______________________

 (١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٥ : ١٤٤ ـ ١٤٥ .

(٢) الموطّأ ١ : ٤٢ / ٥٨ .

١٨٧

الرجل ذَكَرَه ودُبُرَه ومسّ المرأة فَرْجَها .

وحجّتهم ما روى الإمام الشافعي عن أبي هريرة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذَكَره ليس بينه وبينها حجاب فليتوضّأ قال في فتح القدير : إسناده مضعّف .

وبما روى النسائي عن بسرة بنت صفوان أنّها قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن مسّ ذَكَره فليتوضّأ .

وتحقيق حال هذا الحديث : قال مشايخنا في أُصول الفقه : إنّ مسّ الذَكَر ممّا يتكرّر به البلوى ويبتلي به كلّ أحد مِن الرجال، ولم يطّلع عليه أحد مِن الرجال مع حاجتهم إلى معرفة حُكْم مسّ الذَكَر ، واطّلعت عليه امرأة غير محتاجة إلى معرفة حُكْم مسّ الذَكر ، وهذا في غاية البعد .

وقد قال الطحاوي : ولا نعلم أحداً مِن الصحابة أفتى بوجوب الوضوء مِن مسّ الذَكر إلاّ ابن عمر ، ولم يتمسّك هو أيضاً بهذا الحديث .

وقال في فتح القدير : وقد ثبت عن أمير المؤمنين عليّ وعمّار وابن مسعود وحذيفة وعمران بن الحصين وأبي الدرداء وسعد بن أبي وقاص رضوان الله عليهم ، أنّهم لا يرون النقض منه ، ولو كان هذا الحديث ثابتاً لكان لهم معرفة بذلك ؛ والقائلون بنقض الوضوء مِن مسّ الذَكر لم يستدلّوا بذاك الحديث .

ولم يقل أحد إنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وروى مَن روى عن بسرة ، ويبعد كلّ البعد أن يُلقي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حُكْماً إلى مَن لا يحتاج إليه ولا يُلقي إلى مَن يحتاج إليه ، فعلم أنّ فيه انقطاعاً باطناً والحديث غير صحيح .

ثمّ يُنظر في سنده ، فروى الإمام مالك في الموطّأ عن محمّد بن عمرو

١٨٨

ابن حزم قال : سمعت عروة يقول : دخلت على مروان فتذاكرنا ما يكون فيه الوضوء فقال مروان : مَن مسّ الذَكر فليتوضّأ فقال عروة : ما علمت هذا فقال : أخبرتْني بسرة بنت صفوان أنّها سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إذا مسّ أحدُكم ذكَره فليتوضّأ .

وأخرج أبو داود والترمذي رواية الموطّأ وللنسائي نحوه وفيه : وقال عروة ولم أزلْ أُماري مروان حتّى دعى رجلاً مِن حرسه ، فأرسل إلى بسرة وسألها عمّا حدّثت مِن ذلك ، فأرسلت إليه بسرة مثل الذي حدّثني عنها مروان ، كذا في جامع الأُصول .

فقد علم مِن ذلك أنّ عروة لم يسمع مِن بسرة ، إنّما سمع مِن شرطي مروان ، والشرطي مجهول لا يقوم روايته حجّة .

وأمّا مروان ، وإن قبله جماعة مِن المحدّثين وكتبوا روايته في صحاحهم ومسانيدهم ، لكن مروان ـ في الإنصاف ـ لم يكن قابلاً لقبول شهادته وروايته ، وقد تواتر عنه أفعال أعاذنا الله عنها وجميع المسلمين ، وإنّه قد احتال حِيَلاً ومكراً عظيماً في خلافة أمير المؤمنين عثمان وهو غير شاعر ، حتّى انجرّ إلى أنّ الأشقياء قتلوه ، فقتل شهيداً مظلوماً .

ثمّ هو كان شريكاً للذين جاءوا لتخريب المدينة في زمان يزيد الشقيّ ، حتّى أعانهم وغدر هو وغدروا بأهل المدينة وفعلوا ما فعلوا ، فإن كان عنده هذا الصُنع حراماً ـ كما هو في الواقع ـ فهو فاسق معلن ؛ فلا تُقبل روايته بل لا يُكتب حديثه ، وإن كان يزعم هذا الصُنع مباحاً لشبهة عرضت له كشبهة الخوارج ؛ فهو مِن أهل الأهواء ، ثمّ كان هو داعياً إلى هذا الصُنع فهو مبتدع داع إلى بدعته ، ورواية المبتدع الداعي إلى بدعته غير مقبول ولا صالح للكتابة

١٨٩

بالإجماع ، ثمّ ملاحظة هذه القصّة في التواريخ المعتبرة يحكم أنّه قد ارتكب كذباً ، والمبتدع الكاذب ـ وإن كان مستحلاًّ للكذب ـ لا يقبل روايته بالإجماع .

ثمّ كان هو يسبُّ أمير المؤمنين عليّاً في المجالس بل على المنبر ، والمبتدع المُظهر سبّ السَلَف مردود الشهادة والرواية باتّفاق الأُمّة ، بخلاف الكاتم ، فإنّه يقبل شهادته عندنا إن كان مجتنباً عن الكبائر في زعمه وعن الكذب ، ويُقبل روايته أيضاً عند أكثر أهل الحديث بذلك الشرط ، وعند محقّقي أصحابنا لا تُقبل روايته أصلاً وهو الحقّ ، وقد بيّنّا في فواتح الرحموت شرحنا للمسلّم .

وإذ قد علمت أنّ هذا الحديث المروي عن بسرة غير صحيح ألبتّة ، وحديث أبي هريرة أيضاً ضعيف ، فلم يدلّ دليل على نقض مسّ الذَكَر ، فيبقى على أصله غير ناقض كمسّ سائر الأعضاء ).

وقال الزرقاني المالكي : ( هو على شرط البخاري ، وإنْ كان المخالف يقول : إنّه مِن رواية مروان ، ولا صحبة له ولا كان مِن التابعين بإحسان... وزعم الحنفيّة أنّ مسّ الذَكَر في حديث بسرة كناية عمّا يخرج منه... وقالوا أيضاً : إنّ خبر الواحد لا يُعمل به فيما يعمّ به البلوى... )(١) .

هذا ، وسيأتي في فصل ( مسائل فقهيّة ) البحث عن هذه المسألة ، وفي الكلام على حديث مروان ، وطعن يحيى بن معين فيه .

حديث تحريم المتعة يوم خيبر

( ومنها ) حديثه : ( عن ابن شهاب ، عن عبد الله والحسن ابني محمّد بن

_______________________

 (١) شرح الموطّأ ١ : ١٥٢ كتاب الطهارة ، باب الوضوء من مسّ الفرج .

١٩٠

عليّ ، عن أبيهما ، عن عليّ بن أبي طالب : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسيّة )(١) .

وهو حديث باطل لوجوه :

الأوّل : لقد نصّ علماء القوم على بطلان القول بتحريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتعة يوم خيبر ، وقد تقدّم الإيماء إلى قول صاحب ( التحفة ) بأنّ هذه الدعوى تشهد بجهل وحمق مدّعيه(٢) .

الثاني : إنّ أمير المؤمِنينعليه‌السلام كان على رأس القائلين بحليّة المتعة ، قال الرازي : ( أمّا أمير المؤمِنين عليّ بن أبي طالب ، فالشيعة يَرْوون عنه إباحة المتعة ، وروى محمّد بن جرير الطبري في تفسيره عن عليّرضي‌الله‌عنه أنّه قال : لولا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنا إلاّ شقيّ )(٣) .

وفي ( الدر المنثور ) بتفسير( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم... ) الآية : ( أخرج عبد الرزاق وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن الحُكم أنّه سُئل عن هذه الآية منسوخة ؟ قال : لا وقال عليّ : لولا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنا إلاّ شقيّ ) (٤) .

ورواه المتّقي كذلك عن الثلاثة(٥) .

الثالث : إنّ فتوى مالك نفسه بإباحة المتعة تكذّب هذا الحديث ، وقد ذُكرِت فتواه هذه في كُتب القوم ، نذكر بعضها :

قال المرغيناني : ( ونكاح المتعة باطل ، وهو أنْ يقول لامرأة : أتمتّع بك

_______________________

(١) الموطّأ ٢ : ٥٤٢ / ٤١ .

(٢) التحفة الاثني عشرية : ٣٠٣ .

(٣) تفسير الرازي ١٠ : ٥٠ .

(٤) الدرّ المنثور ٢ : ٤٨٦ .

(٥) كنز العمّال ١٦ : ٥٢٢ / ٤٥٧٢٨ .

١٩١

كذا مدّة بكذا مِن المال وقال مالك رحمه الله : هو جائز ، لأنّه كان مباحاً فيبقى إلى أنْ يظهر ناسخه )(١) .

وقال أبو البركات النسفي في ( كنز الدقائق ) : ( ويبطل نكاح المتعة ، خلافاً لمالك ، صورة المتعة أنْ يقول الرجل لامرأة : خذي هذه العشرة لأتمتّع بك أيّاماً وقال مالك رحمه الله : هو جائز ) .

قال الزيلعي بشرحه : ( وقال مالك هو جائز ، لأنّه كان مشروعاً ، فيبقى إلى أنْ يظهر ناسخه واشتهر عن ابن عبّاس تحليلها ، وتبعه على ذلك أكثر أصحابه مِن أهل اليمن ومكّة ) .

وقال العيني بشرحه : ( وقال مالك هو جائز ، لأنّه كان مشروعاً ، واشتهر عن ابن عبّاس تحليله ) .

وقال أكمل الدين البابرتي بشرح الهداية :

( قال : ونكاح المتعة باطل صورة المتعة ما ذكره في الكتاب أن يقول الرجل لامرأة : أتمتّع بك كذا مدّة بكذا مِن المال ، أو يقول : خذي مِني هذه العشرة لأتمتّع بك أيّاماً ، أو متّعيني نفسك أيّاماً أو عشرة أيام ، أو لم يقل أيّاماً وهذا عندنا باطل وقال مالك رحمه الله : هو جائز ، وهو الظاهر مِن قول ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه لأنّه كان مباحاً بالاتّفاق فيبقى إلى أنْ يظهر ناسخه...

وقيل : في نسبة جواز المتعة إلى مالك نظر ، لأنّه روى الحديث في الموطّأ عن ابن شهاب عن عبد الله والحسن ابني محمّد بن عليّ عن أبيهما عن عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسيّة وقال في المدوّنة : ولا

_______________________

(١) الهداية في الفقه ١ : ١٩٥ .

١٩٢

يجوز النكاح إلى أجل قريب أو بعيد وإنْ سُمّيَ صداقاً ، وهذه المتعة .

وأقول : يجوز أن يكون شمس الأئمّة الذي أخذ مِنه المصنّف ، قد اطّلع على قولٍ له على خلاف ما في المدوّنة ، وليس كلّ مَن يروي حديثاً يكون واجب العمل ، لجواز أن يكون عنده ما يعارضه أو يرجّح عليه )(١) .

_______________________

(١) العناية في شرح الهداية ٣ : ١٤٩ ـ ١٥٠ ط على هامش فتح القدير لابن الهمام .

١٩٣

أبو حنيفة النعمان بن ثابت

رسالة إمام الحرَمَيْن

لقد ألَّف إمام الحرمين الجويني(١) رسالةً في ذمّ أبي حنيفة والطعن على أقواله وفتاواه ، وأسماها ( مغيث الخَلْق في اختيار الحقّ ) وقد تركتْ هذه الرسالة أثراً بالغاً في نفوس الناس ، وتحيّر الحنفيّة في علاج الأمر ، ولم يجد بعضهم بدّاً مِن إنكار الرسالة ونفي كونها لإمام الحرمين وزعم أنّها موضوعة عليه ، كالشيخ ملاّ عليّ القاري ، فإنّه كتب جواباً عنها وقال في خطبته :

( يقول أفقر عباد الله الغنيّ الباري عليّ بن سلطان الهروي القاري : رأيت رسالة مصنوعةً في ذمّ مذهب السّادة الحنفيّة ـ الذين هم قادة الأُمّة الحنفيّة وأكثر أهل الملّة الإسلاميّة ـ وموضوعة ، فيها أشياء مِن أعجب العجاب التي تشير إلى أنّ قائلها جاهل أو كذّاب ، وهي منسوبة إلى أبي المعالي عبد الملك ابن عبد الله بن يوسف الجويني المشهور بإمام الحرمين ، مِن أكابر علماء مذهب الشافعي ، وحسن ظنّي به أنّ أحداً مِن الخوارج أو الرافضة ـ الحاسدين لاجتماع أهل السنّة والجماعة على طريقة واحدة مشتملة على المستنبَط مِن

_______________________

(١) وهو : أبو المعالي عبد الملك الشافعي ، المتوفى سنة ٤٧٨هـ ، توجد ترجمته في : طبقات الشافعية للسبكي ٥ : ١٦٥، وفيات الأعيان ٣ : ١٦٧ ، المِنتظم ٩ : ١٨ ، سِيَر أعلام النبلاء ١٨ : ٤٦٨ .

١٩٤

الكتاب والسنّة وإجماع الأُمّة والقياس المعتبر عند الأئمّة ـ كَتَبَ هذه الرسالة ونسبها إليه ، ليكون سبباً لرواج بضاعته المزجاة لديه ، ووسيلة إلى مهابة العوام والجهلة في الردّ عليه ، كما يدلّ على ما قلنا ركاكة ألفاظه... ) .

إلاّ أنّ القاري تنبّه في آخر الرسالة إلى غفلته والتفت إلى سوء ظنّه وفساد توهّمه فقال :

( ثمّ أعلم أني كنت أظنّ أنّ الرسالة المصنوعة إنّما يكون على إمام الحرمين موضوعة ، لكن رأيت في بعض الكُتُب أنّه ذكرها اليافعي في كتابه مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقلّب أحوال الإنسان ) .

أقول : وهذه نصوص ألفاظ ما جاء في ( مرآة الجنان ) في ذلك :

( وممّا ذكروا عن السلطان محمود ما هو مشهود ، ومِن فضل مذهب الشافعي معدود : ما سيأتي الآن ذكره ويعلم مِنه فضل المذهب المذكور وفخره ، قصّة عجيبة مشتملة على نادرة غريبة ، وهي ما ذكر إمام الحرمين ، فحل الفروع والأصلين ، أبو المعالي عبد الملك ابن الشيخ الإمام أبي محمّد الجويني ، في كتابه الموسوم بـ ( مغيث الخلق في اختيار الحقّ ) : إنّ السلطان محمود المذكور كان على مذهب أبي حنيفةرضي‌الله‌عنه ، وكان مولعاً بعِلم الحديث ، وكان الناس ـ أو قال : الفقهاء ـ يسمعون الحديث مِن الشيوخ بين يديه... )(١) .

قضيّة صلاة القفّال

هذا ، وقد جاء في الرسالة المذكورة بعد الكلام على فضائح أبي حنيفة

_______________________

(١) مرآة الجنان وعبرة اليقظان ٣ : ١٩ .

١٩٥

في مسائل الطهارة :

( جئنا إلى الصّلاة ، فوافق الشافعي الأصل الذي عليه بناء الصّلاة مِن الدعاء والخضوع والخشوع وقال : المعنى المطلوب مِن الصّلاة الخضوع والخشوع واستكانة النفس ، ومحادثة القلب بالموعظة الحسنة والحكمة البالغة ، والفكر في معاني القرآن والابتهال إلى الله سبحانه ، وأبو حنيفة لا يلزم الأصل ويخالفه حتّى طرح أركانها وشرائطها ، حتّى رجع حاصل الصّلاة إلى نقرات كنقرات الديك .

وإذا عَرَض ـ مثلاً ـ صلاته على كلّ عامّي جلف امتنع عن اتّباعه ، فإنّ مَن غمس في مستنقع نبيذ ، ولبس جلد كلب مدبوغ ، وأحرم بالصّلاة مبدّلاً بصيغة التكبير ترجمته تركياً كان أو هندياً ، ويقتصر في قراءة القرآن على ترجمة قوله( مُدْهَامَّتَانِ ) ثمّ يترك الركوع فينقر نقرتين ، لا قعود بينهما ولا يقرأ التشهّد ، ثمّ يُحْدث عمداً في آخر صلاته بدل التسليم ، ولو اتّفق مِنه أن سبقه الحَدَث يعيد الوضوء في أثناء الصلاة ويُحْدث ، فإنّه إن لم يكن قاصداً لحَدَثِه الأوّل لم يتحلّل عن صلاته على الصحّة .

والذي ينبغي أن يَقطع به كلُّ ذي دين : أنّ مثل هذه الصّلاة لم يبعث الله به نبيّاً ، ولا بعث محمّد بن عبد الله المصطفى ( صلوات الله وسلامه عليه ) لدعاء الناس إليه ، وهي قطب الإسلام وعماد الدين ، وقد زعم أنّ هذا القدر أقلّ الواجب ، وهي الصّلاة التي بعث بها النبيّ ( عليه الصّلاة والسلام ) ، وما عداها آداب وسُنن .

ويحكى أنّ السلطان يمين الدولة وأمين الملّة أبا القاسم محمود بن سبكتكين ، كان على مذهب أبي حنيفة ، وكان مولعاً بعلم الحديث ، وكان ندماؤه وجلساؤه يسمعون الحديث مِن الشيوخ بين يديه وهو يسمع ، وكان

١٩٦

يستفسر الأحاديث ، فوجد الأحاديث أكثرها موافقاً لمذهب الشافعي ، فوقع في خَلَدِه حبّه ، فجمع الفقهاء مِن الفريقين في المرو والتمس مِنهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين على الآخر، فوقع الاتّفاق على أن يصلّوا بين يديه ركعتين على مذهب الشافعي وركعتين على مذهب أبي حنيفة ، لينظر فيه السلطان ويتفكر فيه ويختار ما هو أحسن .

فصلّى القفّال المروزي مِن أصحاب الشافعي بطهارة مسبغة وشرائط معتبرة مِن الطهارة والسَتر واستقبال القبلة ، وأتى بالأركان والهيئات والسُنن والآداب والفرائض على وجه الكمال والتمام ، وكان صلاة لا يجوّز الشافعي دونها .

ثمّ صلّى ركعتين على ما يجوّز أبو حنيفة ، فلبس جلد كلب مدبوغ ولطخ ربعه بالنجاسة ، وتوضّأ بنبيذ التمر ، وكان في صميم الصيف بالمفازة ، فاجتمع عليه الذباب والبعوض ، وكان وضوءه معكوساً منكوساً ، ثمّ استقبل القبلة وأحرم بالصلاة مِن غير نيّة ، وأتى بالتكبير بالفارسيّة ، ثمّ قرأ آية بالفارسيّة ( دو برك سبز ) ثمّ نقر نقرتين كنقرات الديك ، مِن غير فصلٍ ومِن غير ركوع ، وتشهّد وضرط في آخره مِن غير سلام .

وقال : أيّها السلطان هذه صلاة أبي حنيفة .

فقال السلطان : إن لم تكن هذه صلاة أبي حنيفة لقتلتك ؛ لأنّ مثل هذه الصلاة لا يجوّزها ذو دين .

وأنكرت الحنفيّة أن يكون هذه صلاة أبي حنيفة .

وأمر القفّال بإحضار كُتُب العراقيّين .

وأمر السلطان نصرانيّاً كاتباً يقرأ المذهبين جميعاً .

١٩٧

فوجدت الصّلاة على مذهب أبي حنيفة على ما حكاه القفّال

فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة وتمسّك بمذهب الشافعيّ .

ولو عرضت الصلاة التي جوّزها أبو حنفية على العاميّ لامتنع مِن قبولها ) .

وكذلك جاء في كتاب ( السيف المسلول في ضَرْب القتال والمقفول) ، فإنّه وإنْ حاول صاحبه في بدء الأمر تكذيب القصّة ، لكنّه اضطرّ إلى الإقرار بثبوتها ، وهذه عباراته :

( يقول أضعف عباد الله القويّ علم الله بن عبد الرزاق الحنفي أصلح الله حاله وحقّق آماله : كنت أسمع مِن أفواه الرجال قصّة المروزي القفّال مع السلطان محمود الغزنوي المغتال ، في تحويله بالشعبذة والاحتيال وتنقيله عمّا كان عليه مِن سنيّ الأحوال ، مِن مذهب الإمام أبي حنيفة الأعظم إلى مذهب الإمام محمّد بن إدريس المحترم ، ولمّا كانت القصّة مشتملة على قبايح شنيعة وشنائع فظيعة لا تليق به ، بل يستحيل أن تصدر عمّن له حظّ قليل مِن الأخلاق الرضيّة والآداب المرضيّة ، بل مَن له أدنى رائحة مِن طيب الإسلام فضلاً عمّن يعدّه جمع مِن العلماء الأعلام ، كنتُ كذّبتها وما صدّقتها وخطّأتها وما صوّبتها

وقلت : حاشاه حاشاه ! أين هذا وأين علمه وتقواه ، مطهّر جنابه مِن هذه الأنجاس ، منزّه لسانه عن لوث هذه الأدناس ، شأنه أجلّ مِن أن يكون معروفاً بهذي الفضائح ومشهوراً بتلك القبائح ، مِن البطالات المزخرفة والخرافات المستطرفة ، وأُضحوكات المضحكة ومهملات المتمسخرة ، وتكلّمات المجانين وحكايات المغمورين ، وخطابات المسحورين وهذيانات المحمومين ، هزل لا فصل ، جهل لا فضل ، وكنت على ذلك برهة مِن الزمان

١٩٨

ومدّة مِن الأكوان ) .

ثمّ قال بعد هذا كلّه :

( حتّى وقفت على تاريخ اليافعي مِن أعيان مقلّدي الشافعي ، فرأيته قد ذكر القصّة على ما شاعت في الخافقين ، نقلاً عن الكتاب المسمّى بمغيث الخلْق لإمام الحرمين ، فظهر أنّ القصّة واقعة وأنّ الحكاية على ما هي شائعة ، ليس في صدقها ريب ولا فيها مِن الافتراء شَوْب ، فلمّا عرفت أنّ هذا اليقين لا يُستراب زدتُّ تحيّراً وقلت : إنّ هذا لشيءٌ عجابٌ ، وأعجب مِن هذا ، أنّ هؤلاء الذين عدّوا أجلاّء الشافعيّة عظماء ، ذكروا القصّة تبجّحاً وافتخاراً ، وأوردوا الحكاية تبهّجاً وابتشاراً، كما يدلّ على ذلك عباراتهم ويجلو ما هنالك إشاراتهم ) .

ترجمة القفّال المروزي

هذا ، وإليك طرفاً مِن ترجمة أبي بكر القفّال ، المتوفى سنة ٤١٧هـ ، وفضائله ومحامده في كُتب تراجم الرجال والتاريخ : فقد قال ابن خلّكان في ( وفيات الأعيان) :

( أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله الفقيه الشافعي المعروف بالقفّال المروزي ، كان وحيد زمانه فقهاً وحفظاً ، وورعاً وزهداً ، له في مذهب الإمام الشافعي مِن الآثار ما ليس لغيره مِن أبناء عصره ، وتخاريجه كلّها جيّدة وإلزاماته لازمة ، واشتغل عليه خلْق كثير وانتفعوا به ، مِنهم الشيخ أبو عليّ السبخي والقاضي حسين بن محمّد ـ وقد تقدّم ذكرهما ـ والشّيخ أبو محمّد الجويني والد إمام الحرمين ، وسيأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى وغيرهم ، وكلّ واحد مِن

١٩٩

هؤلاء صار إماماً يشار إليه ، ولهم التصانيف النافعة ونشروا علمه في البلاد ، وأخذ عنهم أئمّة كبار أيضاً )(١) .

وقال ابن جماعة في ( طبقات فقهاء الشافعية ) :

( عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي ، الإمام الجليل ، أبو بكر القفّال الصغير ، شيخ طريقة خراسان ، وإنّما قيل له القفّال لأنّه كان يعمل الأقفال في ابتداء أمره ، وبرع في صناعتها حتّى صنع قفلاً بالآلة ومفتاحه وزن أربع حبّات ، فلمّا كان ابن ثلاثين سنة أحسّ مِن نفسه ذكاء فأقبل على الفقه ، فاشتغل به على الشيخ أبي زيد وغيره ، فصار إماما يُقتدى به فيه ، وتفقّه عليه خلْق مِن أهل خراسان ، وسمع الحديث ، وحدّث وأملى .

قال الفقيه ناصر العمري : لم يكن في زمان أبي بكرالقفّال أفقه مِنه ، ولا يكون بعده مثله ، وكنّا نقول : إنّه مَلَك في صورة إنسان .

وقال الحافظ أبو بكر السمعاني في أماليه : أبو بكر القفّال وحيد زمانه فقهاً وحفظاً وورعاً وزهداً ، وله في المذاهب مِن الآثار ما ليس لغيره مِن أهل عصره ، وطريقته المهذّبة في مذهب الشافعي التي حملها عنه أصحابه أمتن طريقة وأكثرها تحقيقاً، رحل إليه الفقهاء مِن البلاد وتخرّج به أئمّة )(٢) .

وقال اليافعي في ( مرآة الجنان ) :

( الإمام أبو بكر القفّال المروزي ، عبد الله بن أحمد شيخ الشافعية بخراسان ، حذق في صنعته حتّى عمل قفلاً بمفتاحه وزن أربع حبّات ، فلمّا صار ابن ثلاثين سنة ، أحسّ بنفسه ذكاءً وحبّب الله إليه الفقه ، فاشتغل به فشرع

_______________________

(١) وفيات الأعيان ٣ : ٤٦ / ٣٣١ .

(٢) طبقات الشافعية لابن جماعة ، وانظر : لابن قاضي شهبة ١ : ١٨٦ برقم ١٤٤ .

٢٠٠