استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٣

استخراج المرام من استقصاء الإفحام0%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 478

استخراج المرام من استقصاء الإفحام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 478
المشاهدات: 243125
تحميل: 6757


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 478 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 243125 / تحميل: 6757
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء 3

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

نصيب الزوجات ، فمنع أن يكون شيء مِنه نصيباً لهذه البائنة ، لدليل ظاهر مِن كتاب الله تعالى في هذه المسألة .

ثم إنّهم قالوا إنّها ترث بدليل أنّ عثمان بن عفّان قضى بذلك في حقّ تماضر زوجة عبد الرحمن بن عوف ، والعجب أنّ ابن عوف وابن الزبير كانا مخالفين لعثمان في هذه الفتوى ، ثمّ إنّهم قدّموا فتوى عثمان في هذه المسألة على ظاهر كتاب الله تعالى .

فثبت أنّهم تارة يقدّمون القياس على الخبر ، وتارة يقدّمون عمل بعض الصحابة على الكتاب ، وتارة يعكسون الأمر في هذه الأبواب ، وذلك يدلّ على أنّ طريقتهم غير مبنيّة على قانون مستقيم ، أنشد بعضهم :

ديـن الـنبيّ مـحمّد آثـار

نـعم الـمطيّة للفتى الأخبار

ولربّما غلط الفتى سبل الهدى

والـشمس واضحة لها أنوار

لا تـغفلنّ عن الحديث وأهله

فـالرأي ليل والحديث نهار

العبري مِن الحنفية

هذا ، والعبري الفرغاني مِن علماء الحنفيّة ، وقال بعضهم : كان مدرّساً متقناً لمذهب الحنفي والشافعي كليهما ، قال اليافعي بترجمته :

( سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة ، فيها توفّي الإمام العلاّمة قاضي القضاة عُبَيد الله بن محمّد العبيدي الفرغاني ، الحنفي ، البارع العلاّمة المناظر ، يُضرب بذكائه ومناظراته المَثَل ، كان إماماً بارعاً متقناً خرج به الأصحاب ، يعرف المذهبَيْن الحنفي والشافعي ، أقرأهما وصنّف فيهما ، وأمّا الأُصول والمعقول فتفرّد فيهما بالإمامة ، وله تصانيف مِنها شرح الغاية في الفقه في مذهب الشافعي ، وشرح الطوالع ، وشرح المصباح ، وشرح المِنهاج للبيضاوي ، وغير

٣٤١

ذلك مِن التصانيف والأمالي والتعاليق ، ووُلِيَ تبريز وأعمالها إلى أن توفّي ، وكان أُستاذ الأُستاذين في وقته )(١) .

وقال ابن حجر :

( عبيد الله بن محمّد الهاشمي الحسيني الفرغاني الشريفي المعروف بالعِبْري ـ بكسر المهملة وسكون الموحّدة ـ كان عارفاً بالأصلين ، وشرح مصنّفات القاضي ناصر الدين البيضاوي المِنهاج والمطالع والغاية في الفقه والمصباح ، وسكن سلطانيّة ثمّ تبريز ووُلِيَ قضاءها .

ذكره الأسنوي في طبقات الشافعيّة ويقال : إنّه كان يقرأ المذهبين وكان أوّلاً حنفيّاً وذكره الذهبي في المشتبه في العبري فقال : عالم كبير في وقتنا وتصانيفه سائرة .

ومات في شهر رجب سنة ٦٤٣ هـ .

قلت : رأيت بخطّ بعض فضلاء العجم أنه مات في غرّة ذي الحجّة مِنها ـ وهو أثبت ـ ووصفه فقال :

هو الشريف المرتضى قاضي القضاة ، كان مطاعاً عند السلاطين ، مشهوراً في الآفاق ، مشاراً إليه في جميع الفنون ، ملاذاً للضعفاء ، كثير التواضع والإنصاف ، ومال في أواخر عمره إلى الاشتغال في العلوم الدينيّة ، وشرح كتاب المصابيح في المسجد الجامع بحضرة الخاص والعام ، بعبارات عذبة فصيحة قريبة مِن الأفهام ، وكانت وفاته بتبريز )(٢) .

وقال ابن جماعة في ( طبقات الشافعية ) :

( عبيد الله بن محمّد الشريف برهان الدين الحسيني الفرغاني المعروف

_______________________

(١) مرآة الجنان ٤ : ٢٣٠ .

(٢) الدرر الكامنة بأعيان المائة الثامنة ٢ : ٤٣٣ / ٢٥٦٠ .

٣٤٢

بالعبري ، قاضي تبريز ، كان جامعاً لعلوم شتّى مِن الأصلين والمعقولات ، وله تصانيف مشهورة ، وسكن السلطانيّة مدّة ثمّ انتقل إلى تبريز ، وشرح كتب البيضاوي : المِنهاج والغاية القصوى والمصباح والمطالع .

ذكره الأسنوي في طبقاته ، لكن قال الحافظ الزين العراقي في ذيل العبر : كان حنفيّاً يقرأ مذهب أبي حنيفة والشافعي ، وصنّف فيهما وقال الذهبي في المشتبه : النبيل العبري عالم كبير في وقتنا ، توفي بتبريز في رجب سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة ، والعِبْري ـ بكسر العين المهملة وسكون الباء الموحّدة ـ لا أدري نسبة إلى ماذا ) .

وقال ابن قاضي شهبة :

( عبيد الله بن محمد بن الشريف برهان الدين الحسيني الفرغاني ، المعروف بالعبري ، قاضي تبريز ، كان جامعاً لعلومٍ شتّى مِن الأصلين والمعقولات ، وله تصانيف مشهورة وسكن السلطانيّة مدةً ، ثم انتقل إلى تبريز ، وشرح كتب البيضاوي : المِنهاج ، والغاية القصوى ، والمصباح ، والطوالع .

ذكره الإسنوي في طبقاته .

لكنْ قال الحافظ زين الدين العراقي في ذيل العبر : كان حنفيّاً ، يُقرىء مذهب أبي حنيفة والشافعي ، وصنّف فيهما... توفي سنة ٧٤٣ هـ )(١) .

وأمّا الإماميّة فيتّبعون السنّة المكرَّمة ، فإنّ أحكام الشّريعة المطهّرة عندهم متّخذة مِن الأخبار الواصلة إليهم مِن أئمّة العترة المعصومين ، ومِن هنا قال ابن تيميّة مشنّعاً عليهم :

_______________________

(١) طبقات الشافعيّة ٣ : ١٨٣ برقم ٥٩٧ .

٣٤٣

 ( وأمّا الفقه ، فهم مِن أبعد النّاس عن الفقه ، وأصل دينهم في الشريعة هي مسائل ينقلونها عن بعض علماء أهل البيت ، كعليّ بن الحسين وابنه أبي جعفر وابنه جعفر بن محمّد ، وهؤلاء رضي الله عنهم مِن أئمّة الدين وسادات المسلمين ، لكن لا ينظرون في الإسناد إليهم هل يثبت النقل إليهم أم لا ؟ فإنّه لا معرفة لهم بصناعة الحديث والأسناد .

ثمّ إنّ الواحد مِن هؤلاء إذا قال قولاً لا يطلب دليله مِن الكتاب والسنّة ولا ما يعارضه ، ولايردّون ما تنازع فيه المسلمون إلى الله والرسول كما أمر الله به ورسوله ، بل قد أصّلوا لهم ثلاثة أُصول : أحدها : أنّ هؤلاء معصومون والثاني : أنّ كلّما يقولون فإنّه نقل عن النبيّ والثالث : إنّ إجماع العترة حجّة وهؤلاء هم العترة ، فصاروا لذلك لا ينظرون إلى دليل ولا تعليل... وإنْ كانت المسألة ممّا انفردوا بها اعتمدوا على الأُصول الثلاثة التي فيها مِن الجهل والضلال ما لا يخفى )(١) .

فتاوى تُوُهّم كونها قياساً

ثمّ إنّ بعض أهل السنّة توهّم استناد الإماميّة في بعض الفتاوى الفقهيّة إلى القياس... ولكنْ لا علاقة لشيء مِنها بالقياس أصلاً، وما ذكره بهذه المِناسبة كلّه سخيف موهون :

فإنّ الحكم بتطهير الأرض لخشبة الأقطع وأسفل العصا وأسفل الرمح ونحوها ، ليس مِن قبيل القياس الذي هو دأب أهل الخلاف والوسواس ، بل منشأ هذا الحكم كما لا يخفى على الممارس للأخبار المتفحّص للآثار ، هو

_______________________

(١) مِنهاج السُنّة ٦ : ٣٨٠ .

٣٤٤

الأحاديث المأثورة عن الأئمّة الأطهارعليهم‌السلام ، الدالّة بالعموم والإطلاق على تطهير الأرض للمتنجّسات بالأقذار :

فمِنها : ما عن المعلّى بن خنيس قال :( سألت الصادق عليه‌السلام عن الخنزير يخرج مِن الماء فيمرّ على الطريق فيسيل مِنه الماء ، أمرُّ عليه حافياً ؟ فقال : أليس ورائه شيء جاف ؟ قلت : بلى قال : لا بأس ، إنّ الأرض يطهّر بعضها بعضاً ) (١) .

وعن محمّد الحلبي في الموثّق قال : ( نزلنا في مكان بيننا وبين المسجد زقاق قذر ، فدخلت على الصادقعليه‌السلام ، فقال :أين نزلتم ؟ فقلت : نزلنا في دار فلان فقال : إنّ بينكم وبين المسجد زقاقاً قذراً ، أو قلنا له : إنّ بيننا وبين المسجد زقاقاً قذراً ، فقال : لا بأس ، الأرض يطهّر بعضها بعضاً ) (٢) .

ومِنها : ما في مستطرفات السرائر نقلاً عن نوادر أحمد بن أبي نصر عن المفضّل بن عمر ، عن محمّد بن علي الحلبي ، عن الصادقعليه‌السلام قال : ( قلت له :إنّ طريقي إلى المسجد في زقاق يُبال فيه ، فربّما مررت فيه وليس علَيّ حذاء فيلصق برجلي مِن نداوته ، فقال : أليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة ؟ فقلت : بلى قال : لا بأس ، إنّ الأرض يطهّر بعضها بعضاً قلت : فأطأ على الروث الرطب ؟! قال : لا بأس ، أنا والله ربّما وطأت عليه ثمّ أُصلّي ولا أغسله ) (٣) .

وفي الحسن أو الصحيح عن محمّد بن مسلم قال : ( كنت مع الباقرعليه‌السلام

_______________________

(١) الكافي ٣ : ٣٩ / ٥ ، كتاب الطهارة ، باب : الرجل يطأ على العَذَرة...

(٢) المصدر نفسه ٣ : ٣٨ / ٣ .

(٣) كتاب السرائر في الفقه المستطرفات ٣ : ٥٥٥ .

٣٤٥

، إذ مرّ على عَذَرةٍ يابسة فوطأ عليه فأصاب ثوبه ، فقلتُ : جُعِلْتُ فداك ! وطأتَ على عَذَرة فأصابت ثوبك فقالعليه‌السلام :أليست يابسة ؟ فقلت : بلى قال : لا بأس ، إنّ الأرض يطهّر بعضها بعضاً ) (١) .

فما تكرّر مِن قولهمعليهم‌السلام في هذه الأخبار إنّ الأرض يطهّر بعضها بعضاً ، معناه على ما أفاده الأعلام : أنّ بعضها يطهّر ما تنجّس ببعض ، وإنّما أُسند إلى البعض مجازاً كما يقال الماء مطهّر للبول أي لنجاسة البول ، فالمطهَّر ـ بصيغة اسم المفعول ـ ما يُنجَّس بالبعض لا نفس البعض ، وهذا بالإطلاق يدلّ على تطهير الأرض لكلّ ما ينجس ، خر مِنه ما أخرجه الدليل وبقي الباقي على حاله .

وأمّا التعميم لكلّ ما يوطأ به مِن الخفّ والنعل وخشبة الأقطع ، فمع قطع النظر عن دلالة هذا القول عليه ، يدل عليه إطلاق صحيحة الأحول أيضاً :

روى ثقة الإسلام في الصحيح عن الأحول عن الصادقعليه‌السلام قال : ( في الرجل يطأ على الموضع الذي ليس بنظيف ثمّ يطأ بعده مكاناً نظيفاً ؟ قال :لا بأس إذا كان خمسة عشر ذراعاً ونحو ذلك ) (٢) .

وهكذا إطلاق موثّقة الحلبي السابقة .

فإنّ هذين الخبرين يدلاّن على طهارة ما يوطأ به ، أعمّ مِن أن يكون أسفل القدم أو غيره ، وهذا الفقيه الكبير الشيخ يوسف البحراني ـ الذي لا يختلف في جلالة فضله وعظمة شأنه مِن الأخباريّة اثنان، وتصفه بفضائل ومدائح عظيمة الشأن باهرة البرهان ـ قد أقرّ بإمكان استفادة هذا الحُكُم مِن

_______________________

(١) الكافي ٣ : ٣٨ / ٢ .

(٢) الكافي ٣ : ٣٨ / ١ .

٣٤٦

الأحاديث ، حيث قال في ( الحدائق ) مشيراً إلى صحيحة الأحول وموثّقة الحلبي :

( والظاهر أنّه إلى إطلاق هذين الخبرين استند مَن عمّم الحكم في كلّ ما يوطأ به مِن خفّ أو نعل ولو مِن خشب مثل خشبة الأقطع ) .

وقال أيضاً : ( ربّما أمكن شمول الحكم لها ـ أي خشبة الأقطع ـ مِن حيث قولهعليه‌السلام في جملة مِن الأخبار المتقدّمة :إنّ الأرض يطهّر بعضها بعضاً ، بل ربّما استفيد مِنه تطهير أسفل العصا والرمح... )(١) .

فهيهات ثمّ هيهات أن يُطعن في مثل هذه الأحكام المستندة إلى أحاديث المعصومين الكرام بأنها مبنيّة على الرأي والقياس ، ويُرمى الأمر الواضح الجليّ بالارتياب والالتباس ، ولكن حبّ المماراة يحدو على هذه العظائم ، والاستبداد بالرأي يوقع في هذه المقاحم .

وهكذا الحكم بطهارة ما لا يُنقل ولا يُحوَّل ، نحو الأبواب والأخشاب والأوتاد والأشجار والثمار التي على الشجر ، بتجفيف الشمس إيّاها ، وجهه أوضح مِن الشمس وليس بقياس ، ولا يقول بكونه قياساً إلاّ مَن لا يعرف معنى القياس ، ولم يجتن مِن شجرة التحقيق ثمراً ، ولم يُصِب مِن التدقيق عيناً ولا أثراً ، فإنّ هذا الحكم مستند إلى عموم الأحاديث الواردة في هذا الباب ، الشاملة لنحو الأخشاب والأبواب .

قال في ( الحدائق ) ـ بعد ذِكْر رواية أبي بكر الحضرمي عن الباقرعليه‌السلام قال :يا أبا بكر! ما أشرقت عليه الشمس فقد طَهُر ـ ما هذا لفظه :

( وهي ـ كما ترى ـ ظاهرة في القول المشهور مِن طهارة الأرض والحُصَر

_______________________

(١) الحدائق الناضرة في فقه العترة الطاهرة ٥ : ٤٥٥ .

٣٤٧

والبواري وما لا ينقل ولا يحوّل ، وهي وإن كانت مطلقة بالنسبة إلى ما زاد على ذلك ، إلاّ أنّه لا بدّ مِن تقييدها بما ذكروه ، وأنّ ما ينقل ويحوّل لا بدّ مِن غسله بالأدلّة الكثيرة ، وكذلك بالنسبة إلى النجاسة بجميع النجاسات .

وبالجملة ، فإنّها ظاهرة الدلالة على القول المشهور ، وإن أمكن تطرّق المناقشة إلى الطهارة فيها بالتأويل المتقدّم ، إلاّ أنّه خلاف الظاهر ) .

وقال بعد كلام : ( ويعضد هذه الرواية أيضاً ما في الفقه الرضوي حيث قالعليه‌السلام :ما وقعت عليه الشمس مِن الأماكن التي أصابها شيء مِن النجاسات مثل البول وغيره طَهُر مِنها ، وأمّا الثياب فإنّها لا تطهر إلاّ بالغَسْل ، وهي ظاهرة تمام الظهور في القول المشهور )(١) .

ولقد وضح الصبح لذي عينين ولم يبق مجال لرواج البهت والمين ، حيث أسفر الحقّ إسفاراً ووضح الأمر جهاراً ، فكيف يمكن للمنصف الذي لم يردعه رمص التعصّب عن إدراك الحقيقة ، والبصير الناقد الذي لم يعتره رَيْب في الأُمور الواضحة التي هي بالإذعان حقيقة ، أن يقول إنّ هذا الحكم الذي يدلّ عليه الأحاديث بالظهور ويشير إليه روايات أهل العصمة مِن غير حجاب مستور ؛ مبنيٌّ على القياس الممنوع والدليل الفاسد المردوع .

ولعمري ، إنّ مَن يرمي هذا الحكم بالقياس مع اندراجه في عموم الأحاديث المأثورة عن هداة الناس ، ورعاتهم وحفّاظهم عن وسواس الخنّاس ، كيف لا يتوقّى مِن اتّساع الخرق عليه بلزوم الحكم بالقياس على جلّ الجزئيّات التي حكم عليها الأصحاب لانسلاكها في الإطلاقات والعمومات .

وأعجب مِن ذلك كلّه زعْمُ هذا القائل وادّعاء هذا المجادل : أنّ منع

_______________________

(١) الحدائق الناضرة ٥ : ٤٣٨ ـ ٤٣٩ .

٣٤٨

العلاّمة الحلّي مِن إخراج الرواشن والأجنحة إلى الطُرُق النافذة إذا استلزمت الإشراف على جاره وضرّ به وإن لم تضرّ بالمارّة، مِن باب القياس ، وهذا أعجب مِن كلّ عجيب وأغرب مِن كلّ غريب .

وليت شعري أيّة مناسبة ومشابهة للقياس بذلك ، إنّما هو مستنِد إلى الأحاديث الدالّة على عدم جواز التصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، والطريق يصير ملكاً للمسلمين كلّهم بإحيائهم إيّاه وكذا قراره وهواؤه ، فالمنع مِن التصرّف فيه بإخراج الرواشن والأجنحة كيف يكون مِن القياس الموجب للجُناح ؟ وهذا واضح بيّن صِراح .

وأمّا تصريح العلاّمة بأنّه لا يعرف نصّاً مِن الخاصّة والعامّة في هذا الباب ، وإنّما أفتى بما عن الاجتهاد ، فمعناه واضح صحيح كما لا يخفى على أهل السداد ؛ لأنّ مراده قدّس الله روحه ـ كما ينادي به ألفاظه جهاراً ـ أنّه لم يجد نصّاً على هذه المسألة بخصوصها مِن العامّة والخاصّة ، لا أنّه لم يجد عليها دليلاً مِن الكتاب والسنّة أصلاً وقاله بمحض الرأي والتشهّي .

وكيف يظنّ به ذلك ـ العياذ بالله مِنه ـ مع أنّه يصرّح بأنّه إنّما صار إلى ما أفتى به عن الاجتهاد ، والاجتهاد ـ كما فسّره هو وغيره مِن العلماء ـ هو استنباط الأحكام مِن القرآن والسنّة الغرّاء ، فقد ظهر أنّه ادّعى العلاّمة أنّ هذا الحكم مستنبط مِن الكتاب والسنّة ، وإنّما نفى كونه وارداً في النصوص بالخصوص .

وكيف يظنّ بالعلاّمة الحلّي رحمه الله أنّه عمل بالقياس أو حكم بمحض الرأي ، مع أنّه قد صرّح رحمه الله في كتبه ومصنّفاته بتحريم ذلك وعدم جوازه وثبت تحريمه بضرورة دين الإماميّة ، ولم يختلف في عدم جوازه مِنهم اثنان ، والله الهادي والمستعان والعاصم مِن المجازفة والعدوان .

٣٤٩

وأمّا مسألة العوَض في الخلع إذا كان معيّناً ثمّ ظهر معيباً ، فما قال فيها العالم الربّاني ذو النور الشعشعاني والمجد الصمداني الشهيد الثاني ، فوجهه غير خفيّ على القاصي والداني ، فإنّ استحسانه ـ رحمه الله ـ تعيّن أخْذ الأرش في صورة فوات الوصف ، نشأ نظراً إلى الحديث المشهور والنصّ المأثور من أنّه لاضرر ولاضرار ، وغيره مِن الأحاديث الدالّة على عدم جواز التسلّط على ملك الغَيْر المأثورة عن المعصومين الأخيار ، خرج مِنها ما أخرجه الدليل وبقي الباقي على حاله .

وأيضاً يؤيّده أصل عدم التسلّط وعدم ثبوت اختيار المطالبة بالمثل والقيمة ، أمّا أخذ الأرش فصار إليه لمكان الدليل عليه ، ولم يزد عليه مِن المطالبة بالقيمة أو المثل لعدم ثبوت ذلك عنده .

وأمّا حكم المحقّق الحلّي بإجزاء أذان المنفرد إذا أراد الجماعة ، فذلك أيضاً غير مبنيّ على القياس المذموم والرأي الملوم ، فإنّ القياس هو تعدية الحكم مِن جزئيّ إلى جزئيّ آخر .

والأمر هاهنا ليس كذلك ، بل مبنى هذا الحكم في الواقع هو أصل عدم لزوم الإعادة ، والحكم بصحّة الأفعال الواقعة على نهج الشرع واعتبارها ، حتّى يظهر دليل على عدم اعتبارها ، فإنّ المنفرد الذي أذّن لنفسه ثمّ أراد الجماعة ، قد وقع مِنه الأذان صحيحاً ، فعدم اعتبار ذلك الأذان والحكم بإعادته يحتاج إلى دليل يدلّ عليه .

وكون إرادة الجماعة موجبة للإعادة ، غير ثابت عند مَن يقول بعدم لزوم الإعادة لأنّ الرواية الواردة بذلك ضعيفة السند ، وقد عارضها خبر أبي مريم الأنصاري قال : صلّى بنا أبو جعفرعليه‌السلام في قميص بلا إزار ولا رداء ولا إقامة فقال :إنّ قميصي كثيف فهو يُجزي أن لا يكون علَيّ إزار ولا رداء ،وإنّي مررت بجعفر وهو يؤذّن ويُقيم فلم أتكلّم فأجزأني ذلك ، انتهى وظاهره

٣٥٠

ترتّب الإجزاء عل مجرّد سماع الأذان مِن غير مدخليّة لما عدا ذلك كما أفيد .

وأمّا الاستدلال بالأولويّة ، فهو تأييد لذلك الدليل الدالّ على الاجتزاء ، مع أنّه لو بنينا الحكم على هذا أيضاً لم يكن فيه شنعة؛ لأنّ الاستدلال بالأولويّة ممّا قد ثبت حجيّته بالدلائل القاطعة والبراهين الصادعة ، وهو ليس مِن القياس المذموم في شيء .

وأمّا المسألة الأخيرة التي نقلها البعض عن الذكرى ، فالمنقول مِنها في غاية السقم والغلط ، حيث ترك فيه صورة المسألة ونقل الحكم فقط وقطع العبارة مِن غير موضع القطع ، فكان كمَن ألغى الأصل وأخذ بالفرع ، ونحن ننقل أوّلاً عبارة الذكرى وبعد ذلك نبيّن بطلان توهّم كونه مبنيّاً على القياس .

قال في ( الذكرى ) : لو أحسّ في أثناء القراءة بداخل ، لم يستحبّ له تطويل القراءة لحصول الغرض بإدراكه في الركوع ، ولو قلنا باشتراط إدراك تكبير الركوع فلا بأس بتطويل القراءة بل يستحبّ ، وهل يُكره تطويلها على القول بإدراكه راكعاً ؟ قال الفاضل : لا يكره ، لِما رُويَ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :إنّي أحياناً أكون في الصلاة فأفتتح السورة أُريد أن أتمّها فأسمع بكاء صبيّ فأتجوّز في صلاتي مخافة أن تفتتن أُمّه . فإذا جاز الاختصار رعاية لحقّ الطفل ، جازت الزيادة رعاية لحقّ اللاّحق ، ويتأكّد زوال الكراهة لعلمه أنّه لا يلحق بتطويل الركوع ، بل يستحب هنا تطويل القراءة(١) .

وهذا الحكم مستند حقيقةً إلى ظهور عدم دليل على كراهة التطويل ، وأما الاستدلال بالحديث فتأييد لذلك ، مع أنّه يرجع عند التحقيق والتأمّل إلى تنقيح المناط ، وهو غير القياس الذي جوّزته العامّة الراكبة متن الاختباط الناكبة

_______________________

(١) ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة ٤ : ٤٥٣ .

٣٥١

عن سويّ الصراط .

ثمّ نقول لهذا المعترض : إنّ هذه المسألة حكم بها العلاّمة الحلّي ؛ لأنّ المراد بالفاضل هو رحمه الله تعالى .

وهو مِن أشهر علماء أهل الحقّ الذين منعوا العمل بالظنّ وبالغوا في حظره وتحريمه والتشنيع على مجوّزيه .

فلزم عليك أن ترجع عمّا كنت فيه مِن الاتّهام على الأعلام ، لقصور الفهم وقلّة التدرّب وتتوب عنه ، وتُشمّر عن ساق الجدّ في إبطال ما تفوهتّ به وسطّرته .

هذا ما سطرناه في توجيه هذه المسائل والإشارة والتلميح إلى الدلائل ، وليس المقصود اختيارها وترجيحها جزماً ، ونصرتها وتصحيحها حتماً ، فإنّها مسائل خلافيّة بعضها للنظر فيه مجال ، لكن الغرض إبطال قول مَن قال إنّها مبنيّة على القياس والرأي والضلال ، العياذ بالله المتعال مِن التفوّه بهذه الأقوال .

رجوع ابن الجُنَيْد عن القول بالقياس

وتلخّص : إنّ مذهب الإماميّة الإثني عشريّة هو حرمة القياس وعدم جواز استعماله في الدين .

نعم، كان أبو علي الإسكافي ـ المعروف بابن الجُنَيْد ـ يقول بالقياس في أوّل الأمر ، ثمّ رجع عنه وتركه ، كما نصَّ على ذلك كبار علماء الطائفة :

قال الشيخ والد الشيخ بهاء الدين العاملي : ( ابن الجُنَيْد كان يعمل بالقياس ثمّ رجع عنه )(١) .

_______________________

(١) هداية الأبرار : ٣٠٦ .

٣٥٢

وقال الشيخ محمّد حسين صاحب ( الفصول ) : ( وإنْ ظنّ غلبة العلّة بحدس وشبهه فهو مستنبط العلّة ، وقد أطبق أصحابنا على عدم حجيّته ، إلاّ ابن الجُنَيْد ، فإنّه قال بحجيّته على ما حُكي عنه في أوائل الأمر ثمّ رجع عنه ، وبطلانه في مثل زماننا يعدّ مِن ضروريّات المذهب عند المحصّلين )(١) .

وقال السّد الطباطبائي : ( اختلف علماء الإسلام في حجيّة ما عدا القياس المستنبط بالطريق الأولى ، والقياس المنصوص العلّة في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، وهو القياس المستنبط علّته ، على قولين ، الأوّل : إنّه حجّة كظاهر الكتاب وهو لمعظم العامّة ، وحكي أيضاً عن ابن الجُنَيْد مِن قدماء الإماميّة الثاني : ليس بحجّة ، وهو للذريعة والعدّة والغنية والمعارج ويب ونهج الحقّ ويه ودي وشرحه والمنية والزبدة والمعالم وغاية المأمول والوافية وبالجملة ، عليه معظم الإماميّة كلّهم إذ حكي عن ابن الجُنَيْد الرجوع عمّا كان عليه ، وهو المعتمد )(٢) .

وقال الشيخ أبو القاسم القمّي في كتاب ( قوانين الأصول ) : ( وأمّا الأوّل ، فذهب الأصحاب كافة عدا ابن الجُنَيْد مِن قدمائنا في أوّل أمره وبعض العامّة إلى حرمة العمل به ، وذهب الآخرون إلى جوازه ) .

وهْمٌ ودفع

ثمّ إنّه ذكر المولوي عبد العزيز الدهلوي في كتاب ( التحفة ) اسم ( أبو نصر هبة الله بن الحسين ) وزعم أنّه مِن علماء الإماميّة ، ونسب إليه القول

_______________________

(١) الفصول الغرويّة في الأُصول الفقهيّة (حجري) : ٣٨٢ ـ ٣٨٣ .

(٢) مفاتيح الأُصول : ٦٥٩ (حجري) .

٣٥٣

بالقياس ، ثمّ أضاف في هامش كتابه في هذا الموضع ما نصّه :

( هبة الله بن الحسين بن هبة الله بن رطبة السواري ظهير الدين ، كان مِن علماء الإماميّة ، أخذ عن أبيه وسمع مِن محمّد القمّي وأبي جعفر بن أبي القاسم الطبري روى عن عليّ بن يحيى ، كان على رأس الستمائة ذكره ابن أبي طي ، وهو مِن محدّثي الشيعة وصاحب رجالهم لسان الميزان ) .

وتحقق المطلب هو : إنّه لا يوجد بين علماء الإماميّة مَن اسمه ( هبة الله ابن الحسين ) وكنيته ( أبو نصر ) فضلاً عن أن يقول بالقياس أو لا يقول به ، ودعوى اتّحاده مع الذي نقله في الهامش عن لسان الميزان لابن حجر العسقلاني باطلة جدّاً... على أنّ جملة ( وهو مِن محدّثي الشيعة وصاحب رجالهم ) غير موجودة في لسان الميزان ، وهذا نصّ عبارته :

( هبة الله بن الحسين بن هبة الله بن رطبة السواري ظهير الدين أبو طاهر كان مِن علماء الإماميّة أخذ عن أبيه وسمع عن محمّد بن علي القمّي وأبي جعفر بن أبي القاسم الطبري وغيرهما روى عنه عليّ بن يحيى بن عليّ الحلّي والحسن ابن صبيح الحائري وآخرون وكان على رأس الستمائة ذكره ابن أبي طي )(١) .

فأين الكنية ( أبو نصر ) ؟

وأين الجملة : ( وهو مِن محدِّثي الشيعة وصاحب رجالهم ) ؟

بين المُثْبتين والمنكِرين مِن أهل السنّة

ثمّ إنّ المثبتين للقياس مِن أهل السنّة يشنّعون على المنكرين له

_______________________

(١) لسان الميزان ٧ : ٢٥٢ / ٨٩٨٣ .

٣٥٤

ويذمّونهم الذمّ الشديد ، حتّى جاء في ( شرح البخاري ) لابن الملقّن أنّه : ( قال المزني : فوجدنا بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أئمّة الدين فهموا عن الله تعالى وما أُنزل إليهم وعن الرسول ما أوجب عليهم ، ثمّ الفقهاء إلى اليوم هلمّ جرّاً استعملوا المقاييس والنظائر في أمر دينهم ، فإذا ورد ما لم يُنصّ عليه نظروا ، فإنْ وجدوه مشبّهاً لِما سبق الحكم فيه مِن الشارع أجْرَوا حكمه عليه ، وإنْ كان مخالفاً له فرّقوا بينه وبينه ، فكيف يجوز لأحدٍ إنكار القياس ؟ ولا يُنكِر ذلك إلاّ مَن أعمى الله قلبه وحبّب إليه مخالفة الجماعة ) .

وإذا كان هذا حال المنكِرين للقياس ، فهلمّ معي لنرى مَن هم المنكِرون له ؟

قال الحافظ ابن حجر في ( شرح البخاري ) نقلاً عن ابن بطّال :

( أوّل مَن أنكر القياس إبراهيم النظّام وتبعه بعض المعتزلة ، وممّن ينسب إلى الفقه داود بن عليّ ، وما اتّفق عليه الجماعة هو الحجّة ، فقد قاس الصحابة ومِن بعدهم مِن التابعين وفقهاء الأمصار ، وبالله التوفيق )(١) .

ثمّ قال ابن حجر :

( وتعقّب بعضهم الأوليّة التي ادّعاها ابن بطّال : بأنّ إنكار القياس ثبت عن ابن مسعود مِن الصحابة ، ومِن التابعين عن عامر الشعبي مِن فقهاء الكوفة ، وعن محمّد بن سيرين والحسن مِن فقهاء البصرة ، وذلك مشهور عنهم ، نقله ابن عبد البرّ ، ومِن قبله الدارمي وغيره عنهم وعن غيرهم )(٢) .

_______________________

(١) فتح الباري في شرح البخاري ١٣ : ٢٥٣ .

(٢) المصدر نفسه ١٣ : ٢٥٣ .

٣٥٥

ومِن المنكرين للقياس : أبو بكر أحمد بن أبي عاصم النبيل ، قال ابن حجر في ( لسان الميزان ) :

( أبو بكر ابن أبي عاصم ، عن عبد الجبّار بن العلاء العطّار ، وعنه عبد الله ابن محمّد بن جعفر شيخ أبي نعيم قال ابن القطّان : لا أعرفه ، كذا قال ، وهو إمام ثقة حافظ مصنّف لا يجهل مثله انتهى كلام شيخنا .

وهو : أحمد بن عمر وبن أبي عاصم النبيل ، واسم أبي عاصم الضحّاك ابن مخلد الشيباني...

وله الرحلة الواسعة والتصانيف الكثيرة في الأبواب .

روى عنه : محمّد بن حسان ، وأبو أحمد الغسّاني وأحمد بن بندار الشعار وأحمد بن المفيد السمسار ، وآخرون .

قال أبو سعد ابن الأعرابي في طبقات النسّاك : سمعت أنّه كان يذكر أنّه يحفظ لشقيق البلخي ألف مسألة ، وكان مِن حفّاظ الحديث والفقه ، وكان يذهب إلى القول للقول بترك القياس .

قال أبو نعيم الحافظ : كان ظاهري المذهب ، وُلِيَ القضاء بعد صالح بن أحمد ، وترجم له موسى ، ومات في ربيع الآخر سنة ٢٨٧ هـ )(١) .

ومِنهم : داود الظاهري كما عرفت ، وهو مِن كبار الأئمّة ، فقد قال السبكي في ( الطبقات ) بترجمته :

( داود بن عليّ بن خلف بن سليمان البغدادي الإصبهاني ، إمام أهل الظاهر ، ولد سنة مائتين وقيل سنة اثنتين ومائتين ، وكان أحد أئمّة المسلمين وهداتهم ، وله في فضل الشافعي رحمه الله مصنّفات ، سمع سليمان بن حرب

_______________________

(١) لسان الميزان ٧ : ٥٩٢ ـ ٥٩٣ / ٩٦٦٩ وفي ط ٧ : ٢٠ .

٣٥٦

والقعنبي وعمرو ابن مرزوق ومحمّد بن كثير العبدي ومسدداً وأبا ثور وإسحاق ابن راهويه ، رحل إليه إلى نيسابور ، فسمع مِنه المسند والتفسير ، وجالس الأئمّة وصنّف الكتب .

قال أبو بكر الخطيب : كان إماماً ورعاً ناسكاً زاهداً... )(١) .

وقال ابن خلّكان :

( أبو سليمان داود بن عليّ بن خلف الإصبهاني ، الإمام المشهور المعروف بالظاهري ، كان زاهداً متقلّلاً كثير الورع ، أخذ العلم عن إسحاق بن راهويه وأبي ثور ، كان مِن أكثر الناس تعصّباً للإمام الشافعيرضي‌الله‌عنه ، وصنّف في فضائله والثناء عليه كتابين ، وكان صاحب مذهب مستقلّ ، وتبعه جمع كثير يُعرَفون بالظاهريّة ، وكان ولده أبو بكر محمّد على مذهبه ، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى ، وانتهت إليه رياسة العلم ببغداد وقيل : إنّه كان يحضر مجلسه أربعمائة صاحب طيلسان أخضر )(٢) .

ومِنهم : ابن حزم الأندلسي ، الذي قال ابن خلكان بترجمته :

( كان حافظاً عالماً بعلوم الحديث وفقهه ، مستنبطاً للأحكام مِن الكتاب والسنّة ، بعد أن كان شافعيّ المذهب ، فانتقل إلى أهل الظاهر ، وكان متقناً في علوم جمّة ، عاملاً بعلمه زاهداً في الدنيا بعد الرياسة التي كانت له ولأبيه مِن قبله في الوزارة وتدبير الملك ، متواضعاً ذا فضائل وتواليف كثيرة...

قال ابن بشكوال في حقّه : كان أبو محمّد أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم أهل الإسلام وأوسعهم معرفة ، مع توسّعه في علم اللسان ووفور حظّه

_______________________

(١) طبقات الشافعي الكبرى ٢ : ٢٨٤ / ٦٦ .

(٢) وفيات الأعيان ٢ : ٢٥٥ / ٢٢٣ .

٣٥٧

مِن البلاغة والشعر والمعرفة بالسِيَر والأخبار ، أخبر ولده أبو رافع الفضل إنّه اجتمع عنده بخطّ أبيه مِن تواليفه نحو أربعمائة مجلّد يشتمل على قريب مِن ثمانين ألف ورقة .

وقل الحافظ أبو عبد الله محمّد بن فتوح : ما رأيت مثله فيما اجتمع له مِن الذكاء وسرعة الحفظ وكرم النفس والتدّين )(١) .

_______________________

(١) وفيات الأعيان ٣ : ٣٢٥ / ٤٤٨ .

٣٥٨

٣ الاستحسان

حقيقة الاستحسان

لا يخفى أنّ موارد فتاوى القوم على خلاف الكتاب والسنّة ، بل اتّباعاًً للهوى ، كثيرة لا تحصى...

ومع ذلك ، فإنّ مِن جملة أدلّتهم هو ( الاستحسان ) وهو ليس إلاّ الحكم بما تهواه الأنفس ولا شاهد عليه مِن الكتاب والسنّة ، ومِن هنا قال الشافعي بأنّ الاستحسان تشريع محض كما حكاه شارح ( مختصر الأصول ) :

( الاستحسان : قال الحنفيّة والحنابلة يكون دليلاً ، وأنكره غيرهم .

قال الشافعي : مَن استحسن فقد شرّع ، يعني مَن أثبت حكماً بأنّه مُسْتحْسَنٌ عنده مِن غير دليل مِن قِبل الشارع فهو الشارع لذلك الحكم ؛ لأنّه لم يأخذه مِن الشارع ، وهو كُفْرٌ أو كبيرةٌ )(١) .

فقال الكرماني في حاشيته ( النقود والردود ) :

( قوله : فهو الشارع ، أي الواضع ، وإثبات الحكم مِن تلقاء نفسه بلا دليل كفرٌ إن اعتقد جوازه له ، أو كبيرة إن لم يعتقد الجواز ) .

وقال الدهلوي في ( الإنصاف ) في بيان موارد مخالفة الشافعي :

( ومِنها : إنّه رأى قوماً مِن الفقهاء يخلطون الرأي الذي لم يسوّغه الشرع بالقياس الذي أثبته ، فلا يميّزون واحداً مِنهما مِن الآخر ، ويسمّونه تارة

_______________________

(١) شرح مختصر الأصول ٢ : ٤٥٩ .

٣٥٩

بالاستحسان ، وأعني بالرأي أن ينصب مظنّةَ حرج أو مصلحة علّة لحكم ، وإنّما القياس أن تخرج العلّة مِن الحكم المنصوص ويدار عليها الحكم ، فأبطل هذا النوع أتمّ إبطال وقال : مَن استحسن فأنّه أراد أن يكون شارعاً ؛ حكاه ابن الحاجب في مختصر الأُصول .

مثاله : رُشْد اليتيم أمر خفي ، فأقاموا مظنّة الرشد ـ وهو بلوغ خمس وعشرين سنة ـ مقامه وقالوا : إذا بلغ اليتيم هذا العمر سُلّم إليه ماله ، قالوا : هذا استحسان ، والقياس أن لا يُسلّم إليه .

وبالجملة ، فلمّا رأى الشافعي في صنيع الأوائل مثل هذه الأُمور أخذ الفقه مِن الرأس ، فأسّس الأُصول وفرّع الفروع ، وصنّف الكتب ، فأجاد وأفاد واجتمع عليها الفقهاء )(١) .

أقول :

فبمثل هذه الكلمات يعرف حال أبي حنيفة وغيره ممّن يستعمل الاستحسان في الدين !

وكذلك قال الدهلوي في كتابه ( حجّة الله البالغة ) .

فتأمّل حتّى يأتيك اليقين ، ولاتكن ممّن يضلّ عن الدين بتسويلات الشياطين ، والله الموفّق والمعين.

الاستحسان مِن أسباب تحريف الدين

وهذه عبارة الدهلوي في بيان أسباب تحريف الدين :

_______________________

(١) الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف : ٤٤ ـ ٤٥ .

٣٦٠