استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٣

استخراج المرام من استقصاء الإفحام0%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 478

استخراج المرام من استقصاء الإفحام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 478
المشاهدات: 242830
تحميل: 6749


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 478 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 242830 / تحميل: 6749
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء 3

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الحديث الثاني والعشرون

روى في ( الكافي ) بإسناده عن عيسى بن المستفاد أبي موسى الضرير ، قال :

( حدّثني موسى بن جعفرعليهما‌السلام قال : قلت لأبي عبد الله : أليس كان أمير المؤمِنين عليه‌السلام كاتب الوصيّة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المملي عليه وجبرئيل والملائكة المقرَّبون عليهم‌السلام شهودٌ ؟ قال : فأطرق طويلاً ثمّ قال : يا أبا الحسن قد كان ما قلت ، ولكن حين نزل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمر ، نزلت الوصيّة مِن عند الله كتاباً مسجّلاً ، نزل به جبرئيل مع أمناء الله تبارك وتعالى مِن الملائكة ، فقال جبرئيل : يا محمّد مُرْ بإخراج مَن عندك إلاّ وصيّك ، ليقبضها منّا وتشهدنا بدفعك إيّاها إليه ضامناً لها ـ يعني عليّاً عليه‌السلام ـ فأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإخراج مَن كان في البيت ما خلا عليّاً عليه‌السلام ؛ وفاطمة فيما بين الستر والباب .

فقال جبرئيل : يا محمّد ، ربّك يقرئك السلام ويقول : هذا كتاب ما كنت عهدت إليك وشرطت عليك وشهدت به عليك وأشهدت به عليك ملائكتي وكفى بي يا محمّد شهيداً ، قال : فارتعدت مفاصل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا جبرئيل ربّي هو السلام ومِنه السلام وإليه يعود السلام صدق عزَّ وجلَّ وبرَّ ، هات الكتاب ، فدفعه إليه وأمره بدفعه إلى أمير المؤمِنينعليه‌السلام فقال له : اقرأه ، فقرأه حرفاً حرفاً ، فقال : يا عليُّ ! هذا عهد ربّي تبارك وتعالى إليَّ وشرطه عليَّ وأمانته ، وقد بلّغت ونصحت وأدَّيت ، فقال عليٌّعليه‌السلام وأنا أشهد لك [بأبي وأمّي أنت] بالبلاغ والنصيحة والتصديق على ما قلت ويشهد لك به

٤٢١

سمعي وبصري ولحمي ودمي ، فقال جبرئيلعليه‌السلام : أنا لكما على ذلك مِن الشاهدين ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليٌّ أخذت وصيّتي وعرفتها وضمِنت لله ولي الوفاء بما فيها ؟ فقال عليٌّعليه‌السلام : نعم بأبي أنت وأُمّي ، عليَّ ضمانها وعلى الله عَوْني وتوفيقي على أدائها ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليٌّ إنّي أُريد أن أُشهد عليك بموافاتي بها يوم القيامة ، فقال عليٌّعليه‌السلام نعم أَشهِد ، فقال النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ جبرئيل وميكائيل فيما بيني وبينك الآن وهما حاضران معهما الملائكة المقرَّبون لأُشهدهم عليك ، فقال : نعم ليشهدوا وأنا ـ بأبي أنت وأُمّي ـ أُشهدهم ، فأشهدهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وكان فيما اشترط عليه النبيُّ بأمر جبرئيلعليه‌السلام فيما أمر الله عزَّ وجلَّ أن قال له : يا عليُّ ، تفي بما فيها مِن موالاة مَن والى الله ورسوله والبراءة والعداوة لمَن عادى الله ورسوله والبراءة مِنهم ، على الصبر مِنك [و] على كظم الغيظ وعلى ذهاب حقّي وغصب خمسك وانتهاك حرمتك ؟ فقال : نعم يا رسول الله .

فقال أمير المؤمِنينعليه‌السلام : والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لقد سمعت جبرئيلعليه‌السلام يقول للنبيّ : يا محمّد عرّفه أنّه يُنتهك الحرمة وهي حرمة الله وحرمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى أن تُخضب لحيته مِن رأسه بدم عبيط .

قال أمير المؤمِنينعليه‌السلام : فصعقت حين فهمت الكلمة مِن الأمين جبرئيل حتّى سقطت على وجهي وقلت : نعم قبلت ورضيت ، وإن اُنتُهكت الحرمة وعُطّلت السُنن ومُزّق الكتاب وهُدّمت الكعبة وخُضبت لحيتي مِن رأسي بدم عبيط صابراً محتسباً أبداً حتّى أقدم عليك .

ثمَّ دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة والحسن والحسين وأعلمهم

مثل ما أعلم أمير المؤمِنين ، فقالوا مثل قوله فخُتمت الوصيّة بخواتيم مِن ذهب ، لم تمسّه النار ودُفعت إلى أمير المؤمِنينعليه‌السلام .

٤٢٢

فقلتُ لأبي الحسنعليه‌السلام : بأبي أنت وأُمّي ألا تذكر ما كان في الوصيّة ؟فقال : سنن الله وسنن رسوله ، فقلت : أكان في الوصيّة توثّبهم وخلافهم على أمير المؤمِنينعليه‌السلام ؟فقال : نعم والله شيئاً شيئاً ، وحرفاً حرفاً ، أما سمعت قول الله عزَّ وجلَّ : ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) ؟والله لقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمِنين وفاطمة عليهما‌السلام : أليس قد فهمتما ما تقدّمت به إليكما وقبلتماه ؟ فقالا : بلى وصبرنا على ما ساءنا وغاظنا ) (١) .

الحديث الثالث والعشرون

عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال :

( لما أُخرج عليّعليه‌السلام مُلبَّباً : وقف عند قبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال :( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي ) ، قال : فخرجت يد مِن قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرفون أنّها يده وصوت يعرفون أنّه صوته نحو أبي بكر : يا هذا( أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا ) )(٢) .

الحديث الرابع والعشرون

في كتاب ( كامل الزيارات ) : ( وبهذا الإسناد عن عبد الله بن بكير

_______________________

(١) الكافي ١ : ٢٨١ ـ ٢٨٣ .

(٢) كتاب الاختصاص : ٢٧٥ .

٤٢٣

الأرجاني قال :

صحِبْتُ أبا عبد اللهعليه‌السلام في طريق مكّة إلى المدينة ، فنزلنا منزلاً يقال له عسفان ، ثمّ مررنا بجبل أسود عن يسار الطريق موحش ، فقلت له :

يا ابن رسول الله ، ما أوحش هذا الجبل ! ما رأيت في الطريق مثل هذا .

فقال لي :يا ابن بُكَيْر ، أتدري أيّ جبلٍ هذا ؟

قلت : لا .

قال :هذا جبل يقال له الكمد ، وهو على وادٍ مِن أودية جهنّم ، وفيه قَتَلَة أبيَ الحسين ، استودعهم فيه ، تجري مِن تحتهم حياة جهنّم مِن الغِسْلين والصديد والحميم ، وما يخرج مِن جبّ الجوى ، وما يخرج مِن الفلق ، وما يخرج مِن اثام ، وما يخرج مِن طينة الخبال ، وما يخرج مِن جهنّم ، وما يخرج مِن لظى ومِن الحُطَمة ، وما يخرج مِن سقر ، وما يخرج مِن الحميم ، وما يخرج مِن الهاوية ، وما يخرج مِن السعير .

وما مررت بهذا الجبل في سفري فوقفت به إلاّ رأيتهما يستغيثان إليّ ، وإني لأنظر إلى قتلة أبي وأقول لهما : هؤلاء فعلوا ما أسّستما ، لم ترحمونا إذ ولّيتم ، وقتلتمونا وحرمتمونا ، ووثبتم على حقّنا ، واستبددتم بالأمر دوننا ، فلا رحم الله مَن يرحمكما ، ذوقا وبال ما قدّمتما ، وما الله بظلاّم للعبيد ، وأشدّهما تضرّعاً واستكانة الثاني ، فربّما وقفت عليهما ليتسلّى عنّي بعض ما في قلبي ، وربّما طويتُ الجبل الذي هما فيه ، وهو جبل الكمد .

قال : قلت له : جعلت فداك ، فإذا طويت الجبل فما تسمع ؟

قال :أسمع أصواتهما يناديان : عرّج علينا نكلّمك فإنّا نتوب ، وأسمع مِن الجبل صارخاً يصرخ بي : أجبهما ، وقل لهما :( اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ )

قال : قلت له : جُعِلْتُ فداك ومَن معهم ؟

قال :كلّ فرعون عتى على الله وحكى الله عنه فعاله ، وكلّ مَن علّم العباد الكفر .

فقلت : مَن هم .

قال :نحو بولس الذي علّم اليهود أنّ يد الله مغلولة ، ونحو نسطور الذي علّم النصارى أنّ المسيح ابن الله ، وقال لهم : هم ثلاثة ، ونحو فرعون موسى الذي قال : أنا ربّكم الأعلى ، ونحو نمرود الذي قال : قهرت أهل الأرض وقتلت مَن في السماء ، وقاتل أمير المؤمِنين عليه‌السلام ، وقاتل فاطمة ومحسن ، وقاتل الحسن والحسين عليهما‌السلام ، فأمّا معاوية وعمرو فما يطمعان في الخلاص ، ومعهم كلّ مَن نصب لنا العداوة ، وأعان علينا بلسانه ويده وماله .

قلت له : جُعلتُ فداك ، فأنت تسمع ذا كلّه ولا تفزع .

٤٢٤

قال :يابن بكير ، إنّ قلوبنا غير قلوب الناس ، إنّا مطيعون مصَفَّوْن مصطَفَوْن ، نرى ما لا يرى الناس ونسمع ما لا يسمعون ، وإنّ الملائكة تنزل علينا في رحالنا وتتقلّب في فرشنا ، وتشهد طعامنا ، وتحضر موتانا ، وتأتينا بأخبار ما يحدث قبل أن يكون ، وتصلّي معنا وتدعو لنا ، وتلقي علينا أجنحتها ، وتتقلّب على أجنحتها صبياننا ، وتمنع الدوابّ أن تصل إلينا ، وتأتينا ممّا في الأرضين مِن كلّ نبات في زمانه ، وتسقينا مِن ماء كلّ أرض نجد ذلك في آنِيَتِنا .

وما مِن يوم ولا ساعة ولا وقت صلاة إلاّ وهي تنبّهنا لها ، وما مِن ليلة تأتي علينا إلاّ وأخبار كلّ أرض عندنا وما يحدث فيها ، وأخبار الجنّ وأخبار أهل الهوى مِن الملائكة ، وما مِن مَلِك يموت في الأرض ويقوم غيره إلاّ أتانا خبره ، وكيف سيرته في الذين قِبَله ، وما مِن أرض مِن ستّة أرَضين إلى السابعة إلاّ ونحن نؤتى بخبرهم .

فقلت : جعلت فداك ، فأين منتهى هذا الجبل ؟

قال :إلى الأرض السادسة ، وفيها جهنّم ، على وادٍ مِن أوديته ، عليه حفظة أكثر مِن نجوم السماء وقَطْر المطر ، وعدد ما في البحار وعدد الثرى ، قد وكّل كلّ مَلَك مِنهم بشيء وهو مقيم عليه لا يفارقه .

قلت : جعلت فداك ، إليكم جميعاً يُلْقون الأخبار ؟

قال :لا ، إنّما يلقى ذلك إلى صاحب الأمر ، وإنّا لنحمل ما لا يقدر العباد على الحكومة فيه فنحكم فيه ، فمَن لم يقبل حكومتنا جبرته الملائكة على قولنا ، وأمرت الذين يحفظون ناحيته أن يقسروه على قولنا ، وإن كان مِن الجنّ مِن أهل الخلاف والكفر ، أوثقته وعذّبته حتّى يصير إلى ما حكمنا به .

قلت : جعلت فداك ، فهل يرى الإمام ما بين المشرق والمغرب .

فقال :يابن بكير ، فكيف يكون حجّة الله على ما بين قُطْرَيها وهو لا يراهم ولا يحكم فيهم ؟ وكيف يكون حجّة على قوم غُيَّب لا يقدر عليهم ولا يقدرون عليه ؟ وكيف يكون مؤدّياً عن الله وشاهداً على الخلق وهو لا يراهم ؟ وكيف يكون حجّة عليهم وهو محجوب عنهم ، وقد حيل بينهم وبينه أن يقوم بأمر ربّه فيهم ، والله يقول :( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ ) يعني به مَن على الأرض والحجّة مِن بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوم مقام النبيّ .

وهو الدليل على ما تشاجرت فيه الأُمّة ، والآخذ بحقوق الناس ، والقائم بأمر الله ، والمنصف لبعضهم مِن بعض ، فإذا لم يكن معهم مَن ينفذ قوله ، وهو يقول : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ ) ، فأيّ آية في الآفاق غيرنا أراها الله أهل الآفاق ، وقال : ( وَمَا نُرِيهِم مِن آيَةٍ إِلاّ هِيَ أَكْبَرُ مِن أُخْتِهَا ) ، فأيّ آية أكبر مِنّا .

٤٢٥

والله إنّ بني هاشم وقريشاً لتعرف ما أعطانا الله ، ولكنّ الحسد أهلكهم كما أهلك إبليس ، وإنّهم ليأتوننا إذا اضطرّوا وخافوا على أنفسهم ، فيسألونا فنوضّح لهم فيقولون : نشهد أنّكم أهل العلم ، ثم يخرجون فيقولون : ما رأينا أضلّ ممّن اتّبع هؤلاء ويقبل مقالتهم .

قلت : جعلت فداك ، أخبرني عن الحسينعليه‌السلام لو نُبش كانوا يجدون في قبره شيئاً ؟

قال :يابن بكير ، ما أعظم مسائلك ! الحسين عليه‌السلام مع أبيه وأُمّه وأخيه الحسن ، في منزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يُحْبَون كما يحبي ويُرزَقون كما يرزق ، فلو نُبش في أيّامه لوُجد ، وأمّا اليوم فهو حيّ عند ربّه ينظر إلى معسكره، وينظر إلى العرش متى يؤمر أن يحمله ، وإنّه لعلى يمين العرش متعلّق ، يقول : يا ربّ أنجز لي ما وعدتني .

وإنّه لينظر إلى زوّاره ، وهو أعرف بهم وبأسماء آبائهم وبدرجاتهم وبمنزلتهم عند الله مِن أحدكم بولده وما في رحله ، وإنّه ليرى مَن يبكيه فيستغفر له رحمة له ويسأل أباه الاستغفار له ، ويقول : لو تعلم أيّها الباكي ما أُعدّ لك لفرحت أكثر ممّا جزعت ، فيستغفر له كلّ مَن سمع بكائه مِن الملائكة في السماء وفي الحائر ، وينقلب وما عليه مِن ذنب )(١) .

_______________________

(١) كامل الزيارات : ٥٣٩ ـ ٥٤٤ .

٤٢٦

الحديث الخامس والعشرون

في كتاب ( سُلَيم بن قيس ) : ( إنّه لمّا قتل الحسين بن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، بكى ابن عبّاس بكاءاً شديداً ثمّ قال : ما بقيت هذه الأُمّة بعد نبيّها ، اللّهمّ إنّي أُشهدك أنّي لعليّ بن أبي طالب ووُلْده وليّ ، ولعدوّه عدوّ ، ومِن عدوّ وُلْده بريّ ، وإنّي سِلْمٌ لأمرهم .

ولقد دخلت على ابن عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذي قار فأخرج لي صحيفة وقال لي :يا ابن عبّاس ، هذه صحيفة أملاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخطّي بيدي .

قال : فقلت : يا أمير المؤمِنين اقرأها عليّ .

فقرأها ، فإذا فيها كلّ شيء منذ قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكيف يُقتل الحسين ومَن يقتله ومَن ينصره ومَن يستشهد معه ، وبكى بكاء شديداً وأبكاني ، وكان فيما قرأه كيف يُصنع به ، وكيف تستشهد فاطمة ، وكيف يستشهد الحسين ، وكيف تغدر به الأُمّة ، فلمّا قرأ مقتل الحسين ومَن يقتل أكثر البكاء ، ثمّ أدرج الصحيفة وفيها ما كان وما يكون إلى يوم القيامة .

وكان فيما قرأ أمر أبي بكر وعمر وعثمان ، وكم يملك كلّ إنسان مِنهم ، وكيف يقع على عليّ بن أبي طالب ، ووقعة الجمل، ومسير عائشة وطلحة والزبير ، ووقعة صفّين ومَن يقتل بها ، ووقعة النهروان وأمر الحَكَمَين ، وملك معاوية ومَن يقتل مِن الشيعة ، وما يصنع الناس بالحسن ، وأمر يزيد بن معاوية ، حتّى انتهى إلى قتل الحسين ، فسمعت ذلك ، فكان كما قرأ ولم ينقص ، ورأيت خطّه في الصحيفة لم يتغيّر... )(١) .

_______________________

(١) كتاب سُلَيم بن قيس ٢ : ٩١٥ .

٤٢٧

بحوثٌ حول الأحاديث المذكورة

هذه الأحاديث طرفٌ مِن الأحاديث الكثيرة جدّاً ، المرويّة بالأسانيد في كتبنا المشتهرة ، المتضمِنة علم النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما سيقع مِن بعده ، وما سيصنعه أصحابه الذين كانوا مِن حوله ، وما صدر مِنهم في حقّ بضعته الطاهرة، وسائر عترته وأهل بيته الكرام ، وأنّه قد أخبرهم بذلك كلّه .

وقد اشتملت هذه الروايات على أنّ شفاعته يوم القيامة سوف لا تشمل أولئك الذين آذَوا أهل بيته وعادوهم في دار الدنيا ، فلو أنّ ( حديث الحوض ) دلَّ على شفاعتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّها سوف لا تنال مَن خالف وصيّته في أهل بيته ، ونقض العهد معه في السَير على مِنهاجه والعمل بتعاليمه .

فهذه هي عقيدة الإماميّة ، وهذه رواياتهم ...

إلاّ أنّ مضامين غير واحدٍ مِن هذه الأخبار الواردة مِن طرقنا ، موجودة في روايات أهل السنّة ، كما أنّ بعضها يشتمل على بحوثٍ وفوائد ينبغي بيانها فنقول :

معنى حديث : فالبعوضة أمير المؤمِنين ...

لقد جاء في الحديث الأوّل عن ( تفسير القمّي ) عن أبي عبد الله الصّادقعليه‌السلام ، بتفسير قوله تعالى :( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا... ) إنّ ( البعوضة ) أمير المؤمِنينعليه‌السلام ، و( ما فوقها ) هو رسول الله ،صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما معنى هذا التفسير الذي ربّما ذكره بعض المخالفين للتعريض بالأئمّة الأطهار والروايات المرويّة عنهم ؟

إنّ معنى الحديث واضح لا سترة فيه لمَن له أدنى معرفة بفنون العربيّة .

٤٢٨

وبيان ذلك هو : إنّ ( البعوضة ) ضرب الله المثل بها لأمير المؤمِنين ، و( ما فوقها ) ضرب الله المثل به لرسول الله ، فهذا معنى الخبر كما يدلّ عليه السياق ، ولأجل السياق اختصر الكلام ، فكانت العبارة : فالبعوضة لأمير المؤمِنين ، وما فوقها لرسول الله... ثمّ حذفت اللام الجارّة ، وكانت الجملة : فالبعوضة أمير المؤمِنين ...

وحذف اللام في مثل المقام شائع في كلام العرب ، وقد صرّح به علماء العربيّة :

قال في ( مجمع البيان ) : ( تقول العرب : لاه أبوك ، تريد لله أبوك ، قال ذو الإصبع العدواني :

لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب

عنّي ولا أنت ديّاني فتخزوني

أي : تسوسني .

قال سيبويه : حذفوا لام الإضافة واللام الأُخرى ، ولا ينكر بقاء عمل اللام بعد حذفها ، فقد حكى سيبويه مِن قولهم : الله لأخرجنّ ، يريدون والله ، ومثل ذا كثير )(١) .

وعلى هذا ، فإن لفظ ( أمير المؤمِنين ) في الرواية مجرور.. ، وذلك قرينة على حذف اللام ، فاستبصِر ولا تكن مِن الغافلين...

فالمعنى : إنّ الله تعالى ضرب مثلاً بالبعوضة لأمير المؤمِنين ، لا أنّ المراد مِن البعوضة هو أمير المؤمِنين ! وضرب مثلاً بما فوقها لرسول الله ، لا أنّ ما فوقها هو رسول الله !

ويدلّ على هذا المعنى قولهعليه‌السلام في الخبر : إنّ هذا المثل ضربه الله لأمير المؤمِنين ، فعليّعليه‌السلام هو الذي ضُرب له هذا المثل ، أعني مثل البعوضة ، لا أنّه المضروب به المثل في هذا الكلام .

_______________________

(١) مجمع البيان في تفسير القرآن ١ : ٢٨ .

٤٢٩

نعم ، بناء على كون خطبة البيان مِن كلام أمير المؤمِنين ـ كما عليه المولوي عبد العزيز الدهلوي ، صاحب ( التحفة الاثني عشرية )(١) وغيره مِن علماء أهل السنّة ، حتّى أنّ بعضهم كتب عليه شرحاً سمّاه خلاصة الترجمان في تأويل خطبة البيان ـ فقد جاء فيها : ( أنا البعوضة التي ضرب الله بها المثل مَثَلاً ) ، وحينئذٍ يلزم على القائلين بأنّها مِن كلامهعليه‌السلام ؛ تفسيرها على وجهٍ صحيح مقبول .

على أنّ لهذا التمثيل نظائر في كتب القوم ، فقد رَوَوْا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه شبّه الإمام الحسن أو الإمام الحسين بالبقّة وهي البعوضة ، قال الدميري :

( وقد ذكر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البق في حديثٍ رواه الطبراني بإسنادٍ جيّد عن أبي هريرة قال : سمعت أُذناي وأبصرت عيناي هاتان رسولَ الله وهو آخذ بيديه جميعاً حسناً أو حسيناً ، وقَدَماه على قَدَمَي رسول الله وهو يقول :

خرقة خرقة

ترقَّ عين بقّة

فيرقى الغلام ، فتقع قدَماه على صدر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

_______________________

(١) التحفة الاثني عشريّة : ٤ و ٢٢٨ .

٤٣٠

ثمّ قال :افتح فاك ، ثمّ قبّله ثمّ قال : اللّهمّ مَن أحبّه فإنّي أُحبّه .

ورواه البزّار ببعض هذه الألفاظ .

والخرقة : الضعيف المتقارب الخطوة ، ذكر ذلك له رسول الله على سبيل المداعبة والتأنيس ، وترقّ معناه اصعد ، وعين بقّة : كناية عن صغر العين ، مرفوع على أنّه خبر مبتدأ محذوف )(١) .

ورَوَوا عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشبيه نفسه الشريفة للحسنينعليهم‌السلام بالجَمَل ، رواه الشهاب الدولت آبادي في ( هداية السعداء ) عن كتاب ( شرف النبوّة ) قال ( قال جابر بن عبد الله : دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يمشي على أربع والحسن والحسين على ظهره وهو يقول :نِعْمَ الجَمَل جَمَلَكما ونِعمَ الراكِبان أنتما )(٢) .

وفي ( المصابيح ) :

( قال ابن عبّاس : جاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو حامل الحسن على عاتقه ، فقال رجل :نِعْمَ المَرْكَب رَكِبْتَ يا غلام ، فقال : نِعْمَ الراكب هو )(٣) .

بل لقد رَوَوْا عن الله سبحانه أنّه شبّه نفسه بالدجاجة !! قال السيوطي :

( أخرج أحمد في الزهد عن خالد بن ثابت الربعي قال : لمّا قَتَل فَجَرَةُ بني إسرائيل يحيى بن زكريّا ، أوحى الله إلى نبيّ مِن أنبيائهم أن قل لبني إسرائيل : إلى متى تجترؤن على أنْ تعصوا أمري وتقتلوا رُسُلي ، حتّى متى أضمّكم في كنفي كما تضمّ الدجاجة أولادها في كنفها فتجترؤن عليَّ ؟ اتّقوا

_______________________

(١) حياة الحيوان ١ : ٢١٧ ـ ٢١٨ .

(٢) هداية السعداء ـ مخطوط .

(٣) مصابيح السنّة ٤ : ١٩٦ / ٤٨٣٦ .

٤٣١

لأخذكم بكلّ دم كان بين بني آدم ويحيى بن زكريّا ، واتّقوا أنْ أضرب عنكم وجهي ، فإنّي إنْ صرفت عنكم وجهي لم أُقبل عليكم إلى يوم القيامة )(١) .

بل لقد رَوَوْا عن شيخهم الأكبر ابن عربي أنّه قال : ( رأيت ربّي على صورة فَرَس ) !! وحكاه الشيخ علاء الدين السمناني في ( أربعينه ) والشيخ الكاشفي في ( رشحاته ) !!

تكذيب الحديث الثاني لاشتماله على نَفْيِ أبي ذر

وكذَّب بعضهم الحديث الثاني ـ بسبب اشتماله على نفي عثمان أبا ذر الغفاريرضي‌الله‌عنه مِن المدينة المنوّرة ـ مدّعياً أنّ هذا مِن مفتريات الإماميّة وموضوعاتهم .

لكنّ نفْيِ أبي ذر مِن المدينة المنوّرة مِن الأمور الثابتة في التاريخ ، وإنكاره عناد محض وتعصّب ، فالواقدي روى القضيّة في ( تاريخه ) كما في ( الشافي ) وغيره ، وكذا سبط ابن الجوزي في ( تذكرته ) ، وأحمد بن عبد العزيز الجوهري روى الخبر ومكالمة أمير المؤمِنين وعقيل والحسن والحسينعليهم‌السلام معه لدى خروجه ، وروى القصّة أيضاً : جمال الدين المحدّث الشيرازي في ( روضة الأحباب ) .

وتجد الخبر في ( المعارف ) و( وفيات الأعيان ) و ( تاريخ الخميس ) و ( حياة الحيوان ) و ( شرح الجامع الصغير ) للعلقمي وغيرها .

وروى الخبر شاه وليّ الله الدهلوي والد صاحب التحفة في كتاب ( إزالة الخفا في سيرة الخُلَفا ) .

_______________________

(١) الدرّ المنثور ٥ : ٤٩٢ .

٤٣٢

وقد أخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا ذر بذلك وهذا أيضاً موجود في روايات القوم وكتبهم المعتبرة ، أمثال ( جامع عبد الرزاق ) و ( مسند أحمد ) و ( مسند أبي يعلى ) و ( فتح الباري ) و ( جمع الجوامع ) و ( الجامع الصغير ) و ( كنز العمّال ) .

ففي ( فتح الباري ) :

( ولأحمد وأبي يعلى مِن طريق أبي الحرث عن أبي الأسود عن عمّه عن أبي ذر قال : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له :

كيف تصنع إذا أُخرجت مِن المسجد النبوي ؟

قال : آتي الشام .

قال :كيف تصنع إذا أُخرجت مِنها ؟

قال : أعود إليه .

قال :كيف تصنع إذا أُخرجت مِنه ؟

قال : أضرب بسيفي .

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ألا أدلّك على ما هو خير لك مِن ذلك وأقرب رشداً ؟ تسمع وتطيع وتنساق لهم حيث ساقوك .

وعند أحمد أيضاً مِن طريق شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد ، عن أبي ذر نحوه )(١) .

وفي ( مسند أحمد بن حنبل ) :

( عن عبد الرحمان بن غنم عن أبي ذر قال : كنت أخدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ آتي المسجد إذا أنا فرغت مِن عملي فأضطجع فيه ، فأتاني النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً وأنا مضطجع فغمزني برجله فاستويت جالساً

_______________________

(١) فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري ٣ : ٢١٣ .

٤٣٣

فقال :

يا أبا ذر ، كيف تصنع إذا أُخرجت مِنها ؟

فقلت : أرجع إلى مسجد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى بيتي .

قال :فكيف تصنع إذا أُخرجت مِنها ؟

قال : إذاً آخذ بسيفي فأضرب به مَن يخرجني .

فجعل النبيّ يضرب يده على مِنكبه فقال :غفراً يا أبا ذر ـ ثلاثاً ـ بل تنقاد معهم حيث قادوك وتنساق معهم حيث ساقوك ولو عبداً أسود .

قال أبو ذر : فلمّا نُفِيتُ إلى الرَبَذَة وأُقيمت الصلاة فتقدّم عبد أسود كان فيها على نِعَم الصدقة... )(١) .

وفي ( كنز العمّال ) : ( عن طاووس قال : قال النبيّ لأبي ذر :مالي أراك لقّابقّا كيف بك إذا أخرجوك مِن المدينة ؟

قال : آتي الأرض المقدّسة .

قال :فكيف بك إذا أخرجوك مِنها ؟

قال : آتي المدينة .

قال :فكيف بك إذا أخرجوك مِنها ؟

قال : آخذ سيفي فأضرب به .

قال :لا ولكن اسمع وأطع وإن كان عبداً أسود .

فلمّا خرج أبو ذر إلى الرَبَذَة ، وجد بها غلاماً لعثمان أسود ، فأذّن وأقام ثمّ قال : تقدّم يا أبا ذر قال : لا ، إنّ رسول الله أمرني أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً أسود .

_______________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ٦ : ١٧٧ / ٢٠٧٨٤ .

٤٣٤

فتقدّم فصلّى خلفه عب )(١) أي رواه عبد الرزاق في جامعه .

وفي ( شرح الجامع الصغير ) لنور الدين عليّ العزيزي :

(جندب بن جنادة الغفاري ، كنيته أبو ذر طريد أُمّتي ، أي : مطرودها ، يطردونه ، يعيش وحده ، ويموت وحده ، والله يبعثه يوم القيامة وحده )(٢) .

اضطراب القوم في تبرير صنيع عثمان

ومِن العجب دفاع بعضهم عن عثمان وتبريره صنيعه : بأنّ أبا ذر كان يستحقّ الإجلاء عن المدينة ؛ لأنّه كان يتجاسر على عثمان ، قال : ( أمّا نفي بعض الصحابة كأبي ذر ؛ فلأنّه كان يتجاسر عليه ، ويجيبه بالكلام الخشن ، وكان ذلك يؤدّي إلى ذهاب هيبته وتقليل حرمته )(٣) .

أمّا أوّلاً : فهذا الكلام دليلٌ على أنّ عثمان لم يكن له حرمة عند خلّص المؤمِنين مِن أصحاب رسول ربّ العالمين ، كأبي ذر وسلمان وعمّار وأمثالهم .

وأمّا ثانياً : فمِن أين ثبت أنّ تجاسره على عثمان وتكلّمه معه بكلامٍ خشن كان غير جائز ؟ إنّه لا بدّ مِن إثبات ذلك بالكتاب والسنّة ، حتى يجوز ما فعله عثمان !!

وأمّا ثالثاً : فإنّ القول بأنّ نفي عثمان أبا ذر كان على حقٍّ ، ردّ صريح على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل تكذيبٌ لكلامه ؛ لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر طرد أبي ذر مِن المدينة في مقام المدح له ـ كما في ( الجامع

_______________________

(١) كنز العمّال ٥ : ٧٨٢ / ١٤٣٧٦ و ١٢ : ٢٥٦ / ٣٤٩٢٦ .

(٢) السراج المنير في شرح الجامع الصغير ٢ : ٤٦٤ .

(٣) تحصيل الكمال في أسماء رجال المشكاة ، لعبد الحقّ الدهلوي ترجمة أبي ذر .

٤٣٥

الصغير ) وغيره ـ فلو كان إخراجه بحقٍّ فأين موضع المدح ؟

وهذا مِن موارد تقديم القوم خلفائهم على رسول الله !!

وأمّا رابعاً : فإنّه كيف الجمع بين هذه القصّة ، وذلك التعظيم والتجليل الذي يذكرونه للصحابة عامّةً ، ويحرّمون تحقيرهم والتنكيل فيهم والطعن عليهم ، وينفون عنهم أيّة منقصة ، ويذمّون بل يكفّرون كلّ مَن ناقش في عدالتهم ؟

فعجيب أمر هؤلاء ، إنّما إذا أرادوا تثبيت الخلافة البكريّة جعلوا يبالغون في مدح الصحابة أقصى المبالغة ، ثمّ لمّا رأوا الصّحابة يطعنون في عثمان وخلافته رموهم بالقبيح وأفْتَوْا باستحقاقهم للهتك والضرب والطّرد !!

وأفرط بعضهم ـ كالشيخ وليّ الله الدهلوي في ( إزالة الخفا ) ـ في ذمّ أبي ذر ـ دفاعاً عن عثمان ـ فاتّهمه بأنّه قد أوجد ثلمة في القواعد الشرعيّة المقرّرة ، فلذا نفاه عثمان !!

فهكذا يتّهم أبا ذر... وينسى كلّ ما يقولونه في فضل الصحابة ، وما يرويه الفريقان في فضل أبي ذر خاصّة ؟ والحال أنّهم إذا سمعوا مثل هذا الكلام مِن بعض الإماميّة ولو بحقّ معاوية وعمرو بن العاص ، أقاموا الدنيا وأقعدوها ، لكونهما مِن الصحابة!!

لكنّ البعض الآخر يجعل السبب في طرد أبي ذر ( تزهيده الناس في الدنيا ) ؟! ففي ( تاريخ الخميس ) : ( قال ابن خلّكان وغيره... نفى أبا ذر الغفاري إلى الرَبَذَة ؛ لأنّه كان يزهّد الناس في الدنيا... )(١) .

_______________________

(١) تاريخ الخميس ٢ : ٢٥٩ .

٤٣٦

وهكذا في كتاب ( حياة الحيوان )(١) .

سبحان الله !! أصبح ( تزهيد الناس في الدنيا ) مجوّزاً للهتك وللطّرد مِن مدينة المصطفى ؟!

أفهكذا يُعتذر لخليفة المسلمين فيما أتى به مع هذا الصحابي العظيم ؟!

رواية أبي الليث السمرقندي في فضل أبي ذر الغفاري

ومِن التأييدات الإلهيّة والألطاف الربّانيّة : الرواية التالية التي يرويها الفقيه أبو الليث السمرقندي بأسانيده ، وهذا نصّها :

( حدّثني عبد الوهّاب بن محمّد الفضلاني بسمرقند بإسناده عن محمّد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن أبيه قال : قال عبد الله ابن مسعودرضي‌الله‌عنه :

لمّا خرج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى غزوة تبوك صَحِبَه رجال مِن المنافقين ، وكانوا يتخلّفون عنه الرجل والرجلان فيقولون : يا رسول الله ، تخلّف فلان فيقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :دعوه ؛ فمَن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله مِنه .

فقالوا : يا رسول الله ، تخلّف أبو ذر .

فقال :فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم .

وكان أبو ذر تخلّف ؛ لأنّه أبطأ بعيره فتلوّم بعيره فلمّا أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ، ثمّ رجع يتبع أثر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ماشياً حاملاً على ظهره في شدّة الحرّ وحده .

_______________________

(١) حياة الحيوان ١ : ٧٦ .

٤٣٧

قالوا : يا رسول الله ، أقبل إلينا رجل يمشي وحده .

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ليكن يا أبا ذر .

فلمّا تأمّله الناس قالوا : يا رسول الله ، هذا والله أبو ذر .

فدمعت عينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال :رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده .

قال محمّد بن إسحاق : فحدّثني بريدة بن سفيان الأسلمي عن محمّد بن كعب رض الله عنهم قال : لمّا سار أبو ذررضي‌الله‌عنه إلى الرَبَذَة في عهد عثمانرضي‌الله‌عنه وأصابه بها قدره ، ولم يكن معه إلاّ امرأته وغلامه ، فأوصى إليهما أن اغسلاني وكفّناني ، ثمّ ضعاني على قارعة الطريق ، فأوّل رَكْبٍ يمرّ عليكم فقولوا : هذا أبو ذر صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعينونا على دفنه .

فلمّا مات فَعَلا به ذلك ، ثمّ وضعاه على قارعة الطريق .

فأقبل عبد الله بن مسعودرضي‌الله‌عنه في رهط مِن العراق ، فلمّا رآهم الغلام قام إليهم فقال : هذا أبو ذر صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأعينونا على دفنه .

فأقبل ابن مسعودرضي‌الله‌عنه وهو يبكي رافعاً صوته ثمّ قال : صدق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك .

ثم وارَوْه ومَضَوْا وهو يحدّثهم بما قال رسول الله في مسيره إلى تبوك .

وعن أبان بن مسلم عن أبيه عن أبي ذر الغفاريرضي‌الله‌عنه : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :سيصيبك بعدي بلاء .

قال : قلت : في الله ؟

قال :في الله .

قلت : فمرحباً بأمر الله .

قال :يا أبا ذر ، اسمع وأطع ولو صلّيت خلف أسود .

فلمّا توفّي رسول الله واستخلف أبو بكررضي‌الله‌عنه ، دعاه فحباه وبكى فقال : قد سمعت قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيك ، فأعوذ بالله أن أكون صاحبك ـ يعني أعوذ بالله أن يصيبك البلاء بسببي أو في زماني ـ .

٤٣٨

فلمّا توفّي أبو بكررضي‌الله‌عنه وولّي عمر ، دعاه وأثنى عليه وقال : قد سمعت قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيك ، فأعوذ بالله أن يصيبك البلاء بسببي أو في زماني .

فلمّا توفّي عمررضي‌الله‌عنه وولّي عثمانرضي‌الله‌عنه ، قال عبد الله ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه : كنت قاعداً عند عثمانرضي‌الله‌عنه فاستأذن أبو ذررضي‌الله‌عنه .

فقلت : يا أمير المؤمِنين ، هذا أبو ذر يستأذن .

قال : ائذن له إن شئت .

قال : فأذنت له .

فدخل حتّى جلس فقال له عثمان : أنت الذي تزعم أنّك خير مِن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ؟

قال : ما قلت هذا .

قال : أنا أقيم عليك البيّنة .

قال أبو ذر نضَّر الله وجهه : لا أدري ما بيّنتك ، وقد علمت كيف قلت .

قال : كيف قلت ؟

قال : قلت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ أحبّكم إليّ وأقربكم الذي يأخذ بالعهد الذي تركته عليه حتّى يلحقني ، وكلّكم قد أصاب مِن الدنيا غيري .

قال عثمانرضي‌الله‌عنه : اِلحَقْ بمعاوية ، فأخرجه إلى الشام .

فلمّا قَدِمَ إلى الشام ، أخذ يعلّم الناس ، فأبكى عيونهم وأحزن صدورهم ، وكان فيما يقول : لا يبيتنّ أحدكم وفي بيته دينار ولا درهم إلاّ شيء ينفقه في سبيل الله أو يعدّه لغريم فأبكى معاوية والناس ، فبعث إليه بألف دينار ، فأراد أن يخالف قوله فعله وسريرته علانيته ، فأخذ الألف وقسّمه كلّه فلم يبق عنده شيء .

فدعى معاوية الرسول في اليوم الثاني فقال له : اذهب إلى أبي ذر وقل له : إنّما أرسلني بالألف دينار إلى غيرك فأخطأت ، فجاءه الرسول وقال له : أنقذني مِن عذاب معاوية ، فإنّما أرسلني بالألف إلى غيرك فأخطأت به فدفعته إليك فقال للرسول : اقرأ معاوية منّي السلام وقل له : ما أصبح عندنا مِن دنانيرك شيء ، فإن أردتها فأنظرنا ثلاثة أيّام نجمعها لك .

فلمّا رأى معاوية أنّ فعله يصدّق قوله كتب إلى عثمانرضي‌الله‌عنه : إن كان لك بالشام حاجة فأرسل إلى أبي ذر واستدعه.

٤٣٩

قال : فكتب عثمانرضي‌الله‌عنه أن اِلحَقْ بي .

قال : فقَدِمَ أبو ذر وعثمان في المسجد ، فأقبل حتّى سلّم عليه ، فردّعليه‌السلام وقال له :

كيف أنت يا أبا ذر ؟

قال : بخير .

ثمّ خرج عثمانرضي‌الله‌عنه فقال له : يا أبا ذر حدّثنا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال : نعم حدّثني حبيبيأنّ في الإبل صدقة ، وفي الزرع صدقة ، وفي الدرهم صدقة ، وفي الشاة صدقة ، ومَن بات وفي بيته دينار أو درهم لا يعدّه لغريمه أو ينفقه في سبيل الله فهو كنز يكوى به يوم القيامة .

قالوا : يا أبا ذر ، اتّق الله وانظر ما تحدّث ، فإنّ هذه الأموال قد فشت في الناس .

فقال : أما تقرؤون القرآن( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) فمكث ليلتين أو ثلاثاً .

فأرسل إليه عثمانرضي‌الله‌عنه فقال : اِلحَقْ بالرَبَذَة وهي قرية خربة .

فخرج إلى الرَبَذَة ، فوجدهم يؤمّهم أسود ، فقيل لأبي ذر : تقدّم ، فأبى وصلّى خلف الأسود وقال : صدق الله ورسوله ، قال لي :اسمع وأطع وإن صلّيت خلف الأسود .

ومكث هناك حتّى مات رحمه الله )(١) .

وفي هذه الأخبار فوائد :

مِنها : قول رسول للهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (رحم الله أبا ذر... ) فإنّه دليل على أنّ موت أبي ذر كذلك ، الواقع بأمر عثمان ، يعدّ مِن مناقبه ومآثره ، فيكون إخراجه ظلماً له وجَوْراً عليه .

ومِنها : قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر : (سيصيبك بعدي... ) وقوله في الجواب : ( فمرحباً بأمر الله... ) فإنّه نصّ قاطع على مزيد جَوْر

_______________________

(١) تنبيه الغافلين لأبي الليث السمرقندي : ٥٨٥ وما بعدها .

٤٤٠