حوار في التسامح والعنف

حوار في التسامح والعنف0%

حوار في التسامح والعنف مؤلف:
الناشر: مجلة ( الحياة الطيبة)
تصنيف: مكتبة الأسرة والمجتمع
الصفحات: 136

حوار في التسامح والعنف

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: معهد الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم )
الناشر: مجلة ( الحياة الطيبة)
تصنيف: الصفحات: 136
المشاهدات: 55107
تحميل: 6858

توضيحات:

حوار في التسامح والعنف
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 136 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55107 / تحميل: 6858
الحجم الحجم الحجم
حوار في التسامح والعنف

حوار في التسامح والعنف

مؤلف:
الناشر: مجلة ( الحياة الطيبة)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عمل بها علانية ولم يُغيّر عليه أضرّت بالعامّة )، قال جعفر بن محمدعليه‌السلام : ( وذلك أنّه يُذلّ بعمله دين الله، ويقتدي به أهل عداوة الله )(١) .

هذا هو حكم الله تعالى أوّلاً في مواجهة أئمة الظلم والطغاة والجبابرة، الذين يسعون في الأرض فساداً، وأمَّا الموازنة بين الأهمِّ والمهمِّ في الأحكام، فهو أمر ثانوي طارئ، وليس من الصحيح أن نستبدل الأحكام الأولية بالثانوية، إلاّ في مواقعه اللازمة والمحدودة في الفقه.

الدور السلبي لهذه الفتاوى :

ولقد كان لأمثال هذه الفتاوى دور سلبي في تاريخ الإسلام في دعم الحكّام الظلمة، وتشجيعهم على الإمعان في الظلم والإفساد، أوّلاً، وفي إخماد ثورة المظلومين والمعذَّبين، وإحباط حركات الثائرين ومقاومة الشعوب المستضعفة والمضطهدة ثانياً.

ولم يكن هؤلاء الحكَّام من أمثال معاوية ويزيد، والوليد، وعبد الملك، والحجاج، والمنصور، وهارون، والمتوكِّل، وغيرهم يستريحون إلى شيء، كما يستريحون إلى أمثال هذه الفتاوى، فكانوا يُمعنون في الظلم والفساد واقتراف الذنوب والمعاصي، وانتهاك الحُرمات، ويجدون في هذه الفتاوى دعة وراحة.

وقد كان هؤلاء الفقهاء يبالغون في تأكيد هذا الرأي، وتعميقه في المجتمع الإسلامي؛ إمعاناً في تطمين هؤلاء الحكّام من ناحية ثورات المظلومين وانتفاضاتهم.

____________________

(١) وسائل الشيعة، ج١١، ص٤٠٧.

١٢١

يقول سفيان الثوري لأحد تلاميذه : يا شعيب، لا ينفعك ما كتبت حتَّى ترى الصلاة خلف كل برٍّ وفاجر، والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، والصبر تحت لواء السلطان جار أم عدل.

سبحان الله !! كما لو كان إقرار الظالمين على ظلمهم، والسكوت عنهم، وتحمُّل إسرافهم وبذخهم في بيت المال، وإفسادهم للناس من أصول الدين، لا يُقبل منه عمله وسعيه إلاّ به !!!

ويقول علي بن المديني :لا يحلُّ لأحد يؤمن بالله أن يبيت ليلة إلاَّ عليه إمام، برَّاً كان أو فاجراً، فهو أمير المؤمنين، والغزو مع الأُمراء ماضٍ إلى يوم القيامة - البرّ والفاجر - لا يترك، وليس لأحد أن يطعن عليهم، ولا ينازعهم، ودفع الصدقات إليهم جائزة نافذة، قد بَرِئ مَن دفعها إليهم، وأجزأت عنه برَّاً كان أو فاجراً، وصلاة الجمعة خلفه، وخلف مَن ولاّه جائزة قائمة ركعتان، مَن أعادها فهو مبدع تارك للإيمان مخالف، وليس له من فضل الجمعة شيء إذا لم يَرَ الجمعة خلف الأئمة مَن كانوا - برَّهم وفاجرهم - والسنّة أن يصلّوا خلفهم، لا يكون في صدورهم حرج من ذلك

سبحان الله العظيم !! إنَّ هذا غاية ما يتمنَّاه الجبّارون المقترفون للإثم، المنتهكون لحرمات الله، الساعون في الأرض فساداً. ولا يقف صاحب الفتوى عند هذه الحدود، حتّى يبلغ أقصى ما يطلبه هؤلاء الظلمة المستكبرون، الذين يسعون في الأرض فساداً، فيقول :ثمَّ لا يَكُون في صِدُورِهِم حَرَجٌ مِنْ ذلِك .

ويزيد عليه شارح الطحاوية، فيقول :بل من الصبر على جورهم

١٢٢

تكفير السيّئات، ومضاعفة الأجور؛ فإنَّ الله تعالى ما سلَّطهم علنيا إلاّ لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل .

ولست أدري، أين تقع هذه الفتاوى من محكمات كتاب الله، التي تأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورفض الظالمين والكفر والطاغوت، وعصيان أمر الآثمين والظالمين، وعدم الركون إليهم ؟!! ومن قوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ) (١) ، فيسمِّي الله تعالى أولئك المستضعفين ب- ( الظالمين ) ويساوي بينهم وبين مَن ظلمهم؛ لأنَّهم رضخوا للظلم.

ويروي مالك بن دينار أنَّه جاء في بعض كتب الله :( أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي فلا تشغلوا أنفسكم بسبِّ الملوك، ولكن توبوا أعطِفُهُم عليكم ) .

وهذا الذي يرويه مالك بن دينار عن بعض كتب الله يعارض - صراحة وبوضوح - ما جاء في القرآن، فأيُّهما يختار مالك بن دينار الآيات الآتية : ( البقرة : ١٢٤ )، ( النساء : ٦٠ )، ( النساء ٩٧ )، ( الشعراء : ١٥١ - ١٥٢ )، ( الإنسان : ٢٤ ) ؟! أم ما قيل ورُوي عن بعض كتب الله ؟!

وإذا كان الأمر كذلك لبعض المصالح السياسية في عصرنا !! - وهو ليس كذلك - فلماذا نتستَّر على جرائم الطغاة والجبابرة في التاريخ ؟!!

يقول أحدهم -

____________________

(١) سورة النساء، الآية ٩٧.

١٢٣

في سياق الدفاع عن هذا الرأي والاحتجاج له بسكوت الصحابة والتابعين عن فجور يزيد، ومروان، والوليد، والحجَّاج، وعبد الملك يقول - :بعض الخلفاء الذين فيهم شيء من الظلم والجور أو الفسق، مثل يزيد بن معاوية ومروان (١) ،نعم في يزيد شيء من الظلم والجور فقط !

سبحان الله !! فما هو الظلم والجور والفسوق كلُّه يا ترى ؟!! إذا كان هذا الذي نعرفه من يزيد بن معاوية شيء من الظلم فقط !!!

ولم يكن لهذه الفتاوى دور التهدئة للثورات الشعبية، الحاصلة من تفاقم الظلم والاستبداد السياسي والبذخ والتبذير دائماً، فقد كانت تتفجّر هذه الثورات والانتفاضات - هنا وهناك - بصورة غير موجَّهة، وكانت لها آثار سيّئة وتخريبية واسعة مثل ثورة ( الزنج ) في العصر العبّاسي، وهو أمر طبيعي عندما يتخلَّى الفقهاء عن دورهم، الذي منحهم الله تعالى في قيادة وتوجيه حركة المظلومين والمستضعفين، ضدّ الظالمين والمستكبرين، وفي ردع الظالمين عن الظلم.

وسلام الله على أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام حيث يقول في تعريف ( العالِم ) : ( وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارُّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم )(٢) ، فإذا تخلَّى العالم عن دوره التوجيهي في توجيه وقيادة هذه

____________________

(١) الأدلَّة الشرعية في بيان حقِّ الراعي والرعيَّة، ص٣٩.

(٢) نهج البلاغة، ج١، ص٣٦، خطبة رقم ٣.

١٢٤

الحركة، يستلمها الغوغاء من الناس لا محالة، وتكون لها آثار تخريبية واسعة، بالضرورة كما حدث كثيراً في تاريخ الإسلام المدوّن.

كتاب الأدلَّة الشرعية في بيان حقوق الراعي والرعيَّة

ألّف الشيخ محمد بن عبد الله بن سبيل - إمام المسجد الحرام - رسالة مستقلّة في هذا الأمر، أكّد فيها - أبلغ التأكيد - حرمة الخروج على الحكّام، الذين يمارسون الظلم والفجور، ويسعون في الأرض فساداً، وينتهكون حدود الله وحرماته. ونحن نورد بعض كلمات الشيخ في هذا الأمر.

يقول الشيخ محمد بن سبيّل في هذه الرسالة :وتحريم الخروج عليهم ونزع الطاعة من أيديهم، سواء كانوا أئمة عدولاً صالحين، أم كانوا أئمة الجور والظلم، ما دام لم يخرجوا عن دائرة الإسلام؛ فإنّ الصبر على جور الأئمة وظلمهم، مع ما فيه من ضرر؛ فإنّه أخفُّ ضرراً وأيسر خطراً من ضرر الخروج عليهم، ولهذا جاء الأمر من الشارع بوجوب السمع والطاعة، وتحريم الخروج على الأئمة والولاة وإن جاروا وظلموا، إلاّ أن يرتكبوا كفراً بواحاً (١) .

ويقول في موضع آخر من رسالته :كما أنَّ على المسلم أن يتذكّر أنَّ طاعة ولاة الأمور من أجلِّ الطاعات وأفضل القربات، سواء كانوا أئمة عدولاً صالحين، أم كانوا من أئمة الجور والظلم، ما دام أنّهم لم يخرجوا عن دائرة

____________________

(١) الأدلّة الشرعية في بيان حقّ الراعي والرعيَّة، ص٢٧ - ٢٨.

١٢٥

الإسلام، فإنَّ طاعتهم في ما يأمرون به وينهون عنه من طاعة الله ورسوله (١) .

ويقول أيضاً في موضع آخر من هذه الرسالة :فقد دلَّت هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها كثير على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور في غير معصية، وتحريم الخروج عليهم ونزع الطاعة من أيديهم، وإن جاروا وظلموا، إلاّ أن يرى منهم كفراً بواحاً، كما يجب التنبيه إلى أنَّ عدم طاعتهم في المعصية لا يعني عدم طاعتهم مطلقاً، وإنّما المقصود عدم طاعتهم في الأمر الذي فيه معصية بخصوصه، مع وجوب السمع والطاعة فيما عدا ذلك، كما هو ظاهر الأحاديث .

وعلى ما ذُكر جرى اعتقاد وعمل السلف الصالح رضوان الله عليهم، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الإسلام المتبوعين، وغيرهم من العلماء المشهورين.

ويقول في موضع آخر من هذه الرسالة :فقد أنكر ابن عمر رضي‌الله‌عنه على ابن مطيع خروجه على الخليفة يزيد بن معاوية، مع ما كان عليه يزيد بن معاوية، كما أنّه قد تولَّى الخلافة والإمارة على بعض البلدان في عهد الصحابة - وهم متوافرون - بعض الخلفاء والأمراء الذين فيهم شيء من الظلم والجور والفسق، مثل يزيد بن معاوية [!!] ومروان بن الحكم، والوليد بن عقبة، والحجاج بن يوسف وغيرهم، ومع ذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم، كابن عمر، وابن مسعود، وأنس بن مالك، وهم من فضلاء الصحابة وخيارهم، يسمعون لهم، ويطيعون في المعروف، ويصلُّون خلفهم

____________________

(١) المصدر نفسه، ص٣١.

١٢٦

الجُمَع والأعياد، ولم يأمروا الناس بالخروج عليهم ونزع الطاعة من أيديهم، بسبب ما هم عليه من الجور والظلم أو الفسق، الذي لم يخرجهم عن الإسلام، بل كانوا يحثّون الناس على السمع والطاعة لهم في المعروف، والصبر على ما ينالهم من ظلم وجور؛ لما يعلمونه من وجوب السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، وإن جاروا وظلمو (١) .

إلى غير ذلك من الفتاوى التي يطلقها الشيخ في دعم وإسناد الظالمين.

ونحن نتمنَّى أن يتناول العلماء مسائل حسَّاسة وخطيرة من هذا النوع، بشيء أكثر من الدراسة الفقهية، آخذين بنظر الاعتبار وجهات النظر الأُخرى في هذه المسألة وأدلَّتها، ونتمنّى أن يُعيد العلماء النظر في هذه المسألة وأمثالها بدقَّة وجدِّية واهتمام.

إنَّ فتاوى وآراء فقهية من هذا القبيل، في عالمنا الإسلامي اليوم، تزيد من شراسة وظلم وإفساد الحكَّام الطغاة والظالمين، الذين يعيثون في الأرض فساداً.

إنَّ فتاوى فقهية من هذا القبيل، تَقِرُّ بها عين العتلِّ الزنيم صدام حسين، الذي أحرق المنطقة مرَّتين وأحرق العراق خلال هذه المدّة عشرات المرَّات، وتقرُّ بها عين كمال أتاتورك طاغية تركيا، وتقرُّ بها عين رضا بهلوي ومحمد رضا بهلوي طاغية إيران، وعين ( بورقيبة )، وعين طاغية مصر الذي قتل خيار المسلمين في مصر، وأمعن في اضطهادهم وعذابهم، وسجنهم وملاحقتهم وملاحقة عوائلهم، وأمثالهم من طغاة عصرنا، الذين يسعون في الأرض فساداً ،

____________________

(١) المصدر نفسه، ص٣٩ - ٤٠.

١٢٧

ويهلكون الحرث والنسل، ويُحاربون دين الله علانية وجهاراً، ويعذِّبون المؤمنين والمؤمنات، أبشع أنواع التعذيب، ويضطهدونهم بالعذاب والنكال، ويسفكون الدماء التي حرّمها الله تعالى بغير حق، وينتهكون حدود الله وحرماته، ويعيثون في الأرض، ويستكبرون استكباراً.

إنَّ أمثال هذه الفتاوى، تقرُّ بها عيون هؤلاء، وتقذى بها عيون المؤمنين الصالحين العاملين في سبيل الله.

نحن نرجو، ونتمنَّى للعلماء أن ينظروا إلى هذه المسائل بنظر أبعد وأعمق، وأكثر استيعاباً لروح هذا الدين وأصوله.

وفي نهاية الشوط لنا وقفة مع عبد الله بن عمر :

ويستوقفنا أمر عبد الله بن عمر في هذا الموقف، فهو من أشدِّ المدافعين عن هذا الرأي، وكان يتبنّاه ويُعلنه، ويدافع عنه.

روى مسلم في الصحيح(١) أنَّ عبد الله بن عمر قصد عبد الله بن مطيع، عندما كانت المدينة ثائرة متهيِّئة للخروج على يزيد، قبل وقعة الحرَّة، فيأمر له بوسادة، فيقول : إنّي لم آتك لأجلس، ولكن أتيتك لأحدِّثك بحديث سمعته عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ( مَن خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجّة له، ومَن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ).

ويمنعهم عن الخروج على يزيد، الذي عرف الناس جميعاً فسقه وفجوره، واستهتاره وانتهاكه لحدود الله وحرماته؛ وذلك لما سمع من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ) .

____________________

(١) صحيح مسلم، ج٦، ص٢٢. دار الفكر بيروت، كتاب الإمارة.

١٢٨

ولكن عبد الله نفسه، لمَّا دعاه أمير المؤمنين عليعليه‌السلام إلى البيعة امتنع وقال : لا أُبايع حتّى يُبايع الناس.

فقال لهعليه‌السلام : ( ائتني بحميل ) ( ضامن ). قال : لا أرى حميلاً. فقال الأشتر، خلِّ عنّي أضرب عنقه. قال عليعليه‌السلام : ( دعوه، أنا حميله، إنَّك - ما علمت - لَسيءُ الخلق صغيراً وكبيراً)(١) .

ولمَّا دعاه معاوية إلى بيعة ابنه يزيد، اعتذر، وقال :لا أُبايع لأميرَيْن في وقتٍ واحد (٢) - وهو عذر ضعيف - فلم يدعه معاوية لبيعة يزيد بأمرة المؤمنين حتّى يعتذر له بهذا العذر، وإنّما دعاه ليبايعه بولاية العهد، وكان أحرى به أن يمتنع بصراحة وشجاعة، كما امتنع الحسينعليه‌السلام .

فلمَّا أرسل إليه معاوية مائة ألف درهم، ودسَّ إليه مَن يدعوه إلى البيعة، لانَ عودُه، وقال :إنَّ ذاك لذاك [ يعني إنَّ هذا العطاء للبيعة ] إنَّ ديني عندي - إذاً - لرخيص (٣) .

ولم ينقل التاريخ عنه أنّه ردَّ المائة ألف، بعد أن علم ( أنَّ ذاك لذاك )، ولمَّا مات معاوية كتب ابن عمر إلى يزيد ببيعته(٤) .

ولم ينقل التاريخ أنَّ عبد الله بن عمر تغيَّر رأيه في شرعية بيعة يزيد، وفي يزيد حتّى بعد مصرع الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأنصاره، وحتّى بعد وقعة

____________________

(١) الطبري : تاريخ الطبري، ج٦، ص٣٠٦٨، حوادث سنة ٣٥، ط لندن.

(٢) فتح الباري، ج١٣، ص٦٠.

(٣) فتح الباري، ج١٣، ص٦٠.

(٤) المصدر نفسه، ج١٣، ص٦٠.

١٢٩

الحرَّة الرهيبة التي( أباح فيها مسلم بن عقبة المدينة ( قائد جيش يزيد ) المدينة ثلاثاً، فقتل جماعة من بقايا المهاجرين والأنصار، وخيار التابعين، وهم ألف وسبعمائة، وقتل من أخلاط الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان، وقتل بها جماعة من حَمَلة القرآن، وقتل جماعة صبراً، منهم معقل بن سنان، ومحمّد بن أبي الجهم، وجالت الخيل في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبايع الباقون كُرهاً على أنّهم خول ليزيد ) (١) .

بعد هذه المجازر والجرائم، لم يذكر لنا التاريخ أنَّ رأي عبد الله بن عمر قد تغيّر في يزيد وبيعته ( عليه لعنة الله ).

نعم، روى لنا التاريخ :أنَّ عبد الله بن عمر طرق الباب ليلاً على الحجاج ليبايع لعبد الملك؛ لكيلا يبيت تلك الليلة بلا إمام !! لأنّه روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَن مات، ولا إمام له مات ميتة جاهلية ) ، وبلغ من احتقار الحجَّاج له واسترذاله أن أخرج رجله من الفراش، فقال :أصفق بيدك عليها (٢) .

وهذا الذي كان يعجِّل في بيعة عبد الملك، ويحذر أن ينام ليلة، وليس في عنقه بيعة، ويطرق باب الحجاج ليلاً، ليبايع لعبد الملك، فيسفِّهه الحجاج ويحتقره، فيعطيه رجله، ليصفق عليها، هو الذي امتنع عن بيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام في المدينة، بعد مقتل عثمان بن عفّان، ورفض أن يقدِّم ضامناً على البيعة، وهو الذي كان يدعو أهل المدينة عندما انتفضت المدينة ضدَّ

____________________

(١) القسطلاني : إرشاد الباري، ج١٠، ص١٩٩.

(٢) ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة، ج١٣، ص٢٤٢.

١٣٠

يزيد، إلى الالتزام بالطاعة.

وحجَّ عبد الله بن عمر مع الحجَّاج فعيب عليه ذلك، وعُيِّر به لما كان يرتكبه الحجَّاج من الجرائم ويقترفه من دماء المسلمين، ودعي عبد الله أن ينزع يده عن طاعة الحجَّاج، فرفض عبد الله ذلك أشدَّ الرفض، وغلَّظ عليهم الإنكار !! وقال :لا أنزع يداً من طاعة . واحتجَّ إليهم بالحديث الذي تقدَّم.

اتِّجاهان في النهي عن المنكر :

هناك اتِّجاهان ورأيان في الإنكار على الحكّام الظلمة والطغاة وأئمة الجور :

الاتِّجاه الأوّل :

الاتِّجاه الذي يذهب إليه حملة هذا الرأي، وهو الطاعة وحضور الأعياد والجمعات، والتأييد والانقياد والاتباع وتحريم الخروج،وأمّا ما قد يقع من ولاة الأُمور من المعاصي والمخالفات، التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام، فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق، واتِّباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس .

ثمَّ يقول :واعتقاد أنَّ ذلك ( يعني التشنيع ) من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد. وهذا غلط فاحش وجهل ظاهر (١) .

____________________

(١) الأدلَّة الشرعية في الحق الراعي والرعيَّة، ٦٢ - ٦٣، والكلام للشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري من علماء الوهابية.

١٣١

وهيهات أن يرتدع طغاة عصرنا من أمثال أتاتورك وبهلوي وبورقيبة وصدام وغيرهم، وهم كثيرون، بأمثال هذه النصائح الرقيقة الوديعة.

الاتِّجاه الثاني :

بعكس ذلك يذهب إلى مقارعة أئمة الظلم والتشنيع عليهم، ورفضهم والكفر بهم، والنهي عن الركون إليهم، كما أمرنا الله تعالى، ففي خبر جابر، عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام : ( فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم، وصكُّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم )(١) .

وفي خبر يحيى الطويل، عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام : ( ما جعل الله بسط اللسان وكفّ اليد، ولكن جعلهما يُبسطان معاً ويُكفَّان معاً )(٢) .

وخطب أمير المؤمنين الناس بصفِّين فقال : ( أيّها المؤمنون، إنّه مَن رأى عدواناً يُعمل به، ومنكراً يُدعى إليه، فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومَن أنكره بلسانه فقد أُجر، وهو أفضل من صاحبه، ومَن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العُليا وكلمة الظالمين هي السُّفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، وقام على الطريق ونوّر بقلبه اليقين )(٣) .

____________________

(١) وسئل الشيعة، ج١١، ص٤٠٣.

(٢) وسائل الشيعة، ج١١، ص٤٠٤.

(٣) نهج البلاغة، حكمة ٣٧٣.

١٣٢

الحياة الطيِّبة : ما هو الثابت الإسلامي الذي قد يحلو للبعض تسميته بالضرورة، التي يؤدِّي إنكارها والاجتهاد فيها واعتبارها غير ثابتة، إلى الخروج من ربقة الإسلام، ويدعو الفقيه إلى إصدار حكم الارتداد على أهلها ؟ خاصة بالنظر إلى الواقع الإسلامي في أكثر من وسط ومجتمع إسلامي، وما يشهده من تفشِّي ظاهرة الحكم بالارتداد على الكثيرين هنا وهناك، كلّ ذلك تحت حجَّة خروج هذا المفكِّر وذاك الفقيه من رقعة الدين، بذريعة معارضة ثوابت الشريعة وضروراتها الفقهية ! يبدو أنَّنا في أمسِّ الحاجة اليوم إلى محاولات جادَّة، تساعدنا على منهجة إبداء الرأي، وقوننة الحديث عن هذا الموضوع الشائك؛ بغية إعادة الاعتبار إلى الفكر الإسلامي، الذي خسر بعضاً من وجهه المتسالم والمتسامح لحساب تصويره في شكل العنف والخشونة وقمع الحرِّيّات ؟

الشيخ الآصفي : الإسلام هو الإقرار بالشهادتين ( التوحيد والرسالة ). ويذبُّ أستاذنا المحقِّق السيد الخوئيرحمه‌الله إلى إلحاق الإقرار باليوم الآخر بالإسلام، استناداً لقوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) (١) ، وآيات أخرى من هذا القبيل، بناء على أنَّ عطف الإيمان باليوم الآخر على الإيمان بالله، يدلُّ على أنَّ الإيمان

____________________

(١) سورة النساء : الآية ٥٩.

١٣٣

باليوم الآخر شرط في الإيمان، والإقرار به شرط في الإسلام، ولا يتحقَّق الإيمان والإسلام من دونه.

ومن ( ضروريات الإسلام ) الأمور التي يساوق إنكارها إنكار الرسالة، مثل إنكار وجوب الصلاة، ووجوب صيام شهر رمضان، وإنكار وجوب الحج وأمثال ذلك، ممَّا يعدُّ إنكاره إنكاراً للرسالة وتكذيباً للنبي.

وما لم يكن كذلك، فليس من ضروريات الدين؛ فليس إنكار حرمة بعض المنكرات، واستحلالها يؤدِّي إلى الخروج عن الإسلام، وإن كان عن اجتهاد خاطئ، وعلى خلاف معايير الاجتهاد، وبناء على التعريف المتقدِّم للإسلام، وللضروريات، فمَن أنكر أمراً ضرورياً من ضروريات الدين خرج عن الإسلام، وما لم يكن الأمر كذلك لا يكون إنكاره خروجاً على الدين وإنكاراً للرسالة.

ولا بدَّ من إضافة قيد إلى ذلك، وهو أن يكون المنكِر مُنتبهاً إلى التلازم بين إنكار الضروريات وإنكار الرسالة.

وعليه؛ فإنَّ الموارد التي يصحُّ فيها التكفير والحكم بخروج صاحبها عن الإسلام محدودة جدَّاً، ولا يصحُّ انتهاك حرمات الناس وسلب الإسلام والإيمان عنهم بسبب الاختلاف في الرأي والعقيدة.

ومن أكبر المنكرات في الإسلام نفي الإسلام عن فرد أو عن طائفة من المسلمين، بسبب اختلاف في الرأي والعقيدة.

١٣٤

الفهرس

حوار في التسامح والعنف سلسلة تهتمُّ بمعالجة قضايا فكرية مُعاصرة تصدر عن معهد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العالي للشريعة والدراسات الإسلامية. بيروت ١

كتاب الحياة الطيِّبة ٣

حوار في التسامح والعنف نظرة إسلامية ٥

الجهاد والعُنف : ١٢

الرحمة والعُنف وجهان لقضيّة واحدة : تفسير العُنف : ١٤

رأي العلاَّمة الطباطبائي في الميزان : ١٧

المناقشة : ١٨

دور أئمة الكُفر في إحباط مشاريع هذا الدين : ٢١

القتال لإزالة الفتنة والإعاقة عن طريق الدين : ٢٢

البُعد الواقعي والموضوعي في أحكام هذا الدين : ٢٣

رؤية أهل البيت إلى الفتوحات العسكرية صدر الإسلام : ٢٤

الحالة المرحليَّة في تشريعات الدعوة والجهاد : ٢٧

المراحل الأربع في نصوص الدعوة والجهاد : ٢٨

آية براءة ناسخة لآيتَي الأنفال والنساء : ٣٠

العقود والاتفاقيات الدولية من صلاحيات الحاكم : ٣٤

كلمات الفقهاء في العقود والاتفاقيّات الدوليّة : ٣٥

الأصل القرآني في شرعية العهد : ٣٨

الأمر بالوفاء بالعهد وحرمة الغدر في الشريعة : ٤٠

حرمة مال المعاهد ودمه : ٤٣

١٣٥

شرط شرعية العقود والاتفاقيّات الدولية : ٤٤

الرأي المختار : ٥٠

الأحكام المتعلّقة بالأساس الأوّل : ٥١

وجوب جهاد الطغاة في الأحاديث : ٦٦

وجوب جهاد الطغاة من سيرة أهل البيت عليهم‌السلام : ٦٨

الرأي الآخر : ٦٩

٢ - تحريم إعانة الحاكم الظالم ٩٥

٣ - الإجماع ومناقشته : ١٠٠

نماذج أُخر من سيرة المسلمين في الخروج على الحكَّام الظلمة : ١١٢

مخالفة الفقهاء لدعوى الإجماع : ١١٣

الدور السلبي لهذه الفتاوى : ١٢١

كتاب الأدلَّة الشرعية في بيان حقوق الراعي والرعيَّة ١٢٥

اتِّجاهان في النهي عن المنكر : ١٣١

الفهرس ١٣٥

١٣٦