الشيعة في التاريخ

الشيعة في التاريخ18%

الشيعة في التاريخ مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 216

الشيعة في التاريخ
  • البداية
  • السابق
  • 216 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65725 / تحميل: 7766
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في التاريخ

الشيعة في التاريخ

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

وكانت تعتقد أيضاً أنَّه لو تولَّى الخلافة، لقضى على آمالها وشهواتها، ولحملها على مرِّ الحقِّ الذي لم تتذوَّقه.

وكان لديها أمر آخر لا يغيب عن مفكرِّتها - وإِنْ أخفته خوفاً من (الدرَّة) أيَّام الثاني، ولتلهِّيها بالحكم ونيل الآمال أيَّام الثالث - وذلك الأمر هو: ثأر أقربائها عند علي الذي أفنى أكثرهم أيَّام بدر وأُحد وحنين وغيرها، كما هو معروف في التاريخ؛

(جاء الوليد بن عقبة إِلى عليّ(ع)، فقال: يا أبا الحسن، إِنّك قد وترتنا جميعاً. أمَّا أنا، فقد قتلت أبي يوم بدر صبراً، وأمَّا سعيد بن العاص، فقتلت أباه يوم بدر، وأمَّا مروان بن الحكم، فسخَّفت أباه عند عثمان إذ ضمَّه إِليه، ونحن نبايعك على أن تضع عنَّا ما أصبناه من المال أيَّام عثمان ...)(١) .

وعادة الأخذ بالثأر كان لها الأهمية العظمى عند العرب أيَّام الجاهلية، وبقيت عندهم حتّى في أيّام عزِّ الإِسلام وقوَّة الدين الذي حرَّم ذلك أشدَّ تحريم.

وقد حدَّثنا التاريخ عن قتل (جفينة والهرمزان) بمجرَّد اتهامهما بالممالأة على قتل الخليفة الثاني(رض). وزد على ذلك أنّ تلك الفئة لم تكن مخلصة في تديُّنها ولا دخل الدين قلبها تماماً حتّى يُنسيها العادات الجاهلية، وحتّى يحجزها عن الشرِّ وقلب ظهر المجن للمسلمين، وحتّى يمسكها من الانشقاق عن الأمَّة الإسلامية التي اجتمعت حول عليّ(ع) وبايعته.

فلا غرابة إِذن في مناهضتها له وسبِّها إِيَّاه على المنابر؛ رغم قول النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم):((من سبَّ عليَّاً فقد سبَّني)) (٢) ، ولكن من الغرابة بمكان قيام عمرو بن العاص معها يطالب بدم عثمان وله السهم الأوفى في التحريض عليه حتّى أنَّه اعترف بقتله في قوله لمـّا بلغه قتله: (أنا قتلته وأنا بوادي السباع)(٣) .

____________________

(١) شرح النهج، ج٢، ص١٧٢.

(٢) السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص١٧، والصواعق، ص٧٦.

(٣) تاريخ، ابن الأثير، ج٣، ص١٠٩.

١٤١

ثُمَّ أخذ يتباكى عليه ويناصر مَن اتخذ هذه الواقعة (المدبَّرة) وسيلة إلى مآربه

الشخصية(١) . ولا ريب في أنَّ الدافع لعمرو على ذلك ليس الحبُّ لعثمان ولا لمعاوية، وإنّما الدافع القوي له، هو طعمه في دنيا معاوية وحبَّه التشنيع على أمير المؤمنين(ع)؛ ولذلك (قال لعائشة (رض): لوددت أَنّكِ كنت قُتلت يوم الجمل. فقالت: ولِم لا أباً لك؟ قال: كنت تموتين وتدخلين الجنة، ونجعلك أكبر التشنيع على عليّ)(٢) .

وعمرو هو الذي أشار على معاوية بنشر قميص عثمان على منبر الشام ليثير حنق أهلها على مَن (كان من أكبر المساعدين لعثمان والذَّابِّين عنه. وما زال عثمان يلجأ إِليه في دفع الناس عنه، فيقوم في دفعهم القيام المحمود)(٣) .

كلُّ هذا فعله عليّ(ع) في سبيل عثمان وهم كانوا بين محرِّض عليه وخاذل له(٤) . وقد ذكرنا سابقاً كتاب عثمان إِلى معاوية يستنصره فيه على الصحابة، وذكرنا إِخفاء معاوية الكتاب عن أهل الشام؛ لئلا يعلموا تخاذله عن نصرته فلا يتمكَّن بعدئذ من سوقهم لحرب عليّ واتهامه وحده بدم عثمان والممالأة عليه.

وإنَّ معاوية وزملاءه كانوا يعلمون أنّ الذين قتلوا عثمان كانوا اثنين أو ثلاثة من أهل مصر، وأنَّ اثنين منهم قُتلا في دار عثمان فوراً ( كما في شرح النهج/ ج١/

____________________

(١) يدلُّنا على ذلك أنّ معاوية لم يطالب أحداً بدم عثمان بعد نيل مراده، ولم يتعرَّض لمـَن أطاعه من المولِّبين عليه، بل قرَّب أكثرهم وأكرمهم، ولمَّا (دخل دار عثمان بعد عام الجماعة، صاحت عائشة ابنة عثمان وبكت ونادت أباها، فقال لها معاوية: لئن تكوني ابنة عمِّ أمير المؤمنين خير من أن تكوني من عرض الناس) (العقد الفريد، ج٣، ص١٢٦). نعم لم يتعرَّض لأعداء أبيها، ولا وعدها بشيء من ذلك، بل أراد إقناعها بأنّه صار أمير المؤمنين!

(٢) المبرَّد، تهذيب الكامل، ج١، ص٢٩٧.

(٣) الفخري في الآداب السلطانية، ص٧٧.

(٤) يشهد الشهرستاني (المِلل، ج١، ص١١) أنّه كان أمراء جنود عثمان: (معاوية عامل الشام، وسعد بن أبي وقَّاص عامل الكوفة، وبعده الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وعبد الله بن عامر عامل البصرة، وعبد الله بن أبي سرح عامل مصر، وكلُّهم خذلوه ورفضوه حتّى أتى قدره عليه).

١٤٢

ص١٦٨)، وأنّ الثالث قُتل في مصر مع ابن أبي حذيفة قبل واقعة صِفِّين (كما في المقريزي، الخطط، ج٤، ص١٤٩). ويعلمون أيضاً براءة عليّ من دم عثمان، ولكن الإِمرة والملك العضوض وضعف التديُّن هي وحدها - لا دم عثمان - التي دعتهم وحفَّزتم لحرب مَن كان (مع الحق في جميع أحواله، يدور الحق معه حيث دار)(١) .

ولولا الاستعانة على حرب عليّ(ع)، لمـَا سخى معاوية بمصر(٢) وجعلها طعمة لابن العاص، كما أنّ ابن العاص - لولا ولاية مصر - لم يُعن معاوية تلك الإِعانة المخزية في صِفِّين حتّى أبدى سوأته(٣) لينجو من (ذي الفقار)

____________________

(١) ملل الشهرستاني ج١ ص٥٨

(٢) يقول في العقد الفريد (ج٣، ص١١٣): (علم معاوية - والله - إِنْ لم يبايعه عمرو بن العاص، لم يتم له أمر. فقال له: يا عمرو، اتبعني فيها، قال: لماذا؟ للآخرة؟ فوالله، ما معك آخرة، أم للدنيا؟ فو الله، لا كان حتّى أكون شريكك فيها، قال معاوية: أنت شريكي، قال عمرو: فاكتب لي مصر وكورها، فكتبها له. وكتب في آخر الكتاب( وعلى عمرو الطاعة والسمع). قال عمرو: واكتب أنّهما لا ينقصان من شرطه شيئاً، قال معاوية: لا ينظر الناس إلى هذا، قال عمرو: حتّى تكتب، فكتب معاوية. ووالله لا يجد بداً من كتابتها. ودخل عتبة بن أبي سفيان على معاوية وهو يكلِّم عمراً في مصر، وعمرو يقول له: إِنَّما أبايعك بها ديني. وإلى ذلك يشير عمرو في قوله:

معاوي لا أُعطيك ديني ولم أنل

به منك ديناً فانظرن كيف تصنع

(٣) ذكر المؤرِّخون مبارزة عمرو بن العاص لأمير المؤمنين(ع) وأنَّه لمـّا همَّ أن يعلو عمراً بالسيف، كشف عمرو عن سوأته، فتنحى عنه أمير المؤمنين ومال بطرفه؛ تكرماً وحياءً من هذا المنظر المعيب المخجل. وكذلك فعل بسرُ بن أَرطاة لمـّا صرعه أمير المؤمنين. وقد ضرب بهذه المكرمة العلوية المثل، وُعدَّ عفوه عنهما من المكارم والسؤدد. وللشعراء فيهما أبيات شهيرة؛ منها قول أبي فراس الحمداني:

وَلا خَيرَ في دَفعِ الرَدى بِمَذَلَّةٍ

كَما رَدَّها يَوماً بِسَوءَتِهِ عَمروُ

وقول ابن منير الطرابلسي في وصف عمرو:

بَطلٌ بسَوْأتِه يُقا

بَطلٌ بسَوْأتِه يُقا

وقول الحرث الخثمعي يخاطب معاوية:

أفي كلِّ يومٍ فارسٌ لك ينتهي

وعورتُه وسطَ العجاجةِ بادية؟

=

١٤٣

الذي سلَّ عليه، وليرى ولاية مصر التي كانت تعدل - بنظره - الخلافة.

يقول المقريزي: (وكان يقول عمرو بن العاص: ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة)(١) .

هذه بعض أعمالهم في سبيل المـُلك وهذه أنانيَّتهم الذميمة في الإِمرة.

وفي سبيل الملك استلحق معاويةُ زيادَ بن عبيد الرومي، وقَتل صبراً حجر بن عدي الكندي الصحابي الجليل؛ (وهو أوّل من قتل صبراً في الإِسلام)(٢) . وقد نقم جماعة من المسلمين على معاوية هذه الأحداث العظيمة في الإِسلام، كان أشدَّهم الحسن البصري، القائل: (أربع خصال كنَّ في معاوية لو لم تكن فيه إِلاّ واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأُمّة بالسيف، واستخلافه بعده ابنه يزيد سكِّيراً خمِّيراً، يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً؛ وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):((الولد للفراش، وللعاهر الحجر)) ، وقتله حجر بن عدي وأصحابه. فيا ويلاً له من حجر وأصحاب حجر(٣) .

وما لنا نسهب في الكلام ونذهب بعيداً في الاستدلال ولدينا إِيواء معاوية لابن العاص الذي يعلم بتحريضه الشديد على عثمان، فإِنّه أكبر دليل على أنّه ما أراد بخروجه على الإِمام دم عثمان؛ وإِنّما أراد المـُلك العضوض الذي حرص عليه وبذل جهده في سبيل احتكاره لولده يزيد، غير مكترث بما ينال الإِسلام والمسلمين من هذا الاحتكار البغيض، وبما ينجم عنه من الفتن التي تُودِي بالملك وتزعزعه من أساسه، وتوجب قتل الأخ لأخيه في سبيله.

____________________

=

يكف لها عنه عليُ سنانَه

ويضحك منها في الخلاء معاوية

فقولا لعمرو ثُمَّ بسر ألا انظرا

لنفسكما لا تلقيا الليث ثانية

ولا تحمدا إلاَّ الحيا وخصاكما

هما كانتا والله للنفس واقيه

(١) الخطط، ج١، ص٢٧١.

(٢) مروج الذهب، ج١، ص٥٤.

(٣) تاريخ إِبن الأثير، ج٣، ص١٩٣، ومحاضرات الراغب الأصبهاني، ج٢، ص٢١٣.

١٤٤

٥ - مناهضة المسلمين لبني أميّة والسرُّ في ذلك؟

تذكر الآن ما قدَّمناه قبل صفحات من سيرة النبيّ العظيم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقوانينه العادلة التي سار على ضوئها الوهَّاج خلفاؤه الراشدون(رض) وتذكر أيضاً سيرة ابن أبي سفيان وابنه يزيد وأمثال يزيد من آل مروان (أولئك الذين استبدوا بالسلطة، وجعلوا الرعيَّة وأموالها مُلكاً لهم يتوارثونها ويتصرَّفون فيها بما شاءوا حتّى إِذا ظهر فيهم عادل يحاول وضع الحقِّ موضعه، كمعاوية الأصغر وعمر بن عبد العزيز(١) ، ألزموه بقوَّة العصبية على أن يجري في طريقهم أو يُخلع من المـُلك(٢) .

أضف إِلى ذلك، امتهانهم لأئمّة الحديث والفقه وبيعهم لأحرار العرب(٣) الذين خدموهم أكبر خدمة وأيَّدوا ملكهم ونصبوا لأجلهم العداء لأهل البيت(ع).

____________________

(١) (كان عمر هذا مِن أعدل بني مروان؛ ولذا أحبَّه الناس وجنحوا في أيَّامه إلى السكينة. وكان يرأف بشيعة الكوفة، ويكتب إلى عامله بالعراق: (أمّا بعد، فإِنّ أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدَّة وجور في أحكام الله وسنة خبيثة سنها عليهم عمَّال السوء). تاريخ ابن الأثير، ج٥، ص٢٣. (وتوفّي عمر سنة ١٠١هـ بالسمِّ عند أكثر أهل النقل. فإِنَّ بني أميّة علموا إِنْ امتدَّت أيَّامه، أخرج الأمر من أيديهم، ولا يعهده بعده إِلاّ لمـَن يصلح للأمر، فعاجلوه وما أمهلوه). انظر: تاريخ أبي الفداء، ج١، ص٢٠١. وأمَّا ابن الأثير، فيجزم (بأن بني أميّة خافوا أن يخرج ما بأيديهم من أموال، وأن يخلع يزيد من ولاية العهد، فوضعوا على عمر مَن سقاه سمَّاً، فلم يلبث حتَّى مرض ومات). الكامل في التاريخ، ج٥، ص١٨.

(٢) من مقال لصاحب المنار، ج٦، ص٢٤.

(٣) يحدِّثنا الطبري وابن الأثير: (أنَّ الوليد بن يزيد جلس للناس ويوسف بن عمر عنده، فأرسل الوليد إِلى خالد بن عبد الله القسري: أنّ يوسف يشتريك بخمسين ألف ألف، فإِنْ كنت تضمنها وإِلاَّ دفعتك إِليه، فقال خالد: ما عهدتُ العرب تُباع. فدفعه إِلى يوسف، فنزعه يوسف ثيابه ودرَّعه عباءة ولحَّفه بأخرى، وحمله في محمل بغير وطاء، ثُم ارتحل به نحو الحيرة، فلمَّا وصل أتى بخالد، فدعا بعود، فوضع على قدمي خالد، ثُمَّ قامت عليه الرجال تضربه حتّى تكسَّرت قدماه، ثُمَّ على ساقيه حتّى كسَّرتا، ثُمَّ على حقويه، ثُمَّ على صدره حتّى مات ودفن بعباءته بناحية الحيرة سنة ١٢٦ هـ. تاريخ الطبري، مجلّد ٥، ص١٠٣، والكامل في التاريخ، ج٩، ص٢١.

١٤٥

نعم، تذكر كلتا السيرتين وقارن بينهما ليتضح لديك السرُّ في مناهضة الأمّة الإِسلامية جمعاء لبني أميّة، لا خصوص الشيعة كما يلوح من كلام الرحَّالة ثابت.

يدلُّك على ذلك التعميم نهضةُ المدينة المنوَّرة بعد نهضة الحسين المباركة، ولمـّا خمدت نهضة المدنية (أباحها قائد يزيد بن معاوية ثلاثة أيّام لأهل الشام؛ يفسقون بالنساء، ويقتلون فيها الناس حتّى قتل من وجوه المهاجرين والأنصار سبعمائة ومن وجوه الموالي عشرة آلاف. ثُمَّ إن قائد يزيد بايع مَن بقي من الناس على أنّهم خول وعبيد ليزيد بن معاوية)(١) .

ويقول إِبن قتيبة: (قُتل في المدينة مِن النساء والصبيان عدد كثير. وكان الجند يأخذ برِجل الرضيع فيجذبه من أمِّه ويضرب به الحائط فينتشر دماغه على الأرض وأمُّه

تنظر إِليه(٢) . ويقول الفخري: (إِنّ الرجل من أهل المدينة كان إذا زوَّج ابنته، لا يضمن بكارتها؛ لعلها قد افتضت في وقعة الحرَّة)(٣) حيث (افتُض فيها ألف عذراء من بنات المهاجرين والأنصار)(٤) .

فاهتاجت لذلك ولغيره مكَّة المكرَّمة، وتحصَّن أهلها في البيت الحرام؛ آملين أن يراعي الأمويُّون حرمة هذا البيت، المقدَّس حتّى عند الجاهلية الأولى، ولكنَّ الحصين بن نمير؛ قائد الجيش الأموي، قد خيَّب أمل المكِّيِّين؛ وراح يقذف الكعبة المشرَّفة التي التجأوا إِليها بالمنجنيق والنار.

وأهل المدينة ومكَّة كان أكثرهم يومئذ - إِنْ لم نقل كلَّهم - مِن غير الشيعة، بل كان الرئيس في مكّة عبد الله بن الزبير، وميله عن عليّ وشيعته مشهور معروف(٥) .

____________________

(١) تاريخ أبو الفداء، مجلَّد ١، ص١٩٢.

(٢) الإمامة والسياسة، ص٢٠٠.

(٣) الإمامة والسياسة، ص١٠٥.

(٤) السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص٩٩.

(٥) انظر: العقد الفريد، مجلّد ٣، ص١٥٧؛ تجد إِسقاطه اسم النبيِّ(ص) من الخطبة أربعين جمعة؛ لئلا يفتخر بذكره قومه. وانظر: المبرَّد، تهذيب الكامل، مجلّد ١، ص١٤٩؛ تجد بغض ابن الزبير للعلويِّين وسجنه لهم في سجن عارم وعزمه على حرقهم فيه.

١٤٦

ومثله محمد بن الأشعث الذي نهض في مرج راهط ضد عبد الملك بن مروان.

٦ - نهضة الشيعة ضد بني أمية وأسبابها:

كانت باكورة النهضات ضدَّ الأمويِّين (بعد معاوية) نهضة الشيعة كما علمت. نهضوا مع سيِّد الأباة وسبط الرسالة إِمامهم الحسين بن علي (عليهما السلام)، وردّدوا قوله:((لا أرى الموت إِلا سعادة والحياة مع الظالمين إِلاَّ برما)) .

وقد أجملنا أسباب هذه النهضة الشريفة في ضمن الكلام عن مقتل الحسين وأصحابه فلا حاجة إِلى الإِعادة. وإنَّما نحن بحاجة إِلى التنبيه على أنّ هذه النهضة الحسينية هي التي نبَّهت الأفكار، وحفَّزت الهمم الخامدة، وجرَّأت الأمَّة الإسلامية على الجهر بإِنكار ما رأته من أعمال الأمويّين المنافية لقوانين الدين الحنيف، وعلى إِباء الذل والخنوع والضغط والاضطهاد؛ ولذلك نرى تتابع النهضات الإسلامية على أثر النهضة الحسينية الواحدة تِلو الأخرى، ونرى بعض الزعماء يفتخرون بالتأسِّي بسنة الحسين(ع) حتّى أنّ مصعب بن الزبير كان يُثبّت نفسه على حرب عبد الملك بقوله:

وإنّ الألى بالطف من آل هاشم

تأسُّوا فسنوا للكرام التأسِّيا

وكانت أوَّل نهضة شيعية بعد الحسين(ع) هي نهضة التوَّابين، ثُمَّ نهضة شيعة الكوفة مع المختار. وكان السبب لهاتين النهضتين مزدوجاً؛ من الأخذ بالثأر ومن كراهيّة الحياة بالذل واحتمال الضغط والاضطهاد.

وبعدهما نهض زيد بن عليّ بن الحسين (عليهم السلام)، وكانت نهضته كنهضة جدِّه في أيّام قوَّة الدولة الأمويَّة وميعة صباها، وسعة سلطانها، فقول الرحَّالة المصري: (لكن لمـَّا قويت الدولة الأموية اختفت الشيعة) بعيد عن الصواب.

وسبب نهضة زيد - على ما أرى - هو ما رآه من ظلم هشام بن عبد الملك وخالد القسري ويوسف بن عمر وعبثهم بحقوق الأمَّة وهتكهم نواميس الشرع، واحتقار هشام بالخصوص لزيد وأخيه الإِمام الباقر (عليهما السلام)

١٤٧

حتّى أنَّه (لمَّا دخل زيد على هشام، قال له: ما فعل أخوك البقرة؟ فغضب زيد حتّى كاد يخرج من إِهابه، ثُمَّ قال لهشام: سمَّاه رسول الله باقراً وتسمِّيه أنت البقرة! لشدَّ ما اختلفتما. لتخالفنه في الآخرة كما خالفته في الدنيا. فقال هشام: خذوا بيد هذا الأحمق المائق)(١) .

(فخرج زيد من عند هشام، وهو يقول: ما كره قوم قط جرَّ السيوف إِلاَّ ذلُّو)(٢) ويؤيِّد كون السبب في نهضة زيد ما رآه مِن ظلم القوم وفسقهم ما رواه المقريزي؛ قال: (سئل جعفر بن محمد الصادق عن خروج زيد، قال:((خرج على ما خرج عليه آباؤه)) (٣) .

ويرى الخضري المصري: (أنّ سبب خروج زيد بن عليّ؛ هو ظلم يوسف بن عمر وسوء

تدبيره)(٤) ، والأقرب ما تقدَّم. وما ذكره الخضري من جملة الأسباب الأولى لا أنَّه سبب وحده.

ثُمَّ إنَّا لا ننكر أنَّ الشيعة كما ناهضوا الدولة الأموية أيّام قوَّتها ناهضوها أيضاً أيّام ضعفها وبدء اضمحلالها؛ فهذا يحيى بن زيد المتقدِّم ذكره قد نهض أيّام ضعف الدولة والدين أيضاً، وناهض في سنة ١٢٥ هـ الوليد بن يزيد بن عبد الملك المخاطب لكتاب الله العزيز بعد أن ألقاه (ورماه بالسهام:

تُهدِّدني بجبار عنيد

فها أنا ذاك جبارٌ عنيد

إِذا ما جئت ربَّك يوم حشر

فقلْ: يا ربِّ مزَّقني الوليد)(٥)

ومع هذا القول يعدُّونه - وياللأسف - من خلفاء الإِسلام، ويعدُّون الخروج عليه جريمة لا تغتفر وخطأً عظيماً كما عدَّ بعضهم خروج الحسين على يزيد سلف الوليد من هذا القبيل.

____________________

(١) عيون الأخبار، مجلّد ١، ص٢١٢، وشرح النهج، مجلّد ١، ص٣١٥؛ (بتلخيص).

(٢) المقريزي، الخطط، مجلّد ٤، ص٣٠٩.

(٣) الخطط، مجلّد ٤، ص٣٠٧.

(٤) المحاضرات، ص٦١٠.

(٥) تاريخ ابن الأثير، مجلّد ٥، ص١٠٧. ويقول السيوطي(تاريخ الخلفاء، ص٩٧): (إنَّ الوليد هذا كان فاسقاً خِمِّيراً لوَّاطاً؛ راود أخاه سليمان عن نفسه، ونكح زوجات أبيه).

١٤٨

وأمَّا خروج معاوية على أبي الحسين، فهو بنظر البعض لمصلحة الأمَّة. وهذا، بلا ريب، تعصبٌ ذميم، وخروج عن جادَّة الإِنصاف.

وأيُّ مصلحة رأت الأمَّة في خروج معاوية وفي سبِّه أهل البيت على منبر جدِّهم(ص) حتّى أوغر بذلك صدور الشيعة وجعلهم يترَّبصون الفرص للنهضة ضدَّ الدولة الأموية، بل أيُّ مصلحة للإسلام في أنْ (يقول جماعة معاوية لحجر بن عدي وأصحابه: إِنّا أُمرنا أنْ نعرض عليكم البراءة من عليٍّ واللعن له. فإِن فعلتم، تركناكم، وإِن أبيتم، قتلناكم. فقالوا: لسنا فاعلي ذلك(...) فحُفرت لهم القبور، وأُحضرت الأكفان، وقام حجر وأصحابه يصلَّون عامَّة الليل، فلما كان الغد قدموا (...) فقتلوا)(١) .

حكى ذلك ابن الاثير، ثُمَّ شفع هذه الحكاية الفظيعة بأفظع منها؛ قال: (قال معاوية لكريم الخثعمي: ما تقول في عليّ؟ قال: أقول فيه قولك. قال معاوية: أتبرأ من دين عليٍّ الذي يدين الله به؟ فسكت الخثعمي)(٢) .

وحقَّ له السكوت؛ لانَّ عليَّاً لم يدن بغير دين الإسلام في حياته كلِّها، بل (والله، لولا سيفه، لمـَا قام عمود الإسلام، وهو بعد أقضى الأمَّة وذو سابقتها وذو شرفها)(٣) بل

(ولولا أبو طالب وأبنه

لمَا مَثُل الدين شخصاً فقاما

فذاك بمكة آوى وحامى

وهذا بيثرب جسَّ الحساما)(٤)

وعلى الإِجمال، فإِنَّ هذه السُّنَّة السيئة؛ سُنَّة السبِّ، كانت متَّبعة عند الأمويِّين، وهي السبب الرئيسي لأكثر نهضات الشيعة الذين كانوا يسمعون سبَّ أئمَّتهم جهاراً من بني أميَّة وعمَّالهم، أمثال، زياد وأبنه، وخالد القسري، ويوسف بن عمر، والحجَّاج بن يوسف الذي قال عنه عمر بن عبد العزيز: (لو جاءت كلُّ

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير، مجلّد ٣، ص١٩٢، والأغاني، ج١٦، ص٩.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) قال ذلك عمر بن الخطاب(رض) في جواب مَن نسب عليَّاً أمامَه إِلى التيه، فقال له: حقٌّ لمثله أن يتيه...إلخ. انظر: شرح النهج، مجلّد ٣، ص١١٥.

(٤) من أبيات لابن أبي الحديد في مدح أبي طالب ذكرها في: شرح النهج، مجلَّد ٣، ص٣١٧.

١٤٩

اُمَّة بخبيثها، وجئنا بالحجَّاج، لغلبناهم)(١) وقال عنه الإمام الأوزاعي: (كان الحجَّاج بن يوسف ينقض عرى الإسلام عروة عروة)(٢) .

ولا تستغرب هذين القولين فإنَّ الحجَّاج (كان يُفضِّل عبد الملك بن مروان على الملائكة المقرَّبين والأنبياء المرسلين، ويقول: ويحكم، أخليفة أحدكم في أهله أَكرم عليه أم رسوله إِليهم؟)(٣) ومع هذا القول كان عبد الملك (يقول: الحجَّاج جلدة ما بين عيني وأنفي)(٤) .

٧ - عدم تشيُّع الفُرس أيَّام الدعوة العبَّاسيَّة:

عرفت الأسباب التي سبّبت مناهضة الشيعة للدولة الأموية في حالتي القوّة والضعف معاً، والتي أَوجبت مقت الشيعة للحكم الأمويِّ الجائر، ودفعت بعضهم إِلى الاشتراك مع العبَّاسيِّين في العراق على العمل ضدَّ الأمويِّين، لا (في خراسان تحت راية أَبي مسلم الخراساني) كما زعمه الرحَّالة المصري؛ لانَّ أهل خراسان لم يكونوا يومئذ من شيعة العلويِّين، وإِنَّما كانوا من شيعة العبَّاسيِّين ودعاتهم، وهكذا كان أبو مسلم الخراساني.

يقول الطبري: (وفي هذه السنة؛ سنة ١٢٠ هـ، وجَّهت شيعة بني العبَّاس في خراسان إِلى محمدِ بن علي بن عبد الله بن عبَّاس، سليمانَ بن كثير؛ ليعلمه أمرهم وما

هم عليه(...) وفيها وجَّه محمد هذا بكيرَ بن ماهان إِلى شيعته بخراسان، وكتب معه كتاباً يعلمهم به: أنّ خداشاً حمل شيعته على غير منهاجه)(٥) .

ويقول ابن خلدون: (وأمَّا الكيسانية، فساقوا الإِمامة من ابن الحنفية إِلى ابنه أبي هاشم) إِلى أن انتهى إلى المنصور، ثُمَّ قال: (وانتقلت في ولده بالنصِّ والعهد (...) وهذا مذهب الهاشمية القائمين بدولة بني العباس. وكان منهم: أبو مسلم (الخراساني)،

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير، مجلَّد ٣، ص٣٢٣، والعقد الفريد، مجلَّد ٣، ص٢٥٣.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) العقد الفريد، مجلَّد ٣، ص٢٥٥.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) تاريخ ابن خلدون، مجلَّد ٨، ص٢٤٩.

١٥٠

وسليمان بن كثير، وأبو سلمة، وغيرهم، من شيعة العبَّاسية)(١)

ويقول الخضري المصري: (كلُّ هذه المشاغل شغلت مروان بن محمد عن خراسان، فكان ذلك أكبر مساعد لشيعة بني العبَّاس ورئيسهم المقدام أبي مسلم الخراساني في التغلُّب على خراسان ومبايعة أهلها على الرضا من بني العبَّاس)(٢) . فأنت ترى أنَّ الطبريَّ وابن خلدون والخضري لم يجعلوا الخراسانيِّين، ولا أبا مسلم الخراساني وزملاءه في الدعوة العبَّاسية، من الشيعة العلويّة، وإِنّما جعلوهم من أشياع العبَّاسيين والقائمين بدولتهم.

ولقد أخرج الصادق جعفر بن محمد أهل خراسان من الشيعة (يوم جاء عبد الله المحض وقال للصادق(ع): هذا كتاب أبي سلمة يدعوني فيه إِلى الخلافة قد وصل على يد بعض شيعتنا مِن أَهل خراسان، فقال الصادق:((ومتى صار أهل خراسان من شيعتك وهم يدعون إِلى غيرك؟)) فقال عبد الله: كأنَّ هذا الكلام لشيء؟ فقال الصادق(ع):((قد علم الله أنِّي أُوجب النصح على نفسي لكلِّ مسلم، فكيف أدَّخره عنك؟ وقد جاءني مثل هذا الكتاب الذي جاءك فأحرقته)) )(٣) .

وأخرجهم أيضاً من التشيُّع محمد بن علي بن عبد الله بن عبّاس في كلمته التي قالها لرجال الدعوة حينما أراد بثَّهم في البلدان؛ قال: (أمَّا الكوفة وسوادها، فهناك شيعة عليِّ بن أبي طالب. وأمَّا البصرة، فعثمانية تدين بالكف. وأما الجزيرة، فحرورية مارقة. وأَمّا أهل الشام، فليس يعرفون إِلاَّ آل أبي سفيان وطاعة بني مروان(...). وأمَّا أهل مكَّة والمدينة، فقد غلب عليهما أَبو بكر وعمر. ولكن عليكم بخراسان، فإِنَّ هناك العدد الكثير، والجلد الظاهر، وصدور سليمة، وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء، ولم تتوزَّعها النحل، ولم تشغلها ديانة... إِلخ)(٤) .

____________________

(١) المقدِّمة، ص١٤٠. ولكن المقريزي قد خالفه في تسمية هؤلاء؛ فأسماهم باسم الرزامية، لا الهاشمية، وإنْ وافقه على غير ذلك. انظر: الخطط، مجلَّد ٤، ص١٧٧.

(٢) المحاضرات، ص٢٢٩.

(٣) الفخري في الآداب السلطانية، ص١٣٧.

(٤) ابن قتيبة، عيون الأخبار، مجلَّد ١، ص٢٠٤.

١٥١

وإِنّ هذه هذه الكلمة الصادرة من هذا الرجل الكبير الخبير بتلك البلدان، والعليم بمذاهب أهلها ونزعاتهم، لأصرح دليل على عدم تشيُّع الخراسانيِّين في ذلك العهد، بل يظهر منها انحصار التشيّع، أو كثرته، في الكوفة وسوادها، لكن حملها على الكثرة أولى؛ لانَّ وجود الشيعة يومئذ في جبال عاملة وقم ونيسابور، ممَّا لا ريب فيه على الظاهر، وخصوصاً في قم. يخبرنا ياقوت الحموي: (أنَّ قم مُصِّرت سنة ٨٣ هـ على يد بني سعد بن مالك بن عامر الأشعري، وكان متقدِّم هؤلاء البنين، عبد الله بن سعد، وكان له ولَد قد ربِّي بالكوفة، فانتقل منها إِلى قم وكان إِماميَّاً، وهو الذي نقل التشيُّع إِلى أهلها، فلا يوجد بها سنيٌّ قط)(١) .

والذي يدلُّ أيضاً على براءة التشيُّع من أبي مسلم وإِخوانه الخراسانيِّين، قول الشهرستاني عن إِبراهيم الإمام العبَّاسي: (وهو صاحب أبي مسلم الذي دعاه إليه وقال بإِمامته، وتبعه قوم من خراسان ساقوا الإمامة إِليه. وقالوا له: حظ فيها، ثُمَّ ادعوا حلول روح الإله فيه؛ ولهذا أيَّدوه على بني أُميَّة حتّى قتلهم عن بكرة أبيهم)(٢) .

وإِليك - زيادة عمَّا تقدَّم من الأدلَّة على عدم تشيُّع الخراسانيِّين أيَّام الدعوة وما قبلها - ما يدلُّك على بقائهم على ذلك إِلى القرن الرابع والخامس، ويدلُّك على عدم تشيُّع غيرهم من بلاد فارس أيضاً.

يقول أبو بكر الخوارزمي (المتوفَّى سنة ٣٨٣ هـ) في رسالته إِلى جماعة الشيعة بنيسابور بعد أن عدَّد أعمال الأمويِّين، قال: (فبعث عليهم أبا مجرم لا أبا مسلم، فنظرَ - لا نظر الله إِليه - إِلى صلابة العلوية ولين العبَّاسية، فترك تقاه، واتبع هواه، وباع آخرته بدنياه، وسلط طواغيت خراسان، وخوارج سجستان، وأكراد أصفهان على آل أبي طالب، يقتلهم تحت كلَّ حجر ومدر، حتّى سلَّط الله عليه أحبَّ الناس إِليه(٣) ، فقتله كما قتل الناس في طاعته، وأخذه بما أخذ

____________________

(١) معجم البلدان، مجلَّد ٧، ص١٦٠.

(٢) الملل، ج١، ص٨٧.

(٣) يُشير بذلك إِلى المنصور العبَّاسي الذي قتل أبا مسلم الخراساني سنة ١٣٧ هـ بعد أن وطَّد الملك للعباسيِّين وبناه لهم على الجماجم الفارسيَّة، فكان جزاؤه منهم جزاء سِنِّمار.

١٥٢

الناس في بيعته)(١) .

وهذه الكلمة تفهمنا - زيادة على كره أبي مسلم للشيعة، وكونه غير شيعي - أنَّ التشيُّع لم يكن إِلاَّ نادراً في البلاد الفارسيَّة أيَّام أبي مسلم والدعوة العبَّاسية، بل ولا كان فاشياً حتّى في خراسان؛ بلد أبي مسلم، وحتّى في بلد كبير كأصفهان وسجستان.

ويؤكِّد ذلك في ختام هذه الرسالة بقوله: (فإِنْ كان التشيُّع قد كسد في خراسان، فقد نفق في الحجاز والحرمين، والشام والعراقين. ونسأله تعالى أن لا يكلنا إِلى أنفسنا، وأن يعيذنا من روايات الكيسانية، وكذب الغلاة الخطَّابية، وأن لا يحشرنا على نصب أصفهاني، ولا على بغض لأهل البيت طوسي أو شاشي).

وهذا ابن الأثير يخبرنا بما يوافق الخوارزمي على كون أهل طوس كانوا من مبغضي أهل البيت في أواخر عصر الخوارزمي؛ قال: (إنّ محمود بن سبكتكين جدَّد عمارة المشهد بطوس الذي فيه قبر عليّ بن موسى الرضا وأحسن عمارته. وكان أبوه سبكتكين أخربه، وكان أهل طوس يؤذون من يزوره، فمنعهم ابنه عن ذلك. وكان سبب فعله ذلك؛ أنَّه رأى في المنام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو يقول له: إِلى متى هذا؟ فعلم أنَّه يريد أمر المشهد، فأمر بعمارته)(٢) .

وإِليك أيضاً ما يدلُّ على عدم تشيُّع الخراسانيِّين في أواخر القرن الثاني ما رواه البيهقي من: (أنّ المأمون العبَّاسي همَّ بأن يكتب كتاباً في الطعن على معاوية. فقال له يحيى بن أكثم: يا أمير المؤمنين، العامَّة لا تتحمَّل هذا؛ ولا سيما أهل خراسان. ولا تأمن أن يكون لهم

نفرة )(٣) .

____________________

(١) رسائل الخوارزمي، ص١٢٨.

(٢) تاريخ ابن الأثير،ج ٥، ص١٣٩.

(٣) والبيهقي، المحاسن والمساوئ، ج١، ص١٠٨.

١٥٣

الاستنتاج:

فإِذا علمت أنَّ خراسان وسجستان وأصفهان كانت غير شيعية أيّام أبي مسلم الخراساني والدعوة العباسيّة، وأنّ أصفهان وشاش وطوس - وهي مدفن الإِمام الثامن للشيعة - كانت ناصبة العداء لآل البيت العلوي أيّام الخوارزمي وابن سبكتكين المتوفَّى سنة ٤٢١ هـ، وأنَّ خراسان كانت تُوالي معاوية أيّام المأمون - إِذا علمت ذلك كلِّه، فاسأل معنا الرحَّالة المصري عن القرن الذي قصده في قوله: (رأت فارس في الشيعة خير هادم للإِسلام ولملك بني العباس) هل هو القرن الثاني أو الثالث أو الرابع أو القرن العاشر؟ الذي ظهرت فيه الدولة الصفوية العلوية، وجعلت التشيُّع مذهباً رسمياً في فارس، وبثَّته في البلاد حتّى صار جلُّ السكان إِمامية اثني عشرية، ولم يزالوا كذلك إلى اليوم.

وأظنُّه يقصد القرن الثاني؛ لانَّ فيه تولَّدت الدولة العبَّاسية التي (قضت (بزعمه) على استقلال فارس وقوميَّتها).

وبما أنّك علمت ممَّا تقدَّم أنّ الشيعة في هذا القرن لم يكونوا في فارس غير أفراد

قلائل في (قم)، متستِّرين لا يستطيعون التظاهر بمذهبهم ولا الدعوة له، فلا أظنَّك إِلاَّ حاكماً بأنَّ هدم الإسلام الذي زعم الرحَّالة حصوله يومئذ من الفُرس إِنَّما كان على يد غير الشيعة، لانَّ أكثرية السكَّان الساحقة كانت وقتئذ في جانب غير الشيعة، وكان السلطان لتلك الأكثرية، والقوّة معها، وكان منها العلماء الذين ترأسوا وُقِلّدوا في الأقوال والأعمال، ومنها الدهاة المحنَّكون في الدعاية والتلبيس.

ومن البديهي أنَّ هدم العقيدة، وكذا المذهب والملك، إِنَّما هي من الأمور التي لا يتمكَّن منها غالباً غير أولى السلطان والقوَّة العلمية والمادية، وهي بأجمعها لم تكن متوفِّرة لدى أفراد الشيعة القليلين في فارس يومئذ؛ ولذلك لمـَّا توفَّرت لديهم - أيَّام الشاه عبَّاس الصفوي - تغلَّب المذهب الشيعي

١٥٤

على غيره هناك ونال الأكثرية. وإِليك مثلاً من تأثير السلطان والقوَّة في هدم العقيدة وبناء غيرها في القلوب؛ ما فعله السلطان السفياني، ثُمَّ المرواني، فإِنّه بعد أن هدم - بقوَّته الغاشمة - عقيدة التمسُّك بالعترة النبوية، بنى عقيدة النصب لهم والتقرُّب إلى الله تعالى عقيب كلِّ فريضة بسبهم. وتمكنت هذه العقيدة من قلوب جماعات كثيرة حتّى جهرت بها في أغلب البلاد الإِسلامية وحتّى (كان أهل حرَّان حين أزيل لعن أمير المؤمنين عن المنابر في أيّام الجُمع امتنعوا من إِزالته، وقالوا: لا صلاة إِلاّ بلعن أبي تراب)(١) .

وهكذا فعل السلطان الأيُّوبي في مصر؛ فإِنّه بعد أن (تقوَّى على العاضد الفاطمي وألغى الخطبة له بتحريض من أمير فارسي يُدعى أمير عالم( وهذا الأمير هو الذي أخذ على عاتقه أن يباشر العمل بنفسه). ففي أوَّل جمعة من محرَّم سنة ٥٦٧ هـ توجَّه أمير عالم الفارسي إِلى أكبر جوامع القاهرة، وصعد المنبر وخطب باسم المستضيء العباسي. فلمّا علم صلاح الدين الأيوبي بذلك، أمر أن تعاد الخطبة للمستضيء في جميع جوامع القاهرة والفسطاط)(٢) .

بعد ذلك كله (اتخذ الملوك من بني أيُّوب يوم عاشوراء يوم سرور، يُوسِّعون فيه على عيالهم، ويتبسَّطون في المطاعم، ويصنعون الحلاوات، ويتَّخذون الأواني الجديدة، ويكتحلون ويدخلون الحمام، جرياً على عادة أهل الشام التي سنَّها لهم الحجَّاج في أيَّام عبد الملك.. وقد أدركنا بقايا ممَّا عمله بنو أيُّوب؛ من اتخاذ يوم عاشوراء يوم سرور وتبسط)(٣) . ونحن أدركنا تلك البقايا ليلة ١١ محرَّم سنة ١٣٣٨ هـ في دير الشعار في طريقنا إِلى العراق لطلب العلم الديني في النجف الأشرف، وقلنا: أبمثل هذا تتقرَّب الأمَّة إِلى نبيِّها في الليالي التي قتل فيها سبطه وريحانته؟!

____________________

(١) شرح النهج، ج٢، ص٢٠٢.

(٢) جورج زيدان، تاريخ مصر، ج١، ص٣٣٥.

(٣) خطط المقريزي، ج٢، ص٣٨٥.

١٥٥

وهذا العمل وإِن كان بظاهره عادة، إِلاّ أنّه أثرٌ كبير يدلُّ على عقيدة النصب البالغة إِلى أعماق القلوب والمؤثِرة لهذا العمل الفظيع المبعد عن الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويحدِّثنا المقريزي أيضاً: (أنَّ السلطان صلاح الدين الأيُّوبي حمل الكافَّة على عقيدة الشيخ أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري(١) ، وشرط ذلك في أوقافه فاستمرَّ الحال على عقيدة الأشعري بديار مصر والشام والحجاز واليمن والمغرب حتّى صار هذا الاعتقاد بسائر هذه البلاد؛ بحيث إنَّ مَن خالفه ضُرِب عنقه. والأمر على ذلك إِلى اليوم)(٢) .

ويخبرنا: (أنَّ المعزَّ ابن باديس حمل جميع أهل إِفريقية على التمسُّك بمذهب مالك وترك ما عداه من المذاهب، فرجع أهل إفريقية وأهل الأندلس كلُّهم إلى مذهب مالك إِلى اليوم؛ رغبةً فيما عند السلطان وحرصاً على طلب الدنيا)(٣) .

ويحكي الشهرستاني: (أنَّ محمود بن سبكتكين السلطان قد نصر مذهب الكرَّامية(٤) ، وصبَّ البلاء على أهل الحديث والشيعة )(٥) .

ولدينا غير هذه من الشواهد والأمثلة الكثيرة، أعرضنا عنها حذراً من

____________________

(١) تولَّد الأشعري بالبصرة سنة ٢٦٠ هـ وتوفِّي سنة ٣٢٤ هـ، وكان من العلماء الأفذاذ (وكان على عقيدة المعتزلة، ثُمَّ رجع وتاب مِن القول بخلق القرآن، ومن القول بأنَّ الله لا يرى بالأبصار، ومن القول بنسبة فعل الشرِّ إِلى المخلوقين). المقريزي، الخطط، ج٤، ص١٨٦.

(٢) الخطط، ج٤، ص١٦١.

(٣) الخطط، ج٤، ص١٤٤.

(٤) الكرَّامية كانوا من المجسِّمة والمشبِّهة، ويثبتون القدر، خيره وشرُّه، من الله تعالى، وأن الله أراد الكائنات كلَّها خيرها وشرَّها. وقالوا: الإِمامة تثبت بالإجماع دون النصِّ والتعيين. وقالوا: يجوز عقد البيعة لإِمامين في قطرين؛ وغرضهم إِثبات إِمامة معاوية بالشام وأمير المؤمنين في المدينة والعراق. ورأوا تصويب معاوية فيما استبد به من الأحكام

الشرعية. الشهرستاني، المِلل، ج١، ص٦١. ويقول المقريزي (الخطط، ج٤، ص١٧٣): (حدث مذهب التجسيم على يد محمد بن كرَّام بن عراق السجستاني زعيم الكرامية بعد المائتين من سني الهجرة، وأثبت الصفات حتّى انتهى إلى التجسيم والتشبيه. مات بزغرة سنة ٢٥٦ هـ ودفن بالقدس)

(٥) المِلل ، ج١، ص١٥.

١٥٦

التطويل المؤدي إِلى المـَلل، وحذراً من الابتعاد كثيراً عن موضوع بحثنا الذي كان القصد منه إِثبات عدم تشيُّع الخراسانيِّين أيَّام دعوتهم ونصرتهم لبني العبَّاس، وعدم شيوع التشيُّع في فارس إِلى أوائل القرن العاشر، بل كان جُلُّ القصد والغرض تخطئة أُولئكم الذين يتسرَّعون كثيراً في الحكم بتشيُّع الفُرس ونسبتهم إِلى الشيعة في العهد العبَّاسي، ثُمَّ ينسبون إِليهم كلَّ البدع والخرافات التي أُلصقت بالإِسلام، وكلَّ الرزايا التي نزلت بالمسلمين. وهذا، بلا شك، حكم جائر ورأي فائل، لا يستند إِلى دليل، ولا يتَّفق بوجه مع قيام

الفُرس، وخصوصاً الخراسانيِّين، بتأسيس الدولة العبَّاسية ومساعدة آل العبَّاس على تقتيل العلويِّين الذين نهضوا في الحجاز والعراق وفارس. وكان عمدة أنصارهم على نهضتهم هذه علماء العرب وأبطالهم، وما سمعنا عرقاً فارسيَّاً نبض في نصرة هذه النهضات

العلوية(١) ، أو رفع صوته - على الأقل - منكراً على العبَّاسيِّين أعمالهم المنكرة الفظيعة مع بني عمومتهم، بل سمعنا بالعكس؛ سمعنا أنَّ يحيى البرمكي تعهَّد للرشيد بقتل الإِمام الكاظم ووفى بتعهُّده (كما تقدَّم في الفصل الثاني)، وسمعنا الحسن بن سهل يعاكس في عهد المأمون للإِمام الرضا (كما في: المفيد/ الإرشاد/ ص٣٣٢)، ويسعى بالإِمام عند

المأمون (كما في كتاب: أَخبار الحكماء. فراجع).

وعلى كلٍّ... فإِذا وُجد مع (الرحَّالة) مَن يتوهَّم تشيُّع الفُرس في تلك العصور (وهدمهم الإِسلام)، فلا يُوجد (على ما أظنُّ) مَن يتوهَّم معه (أنَّ الدولة العبَّاسية قضت على استقلال فارس، وحاولت القضاء على قوميَّتها)؛ لأنَّ من البديهي أنَّ فتح فارس كان أيَّام الخليفة الثاني والثالث (رض)، ولم يبق سوى

____________________

(١) نعم، كان الإمام أبي حنيفة الفارسي يحضُّ الناس على الخروج مع إبراهيم الحسيني بالبصرة، كما قدَّمنا في بحث الزيدية، وذكرنا أنَّه كان على بيعة محمد بن عبد الله الحسني ومن جملة شيعته).

١٥٧

بلاد قليلة خارجة على يد المسلمين يومئذ، ثُمَّ استولوا عليها أيّام بني أميَّة.

وهذا لا يجهله حتّى صغار الطلبة، كما لا يجهلون أنَّ العبَّاسيِّين - بلا مبالغة - هم الذين أحيوا قومية الفُرس وسلَّموا زمام الدولة لرجالات فارس حتّى كانت دولتهم وقتئذ شبه فارسيَّة، ثُمَّ صارت أيَّام المتعصم ومن بعده شبه تركية.

٨ - نهضة الشيعة ضدَّ العبَّاسيِّين وسرُّ مطاردة العبَّاسيِّين لهم:

... كان بنو أميّة يمقتون جميع الهاشميِّين - إِلاّ القليل - أشدَّ المقت أيَّام الجاهلية، وداموا على ذلك حتّى في أيَّام نبي الإسلام الهاشمي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولكن قد كمن مقتهم هذا لمـَّا ظهرت معجزات النبوة وآياتها الباهرة، واشتدَّ عضد الإسلام بالمهاجرين والأنصار. وبقي ذلك المقت كامنا إِلى أواخر أيّام عثمان (رض)؛ حيث ظهر على يد بطانته الأموية، وبلغ أشدَّه يوم تولَّى الخلافة العامَّة أميرُ المؤمنين وسيِّد الهاشميِّين بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فنال من مقتهم ومناوأتهم له ما غصَّت به بطون الكتب.

ولمَّا استشهد(ع) وبويع شبله الحسن، قاموا يناهضونه بكلِّ ما لديهم من قوَّة، حتّى إذا ما تمَّت لهم الغلبة الدنيوية (كتب معاوية نسخة واحدة إِلى جميع عمَّاله بعد عام الجماعة: أنْ برأت الذمَّة ممَّن روى شيئاً من فضل أبي تراب علي(ع) وأهل بيته. فقامت الخطباء في كلِّ كورة وعلى كلِّ منبر يلعنون عليَّاً ويبرأون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته)(١) .

وقد علمت ممَّا تقدَّم أنَّ لعن عليٍّ والبراءة منه كانا سنَّة متَّبعة في الدولة الأموية إِلى عهد عمر بن عبد العزيز(رض)، ولكن يظهر من المقريزي (أنّ سنَّة اللعن دامت في مصر من حين فتحها مروان إلى سنة ١٣٣ هـ)(٢) .

وقد بلغ اضطهاد الأمويِّين وعمَّالهم إلى بني هاشم إِلى حدٍّ كانت تُعدُّ صلة الهاشمي جريمة كبرى في نظر بعض العمَّال، يتَّخذونها طريقاً للوشاية بخصومهم والوقيعة بهم.

يحدثنا الطبري: (أنَّ يوسف بن عمر كتب إِلى هشام: إنَّ أهل البيت من بني هاشم

____________________

(١) المعتزلي، شرح النهج، ج٣، ص١٥.

(٢) الخطط، ج٤، ص١٥٢.

١٥٨

قد كانوا هلكوا جوعاً؛ حتّى كانت همَّة أحدهم، قوت عياله. فلمَّا ولي خالد العراق، أعطاهم الأموال، فقووا بها حتّى تاقت أنفسهم إلى الخلافة)(١) .

وكان هذا الاضطهاد الأموي متَّجهاً نحو الهاشميَّين أجمع؛ لا فرق لديه بين العلوي والعبَّاسي، كما يظهر من ابن أبي الحديد الذي حكى لنا (قصَّة اجتماع معاوية ومروان وزياد ويزيد وعتبة، وسبِّهم لحبر الأمَّة عبد الله بن عبَّاس، وتحقيرهم إيَّاه في مجلس معاوية(٢) ، وحكى قول معاوية لابن عبَّاس: (إنَّ في نفسي منكم لحزازات يا بني هاشم، وإِنّي لخليق أنْ أدرك بكم الثأر)(٣) .

وذكر أيضاً: (أنَّ الوليد بن عبد الملك ضرب علي بن عبد الله بن عبَّاس بالسياط، وشهره بين الناس، يُدار به على بعير ووجهه ممَّا يلي ذنب البعير وصائح يصيح عليه: هذا علي بن عبد الله بن عبَّاس الكذَّاب(٤) . وروى في مكان آخر (كيفيَّة خنق الأمويِّين لإبراهيم العبَّاسي في جراب من نورة بالحبس).

لذلك كان من الطبيعي أن يترقَّب العبَّاسيُّون الفرصة للوثبة على الأمويِّين، وأن يبايعوا بعض العلويِّين وينهضوا معاً ضدَّ الدولة الأموية؛ لِمَا رأوا تفكُّك الأمويِّين وثورة بعضهم على بعض، وخروج البلاد عليهم ومَللها منهم ومِن حكمهم.

لمَّا رأى الهاشميَّون ذلك كلَّه، قاموا يُنظِّمون الدعوة ويبثون الدعاة، ويجعلون في رأس الدعوة وعنوانها: البيعة لرجل من آل هاشم، من غير ذكرٍ لأحد الفريقين المتَّحدين. وأرى أنَّه لولا ذكر الآل في مواد الدعوة، لمـَا نالت ذلك الظفر الباهر، ولأسرت بسرعة البرق إِلى القلوب، خصوصاً قلوب أهل الكوفة وسوادها؛ لتشيُّع أهلها تشيُّعاً علويِّاً، ولعلمهم بانحصار الآل وغلبة إِطلاقه على أبناء فاطمة بضعة المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولأنَّ ظلم الأمويِّين كان أثره في العلويِّين أظهر منه في

____________________

(١) تاريخ الطبري، ج٢، ص١٨.

(٢) المعتزلي، شرح النهج، ج٢، ص١٥.

(٣) شرح النهج، ج٢، ص١٠٥.

(٤) شرح النهج، ج٢، ص٢١٠، والمبَّرد، تهذيب الكامل، ج١، ص٢٩٢ الذي ذكر فيه(ص٣٩٢): أنَّ الوليد هذا ضرب عليَّاً هذا بالسياط مرَّتين. وكذلك ذكر ابن خلِّكان في : الوفيَّات، مجلَّد١، ص٣٢٣.

١٥٩

العبَّاسيِّين. ومعلوم أنّ النفوس البشرية ميَّالة بالطبع إِلى نصرة مَن ظهرت ظُلامته. زد على ذلك أنَّ آل العبَّاس كانوا - قبل نيل المـُلك - يُظهرون محبَّة عليّ وينتصرون له ولآله (عليهم السلام)، ويُصرِّحون كثيراً بأنَّ غايتهم الأولى الأخذ بثأر الحسين بن عليّ وأحفاده (وكان عبد الله بن علي بن عبد الله بن عبَّاس ينشد حينما قُتل الأمويِّين في الشام، ويترنَّم بقوله:

حسبت أميَّة أنْ سترضى هاشم

عنها ويذهب زيدها وحسينها(١)

وعلى كلٍّ... فقد لبَّس العبَّاسيُّون على الشيعة في هذه الدعوة(٢) حتّى قام بعض الكوفيِّين يعاضدها في العراق مع شيعة بني العبَّاس الخراسانيِّين، ولكن لمـَّا تمَّ النجاح وظهرت الغلبة، وانكشفت أستار تلك الرواية الخداعية، ورأى الشيعة العلوية تربَّع السفَّاح العبَّاسي على سرير الخلافة أو الملك (على الأصح)، قاموا يطالبون بحقوق العلويِّين ونصيبهم من تلك الدعوة المشتركة، فما كان جوابهم - بالطبع - إِلاَّ السيف تارة، والخداع والمواعيد تارة أخرى، على طبق ما يصنعه

____________________

(١) ابن قتيبة، عيون الأخبار، مجلّد ١، ص٢٠٨.

(٢) كما لبَّس الأمويُّون على أهل الشام أنَّ بني أميَّة هم أهل بيت رسول الله (ص) والوارثون له. حكى المسعودي (مروج الذهب، مجلّد ٢، ص٧٣): (أن عبد الله بن علي وجَّه إِلى أبي العبَّاس السفَّاح أشياخاً من أهل الشام من أرباب النعم والرئاسة، فحلفوا له أنَّهم ما علموا لرسول الله (ص) قرابة ولا أهل بيت يرثونه غير بني أميَّة حتّى وليتم الخلافة). وذكر هذا الحلف الريائي صاحب عصر المأمون (مجلّد ١، ص١٩٠). وإِنَّا - مع اعتقادنا بحصول التلبيس على الشام - لنشكُّ في صدق هؤلاء الأشياخ بحلفهم هذا، لأنَّه من البعيد جداً أن يجهل مثلهم؛ من المسنِّين المتَّصلين برجال بقية الأقطار، قرابة الرسول القريبة الذي أذهب الله عنها الرجس وطهَّرها تطهيراً. نعم، كان التلبيس من بني أميَّة على العامَّة الجاهلة، وخصوصاً الأحداث، وكذلك من بني مروان الذين بالغوا في التلبيس واللعن لعلي وإِخفاء فضله. (قال عمر بن عبد العزيز لأبيه يوماً: يا أبت، أنت أفصح الناس، فما بالي أراك إذا مررت بلعن هذا الرجل( يعني: عليَّاً) صرت ألكن عيباً ؟ فقال عبد العزيز: يا بني، إِنَّ مَن ترى من أهل الشام وغيرهم تحت منبرنا، لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك، لم يتبعنا منهم أحد ). انظر: شرح النهج، مجلَّد ١، ص٣٥٦.

١٦٠

ذئاب الاستعمار اليوم مع العرب، وخصوصاً في فلسطين المجاهدة المكلومة.

قتل المنصور (محمدَ بن عبد الله الحسني الذي غضب لمـَّا حبس المنصور ١١ رجلاً من بني الحسن في سجن ضيق حتّى ماتوا جميعاً، وقام في المدينة ضدَّ المنصور، وكذلك قام أخوه إبراهيم بن عبد الله بالبصرة، فقتل)(١) .

وقد كان المنصور (بايع محمد بن عبد الله الحسني بالخلافة مرَّتين، وكذلك بايعه إبراهيم الإِمام وأبو العبَّاس السفَّاح. إِحداهما بالمدينة، والأخرى بمكَّة في المسجد الحرام. فلمَّا خرج محمد من المسجد أَمسك له المنصور بركاب دابته، وقال له: أَمَا إنَّه إِنْ أفضى إليك هذا الأمر، نسيت لي هذا الموقف ولم تعرفه لي)(٢) . ولكن التقادير قد عاكست محمداً، وأفضت بذلك الأمر إلى المنصور الذي نسي أو تناسى ما كان في عنقه من البيعة الثنائية إلى محمد هذا. وبعبارة أخرى، راح ينكث بيعته لمحمد، ويتعمَّد قتله وقتل بقية الحسنيِّين بأنواع القتل الفظيع.

يقول ابن الأثير: (لمَّا أُتي ببني الحسن، نظر المنصور إلى محمد بن إبراهيم بن الحسن، فقال: أنت الديباج الأصفر؟ قال: نعم. قال: أمَا والله، لأقتلنك قتلة ما قتلتها أَحداً من أهل بيتك، ثُمَّ أمر به، فبني عليه إسطوانة وهو حيٌّ، فمات فيها)(٣) .

وهكذا كان مَن تخلَّف بعد المنصور؛ فإنَّهم تفنَّنوا بالوقيعة والقتل لأبناء عمِّهم العلويِّين، فدسُّوا السمَّ للإمام الرضا وأَبيه وابنه الجواد - على قولٍ، في حين أنّ الذي سمَّ الرضا كان يُحبُّ العلويِّين كثيراً ويكرمهم، وقد يكون صادقاً في حبِّه إِلاّ أنّ حبَّ المـَلك - الذي قتل في سبيله أخاه - قد غلب على ذلك الحب، وأزاله من قلبه.

وقتلوا أَيضاً الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن السبط في (فخ) بين مكَّة والطائف. (ظهر الحسين هذا سنة ١٦٩ هـ بمدينة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكان معه جماعة من الطالبيّين، وأشتدَّ أمره وجرى بينه وبين عامل موسى الهادي العبّاسي على المدينة

____________________

(١) الصيرفي، منقريوش، تاريخ دول الإسلام، ج١، ص٨٠.

(٢) مقاتل الطالبيِّين، ص١٤٣، و١٤٥، و٢٠٣.

(٣) إِبن الأثير، ج٥، ص١٩٥، والمقاتل الطالبيِّين، ص١٤٠.

١٦١

قتالٌ عظيم، فانهزم العامل، وبايع الناس الحسين على كتاب الله وسنة رسوله للمرتضى من آل محمد. وأقام الحسين بالمدينة يتجهَّز، فجاء جماعة من العبَّاسيِّين والقوَّاد إِلى الحج، وحاربوه يوم التروية، فقتلوه وأصحابه المخلصين، وفرَّ الباقون، وكان مقتلهم بموضع يقال له: (وج). وفي ذلك يقول بعضهم:

تُركوا بوجٍّ غدوة

في غير منزلة الوطن

ولقد أرسل موسى بن عيسى العبَّاسي رجلا إِلى عسكر الحسين هذا؛ حتّى يراه ويخبره عنه، فمضى الرجل وتعرَّف عسكر الحسين، فرجع، وقال لموسى بن عيسى: ما أظنُّ القوم إِلاَّ منصورين، فقال: وكيف ذاك يا ابن الفاعلة؟ قال الرجل: لأنِّي ما رأيت فيهم إِلاّ مصلِّياً أو مبتهلاً أو ناظراً في مصحف أو مُعدَّاً للسلاح. فضرب موسى يداً على يد وبكى، ثُمَّ قال: هم والله أكرم خلق الله، وأحقُّ بما في أيدينا منَّا، ولكن الملك عقيم، لو أنَّ صاحب هذا القبر (يعني النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم) نازعنا الملك، ضربنا خيشومه بالسيف)(١) .

وقتلوا يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن السبط، وأخاه إِدريس الذي فرَّ بعد مقتل أخيه إِلى بلاد فاس وطنجة، فأرسلوا إليه مَن سمَّه(٢) .

(ظهر يحيى المذكور بالديلم سنة ١٧٦ هـ واشتدَّت شوكته فيها، فجهَّز الرشيد إليه الفضل بن يحيى البرمكي، فخدعه بالأمان. ولمَّا وصل يحيى إِلى بغداد، أخذ الرشيد صكَّ الأمان من يحيى ومزَّقه، ثُمَّ حبس يحيى في حبس مظلم ضيق، وكان يخرجه كلِّ يوم ويضربه مائة سوط، وينقص مِن طعامه وشرابه حتّى مات، وقيل: أنَّه دسَّ إِليه في الليل مَن خنقه، وقيل: أنَّه سقاه سمَّاً،

____________________

(١) تاريخ أبي الفداء، ج٢، ص١١، ومقاتل الطالبيِّين، ص٣٠٣.

(٢) بلغ الرشيد خبر إتِّباع البربر لإِدريس هذا، فغمَّه، وشكى ذلك إِلى يحيى بن خالد البرمكي، فقال يحيى: أنا أكفيك أمره، فحمل سليمان بن جرير - أحد متكلمي الزيدية

البترية - على سمِّه، ووعده بكلِّ ما أحبَّ على أن يحتال لإِدريس، فيقتله. فذهب سليمان واحتال عليه وسمَّه. انظر ذلك مفصَّلاً: مقاتل الطالبيِّين، ص٣٢٦.

١٦٢

وقيل: أنّه أجاع السباع، ثُمَّ ألقاه إِليها، فأكلته. ولقد ظهرت ليحيى مكرمة عظيمة أَمام الرشيد حينما تناظر يحيى مع عبد الله بن مصعب الزبيري وحلفه يحيى يميناً عظيمة، فما برح الزبيري من موضعه حتّى أصابه الجذام؛ فتقطَّع ومات. ولمَّا وضعوه في قبره، انخسف وخرجت منه غبرة عظيمة، فصاح الفضل بن الربيع: التراب، التراب. فجعلوا يطرحونه على القبر وهو يهوي، فدعا بأحمال الشوك فطرحوها فهوت. فأمر أن يُسقف القبر بالخشب ومضى منكسراً)(١) .

وقتلوا غير هؤلاء من آل أبي طالب، وطاردوهم في البلدان حتّى أنّ ابن المعتز العبَّاسي (كان يقول: إِنْ ولاَّني الله، لأفنينَّ جميع آل أبي طالب. فبلغ ذلك وِلْد عليّ، فكانوا يدعون عليه)(٢) .

وكان أشدَّ العبَّاسيِّين عداوة - بعد المنصور والرشيد - المتوكِّل؛ (فإِنّه أمر سنة ٢٣٦ هـ بهدم قبر الحسين بن عليّ(رض) وهدم ما حوله من المنازل، ومنع الناس من إِتيانه. وكان المتوكِّل شديد البغض لعليِّ بن أبي طالب ولأهل بيته. وكان من جملة ندمائه عبادة

المخنث؛ كان يشدُّ على بطنه مخدة ويكشف رأسه - وهو أصلع - ويرقص، ويقول: قد أقبل الأصلع البطين خليفة المسلمين (يعني: عليَّاً)، والمتوكِّل يشرب ويضحك. وفعل ذلك يوماً بحضرة المنتصر، فقال له: يا أمير المؤمنين، إِنَّ عليَّاً ابن عمِّك، فكلْ أنت لحمه إذا شئت، ولا تُخلِ هذا الكلب وأمثاله يطمع فيه. فقال المتوكِّل للمغنين: غنُّوا:

غار الفتى لابن عمه

رأس الفتى في حَرِ أمه

وكان يجالس مَن اشتهر ببغض عليّ؛ مثل: ابن الجهم الشاعر، وأبي السمط من ولد مروان بن أبي حفصة)(٣) .

(ولمـَّا هدم المتوكِّل قبر الحسين(رض)، قال الشاعر المعروف بالبسَّامي:

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين، أبو الفرج، ص٣١٨؛ ( بتلخيص).

(٢) تاريخ أبي الفداء، ج٢، ص٢٩.

(٣) تاريخ أبي الفداء، ج٢، ص٣٨؛ (بتلخيص).

١٦٣

تاالله إِنْ كانت أُميَّة قد أتت

قتل ابن بنت نبيِّها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثله

هذا لعمرك قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتله فتتبعوه رميما(١)

ولولا نُصب المتوكِّل، لَمَا (سَلَّ لسان الإِمام في اللغة ابن السكِّيت من قفاه حتّى مات من ساعته؛ لأنَّه غضَّ من ابني المتوكِّل وذكر الحسنين بما هما أهله)(٢) . وقد بلغ النصب بالمتوكِّل إِلى أنْ (كتب سنة ٢٣٦ هـ إِلى مصر: بإِخراج آل أبي طالب منها. فأُخرجوا وقدموا العراق، فاخرجوا منها إِلى المدينة. ولمـَّا مات المتوكِّل، قام من بعده ابنه محمد المستنصر(٣) ، فكتب إِلى مصر: بأن لا يقبل علوي ضيعة ولا يركب فرساً، وأنْ يمنعوا من اتخاذ العبيد. ومَن كان بينه وبين أحد من الطالبيِّين خصومة، قُبِل قول خصمه من سائر الناس فيه، ولم يُطالب ببيِّنة. وكتب إِلى العمال بذلك)(٤) .

وأنت تعلم أَنَّ الضغط كثيراً ما يُولد الانفجار، ويوجب كراهية عيش الذلَّة، ويُحبب الموت تحت ظلال الأسنَّة. فمن الطبيعي آنئذ أن ينهض الشيعة وأن ينفجر بركان غيظهم المختبئ في الصدور. ومن الطبيعي أَيضاً أن يبالغ العبَّاسيُّون في مطاردتهم وترويع أئمَّتهم الأَطهار؛ ولو كانوا في عزلة عن الخلق مُتَّجهين نحو عبادة الخالق ومناجاته عزَّ اسمه.

(وجَّه المتوكِّل إِلى عليّ الهادي بعدَّة من الأتراك ليلاً، فهجموا عليه في منزله على غفلة، فوجدوه وحده في بيت مغلق وعليه مدرعة من شعر وعلى رأسه ملحفة من صوف، وهو مستقبل القبلة يترنَّم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد،

____________________

(١) تاريخ أبي الفداء، ج٢، ص٦٨.

(٢) وفيَّات الأعيان، ج٢، ص٣١٠، وتاريخ أبي الفداء، ج٢، ص٤٠.

(٣) الموجود في التاريخ أنَّ الذي قام بعد المتوكِّل هو إبنه المسمَّى بالمنتصر، لا المستنصر، وهو - كما مرَّ في معارضته لأبيه في استماع قول عبادة الأثيم - من محبِّي سيِّد الطالبيِّين عليّ(ع)، فما السرُّ في كتابته هذه إِلى مصر بشأن الطالبيِّين؛ هل هو قيامه مقام أبيه أم غيره؟ الله أعلم.

(٤) خطط المقريزي، ج٤، ص١٥٣.

١٦٤

ليس بينه وبين الأرض بساط إِلا ّالرمل والحصى.

فأخذ على الصورة التي وُجد عليها في جوف الليل، فمثل بين يدي المتوكِّل؛ والمتوكِّل يستعمل الشراب وفي يده كأس. فلمَّا رآه، أعظمه وأجلسه إِلى جانبه، ولم يكن في منزله شيء ممَّا قيل للمتوكِّل عنه، ولا حجَّة يتعلَّل عليه بها، فناوله المتوكِّل الكأس، فقال: ياأمير المؤمنين: ما خامر لحمي ودمي قط، فأعفاه منه)(١) .

نعم، كان من الطبيعي أن يبالغ العبَّاسيِّون في ذلك؛ لأنَّ غايتهم الوحيدة، الإِمرة والتربُّع على أسرة المـُلك، وهي - في الغالب - إذا خامرت قلباً نزعت من صاحبه الأناة والرحمة، ولوَّثته بموبقات الأعمال في سبيل الوصول إليها.

ولذا قَتل بعض العبَّاسيِّين في سبيلها أخاه، وبعضٌ عمَّه، وبعض أباه؛ ولذا نقض كثير منهم لأجلها العهود ونكث الأيمان، وقرَّب الفاسق وأبعد الناسك، وأغدق عطاءه لمـَن انتقد في مجلسه زعماء العلويِّين، ولفَّق له الأدلَّة على أنَّ العبَّاس أحقَّ بالخلافة من ابن أخيه عليّ (عليهما السلام)؛ وأنَّها وراثية والعبَّاس أولى بالتراث وأحقَّ به.

ولا أخال أنَّ أحداً من المسلمين يعتقد أنَّ الخلافة وراثية؛ لأنَّهم على الغالب بين قائل: إِنَّها لا تكون إِلا بالنصِّ والأفضلية. وقائل: إنَّها تكون بالانتخاب والاختيار من الأمَّة، أو مِن خليفة لآخر، أو من خمسة من أهل الحلِّ والعقد. لكن للشعراء الأقدمين مذاهب طريفة وطرقاً خاصَّة في الكذب والتزلُّف، كانوا يسلكونها للتوصُّل إِلى مجالس الأمراء والارتزاق منهم ومن ولاتهم.

وإِليك هذه القصِّة عن أبان بن عبد الحميد، فإِنَّها تُطلعك على طرق أُولئكم الشعراء وعلى نفوسهم الواطئة الأمَّارة بالسوء وعلى رخص الضمير والوجدان، وتريك كرم الرشيد في سبيل الدعاية ضدَّ أَهل البيت العلوي، وتبرهن

____________________

(١) وفيَّات الأعيان، ج١، ص٣٢٢، وتاريخ أبي الفداء، ج٢، ص٤٤.

١٦٥

لك على نُصب بعض البرامكة الذين يعدُّهم البعض من الكتَّاب والمؤرِِّخين في زمرة الشيعة الموالين لآل علي(ع).

قال أبو بكر الصولي: (عاتب أبانُ البرامكة في إِعطاء الرشيد الأموال للشعراء وفقره مع خدمته لهم وموضعه منهم، فقال له الفضل: إِن سلكت مذهب مروان ابن أبي حفصة (وكان من مذهبه هجاء آل أبي طالب وذمِّهم) أوصلتَ شعرك وبلَّغتك إِرادتك. قال أبان: والله، ما استحل ذلك. فقال له الفضل: كلُّنا يفعل ما لا يحلُّ له، ولك بنا وبسائر الناس أسوة. فقال أبان:

نشدتُ بحقِّ الله مَن كان مسلماً

أَعُمُّ بما قد قلته العجم والعرب

أعَمُّ نبيِّ الله أقرب زلفة

إِليه أم ابن العمِّ في رتبة النسب؟

وأيُّهما أولى به وبعهده

ومَن ذا له حقُّ التراث بما وجب؟

فإن كان عبَّاس أحقُّ بتلكمُ

وكان عليٌّ بعد ذاك على سبب

فأبناء عبَّاس هُمُ يرثونه

كما العمُّ لابن العمِّ في الإرث قد حجب

... إِلى آخر الأبيات، ثُمَّ جاء بها إِلى الفضل، وقال له: قد اقترحت، فوفِّر عليَّ الجاري. فقال الفضل: ما بقيت. وما يرد على أمير المؤمنين اليوم شيء أعجب إليه من أبيانك. فركب أبان وأنشدها الرشيد، فأمر له بعشرين ألف درهم. وأتصل به بعدها(١) .

____________________

(١) الأوراق، ص١٤. وذكر ذلك أيضاً أبو الفرج، الأغاني، ج٢٠، ص٧٥.

١٦٦

الفصل الخامس(* )

براءة الشيعة من الغلو والغلاة

١ - معنى الغلو وتاريخه. ٢ - بعض أقوال الغلاة. ٣ - كلمات أئمَّة الشيعة في البراءة من الغلاة. ٤ - السرُّ في في عدِّ هذه الفِرق الغالية من الشيعة. ٥ - القرامطة، وموجز تاريخهم. ٦ - كلمة في الإسماعيلية والغاية من الطعن في الفاطميِّين ونسبهم.

١ - معنى الغلو وتاريخه:

(قال الله سبحانه وتعالى:(لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ) .

قالوا في تفسيره: أي لا تجاوزوا الحدَّ؛ بأن ترفعوا عيسى إِلى أن تدَّعوا له الإِلهية. يقال: غلا في الدين غلواً، من باب قعد؛ تصلّب وتشدَّد حتَّى تجاوز الحدَّ والمقدار (...).

وفي الحديث:((كونوا النمرقة الوسطى؛ يرجع إليكم الغالي ويلحق بكم التالي)) . فالغالي: مَن يقول في أهل البيت ما لا يقولون في أنفسهم؛ كمن يدَّعي فيهم النبوة والإِلهية. والتالي: المرتاد؛ يريد الخير ليبلغه ويؤجر عليه.

وفيه:((إنَّ فينا أهل البيت، في كلِّ خلف، عدولاً ينفون عنَّا تحريف الغالين)) أي الذين لهم غلوٌ في الدين)(١) .

وقد تكرَّر في الفصول السابقة أنَّ عقيدة التشُّيع التي غرسها (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حقل الإسلام الخصيب، وتعهَّدها في حياته الثمينة حتّى نمت وتدَّين بها رهط من أجلِّة الصحابة على ما حدَّدها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ من الموالاة لأخيه عليّ(ع) والتمسُّك بالثقلين؛ الكتاب والعترة، وما شاكل ذلك.

وبقيت على صبغتها وحدِّها الذي وضعت فيه، لا تتعدَّاه ولا تتجاوزه أبداً، إِلى أن تولَّى أمير المؤمنين منصب الإمامة، فظهر في أيَّامه قومٌ أرادوا إِخراجها من قالب

____________________

(*) نُشر بعضه في: مجلَّة (الحضارة) النجفية الغرَّاء، مجلَّد ١.

(١) مجمع البحرين في اللُّغة، ص٦٣؛ [بتلخيص].

١٦٧

(الموالاة والتمسُّك) إِلى قالب التأليه لعليّ(ع) (ولمَّا بلغه عنهم ذلك، أنكره أشدَّ الإنكار، وحرق بالنار جماعة ممَّن غلا فيه)(*) .

والظاهر أنَّ عبد الله بن سبأ لم يكن وقتئذ على هذه المقالة الغالية، ولا شمله الإِحراق، وهذا ما يراه ابن أبي الحديد بقوله: (استترت هذه المقالة سنة أو نحوها، ثُمَّ ظهر عبد الله بن سبأ(...) بعد وفاة على أمير المؤمنين(ع)، فأظهرها، وأتَّبعه قوم فسُموا: السبئيَّة)(١) .

ويوافقه الشهرستاني بقوله: (وإِنَّما أظهر ابن سبأ هذه المقالة بعد انتقال

عليّ عليه السلام)(٢) . ولكن الاسترآبادي يخالفهما بما رواه من: (أنّ عبد الله بن سبأ كان يدَّعي النبوة ويزعم أنَّ أمير المؤمنين(ع) هو الله تعالى، فبلغ أمير المؤمنين ذلك، فدعاه، وسأله فأقر، وقال: نعم، أنت هو. فقال له أمير المؤمنين: (قد سخر منك الشيطان، فارجع عن هذا وتب، ثكلتك أمَّك. فأبى، فحبسه ثلاثة أيَّام، فلم يتب، فأحرقه بالنار)(٣) . ولا يبعد أن يكون الأرجح ما قاله ابن أبي الحديد: من أن ابن سبأ لم يشمله الإِحراق، وأنّه أظهر تلك المقالة بعد وفاة أمير المؤمنين(ع). ووافقه الشهرستاني على ذلك، وإن قال قبله: (إنَّ ابن سبأ قال لعليّ(عليه السلام): أنت أنت؛ يعني أنت الإِله. فنفاه إِلى المدائن)(٤) ولا يُنافي هذا القول قوله الأخر؛ إِذ من المحتمل قريباً أَن يكون ابن سبأ قد قال لعلي: (أنت أنت)، لكنَّه قد أخفاه في حياة عليّ(ع) أيّام منفاه وبعدها إِلى أن تُوفّي عليّ(ع)، فأظهره بعد ذلك بسنة أَو بأقل.

وعلى كلِّ حال... فإِنَّ الرجل؛ أي ابن سبأ، كان في عالم الوجود وأظهر الغلو، وإِنْ شكَّ بعضهم في وجوده وجعله شخصاً خياليَّاً شخصته الأغراض الشخصية. أمّا نحن - بحسب الاستقراء الأخير - فلا نشكُّ بوجوده وغلوِّه،

____________________

(١) شرح النهج، مجلَّد ٢، ص٣٠٩.

(٢) المِلل، مجلّد ١، ص١٠١.

(٣) منهج المقال، ص٢٠٣.

(٤) المِلل، مجلَّد ١، ص.

(*) [المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، ج٢، ٣٥٠].

١٦٨

وإنَّما نشكُّ شكَّاً قويَّاً في تصوير البعض لهذا الرجل متغلِّباً على أبي ذر الغفاري(رض) حتّى قوَّله بالإشتراكية الجائرة ( ومسيطراً على عمَّار بن ياسر ورهط كبير من دهاة الصحابة (رضي الله عنهم) حتّى حملهم على خذلان عثمان(رض) والطعن عليه).

وبعبارة ثانية؛ جعلوا له قوَّة في البيان الساحر الجذَّاب فوق كلِّ قوَّة حتّى أنَّه استطاع بتلك القوَّة أن يتغلَّب على إرادة (آلهة عليّ؟) ويمنعه من قبول الصلح يوم الجمل(١) .

نعم، غلا ابن سبأ في دينه وتسرَّبت بدعته هذه إلى أفكار جماعة غير قليلة قد سُمِّيت

باسمه، وأخذت بعد ذلك بالتطوُّر السريع حتّى تجاوزت عن القول بإلهيَّة فرد من المخلوقين إلى القول بإِلهيَّة اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو أكثر من أهل

البيت (عليهم السلام)، كما تجاوزت إلى القول بإِلهية غيرهم من الناس: فالراوندية ألَّهوا المنصور العبَّاسي، والبنانية ألَّهوا بنان بن سمعان، والرزامية ألَّهوا أبا مسلم الخراساني.

وكما كان الغلو في القول بإِلهية جماعة من المخلوقين كان في القول بنبوَّة جماعة منهم بعد خاتم الأنبياء محمد (صلَّّّى الله عليه وآله وسلّم). فالخابية زعموا أنَّهم كلُّهم أنبياء، وكذلك المنصورية كما سترى بيانه. وقد حكم المقريزي: (بأنَّ الغالية ليسوا بمسلمين، ولكنَّهم أهل ردَّة وشرك)(٢) ، ومع ذلك عدَّهم في عداد الشيعة. وهكذا فعل الشهرستاني، كما سترى قريياً، وهكذا فعل ابن خلدون، رغم قوله: (وقد كفانا مؤنة الغلاة أئمَّةُ الشيعة؛ فإنَّهم لا يقولون بها ويبطلون احتجاجاتهم عليها)(٣) .

____________________

(١) انظر: تاريخ ابن خلدون، مجلَّد ٢، ومحاضرات الخضري المصري، وفجر الإِسلام، وخطط المقريزي، مجلَّد ٤، تجد كلَّ هذه الأعمال العظيمة منسوبة إلى هذا الرجل الحقير.

(٢) الخطط، مجلَّد ٤، ص١٦٤.

(٣) المقدِّمة، ص١٣٩.

١٦٩

ولا غرابة من هؤلاء الأعلام إِذا قالوا ذلك في تلك العصور السالفة التي كانت تنوء بالتعصُّبات المذهبية والنعرات الطائفية، ولكن من الغرابة جدَّاً أن يقوم رحَّالة من بلاد مصر المثقَّفة، ويقتفي (في قرن العشرين؛ الموصوف بالابتعاد عن التعصُّب، وبالتحرِّي للحقيقة؟) أثر السابقين من مؤلِّفي تلك العصور الوسطى، ويضرب على وترهم المعروف، فيقول في كلامه عن النجف الأشرف وأهلها الحاليِّين: (ومن فِرق الشيعة من يقول بأن الصحابة كلُّهم كفروا بعد موت النبيِّ؛ إِذ جحدوا إِمامة علي، وأنَّ عليَّاً نفسه كفر لتنازله لأبي بكر، لكنَّه عادله إِيمانه لمـَّا تولَّى الإِمامة؛ وهذه الإِمامية(١) . ومن الشيعة قسم أوجب النبوَّة لعليّ بعد النبي؛ فقالوا: إِنَّ الشبه بين محمد وعليّ كان قريباً لدرجة أنَّ جبريل أخطأَ، وتلك فئة الغالية أو الغلاة. ومنهم من قال بأن جبريل تعمَّد ذلك، فهو إذن ملعون كافر.

ومن الشيعة طائفة الاثني عشرية الذين يُقدِّسون الأئمَّة الاثني عشر(٢) . ومنهم: الإسماعيلية والباطنية الذين مرَّ عليهم الكلام في الشام. ثُمَّ القرامطة الذين تقوُّوا حول الخليج الفارسي، ويعرف عنهم الإباحة في النساء، وقد أحلُّوا أنفسهم من كلِّ عبادة.. وكانوا ممَّن يعملون على هدم الإسلام.

وفي مصر قام الحاكم بأمر الله بعد المعزِّ(٣) ينشر مذهب الشيعة ويدرِّسها في دار الحكمة. وكان أساسها أنَّ الشرائع خاضعة للعقل والعلم، وأنَّ الأنبياء رجال عاديُّون وغاية ما في الأمر أنَّهم فلاسفة، وقد ألَّهه الدروز، وقالوا بأنَّه رفع

____________________

(١) هذه الفِرقة من الغلاة، لا من الإِمامية، وقد عدَّهم الشهرستاني في الغلاة وأسماهم: الكاملية، كما سترى قريباً.

(٢) كان عليه - وهو في صدد الكلام عن النجف - أن ينبِّه على أنَّ النجفيِّين هم من هذه الطائفة، وعلى أنَّ النجف هي العاصمة الدينية (من عدَّة قرون) للاثني عشرية في جميع الأقطار الإِسلامية، وأن يشير إلى مشهوري علمائها ومجتهديها وأدبائها، ويذكر ما امتازت به من الصنائع وتفرَّدت به من الاجتهاد بالفقه الإسلامي وأصوله.

(٣) الذي قام بعد المعزِّ هو العزيز إِبنه، وبعده قام الحاكم، لا بعد المعزِّ.

١٧٠

إِلى السماء وسيعود لتطهير الأرض كما أسلفنا. ويرى جميع(١) الشيعة أنَّ الإِمامة ليست مصلحة عامَّة تناط باختيار الناس)(٢) انتهى.

هذه خلاصة ما نسبه رحَّالة مصر إِلى الشيعة.

نحن لا نريد أن نقنع بقول: إِنَّه أخطأ وخبط خبط عشواء، ولا أن ندع الحقيقة مغطَّاة بما حيك حولها من زخرف القول وأضاليل الكلام؛ لأنَّ مثل هذا العمل لا يقع في الغالب إِلاَّ من أُولئكم الذين لا تتوفَّر لديهم الأدلَّة ولا يستطيعون قرع الحجَّة بالحجَّة. وإِنَّما نريد أن نبحث في المواضيع المعنونة في صدر هذا الفصل، مستندين في ذلك كلِّه إلى الدليل الصريح، لا إِلى الهوى والغرض والتشهيات النفسية؛ لتظهر لك أيُّها القارئ الكريم الحقيقة بأجلى مظهر، وتحكم (حقَّاً) بخطأ الرحَّالة الذي أساء (بكلامه هذا، وبدسِّه هذه الفِرق الغالية

في الشيعة) إلى الحقِّ والحقيقة، والى الوحدة الإسلامية التي أمست اليوم هدف المصلحين من الطائفتين، وكانت من قبل هدف أجدادنا في عهد الراشدين، فجنوا منها أطيب الأثمار، فما يعيقنا نحن من الوصول إليها في هذا العصر العصيب والاجتناء منها؟ حتّى لا ينطبق علينا قول شاعر العراق:

إِنَّا بما نجني وهم فيما جنوا

بئس البنون ونِعمَّت الأجداد

ولنعد الآن إلى ما نحن بصدده، بادئين بذكر:

٢ - بعض أقوال الغلاة وعقائدهم:

الكامليَّة:

هم أصحاب أبي كامل، كفَّر جميع الصحابة، بتركهم بيعة عليّ(عليه السلام)، وطعن في عليّ أيضاً بتركه طلب حقِّه، ولم يعذره في القعود، وكان يقول بتناسخ الأرواح الإِلهية في

الأئمَّة(٣) .

____________________

(١) لا يرى جميع الشيعة هذا الرأي؛ لانَّ بعض الزيدية؛ كالسليمانية والبترية والصالحية، يوافقون السنَّة في إِناطة الإِمامة باختيار الناس، ويخالفون الشيعة في إِناطة الإِمامة بالنصِّ والأفضليَّة. انظر: مِلل الشهرستاني، ج١، ص٩٠.

(٢) الجولة، ص١٥٠.

(٣) مِلل الشهرستاني، ص١٠١، وخطط المقريزي، ج٤، ص١٧٥.

١٧١

الغرابيَّة:

زعموا أنّ جبريل أَخطأ؛ فإنَّه أُرسل إِلى عليّ، فجاء إِلى محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم). وجعلوا شعارهم إِذا اجتمعوا أن يقولوا: العنوا صاحب الريش؛ يعنون - لعنهم الله - جبريل (عليه السلام)(١) .

السبئيَّة:

أتباع عبد الله بن سبأ كان من اليهود، يقول في يوشع بن نون مثل قوله ذلك في

عليّ. وزعم أنَّ عليَّاً لم يقتل، وأنَّه حيٌّ لم يمت، وأنَّه في السحاب، والرعد صوته والبرق سوطه، وأنَّه ينزل إلى الأرض بعد حين(٢) . ويقول الشهرستاني: (إِنَّ السبئية أوَّل فِرقة قالت بالغيبة والرجعة، وبتناسخ الروح الإِلهي في الأئمَّة بعد عليّ) إِلى أن قال: (وهذا المعنى ممَّا كان يعرفه الصحابة، وإِن كانوا على خلاف مراده؛ فهذا عمر بن الخطَّاب(رض) كان يقول فيه - أي في عليَّ - حين فقأ عين واحد في الحرم: ماذا أقول في يد الله، فقأت عيناً في حرم الله. فأطلق عمر اسم الإِلهية عليه لمـَّا عرف منه ذلك(٣) .

المـُغيريَّة:

أصحاب المـُغيرة بن سعيد العجلي؛ كان مولى لخالد بن عبد الله القسري وادَّعى الإِمامة لنفسه، وبعد ذلك ادَّعى النبوَّة، وغلا في حقِّ عليٍّ غلواً قبيحاً لا يعتقده عاقل، وزاد على ذلك قوله بالتشبيه. ولمَّا قُتل المـُغيرة (سنة ١١٩ هـ)، اختلف أصحابه؛ فمنهم مَن قال بانتظاره ورجعته، ومنهم مَن قال بانتظار محمد بن عبد الله الخارج بالمدينة(٤) .

المنصوريَّة:

أصحاب أبي منصور العجلي. عزا نفسه إِلى محمد الباقر، فلمَّا تبرَّأ منه الباقر وطرده، زعم أنَّه هو الإِمام ودعا الناس إِلى نفسه. ولمَّا توفّي الباقر، قال: انتقلت إِليه الإِمامة، وتظاهر بذلك.. وزعم العجلي أنَّه هو الكسف الساقط من السماء، وزعم أنَّه عرج إليها ورأى معبوده، فمسح بيده رأسه، وقال له: يا بُني، انزل فبلِّغ عنِّي.

____________________

(١) انظر: خطط المقريزي، ج٤، ص١٧٥.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المِلل، ج١، ص١٠١.

(٤) انظر: المِلل، ج١، ص١٠٢.

١٧٢

وزعم أنَّ الجنَّة رجل أُمرنا بموالاته، والنار رجل أُمرنا بمعاداته، واستعمل أصحابه قتلَ مخالفيهم، وأخذ أموالهم، واستحلال نسائهم؛ وهم صنف من الخُرَّمية(١) .

البنانيّة:

أصحاب بنان بن سمعان؛ وهو من الغلاة القائلين بإِلهيَّة أمير المؤمنين (عليه السلام).. ثُمَّ ادَّعى بنان أنَّه قد انتقل إِليه الجزء الإِلهي بنوع من التناسخ ومع هذا الخزي الفاحش كتب إِلى محمد الباقر ودعاه إِلى نفسه. وفي كتابه: أسلم تسلم، وترتقي إِلى سلم. فأمر الباقر أن يأكل الرسول الكتاب الذي جاء به، فأكله، فمات في الحال. وكان اسمه عمر بن عفيف(٢) .

الخطَّابيَّة:

أصحاب أبي الخطَّاب محمد بن أبي زينب الأجدع الأسدي؛ عزا نفسه إِلى أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق، فلمَّا وقف الصادق على غلوِّه الباطل في حقِّه، تبرَّأ منه ولعنه وخبر أصحابه بالبراءة منه، وشدَّد القول في ذلك، وبالغ في التبرِّي منه واللعن عليه، فلمَّا اعتزل عنه الصادق ادَّعى الأمر لنفسه. زعم أبو الخطَّاب أنَّ الأئمَّة أنبياء، ثُمَّ آلهة. وقال بإِلهيَّة جعفر بن محمد وآبائه؛ وأنَّ الإِلهيَّة نور في النبوَّة، والنبوَّة نور في الإِمامة، ولا يغلو العالم من هذه الأنوار... وقُتل بسبخة الكوفة، ولمَّا قُتل افترقت أصحابه:

فزعمت طائفة: أنَّ الإِمام بعده بزيغ؛ كان يزعم أنَّ في أصحابه مَن هو أفضل من جبريل وميكائيل. وتسمَّى هذه الفرقة البزيغية.

وقالت فِرقة: أنَّ الإِمام بعد أبي الخطَّاب رجل يقال له: مُعمَّر، دانوا به وزعموا أنَّ الدنيا لا تفنى، واستحلُّوا الخمر والزنا وسائر المحرَّمات. وتُسمى هذه الفِرقة معمَّرية.

وأُخرى زعمت: أنَّ الإِمام بعد أبي الخطَّاب عمير بن بنان العجلي، وقالوا كما قالت الثانية إِلاَّ أنَّهم اعترفوا بأنَّهم يموتون. وكانوا قد نصبوا خيمة بكناسة الكوفة يجتمعون فيها على عبادة الصادق، فرفُع أمرهم إِلى يزيد بن عمر بن

____________________

(١) راجع: المِلل، ج١، ص١٠٣، والخطط، مجلَّد ٤، ص١٢٦.

(٢) المصدر نفسه، فراجع.

١٧٣

هبيرة، فأخذ عميراً فصليه بالكناسة. وتُسمَّى هذه الطائفة العجلية.. وقد تبرَّأ من هؤلاء كلِّهم جعفر الصادق ولعنهم(١) .

العليائية:

(أصحاب العلياء بن ذارع الدوسي، وقيل: الأسدي. كان يُفضِّل عليَّاً على النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم). زعم أنَّه الذي بعث محمداً وسمَّاه إِلهاً. وكان يقول بذم محمد؛ زعم أنَّه ليدعو إِلى عليّ، فدعا لنفسه. وسمَّون هذه الفِرقة الذميمة.

ومنهم مَن قال بإِلهيتهما جميعاً، ومنهم مَن يقول بإِلهيَّة خمسة أشخاص؛ وهم أصحاب الكساء، وقالوا: خمستهم شيء واحد، والروح حلَّت فيهم بالسويَّة، لا فضل لواحد على الآخر. وكرهوا أن يقولوا: فاطمة. فقالوا: فاطم. وفي ذلك يقول شاعرهم:

تولّيت بعد الله في الدين خمسة

نبياً وسبطيه وشيخاً وفاطماً(٢)

النصيرية:

أصحاب محمد بن نصير النميري، أَو الفهري، كان من أصحاب الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا. فلمَّا مات الحسن، ادَّعى وكالةً لابن الحسن الذي تقول الإِمامية بإِمامته، ففضحه الله تعالى بما أظهره من الإلحاد والغلو والقول بتناسخ الأرواح، ثُمَّ ادَّعى أنَّه رسول الله ونبيّ الله، وأنَّه أَرسله محمد بن الرضا، وجحد إِمامة الحسن العسكري وإِمامة ابنه، وادَّعى بعد ذلك الربوبية، وقال: بإِباحة المحارم.

وللغلاة أقوال كثيرة طويلة عريضة(٣) أعرضنا عن ذكرها؛ لأنَّا لسنا بصدد ذلك، وإِنَّما ذكرنا هذه النبذة المختصرة من عقائد تسع فِرق من أكبر فِرق الغلاة؛ لتقابل بما أجملناه في (الفصل الثاني)

____________________

(١) الخطط المقريزية، مجلَّد ٤، ص١٧٤، والمِلل، ج١، ص١٠٣.

(٢) مِلل الشهرستاني، ج١، ص١٠٢، وخطط المقريزي، ج٤، ص١٧٦؛ [بتلخيص وتصرُّف]. ولا يخفى ما في استشهادهما بهذا البيت؛ فإنَّه عكْس مرادهما، لأنَّه يدلَّ بصراحة على أنَّ هؤلاء لا يؤلِّهون أهل الكساء، بل يتولُّونهم بعد الله، وهذا لبُّ الإيمان، وضدِّ الغلو. وحذف التاء من لفظ فاطمة، للترخيم، كثير في كلام العرب.

(٣) شرح النهج، مجلَّد ٢، ص٣١٠.

١٧٤

من عقائد الشيعة، ويُعرف بُعد الشُقَّة، بين عقائد الغلاة وبين عقائد الشيعة، وعدم اجتماعهما في أصل من الأصول، وليُعلم أيضاً ما في نسبة الغلاة إِلى التشيَّع، وما في إِطلاق اسم الشيعة عليهم، من التسامح الفاحش، المقصود وغير المقصود.

وكيف يُعدُّ الغلاة من الشيعة؟ وقد خالفوا أصول المذهب الشيعي الأساسية، وأَنكروا أركانه القويمة حتّى تبرَّأ منهم - لأجله - الشيعة بأمر من أئمَّتهم الأطهار (عليهم السلام). وإليك:

٣ - كلمات أَئمَّة الشيعة في البراءة من الغلو والغلاة:

كان الأئمَّة من أهل البيت(ع) يدأبون في تأديب الشيعة وسائر المسلمين بآداب الإِسلام وتعاليمه، ويحثُّونهم على اتِّباع كتاب الله الكريم وسنَّة نبيِّه العظيم، ويُحذِّرونهم من أهل الزيغ والضلال، ويأمرونهم بالابتعاد عنهم، والتبرِّي منهم. وكان الشيعة يتلقّون تلك الأوامر الشريفة بالقبول والامتثال ويدوِّنونها في كتبهم حتّى تجمَّع لديهم من روايات الجرح والتعديل ما ملأ صفحات الكتب المؤلَّفة في علم الرجال، وقد حوت هذه الكتب طائفة كبيرة من أَقوال الأَئمَّة (عليهم السلام) وأقوال علماء الشيعة الأعلام في البراءة من الغلو والغلاة، ورجالات الغالية بالخصوص، اقتطفنا منها هذه الكلمات الشديدة في؛

البراءة من السبئيَّة:

الذين علمت أنَّهم أوَّل الغلاة بعد أمير المؤمنين (عليه السلام)؛

(روى أبان بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول:((لعن الله عبد الله بن سبأ؛ إِنَّه ادَّعى الربوبية في أمير المؤمنين(ع)، وكان - والله - أمير المؤمنين عبد الله طائعاً. والويل لمـَن كذب علينا، إِنِّي ذكرت عبد الله بن سبأ، فقامت كلُّ شعرة في جسدي، لقد ادَّعى أمراً عظيماً، ماله لعنه الله؟ كان علي - والله - عبد الله صالحاً، ما نال الكرامة من الله إِلاَّ بطاعته لله ولرسوله، وما نال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)

١٧٥

الكرامة من الله إِلاَّ بطاعته لله)) (١) . واتَّفق علماء الشيعة على أنَّ: (عبد الله بن سبأ؛ بالسين المهملة، غال ملعون)(٢) .

البراءة من المـُغيريَّة والمنصوريَّة والبنانيَّة:

روي عن هشام بن الحكم أنَّه سمع أبا عبد الله الصادق(ع) يقول:((لا تقبلوا علينا حديثاً إِلاّ إذا وافق القرآن والسنَّة وتجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدِّمة. فإِن المـُغيرة بن سعيد - لعنه الله - قد دسَّ في كتب أصحاب أبي أحاديث كثيرة لم يحدِّث بها أبي. فاتقوا الله، ولا تقبلوا ما خالف قول ربِّنا وسنَّة نبيِّنا - صلّى الله عليه وآله وسلّم)) .

وعن هشام أيضاً أنَّه سمع الصادق(ع) يقول:((كان المـُغيرة يتعمَّد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه ويدسُّ فيها الكفر والزندقة، ويسندها إِلى أبي، ثُمَّ يدفعها إِلى أصحابه ويأمرهم أن يبثُّوها في الشيعة. فكل ما كان في كتب أبي من الغلو، فذاك ممَّا دسَّه المغيرة بن سعيد - لعنه الله)) .

وروي عن عبد الرحمن بن كثير أنَّه قال: قال أبو عبد الله(ع) يوماً لأصحابه:((لعن الله المغيرة بن سعيد، لعن الله يهودية كان يختلف إليها يتعلَّم منها السحر والشعبذة والمخاريق. إِنَّ المغيرة كذب على أبي، وإنَّ قوماً كذبوا عليَّ. مالهم أذاقهم الله حرَّ الحديد؟ فوالله، ما نحن إِلاَّ عبيد خلقنا الله واصطفانا، ما نقدر على ضرٍّ ولا نفع إِلاَّ بقدرته. إِن رحمنا فبرحمته، وإِن عذَّبنا فبذنوبنا. لعن الله مَن قال فينا ما لا نقوله في أَنفسنا، ولعن الله مَن أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا وإِليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا)) (٣) .

وعن حصين بن عمرو النخعي، قال:كنت جالساً عند أبي عبد الله(ع)، فقال له رجلٌ: جُعلت فداك، إِنَّ أبا منصور حدَّثني أنَّه رُفع إِلى ربِّه، فمسح

____________________

(١) انظر منهج المقال في الرجال ص٢٠٣ (٢) انظر ص١١٤ من الخلاصة في الرجال للعلامة الحلي وهكذا ذكر النجاشي في رجاله وغيره (٣) راجع المنهج ص٢٤٠ وص٣٥٠.

١٧٦

فمسح على رأسه، وقال له بالفارسيَّة: يا يسر. فقال أَبو عبد الله: حدثني أَبي عن جدِّي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، أنَّه قال: إِنَّ إبليس اتَّخذ عرشاً فيما بين السماء والأرض، فإذا دعا رجلاً إليه فأجابه ووطأ عقبه، تراءى له ورُفِع إليه. وإِنَّ أبا منصور كان رسول إبليس. لعن الله أبا منصور، لعن الله أبا منصور، ثلاثاً)) .

وعن زرارة أنَّه قال: سمعت أبا جعفر الباقر(ع) يقول:((لعن الله بُنان البنان. وإِنَّ بناناً كان يكذب على أبي، وأَشهد أنَّ أبي عليَّ بن الحسين(ع) كان عبداً صالحاً)) . وعن هشام بن الحكم، قال: قال أبو عبد الله(ع):((إِنَّ بناناً والسري وبزيغاً - لعنهم الله - تراءى لهم الشيطان في أَحسن صورة من قرنه إِلى سرَّته، قال: فقلت إِنَّ بناناً يتلو هذه الآية: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) ويقول: إِنَّ إِله الأرض غير إِله السماء. فقال الصادق (ع): والله، ما هو إِلاّ الله وحده لا شريك له، إِله مَن في السموات والأرض. كذب بنان - عليه لعنة الله - لقد صغَّر الله جلَّ جلاله وصغَّر عظمته)) (١) .

البراءة من الخطابية وأشياعهم:

عن أبي عبد الله الصادق(ع) قال:((إِنَّا أهل بيت صادقون، لا نخلو من كذَّاب يكذب علينا عند الناس؛ يريد أن يسقط صدقنا، بكذبه علينا)) . ثُمَّ ذكر المغيرة، وبزيغ(٢) الحائك، والسري، وأبا الخطَّاب، ومعمَّر، وبشَّار الأشعري، وحمزة اليزيدي، وصائد النهدي، وغيرهم، فقال:((لعنهم الله أجمع، وكفانا مؤنة كلِّ كذَّاب)) (٣) .

وعن حمدويه، قال: كنت جالساً عند أبي عبد الله(ع) وميسرة عنده،

____________________

(١) المنهج، ص٧٢.

(٢) قال الأسترآبادي - صاحب منهج المقال: إِنَّ البزيغيَّة - أصحاب بزيغ هذا - أقرُّوا بنبوَّته، وزعموا أنَّهم كلّهم أنبياء لا يموتون، ولكن يُرفعون إِلى السماء، وزعم بزيغ: أنَّه رُفع إلى السماء ومسح الله على رأسه ومجَّ في فيه. وعن ابن أبي يعفور، قال: دخلت على أبي عبد الله(ع)، فقال لي: ((ما فعل بزيغ؟)) قلت: قُتل ، قال: ((الحمد لله؛ أمَا إِنَّه ليس لهؤلاء شيء خير من القتل)) .

(٣) المنهج، ص٦٧.

١٧٧

ونحن في سنة ١٣٨ هـ، فقال له ميسرة: جعلت فداك، عجبت لقوم كانوا يأتون إِلى هذا الموضع فانقطعت أخبارهم وآثارهم وفنيت آجالهم. قال(عليه السلام):((ومَن هم؟)) قلت: أبو الخطَّاب وأصحابه. فقال - وكان متَّكئاً فجلس ورفع ببصره إِلى السماء :((على أبي الخطَّاب لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فأشهد بالله أنَّه كافر فاسق مشرك، وأنَّه يحشر مع فرعون في أَشدِّ العذاب، أَمَا والله، إنَّي لأنفس على أجساد أُصيبت

معه النار)) (١) .

وروي أيضاً أنَّ أبا عبد الله(ع) ذكر أصحاب أبي الخطَّاب والغلاة، فقال:((لا تُقاعدوهم، ولا تواكلوهم، ولا تشاربوهم، ولا تصافحوهم، ولا توارثوهم)) . وقال(ع):((إِنَّ من الغلاة مَن يكذب حتّى إن الشيطان ليحتاج إِلى كذبه)) . وقال(ع) لمرازم:((قلْ للغالية: توبوا إِلى الله؛ فإِنَّكم فسَّاق كفَّار مشركون)) . وقال لأبي بصير:((يا أبا محمد، اِبرأ ممَّن يزعم إنَّا أرباب، وابرأ ممَّن يزعم أنَّا أنبياء)) (٢) .

وعن مصارف قال: لمـَّا لبيَّ القوم الذين لبُّوا بالكوفة، دخلت على الصادق(ع) وأخبرته بذلك، فخرَّ ساجداً ودقََّ جؤجؤه بالأرض وبكى، ثُمَّ رفع رأسه ودموعه تسيل على خديه، فندمت على إِخباري إِيَّاه، وقلت: جعلت فداك، ما عليك أنت من ذا؟ فقال:((يا مصارف، إِنَّ عيسى لو سكت عمَّا قالت النصارى فيه، لكان حقَّاً على الله أن يُصمَّ سمعه ويعمي بصره، ولو سكتُ عمَّا قال فيَّ أبو الخطاب، لكان حقَّاً على الله أن يُصمَّ سمعي ويعمي بصري)) .

وقال أيضاً:((إِنَّ قوماً يزعمون أنّي لهم إِمام، والله، ما أنا لهم بإِمام؛ ما لهم لعنهم الله؟ أَقول: كذا، ويقولون: يعني به كذا، إِنَّما أنا إِمام مَن أطاعني)) . وقال:((مَن قال بأنَّنا أنبياء فعليه لعنة الله، ومَن شكَّ في ذلك فعليه لعنة الله)) (٣) .

هذا قول الصادق(ع) في أبي الخطَّاب والخطَّابيَّة وبقيَّة الغلاة، وإليك

____________________

(١) انظر: منهج المقال، ص٣٢٤.

(٢) راجع: المنهج، ص٣٢٥.

(٣) المصدر نفسه.

١٧٨

قول علماء الرجال من الشيعة:

قال صاحب منهج المقال: (محمد بن مقلاص الأسدي الكوفي الأجدع،

أبو الخطَّاب - لعنه الله - غالٍ ملعون، ويكنَّى: أبو زينب الزراد). قال ابن الغضائري: إِنَّ أبا الخطَّاب - لعنه الله - أمره مشهور، وأرى ترك ما يقوله أصحابنا: حدَّثنا أبو الخطَّاب في حال استقامته(١) . وهكذا قال النجاشي في (رجاله)، والعلاّمة الحلِّي في (خلاصته).

البراءة من العليائيَّة:

(عن أبي عبد الله(ع) قال:((لعن الله بشَّار الشعيري، إِنَّه قال قولاً عظيماً، فإِذا قدمت - يا مرازم - الكوفة، فأته وقل له: يقول لك جعفر بن محمد: يا كافر، يا فاسق، يا مشرك، أنا بريء منك. قال مرازم: فلمَّا قدمت الكوفة، قلت له: يقول لك جعفر بن محمد: يا كافر، يا فاسق، يا مشرك، أنا بريء منك. قال بشار: وقد ذكرني سيدي؟ قلت: نعم، ذكرك بهذا، قال: جزاك الله خيراً)) .

ومقالة بشَّار هي مقالة العليائية؛ أصحاب العلياء بن ذراع الدوسي، يقولون: إنّ علياً(ع) رب وظهر بالعلوية الهاشمية. ووافقوا أَصحاب أبي الخطَّاب في أربعة أشخاص: علي، وفاطمة، والحسنين(ع)، وأنَّ الأشخاص الثلاثة تلبيس، وأنَّهم في الحقيقة شخص علي؛ لأنَّه أوَّل هذه الأشخاص في الإِمامة.

وأنكروا شخص محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلّم)، وزعموا أنَّ بشّار الشعيري لمـَّا أنكر ربوبية محمد وجعلها في علي وجعل محمداً ع ع، وأنكر رسالة سلمان مسح في صورة طيرٌ يقال له: علياء، يكون في البحر؛ فلذلك سمّوهم العليائية)(٢) .

وعن إسحاق بن عمَّار قال: قال أبو عبد الله لبشَّار الشعيري لمـَّا دخل عليه:((أخرج عني، لعنك الله، والله لا يظلني وإِيَّاك سقف أبداً، فلمَّا خرج قال (عليه السلام): وَيْلَه ما صغَّر الله تصغير هذا الفاجر أحد، إِنّه شيطان بن شيطان، خرج ليغوي أصحابي وشيعتي، فاحذروه، وليبلغ الشاهد الغائبَ أنّي عبد الله وابن

____________________

(١) انظر: المنهج، ص٣٢٣؛ [بتلخيص].

(٢) المصدر نفسه، ص٦٨.

١٧٩

أمته، ضمَّتني الأصلاب والأرحام. وإِنّي لميِّت ومبعوث، ثُمَّ مسؤول، والله لأسألن عمَّا قال فيَّ هذا الكذاب وادَّعاه)) (١) .

البراءة من محمد بن نصير وجميع الغلاة أيضاً:

(روي عن أبي محمد الحسن العسكري(ع) أنّه كتب ابتداءً منه إلى أحد مواليه:((إنَّي أبرأ إِلى الله من ابن نصير الفهري، وابن بابا القمِّي فابرأ منهما. وإِنّي مُحذِّرك وجميع مواليَّ، ومخبرك أنِّي ألعنهما، عليهما لعنة الله، فتَّانين مؤذيين آذاهما الله. يزعم ابن بابا أنِّي بعثته نبيَّاً، وأنَّه باب، ويَْله - لعنه الله - سخر منه الشيطان فأغواه، فلعن الله من قبل منه ذلك، يا محمد، إِن قدرت أن تشدخ رأسه، فافعل)) .

وابن الفهري هو: محمد بن نصير. قالت فِرقة بنبوَّته؛ وذلك أنّه ادَّعى النبوَّة وأنَّ علي بن محمد أرسله، وكان يقول بالتناسخ وبإِباحة المحارم، وكان محمد بن موسى بن الحسن بن فرات يُقوِّي أسبابه ويعضده)(٢) .

وعن سهل بن زياد قال: كتب بعض أصحابنا إِلى أبي الحسن العسكري(ع): جعلت فداك يا سيدي، إِنَّ علي بن حسكة يدَّعي أنَّه من أوليائك وأنَّك أنت الأوَّل القديم، وأنَّه بابك ونبيُّك أمرته أن يدعو إِلى ذلك، ويزعم أنَّ الصلوة والزكاة والحجَّ والصوم كُلُّ ذلك معرفتك، ومال إِليه ناس كثير. فإِن رأيت أن تمنَّ على مواليك بجواب في ذلك تنجيهم من الهلكة، قال فكتب (عليه السلام):((كذب ابن حسكة عليه لعنة الله، ويحك إِنّي لا أعرفه من مواليَّ. ويله لعنه الله، فوالله ما بُعث محمدٌ والأنبياء قبله إِلاّ بالحنفيَّة والصلوة والزكاة والصيام والحجِّ، وما دعا محمدٌ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إِلاّ إِلى الله وحده لا شريك له، وكذلك نحن الأوصياء من وِلده عبيد الله لا نشرك به أحدا.. اِبرأ إِلى الله من قول ابن حسكة، وانتفى إلى الله منه، واهجره وأتباعه لعنهم الله وألجأهم إِلى ضيق، وإن وجدت منهم أحداً فاشدخ رأسه)) (٣) .

____________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) المصدر نفسه، ص١٠٧.

(٣) المصدر نفسه، ص٢٢٩.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216