الرسائل الفشاركية

الرسائل الفشاركية6%

الرسائل الفشاركية مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 604

الرسائل الفشاركية
  • البداية
  • السابق
  • 604 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 48010 / تحميل: 6345
الحجم الحجم الحجم
الرسائل الفشاركية

الرسائل الفشاركية

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

دلالة بعضها وأنّه لا دلالة فيه، وأمّا قولهعليه‌السلام في موثقة سماعة: إن كان خلط الحرام حلالاً فاختلط جميعاً فلم يعرف الحلال من الحرام فلا بأس، فيحتمل أن يكون المقصود حصول الخلط عند من أصاب منه المال، وحينئذٍ يكون وجه عدم البأس بما ذكر، لأجل وجوب حمل هذه على ظاهرها الذي هو الملكية، وأمّا ما ورد في جواب السؤال عن جواز شراء السرقة أمّا السرقة فلا، إلاّ اذا اختلط مع غيره فلا بأس إذا لم تعرف السرقة بعينها، إلاّ أن يكون من مال السلطان، فان حمل الاستثناء فيه على الاتّصال فيكون معناه أنّه يجوز شراء السرقة مع الخلط إذا لم يعرف السرقة بعينها ومعناه أن شراء السرقة مع الجهل بكونه شراء السرقة لعدم معرفة السرقة لا بأس به، والقول: بأنّ شراء السرقة قد يكون مع جميع أطراف الشبهة، وقد يكون وحدها مع الجهل بكونها كذلك، والذي يقتضيه الحديث باطلاقه جواز شرائها في الصورتين مدفوع: بأنّ المقصود من الخبر التفصيل بين العلم بكون شراء السرقة وبين صورة الجهل بذلك لأجل أنّ المشتري لا يعلم كونها سرقة، بالجواز في الثاني، والحرمة في الأوّل، كما لا يخفى على من تدبّرها والفرض الذي ذكر في صورة شراء السرقة مع الجهل بشخصها مستلزم للعلم بشراء السرقة بعينها وإن جهل شخصه.

والحاصل: أنّ قوله: « أمّا السرقة فلا » يدلّ على أنّ شراء السرقة مطلقا ولو في ضمن امور يعلم أنّ أحدها سرقة ليس بحلال، وقولهعليه‌السلام : « الاّ إذا اختلط إلى آخره »، معناه: أنّ شراء السرقة في الواقع إذا اختلط مع غيره خلطاً يوجب الجهل بكون الشراء شراء سرقة فلا بأس به، وحمله على الأعم من شراء وحده وشرائه مع غيره، مع أنّه مخالف للظاهر، لأنّ الظاهر كون السرقة هو المشترى مستقلاً مناف لاطلاق قوله: أمّا السرقة فلا، فانّه كما عرفت يقتضي المنع عن شراء السرقة ولو في ضمن امور يعلم بأنّ احدها سرقة كما لا يخفى.

وبالجملة: الظاهر المنساق من الرواية: فارق بين شراء محتمل السرقة مستقلاً وبين شراء السرقة قطعاً فلا ربط له بما نحن فيه والحاصل: انّ هذه الأخبار مع كثرتها

١٠١

ليس فيها ما يكون صريحاً في الدلالة على جواز تناول اطراف الشبهة بعضاً أو كلاًّ فالبعض الظاهر منها في ذلك ايضاً بعد ملاحظة ارتكاب الاحتياط في الأذهان لا يبقى له ظهور في ذلك.

وقد يستدلّ لوجوب الموافقة القطعية ببعض الأخبار: كقولهعليه‌السلام : ما اجتمع الحلال والحرام إلاّ غلب الحرام الحلال(١) ، وقولهعليه‌السلام : اتركوا ما لا بأس به حذراً عمّا به البأس،(٢) وقولهعليه‌السلام في الجواب عن الجبن والسمن في ارض المشركين : أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكل، وما لم تعلم فكل(٣) . فانّ الخلط يصدق مع الاشتباه. وقولهعليه‌السلام في رواية ابن سنان: كل شيء حلال حتى يجيئك شاهدان أنّ فيه الميتة(٤) . و قولهعليه‌السلام في حديث التثليث: وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم(٥) . بناء على أنّ المراد من الهلاكة ما هو أثر للحرام، فإن كان الحرام لم يتنجّز التكليف به فالهلاك المترتّب عليه منقصة ذاتية، وإن كان ممّا تنجّز التكليف به - كما فيما نحن فيه - كان المترتّب عليه هو العقاب الاخروي، وحيث إنّ رفع العقاب المحتمل واجب بحكم العقل، وجب الاحتياط عن كل مشتبه بالشبهة المحصورة، ولمّا كان دفع الضرر غير العقاب غير لازم اجماعاً كان الاجتناب في الشبهة المجرّدة مستحب والجواب أمّا عن قوله: ما اجتمع الحلال فانّ الاشتباه غير الاجتماع فإنّ الظاهر أنّ المراد من الاجتماع هو الاختلاط. ومنه يظهر الجواب عن قوله: أمّا ما عرفت أنّه قد خلطه الحرام، فانّ صدق الخلط على الاشتباه محلّ منع، مع أنّا لو سلّمنا أنّه أعمّ من الاشتباه والامتزاج، نقول: إنّ المراد من الخلط هنا هو الامتزاج بملاحظة أنّ

____________________

(١) عوالي اللئالي: ج ٢ ص ١٣٢ ح ٣٥٨.

(٢) سنن ابن ماجة: ج ٢ ص ١٤٠٩ ح ٤٢١٥.

(٣) التهذيب: ج ٩ ص ٧٩ ح ٧١ مع اختلاف فيه.

(٤) وسائل الشيعة: ب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ح ٢ ج ١٧ ص ٩١.

(٥) الكافي: ج ١ ص ٦٧ قطعة من الحديث ١٠.

١٠٢

ما الموصولة هنا كناية عن الجبن والسمن في أرض المشركين، والظاهر من قولنا: اجتنب عن سمن خلطه الحرام ان المراد من الخلط هو الامتزاج فظهر: أنّ قولهعليه‌السلام امّا ما عرفت انه قد خلطه الحرام الى آخره بمنزلة قولهعليه‌السلام اما ما عرفت إنه حرام بعينه في خبر الجدي السابق ذكره، بل يمكن الاستدلال بذيل الخبر: على جواز تناول الشبهة لاطلاق قولهعليه‌السلام : وما لم تعلم فكل، فانّه يعمّ ما لو اقترن بغير المعلوم علم إجمالي، وما لو لم يقترن، وإن كان الجواب عنه يظهر ممّا أسلفناه سابقاً: من أنّ مثله مسوق لبيان حكم الشبهات البدوية وما يجري مجراه.

وأمّا قولهعليه‌السلام : اتركوا ما لا بأس به حذراً عمّا به البأس، فالظاهر أنّه نظير قولهعليه‌السلام في خبر التثليث: من رعى غنمه قرب الحمى نازعه نفسه إلى أن يرعيها في الحمى، ألا ولكل ملك حمى، ألا وإنّ حمى اللّه محارمه، فاتّقوا حمى اللّه ومحارمه(١) الى آخره، في أنّ المراد منه: مجرّد إرشاد وبيان: أنّ النفس اذا تعوّدت بارتكاب الشبهات يهون عنده الأمر في ارتكاب المحرّمات، ويغلب عليه الهوى فلا يهاب ما يترتّب عليها من المفاسد والمؤاخذة.

وأمّا قولهعليه‌السلام : كل شيء حلال حتى يجيئك شاهدان، فالظاهران المراد من الشيء: هو الفرد وكون المجموع شيئاً واحداً اعتباري بل هو حقيقة أشياء فشموله له خلاف الظاهر، مع أنّه لا ريب في أنّ كل واحد من أجزاء المجموع شيء، فيقع التعارض في مدلول الحديث لحكمه على المجموع بالحرمة وعلى كل جزء بالحل.

وأيضاً نقول: حرمة المجموع ينافيه حلّية الجميع، ولا ينافيه حرمة البعض وحليّة البعض، فلو دلّ خبر على أنّ بعض الاطراف يجوز ارتكابه، ويكون الطرف الآخر بدلاً عن الحرام لم يكن بينه وبين هذا الخبر منافاة.

وأمّا خبر التثليث: فدلالته على وجوب الاجتناب انّما هو بعد إحراز تنجّز التكليف من الخارج، ومعه لا حاجة إليه، إذ مع العلم بالتنجّز يحصل العلم بترتّب

____________________

(١) وسائل الشيعة: ج ١٨ ص ١٢٤، ب ١٢ من أبواب صفات القاضي، ح ٤٧.

١٠٣

العقاب على المخالفة، وبعد ضمّ الكبرى المذكورة - وهو أنّ دفع الضرر المحتمل واجب - ينتج وجوب الاجتناب.

وأمّا القول بأنّ المقصود من الاستدلال معارضة ما دلّ على ذلك لو وجد في الأخبار: فهو يرفع الصغرى المقصود اثباته من هذا الخبر، لأنّه كاشف عن عدم تنجّز التكليف بالمعلوم بالاجمال على أيّ تقدير أي على تقدير كونه في كل واحد من الطرفين، وحينئذٍ فلا يثبت بخبر التثليث احتمال ترتّب العقاب على ما اختار ارتكابه من الأطراف، إذ المفروض القطع بعدم العقاب لما دلّ على الترخيص كما لا يخفى.

وقد يستدلّ أيضاً لوجوب الاحتياط: بالأخبار الخاصة - بناءً على أنّه يستفاد من المجموع أنّ هذا الحكم ليس لخصوصية في الموارد، بل انّما هو لأجل أنّ الشأن في كل شبهة محصورة هو ذلك، وأنّ ذلك أمر مفروغ عنه بين الائمةعليهم‌السلام وكذلك الشيعة والعامة - فمنها ما ورد في المائين المشتبهين: وهنا فائدة لابدّ من ذكرها - : وإن لم يكن مربوطاً بالمقام - وهي أنّه قد يقال : انّه يمكن التطهير بالمائين المعلوم وجود النجس في أحدهما بأن يتوضّأ بأحدهما ثم يطهّر بالآخر ما لاقى الماء الأوّل ثم يتوضّأ منه، فانّه حينئذٍ يكون بحكم الاصل أعني اصالة الطهارة في كلما شك في نجاسته متطهّراً عن الخبث ومتطهّراً عن الحدث يقيناً.

وقد يقال: إنّه يجب البناء حينئذٍ على ضدّ الحالة السابقة، لأنّ ما وصل إليه الماء إن كان نجساً قبل ذلك، يكون إرتفاع تلك النجاسة معلوماً والشك في حدوث نجاسة اخرى، لجواز أن يكون الماء الأوّل هو الماء النجس، وإن كانت طاهراً قبل ذلك يكون ارتفاع تلك الطهارة معلوماً بوصول الماء النجس والشك في زوال تلك النجاسة المتيقّنة.

والحاصل: أنّ الاستصحاب فيما إذا كان الطهارة هي الحالة السابقة رافعة لاصالة الطهارة فهو حينئذٍ لا يكون متطهراً عن الخبث ظاهراً.

والجواب: أنّ لنا أن نستصحب الطهارة الموجودة حال ورود الماء الطاهر،

١٠٤

والنجاسة حال ورود النجاسة، وحينئذٍ يكون كل واحد من الاستصحابين متعارضين، وليس لنا يقين بارتفاع أحد الحالتين المفروضتين، وانّما المتيقّن هو ارتفاع الحالة السابقة على ورود المائين، ونحن لا نريد من استصحاب الطهارة أو النجاسة، إستصحاب تلك الحالة المفروضة حتى يقال: إنّها منتفية الارتفاع، وحينئذٍ يرجع إلى أصل الطهارة، فيكون مستعمل هذا الماء متطهّراً عن الحدث والخبث، والظاهر أنّ مورد الأخبار الدالّة على وجوب الاجتناب ليس ما يمكن فيه الاحتياط بمثل هذا الجمع.

ومنها ما ورد في الصلاة في الثوبين المشتبهين: فانّه لو كان بعض الاطراف أو كلّها مع وجود هذا العلم الاجمالي بحكم الطاهر ظاهراً، لم يكن وجه للحكم بالاحتياط والجمع بين الصلاتين.

ومنها ما ورد في وجوب غسل الثوب من الناحية التى يعلم باصابة بعضها للنجاسة معلّلاً فيه: بقوله حتى تكون على يقين من طهارته(١) . فانّ وجوب تحصيل اليقين بالطهارة - على ما يستفاد من التعليل - يدلّ على أنّ أصالة الطهارة لا يكون جارية بعد العلم الاجمالي. إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على الحكم بنفسها، أو بضميمة حكم العقل بعد صرف الروايات الدالّة على الحلّ - على تقدير شمولها لمورد الشبهة ظاهراً - عن ظاهرها بمعونة حكم العقل بناءً على ما سبق من أنّ اقترانه يكون [ مانعا: ط ] عن ظهور الخطاب في شموله لمورد الحكم الاجمالي.

تنبيهات

الأوّل: انّ وجوب الاحتياط انّما يحكم به العقل ويستقلّ به حيث كان حدوث التكليف بأمر مردّد بين المشتبهين معلوماً، فلو لم يكن ذلك معلوماً لا يجب الاجتناب، فلو علم بوقوع قطرة من البول بين أحد الانائين اللذين أحدهما كراً

____________________

(١) وسائل الشيعة: ب ٧ من أبواب النجاسات ح ٢ ج ٢ ص ١٠٠٦.

١٠٥

معلوم النجاسة تفصيلاً أو أحدهما خارج عن تحت ما يتمكّن المكلّف من استعماله لم يجب الاجتناب عن الاناء الآخر الذي ليس بكر، أو ليس بمعلوم النجاسة تفصيلاً، أو يكون ممّا يمكن استعماله والسّر في ذلك: إنّ وجوب الاحتياط انّما يكون ثابتاً لكونه طريقاً للامتثال اليقيني للتكليف المعلوم ثبوته بسب العلم الاجمالي بوجود الموضوع المحرّم بين الأطراف فحيث انتفى العلم بالتكليف ينتفي لازمه وهو وجوب الاحتياط. وهذا الكلام مطرد في جميع المواضع التي تكون في بعض الأطراف خصوصية لا يحصل القطع معها بثبوت تكليف بالاجتناب عن موضوع - معلوم التحقّق بين الاطراف - مجهول شخصه ومن هذا الباب ما لو كان بعض الأطراف خارجاً عن ابتلاء المكلّف. والمراد بخروجه عن الابتلاء: أن يكون بحيث لا يصحّ أن يكلّف بالاجتناب عنه منجّزاً من غير تعليق بشيء مثل التملّك، والاستعارة، أو غير ذلك، فانّ بعض الأطراف اذا لم يكن تعلّق التكليف الفعلي به حسناً لو كان حراماً، لا يكون التكليف بالموضوع المحرّم وجوده بين الأطراف معلوماً، لاحتمال أن يكون متّحداً مع ما خرج عن مورد إبتلائه، وحينئذٍ فلا موجب للاحتياط فيما يكون المكلّف مبتلى به من الأطراف، لأن وجوب الاحتياط انّما حكم به العقل لكونه مقدّمة لحصول العلم بالامتثال وذو المقدّمة لا يكون واجباً، لأنّ منشأه وهو وجوب الاجتناب عن الحرام المردّد غير معلوم، بل معلوم العدم بالأصل.

وبعبارة اخرى: وجوب الاجتناب في كل واحد من الأطراف، إمّا لسقوط أصالة البراءة للمعارضة بمثلها - وهي الأصل في باقي الاطراف - إن قلنا بشمول أخبار أحل ما لم يعلم حرمته للمشكوك المقرون بالعلم الاجمالي، أو لعدم كونها جارية في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي، لاستقلال العقل بوجوب الاحتياط مع وجوب تكليف متعلّق بموضوع موجود مجهول شخصه، إن قلنا بأنّ الأخبار المذكورة غير شاملة لمثل ما ذكر.

وكلا الوجهين منتفيان هنا، أمّا الاوّل: فلأنّ أصل البراءة في المورد الذي

١٠٦

يكون خارجاً عن ابتلاء المكلّف لا مجرى له، إذ ليس للمكلّف تعلّق به من حيث العمل حتى يجري الاصل، وعدم جريانه يكون الأصل في الطرف الآخر سليماً عن المعارض.

وأمّا الثاني: فلأنّ التكليف الفعلي غير معلوم، لاحتمال اتّحاد الموضوع الذي حكمه الحرمة، مع ما لم يكن المكلّف مبتلى به، وحينئذٍ يكون العقل حاكماً بالبراءة بالنسبة إلى ما يبتلى به المكلّف، كما أنه يحكم بها أيضاً بالنسبة إلى ذلك الموضوع.

بل يمكن أن يقال: إنّ أخبار البراءة - مثل قولهعليه‌السلام : كل شيء فيه حلال(١) إلى آخره، وقولهعليه‌السلام : كل شيء لك حلال(٢) إلى آخره - شاملة لما لا يكون خارجاً عن ابتلاء المكلّف فيما نحن فيه، بل وكذا أخبار أصالة الطهارة - مثل قولهعليه‌السلام : كل شيء لك طاهر(٣) - وإن قلنا: إنّ تلك الأخبار لا تشمل المشتبه المقرون بالعلم الاجمالي - كما يأتي - بل كذلك أخبار الاستصحاب، وإن قلنا: بانّ الاذن في المخالفة القطعية ممكن ولا يكون قبيحاً، وقلنا: إنّ عدم جريان تلك الأخبار في أطراف العلم الاجمالي لما فيها من الدلالة على وجوب نقض الشك باليقين الاجمالي لا لعدم تعقّل الاذن في المخالفة القطعية أيضاً.

بقي الكلام في شىء: وهو أنّ تميّز موارد الابتلاء عن موارد عدمه مشكل، ومقتضى الأصل عند الاشتباه: إلحاق العلم الاجمالي - الذي شكّ في خروج بعض أطرافه عن الابتلاء - بما علم خروج بعض أطرافه عن الابتلاء، وذلك لأنّ الحكم بالبراءة فيما لم يخرج عن الابتلاء لعدم العلم بالتكليف بالاجتناب عن الموضوع المشتبه الذي أوجب جريان الأخبار في ذلك الطرف على تقدير شمولها لصورة العلم الاجمالي، وحكم العقل بالبراءة فيه على تقدير عدم جريانها، وعدم العلم يكفي فيه الشك في دخول بعض الأطراف فيما يبتلى به المكلّف كما لا يخفى.

____________________

(١) الكافي: ج ٥ ص ٣١٣ ح ٣٩.

(٢) الكافي: ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠.

(٣) مستدرك الوسائل: ج ١ ص ١٦٤ ح ٥.

١٠٧

وقد يقال: إنّ مقتضى الأصل وإن كان ذلك، إلاّ أنّ إطلاق أدلّة وجوب الاجتناب عن المحرّمات مانع عن جريانها في ما فرض الكلام فيه لأنّ مقتضى إطلاق تلك الأدلّة: وجوب الاجتناب حتى في ما يكون خارجاً عن الابتلاء، والقدر المتيقّن من الموارد التي خرج عنها موارد علم خروجها عن الابتلاء، وغيرها يكون خروجه مشكوكاً، والعمل بالاطلاق حينئذٍ متعيّن - لما تقرّر في محلّه - : من أنّ الشك في خروج الأفراد إذا كان ناشئاً من إجمال المقيّد للاطلاق حكمه، الرجوع إلى الاطلاق والأمر فيما نحن فيه كذلك، لأنّ الشك في موارد الابتلاء، انّما هو لعدم إمكان ضبط مفهوم المقيّد على وجه لا يخفى شيء من مصاديقه.

وفيه نظر من وجهين: الأوّل: انّ الابتلاء ليس من شرائط ثبوت الحكم في الواقع، حتى يكون إطلاق ما دلّ على ثبوته حجّة في مورد الشك في الابتلاء، بل هو من شرائط تنجّز الخطاب وفعليّة الطلب، ولا ريب أنّ إطلاق الأدلّة انما يفيد في الشرائط الموجبة لتقييد الحكم واقعاً.

والحاصل: انّ الخمر الذي يبتلي به المكلّف يكون المطلوب عدم شربه واقعاً، ولكن توجّه هذا الخطاب إلى المكلّف وتنجّزه في حقّه مشروط بكونه محلّ إبتلائه، فمع الشك في الابتلاء، لا معنى لرفع الشبهة بهذا الخطاب الموجود في حالتي الوجود والعدم، الاّ أن يقال: إنّ إطلاق الخطاب وتوجيهه إلى المكلّفين - مع عدم صحّة التوجيه إلاّ في صورة الابتلاء - كاشف عن وجود شرائط التوجيه.

وفيه وفي أصل النظر تأمّل.

الثاني: أنّا لو سلّمنا أنّ الابتلاء من شرائط ثبوت الحكم واقعا - بحيث حكمنا أنّ من خرّج المحرّم عن ابتلائه لا يكون محرّماً عليه واقعاً - نمنع أنّ الخطاب في مقام البيان - من حيث حالة المكلّفين من الابتلاء والعدم - لأنّ المطلّقات الواردة في بيان المحرّمات واردة في مقام بيان المحرّمات عن المباحات، وليست في مقام بيان من يحرم عليه، ويطلب اجتنابه عنها من هذه الجهة، حتى يكون اطلاق الخطاب في مورد الشك حجّة فتأمّل.

١٠٨

والحاصل: أنّ الخطابات منها ما يقصد منها الشروع الفعلي ومنها ما يقصد تشريع الحكم، والإبتلاء والعدم انّما يلاحظ في الخطابات التي من القسم الأوّل، دون ما يكون من القسم الثاني: فالتمسّك بالمطلقات الواردة في بيان تشريع الحكم لا وجه له، اذ ليست هي في مقام بيان حال المخاطب حتى يكون عدم تقييدها في هذا المقام دليلاً على الاطلاق فتأمّل في الفرق بين الاعتراضين.

التنبيه الثاني: لا ريب في أنّ العلم الاجمالي بوجود الحرام انّما يوجب الاحتياط خاصّة بالنسبة إلى كل واحد من المشتبهات، وأمّا الآثار - التي موضوعها نفس ذلك الحرام غير وجوب الاجتناب - فلا يثبت للأطراف، فمن شرب أحد الانائين اللذين أحدهما خمر لا يثبت عليه حدّ الخمر لا لأنّ الحدود تدرأ بالشبهات، بل لأنّ موضوع الحكم غير ثابت.

ومن هنا انقدح: أنّ ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة لا يكون محكوماً بالنجاسة، لأن ثبوت نجاسته موقوف على إحراز كونه ملاقياً للنجس، وهذا المعنى غير معلوم، فكيف يحكم بنجاسته ووجوب الاجتناب عنه.

وقد يقال: إنّ تنجّس الملاقي وعدمه مبنيّان على أنّ تنجّس الملاقي انّما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس - بناءً على أنّ الاجتناب عن النجس يراد به ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط، أو أنّ الاجتناب عن النجس لا يراد به الاّ الاجتناب عن العين، وتنجّس الملاقي للنجس حكم وضعي سببي يترتّب على العنوان الواقعي من النجاسات نظير وجوب الحد للخمر - ، فإذا شكّ في ثبوته للملاقي، جرى فيه أصل الطهارة، وأصل الاباحة.

وفيه: انّا لو سلّمنا أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي وتنجّسه انّما جاء من وجوب الاجتناب عن النجس، نقول: إنّ ذلك لا يستلزم الاجتناب عن ملاقي المشتبه بالنجس، لأنّ تنجّز الخطاب بالاجتناب عن نفس النجس كما يكون مشروطاً بوجود نجس معلوم ولو اجمالاً، كذلك تنجّز ذلك الخطابات بالنسبة إلى الملاقي موقوف على وجود ملاقي النجس على وجه يعلم ملاقاته له، ضرورة أنّه

١٠٩

لا معنى لطلب الاجتناب عن الملاقي مع عدم وجوده ولو فرض العلم التفصيلي بالنجس، ولا ريب أنّ ملاقي المشتبه بالنجس لا يعلم كونه ملاقياً للنجس، وإلاّ كان المشتبه معلوم النجاسة فتأمّل.

فان قلت: هب ان الملاقي لأحد الأطراف لا يعلم كونه ملاقياً للنجس، إلاّ أنّ العلم الاجمالي بكونه أو المشتبه الآخر الذي بازاء الملاقى - بالفتح - نجساً يوجب الاجتناب، كما أنّ العلم بنجاسة الملاقى - بالفتح - أو الطرف الآخر أوجب الاحتياط بالنسبة اليهما، وهذا - نظير ما لو انقسم أحد الانائين إلى قسمين فانّه يجب الاجتناب عن كل قسم.

قلت: حكمنا بعدم وجوب الاحتياط هنا انّما هو لجريان أدلّة البراءة في الملاقي - بالكسر - العقلية منها والنقلية، كما أنّ الأمر كذلك في مسألة خروج بعض الأطراف عن الابتلاء.

أمّا جريان الأدلّة العقلية فبيانه: أنّ العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي - بالكسر - أو ما بإزاء الملاقى - بالفتح - لا يكون سبباً للعلم بتكليف بالاجتناب عن نجس، لأنّه لم يكن سبباً للعلم بوجود نجس غير الذي علمنا وجوده بين الملاقى - بالفتح - وما بإزائه فالعلم الاجمالي لم يوجب الاحتياط بالنسبة إلى الملاقي - بالكسر - لأنّه انّما يوجب الاحتياط لأجل تنجّز التكليف بوجوده والتكليف بالاجتناب في الملاقي - بالكسر - للجهل بكونه نجساً مجهول، فهو مندرج في كلّي مجهول الحكم الذي فيه البراءة وعدم وجوب الاحتياط.

وأمّا مسألة انقسام أحد الانائين بقسمين فليس من هذا القبيل، لأنّ التكليف المعلوم الذي وجب امتثاله موضوعه مردّد بين مجموع القسمين والاناء الآخر وذلك ظاهر بخلاف ما نحن فيه فان التكليف بالاجتناب موضوعه مردّد بين الملاقى - بالفتح - وما بإزائه وإن كان العلم بالملاقي(١) حاصلاً عند العلم بوجود النجاسة

____________________

(١) بالملاقاة (ظ).

١١٠

بين الإنائين لأنّ وجوب الاجتناب الملاقي لا يكون مستفاداً من وجوب إجتناب النجس، بل هو حكم آخر سببي وضعي.

وأمّا الاخبار: فأمّا دلالتها على البراءة فيما نحن فيه - بناءً على شمولها للمشتبه ولو كان مقروناً بالعلم الاجمالي - فظاهر لأنّ رفع اليد عنها في كل واحد من المشتبهين انّما هو لعدم جواز الاذن في المخالفة القطعية وعدم ما يوجب التخصيص(١) ببعض الاطراف، لانّ قيام العلم الاجمالي بالملاقى - بالفتح - وما بإزائه أوجب سقوط الأصل فيهما وحينئذٍ فجريانه في الملاقي لا مانع منه، لأنّ معارضة الأصل الجاري فيما بازاء الملاقى - بالفتح - بالجاري في نفس الملاقي، موجب للحكم بخروج بعض معيّن من اطراف العلم الاجمالي الثاني - الذي يكون الاذن في المخالفة القطعية مخالفاً للعقل - عن عموم الخبر، ودخول بعض معيّن فيه تحته، والحكم بخروج معيّن من أطراف العلم الاجمالي الأوّل(٢) ، مع كون العلم بالملاقاة والعلم بوجود النجس متقاربين لا وجه له، إذ ما دام الأصل في الملاقى - بالفتح - جارياً لا يكون الملاقي - بالكسر - مجهول الحكم، حتى يكون الأصل فيه مسقطاً للأصل الذي بازاء الأصل في الملاقي فيكون سليماً عن المعارض.

وأمّا بناءً على أنّ أخبار الحلّ غير شاملة لموارد العلم الاجمالي فيمكن أن يقرّر بوجهين:

الأوّل: إنّ العلم الاجمالي بوجود النجس بين الملاقي - بالكسر - والطرف الآخر لما لم يكن حكمه الاحتياط في الملاقي - بالكسر - عند العقل كان اقتراح الشك فيه كاقتراح الشك في الشكوك البدوية وكان قيام الشك في النجاسة بالطرف الآخر بمنزلة العدم بالنسبة إلى الشك في الملاقي - بالكسر - ولهذا صار داخلاً في عموم ما دلّ على أنّ الشبهات البدوية لا يجب الاحتياط فيها، وهذا البيان بعينه جار فيما لو خرج بعض الأطراف عن الابتلاء، فانّ الشك فيما خرج عن الابتلاء بمنزلة العدم،

____________________

(١) الخروج (خ).

(٢) الثاني (ظ).

١١١

والعلم الاجمالي بوجود نجس بين ذلك وبين ما يبتلى به، لعدم اقتضائه وجوب الاحتياط بمنزلة العدم، ولهذا يكون اقتراح الشك فيه عرفاً كاقتراح الشكوك في الشبهات البدوية.

والحاصل: أنّ قوله: كلّ شيء فيه حلال وحرام(١) ، وإن كان معناه: إنّ كلّ ما شك في كونه حلالاً وحراماً وكان اشتمال النوع في الخارج أو في الذهن على قسمين سبباً للشبهة فيه، فهو لك حلال شامل لما نحن فيه، لأنّ الشبهة الخارجية لكونها بمنزلة العدم لا يكون اقتراح الشبهة شبهة، في كون هذا الملاقي أو ما يبتلى به هو النجس المعلوم، بل يكون شبهة في كون هذا الفرد داخل في عنوان النجس أم لا فتأمّل.

الثاني: إنّ الشبهة في حلّية الشيء وحرمته قسمان:

أحدهما: ما يكون مقروناً بما يوجب الاحتياط كالشبهة في أطراف العلم الاجمالي بالحرام بين امور محصورة.

وثانيهما: ما لا يكون كذلك كالشبهات البدوية وأطراف الشبهات الغير المحصورة، وأخبار الحلّ شاملة للقسم الثاني بجميع اقسامه، وأمّا القسم الأوّل فهو خارج عن عمومه، لأنّ الظاهر من الأخبار - بقرينه السؤالات وقوله: في بعض الأخبار من أجل مكان واحد يحتمل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض - أنّ المقصود بيان حكم الشبهات التي ليست بمقرونة بما يوجب الاحتياط، وأنّ الشبهة بمجرّدها ليست كافية في وجوب الاحتراز عن المشتبه، بل ينبغي البناء على عدم الاعتناء، ولا ريب في أنّ ما خرج مقابلة من الأطراف عن الابتلاء ومثل ملاقي المشتبه لا يكون الشبهة فيها مقرونة بما يوجب الاحتياط فيكون داخلة في الأخبار.

وبالجملة: أخبار الحلّ وإن كانت تشمل مثل الشبهة الغير المحصورة، والبدوية، والمحصورة، إلاّ أنّ المقصود لمّا علم أنّه بيان حكم الشبهة من حيث هو، لا من

____________________

(١) الكافي: ج ٥ ص ٣١٣ ح ٣٩.

١١٢

حيث اقترانه بما يوجب الاحتياط، لدلالة السؤالات على ذلك، حيث إنّ الظاهر منها أنّ المقصود: السؤال عن انّ الشبهة بنفسها كافية في الاحتياط أم لا؟ بعد علمنا بأنّ المقصود ليس الترخيص في الموارد التي يجب فيها الاحتياط عقلاً وأنّها خارجة عن موردها، مضافاً إلى أنّ المركوز في الأذهان: وجوب الاحتياط في مثل الشبهة المحصورة، وهذا قرينة مانعة عن دخول مثلها تحت الأخبار، وحينئذٍ يبقى ما يكون غير مقرون بما يوجب الاحتياط تحت الأخبار.

وهذا الجواب بالنسبة إلى دلالة قوله: كلّ شيء لك حلال تمام - قد مرّ الاشارة إليها -.

وأمّا قوله: كل شيء فيه حلال وحرام - الذي سبق - أنّه غير شامل لأطراف الشبهة المحصورة، لأنّ ظاهره أنّه ما شك في حليّته وحرمته من أجل انقسام نوعه بقسمين الحلال والحرام مع قطع [ النظر ] عن وجود الحرام في الخارج وعدمه بأن يكون صرف إنقسام النوع هنا منشأ للشك، والشك في اطراف الشبهة المحصورة لا يكون ناشئاً عن انقسام النوع، فلا يجري فيه هذا الكلام إلاّ على تقدير منع ما سبق، لأنّ ذلك يوجب خروج الشبهة الغير المحصورة أيضاً عن عمومه، ويكون مخصوصاً بالشبهات البدوية.

والظاهر خلاف ذلك خصوصاً بالنظر إلى كون مورد السؤال فيها من هذا القبيل، إذ مورده فيها: الجبن الذي علم بوجود قسم حرام منه في الخارج، فلابدّ أن يكون المراد: أنّ ما اشتبه حكمه وكان وجود الحلال والحرام في الخارج سبباً للشك فيه، إمّا لاحتمال اتّحاده مع الحرام المعلوم، أو لكونه أيضاً حراماً، لجواز كون الماهية في ضمن هذا الفرد ايضاً حراماً بعد وجود النوع الحرام، وحينئذٍ يشمل جميع الموارد حتى الشبهة المحصورة، ويكون خروجها بالنظر إلى ما في الجواب، فيكون ملاقي الشبهة وما خرج مقابلة عن الابتلاء داخلاً فيه، إلاّ أن التأمّل الصادق في الخبر يشهد بخلاف ذلك، وأنّ قوله: كل شيء فيه حلال وحرام يشمل مثل الشبهة الغير المحصورة دون المحصورة، لأنّ معناه كل نوع أو فرد من نوع كان ذلك النوع

١١٣

قسمين، وكان الفرد أو النوع مشكوك الحليّة لأجل اختلاط الأفراد وعدم تميّز الحلال عن الحرام يكون ذلك النوع حلالاً لا حراماً ولا ريب أنّ الأمر في الشبهة المحصورة ليس كذلك، لأنّ الشك فيها لا يكون ناشئاً من اختلاط افراد النوع وعدم تميّزها، بل هو ناش من العلم بوجود حرام مخصوص بين الموارد المخصوصة واشتباهه بالحلال، وليس الأمر كذلك في الشبهة الغير المحصورة مطلقاً، لأنّ الحرام من الطبيعة الموجودة في الخارج إذا كان مشتبهاً بين أفراد الحلال نسبته إلى الحلال من الأفراد كنسبة الواحد إلى الألف مثلاً، وكان الشك في فرد من جهة الشك في إندراجه تحت الحرام كان حكمه الحليّة بمقتضى الخبر كما لا يخفى، ولكن لا حاجة إلى هذه الرواية بعد دلالة العقل وقولهعليه‌السلام : كل شيء لك حلال، في اتمام المطلب في مسألتنا هذه فتأمّل.

ثم اعلم: أنّ قولهعليه‌السلام : كل شيء طاهر، نظير قوله: كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام، فيجري فيه ما ذكرنا من الجوابين عن شبهة خروج ملاقي الشبهة والطرف المبتلى به من اطراف العلم الاجمالي الاجمالي الذي خرج بعض اطرافه عن الابتلاء فلا نعيده.

وأمّا أخبار الاستصحاب فبعد منع شمولها لاطراف العلم الاجمالي، لدلالتها على وجوب نقض الحكم السابق بالنسبة إلى موضوع المعلوم نجاسته المردّد بين المشتبهين المنافية لكون كل واحد من الاطراف مستقلاً داخلاً تحت قوله: لا تنقض اليقين وترجيح ظهور الأوّل على ظهور قوله: لا تنقض في الشمول لما ذكر فشمولها لمثل الملاقي - بالكسر - ومثل ما خرج عن مقابله عن الابتلاء مشكل.

التنبيه الثالث: إذا كان المكلّف مضطرّاً في إرتكاب بعض الأطراف، فإمّا أن يكون اضطراره إلى معيّن من الأطراف، أو يكون إلى غير معيّن، والأوّل: إن كان إضطراره قبل العلم الاجمالي بوجود الحرام بين المشتبهين، أو معه، أو قبل مضيّ زمان يقبح معه التكليف بالاجتناب عن ذلك الحرام، فلا يجب الاجتناب عن الآخر الذي لا يضطرّ إليه، لأنّ التكليف بالاجتناب عن الحرام الذي علم وجوده بين

١١٤

الطرفين لا يعلم تنجّزه بالعلم، لاحتمال أن يكون الحرام هو الذي يكون مأذوناً في ارتكابه بالخصوص والطرف الآخر يجعل كونه الحرام.

وبعبارة اخرى: اجتماع شرائط التكليف بالاجتناب عن المحرّم الموجود بين الطرفين مجهول الحصول، لاحتمال أن يكون عين ما اضطرّ إليه بالخصوص،أو نقول: لا نعلم الآن بحرام لو علم شخصه تفصيلاً كان واجب الاجتناب، ضرورة أنّه لو كان هو ما اضطرّ إليه لم يكن واجب الاجتناب، فأصالة البراءة في الطرف الآخر سليم عن المعارض.

وإن كان اضطراره بعد العلم ومضيّ زمان يصحّ التكليف معه فيجب الاجتناب عنه، لأنّ التكليف بالحرام على أيّ تقدير - أي سواء كان ما اضطرّ اليه أم غيره - كان منجّزاً وسقوطه غير معلوم، لأنّ الاضطرار انّما أوجب الإذن في الحرام على تقدير كونه ما اضطرّ إليه فالاذن المذكور راجع إلى الاكتفاء في مقام الامتثال ذلك الخطاب بالامتثال الاحتمالي، وليس المراد هنا من الاكتفاء: بدليّة غير ما اضطرّ إليه عن الحرام، إذ ليس ما يدلّ على البدليّة كما لا يخفى.

وان كان مضطرّاً إلى واحد غير معيّن فإن كان بعد العلم فالأمر فيه واضح، وإن كان قبله أو معه فالظاهر هنا وجوب الاحتياط في غير ما ارتكبه، وذلك لأنّ التكليف بالاجتناب عن الواحد المردّد بين الطرفين، شرائط تنجّزه موجودة، إذ العلم به مفروض الحصول، والجهل بشخصه لا يكون مانعا، والاّ لمنع مطلقاً، والاضطرار ليس أيضاً متعلّقاً بالحرام ولو احتمالاً، لأنّ الاضطرار إلى أحد الأمرين لا يكون اضطراراً إلى معيّن كما هو واضح.

غاية الأمر: أنّ الجهل بالتفصيل والاضطرار إلى غير معيّن أوجب الاذن في ترك تحصيل العلم بالامتثال، وهو لا يوجب الاذن في المخالفة القطعية بعد وجود شرائط تنجّز الخطاب، فالاذن راجع إلى الاكتفاء بالامتثال الاجمالي الاحتمالي.

١١٥

القول في الشبهة الغير المحصورة

وفيها مقامان(١) : (الأوّل) في حكم أطراف الشبهة (والثاني) في موضوعها.

أمّا الأوّل

فاستدلّوا على عدم وجوب الإجتناب بوجوه:

الأوّل: الاجماع المحكيّ عن جماعة بل دعوى الضرورة عليه، وأن عليه مدار المسلمين في الأعصار والأمصار.

الثاني: قوله تعالى: (يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)(٢) . وقوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج)(٣) . بناءً على أنّ في الاجتناب عن اطراف الشبهة مشقة أكيدة وعسراً شديداً غالباً على أغلب أفراد المكلّفين.

وفيه (أوّلاً) أنّ الحرج ليس في الاجتناب عن الحرام وانّما هو في تحصيل العلم به لكثرة المشتبهات، فليس في حكم الشارع حرج.

إلاّ أن يقال: إنّ جعل الحرج قد يكون بتأسيس انّ اللّه تعالى لا يريد العسر، فكل ما يلزم منه العسر في فعل واجب بظاهر الأدلّة، أو حرام كذلك، أو واجب بحكم العقل في طاعة أوامره ونواهيه لا يكون لازماً.

____________________

(١) كأنّ المؤلّف -قدس‌سره - اكتفى بالكلام حول المقام الأول فقط ولم يتطرّق حول المقام الثاني.

(٢) البقرة: ١٨٥.

(٣) الحجّ: ٧٨.

١١٦

أو يقال: إنّ جعل الحرج قد يكون بانشاء حكم فيه الحرج بنفسه، وقد يكون بجعل حكم في مورد يلزم الحرج وإن لم يكن في أصل الحرج فتأمّل.

و (ثانياً) أنّ ما يدلّ عليه الآيات بظاهرها نفي العسر بنفسه، وهو انّما يقتضي الاقتصار على موضع تحقّق فيه العسر والتعدّي إلى غير مورده انّما يصحّ إذا كان ذلك من افراد موضوع الحكم الذي تعسر إمتثاله في بعض مصاديقه(١) ، لما دلّ على أنّ الأحكام الشرعية الكلّية ترفع بوجود العسر في أغلب مواردها، وأفراد الشبهات المحصورة ليست داخلة في موضوع حكم واحد، لأن سبب الاجتناب في كل مورد دليل ذلك المورد، فايجاب الاحتياط عند اشتباه النجس بغيره لو كان مرفوعاً - لكونه حرجيّاً - يلزم منه التعدّي إلى المشتبهة بالأجنبية، لأنّ(٢) وجوب الاحتياط في الأوّل انّما نشأ من قوله: اجتنب عن النجس، وفي الثاني من قوله: اجتنب عن الأجنبية.

لا يقال: ايجاب الاحتياط عند اشتباه الحرام بغيره حكم عقلي - نسبة موضوعه إلى المشتبه بالخمر كنسبته إلى المشتبه بالبول - ، لصدقه على كليهما وموافقة هذا الحكم توجب الحرج على أغلب المكلّفين وفي أغلب أقسام المشتبهات فهو مرفوع عنهم.

لأنّا نقول: الذي يدلّ عليه الأدلّة: هو أنّ الحكم الشرعي اذا لزم منه وقوع المكلّف في الحرج في أغلب مصاديقه مرفوع، وانما حكم الشارع بحرمة امور لزم الحرج على المكلّفين في امتثال تلك الاحكام عند اشتباه تلك الامور بامور غير محصورة، لحكم العقل بوجوب الامتثال اليقيني، والجامع المذكور ليس موضوعاً لحكم الشارع، وانما انتزعه العقل من الموارد الخاصة وحكم عليه بوجوب الاجتناب، لاستقلاله بوجوب تحصيل اليقين بالبراءة عند اليقين بالاشتغال، وهذا

____________________

(١) في غالب مصاديقه (ط).

(٢) في نسخة ط : « لامن » وفي النسخة الثانية « لأنّ » وهو الصحيح.

١١٧

الحكم ليس حكماً شرعياً يشمله أدلّة نفي الحرج، فعلى هذا يلزم الاقتصار في ترك الاحتياط على الموارد الخاصة التي يوجب الاحتياط فيه الحرج على المكلّفين، ولا يجوز التعدّي منها إلى غيرها، وانّما يحكم في تلك الموارد الخاصة برفع الاحتياط، لأنّ الحكم الشرعي فيها مستلزم للحرج بواسطة الأمر الخارج وهو مرتفع بقدره.

أقول: وعلى هذا لا يجوز التعدّي - بلزوم الحرج من الاحتياط عند إشتباه بعض أفراد النجس بغيره من الامور الغير المحصورة - إلى ترك الاحتياط في موارد اشتباه النجس التي لا يلزم من الاحتياط فيها حرج، لأنّه ليس في الاجتناب عن النجس حرج في أغلب موارده، ولزوم الحرج من الاحتياط في أغلب موارد إشتباهه بغير المحصورة لا يوجب التعدي إلى مورد لا يوجب الحرج، لأنّه ليس الحكم بوجوب الاجتناب مخصوصاً بالنجس المشتبه فما في الرسالة من انّه يمكن التعدي هنا إلى مورد لا حرج فيه(١) لا يخلو عن النظر، ولعل في قوله أمكن التعدّي إشارة إلى تمريضه.

ويرد على أصل الدليل (ثالثاً) أنّ أغلب موارد الشبهة الغير المحصورة يكون بعض أطرافها خارجاً عن مورد إبتلاء المكلّف ولا يجب الاحتياط في مثل هذه الموارد لما تقرّر سابقاً وموارد الابتلاء لا يلزم من الاحتياط فيها حرج على المكلّفين.

الثالث: الأخبار الدالّة على حلّ ما لم يعلم حرمته، فإنّ مقتضى الجمع بينها وبين ما دلّ على وجوب الاجتناب عمّا لم يعلم حرمته: حمل الأخبار المرخّصة على الشبهة الغير المحصورة، والمانعة على الشبهة المحصورة.

ويرد عليه (أوّلاً) أنّ ايجاب الاحتياط ليس لأجل تقديم أخبار الاحتياط بل لأجل إقتضاء دليل الواقع لذلك، بعد ما مرّ الاشارة اليه من منع شمول هذه الأخبار لصورة العلم الاجمالي، لأنّ الاذن في الجميع - الذي هو ظاهر هذه الأخبار - غير معقول، وتخصيصها ببعض الأطراف دون بعض لا مرجّح له، فيكون كلّها

____________________

(١) فرائد الاصول: ص ٤٣١. طبع جامعة المدرسين.

١١٨

خارجة عنها.

هذا ولكن قد مرّ: أنّ حكم العقل بعدم جواز المخالفة القطعية معلّق بعدم إذن الشارع بترك جميع المحتملات، وعدم شمول أخبار الحّل للشبهة المحصورة قد عرفت: أنّ الوجه فيه ليس ما ذكر وانما الوجه فيه ظهورها في الشبهات البدوية وما يجري مجراها بحسب العرف.

(وثانياً) أنّ أخبار الحلّ كاخبار المنع شاملة لجميع الشبهات والخارج من الاولى بالدليل موارد الشبهة المحصورة، ومن الثانية الشبهة الإبتدائية، وكلّها بظاهرها شاملة للشبهة الغير المحصورة، فلا وجه لترجيح بعضها على الآخر.

إلاّ أن يقال: إنّ إخراج غير المحصورة عن أخبار الحلّ موجب لكثرة تخصيصها، إذ قلّ ما نجد مجهولاً إبتدائياً لا يكون من أطراف شبهة غير محصورة.

وفيه: أنّ أكثر أفراد الشبهة الغير المحصورة يكون بعض اطرافها خارجاً عن محلّ الابتلاء ولا يلزم منه كثرة تخصيص. كما لا يخفى.

(الرابع) أصالة البراءة: فانّ المانع من جريانها ليس الاّ العلم الاجمالي بوجود الحرام، وهذا العلم الاجمالي لا يوجب تنجّز التكليف عند العقلاء، وانّما يكون هذا التكليف منزّلاً منزلة العدم، فانّا نرى أنّ المولى إذا أمر عبده بترك المعاملة مع زيد، واشتبه زيد عنده باشخاص غير محصورة من أهل بلده، لا يترك العبد بمجرّد ذلك المعاملة مع الاشخاص المذكورين، ولا يعدّ عاصياً عند العرف لو اتّفق معاملته مع زيد بمجرّد علمه بنهي المولى عن المعاملة مع زيد، - مع كونه مشتبهاً في هذه الاشخاص - ونرى العقلاء ايضاً يفرّقون بين احتمال سميّة واحد من ألف إناء يعلم بأنّ أحدها سمّ، وبين إحتمال سميّة أحد الانائين، فيكون الاولى عندهم منزّلاً منزلة العدم، ولا يكون ذلك العلم الاجمالي سبباً للاجتناب عن جميع تلك الاواني - مع بنائهم على عدم الاقتحام في المهالك - ولا يكون الاحتمال في الفرض الثاني بمنزلة العدم، وليس لأجل أنّ العلم الاجمالي لا يكون وجوده عندهم إلاّ كعدمه، ويكون الاحتمال القائم بكل طرف كالاحتمال في الشبهة البدوية - التي بناؤهم

١١٩

فيها على عدم الاعتناء -.ولك أن تقرّر بوجه آخر وهو: أنّ العلم الاجمالي وإن كان سبباً لتنجّز التكليف بالحرام الموجود في المشتبهات، إلاّ أنّه لمّا كان الموجب للاحتياط في الأطراف قيام إحتمال كونه المحرّم الذي يجب الاجتناب عنه ويترتّب على ارتكابه العقاب بحكم العقل، لوجوب دفع الضرر المحتمل، لم يجب الاحتياط هنا، لأنّ كلاًّ من الأطراف إذا لوحظ بنفسه، كان إحتمال ترتّب العقاب عليه لاحتمال كونه المحرّم الواقعي ضعيفاً، - بحيث لا يعتني العقلاء بمثل هذا الاحتمال كاحتمال وقوع حائط محكم البنيان وكان العقل لكون الاحتمال عنده بمنزلة العدم فجوّز إرتكابه - وحينئذٍ نقول: إذا عاقب الشارع على مثل هذا المشتبه - إذا اتّفق كونه المحرّم الواقعي - يعدّ عقابه عند العقلاء عقاباً بلا برهان وقبيحاً.

إلاّ أن يقال: إذا فرض أنّ العلم الاجمالي منجّز للواقع، وكان إحتمال العقاب في كل فرد من الاطراف قائماً - على تقدير كونه الحرام الواقعي - لم يكن مجدياً إذن العقل في الارتكاب وتأمينه، فانّ حكمه هذا إخراج للطرف عن موضوع التكليف، ولا يوجب ذلك عدم العقاب على مخالفة الواقع - على تقدير مصادفة ما أذن فيه العقل للحرام الواقعي بسبب هذا الاذن - واحتمال كون العقاب بلا بيان مناف لتسليم كون العلم الاجمالي منجّزاً للأمر بالاجتناب عن المحرّم الواقعي، إذ معنى كونه منجّزاً ليس الاّ كون الحجة من قبل الشارع تماماً، فالأولى ما تقدّم: من أنّ هذا العلم الاجمالي - بعد إشتباه الحرام بامور كثيرة - لا يكون متمّماً للحجة، وموجباً للخوف في الوقوع في المهلكة، ومعه يبقى التكليف بالحرام تكليفاً بلا بيان.

ويمكن التنزّل عن هذا التقرير ويقال: إنّ من المعلوم عندنا هو أنّ العقلاء إذا علموا بوجوب ما يجب التحرّز عنه في امور غير محصورة، لا يوجب ذلك العلم وقوفهم عن ارتكاب المشتبهات والتحرّز عنها، وإن لم يكونوا مجوّزين لارتكاب الجميع، لحصول العلم معه بالوقوع في المهلكة، كما يعلم ذلك: من ملاحظة امتثال اشتباه زيد الذي نهي العبد عن المعاملة معه، فانّه لا يقف بذلك عن المعاملة ولا يجترى على

١٢٠

استقصاء الجميع ولو تدريجاً.

وبالجملة: لا يكون هذا العلم الاجمالي منجّزاً للحرام على جميع التقادير عند العقلاء، وهذه الدعاوي صادقة في بادئ النظر، ولكن لا بحدّ يورث الاطمئنان بعد التأمّل.

الخامس: أنّ الغالب عدم ابتلاء المكلّف إلاّ ببعض معيّن من محتملات الشبهة الغير المحصورة، ويكون الباقي خارجاً عن محلّ ابتلائه وقد مرّ أنّ الاجتناب في مثله لا يجب مع حصر الشبهة.

وفيه: أنّ محلّ الكلام أعمّ من ذلك، بل الكلام في غير ما خرج بعض أطرافه عن محلّ الابتلاء، وكون الغالب ما ذكر لا يوجب الترخيص في غيره.

السادس: الأخبار الخاصة الدالّة على أنّ مجرّد العلم بوجود الحرام بين امور كثيرة لا يوجب حرمة الجميع ووجوب الاجتناب عنها: كرواية أبي الجارود قال: سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن الجبن فقلت: أخبرني من رأى أنّه يجعل فيه الميتة ؟ فقالعليه‌السلام : أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم جميع ما في الأرض؟ فما علمت منه ميتة فلا تأكله، وما لم تعلم فاشتر وبع وكل، واللّه إنّي لأعترض السوق فأشتر اللحم والسمن والجبن، واللّه ما أظنّ بكلّهم يسمّون(١) .

فانّ قولهعليه‌السلام : « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة » ظاهر في أنّ مجرّد العلم بوجود الميتة لا يوجب الاجتناب عن جميع محتملاته، كما أنّ الظاهر من قولهعليه‌السلام : « لا أظنّ بكلّهم » إرادة العلم بوجود من لا يسمّي فيهم حين الذبح، كالسودان المذكورة في الخبر.

وفيه: منع ظهور قوله: « أمن أجل إلى آخره » في ذلك، بل يحتمل أن يكون منه ان مجرّد جعل الميتة في مكان لا يوجب أن يكون غيره من الاماكن ليجعل في الميتة فيكون حراماً وكذلك نمنع ان قوله(٢) لا أظن بكلّهم يسمّون ظاهر في إرادة القطع

____________________

(١) وسائل الشيعة: ب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ح ٥ ج ١٧ ص ٩١ مع اختلاف فيه.

(٢) ومنع ظهور قوله (خ).

١٢١

بعدم تسمية بعضهم بل المراد بعد ذلك وبيان أنّه لا يجب أن يكون الانسان قاطعاً بحليّة ما يريد تناوله بل يكون احتمال حليّته كافياً في جوازه ظاهراً ولو كان الاحتمال مرجوحاً.

أو نقول: إنّ المراد أنّ ما يكون مشتبهاً بالحرام إذا كان في سوق المسلمين - ولو علم بوجود الحرام فيما يكون في السوق - لا يجب الاحتراز عنه، لأنّ سوق المسلمين أمارة للحليّة وإن لم يكن عليه يد المسلم، إلاّ أن نمنع كون السوق أمارة مع العلم الاجمالي هذا ما سمعته من السيد الاستاذ فالقول: احتمال كون المراد ذلك كاف في ردّ الاستدلال الاّ أن يدّعي القطع بعدم ذلك ولكن يمكن أن يقال، ولا يخفى أنّ حمل قولهعليه‌السلام : « ما أظنّ » على إرادة العلم الاجمالي يؤيّد كون المقصود من قوله: « من أجل »(١) ما ذكره المستدلّ ثم إنّ في الرسالة بعد ذكر الأدلّة ما هذه عبارته: وقد عرفت أنّ أكثرها لا يخلو من منع أو قصور ولكن المجموع منها لعلّه يفيد القطع أو الظنّ بعدم وجوب الاحتياط والمسألة فرعية يكتفى فيه بالظن(٢) .

وفيه: انّ كون المسألة فرعيّة مسلّم، إلاّ أنّ حجيّة هذا الظن فيها مبنيّة على حجيّة الظن المطلق، ضرورة أنّ الظن الحاصل من مجموع امور لا تكون دالّة ولا يستند ذلك إلى ظهور لفظي بعد الجمع بينهما لا يكون الاّ ظنّاً مطلقاً.

والحاصل: أنّ الاجماع المحكي إن كان بالغاً درجة الحجّية فهو المستند، وإلاّ فالظنّ الحاصل بضميمة غيره من الأدلّة لا يمكن الركون إليه ما لم يستند إلى ظهور لفظي.

واعلم أنّ مقتضى حكم العقل - كما مرّ - هو الاجتناب عن جميع الأطراف إلاّ أن يثبت الاذن من الشارع في ترك الاحتياط، فنقول: مقتضى حكم الدليل العقلي - وهو الدليل الرابع - جواز ارتكاب الكلّ تدريجاً ما لم يقصد ذلك من أوّل الأمر، لأنّ ضعف الاحتمال الموجب لتأمين العقل ثابت في كل من المحتملات،

____________________

(١) مكان واحد (خ).

(٢) فرائد الاصول: ص ٤٣٥، ذيل مبحث الشبهة غير المحصورة.

١٢٢

غاية الأمر أنّه يحصل - بعد ارتكاب الجميع - العلم بأنّ الحرام قد حصل ارتكابه، وتحصيل العلم بذلك لا دليل على حرمته - كما مرّ - في المحصورة.

وأمّا إذا قصد الجميع أوّلاً سواء كان لأجل تناول الحرام أو لداع آخر، فالظاهر أنّه حرام لعدّ ارتكابه معصية ويكون معاقباً في ارتكاب الحرام وان كان هو أوّل ما ارتكبه، وأمّا العقاب على غيره(١) - على الأوّل - فهو مبنيّ على مسألة التجرّي.

وأمّا الأخبار فقد يقال: إنّها إن كان تامّ الدلالة تدلّ على حليّة الجميع قلت: إن قلنا بأنّ الاذن في المخالفة القطعيّة من الشارع ممنوع فالعمل بالأخبار مشكل، لأنّ ظاهرها لا يمكن العمل به، وتخصيصه ببعض المحتملات دون بعض، ترجيح بلا مرجّح، ويجب العمل بما يأتي ذكره، وإن قلنا: بأنّ الاذن فيها جائز قلنا حينئذٍ بجواز إرتكاب الجميع - وإن قصد الارتكاب من أوّل الأمر -، لأنّ المفروض أنّها تدلّ على أنّ الحرام الموجود في المشتبهات لا يكون منجّزاً وحينئذٍ لا يصدق - مع قصد الجميع من أوّل الأمر على إرتكابه - أنّه معصية، والفرق بين هذا الوجه والدليل العقلي: أنّ العقل إنّما كان يرخّص في كلّ من المحتملات بشرط الانفراد، إذ المناط فيه ضعف الاحتمال، ومع ضمّ بعضها إلى بعض يحصل القطع بالعقاب، بخلاف الأخبار فانّ الاذن فيها ليس مقيّداً بصورة قصد الانفراد.

ويمكن أن يقال: إنّ الاجماع قام على أنّ إرتكاب الشبهة الغير المحصورة جائز في الجملة، وهذا الوجه يوجب خروج ذلك عن أخبار الاحتياط، ودعوى خروج هذه الشبهة عن أخبار الحلّ ما لم يعلم حرمته، أيضاً بعيد لبعد خروجه عنهما، وعدم التعرّض لحكمها من الائمةعليهم‌السلام ، وحينئذٍ نقول: إنّ الاذن في المخالفة مطلقاً، إن كان جائزاً فالأمر واضح، وإن لم يكن جائزاً فنقول: القدر الذي يمنع منه العقل هو الاذن في ارتكاب الجميع، وذلك ينتفي بإبقاء مساوي الحرام،

____________________

(١) في هامش إحدى النسختين توجد هذه العبارة « الظاهر زيادة هذه الكلمة » ويعني بها « على غيره ». ولكن الصحيح كما يبدو أن كلمة « على غيره » غير زائدة بل الزائد هو الواو في « وإن كان هو. ».

١٢٣

مقدار ما يساوي الحرام جائز، - إن قصد ذلك الارتكاب تدريجاً -.

وأمّا الأخبار الخاصة: فلا دلالة فيها على جواز ارتكاب الجميع والعدم، فتأمّل. وإن منعنا دلالة الأخبار وحكم العقل بجواز الارتكاب، فيمكن أن يقال حينئذٍ: إنّ الثابت بالاجماع: هو ارتكاب الشبهة في الجملة، وذلك لا يوجب الاذن في الجميع، فان قصده من أوّل الأمر فلا يجوز الارتكاب مطلقاً، لصدق المعصية، وإن قصد البعض فيجوز إرتكابه، وذلك جائز إلى مقدار ما يساوي الحرام، وأمّا هو فلا يجوز إرتكابه، لعدم دليل على جوازه إن قلنا: إنّ الاذن في الجميع ممكن، وإلاّ فالدليل على خلافه موجود.

قلت: ان ثبت الاجماع على الرخصة في غير ما يساوي فهو، والاّ فمجرّد العلم بالرخصة في البعض لا يوجب جواز ما عدا ذلك المقدار، بل الواجب: الاقتصار على ما يقطع جوازه من المقادير - بعد اجتناب ذلك(١) - ممّا يكون إحتمال حرمته أضعف من غيره، إن كان بين المحتملات تفاوت بالقوّة والضعف، واختيار ما شاء منها إن لم يتفاوت لعدم المرجّح.

والحاصل: انّ من بنى على كون العلم الاجمالي منجّزاً يجب عليه حينئذٍ القول بأنّ الاذن في بعض الأطراف إمّا يجعل اجتناب ما يساوي الحرام بدلاً عن المحرّم الواقعي، وإمّا الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي عن الامتثال اليقيني، لتعسّر الامتثال اليقيني على المكلّف، أو لحكمة اخرى أوجب رفعه عن المكلّف ولا يعلمه، ولا يمكنه القول: بجواز إرتكاب الجميع لا مع القصد ولا بدونه، إلاّ إذا بنى على أنّ تنجّزه تعليقي، وأثبت الاذن من الشارع مطلقاً، أو على تقدير بعض الوجوه.

الكلام في الشك في الجزئية

إذا تعلق الأمر بماهية ذات أجزاء وعلم لها أجزاء وشك في أنّ لها جزء آخر من

____________________

(١) الظاهر « واختيار ذلك » بدل قوله « بعد اجتناب ذلك ».

١٢٤

الأفعال الخارجية غير الأجزاء المعلومة ؟ كما لو شك في جزئية الاستعاذة في الصلاة ففي وجوب الاحتياط وعدمه إشكال، وذهب إلى كل جماعة وقال شيخناقدس‌سره في الرسالة: لم أعثر في كلمات من تقدّم على المحقّق السبزواري على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط، وإن كان فيهم من يختلف كلامه في ذلك، كالسيد والشيخ والشهيد(١) انتهى ويحتمل أن يكون تمسّكهم بالاحتياط أيضاً على وجه التأييد، لأنّ حسن الاحتياط بديهي، وأمّا أصالة البراءة فبعد بطلانها لا وجه للتأييد بها.

احتجّ القائلون بالبراءة بوجوه: الأوّل: استقلال العقل بأنّ المولى اذا أمر عبده بمركّب من عدّة امور ولم يعلمه إلاّ ببعض تلك الامور، والعبد لم يأت بغيرها للشك في أنّ(٢) غيرها له دخل في المطلوب، وعدم ظفره بعد المبالغة في الفحص والتتّبع عن دليل يقضي بالوجوب أو العدم بعدم جواز عقاب العبد على ترك ذلك، وعدم كونه فاعلاً للقبيح اذا فعل ذلك، فالواجب على الحكيم: إمّا أن يعذّر العبد، أو ينصب له طريقاً إلى وجوب الجزء المشكوك على وجه يطلع عليه العبد.

فان قلت: التكليف بالماهية المردّدة بين الأقلّ والأكثر معلوم، وقضية العلم به هو الاحتياط، ولو كان الجهل تشخيص المكلّف به مانعاً عن وجوب الاحتياط لمنع عن وجوبه في غير هذا المورد من الموارد التي وقع الاتّصاف فيها على وجوب الاحتياط، كما في قسمي الشبهة المحصورة - أعني ما يكون منشأ الاشتباه فيها الامور الخارجية وما ليس كذلك، كتردّد الواجب بين الظهر والجمعة - قلت: فرق بين المقام وموارد الشبهة المحصورة لأنّ العلم الاجمالي بوجوب الأمر المردّد بين الأقل والأكثر يلزمه بعد العلم بأنّ الاكثر لو كان واجباً كان الأقل واجباً من باب المقدمة انحلاله إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل على أيّ تقدير وشك بدوي في وجوب الاكثر الناشئ من الشك في وجوب الزائد، وليس الأمر كذلك في موارد الشبهة، ولو

____________________

(١) فرائد الاصول: ص ٤٦٠.

(٢) وفي نسخة « أنّه » والظاهر ما أثبتناه.

١٢٥

فرضنا فيها أيضاً انحلال العلم الاجمالي إلى ما ذكر ذلك بمعونة خصوصية في المورد، فلا تلزم بوجوب الاحتياط هنا أيضاً، كما إذا تردّد الخمر بين إنائين يعلم بنجاسة أحدهما المعيّن فانّ الظاهر منهما محكوم بجواز الاجتناب.

والحاصل: أنّ إجمال العلم إذا كان سبباً للجهل بخصوصية المكلّف به فالواجب لأجله هو الاحتياط وليس الجهل عذراً وإذا كان سبباً للجهل باصل التكليف بعد العلم بالتكليف في مقدار معيّن، فلا يجب الاحتياط في المشكوك بسببه، لأنّ العقل مستقلّ بوجوب بيان التكليف.

وبما ذكرنا يندفع ما قد يورد على القائل بالبراءة: من أنّه إذا كان الاكثر على تقدير كونه هو المكلّف به لا يجب الاتيان به ولا عقاب على تركه، لأنّ الاصل براءة الذمة عنه، لأجل أنّ المكلّف جاهل بهذا التقدير، ولم يثبت من الشارع بيان بالنسبة اليه، فلا يجب الاتيان بالأقل ايضاً لأجل العلم الاجمالي، إذ بعد فرض فراغ الذمة عن التكليف بالاكثر، لا يكون وجوب الأقل إلاّ مشكوكاً فالأصل براءة الذمة عند وجه الدفع أنّ الشك في وجوب الأكثر انّما يلازم الشك في وجوب الاقل لنفسه، وأمّا وجوبه الأعم من النفسي والغيري فلا يكون مشكوكاً، وانقطاع الاصل بالنسبة إليه يكفي فيه هذا المقدار من العلم.

فان قلت: سلّمنا أنّ الأقل معلوم الوجوب والزائد مشكوك ولكن ذلك لا يقتضي أن لا يكون الزائد لازم الاتيان بل ذلك يقتضي الاحتياط، لأنّ القطع بفراغ الذمة عن الأقل لا يحصل الاّ بالاتيان بالاكثر، لأنّ الأقل إمّا مطلوب وحده، وإمّا مطلوب في ضمن الكل، فالقطع بالفراغ عن التكليف المتعلّق به لا يحصل إلاّ باتيانه في ضمن الكل وهذا نظير تردّد الواجب بين القصر والاتمام الاّ أنّ الاحتياط هنا يمكن بغير الجميع دون هنالك.

قلت: أمّا أنّ الأقل مطلوب في ضمن الكل على تقدير وجوب الأكثر.

ففيه المنع، لأنّ وجوب الأقل ليس الاّ لأجل توقّف الكلّ المركّب منه ومن غيره عليه والكل متوقّف على ذات الأقل وأمّا هو منضمّاً إلى غيره فهو ليس الاّ عين

١٢٦

الكل فالأمر به ليس الاّ أمراً بالكل، وأمّا أنّ الامتثال لا يحصل - على تقدير كون الأكثر هو الواجب - إلاّ باتيانه في ضمن الكل، ففيه أنّ اتيان الجزء مسقط للأمر به، لأنّ موافقة ذلك الأمر بعد فرض تعلّقه بذات الجزء قد حصل فلا معنى لعدم سقوطه، لأنّ الأمر يقتضي الاجزاء بالبديهية واما الأمر به بعد خروجه عن صلاحية لحوق سائر الاجزاء فليس لأجل أنّ الأمر الأوّل باق، بل لأجل أنّه فسد بذلك ومع فساده لم يحصل الغرض المقصود من الأمر به وهو التوصل إلى الكل، نظير إفساد الوضوء بالحدث فيعود الأمر وإذا حصل الامتثال بالأقل أوّلاً فيما نحن فيه سواء كان وجوب لنفسه أو لغيره فعود الأمر به ثانياً - بعد خروجه عن صلاحية لحوق سائر الاجزاء - يحتاج إلى دليل والمفروض عدمه.

فان قلت: سلّمنا وجوب الاقل وأنّه يحصل الامتثال به على أيّ تقدير ولكن نقول ترتّب العقاب على مخالفة هذا الأمر مشكوك، لأنّه لو كان الواجب الواقعي هو الأكثر لا يكون الخطاب منجّزاً، وحينئذٍ لا يترتّب على ترك الأقل أيضاً عقاب، وإذا كان الأمر كذلك فلا يلزم اتيان الأقل، ولو كان وجوبه معلوماً وحينئذٍ يلزم جواز المخالفة القطعية.قلت: احتمال ترتّب العقاب على ترك الأقل مع عدم ما يوجب الآمن منه كاف في إلزام العقل بوجوب الاتيان به مع أنّه على تقدير وجوب الاكثر يكون ترك الأقل تجرّياً ومستلزماً للعقاب إن قلنا فيه بالعقاب.

والحاصل: أنّ الأمر بالأقل معلوم، لأنّه إمّا واجب واقعاً في نفسه، وإمّا واجب واقعاً للغير، وإحتمال سقوطه بسقوط الأمر بالأكثر - إن كان هو الواجب - لا يجدي في ترخيص العقل على مخالفته.

فان قلت: سقوط الأمر بالأقل موقوف على قصد القربة، وهو لا يمكن الاّ مع قصد الاتيان بالأكثر.

قلت: يكفي في صدق الامتثال قصد الفرار عن مخالفة الأمر وما يترتّب على مخالفته، وإن لم يعلم بحصول القرب - كما يأتي بيانه -.

١٢٧

والحاصل: أنّ العقل مستقلّ بعدم لزوم إتيان الزائد مادام كونه مشكوك الوجوب، لاستقلاله بأنّ العقاب على مخالفته مع عدم البيان قبيح، ومستقلّ أيضاً بوجوب إتيان الأقل للفرار عن ترتّب العقاب على تركه - وإن كان إحتمالياً - لحصول اتمام الحجّة بالنسبة إليه.

فان قلت: حكم العقل بعدم وجوب الاتيان بالزائد ممنوع، لأنّا نرى أنّ الطبيب إذا أمر بمعجون ذي أجزاء ليس بناء العقلاء فيه على الاكتفاء بما علم من أجزائه، ولو اكتفى المريض بذلك مع علمه بأنّ الجزء المشكوك ليس بضارّ يستحقّ اللوم، وكذلك العبيد بالنسبة إلى أوامر مواليهم، فانّهم إذا اكتفوا بما علموا من الأجزاء ولم يأتوا بالجزء المشكوك - مع العلم بأنّه ليس مبغوضاً للمولى - يستحقّون اللوم والذمّ، ولا يقبح على المولى توبيخهم على ترك المشكوك إذا انكشف أنّه داخل في المركّب المأمور به.

قلت: الأوامر الصادرة من المولى قد يكون المقصود منها تحصيل أمر في الخارج بحيث يعلم أنّ الغرض انّما تعلق بحصول ذلك الأمر والأمر بالمركّب انّما هو لأجل كونه محصّلاً، وأنّ الذي يطلبه المولى من عبده حقيقة هو تحصيل ذلك الشيء وقد لا يكون كذلك، أمّا في الصورة الاولى فيجب الاحتياط فيها، لأنّ مع الشك في الاتيان بما يوجب حصول ذلك الشيء شك في الاتيان بالمأمور به رأساً، ولا ريب أنّ الاشتغال به يقتضي القطع بالبراءة عنه، ومن هذا القبيل أوامر الأطباء إذ المقصود منها ليس مجرّد استعمال ما قررّه الطبيب، بل المقصود حصول الأثر المترتّب على الداء الذي رتّبه.

نعم فرق بين أوامر الاطباء والموالي، فانّ الاولى إرشادية محضة، وأوامر الموالي يكون المقصود منها إطاعة العبد.

وأمّا الصورة الثانية: - أعني ما لم يعلم أنّ الغرض من الأمر حصول أمر بسيط مرتّب على هذا المركّب الذي تعلّق الأمر به ظاهراً - فبناء العقلاء فيها على الاحتياط ممنوع، بل على المولى البيان، فكلّ ما علمه العبد وتركه يكون معدوداً في العصاة

١٢٨

بسبب تركه، وما لم يعلم أنّه مطلوب فتركه لا يعدّ معصية - وإن إنكشف أنّه مطلوب المولى - وليس على المولى مؤاخذته على تركه.

والحاصل: أنّ المولى مع قدرته على رفع جهل العبد - ولو على طريق خارج عن المتعارف - إذا لم يبيّن المشكوك ليس له المؤاخذة من عبده لترك المشكوك.

نعم لو كان الشك في مطلوبية الجزء المشكوك راجعاً إلى الشك في علّة حصول المأمور به في الخارج، وأنّه هل هي الأجزاء المعلومة أم هي تلك مع الأجزاء المشكوكة - كما في الصورة الاولى - وجب الاحتياط، لأنّ بيان ما يوجب حصول المأمور به على وجه يقطع العبد به مع كونه قادراً على الاتيان في حال الشك ليس بلازم على المولى، ولو تركه لا يكون ذلك قبيحاً وانّما اللازم عليه اتمام الحجّة بالنسبة إلى أصل المأمور به.

فان قلت: أوامر الشارع على قول العدلية كلّها من قبيل الصورة الاولى، لابتنائها على المصالح التي ما هي إمّا عناوين لما أمر بها، أو أغراض لتلك الأوامر، فانّ الامور المترتّبة على إتيان المأمور به: إمّا أن يكون من خواص ذات المأمور به كالاسهال المترتّب على ذات الدواء المشروب، أو من الامور المترتّبة على إتيانه بقصد الطاعة وموافقة الأوامر، فان كانت من قبيل الأوّل يكون عنواناً للمأمور به، نظير اسهال الصفراء، فان الأمر بالدواء الذي خاصيته ذلك أمر بمسهل الصفراء، وإن كانت من قبيل الثاني فهي أغراض من الأوامر المتعلّقة بتلك الامور، إذ المفروض أنّ الخاصيّة ليست مترتّبة على ذات المأمور به، بل هي مترتّبة عليه إذا انضمّ إليه أمر خارج عنه - وهو قصد القربة - وذلك مثل الألطاف في الواجبات العقلية التي تترتّب على العبادات إذا اتي بها بقصد الاطاعة والانقياد.

والحاصل: أنّ الأوامر الشرعية - تعبّدية كانت أو توصّلية - مبنيّة على مصالح هي إمّا عناوين للمأمور به، كما في التوصّليّات وكالفوائد المترتبة على ذات المأمور به في التعبّديّات، وإمّامن قبيل الأغراض كالامور المترتبة على العبادات اذا اتي بها بقصد الاطاعة، وعلى أيّ تقدير لا يحصل القطع بحصول تلك المصالح إلاّ بعد

١٢٩

الاتيان بجميع ما يحتمل أن يكون داخلاً في المأمور به فيجب إتيان ذلك تحصيلاً للقطع بحصول ما وجب تحصيله.

قلت أوّلاً: الكلام في مسألة البراءة والاحتياط ليس مبنيّاً على مذهب العدلية، بل هو جار على جميع المذاهب حتى الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح.

لا يقال: الذي ينكره الأشاعرة لزوم أن يكون المقصود من الأوامر حصول أمر مترتّب على المأمور به، وهم لا ينكرون جواز ذلك واحتمال ذلك كاف في وجوب الاحتياط.

لانا نقول: ما لم يعلم ذلك لا نحكم بوجوب الاحتياط، لأنّ ما علم الأمر به حينئذٍ ليس إلاّ ما تعلّق الأمر به ظاهراً، وغيره مشكوك وتحصيل الغرض المشكوك غرضيته ليس بلازم فتأمّل. حتى على مذهب من يختار من العدلية أنّ منشأ الأوامر وجود المصلحة في نفس أمر الآمر وإن لم يكن في المأمور به بنفسه، أو مع قصد الاطاعة مصلحة.

وثانياً: أنّ القائلين بابتناء الأوامر على المصالح قائلون بانّه يعتبر في إمتثال الأوامر التعبدية من قصد الوجه، وإذا شككنا في أنّ المأمور به هو الأقل أو الاكثر فلا يمكن لنا قصد الوجه، إذ هو فرع المعرفة به، وحينئذٍ نقول: يمكن أن يكون الغرض المترتّب على المأمور به مترتّباً على الاتيان به بقصد الاطاعة مقروناً بقصد الوجه، وعند ذلك نشك في التكليف بتحصيل الغرض، وهذا نظير ما إذا علم إجمالاً بوجوب شيء مردّد بين أمرين وكان عند العلم بالأمر أو قبله مضطرّاً في ترك بعض تلك الامور، فانّ العلم الاجمالي حينئذٍ لا يكون موجباً لتنجّز التكليف بذلك الأمر المردّد، وحينئذٍ فلا يبقى علينا إلاّ وجوب التخلّص عن تبعة هذا الأمر المعلوم المتعلّق بذات المركّب من العقاب على مخالفته.

فان قلت: فحينئذٍ لا يجب الاتيان بالأقلّ لأنّ الشك في إمكان حصول الغرض شك في أصل الأمر، لأنّ المفروض أنّ الأمر مترتّب على المصلحة فمع الشك فيها نشك في أنّه هل وجب علينا شيء أم لا؟ وقد سبق أنّ الشك في أصل التكليف

١٣٠

لا يوجب الاحتياط والأصل عنده هو البراءة.

قلت: ثبوت التكليف بالأقل ممّا لا ريب فيه واحتمال عدم التمكّن من تحصيل الغرض الباعث على تعلّق الأمر بالأمر المردّد عند المكلّف بين الأقلّ والاكثر لا يوجب رفع اليد عن الخطاب المعلوم، وإن كان الاحتمال، موجباً للشك في حدوث التكليف، وليس بناء العقلاء في مثل هذا المورد على البراءة، ولا يحكم العقل بمعذورية المكلّف لو كان ما تعلّق به الخطاب واقعاً هو الأقلّ.

والحاصل: أنّ الأمر بالشيء اذا ثبت عند المكلّف فاحتمال عدم كون الغرض ممّا يمكن تحصيله لا يوجب سقوط التكليف، وليس هذا لأجل أنّ تحصيل الغرض ولو احتمالاً واجب حتى يقال: بوجوب الأكثر حينئذٍ، بل لأجل أنّ الحجّة بالنسبة إلى ما علم تعلّق الأمر به تامّة، وإن كان الأمر مردّداً بين النفسي والغيري، وبين ما يترتّب على مخالفته العقاب وما لا يترتّب على مخالفته العقاب، ولا يخفى أنّ هذا الجواب انّما يتمّ عند من لا يرى جواز الاكتفاء بقصد القربة عند التمكّن من قصد الوجه، وأمّا عند من يدّعي القطع بأنّ قصد الوجه لا يكون له دخل في باب الاطاعة حتى في التعبّديّات، فالأمر في مقام الجواب عن هذا الاشكال عليه مشكل.

ويمكن أن يستدلّ لجواز الاكتفاء بالأقلّ: بأصالة عدم وجوب الاكثر، ولا يعارض باصالة عدم وجوب الأقل، لأنّ الأصل بالنسبة إليه لأجل العلم بتعلّق الأمر به منقطع وساقط، وتردّده بين النفسي والغيري لا يمنع عن كون العلم به مسقطاً للأصل كما لا يخفى.

لا يقال: إن قصد بهذا الاصل نفي أثر الوجوب الذي هو استحقاق العقاب على الترك، ففيه: أن عدم استحقاق العقاب ليس من آثار عدم الوجوب الواقعي حتى يحتاج إلى إحرازه بالأصل، بل يكفي فيه عدم العلم بالوجود، فمجرّد الشك فيه كاف في عدم استحقاق العقاب بحكم العقل القاطع، وإن قصد به نفي الآثار المترتّبة على الوجوب النفسي المستقلّ، فأصالة عدم هذا الوجوب في الأكثر معارض بأصالة عدمه في الأقل، فلا يبقى لهذا الأصل فائدة إلاّ نفي ما عدا العقاب من الآثار

١٣١

المترتبة على مطلق الوجوب الأعم من النفسي والغيري.

لأنّا نقول: إنّ التمسّك بالأصل انّما هو مع قطع النظر عن حكم العقل بالبراءة، ولا ريب أنّه مع فرض عدم وجود دليل كاف في إثبات البراءة يكون دليلاً مقتضياً لنفي العقاب على مخالفة الخطاب المشكوك الثبوت على تقدير وجوده، ويكون وارداً على حكم العقل بوجوب الاحتياط لو فرض حكمه ذلك، كما يدّعيه القائلون بالاحتياط.

وقوله: انّ عدم استحقاق العقاب من آثار عدم الوجوب الواقعي.

ففيه: أنّ استحقاق العقاب انّما هو من آثار مخالفة الخطاب المعلوم ثبوته عند المكلّف، فسبب إستحقاق العقاب على المخالفة هو الوجوب المعلوم، وهذا المركّب كما يكون مرتفعاً بعدم العلم، كذلك يكون مرتفعاً بارتفاع أصل الوجوب، وإذا فرضنا أنّ إرتفاع المركّب الذي هو علّة للاستحقاق يكون بأحد أمرين، كذلك يكون معلوله الذي هو عدم الاستحقاق مستنداً بأحد أمرين، فعند إنتفاء الوجوب واقعاً يكون عدم استحقاق العقاب مستنداً إلى ذلك، وعند ثبوته واقعاً وهو مجهول كان العدم مستنداً إلى عدم العلم بالوجوب إن فرض أنّ عدم العلم كان كافياً في رفع الاستحقاق كما في بعض الموارد.

لا يقال: عدم العلم بالوجوب بمنزلة قضيّة سالبة تجمع مع عدم الوجوب واقعاً، فهو عند عدم الوجوب أيضاً مستحق(١) ، وانّما يتبيّن ما ذكرت من إستناد رفع استحقاق العقاب بانتفاء نفس الوجوب في بعض الموارد إذا كان عدم العلم متخلّفاً عن عدم الوجوب في مورد تحقّقه.

والحاصل: أنّ عدم العلم أعم من عدم الوجوب، وانّما يعلم تعدّد سبب رفع الاستحقاق إذا فرض بينهما المباينة الكلية.

لأنّا نقول: لا ريب في أنّ عدم الوجوب قابل لاستناد عدم العقاب إليه، كما أنّ

____________________

(١) متحقّق (ظ).

١٣٢

عدم العلم به أيضاً قابل لذلك، وإذا فرض اجتماع أمرين يمكن إستناد شيء إلى كل منهما يكون السابق هو المستند إليه، ولا ريب أنّ عدم الوجوب سابق على عدم العلم به، ولو فرضنا عدم العلم أو عدمه فالحكم بالاستناد إلى أحدهما المعيّن لا وجه له فتأمّل.

ويمكن أن يكون المقصود في(١) الاحتياج إلى الأصل: أنّ مع عدم العلم من دون طريق تعبّدي تقطع بعدم العقاب وإن فرض عدم الاستناد إليه في الواقع، فلا حاجة إلى إثبات العدم، ولكنّك قد عرفت أنّ الكلام مع قطع النظر عن كفاية عدم العلم بحكم العقل بالبراءة، وأنّ المقصود إثبات البراءة ولو فرض أنّ العقل لا يحكم بها.

فان قلت: لو سلّمنا تماميّة الأصل فلا يترتّب عليه إلاّ الآثار الشرعية التي هي ثابتة لعدم الوجوب، ولا ريب أنّ عدم إستحقاق العقاب ليس من الآثار الشرعية، كما أنّ استحقاقه أيضاً ليس من آثار الوجوب التي تثبت بالشرع، بل الحاكم بالترتّب في الموردين هو العقل.

قلت: ليس المقصود من التمسّك من الأصل إثبات عدم العقاب بحكم الشرع حتى يقال: إنّ الاستصحاب لا يثبت الآثار العقلية، بل المقصود منه إثبات ما يلزمه عدم العقاب عقلاً - وهو عدم الوجوب في الظاهر - كما أنّ المثبت من إستصحاب الوجوب ليس إلاّ الوجوب الظاهري الذي يلزمه استحقاق العقاب في الجملة.

فان قلت: عدم الوجوب ليس من الأحكام الشرعية حتى يكون الاستصحاب مثبتاً له في الظاهر.

قلت: المثبت بالاستصحاب: كل أمر يكون إبقاؤه ورفعه بيد الشارع - سواء سمّي ذلك حكماً اصطلاحياً أو لا - ولا ريب أنّ عدم الوجوب من الامور المذكورة وليس للعقل مدخل في إثباته ونفيه في الواقع.

____________________

(١) منع (ظ).

١٣٣

والحاصل: أنّ الاستصحاب في الموضوعات فائدته: إثبات الآثار الشرعية التي ثبتت لتلك الموضوعات، وفي الأحكام وما يشبهها فائدته: إثبات نفس ذلك الشيء بحسب الظاهر، ويترتّب على ذلك: لازمه العقلي من استحقاق العقاب وعدمه، والمثبت هنا بالأصل هو عدم الوجوب في الظاهر، ويلزمه عدم العقاب على الترك عقلاً، ولو كان الوجوب ثابتاً في الواقع، كما لو دلّ دليل آخر من الأدلّة الشرعية على عدم الوجوب ولا دليل يقتضي اختصاص أدلة الاستصحاب بخصوص الموضوعات والأحكام ويقتضي خروج مثل عدم الوجوب وعدم الحرمة وما أشبهها من تلك الأدلّة.احتجّ القائلون بوجوب الاحتياط بامور:

الأوّل: قاعدة الاشتغال الجارية في الشبهة المحصورة.

وقد مرّ جوابها في الدليل العقلي على البراءة.

الثاني: استصحاب الاشتغال بعد الاتيان بالأقلّ وقضيّته وجوب الاتيان بالأكثر.

وفيه: أنّه إن قصد بذلك إستصحاب حكم العقل بوجوب تحصيل البراءة اليقينية حتى يحصل اليقين بفراغ الذمة.

ففيه: انّه لا مجرى للشك في حكم العقل حتى يحتاج فى إثباته إلى الاستصحاب، ضرورة أنّ الحاكم لا يشكّ في حكمه، وإن قصد بذلك إستصحاب بقاء الوجوب وبعبارة اخرى استصحاب عدم سقوط ذلك الخطاب الثابت أوّلاً، ففيه (أوّلاً) أنّه مع حكم العقل بوجوب الاحتياط عند الشك في السقوط كما يدّعيه هذا القائل لا وجه للاستصحاب، إذ معنى الاستصحاب: إدراج الوجوب المشكوك تحت عنوان الوجوب المعلوم ظاهراً وتنزيله منزلة ذلك في اجراء احكامه عليه، وهذا انّما يصحّ إذا كان حكمه مخصوصاً بالوجوب المعلوم، وأمّا لو فرضنا أنّ الحكم المقصود إثباته لا يكون من لوازم المعلوم الخاصة به بل يكون لازماً للمشكوك أيضاً فلا يكون هذا الحكم الاّ لغواً وقبيحاً، ونظير ذلك إستصحاب عدم الوجوب، والبراءة الاصلية عند من يرى حكومة العقل بالبراءة

١٣٤

عند الشك.

نعم لو كان التمسّك بالاستصحابين في كل من المقامين - مع قطع النظر عن حكومة العقل بالبراءة والاحتياط - كان وجيهاً ولعلّه كذلك كما أشرنا إليه.

(وثانياً) أنّ وجوب الاكثر لا يكون من اللوازم الشرعية لعدم سقوط الأمر المردّد بين الأقل والاكثر حتى يكون إثباته بالأصل راجعاً إلى إثباته المشكوك، بل هو من لوازمه العقلية بعد فرض أنّ الأقلّ لا يكون موجباً للسقوط.

والحاصل: أنّ عدم سقوط الأمر في الواقع ليس من لوازمه وجوب الاكثر، نعم يلزمه عقلاً ذلك على تقديرأنّ الأقلّ لا يكون مسقطاً، ولا ريب أنّ الاستصحاب لا يثبت إلاّ الآثار الشرعية.

فان قلت: يكفي في المقام إستصحاب عدم السقوط وبقاء الوجوب ظاهراً، ولا يحتاج إلى إثبات وجوب الأكثر حتى يرد ما ذكرت، لأنّ العقل بعد القطع بأنّ الأمر باق يحكم بأنّه يجب اسقاطه، ولا ريب أن طريق اسقاطه إذا كان بعد الاتيان بالأقل لا يكون إلاّ بالاتيان بالاكثر، وهذا نظير إثبات عدم الوجوب ظاهراً باستصحاب عدم وجوب الاكثر الذي أشرنا إليه سابقاً.

قلت: الوجوب الذي لا نعلم له متعلّقاً - لا إجمالاً ولا تفصيلاً - لا يجب امتثاله بالضرورة، فما لم يثبت متعلّق هذا الوجوب الظاهري الذي يثبت بالاستصحاب ولو بين الأمرين لا يجب امتثاله، وكون متعلّقه هو الأقلّ لا يعقل، إذ المفروض أنّ الواقع لو كان هو وجوب الأقل يكون ساقطاً، مع انّه لو كان، لا يفيد وجوب الأكثر وليس متعلّقه الأكثر إذ ليس الواقع المعلوم معلوماً كون متعلّقه الاكثر حتى يكون بالاستصحاب عند الشك يثبت وجوبه وإلاّ لم يكن شك في عدم سقوط الخطاب، والوجوب المطلق ليس من لوازمه الشرعية تعلّقه بالأكثر بعد عدم تعلّقه بالأقل.

ثم إنّ استصحاب وجوب الامر المردّد على تقدير كون الاصل المثبت حجّة لا يصحّ التمسّك به هنا، لأنّ الشك في بقاء الوجوب وعدمه ناش من الشك في كون متعلقه الأكثر أو الأقل ولا ريب أنّ استصحاب عدم وجوب الزائد مثبت لوجوب الأقل وهو مقدّم على هذا

١٣٥

الاستصحاب، لأنّ الأصل في الشك السببي مقدّم على الأصل الجاري في المسبّب، ولو فرضنا عدم التقدّم فيتعارضان والمرجع حينئذٍ أصالة البراءة. وأمّا إبطال إستصحاب الوجوب - بناء على حجّية الأصل المثبت- بأصالة البراءة فلا وجه له، لأنّ الاستصحاب دليل - بناء عليه - على وجوب الأكثر، فلا يكون مجرى لأصالة البراءة فيه لأنّ أصالة البراءة يجري عند الشك وإستصحاب الوجوب رافع للشك ودليل على وجوب الأكثر.

والقول بأن استصحاب الوجوب انّما يصح عند الشك فيه والشك فيه انّما يوجد بعد الاشتغال بالأقل واتمامه ونحن قبل الاشتغال به أثبتنا عدم وجوب الاكثر بأصالة البراءة فلا يبقى لنا شك.

مدفوع بأنّ وجود الشك في سقوط الواقع معلوم، وجريان الاستصحاب حينئذٍ مانع عن حكم العقل بالبراءة، إمّا لفرض زمان الشك قبل الاشتغال بالأقلّ، أو لأنّ العلم بجريان الاستصحاب عند الحاجة إلى الدليل في وجوب الزائد وعدمه، وهو بعد الفراغ عن الأقل مانع عن جريان أصالة البراءة قبل الاشتغال بالأقل.

والحاصل انا نعلم قبل الاشتغال بالأقل انّ الدليل الشرعي على وجوب الزائد في وقت العمل موجود ومع هذا العلم لا معنى لأصالة البراءة كما لا يخفى.

ومن الاصول التي يتمسّك بها لعدم وجوب الأكثر: أصالة عدم الزائد.

وفيه: أنّ المقصود به إمّا أصالة عدم وجوبه العرضي الذي هو عين وجوب الاكثر، أو أصالة عدم لزومه الذي بمعنى اللابديّة الراجع حقيقة إلى أصالة عدم التوقّف، أو أصالة عدم وجوبه الغيري - وعلى أيّ تقدير - لا معنى لاستصحابه.

أمّا الأوّل: فلمعارضته بأصالة عدم وجوب الأقل.

وأمّا الثاني: فلكونه من الاصول المثبتة ، لأنّ من لوازم التوقّف واللابديّة واللزوم العقلي ليس وجوب الزائد شرعاً، بل هو من لوازمه العقلية، فانّ وجوب ما يتوقّف عليه الشيء لا يكون من اللوازم الشرعية للتوقّف واللابديّة، وليس من الآثار المحمولة عليهما مثل إرث زيد الذي موضوعه حياته.

١٣٦

وقد يقال(١) في منع استصحاب اللزوم: بأنّه ليس اللزوم حادثاً مغايراً.

وفيه: أنّ عدم كونه أمراً متأصّلاً لا يوجب عدم صحة استصحابه، لعدم كونه أمراً موجوداً في مرتبة نفسه.

والحاصل: أنّ كونه أمراً انتزاعياً من تعلّق الأمر بالكل لا مانع من جريان الاستصحاب فيه وأنّ وجوب الاكثر يحدث بسببه أمر وهو كون الزائد لازم الاتيان فيستصحب عدمه عند الشك وكونه أمراً انتزاعياً من الأمر لا يوجب عدم استصحاب عدمه.

وأمّا الثالث: فلأنّه أيضاً مثبت إن اريد به إثبات وجوب الأقل كما لا يخفى.

نعم يصحّ إستصحابه إن اريد به إثبات عدم الوجوب ظاهراً الذي يستلزمه عدم إستحقاق العقاب على تركه، وإن كان واجباً في الواقع ومرّ في إستصحاب عدم وجوب الأكثر.

وقد يستدلّ أيضاً بأصالة عدم جزئية الشيء الزائد للمركّب المأمور به.

وفيه: أنّ كونه للمركّب جزء مشكوك من حين حدوثه فلا يقين حتى يستصحب، إلاّ أن يراد به إستصحاب عدم جزئية الشيء المشكوك السابق على وجود المركّب.

وفيه: أنّه حينئذٍ أصل مثبت، لأنّ وجوب الأقل ليس من لوازمه الشرعية.

والحاصل: انّه إن لاحظ جزئية الشيء المشكوك من أوصاف المركّب واستصحب عدمه، يرد عليه: أنّ خلوّ المركّب عن هذا الوصف من أوّل الأمر مشكوك، وإن لاحظ وصفاً لمشكوك وقال: إنّ هذا العدم كان محقّقاً قبل تركّب المركّب وتعلق الأمر فنستصحبه، ففيه: أنّه أصل مثبت، وإن اريد أصالة عدم كونه ملحوظاً عند تركّب المركّب، بناء على أنّ المراد من الجزئية ليس هو كونه مأموراً به في ضمن الكل.

وبعبارة اخرى: ليس المراد أمراً إنتزاعياً من تعلّق الأمر بالكل، بل المراد منه: ملاحظة هذا الشيء مع غيره واحداً، لأنّ جزئية الشيء ليس إلاّ إعتباره مع غيره واحداً.

____________________

(١) القائل هو الأنصاري -قدس‌سره - في فرائده: ص ٤٦٩.

١٣٧

فنقول: الأصل عدم ملاحظته عند جعل المركّب الذي هو عبارة عن جعل امور متعدّدة أمراً واحداً، وحينئذٍ ملاحظته معلوم وعدم ملاحظة الزائد يثبت بالأصل فيثبت المركّب المأمور به، لأنّ كون المركّب هو الأقلّ يحتاج(١) إلى جنس وجودي هو الأجزاء الخاصة أعني الأقل، وإلى فصل عدمي وهو عدم ملاحظة غير تلك الأجزاء معها، والأوّل مفروض الوجود، والثاني يثبت بالأصل، فيرد عليه أنّ ذلك أيضاً أصل مثبت، إذ ليس من لوازمه الشرعية تعلّق الأمر بالأقل.

وقد يورد عليه بأنّ جزئيّة الجزء وكليّة الكلّ أمران اعتباريان منشؤهما أمر واحد، فأصالة عدم الجزئيّة ترجع إلى أصالة عدم كلية الاكثر، وهو معارض بأصالة عدم كلية الأقل.

ويرد عليه: أنّ ملاحظة الأقل عند اعتبار الوحدة غير الكلية: فانّها عبارة عن اعتبار الوحدة، ونحن نقول: إنّ الاصل عدم الملاحظة عند اعتبار الامور المتعددة أمراً واحداً، فلا يكون هذا تعييناً لأحد الحادثين بالأصل.

مسألة

إذا كان الشك في الجزئية ناشئاً من إجمال الدليل، كما إذا علّق الوجوب في الخطاب اللفظي بلفظ مردّد بين الأقل والأكثر فالحكم فيه كالسابق من حيث جريان البراءة والاحتياط، وهذا الاجمال قد يكون في المعنى العرفي، كما إذا علمنا أنّ الواجب عند الغسل غسل ظاهر البدن، وشككنا في أنّ باطن الأذن أو عكرة البدن من الأوّل أو الثاني، وقد يكون في المعنى الشرعي كالأوامر المتعلّقة بالعبادة في الكتاب والسنّة - بناء على أنّ ألفاظها موضوعة للماهية الصحيحة الجامعة للشرائط والأجزاء - وقد يفرّق بين هذه والمسألة السابقة فيقال: بجريان البراءة هناك لا هنا، استناداً إلى أنّ الخطاب التفصيلي المتعلق بالأمر المجمل المردّد بين الأقل

____________________

(١) ينحلّ (خ).

١٣٨

والأكثر معلوم، ومعه يجب الاحتياط تحصيلاً للبراءة عن مدلول ذلك الخطاب الذي في ذمّة المكلّف واشتغلت به، وفرّعوا على ذلك جريان البراءة على القول بالأعم وعدمه عند الصحيحي.

وفيه: أنّ وجود هذا الخطاب بالنسبة إلى وجوب الأكثر كعدمه، لأنّه لم يحصل منه بيان بالنسبة إلى وجوب الاكثر، إذ المفروض أنّه مجمل وحيئنذٍ فان بنى على أنّ العقل يحكم بالبراءة في الشك في جوب الزائد، وإنّ مثل قولهعليه‌السلام : « ما حجب اللّه علمه »(١) شامل للشك في الجزء والشرط، كان المتعيّن البراءة وإلاّ فلا.

فظهر أنّ مناط الحكم بالبراءة - وهو عدم البيان بالنسبة إلى الزائد مع عدم كون الاصل فيه معارضاً لمثله - موجود هنا، فدعوى الفرق لا وجه له. وأمّا الأقل فلما علم بوجوبه على أحد الوجهين - أعني وجوبه الغيري أو النفسي - لا محيص عن الاتيان به إذا لحجّة بالنسبة إليه تامة، وليس بعد البيان مؤمّن عقلي أو نقلي عن استحقاق العقاب على تركه، وإن لم يكن ذلك أيضاً قطعياً - بناء على أنّ المتجرّي لا يعاقب - لأنّ ترك الأقل على تقدير(٢) وجوب الأكثر في الواقع لا يترتّب عليه عقاب إذا بنينا على أنّ الاكثر لا يكون في الظاهر واجباً كما سيتضح إن شاء اللّه.

ودعوى: أن مدلول لفظ الصلاة المردّد بين الأقل والأكثر ثبت وجوبه فيجب الاحتياط.

يدفعها: أنّ الخطاب لم يكن وارداً على مفهوم مدلول الصلاة حتى يكون هو المكلّف به، ويكون إتيان الاكثر محصّلاً قطعياً له، بل الخطاب وارد على مصداق هذا العنوان، لا من حيث كونه مصداقاً بل لذاته، وهو إذا تردّد بين الأقل والأكثر يكون التكليف بالاكثر مشكوكاً، ولا يكون عنوان المكلّف به أيضاً معلوماً حتى يكون ذلك واجب التحصيل.

____________________

(١) التوحيد: ص ٤١٣ ح ٩.

(٢) بناء (خ).

١٣٩

وأمّا ما توهّم من كون جريان البراءة وعدمه ثمرة بين القولين السابقين.

فقد عرفت وهنه، وأنّ الأصل على الصحيح جارٍ عند من يبني في هذه المسألة على البراءة ولعلّ مدّعي الثمرة أيضاً إنّما ادّعاه بناء على اختياره الاحتياط في هذه المسألة، وأمّا ترك الاحتياط على الأعم فان كان لأجل أنّ عنوان المكلّف به غير معلوم، ففيه: أنّ المكلّف به على القولين ليس الاّ الصحيح ولا مدخل بوضع الألفاظ على أحد الأمرين في ذلك.

والحاصل: أنّ المراد من الخطاب ان كان عنواناً للمكلّف به لم يكن معه فرق بينهما في وجوب الاحتياط، وإن لم يكن عنواناً كما هو واضح فلا فرق أيضاً في جريان البراءة، وإن كان لأجل متعلق الخطاب مطلق يشمل الفاقد للجزء المشكوك وواجده، وإطلاقه معنىً ما لم يعلم التقييد، فيجب العمل به.

ففيه أنّ اعتبار الاطلاق فرع كون الخطاب المطلق وارداً في مقام البيان، والأوامر المتعلّقة بالعبادات في الكتاب والسنّة ليست في مقام بيان كيفية ما هو المطلوب(١) ، وانما هي تأكيدات صدرت لبعث المكلّفين على الطاعة، نظير قوله تعالى: (اطيعوا اللّه واطيعوا الرسول)(٢) وقول الطبيب في شرب الدواء، إمّا قبل البيانمشيراً إلى ما يفصّله، أو بعده مشيراً إلى ما فصّله، كما هو الغالب، وكيف كان فدعوى الثمرة بين القولين بما ذكر لا وجه له.

مسألة

إذا كان الشك في الجزئية ناشئاً عن تعارض النصين الدالّ أحدهما على الجزئية والآخر على العدم، فالظاهر أنّ الاكثر بناؤهم هنا على التخيير.

والتحقيق: أنّه إمّا أن يكون هنا اطلاق يدفع به الشك لولا الدليل، أو لا يكون فان لم يكن هناك اطلاق، فان بني على ترجيح أحد المتعارضين، بالأصل، أو قيل

____________________

(١) المطلق المطلوب (خ).

(٢) محمّد: ٣٣.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604