الرسائل الفشاركية

الرسائل الفشاركية0%

الرسائل الفشاركية مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 604

الرسائل الفشاركية

مؤلف: آية الله السيد محمد الفشاركي
تصنيف:

الصفحات: 604
المشاهدات: 45300
تحميل: 5764

توضيحات:

الرسائل الفشاركية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 604 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45300 / تحميل: 5764
الحجم الحجم الحجم
الرسائل الفشاركية

الرسائل الفشاركية

مؤلف:
العربية

استقصاء الجميع ولو تدريجاً.

وبالجملة: لا يكون هذا العلم الاجمالي منجّزاً للحرام على جميع التقادير عند العقلاء، وهذه الدعاوي صادقة في بادئ النظر، ولكن لا بحدّ يورث الاطمئنان بعد التأمّل.

الخامس: أنّ الغالب عدم ابتلاء المكلّف إلاّ ببعض معيّن من محتملات الشبهة الغير المحصورة، ويكون الباقي خارجاً عن محلّ ابتلائه وقد مرّ أنّ الاجتناب في مثله لا يجب مع حصر الشبهة.

وفيه: أنّ محلّ الكلام أعمّ من ذلك، بل الكلام في غير ما خرج بعض أطرافه عن محلّ الابتلاء، وكون الغالب ما ذكر لا يوجب الترخيص في غيره.

السادس: الأخبار الخاصة الدالّة على أنّ مجرّد العلم بوجود الحرام بين امور كثيرة لا يوجب حرمة الجميع ووجوب الاجتناب عنها: كرواية أبي الجارود قال: سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن الجبن فقلت: أخبرني من رأى أنّه يجعل فيه الميتة ؟ فقالعليه‌السلام : أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم جميع ما في الأرض؟ فما علمت منه ميتة فلا تأكله، وما لم تعلم فاشتر وبع وكل، واللّه إنّي لأعترض السوق فأشتر اللحم والسمن والجبن، واللّه ما أظنّ بكلّهم يسمّون(١) .

فانّ قولهعليه‌السلام : « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة » ظاهر في أنّ مجرّد العلم بوجود الميتة لا يوجب الاجتناب عن جميع محتملاته، كما أنّ الظاهر من قولهعليه‌السلام : « لا أظنّ بكلّهم » إرادة العلم بوجود من لا يسمّي فيهم حين الذبح، كالسودان المذكورة في الخبر.

وفيه: منع ظهور قوله: « أمن أجل إلى آخره » في ذلك، بل يحتمل أن يكون منه ان مجرّد جعل الميتة في مكان لا يوجب أن يكون غيره من الاماكن ليجعل في الميتة فيكون حراماً وكذلك نمنع ان قوله(٢) لا أظن بكلّهم يسمّون ظاهر في إرادة القطع

____________________

(١) وسائل الشيعة: ب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ح ٥ ج ١٧ ص ٩١ مع اختلاف فيه.

(٢) ومنع ظهور قوله (خ).

١٢١

بعدم تسمية بعضهم بل المراد بعد ذلك وبيان أنّه لا يجب أن يكون الانسان قاطعاً بحليّة ما يريد تناوله بل يكون احتمال حليّته كافياً في جوازه ظاهراً ولو كان الاحتمال مرجوحاً.

أو نقول: إنّ المراد أنّ ما يكون مشتبهاً بالحرام إذا كان في سوق المسلمين - ولو علم بوجود الحرام فيما يكون في السوق - لا يجب الاحتراز عنه، لأنّ سوق المسلمين أمارة للحليّة وإن لم يكن عليه يد المسلم، إلاّ أن نمنع كون السوق أمارة مع العلم الاجمالي هذا ما سمعته من السيد الاستاذ فالقول: احتمال كون المراد ذلك كاف في ردّ الاستدلال الاّ أن يدّعي القطع بعدم ذلك ولكن يمكن أن يقال، ولا يخفى أنّ حمل قولهعليه‌السلام : « ما أظنّ » على إرادة العلم الاجمالي يؤيّد كون المقصود من قوله: « من أجل »(١) ما ذكره المستدلّ ثم إنّ في الرسالة بعد ذكر الأدلّة ما هذه عبارته: وقد عرفت أنّ أكثرها لا يخلو من منع أو قصور ولكن المجموع منها لعلّه يفيد القطع أو الظنّ بعدم وجوب الاحتياط والمسألة فرعية يكتفى فيه بالظن(٢) .

وفيه: انّ كون المسألة فرعيّة مسلّم، إلاّ أنّ حجيّة هذا الظن فيها مبنيّة على حجيّة الظن المطلق، ضرورة أنّ الظن الحاصل من مجموع امور لا تكون دالّة ولا يستند ذلك إلى ظهور لفظي بعد الجمع بينهما لا يكون الاّ ظنّاً مطلقاً.

والحاصل: أنّ الاجماع المحكي إن كان بالغاً درجة الحجّية فهو المستند، وإلاّ فالظنّ الحاصل بضميمة غيره من الأدلّة لا يمكن الركون إليه ما لم يستند إلى ظهور لفظي.

واعلم أنّ مقتضى حكم العقل - كما مرّ - هو الاجتناب عن جميع الأطراف إلاّ أن يثبت الاذن من الشارع في ترك الاحتياط، فنقول: مقتضى حكم الدليل العقلي - وهو الدليل الرابع - جواز ارتكاب الكلّ تدريجاً ما لم يقصد ذلك من أوّل الأمر، لأنّ ضعف الاحتمال الموجب لتأمين العقل ثابت في كل من المحتملات،

____________________

(١) مكان واحد (خ).

(٢) فرائد الاصول: ص ٤٣٥، ذيل مبحث الشبهة غير المحصورة.

١٢٢

غاية الأمر أنّه يحصل - بعد ارتكاب الجميع - العلم بأنّ الحرام قد حصل ارتكابه، وتحصيل العلم بذلك لا دليل على حرمته - كما مرّ - في المحصورة.

وأمّا إذا قصد الجميع أوّلاً سواء كان لأجل تناول الحرام أو لداع آخر، فالظاهر أنّه حرام لعدّ ارتكابه معصية ويكون معاقباً في ارتكاب الحرام وان كان هو أوّل ما ارتكبه، وأمّا العقاب على غيره(١) - على الأوّل - فهو مبنيّ على مسألة التجرّي.

وأمّا الأخبار فقد يقال: إنّها إن كان تامّ الدلالة تدلّ على حليّة الجميع قلت: إن قلنا بأنّ الاذن في المخالفة القطعيّة من الشارع ممنوع فالعمل بالأخبار مشكل، لأنّ ظاهرها لا يمكن العمل به، وتخصيصه ببعض المحتملات دون بعض، ترجيح بلا مرجّح، ويجب العمل بما يأتي ذكره، وإن قلنا: بأنّ الاذن فيها جائز قلنا حينئذٍ بجواز إرتكاب الجميع - وإن قصد الارتكاب من أوّل الأمر -، لأنّ المفروض أنّها تدلّ على أنّ الحرام الموجود في المشتبهات لا يكون منجّزاً وحينئذٍ لا يصدق - مع قصد الجميع من أوّل الأمر على إرتكابه - أنّه معصية، والفرق بين هذا الوجه والدليل العقلي: أنّ العقل إنّما كان يرخّص في كلّ من المحتملات بشرط الانفراد، إذ المناط فيه ضعف الاحتمال، ومع ضمّ بعضها إلى بعض يحصل القطع بالعقاب، بخلاف الأخبار فانّ الاذن فيها ليس مقيّداً بصورة قصد الانفراد.

ويمكن أن يقال: إنّ الاجماع قام على أنّ إرتكاب الشبهة الغير المحصورة جائز في الجملة، وهذا الوجه يوجب خروج ذلك عن أخبار الاحتياط، ودعوى خروج هذه الشبهة عن أخبار الحلّ ما لم يعلم حرمته، أيضاً بعيد لبعد خروجه عنهما، وعدم التعرّض لحكمها من الائمةعليهم‌السلام ، وحينئذٍ نقول: إنّ الاذن في المخالفة مطلقاً، إن كان جائزاً فالأمر واضح، وإن لم يكن جائزاً فنقول: القدر الذي يمنع منه العقل هو الاذن في ارتكاب الجميع، وذلك ينتفي بإبقاء مساوي الحرام،

____________________

(١) في هامش إحدى النسختين توجد هذه العبارة « الظاهر زيادة هذه الكلمة » ويعني بها « على غيره ». ولكن الصحيح كما يبدو أن كلمة « على غيره » غير زائدة بل الزائد هو الواو في « وإن كان هو. ».

١٢٣

مقدار ما يساوي الحرام جائز، - إن قصد ذلك الارتكاب تدريجاً -.

وأمّا الأخبار الخاصة: فلا دلالة فيها على جواز ارتكاب الجميع والعدم، فتأمّل. وإن منعنا دلالة الأخبار وحكم العقل بجواز الارتكاب، فيمكن أن يقال حينئذٍ: إنّ الثابت بالاجماع: هو ارتكاب الشبهة في الجملة، وذلك لا يوجب الاذن في الجميع، فان قصده من أوّل الأمر فلا يجوز الارتكاب مطلقاً، لصدق المعصية، وإن قصد البعض فيجوز إرتكابه، وذلك جائز إلى مقدار ما يساوي الحرام، وأمّا هو فلا يجوز إرتكابه، لعدم دليل على جوازه إن قلنا: إنّ الاذن في الجميع ممكن، وإلاّ فالدليل على خلافه موجود.

قلت: ان ثبت الاجماع على الرخصة في غير ما يساوي فهو، والاّ فمجرّد العلم بالرخصة في البعض لا يوجب جواز ما عدا ذلك المقدار، بل الواجب: الاقتصار على ما يقطع جوازه من المقادير - بعد اجتناب ذلك(١) - ممّا يكون إحتمال حرمته أضعف من غيره، إن كان بين المحتملات تفاوت بالقوّة والضعف، واختيار ما شاء منها إن لم يتفاوت لعدم المرجّح.

والحاصل: انّ من بنى على كون العلم الاجمالي منجّزاً يجب عليه حينئذٍ القول بأنّ الاذن في بعض الأطراف إمّا يجعل اجتناب ما يساوي الحرام بدلاً عن المحرّم الواقعي، وإمّا الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي عن الامتثال اليقيني، لتعسّر الامتثال اليقيني على المكلّف، أو لحكمة اخرى أوجب رفعه عن المكلّف ولا يعلمه، ولا يمكنه القول: بجواز إرتكاب الجميع لا مع القصد ولا بدونه، إلاّ إذا بنى على أنّ تنجّزه تعليقي، وأثبت الاذن من الشارع مطلقاً، أو على تقدير بعض الوجوه.

الكلام في الشك في الجزئية

إذا تعلق الأمر بماهية ذات أجزاء وعلم لها أجزاء وشك في أنّ لها جزء آخر من

____________________

(١) الظاهر « واختيار ذلك » بدل قوله « بعد اجتناب ذلك ».

١٢٤

الأفعال الخارجية غير الأجزاء المعلومة ؟ كما لو شك في جزئية الاستعاذة في الصلاة ففي وجوب الاحتياط وعدمه إشكال، وذهب إلى كل جماعة وقال شيخناقدس‌سره في الرسالة: لم أعثر في كلمات من تقدّم على المحقّق السبزواري على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط، وإن كان فيهم من يختلف كلامه في ذلك، كالسيد والشيخ والشهيد(١) انتهى ويحتمل أن يكون تمسّكهم بالاحتياط أيضاً على وجه التأييد، لأنّ حسن الاحتياط بديهي، وأمّا أصالة البراءة فبعد بطلانها لا وجه للتأييد بها.

احتجّ القائلون بالبراءة بوجوه: الأوّل: استقلال العقل بأنّ المولى اذا أمر عبده بمركّب من عدّة امور ولم يعلمه إلاّ ببعض تلك الامور، والعبد لم يأت بغيرها للشك في أنّ(٢) غيرها له دخل في المطلوب، وعدم ظفره بعد المبالغة في الفحص والتتّبع عن دليل يقضي بالوجوب أو العدم بعدم جواز عقاب العبد على ترك ذلك، وعدم كونه فاعلاً للقبيح اذا فعل ذلك، فالواجب على الحكيم: إمّا أن يعذّر العبد، أو ينصب له طريقاً إلى وجوب الجزء المشكوك على وجه يطلع عليه العبد.

فان قلت: التكليف بالماهية المردّدة بين الأقلّ والأكثر معلوم، وقضية العلم به هو الاحتياط، ولو كان الجهل تشخيص المكلّف به مانعاً عن وجوب الاحتياط لمنع عن وجوبه في غير هذا المورد من الموارد التي وقع الاتّصاف فيها على وجوب الاحتياط، كما في قسمي الشبهة المحصورة - أعني ما يكون منشأ الاشتباه فيها الامور الخارجية وما ليس كذلك، كتردّد الواجب بين الظهر والجمعة - قلت: فرق بين المقام وموارد الشبهة المحصورة لأنّ العلم الاجمالي بوجوب الأمر المردّد بين الأقل والأكثر يلزمه بعد العلم بأنّ الاكثر لو كان واجباً كان الأقل واجباً من باب المقدمة انحلاله إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل على أيّ تقدير وشك بدوي في وجوب الاكثر الناشئ من الشك في وجوب الزائد، وليس الأمر كذلك في موارد الشبهة، ولو

____________________

(١) فرائد الاصول: ص ٤٦٠.

(٢) وفي نسخة « أنّه » والظاهر ما أثبتناه.

١٢٥

فرضنا فيها أيضاً انحلال العلم الاجمالي إلى ما ذكر ذلك بمعونة خصوصية في المورد، فلا تلزم بوجوب الاحتياط هنا أيضاً، كما إذا تردّد الخمر بين إنائين يعلم بنجاسة أحدهما المعيّن فانّ الظاهر منهما محكوم بجواز الاجتناب.

والحاصل: أنّ إجمال العلم إذا كان سبباً للجهل بخصوصية المكلّف به فالواجب لأجله هو الاحتياط وليس الجهل عذراً وإذا كان سبباً للجهل باصل التكليف بعد العلم بالتكليف في مقدار معيّن، فلا يجب الاحتياط في المشكوك بسببه، لأنّ العقل مستقلّ بوجوب بيان التكليف.

وبما ذكرنا يندفع ما قد يورد على القائل بالبراءة: من أنّه إذا كان الاكثر على تقدير كونه هو المكلّف به لا يجب الاتيان به ولا عقاب على تركه، لأنّ الاصل براءة الذمة عنه، لأجل أنّ المكلّف جاهل بهذا التقدير، ولم يثبت من الشارع بيان بالنسبة اليه، فلا يجب الاتيان بالأقل ايضاً لأجل العلم الاجمالي، إذ بعد فرض فراغ الذمة عن التكليف بالاكثر، لا يكون وجوب الأقل إلاّ مشكوكاً فالأصل براءة الذمة عند وجه الدفع أنّ الشك في وجوب الأكثر انّما يلازم الشك في وجوب الاقل لنفسه، وأمّا وجوبه الأعم من النفسي والغيري فلا يكون مشكوكاً، وانقطاع الاصل بالنسبة إليه يكفي فيه هذا المقدار من العلم.

فان قلت: سلّمنا أنّ الأقل معلوم الوجوب والزائد مشكوك ولكن ذلك لا يقتضي أن لا يكون الزائد لازم الاتيان بل ذلك يقتضي الاحتياط، لأنّ القطع بفراغ الذمة عن الأقل لا يحصل الاّ بالاتيان بالاكثر، لأنّ الأقل إمّا مطلوب وحده، وإمّا مطلوب في ضمن الكل، فالقطع بالفراغ عن التكليف المتعلّق به لا يحصل إلاّ باتيانه في ضمن الكل وهذا نظير تردّد الواجب بين القصر والاتمام الاّ أنّ الاحتياط هنا يمكن بغير الجميع دون هنالك.

قلت: أمّا أنّ الأقل مطلوب في ضمن الكل على تقدير وجوب الأكثر.

ففيه المنع، لأنّ وجوب الأقل ليس الاّ لأجل توقّف الكلّ المركّب منه ومن غيره عليه والكل متوقّف على ذات الأقل وأمّا هو منضمّاً إلى غيره فهو ليس الاّ عين

١٢٦

الكل فالأمر به ليس الاّ أمراً بالكل، وأمّا أنّ الامتثال لا يحصل - على تقدير كون الأكثر هو الواجب - إلاّ باتيانه في ضمن الكل، ففيه أنّ اتيان الجزء مسقط للأمر به، لأنّ موافقة ذلك الأمر بعد فرض تعلّقه بذات الجزء قد حصل فلا معنى لعدم سقوطه، لأنّ الأمر يقتضي الاجزاء بالبديهية واما الأمر به بعد خروجه عن صلاحية لحوق سائر الاجزاء فليس لأجل أنّ الأمر الأوّل باق، بل لأجل أنّه فسد بذلك ومع فساده لم يحصل الغرض المقصود من الأمر به وهو التوصل إلى الكل، نظير إفساد الوضوء بالحدث فيعود الأمر وإذا حصل الامتثال بالأقل أوّلاً فيما نحن فيه سواء كان وجوب لنفسه أو لغيره فعود الأمر به ثانياً - بعد خروجه عن صلاحية لحوق سائر الاجزاء - يحتاج إلى دليل والمفروض عدمه.

فان قلت: سلّمنا وجوب الاقل وأنّه يحصل الامتثال به على أيّ تقدير ولكن نقول ترتّب العقاب على مخالفة هذا الأمر مشكوك، لأنّه لو كان الواجب الواقعي هو الأكثر لا يكون الخطاب منجّزاً، وحينئذٍ لا يترتّب على ترك الأقل أيضاً عقاب، وإذا كان الأمر كذلك فلا يلزم اتيان الأقل، ولو كان وجوبه معلوماً وحينئذٍ يلزم جواز المخالفة القطعية.قلت: احتمال ترتّب العقاب على ترك الأقل مع عدم ما يوجب الآمن منه كاف في إلزام العقل بوجوب الاتيان به مع أنّه على تقدير وجوب الاكثر يكون ترك الأقل تجرّياً ومستلزماً للعقاب إن قلنا فيه بالعقاب.

والحاصل: أنّ الأمر بالأقل معلوم، لأنّه إمّا واجب واقعاً في نفسه، وإمّا واجب واقعاً للغير، وإحتمال سقوطه بسقوط الأمر بالأكثر - إن كان هو الواجب - لا يجدي في ترخيص العقل على مخالفته.

فان قلت: سقوط الأمر بالأقل موقوف على قصد القربة، وهو لا يمكن الاّ مع قصد الاتيان بالأكثر.

قلت: يكفي في صدق الامتثال قصد الفرار عن مخالفة الأمر وما يترتّب على مخالفته، وإن لم يعلم بحصول القرب - كما يأتي بيانه -.

١٢٧

والحاصل: أنّ العقل مستقلّ بعدم لزوم إتيان الزائد مادام كونه مشكوك الوجوب، لاستقلاله بأنّ العقاب على مخالفته مع عدم البيان قبيح، ومستقلّ أيضاً بوجوب إتيان الأقل للفرار عن ترتّب العقاب على تركه - وإن كان إحتمالياً - لحصول اتمام الحجّة بالنسبة إليه.

فان قلت: حكم العقل بعدم وجوب الاتيان بالزائد ممنوع، لأنّا نرى أنّ الطبيب إذا أمر بمعجون ذي أجزاء ليس بناء العقلاء فيه على الاكتفاء بما علم من أجزائه، ولو اكتفى المريض بذلك مع علمه بأنّ الجزء المشكوك ليس بضارّ يستحقّ اللوم، وكذلك العبيد بالنسبة إلى أوامر مواليهم، فانّهم إذا اكتفوا بما علموا من الأجزاء ولم يأتوا بالجزء المشكوك - مع العلم بأنّه ليس مبغوضاً للمولى - يستحقّون اللوم والذمّ، ولا يقبح على المولى توبيخهم على ترك المشكوك إذا انكشف أنّه داخل في المركّب المأمور به.

قلت: الأوامر الصادرة من المولى قد يكون المقصود منها تحصيل أمر في الخارج بحيث يعلم أنّ الغرض انّما تعلق بحصول ذلك الأمر والأمر بالمركّب انّما هو لأجل كونه محصّلاً، وأنّ الذي يطلبه المولى من عبده حقيقة هو تحصيل ذلك الشيء وقد لا يكون كذلك، أمّا في الصورة الاولى فيجب الاحتياط فيها، لأنّ مع الشك في الاتيان بما يوجب حصول ذلك الشيء شك في الاتيان بالمأمور به رأساً، ولا ريب أنّ الاشتغال به يقتضي القطع بالبراءة عنه، ومن هذا القبيل أوامر الأطباء إذ المقصود منها ليس مجرّد استعمال ما قررّه الطبيب، بل المقصود حصول الأثر المترتّب على الداء الذي رتّبه.

نعم فرق بين أوامر الاطباء والموالي، فانّ الاولى إرشادية محضة، وأوامر الموالي يكون المقصود منها إطاعة العبد.

وأمّا الصورة الثانية: - أعني ما لم يعلم أنّ الغرض من الأمر حصول أمر بسيط مرتّب على هذا المركّب الذي تعلّق الأمر به ظاهراً - فبناء العقلاء فيها على الاحتياط ممنوع، بل على المولى البيان، فكلّ ما علمه العبد وتركه يكون معدوداً في العصاة

١٢٨

بسبب تركه، وما لم يعلم أنّه مطلوب فتركه لا يعدّ معصية - وإن إنكشف أنّه مطلوب المولى - وليس على المولى مؤاخذته على تركه.

والحاصل: أنّ المولى مع قدرته على رفع جهل العبد - ولو على طريق خارج عن المتعارف - إذا لم يبيّن المشكوك ليس له المؤاخذة من عبده لترك المشكوك.

نعم لو كان الشك في مطلوبية الجزء المشكوك راجعاً إلى الشك في علّة حصول المأمور به في الخارج، وأنّه هل هي الأجزاء المعلومة أم هي تلك مع الأجزاء المشكوكة - كما في الصورة الاولى - وجب الاحتياط، لأنّ بيان ما يوجب حصول المأمور به على وجه يقطع العبد به مع كونه قادراً على الاتيان في حال الشك ليس بلازم على المولى، ولو تركه لا يكون ذلك قبيحاً وانّما اللازم عليه اتمام الحجّة بالنسبة إلى أصل المأمور به.

فان قلت: أوامر الشارع على قول العدلية كلّها من قبيل الصورة الاولى، لابتنائها على المصالح التي ما هي إمّا عناوين لما أمر بها، أو أغراض لتلك الأوامر، فانّ الامور المترتّبة على إتيان المأمور به: إمّا أن يكون من خواص ذات المأمور به كالاسهال المترتّب على ذات الدواء المشروب، أو من الامور المترتّبة على إتيانه بقصد الطاعة وموافقة الأوامر، فان كانت من قبيل الأوّل يكون عنواناً للمأمور به، نظير اسهال الصفراء، فان الأمر بالدواء الذي خاصيته ذلك أمر بمسهل الصفراء، وإن كانت من قبيل الثاني فهي أغراض من الأوامر المتعلّقة بتلك الامور، إذ المفروض أنّ الخاصيّة ليست مترتّبة على ذات المأمور به، بل هي مترتّبة عليه إذا انضمّ إليه أمر خارج عنه - وهو قصد القربة - وذلك مثل الألطاف في الواجبات العقلية التي تترتّب على العبادات إذا اتي بها بقصد الاطاعة والانقياد.

والحاصل: أنّ الأوامر الشرعية - تعبّدية كانت أو توصّلية - مبنيّة على مصالح هي إمّا عناوين للمأمور به، كما في التوصّليّات وكالفوائد المترتبة على ذات المأمور به في التعبّديّات، وإمّامن قبيل الأغراض كالامور المترتبة على العبادات اذا اتي بها بقصد الاطاعة، وعلى أيّ تقدير لا يحصل القطع بحصول تلك المصالح إلاّ بعد

١٢٩

الاتيان بجميع ما يحتمل أن يكون داخلاً في المأمور به فيجب إتيان ذلك تحصيلاً للقطع بحصول ما وجب تحصيله.

قلت أوّلاً: الكلام في مسألة البراءة والاحتياط ليس مبنيّاً على مذهب العدلية، بل هو جار على جميع المذاهب حتى الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح.

لا يقال: الذي ينكره الأشاعرة لزوم أن يكون المقصود من الأوامر حصول أمر مترتّب على المأمور به، وهم لا ينكرون جواز ذلك واحتمال ذلك كاف في وجوب الاحتياط.

لانا نقول: ما لم يعلم ذلك لا نحكم بوجوب الاحتياط، لأنّ ما علم الأمر به حينئذٍ ليس إلاّ ما تعلّق الأمر به ظاهراً، وغيره مشكوك وتحصيل الغرض المشكوك غرضيته ليس بلازم فتأمّل. حتى على مذهب من يختار من العدلية أنّ منشأ الأوامر وجود المصلحة في نفس أمر الآمر وإن لم يكن في المأمور به بنفسه، أو مع قصد الاطاعة مصلحة.

وثانياً: أنّ القائلين بابتناء الأوامر على المصالح قائلون بانّه يعتبر في إمتثال الأوامر التعبدية من قصد الوجه، وإذا شككنا في أنّ المأمور به هو الأقل أو الاكثر فلا يمكن لنا قصد الوجه، إذ هو فرع المعرفة به، وحينئذٍ نقول: يمكن أن يكون الغرض المترتّب على المأمور به مترتّباً على الاتيان به بقصد الاطاعة مقروناً بقصد الوجه، وعند ذلك نشك في التكليف بتحصيل الغرض، وهذا نظير ما إذا علم إجمالاً بوجوب شيء مردّد بين أمرين وكان عند العلم بالأمر أو قبله مضطرّاً في ترك بعض تلك الامور، فانّ العلم الاجمالي حينئذٍ لا يكون موجباً لتنجّز التكليف بذلك الأمر المردّد، وحينئذٍ فلا يبقى علينا إلاّ وجوب التخلّص عن تبعة هذا الأمر المعلوم المتعلّق بذات المركّب من العقاب على مخالفته.

فان قلت: فحينئذٍ لا يجب الاتيان بالأقلّ لأنّ الشك في إمكان حصول الغرض شك في أصل الأمر، لأنّ المفروض أنّ الأمر مترتّب على المصلحة فمع الشك فيها نشك في أنّه هل وجب علينا شيء أم لا؟ وقد سبق أنّ الشك في أصل التكليف

١٣٠

لا يوجب الاحتياط والأصل عنده هو البراءة.

قلت: ثبوت التكليف بالأقل ممّا لا ريب فيه واحتمال عدم التمكّن من تحصيل الغرض الباعث على تعلّق الأمر بالأمر المردّد عند المكلّف بين الأقلّ والاكثر لا يوجب رفع اليد عن الخطاب المعلوم، وإن كان الاحتمال، موجباً للشك في حدوث التكليف، وليس بناء العقلاء في مثل هذا المورد على البراءة، ولا يحكم العقل بمعذورية المكلّف لو كان ما تعلّق به الخطاب واقعاً هو الأقلّ.

والحاصل: أنّ الأمر بالشيء اذا ثبت عند المكلّف فاحتمال عدم كون الغرض ممّا يمكن تحصيله لا يوجب سقوط التكليف، وليس هذا لأجل أنّ تحصيل الغرض ولو احتمالاً واجب حتى يقال: بوجوب الأكثر حينئذٍ، بل لأجل أنّ الحجّة بالنسبة إلى ما علم تعلّق الأمر به تامّة، وإن كان الأمر مردّداً بين النفسي والغيري، وبين ما يترتّب على مخالفته العقاب وما لا يترتّب على مخالفته العقاب، ولا يخفى أنّ هذا الجواب انّما يتمّ عند من لا يرى جواز الاكتفاء بقصد القربة عند التمكّن من قصد الوجه، وأمّا عند من يدّعي القطع بأنّ قصد الوجه لا يكون له دخل في باب الاطاعة حتى في التعبّديّات، فالأمر في مقام الجواب عن هذا الاشكال عليه مشكل.

ويمكن أن يستدلّ لجواز الاكتفاء بالأقلّ: بأصالة عدم وجوب الاكثر، ولا يعارض باصالة عدم وجوب الأقل، لأنّ الأصل بالنسبة إليه لأجل العلم بتعلّق الأمر به منقطع وساقط، وتردّده بين النفسي والغيري لا يمنع عن كون العلم به مسقطاً للأصل كما لا يخفى.

لا يقال: إن قصد بهذا الاصل نفي أثر الوجوب الذي هو استحقاق العقاب على الترك، ففيه: أن عدم استحقاق العقاب ليس من آثار عدم الوجوب الواقعي حتى يحتاج إلى إحرازه بالأصل، بل يكفي فيه عدم العلم بالوجود، فمجرّد الشك فيه كاف في عدم استحقاق العقاب بحكم العقل القاطع، وإن قصد به نفي الآثار المترتّبة على الوجوب النفسي المستقلّ، فأصالة عدم هذا الوجوب في الأكثر معارض بأصالة عدمه في الأقل، فلا يبقى لهذا الأصل فائدة إلاّ نفي ما عدا العقاب من الآثار

١٣١

المترتبة على مطلق الوجوب الأعم من النفسي والغيري.

لأنّا نقول: إنّ التمسّك بالأصل انّما هو مع قطع النظر عن حكم العقل بالبراءة، ولا ريب أنّه مع فرض عدم وجود دليل كاف في إثبات البراءة يكون دليلاً مقتضياً لنفي العقاب على مخالفة الخطاب المشكوك الثبوت على تقدير وجوده، ويكون وارداً على حكم العقل بوجوب الاحتياط لو فرض حكمه ذلك، كما يدّعيه القائلون بالاحتياط.

وقوله: انّ عدم استحقاق العقاب من آثار عدم الوجوب الواقعي.

ففيه: أنّ استحقاق العقاب انّما هو من آثار مخالفة الخطاب المعلوم ثبوته عند المكلّف، فسبب إستحقاق العقاب على المخالفة هو الوجوب المعلوم، وهذا المركّب كما يكون مرتفعاً بعدم العلم، كذلك يكون مرتفعاً بارتفاع أصل الوجوب، وإذا فرضنا أنّ إرتفاع المركّب الذي هو علّة للاستحقاق يكون بأحد أمرين، كذلك يكون معلوله الذي هو عدم الاستحقاق مستنداً بأحد أمرين، فعند إنتفاء الوجوب واقعاً يكون عدم استحقاق العقاب مستنداً إلى ذلك، وعند ثبوته واقعاً وهو مجهول كان العدم مستنداً إلى عدم العلم بالوجوب إن فرض أنّ عدم العلم كان كافياً في رفع الاستحقاق كما في بعض الموارد.

لا يقال: عدم العلم بالوجوب بمنزلة قضيّة سالبة تجمع مع عدم الوجوب واقعاً، فهو عند عدم الوجوب أيضاً مستحق(١) ، وانّما يتبيّن ما ذكرت من إستناد رفع استحقاق العقاب بانتفاء نفس الوجوب في بعض الموارد إذا كان عدم العلم متخلّفاً عن عدم الوجوب في مورد تحقّقه.

والحاصل: أنّ عدم العلم أعم من عدم الوجوب، وانّما يعلم تعدّد سبب رفع الاستحقاق إذا فرض بينهما المباينة الكلية.

لأنّا نقول: لا ريب في أنّ عدم الوجوب قابل لاستناد عدم العقاب إليه، كما أنّ

____________________

(١) متحقّق (ظ).

١٣٢

عدم العلم به أيضاً قابل لذلك، وإذا فرض اجتماع أمرين يمكن إستناد شيء إلى كل منهما يكون السابق هو المستند إليه، ولا ريب أنّ عدم الوجوب سابق على عدم العلم به، ولو فرضنا عدم العلم أو عدمه فالحكم بالاستناد إلى أحدهما المعيّن لا وجه له فتأمّل.

ويمكن أن يكون المقصود في(١) الاحتياج إلى الأصل: أنّ مع عدم العلم من دون طريق تعبّدي تقطع بعدم العقاب وإن فرض عدم الاستناد إليه في الواقع، فلا حاجة إلى إثبات العدم، ولكنّك قد عرفت أنّ الكلام مع قطع النظر عن كفاية عدم العلم بحكم العقل بالبراءة، وأنّ المقصود إثبات البراءة ولو فرض أنّ العقل لا يحكم بها.

فان قلت: لو سلّمنا تماميّة الأصل فلا يترتّب عليه إلاّ الآثار الشرعية التي هي ثابتة لعدم الوجوب، ولا ريب أنّ عدم إستحقاق العقاب ليس من الآثار الشرعية، كما أنّ استحقاقه أيضاً ليس من آثار الوجوب التي تثبت بالشرع، بل الحاكم بالترتّب في الموردين هو العقل.

قلت: ليس المقصود من التمسّك من الأصل إثبات عدم العقاب بحكم الشرع حتى يقال: إنّ الاستصحاب لا يثبت الآثار العقلية، بل المقصود منه إثبات ما يلزمه عدم العقاب عقلاً - وهو عدم الوجوب في الظاهر - كما أنّ المثبت من إستصحاب الوجوب ليس إلاّ الوجوب الظاهري الذي يلزمه استحقاق العقاب في الجملة.

فان قلت: عدم الوجوب ليس من الأحكام الشرعية حتى يكون الاستصحاب مثبتاً له في الظاهر.

قلت: المثبت بالاستصحاب: كل أمر يكون إبقاؤه ورفعه بيد الشارع - سواء سمّي ذلك حكماً اصطلاحياً أو لا - ولا ريب أنّ عدم الوجوب من الامور المذكورة وليس للعقل مدخل في إثباته ونفيه في الواقع.

____________________

(١) منع (ظ).

١٣٣

والحاصل: أنّ الاستصحاب في الموضوعات فائدته: إثبات الآثار الشرعية التي ثبتت لتلك الموضوعات، وفي الأحكام وما يشبهها فائدته: إثبات نفس ذلك الشيء بحسب الظاهر، ويترتّب على ذلك: لازمه العقلي من استحقاق العقاب وعدمه، والمثبت هنا بالأصل هو عدم الوجوب في الظاهر، ويلزمه عدم العقاب على الترك عقلاً، ولو كان الوجوب ثابتاً في الواقع، كما لو دلّ دليل آخر من الأدلّة الشرعية على عدم الوجوب ولا دليل يقتضي اختصاص أدلة الاستصحاب بخصوص الموضوعات والأحكام ويقتضي خروج مثل عدم الوجوب وعدم الحرمة وما أشبهها من تلك الأدلّة.احتجّ القائلون بوجوب الاحتياط بامور:

الأوّل: قاعدة الاشتغال الجارية في الشبهة المحصورة.

وقد مرّ جوابها في الدليل العقلي على البراءة.

الثاني: استصحاب الاشتغال بعد الاتيان بالأقلّ وقضيّته وجوب الاتيان بالأكثر.

وفيه: أنّه إن قصد بذلك إستصحاب حكم العقل بوجوب تحصيل البراءة اليقينية حتى يحصل اليقين بفراغ الذمة.

ففيه: انّه لا مجرى للشك في حكم العقل حتى يحتاج فى إثباته إلى الاستصحاب، ضرورة أنّ الحاكم لا يشكّ في حكمه، وإن قصد بذلك إستصحاب بقاء الوجوب وبعبارة اخرى استصحاب عدم سقوط ذلك الخطاب الثابت أوّلاً، ففيه (أوّلاً) أنّه مع حكم العقل بوجوب الاحتياط عند الشك في السقوط كما يدّعيه هذا القائل لا وجه للاستصحاب، إذ معنى الاستصحاب: إدراج الوجوب المشكوك تحت عنوان الوجوب المعلوم ظاهراً وتنزيله منزلة ذلك في اجراء احكامه عليه، وهذا انّما يصحّ إذا كان حكمه مخصوصاً بالوجوب المعلوم، وأمّا لو فرضنا أنّ الحكم المقصود إثباته لا يكون من لوازم المعلوم الخاصة به بل يكون لازماً للمشكوك أيضاً فلا يكون هذا الحكم الاّ لغواً وقبيحاً، ونظير ذلك إستصحاب عدم الوجوب، والبراءة الاصلية عند من يرى حكومة العقل بالبراءة

١٣٤

عند الشك.

نعم لو كان التمسّك بالاستصحابين في كل من المقامين - مع قطع النظر عن حكومة العقل بالبراءة والاحتياط - كان وجيهاً ولعلّه كذلك كما أشرنا إليه.

(وثانياً) أنّ وجوب الاكثر لا يكون من اللوازم الشرعية لعدم سقوط الأمر المردّد بين الأقل والاكثر حتى يكون إثباته بالأصل راجعاً إلى إثباته المشكوك، بل هو من لوازمه العقلية بعد فرض أنّ الأقلّ لا يكون موجباً للسقوط.

والحاصل: أنّ عدم سقوط الأمر في الواقع ليس من لوازمه وجوب الاكثر، نعم يلزمه عقلاً ذلك على تقديرأنّ الأقلّ لا يكون مسقطاً، ولا ريب أنّ الاستصحاب لا يثبت إلاّ الآثار الشرعية.

فان قلت: يكفي في المقام إستصحاب عدم السقوط وبقاء الوجوب ظاهراً، ولا يحتاج إلى إثبات وجوب الأكثر حتى يرد ما ذكرت، لأنّ العقل بعد القطع بأنّ الأمر باق يحكم بأنّه يجب اسقاطه، ولا ريب أن طريق اسقاطه إذا كان بعد الاتيان بالأقل لا يكون إلاّ بالاتيان بالاكثر، وهذا نظير إثبات عدم الوجوب ظاهراً باستصحاب عدم وجوب الاكثر الذي أشرنا إليه سابقاً.

قلت: الوجوب الذي لا نعلم له متعلّقاً - لا إجمالاً ولا تفصيلاً - لا يجب امتثاله بالضرورة، فما لم يثبت متعلّق هذا الوجوب الظاهري الذي يثبت بالاستصحاب ولو بين الأمرين لا يجب امتثاله، وكون متعلّقه هو الأقلّ لا يعقل، إذ المفروض أنّ الواقع لو كان هو وجوب الأقل يكون ساقطاً، مع انّه لو كان، لا يفيد وجوب الأكثر وليس متعلّقه الأكثر إذ ليس الواقع المعلوم معلوماً كون متعلّقه الاكثر حتى يكون بالاستصحاب عند الشك يثبت وجوبه وإلاّ لم يكن شك في عدم سقوط الخطاب، والوجوب المطلق ليس من لوازمه الشرعية تعلّقه بالأكثر بعد عدم تعلّقه بالأقل.

ثم إنّ استصحاب وجوب الامر المردّد على تقدير كون الاصل المثبت حجّة لا يصحّ التمسّك به هنا، لأنّ الشك في بقاء الوجوب وعدمه ناش من الشك في كون متعلقه الأكثر أو الأقل ولا ريب أنّ استصحاب عدم وجوب الزائد مثبت لوجوب الأقل وهو مقدّم على هذا

١٣٥

الاستصحاب، لأنّ الأصل في الشك السببي مقدّم على الأصل الجاري في المسبّب، ولو فرضنا عدم التقدّم فيتعارضان والمرجع حينئذٍ أصالة البراءة. وأمّا إبطال إستصحاب الوجوب - بناء على حجّية الأصل المثبت- بأصالة البراءة فلا وجه له، لأنّ الاستصحاب دليل - بناء عليه - على وجوب الأكثر، فلا يكون مجرى لأصالة البراءة فيه لأنّ أصالة البراءة يجري عند الشك وإستصحاب الوجوب رافع للشك ودليل على وجوب الأكثر.

والقول بأن استصحاب الوجوب انّما يصح عند الشك فيه والشك فيه انّما يوجد بعد الاشتغال بالأقل واتمامه ونحن قبل الاشتغال به أثبتنا عدم وجوب الاكثر بأصالة البراءة فلا يبقى لنا شك.

مدفوع بأنّ وجود الشك في سقوط الواقع معلوم، وجريان الاستصحاب حينئذٍ مانع عن حكم العقل بالبراءة، إمّا لفرض زمان الشك قبل الاشتغال بالأقلّ، أو لأنّ العلم بجريان الاستصحاب عند الحاجة إلى الدليل في وجوب الزائد وعدمه، وهو بعد الفراغ عن الأقل مانع عن جريان أصالة البراءة قبل الاشتغال بالأقل.

والحاصل انا نعلم قبل الاشتغال بالأقل انّ الدليل الشرعي على وجوب الزائد في وقت العمل موجود ومع هذا العلم لا معنى لأصالة البراءة كما لا يخفى.

ومن الاصول التي يتمسّك بها لعدم وجوب الأكثر: أصالة عدم الزائد.

وفيه: أنّ المقصود به إمّا أصالة عدم وجوبه العرضي الذي هو عين وجوب الاكثر، أو أصالة عدم لزومه الذي بمعنى اللابديّة الراجع حقيقة إلى أصالة عدم التوقّف، أو أصالة عدم وجوبه الغيري - وعلى أيّ تقدير - لا معنى لاستصحابه.

أمّا الأوّل: فلمعارضته بأصالة عدم وجوب الأقل.

وأمّا الثاني: فلكونه من الاصول المثبتة ، لأنّ من لوازم التوقّف واللابديّة واللزوم العقلي ليس وجوب الزائد شرعاً، بل هو من لوازمه العقلية، فانّ وجوب ما يتوقّف عليه الشيء لا يكون من اللوازم الشرعية للتوقّف واللابديّة، وليس من الآثار المحمولة عليهما مثل إرث زيد الذي موضوعه حياته.

١٣٦

وقد يقال(١) في منع استصحاب اللزوم: بأنّه ليس اللزوم حادثاً مغايراً.

وفيه: أنّ عدم كونه أمراً متأصّلاً لا يوجب عدم صحة استصحابه، لعدم كونه أمراً موجوداً في مرتبة نفسه.

والحاصل: أنّ كونه أمراً انتزاعياً من تعلّق الأمر بالكل لا مانع من جريان الاستصحاب فيه وأنّ وجوب الاكثر يحدث بسببه أمر وهو كون الزائد لازم الاتيان فيستصحب عدمه عند الشك وكونه أمراً انتزاعياً من الأمر لا يوجب عدم استصحاب عدمه.

وأمّا الثالث: فلأنّه أيضاً مثبت إن اريد به إثبات وجوب الأقل كما لا يخفى.

نعم يصحّ إستصحابه إن اريد به إثبات عدم الوجوب ظاهراً الذي يستلزمه عدم إستحقاق العقاب على تركه، وإن كان واجباً في الواقع ومرّ في إستصحاب عدم وجوب الأكثر.

وقد يستدلّ أيضاً بأصالة عدم جزئية الشيء الزائد للمركّب المأمور به.

وفيه: أنّ كونه للمركّب جزء مشكوك من حين حدوثه فلا يقين حتى يستصحب، إلاّ أن يراد به إستصحاب عدم جزئية الشيء المشكوك السابق على وجود المركّب.

وفيه: أنّه حينئذٍ أصل مثبت، لأنّ وجوب الأقل ليس من لوازمه الشرعية.

والحاصل: انّه إن لاحظ جزئية الشيء المشكوك من أوصاف المركّب واستصحب عدمه، يرد عليه: أنّ خلوّ المركّب عن هذا الوصف من أوّل الأمر مشكوك، وإن لاحظ وصفاً لمشكوك وقال: إنّ هذا العدم كان محقّقاً قبل تركّب المركّب وتعلق الأمر فنستصحبه، ففيه: أنّه أصل مثبت، وإن اريد أصالة عدم كونه ملحوظاً عند تركّب المركّب، بناء على أنّ المراد من الجزئية ليس هو كونه مأموراً به في ضمن الكل.

وبعبارة اخرى: ليس المراد أمراً إنتزاعياً من تعلّق الأمر بالكل، بل المراد منه: ملاحظة هذا الشيء مع غيره واحداً، لأنّ جزئية الشيء ليس إلاّ إعتباره مع غيره واحداً.

____________________

(١) القائل هو الأنصاري -قدس‌سره - في فرائده: ص ٤٦٩.

١٣٧

فنقول: الأصل عدم ملاحظته عند جعل المركّب الذي هو عبارة عن جعل امور متعدّدة أمراً واحداً، وحينئذٍ ملاحظته معلوم وعدم ملاحظة الزائد يثبت بالأصل فيثبت المركّب المأمور به، لأنّ كون المركّب هو الأقلّ يحتاج(١) إلى جنس وجودي هو الأجزاء الخاصة أعني الأقل، وإلى فصل عدمي وهو عدم ملاحظة غير تلك الأجزاء معها، والأوّل مفروض الوجود، والثاني يثبت بالأصل، فيرد عليه أنّ ذلك أيضاً أصل مثبت، إذ ليس من لوازمه الشرعية تعلّق الأمر بالأقل.

وقد يورد عليه بأنّ جزئيّة الجزء وكليّة الكلّ أمران اعتباريان منشؤهما أمر واحد، فأصالة عدم الجزئيّة ترجع إلى أصالة عدم كلية الاكثر، وهو معارض بأصالة عدم كلية الأقل.

ويرد عليه: أنّ ملاحظة الأقل عند اعتبار الوحدة غير الكلية: فانّها عبارة عن اعتبار الوحدة، ونحن نقول: إنّ الاصل عدم الملاحظة عند اعتبار الامور المتعددة أمراً واحداً، فلا يكون هذا تعييناً لأحد الحادثين بالأصل.

مسألة

إذا كان الشك في الجزئية ناشئاً من إجمال الدليل، كما إذا علّق الوجوب في الخطاب اللفظي بلفظ مردّد بين الأقل والأكثر فالحكم فيه كالسابق من حيث جريان البراءة والاحتياط، وهذا الاجمال قد يكون في المعنى العرفي، كما إذا علمنا أنّ الواجب عند الغسل غسل ظاهر البدن، وشككنا في أنّ باطن الأذن أو عكرة البدن من الأوّل أو الثاني، وقد يكون في المعنى الشرعي كالأوامر المتعلّقة بالعبادة في الكتاب والسنّة - بناء على أنّ ألفاظها موضوعة للماهية الصحيحة الجامعة للشرائط والأجزاء - وقد يفرّق بين هذه والمسألة السابقة فيقال: بجريان البراءة هناك لا هنا، استناداً إلى أنّ الخطاب التفصيلي المتعلق بالأمر المجمل المردّد بين الأقل

____________________

(١) ينحلّ (خ).

١٣٨

والأكثر معلوم، ومعه يجب الاحتياط تحصيلاً للبراءة عن مدلول ذلك الخطاب الذي في ذمّة المكلّف واشتغلت به، وفرّعوا على ذلك جريان البراءة على القول بالأعم وعدمه عند الصحيحي.

وفيه: أنّ وجود هذا الخطاب بالنسبة إلى وجوب الأكثر كعدمه، لأنّه لم يحصل منه بيان بالنسبة إلى وجوب الاكثر، إذ المفروض أنّه مجمل وحيئنذٍ فان بنى على أنّ العقل يحكم بالبراءة في الشك في جوب الزائد، وإنّ مثل قولهعليه‌السلام : « ما حجب اللّه علمه »(١) شامل للشك في الجزء والشرط، كان المتعيّن البراءة وإلاّ فلا.

فظهر أنّ مناط الحكم بالبراءة - وهو عدم البيان بالنسبة إلى الزائد مع عدم كون الاصل فيه معارضاً لمثله - موجود هنا، فدعوى الفرق لا وجه له. وأمّا الأقل فلما علم بوجوبه على أحد الوجهين - أعني وجوبه الغيري أو النفسي - لا محيص عن الاتيان به إذا لحجّة بالنسبة إليه تامة، وليس بعد البيان مؤمّن عقلي أو نقلي عن استحقاق العقاب على تركه، وإن لم يكن ذلك أيضاً قطعياً - بناء على أنّ المتجرّي لا يعاقب - لأنّ ترك الأقل على تقدير(٢) وجوب الأكثر في الواقع لا يترتّب عليه عقاب إذا بنينا على أنّ الاكثر لا يكون في الظاهر واجباً كما سيتضح إن شاء اللّه.

ودعوى: أن مدلول لفظ الصلاة المردّد بين الأقل والأكثر ثبت وجوبه فيجب الاحتياط.

يدفعها: أنّ الخطاب لم يكن وارداً على مفهوم مدلول الصلاة حتى يكون هو المكلّف به، ويكون إتيان الاكثر محصّلاً قطعياً له، بل الخطاب وارد على مصداق هذا العنوان، لا من حيث كونه مصداقاً بل لذاته، وهو إذا تردّد بين الأقل والأكثر يكون التكليف بالاكثر مشكوكاً، ولا يكون عنوان المكلّف به أيضاً معلوماً حتى يكون ذلك واجب التحصيل.

____________________

(١) التوحيد: ص ٤١٣ ح ٩.

(٢) بناء (خ).

١٣٩

وأمّا ما توهّم من كون جريان البراءة وعدمه ثمرة بين القولين السابقين.

فقد عرفت وهنه، وأنّ الأصل على الصحيح جارٍ عند من يبني في هذه المسألة على البراءة ولعلّ مدّعي الثمرة أيضاً إنّما ادّعاه بناء على اختياره الاحتياط في هذه المسألة، وأمّا ترك الاحتياط على الأعم فان كان لأجل أنّ عنوان المكلّف به غير معلوم، ففيه: أنّ المكلّف به على القولين ليس الاّ الصحيح ولا مدخل بوضع الألفاظ على أحد الأمرين في ذلك.

والحاصل: أنّ المراد من الخطاب ان كان عنواناً للمكلّف به لم يكن معه فرق بينهما في وجوب الاحتياط، وإن لم يكن عنواناً كما هو واضح فلا فرق أيضاً في جريان البراءة، وإن كان لأجل متعلق الخطاب مطلق يشمل الفاقد للجزء المشكوك وواجده، وإطلاقه معنىً ما لم يعلم التقييد، فيجب العمل به.

ففيه أنّ اعتبار الاطلاق فرع كون الخطاب المطلق وارداً في مقام البيان، والأوامر المتعلّقة بالعبادات في الكتاب والسنّة ليست في مقام بيان كيفية ما هو المطلوب(١) ، وانما هي تأكيدات صدرت لبعث المكلّفين على الطاعة، نظير قوله تعالى: (اطيعوا اللّه واطيعوا الرسول)(٢) وقول الطبيب في شرب الدواء، إمّا قبل البيانمشيراً إلى ما يفصّله، أو بعده مشيراً إلى ما فصّله، كما هو الغالب، وكيف كان فدعوى الثمرة بين القولين بما ذكر لا وجه له.

مسألة

إذا كان الشك في الجزئية ناشئاً عن تعارض النصين الدالّ أحدهما على الجزئية والآخر على العدم، فالظاهر أنّ الاكثر بناؤهم هنا على التخيير.

والتحقيق: أنّه إمّا أن يكون هنا اطلاق يدفع به الشك لولا الدليل، أو لا يكون فان لم يكن هناك اطلاق، فان بني على ترجيح أحد المتعارضين، بالأصل، أو قيل

____________________

(١) المطلق المطلوب (خ).

(٢) محمّد: ٣٣.

١٤٠