الرسائل الفشاركية

الرسائل الفشاركية0%

الرسائل الفشاركية مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 604

الرسائل الفشاركية

مؤلف: آية الله السيد محمد الفشاركي
تصنيف:

الصفحات: 604
المشاهدات: 45274
تحميل: 5764

توضيحات:

الرسائل الفشاركية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 604 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45274 / تحميل: 5764
الحجم الحجم الحجم
الرسائل الفشاركية

الرسائل الفشاركية

مؤلف:
العربية

وبالجملة: لا أظن أحداً - بعد المراجعة إلى كتب الفقهاء وملاحظة فتاواهم وطريقة إستدلالهم - يدّعي أنّ العمل بالبراءة لم يكن ممّا جرت عليه طريقة السلف والخلف، وانّما أنكر ذلك بعض الأخباريّين.

الثاني: الشهرة المحقّقة - بعد كونها منضمّة إلى الاجماعات - إذ بعد إنضمامها يحصل القطع كثيراً باتّفاق الطائفة، ويمكن إستظهار دعوى الاجماع من عبارة الصدوق السابقة(١) وعن أوّل السرائر: - بعد ذكر الكتاب، والسنّة، والاجماع -: إذا فقدت هذه الثلاثة، فالمعتمد في المسألة الشرعية عند المحقّقين الباحثين عن مآخذ الشريعة: التمسّك بدليل العقل(٢) . وعن المحقّق في باب الاستصحاب من المعارج: دعوى إطباق العلماء على ذلك(٣) . وعنه ايضاً - في توجيه نسبة السيّدرحمه‌الله إلى هذه مذهبنا جواز إزالة النجاسة بالمضاف مع عدم ورود نصّ فيه - : أنّ من أصلنا: العمل بالأصل حتى يثبت الناقل ولم يثبت المنع عن إزالة النجاسة بالمضاف(٤) .

والظاهر أنّ مراده من الاصل - لمقابلة الناقل - أصالة البراءة، لأنّه الاصل الذي يسمّى الدليل بموافقته له مقرّراً، وبمخالفته ناقلاً، ولو لا أنّ هذا الأصل إجماعي، لم يحسن جعل ذلك وجهاً لدعوى اتّفاق السيّد، وأمّا الشهرة: فيكفي في تحقّقها، فتوى من عرفت من الأساطين.

الثالث: الاجماع العملي الكاشف عن رضا المعصومعليه‌السلام ، فانّ سيرة المسلمين من أوّل الشريعة: على عدم الالزام بترك ما يحتمل ورود النهي عنه بخصوصه، بعد الفحص والتتبّع التام، وطريقة الشارع كان إبلاغ المحرّمات، ولو لا أنّ الاباحة يكفي فيها عدم النهي، كان الواجب تعداد المباحات دون المحرّمات.

وأمّا العقل: فبيانه أنّ ممّا يستقلّ به، هو قبح التكليف بدون بيانه، فانّ صحّة

____________________

(١) اعتقادات الصدوق (ضمن شرح باب الحادي عشر): ص ١٠٧.

(٢) السرائر: ج ١ ص ٤٦.

(٣) معارج الاصول: ص ٢٠٨.

(٤) المعتبر: ج ١ ص ٨٦.

٦١

العقاب على مخالفة الأمر والنهي، موقوف عند العقل على أحد الأمرين: إمّا علم المكلّف بهما، وإمّا تمكّنه من طريق يوجب العلم بالخطاب، أو طريق أوجب الآمر العمل بذلك الطريق في تشخيص أوامره ونواهيه تعبّداً، ومع عدم ذلك كلّه، يكون العقاب على مخالفة ذلك الأمر فعلاً قبيحاً مندرجاً في عنوان الظلم والعدوان، وهو قبيح عند كلّ عاقل من جميع الأديان، والمراد من تمكّنه من الطريق: كونه فعلاً قادراً على تحصيل العلم بخطاب المولى، أو العلم بما نصبه لتشخيص أوامره ونواهي لمن لا يتمكّن من تحصيل العلم، أو مطلقاً.

وذلك موقوف أوّلاً: على كونه ملتفتاً بحيث يكون احتمال التكليف قائماً عنده.

وثانياً: على وجود طريق يوجب العلم، أو طريق تعبّدي يقدر المكلّف على الوصول إليه وتحصيله، إذا كان في مقام الاطاعة والانقياد فمن يكون فاقد الأمرين، أو فاقد أحدهما لا يكون ذلك مكلّفاً، ولا يصحّ على الحكيم بل على كلّ عاقل أن يعاقب على مثل هذا المكلّف على مخالفة الأمر والنهي.

ولا يتفاوت الأمر في قبح العقاب على مثل هذا المكلّف، بين أن يكون عدم تمكّنه من الطريق لعدم نصب الطريق، وبين أن يكون لعدم وجوده عنده لإخفاء الظالمين، ومجرّد قيام إحتمالوجود طريق يتمكّن المكلّف بسبب ذلك الطريق من الوصول الى مطلوب المولى عنده واختفي ذلك عنه، لا يكون حجّة عليه عند العقلاء، وموجباً لحسن مؤاخذته على مخالفة ما أمر به المولى في الواقع، أو نهى عنه.

نعم لو علم بأنّ للمولى أحكاماً، وعلم أنّه جعل لها طريقاً منصوباً واختفي ذلك، كان الاحتياط واجباً، لكن لا لأجل علمه بنصب الطريق، بل لعلمه بوجود الأحكام، فانّه بيان له، إذ البيان أعم من التفصيلي والإجمالي - لما يأتي - والحاصل: أنّ العقل مستقلّ بقبح العقاب على مخالفة الأمر اذا كان المكلّف غير واجد للعلم، أو ما يقوم مقامه، وغير متمكّن من تحصيل العلم وما يقوم مقامه، ويعدّ عند العقلاء من يعاقب مثل هذا المكلّف الذي لا يكون واجداً لما ذكر، ظالماً فاعلاً للقبيح.

٦٢

لا يقال: إنّ وجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي للتكليف المجهول.

لأنّا نقول: إن اريد من الضرر المحتمل، العقاب على مخالفة الحكم الواقعي المشكوك وجوده على تقدير وجوده فيرد عليه: أنّ احتماله - بعد استقلال العقل بقبح التكليف بدون بيان، وإتمام حجّة - ممنوع، وانّما يكون احتمال وجود الحكم ملازماً لاحتمال العقاب على إرتكاب مشوك الحرمة، وترك مشكوك الوجوب، إذا كان العقاب على مخالفة الحكم من اللوازم العقلية لوجود الحكم واقعاً، والعقل مستقلّ بعدم هذه الملازمة.

والحاصل: أنّ إندراج فعل مشكوك الحرمة فيما يحتمل الضرر على إرتكابه، موقوف على عدم كونه ممّا لا بيان لحكمه الواقعي، ضرورة انّه مع القطع بانه ممّا لا بيان لحكمه، والقطع بقبح العقاب بدون بيان، والقطع بكون المكلّف حكيماً لا يفعل الاّ ما يطابق الحكمة يكون عدم العقاب قطعيّاً، فلو كان دخول مشكوك الحكم من غير طريق عقلي غير قاعدة وجوب دفع الضرر، ومن غير طريق تعبّدي، فيما لا يكون حكمه الواقع مبيّناً موقوفاً على عدم كونه ممّا يحتمل ترتّب الضرر عليه، لزم الدور، ضرورة أنّه على ذلك يتوقّف اندراج المشكوك في موضوع كل من القاعدتين على عدم اندراجه في موضوع القاعدة الاخرى وعدم اندراجه في موضوع كل قاعدة، على إندراجه في موضوع الاخرى، وهو بديهيّ البطلان، فعلم انّه لا يتوقّف إندراجه في موضوع القاعدة الثانية سبباً لعدم إندراجه في موضوع القاعدة الاولى ويكون اندراجه في موضوع القاعدة الثانية مع عدم اندراجه في موضوع القاعدة الاولى ويكون اندراجه في موضوع القاعدة الثانية سبباً لعدم اندراجه في موضوع القاعدة الاولى هذا مع أنّ هذه القاعدة - على تقدير تماميّتها، والقطع باندراج الحكم المشكوك في موضوعها - لا تتضمّن بيان الحكم الواقعي المشكوك، كيف والشك في ذلك الحكم - على هذا التقدير - مأخوذ في موضوعها، فيكون مفادها حكماً ظاهرياً، نظير القواعد المبيّنة للأحكام الظاهرية، كالاستصحاب ووجوب الاحتياط في محلّ النزاع عند القائلين به.

٦٣

وإن اريد من الضرر المحتمل: المفاسد اللازمة لذات الفعل الداعية إلى إنشاء الحكم التي لا يختلف ترتّبها على الفعل باعتبار إختلاف حال الفاعل بالنسبة إلى جهله بتلك المفسدة وعلمه بها، ففيه: أنّ وجوب دفع تلك المفاسد وإن كان بحكم العقل ثابتاً إلاّ أنّه لمّا لم يوجب وجود تلك المفسدة الاّ إنشاء حكم واحد وقد حصل الاّ من حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان من ترتّب العقاب على مخالفة ذلك الحكم المجهول، لم يترتّب على هذا الحكم العقلي خطاب شرعيّ فعليّ يخاف من ترتّب العقاب على مخالفته ومع عدم ثبوت حكم لدفع هذا الضرر، لا يكون شيء ملزم للمكلّف على اختيار ما يطابق الاحتياط، وترك ما لا يطابقه، إذ المفروض: أن العقاب مأمون منه ولا ملزم غيره.

فان قلت: إنا نقطع بأنّ لبعض الافعال والتروك مفاسدً تعلّق غرض المولى بعدم وقوع العبيد في تلك المفاسد، ومع هذا يعلم بحكم العقل بأنّ العبد متى يحتمل عنده كون الفعل ذا مفسدة يجب عليه الاجتناب عن ذلك الفعل لأنّه يحكم عليه بأنّه يجب عليه اذا علم أن غرض المولى عدم وقوعه في تلك المفاسد أن لا يصير سبباً لوقوعه في تلك المفاسد وسبباً لنقض غرض المولى، إذ نقول: انّ مع العلم بأن غرض المولى عدم وقوع العبيد في مفاسد الافعال، نعلم بأنّه أوجب على المكلّف عند احتمال اشتمال الفعل على مفسدة، الوقوف والاجتناب عن ذلك الفعل حفظاً لنفسه عن الوقوع في المفسدة، لأن عدم ايجاب الاحتياط مناف لتعلّق غرضه بعدم وقوع العبد في المفاسد على جميع التقادير.

والحاصل: إنّا نقطع بأنّ بعض الأفعال فيها مفاسد تعلّق غرض المولى بعدم وقوع العبيد في تلك المفاسد مطلقاً، ومع هذا العلم إمّا يحكم العقل بوجوب الاحتياط، أو يستكشف إيجاب الشارع الاحتياط، لأنّ عدم ايجابه نقض لغرضه نظير وجوب العمل بالظن عند إنسداد باب العلم والظن الخاص وعدم وجوب الاحتياط، فانّه إما يحكم العقل بوجوب العمل بالظن، أو يستكشف من بقاء التكليف وعدم صحّته من غير نصب الطريق وعدم طريقيّة غير الظنّ ممّا يحتمل أن يكون طريقاً

٦٤

بالاجماع أنّ الظن واجب العمل، وعلى أيّ حال يجب الاحتياط على المكلّف.

ثم إنّ استكشافه فيه ايجاب الاحتياط ايضاً أعم من ايجابه الاحتياط وجوباً نفسيّاً، أو وجوباً طريقياً لا يترتّب على مخالفته العقاب إلاّ على تقدير كون مخالفته موجباً للهلاك والوقوع في المفسدة - على ما مرّ بيانه في الاستدلال بحديث الرّفع -.

قلت: أما حكم العقل بوجوب الاحتياط على المكلّف، فلا يكفي فيه مجرّد علم المكلّف بأنّ غرض المولى تعلّق بعدم وقوع العبيد في مفاسد الافعال، بل الموجب لذلك علمه بأنّ المولى أراد منه أن لا يوقع نفسه في المهالك كيف ما كان، علم بوجود الهلاك وترتّبه على الفعل أم لا، ومع عدم علمه بأنّه أراد منه ذلك وإن علم(١) بأن يكون غرض المولى تعلّق بعدم وقوعهم فيها لا نحكم بذلك، لأنّ الذي يجب على العبد ويستقلّ بوجوبه العقل هو أن يكون مطيعاً للمولى، بأن يشتغل بما يأمره به، ويجتنب عمّا ينهاه عنه، ولا يستقلّ بوجوب شيء زيادة على المكلف به فما دام المكلّف لا يكون عالماً بأنّ المولى أراد منه تحصيل غرضه وكلّفه بذلك، لا يستقلّ بوجوب الاحتياط، بل مع عدم كون تحصيل أغراص المولى من الواجبات على العبد عنده، يستقل بأنّه لا يجب عليه تحصيل الغرض اذ يجب على الشارع بيان ذلك التكليف، إما بلسان العقل، أو بغيره، والمفروض أنّ العقل لا بيان له، وليس ايضاً بيان غيره، فذمّة المكلّف بريء حال الجهل بذلك التكليف عن ذلك التكليف، وعن التكاليف الواقعية الناشئة عن تلك المفاسد، لأنّها ايضاً مجهولة بالغرض.

والحاصل: أنّه اذا علم المكلّف بأنّ المولى أراد منه تحصيل أغراضه مطلقاً، وجب عليه الاحتياط لأجل أن يحصل له العلم بفراغ ذمّته عن ذلك التكليف، إذ

____________________

(١) في نسخة اخرى بين كلمة « وإن علم » وبين « بأن يكون » توجد هذه العبارة: بأن يكون التفصيلي سبباً لزوال الاجمالي السابق وانقلابه الى شك بدوي وعلم تفصيلي وقد لا يكون كذلك، فعلى الأوّل لا يجب الاحتياط في مشكوك الحكم وعلى الثاني يجب الاحتياط.

وضابط القسمين: هو أنّ متعلّق الخطاب المعلوم المفصّل متعلّقه، إمّا أمر لا يحتمل عدم انطباق متعلّق الخطاب المعلوم إلى علم.

٦٥

مع احتمال أن يكون في فعل مفسدة لم يحترز عنه لا يقطع بفراغ ذمّته، وكذلك الأمر إذا علم اجمالاً بوجود محرّمات بين الأفعال ومع عدمها لا يجب الاحتياط، وأمّا استكشافه ايجاب الشارع الاحتياط على أحد الوجهين، فهو مبنيّ على العلم بأن تلك المفاسد التي نشأ منها الاحكام لا يكون قابلة للتدارك بعمل مستحب أو غيره، اذ مع احتمال أن يكون تلك المفاسد متداركة، لا يمكن الجزم بايجاب الاحتياط والحاصل: أنّ تعلّق الغرض بعدم وقوع العبد في تلك المفاسد يوجب احد الأمرين إما ايجاب الاحتياط في موارد احتمال المفسدة وإمّا تداركها حال الجهل بأمر من الامور ولا يمكن تعيين أحد الأمرين إلاّ بدليل، فغاية ما يستكشفه العقل من العلم بتعلّق الغرض المذكور أنّها متداركة، أو يكون الاحتياط واجب، فايجاب الاحتياط وتعيينه يحتاج إلى دليل، وحيث لا دليل عليه، يقطع بعدم العقاب على تركه، إذ لو كان مطلوباً فعله، لوجب البيان، ولا بيان، فلا عقاب.

ويمكن تقرير الاشكال بوجه آخر لا يندفع بما ذكر، وبيانه: أنّ اشتمال بعض الأفعال على مفاسد يكون وقوع المكلّف فيها ضرراً عليه ممّا لا ريب فيه فمتى حصل القطع بوجود المفسدة يحكم العقل بوجوب الاحتراز عنه، وكذلك الأمر مع إحتمال وجودها، ضرورة أنّ دفع الضرر المحتمل كدفع الضرر المقطوع واجب، فعن الشيخ: الإقدام على ما لا يؤمن المفسدة كالإقدام على ما لا يعلم المفسدة فيه(١) . وعن ابن زهر: الجزم(٢) بذلك، ومجرد إحتمال تدارك المفاسد لا يكفي في رفع حكم العقل لوجوب دفع تلك المفاسد، لأنّ مناط حكمه احتمال وجود المفسدة وهو ما لم يحصل القطع بتداركها باق غير مرفوع، ومع حكم العقل بالوجوب يحكم الشرع ايضاً بوجوب دفع تلك المفاسد المحتملة بقاعدة الملازمة.

ثم انّ حكم العقل بوجوب الاحتراز عن محتمل المفسدة تارة لأجل كونه

____________________

(١) عدة الاصول: فصل في بيان الأشياء المحظورة ص ٢٩٦ مخطوط.

(٢) الغنية: (ضمن الجوامع الفقهية) ص ٤٦٣.

٦٦

موضوعاً مستقلاً، حكمه عنده وجوب الاحتراز عنه، وتارة لأجل أنّه على بعض تقاديره، وهو تقدير احتمال مطابقة الضرر للواقع يجب الاحتراز عنه والفرق بين الوجهين: أنّ كل ما يحتمل الحرمة إن طابق احتمال الحرمة للواقع، يكون الاحتراز عنه واجباً على الوجهين، وإن خالف فلا يكون الاحتراز عنه واجباً على الثاني واقعاً، لأنّ الواجب هو الاحتراز عن المفسدة بناءً عليه ولا مفسدة في هذا المشكوك، وانّ ما حكم العقل به حكماً إرشادياً لأجل أن يحصل القطع بالفرار عمّا يجب الفرار عنه، وعلى الأوّل يكون واجباً، لأنّ المفروض أنّ محتمل المفسدة من حيث هو كذلك - مع قطع النظر عن مطابقة احتمال اشتماله للضرر الواقع - كان حكمه وجوب الاحتراز فهو الفرد الذي يحتمل اشتماله على المفسدة يجب الاحتراز عنه واقعاً.

ومن هنا علم أنّ حكم العقل على التقدير الأوّل لاستلزامه حكم الشرع بوجوب الاحتراز فعلاً عمّا يشتمل على المفسدة لو كان في موارد الشبهة ما يشتمل عليها واقعاً سبب لتنجيز الأحكام الواقعية المخالفة للاصل في موارد الشبهة لو كانت، لأنّه يحصل منه ومن قاعدته الملازمة الحرمة بانّ الشارع يريد العمل على طبق تلك الاحكام حال كونها مشكوكة الثبوت، وهذا أبلغ بيان للحكم.

وامّا ما قد سبق من أنّ العقل يحكم بأنّ تلك الاحكام حال الجهل بها لا يكون منجّزة، والمفاسد الواقعية لا يوجب إنشاء حكمين حتى يكون رفع أحدهما للجهل به غير ملازم لثبوت الآخر بقاعدة الملازمة.

ففيه: أنّ حكم العقل بعدم تنجّز تلك الأحكام مع قطع النظر عن حكمه بوجوب الاحتراز عن محتمل المفسدة وحكم اللّه على طبق حكمه، وأمّا مع ملاحظة حكمه وما يلزمه من حكم الشارع، فلا يحكم بعدم تنجّز تلك الأحكام لأنّ حكمه بعدم تنجّزها انّما كان لأجل عدم البيان، والمفروض حصول البيان، وليس حكم الشارع بوجوب الاحتراز عمّا فيه المفسدة على طبق حكم العقل حكماً آخر غير الحرمة الواقعية الثابتة لذوات الأفعال، بل هي هي غير انها بينت بلسان العقل.

٦٧

فان قلت: كيف يكون حكم العقل بوجوب الاحتراز عن المفاسد الواقعية فعلاً على أيّ تقدير، وحكم الشارع على طبقه بقاعدة الملازمة بياناً للأحكام المجهولة في موارد الشبهة ان كانت هناك احكام مع وجودها مع هذا الحكم ايضاً مشكوكة.

والحاصل: أنّ بيانها عبارة عن نصب طريق عقلي أو تعبّدي إلى ثبوتها، ولا طريق إلى ثبوتها.

قلت: البيان الذي يكون بدونه العقاب قبيحاً ليس هو هذا البيان، بل هو عبارة عن الأعم من ذلك ومن بيان ارادة الحركة على طبق الحكم الواقعي المحتمل على تقدير ثبوته، ضرورة انه مع بيان الشارع وكذلك كل مولى انّى اريد الاحتياط في موارد الشبهة، لأن لا يحصل مخالفة احكامه الواقعية لا يقبح العقاب على تقدير حصول المخالفة بترك الاحتياط. وقد مرّ بيان ذلك في تقدير وجوب الاحتياط على وجه الطريقية في حديث الرفع، وأمّا على تقدير الأولّ فهو حكم ظاهري وقاعدة ظاهرية مانعة عن العمل بالاباحة الظاهرية التي يقتضيها أدلّة البراءة، نظير الاستصحاب في موارد البراءة.

وعلى أيّ تقدير فلا يحكم العقل بقبح العقاب. لا يقال: يمكن دفع الاشكال بهذا التقرير اذا بني على الوجه الثاني من وجهي ايجاب الاحتياط، وبيانه: أن وجوب الاحتياط عند العقل على هذا التقدير وجوب إرشادي لمصلحة في غيره، وهذا لا يتبعه إلاّ حكم إرشادي لا يترتّب على مخالفته لا ما يترتّب على نفس مخالفة المأمور به من الوقوع في المفاسد الواقعية، وانّما الذي يكون واجباً ويترتّب على مخالفة العقاب هو الايقاع في المفاسد، لأنّه يأمر به العقل ارشاداً لنفسه، فيتبعه أمر الشارع كذلك وهو يستلزم استحقاق العقاب على مخالفته، فالذي يترتّب العقاب عليه من الخطابين هو الخطاب بالاحتراز عن المفاسد دون الخطاب بالاحتياط، والمفروض أنّ وجود المفسدة في كل واحد من المشتبهات غير معلوم، والاّ خرج عن كونه مشكوك الحكم، فيكون وجوب الاحتراز عن كل مشتبه وجوباً شرعياً يترتّب على مخالفته استحقاق العقاب غير معلوم، للشك في اندراجه في موضوع الخطاب المعلوم،

٦٨

ومع هذا يكون الشبهة موضوعيّة لا يجب الاحتياط فيها باتّفاق الأخباريين والاصوليّين.

بل نقول: يمكن دفع الاشكال على الوجه الأوّل من ايجاب الاحتياط ايضاً، لأنّ إندراج الاحتياط في موضوع الخطاب بالاجتناب عن المفاسد الواقعية مشكوك فلا يجب الاحتياط، لأنّ الشبهة فيه من الشبهة في الموضوع، وعدم وجوب الاحتياط فيها ينافي الحكم بوجوب الاحتياط في المحتمل من حيث هو فتأمّل.

لأنّا نقول: إنّ الشبهة الموضوعية التي وقع الاتّفاق فيها من العلماء على عدم وجوب الاحتياط، هي الشبهة الناشئة من الاشتباه في الامور الخارجية، دون مثل هذه الشبهة، بل الظاهر أنّ ما يسمّونه شبهة في الموضوع هو الأول دون الثاني، وعلى تقدير شمول الاسم فليس كل شبهة في الموضوع لا يجب الاحتياط فيها بالاتّفاق.

فالأولى في الجواب عن هذا الاشكال: التمسّك بالأخبار الخاصّة الدالّة على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية، كحديث الرفع(١) ، ومرسلة الفقيه(٢) ويقال: انّ مع إذن الشارع في ترك الاحتياط، يحصل لنا القطع بعدم الضرر، لأنّ الإذن فيما لا يؤمّن من ترتّب الضرر عليه لا يصح، إلاّ على تقدير تدارك تلك المفسدة على تقدير وجودها، وهذا هو الوجه في عدم وجوب الاحتياط في الشبهة في الموضوع، هذا كلّه إذا أراد القائل بوجوب دفع الضرر - من الضرر - المضارّ الاخروية من العقاب وغيره.

وإن أراد من المضارّ الدنيوية منها.

ففيه: انّ وجوب دفع الضرر الدنيوي وإن كان ثابتاً بالخطابات اللفظية، كقوله تعالى: « ولا تلقوا »(٣) وغيره، إلاّ أنّ اندراج المشكوك في موضوع تلك الخطابات مشكوك، وقد مرّ مراراً أنّ الاحتياط في الشبهات الموضوعية لا يكون

____________________

(١) الخصال: ج ٢ ص ٤١٧ ح ٩.

(٢) من لا يحضره الفقيه: ج ١ ص ٣١٧ ح ٩٣٧.

(٣) البقرة: ١٩٥.

٦٩

واجباً بالاتّفاق.

نعم لو كان الاحتمال بالغاً حدّ الظن- بحيث يصدق على عدم الاحتياط معه الايقاع في التهلكة - لم نضايق من القول بوجوبه.

وعن الغنية: ان التكليف بما لا طريق الى العلم به تكليف بما لا يطاق(١) . وتبعه بعض من تأخّر واستدلّ به للبراءة.

ولا ريب انّ هذه القضية بظاهرها غير صحيحة، لأنّ المكلّف بمجرّد عدم كونه عالماً بأنّ الفعل مكلّف به، لا يخرج عن الاختيار ولا يصير صدور الفعل عنه خارجاً عمّا يطيقه.

نعم إن كان المأمور به هو الفعل بقصد الاطاعة - بحيث يكون الخصوصية المذكورة مأخوذة في المأمور به - كان الأمر كما ذكره، ضرورة أنّ الفعل بقصد الاطاعة انما يتمكّن منه المكلّف إذا كان قصد الاطاعة ممكناً، ومع الجهل بالأمر لا يمكن، ضرورة أنّ كون الشيء داعياً للفاعل، وباعثاً لاختياره، انّما يمكن اذا كان قاطعاً بترتّبه على ما يختاره.

ولكن لا يخفى أنّ قصد الامتثال لا يكون داخلاً في المأمور به - كما قرّر في محلّه - وانّما هو من الأغراض الباعثة على صدور التكليف، سواء كان الأمر تعبّدياً، أو توصّلياً، فانّ الغرض في الأوامر التوصلية بعثه على الفعل على تقدير عدم اختياره له بدواعيه النفسانية.

توضيحه: أنّ الغرض الأصلي من طلب الفعل - وهو إدراك المصلحة المترتّبة عليه - وإن كان يحصل بمجرّد الفعل لا عن قصد الاطاعة في الأوامر التوصلية، الاّ أنّ المكلّف إذا لم يكن داع له في الخارج لا يصدر منه الفعل فيفوت الغرض، ولا يحسن من الآمر الاكتفاء بما يحصل منه في بعض الاحيان اتّفاقاً، فيجب عليه أن يكلّف بالفعل، ليكون تكليفه باعثاً على اختيار الفعل عند فقدان داع غيره حتى تتم

____________________

(١) الغنية (ضمن الجوامع الفقهية): ص ٤٦٤.

٧٠

الحجة على المكلّف، ولا يفوت - بسبب اهمال الشارع - من المكلّف شيء من المصالح. فتأمّل.

فتلخّص أنّ الغرض من الأوامر مطلقاً هو حصول الفعل بقصد الاطاعة، إلاّ أنّه في التوصليات ليس حصول الفعل عن ذلك القصد دائماً من الأغراض، بل انّما يكون حصوله عن ذلك القصد غرضاً إذا لم يكن للمكلّف ما يوجب القصد الى الفعل وصدوره منه من الامور الخارجية وقد عرفت أنّ الغرض انّما يترتّب على العلم بالأمر فالتكليف بما لا طريق الى العلم به حقيقة تكليف لا يطابق امتثاله، ولعلّ ذلك مراد السيد(١) ايضاً.

ولكن لا يخفى أنّ الاستدلال بذلك في مسألة البراءة لا يصحّ، إلاّ إذا فرض انحصار الغرض في ذلك، فانّه لو قلنا: إنّ حصول الفعل باحتمال أن يكون مأموراً به يصحّ أن يكون من الأغراض المقصود ترتّبها على التكليف، لا يمكن نفي التكليف بمجرّد عدم إيمكان قصد الاطاعة إلاّ أن يقال: إنّ احتمال وجود التكليف واقعاً، إن قام عند المكلّف وثبت عنده دليل على وجوب ارتكاب الفعل عند احتمال التكليف كان ذلك التكليف معنياً عن التكليف الواقعي وان لم يكن عنده دليل فلا ريب ان التكليف الواقعي لا يترتب عليه هذا الغرض.

فتلخّص أنّ التكليف المجهول لا يمكن أن يكون الغرض منه بعث المكلف حال الجهل على الفعل، لعدم إمكان أن يكون هو الباعث على صدوره من المكلّف، فهو في تلك الحال لا يكون ثابتاً.

وقد يستدلّ للبراءة باستصحاب براءة الذمّة حال الصغر:

والاستدلال بذلك: إن كان الاستصحاب معتبراً لافادة الظن ببقاء الحالة السابقة وجيه، لأنّ الاذن في العمل بذلك الظن يوجب البناء ظاهراً على ثبوت الحالة السابقة، ويلزمه عدم العقاب فيما يلزمه عدم العقاب، والعقاب فيما يلزمه

____________________

(١) المصدر السابق.

٧١

استحقاق العقاب كما لا يخفى، ولكن الحق خلافه.

وإن كان معتبراً للأخبار الدالّة على وجوب البناء على الحالة السابقة ففي صحّة التمسّك به هنا إشكال، لأنّ الغرض هنا تحصيل القطع بأنّ احتمال وجود الحكم على تقدير مطابقته للواقع لا يترتّب على مخالفة العقاب وهذا لا يحصل من الاستصحاب، لأنّ أدلّة اعتباره إنّما يقتضي ثبوت الآثار الجعلية للمستصحب في الحالة السابقة في حال الشك، وعدم إستحقاق العقاب على الترك في حال الصغر ليس من الآثار الجعلية لعدم الوجوب والرخصة في الترك، وان كان مستلزماً لما ذكر، إلاّ أنّه من المقارنات لعدم الوجوب لا من آثاره.

إلاّ أن يقال: إنّ أدلّة اعتبار الاستصحاب - كما يأتي - تدلّ على أنّ البناء على بقاء كل ما أمكن إثباته ورفعه بالجعل، ولم يكن ذلك من الامور العقلية التي لا تقبل الجعل واجب، وعدم وجوب الفعل من الامور القابلة للاثبات والرفع، فيجب البناء على بقائه عند الشك في رفعه.

والحاصل: أنّ أدلّة الاستصحاب ليس مقتضاه منحصراً في وجوب إثبات الآثار الجعلية للمستصحب، بل هي تقتضي فيما ليس بنفسه قابلاً للجعل والرفع وجوب إبقاء آثاره الشرعية - كما في الموضوعات الخارجية - وفيما يكون بنفسه قابلاً للجعل والاثبات والرفع - كالوجوب وعدم الوجوب، والاباحة وعدم الاباحة - وجوب إبقاء ذلك الشيء ظاهراً والبناء على ثبوته، ويستلزم الأمر بالبناء على بقاء الحالة السابقة استحقاق العقاب على ترك الفعل مطلقاً، أو على تقدير مصادفة إحتمال وجوبه للواقع - إن كان المستصحب وجوب شيء - ويستلزم استحقاق العقاب على الترك - إن كان المستصحب عدم وجوب شيء - فثبت من إستصحاب عدم وجوب الفعل في حال الصغر، عدم وجوبه ظاهراً في حال الشك في انتقاض ذلك العدم، ويترتّب عليه عدم استحقاق العقاب على مخالفة الحكم الواقعي لو كان ثابتاً فتأمّل.

ثم إنّه قد يورد على الاستصحاب بأنّ موضوع البراءة الاصلية السابقة، هو

٧٢

الصغير الذي لا يكون قابلاً لأن يكلّف، وهو مقطوع مغايرته مع من يستصحب الحكم، وهذا أشبه بالقياس، فانّ إشتراط بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب من المسلّمات، بل حقيقته منوطة به - كما يأتي -.

ويشكل بأنّ هذا الكلام انما يتوجّه إذا اريد من الاستصحاب، إثبات الحكم العقلي الثابت حال الصغر، ضرورة أنّ موضوعه - كما ذكر - الصغير الذي لا يميّز، ولا يكون قابلاً للتكليف، وهو معلوم الارتفاع.

وأمّا اذا اريد من الاستصحاب إثبات الحكم الشرعي الذي هو على طبق الحكم العقلي الذي لم يكن مستفاداً من قاعدة الملازمة، بل من سائر أدلّة الاحكام من الكتاب والسنّة والاجماع، فلا وجه بهذا الاشكال فانّ موضوع ذلك ليس هو الصغير الذي لا يميّز، بل هو ذات المكلّف، لا بعنوان أنّه مكلّف، غاية الأمر إنّ ثبوت ذلك الحكم في حال الصغر يقيني وفي حال عدمه مقطوع الارتفاع بالنسبة الى بعض الافعال، فلا يمكن استصحابه، ومشكوك الارتفاع بالنسبة إلى بعض الافعال، فيستصحب إلى أن يعلم خلافه.

وقد يستدلّ للبراءة بأنّ الاحتياط عسر.

وفيه المنع (أوّلاً) لأن ذلك انّما يكون من كثرة الموارد، وهي غير مسلّمة خصوصاً بالنظر إلى مذهب الأخباري، فانّه انّما يذهب إلى الاحتياط، كما قيل في خصوص الشبهة التحريمية فيما لا نص فيه، وفيما تعارض فيه النصّان مع عدم مرجّح منصوص، ولا ريب أنّ هذه الموارد قليلة لا يلزم من الاحتياط فيها حرج.

(وثانياً) انّ ذلك لا يوجب المصير إلى البراءة، بل الواجب الاحتياط في غير ما يظنّ بعدم التكليف فيه، ويعمل بالبراءة هنا دفعاً للحرج وترجيحاً له على ما يشكّ في عدم التكليف فيه.

وبالجملة: فمقتضى القاعدة إذا كان الاحتياط الكلي مستلزماً للحرج، التبعيض - على الوجه الذي اتّضح تقريره في آخر دليل الانسداد لحجية مطلق الظن -.

٧٣

القول في أدلّة القول بوجوب الاحتياط والكفّ عمّا يحتمل حرمته وهي الكتاب والسنّة والعقل

أمّا الكتاب: فالمستدلّ منه به طائفتان: الاولى: الآيات الناهية عن القول بغير علم، كقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم)(١) ومنه قوله تعالى (فان تنازعتم في شيء فردّوه إلى اللّه والرسول)(٢) فانّ الظاهر أنّ المراد من الردّ - واللّه العالم - : السكوت وعدم القول فيه بشيء وانتظار ما يأتي به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعدّ الآية من الطائفة الثانية كما في الرسائل(٣) غير خال من النظر.

الثانية: الآيات الآمرة بالاحتياط كقوله تعالى: (اتّقوا اللّه حق تقاته)(٤) (وجاهدوا في اللّه حق جهاده)(٥) (فاتقوا اللّه ما استطعتم)(٦) (ولا تلقوا)(٧) إلى آخره.

والجواب أمّا عن الأوّل: فبأنّ الفتوى بالاباحة الظاهرية - مستنداً إلى ما يدلّ على البراءة من قبح التكليف بلا بيان وغيره من الأدلّة اللفظية - ليس قولاً بغير علم، فالدالّ على البراءة وارد على هذه الآيات.

وأمّا عن الثانية: فبأنّ دلالة ما عدا آية التهلكة على الوجوب ممنوعة، مضافاً إلى أنّ منافاة إرتكاب المشتبه للتقوى والمجاهدة إنّما نسلّم، إذا كان ما يدلّ على الرخصة

____________________

(١) الإسراء: ٣٦.

(٢) النساء: ٥٩.

(٣) فرائد الاصول: ٣٣٩.

(٤) آل عمران: ١٠٢.

(٥) الحج: ٧٨.

(٦) التغابن: ١٦.

(٧) البقرة: ١٩٥.

٧٤

فيه غير موجود، ومع وجوده فلا منافاة ضرورة أنّ المنافي لهما فعل ما لا يرضى به اللّه تعالى، فما ثبت أنّه راض به لا ينافيها.

وأمّا آية التهلكة فيما مرّ من أنّ الضرر الاخروي بقسميه مأمون منهما، وما يحتمل الضرر الدنيوي خارج عن مدلول الآية.

ودعوى: أنه قد يكون داخلاً كما اذا قام خبر ظنّي غير معتبر على حرمة شيء ويتمّ الباقي بعدم القول بالفصل، لا اظنّ انّها مسموعة، لانّ استلزام الخبر الظنّي الدالّ على الحرمة الظنّ بالضرر الدنيوي - على تقدير إفادته الظنّ بالحرمة - بديهي العدم ولا إجماع على الفرق بين صورة الظن بالضرر الدنيوي وغيره حتى يتمّ مطلوب الخصم.

وأمّا السنّة فهي أيضاً طوائف: الاولى: ما يدلّ على النهي عن القول بغير علم، كقوله تعالى (وأن تقولوا على اللّه ما لا تعلمون)(١) ومن ذلك قولهعليه‌السلام : وأمر اختلف فيه فردّوه إلى اللّه عزّ وجلّ(٢) . وقولهعليه‌السلام : حق اللّه على العباد أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون(٣) .

فانّ الظاهر ان المراد: التوقّف عن القول دون العمل وإن استلزمه، وعدّهما فيما يدلّ على وجوب التوقّف لا يخلو من نظر.

والجواب: ما مرّ في الآيات.

الثانية : ما يدلّ على وجوب التوقّف كالأخبار المشتملة على أنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة(٤) .

وكرواية الطيّار عن الصادقعليه‌السلام انه قالعليه‌السلام عند عرض بعض خطب اللّه عليه وبلوغه موضعاً منها: كفّ واسكت ثم قالعليه‌السلام : انه

____________________

(١) البقرة: ١٦٩.

(٢) وسائل الشيعة: ب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ٣٦ و ٣٧ و ٣٨ ج ١٨ ص ٨٦ اختلاف فيه.

(٣) الكافي: ج ١ ص ٤٣ ح ٧.

(٤) وسائل الشيعة: ب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٢ و ٩ و ١٣ و ١٥ ج ١٨ ص ١١٢.

٧٥

لا يسعكم فيما ينزل بكم الاّ الكفّ والتثبّت والردّ الى ائمة الهدى حتى يحملوكم فيه إلى القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرّفوكم فيه الحق(١) .

وكرواية المسمعي الآمرة بالكفّ والتثبّت عند تعارض الخبرين واختلافهما بعد الأمر بالردّ الى ائمة الهدى والنهي عن القول بالرأي(٢) إلى غير ذلك.

واجيب بوجوه:

الأوّل: إن أخبار البراءة أخصّ من أخبار التوقّف فيخصّص بها.

وفيه: إن أخبار البراءة لا تكون قابلة لمعارضة أخبار الاحتياط، لورودها عليها - كما مرّ - وأمّا بعض الأخبار الخاصة: كقوله كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي(٣) فهي وإن اقتضت البراءة فيما لا نصّ فيه، إلاّ أنّ ادلّة التوقّف دلالتها على وجوب الاحتياط فيما يتعارض فيه النصّان تامّة من غير معارض، لفقدان ما يصلح للمعارضة عدا هذا الخبر، وهو مختصّ بالبراءة فيما لا نصّ فيه، فانّ ما ورد فيه نصّان متعارضان، حصل فيه غاية الاباحة الظاهرية الدالّة عليها هذا الخبر وهي ورود النهي، وحينئذٍ فيتمّ أخبار التوقّف لما لا نصّ فيه، وان اقتضى هذا الخبر تخصيصها، لعدم القول بالفصل.

والحاصل: أنّ عموم العام في غير مورد التعارض سليم عن المعارض، فيجب العمل به ويتمّ المطلوب في مورد المعارضة، لعدم القول بالفصل، فانّ العمل بالخاص في قبال العام انما يصحّ إذا لم يعارضه دليل آخر، والاجماع المنضمّ إلى العموم بالنسبة الى غير مورد التخصيص معارض للخاص هنا.

إلاّ أن يقال: كما يمكن إتمام مقصود الأخباري بالعمل بالعموم في غير مورد المعارضة وفيه بعدم القول بالفصل، كذلك يمكن إتمام مقصود الاصولي بالعمل

____________________

(١) الكافي: ج ١ ص ٥٠ ح ١٠. مع اختلاف فيه.

(٢) وسائل الشيعة: ب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ٢١ ج ١٨ ص ٨١.

(٣) وسائل الشيعة: ب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٦٠ ج ١٨ ص ١٢٧.

٧٦

بقاعدة تعارض العموم والخصوص في مورد المعارضة، واتمام المقصود في غير مورد التعارض بعدم القول بالفصل، فكما يمكن أن يعمل بدليل الاحتياط فيما تعارض فيه النصّان، ويتمسّك للعموم فيما لا نصّ فيه بالاجماع المركّب، كذلك يمكن العكس، وهو إتمام ادلّة البراءة الخاصة بظاهرها بما لا نص فيه لما تعارض فيه النصّان بالاجماع المركّب.

بل يمكن أن يقال: إنّ هذا أولى، لأنّه يستلزم ابقاء حكم العام في بعض مصاديقه، كما في الشبهة المحصورة، بخلاف العكس فانّه يستلزم الغاء ادلّة البراءة بالمرّة.

ولكن يرد عليه: انّ ابقاء عموم العام في بعض مصاديقه الذي لا يمكن إرادته من العموم خاصة، لاستلزام تخصيص العام في أكثر مصاديقه مثل طرح العموم بالمرّة، وليس ذلك موجباً لترجيح العمل بالاجماع المركّب في طرق أخبار البراءة دون أخبار الاحتياط.

ويمكن أن يقال: إنّ قولهعليه‌السلام : كل شيء مطلق إن فرض غايته ورود مطلق النهي فهو بنفسه يردّ نفسه، لأنّ مفهومه يقتضي الاحتياط فيما يتعارض فيه النصان، لأنّه يدلّ على حصر الاباحة الظاهرية في غير صورة ورود النهي الأعم من النهي المعارض بغيره ومن الذي لا معارض له كما هو المفروض، وحينئذٍ فإن اخذنا بمفهومه، وجب طرح منطوقه بالاجماع، وإن انعكس الأمر، وجب طرح مفهومه بالاجماع، وهذا الخبر لا يصلح للمعارضة لتلك العمومات الدالّة على وجوب الاحتياط. ويأتي تتمة الكلام إن شاء اللّه بعد الدليل العقلي وردّه.

وأمّا العقل: فيقرّر بوجهين: الأوّل إنّا نعلم قبل المراجعة إلى أدلّة الأحكام: أنّ من الأفعال ما يكون محرّماً في الواقع ولا يريد الشارع أن يصدر تلك الأفعال من المكلّفين، ومقتضى هذا العلم الكفاية في تنجّز الخطاب المعلوم بالاجمال، وفي جواز العقاب على مخالفة الخطاب المعلوم بحكم العقل، الاحتياط في جميع اطراف الشبهة حتى يحصل القطع بفراغ الذمّة عن ذلك التكليف المعلوم بالإجمال الذي حسن

٧٧

العقاب على مخالفته عند العقل، لأنّ تحصيل البراءة اليقينية عن الاشتغال اليقيني واجب بحكم العقل ثم انّا بعد المراجعة لم يحصل لنا القطع بمحرّمات بمقدار المعلوم بالاجمال بحيث يوجب ذلك القطع بزوال العلم الاجمالي في غير المقطوعات، بحيث يكون الشك فيها شكّاً بدوياً. وأمّا ما دلّ على حرمة الأدلّة الظنية فهي وإن كانت بمقدار المعلوم بالاجمال، بل يمكن أن يقال: انّها أكثر الاّ أنّ الحرمة الظاهرية المعلومة بالأدلّة الظنية لا يوجب رفع حكم العقل في موارد الشبهة بالاحتياط الاّ إذا كان الأمر بالعمل بالأدلّة متضمّناً لبيان اكتفاء الشارع في مقام امتثال الخطاب المعلوم بالاجمال بالعمل بمؤدّياتها.

والجواب عنه بوجوه:

الأوّل: انّا لا نعلم بوجود محرّمات في الأفعال بحيث تكون الأفعال التي لم يقم طريق على حرمتها داخلة في أطراف الشبهة، بل العلم الاجمالي الموجود هو العلم بوجود محرّمات في ما قام الطريق على حرمتها، إذ مع إلقاء بعض الأفعال التي لا طريق على حرمتها بمقدار المعلوم بالاجمال الذي يدّعى وجودها في المجموع لا يزول العلم الاجمالي بوجود المحرّمات في مؤديات الطرق، ومع إلغاء بعض ما قام الطريق على حرمتها بمقدار المعلوم بالاجمال في المجموع، لا يبقى لنا علم إجمالي بوجود محرّمات في البعض الباقي، ممّا قام الطريق على حرمتها وغيرها من الأفعال التي لم يقم طريق على حرمتها.

والحاصل: أنّ من يدّعي وجود العلم الاجمالي بالمحرّمات في الأفعال:

إمّا أن يدّعي علماً إجمالياً واحداً وهو العلم بمحرمات في الافعال الاعم ممّا قام الطريق على حرمته وممّا لم يقم طريق على حرمته.

أو يدّعي أنّ لنا علماً إجمالياً بوجود محرّمات بين الأفعال زيادة على المقدار الذي نعلم وجودها في مؤدّيات الطرق، فإن اقتصر في مقام الدعوى على الأوّل.

فجوابه: أنّ إلقاء بعض الأفعال التي لم يقم طريق على حرمتها بمقدار المعلوم بالاجمال لا يوجب زوال العلم الاجمالي، وهذا دليل على أنها خارجة عن اطراف الشبهة

٧٨

وإن ادّعى البراءة(١) ، فجوابه: أنّ القاء بعض ما قام الطريق على حرمتها بمقدار ما يعلم وجودها من المحرّمات في مؤدّيات الطرق خاصة يوجب زوال العلم الاجمالي في غير ما القي في موارد الطرق وسائر الأفعال التي لا طريق على حرمتها، وهذا دليل عدم وجود العلم الاجمالي بالزائد الذي ادّعاه، لأنّه لو كانت محرّمات زائدة على المقدار المعلوم وجوده في الطريق، لم يلزم من فرض عدم ما يكون بمقدار ذلك المعلوم وجوده في مؤدّيات الطريق عدم العلم الاجمالي.

وهذا الجواب انّما يفيد إذا ادّعى إن أطراف الشبهة في العلم الاجمالي الذي يدّعى انحصارها في ما قام الطريق خصوص ما قام الطريق المعتبر على حرمته، فانّه إذا كان من اطراف الشبهة ما قام على حرمته طريق غير معتبر، لم يمكن التمسّك فيه بالبراءة بل يمكن إتمام الاحتياط فيما لا نصّ فيه اصلاً بعدم القول بالفصل ان ثبت كما هو الظاهر.

الثاني: إن العلم بوجود المحرّمات مع ورود أدلّة البراءة لا يوجب الاحتياط، لأنّ هذا العلم الاجمالي ليس خاصاً وجوده بمن هو في زماننا - اعني زمان قطع الأيدي عن الوصول الى الائمةعليهم‌السلام - بل كان متديّن بهذا الدين يعلم أنّ فيه أحكاماً وفي الأفعال يكون محرّمات وواجبات، ويعلم أيضاً أنّ في بعض الأفعال محرّمات ولا يحتمل عنده وجوب شيء منها، وكذا يعلم بأنّ بعض الأفعال فيها واجبات، ويعلم بأنّ شيئاً منها ليست بمحرّمة، ولا ريب أنّ أدلّة البراءة ليس المخاطب بها خصوص من حصل له العلم بمحرّمات بمقدار المعلوم بالاجمال بحيث زال بسبب ذلك علمه الاجمالي.

بل يمكن أن يقال: إنّ مثل هذا الشخص نادر وجوده لا يمكن أن يكون المقصود بالأخبار بيان حكمه، فعلم أنّ أخبار البراءة كلّها واردة في بيان عدم وجوب الاحتياط في موارد الشبهة من الاطراف الذي ليس فيه بخصوصه دليل على حكمه،

____________________

(١) الظاهر « الزيادة » بدل « البراءة ».

٧٩

ولا ريب أنّ إذن الشارع بعدم وجوب الاحتياط في بعض أطراف الشبهة وإن لم يوجب رفع العلم الاجمالي، موجب لرفع حكمه - وهو وجوب الاحتياط - لأنّ مبناه هو احتمال الضرر مع اذن الشارع لا يحتمل وجود الضرر فيرتفع موضوع حكم العقل، فتأمّل.

الثالث: أنّ قيام الطريق على حرمة أفعال بمقدار المعلوم حرمته بالاجمال ممّا لا ريب فيه، وهذا يوجب رفع حكم العلم الاجمالي عمّا لا طريق الى حرمته، وبيانه يحتاج إلى مقدّمة.

وهي أنّ العلم اذا تعلّق بثبوت حكم لأحد الفعلين من الحرمة أو الوجوب مثلاً، ولم يكن علم للمكلف بعنوان ينطبق على موضوع ذلك الحكم الاّ عنوان أحدهما، أو عنوان آخر ينطبق على كل واحد من المشتبهين كفعل مثلاً، ولا ريب أنّ هذا العلم الاجمالي موجب لتنجّز الواقع إن كان المحرّم الواقعي كما زعمه المكلّف بمقدار المعلوم بالاجمال، كما إذا زعم أنّ أحد الغنمين موطوء، وكان في الواقع موطوءً ايضاً منحصراً في واحد، وموجباً لتنجّز الواقع بمقدار المعلوم اجمالاً على نحو التخيير بين أفراد الواقع اذا كان المحرّم الواقعي أزيد ممّا علمه المكلّف - كما في المثال - وكان كل منهما في الواقع محرّماً، فانّ الذي يجب عليه منجّزاً هو الاجتناب عن احد الغنمين على نحو التخيير، ضرورة أنّ العقاب على مخالفة الزائد عن الواحد عقاب بدون بيان بالفرض، وإذا حصل للمكلّف بعد هذا العلم الاجمالي علم بحرمة أحد الفعلين، أو أحد الغنمين تفصيلاً فهو على قسمين: أحدهما أن يحصل له العلم التفصيلي بحكم أحدهما بواسطة حصول سبب جديد للحكم، أو يعلم بالحكم، ويحتمل أن يكون سبب هذا الحكم امراً حادثاً فالأوّل: كما اذا علم أنّ أحد الغنمين موطوء ثم صار أحدهما المعيّن موطوءً وعلم به، والثاني: كما إذا أخبره أحد بانّ الغنم الفلاني موطوء وحصل له من قوله العلم، ولكن احتمل عنده أن يكون إخبار المخبر لعلمه بوطءٍ حادث غير ما علمه السامع، ومن هذا القبيل لو علم لموضوع الحكم عنواناً لا ينطبق الاّ على واحد منهما واقعاً واشتبه عليه الانطباق، ثم حصل له علم بأنّ المشتبهين له

٨٠