الإسلام والفن

الإسلام والفن0%

الإسلام والفن مؤلف:
الناشر: بناية كليوباترا ـ شارع دكّاش ـ حارة حريك
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 191

الإسلام والفن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور محمود البستاني
الناشر: بناية كليوباترا ـ شارع دكّاش ـ حارة حريك
تصنيف: الصفحات: 191
المشاهدات: 65778
تحميل: 25532

توضيحات:

الإسلام والفن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 191 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65778 / تحميل: 25532
الحجم الحجم الحجم
الإسلام والفن

الإسلام والفن

مؤلف:
الناشر: بناية كليوباترا ـ شارع دكّاش ـ حارة حريك
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من حيث استتارة النفوس، مادمنا نعرف - من حيث الاستجابة الفنية ( وهذا ما انتبه إليه مؤخراً علماء النفس الجشطالتيون ) أن الشخصيّة تستجيب لأيّ منبّه، من خلال ( الكلّ ) أو ( الوحدة ) التي تنتظم مختلف الجزئيات في ( شكل موحّد ).

١٦١

( المقال... ):

المقال الأدبي يتناول موضوعاً محدّداً، تُلقى عليه مختلفُ الأضواء ذات الصلة بالموضوع، ويتميّز عن المقال ( العلمي ) بكونه يُعنى بانتقاء المفردة والتركيب، كما يُعنى - إلى حدٍ ما - بعنصري الصورة والإيقاع، لكن دون أن يتحوّل إلى عمل إنشائي صرف، فهو لا يحمل ( جفاف ) التعبير العلمي، كما لا يحمل طابع ( الإنشاء ) الفنّي، بل تطبعه سمة ( العلم ) مصطبغاً بسمة ( الفن ).

إنه يختلف عن كلٍ من الخطبة والخاطرة والرسالة والدعاء.. وسواها، بكونه لا يُعنى بالبُعد ( العاطفي )، ولا يُوجَّه إلى شخصٍ أو جهةٍ محددّة، ولا تتوزّعه موضوعات شتى، ولا يُثَقل بأدوات الصياغة الجمالية إِلاّ عابراً. ويمكننا أن نجده في بعض نماذجه مماثلاً ( للخاطرة ) من حيث تناوله ظواهر سريعة، إلاّ أنه متميّز عنها بكونه يتناول ظاهرة ( فكرية ) وليس مجرد انطباع عابر، كما يتميّز عنها بكبر الحجم الذي ينتظم موضوعه.

وإليك بعض النماذج ذات الصلة بالخاطرة:

نموذج (١):

من النماذج التي تندرج ضمن ( المقال ) الفني، ما كتبه الإمام السجاد (ع) عن ( الزهد ) مثلاً، حيث حام المقال على موضوع محدّد، هو ( الزهد )، جاء فيه:

( كأنّ المبتلى بحب الدنيا به خبل من سكر الشراب. وإن العاقل عن الله، الخائف منه، العامل له، ليمرّن نفسه ويعودها الجوع حتى ما تشتاق إلى الشبع، وكذلك تضمر الخيل لسباق الرهان... ).

هذا المقطع، حافلٌ - كما هو ملاحظ - بأدوات الصياغة الجمالية، بخاصة عنصر ( الصورة )، مِن نحو تشبيه المعنيّ بحب الدنيا بمَن فيه خبل من سكر الشراب، ونحو تمثيله

١٦٢

لِمَن درَّب نفسه على الجوع بالخيل الضّمير في ميدان السباق. ولا يخفى أن تركيب العبارة وانتقاء المفردة يشعّان بليونةٍ لفظية وبإشراق صوتي وبأنسابية عامة، ممّا يُدخل المقال في صميم العمل الفني الخالص، كما يماثل ( الخاطرة ) في سمته الانطباعية.

ويمكننا أن نقدّم نموذجاً آخر للإمام الرضا (ع) في مقالته عن الإمامة، جاء فيها:

نموذج (٢):

( الإمام: كالشمس الطالعة المجلِّلة بنورها للعالم، وهو بالأُفق حيث لا تناله الأبصار ولا الأيدي.

الإمام: البدر المنير، والسراج الزاهر، والنور الطالع، والنجم الهادي في غيابات الرحى، والدليل على الهدى، والمنجي من الردى.

الإمام: النار على اليفاع، الحار لمن اصطلى، والدليل في المهالك... ).

هذا المقطع - كما هو بيّنٌ - صياغة فنيّة مثل سابقتها، اتكاءً على عنصر الصورة وجمال العبارة. وهي وسابقتها إلى لغة ( الفن ) أقرب منهما إلى لغة ( العلم )، وإلى( الانطباعية ) أقرب منها إلى مجرد التعبير عن الحقائق.

وهكذا حين نتجه إلى ما كتبه الإمام عليّ (ع) في مقالته عن ( المتقين ):

نموذج (٣):

( لولا الآجال التي كتب الله لهم، لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين ؛ شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب. عَظُمَ الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنَّةُ كمَن قد رآها فهم فيها مُنَعَّمُون، وهم والنَّارُ كمن قد رآها فهم فيها مُعَذَّبُون. قلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة... ).

هذا النموذج مثل النموذجين السابقين من حيث ارتكانه إلى أدوات الصورة والإيقاع والانطباعية. بَيْد أن الملاحظ فيها جميعاً أنها تناولت السمات العامة للشخصية، مثل: الزاهد والإمام والمتّقي، أي أن غلبة العنصر ( الانطباعي ) فيها مرتبط بطبيعة التناول الذي يستجرّ معه أمثلة الأسلوب المذكور.

إنها تماثل رسم ( القاص ) لأبطاله، حيث يرسمهم فرديين وجمعيين، موسومين بملامح

١٦٣

خارجية وداخلية وفق ( انطباعية ) عامة عن معرفته بسلوكهم. هنا يتجه الرسم إلى أبطال جمعيين نموذجيين، يصف ملامحهم الداخلية ( والخارجية أيضاً )، مثل: أجسامهم نحيفة، عمش العيون، خمص البطون... إلخ.

إذن يمكننا أن نشطر ( المقال ) إلى أكثر من ضرب تعبيري، بعضه إلى ( الخاطرة ) أقرب منه إلى مطلق التعبير المباشر، وبعضه يتجه إلى ( الرسم القصصي ) أكثر منه إلى رسم آخر، وبعضه الثالث يتجه إلى السمة العامة ( للمقال )، ونعني بها: السمة المتمثِّلة في تطبيعه ب- ( العلم ) مصطبغاً ب- ( الفن )، وهذا ما نقدِّم له نموذجاً أيضاً.

نموذج (٤):

قال الإمام علي (ع) في مقال له عن أصل الإبداع الكوني والبشري:

( أنشأ الخلق انشاء، وابتدأه ابتداء، بلا روية آجالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركةٍ أحدثها، ولا هَمَامَةِ نفسٍ اضطرب فيها. أحال الأشياء لأوقاتها، ولَأَمَ بين مختلفاتها، وغَرَّزَ غرائزها، وألزمها أشباحها. عالماً بها قبل ابتدائها، محيطاً بحدودها وانتهائها، عارفاً بقرائنها وأَحْنَائِهَا... ).

فالإمام (ع) في صدد الظواهر الإبداعية، وهو رصدٌ علمي لأصولها، لا يكاد التعبير غير المباشر يتخلَّل الرصد المذكور بقدر ما تتخلّله قيم صوتية ( قرار وتوازن بين الجُمَل ).

١٦٤

الخاطرة...:

تجسّد ( الخاطرةُ ) - في حقل الأدب - ( إحساساً ) مفرداً حيال أحد الموضوعات. ونقصد ب- ( الإحساس المفرد ) ما يقابل ( الفكر المركّب )، فيما يتناول موضوعات ذات طابع تفصيلي يعتمد أدوات الفكر الاستدلالي في صياغة الشكل الفني. وهذا بعكس ( الخاطرة ) التي تعني مجرّد ( إحساس ) يتّسم بالتأمل السريع لإحدى الظواهر، مع تسليط ضوءٍ فكري مركّز عليه، وحصْرِها في نطاق محدد من التناول.

أما ( هيكل ) الخاطرة، فيصاغ وفق عبارة قصيرة مصوِّرة جميلة، أي: ذات انتقاءٍ صوتي ( إيقاعي ) من حيث تجانس وتآلف الحرف والمفردة والفقرة، وذات عنصر ( تخيّلي ) يعتمد الصورة أو المأثور اليومي، تعبيراً عن الإحساس الذي تقوم عليه ( الخاطرة ). إنها - في هذا الصدد - لا تختلف عن سائر أشكال التعبير الفنّي، من حيث اعتمادها عنصر ( الصوت ) و( الصورة ) و( البناء ) أساساً لهيكلها الفنّي.

بَيْد أنَّها تتميّز بكونها ( إِحساساً سريعاً ) حول أحد الموضوعات، حيث تستتلي سرعة هذا الإحساس شكلاً فنيّاً يقوم على حجم صغير من التناول، وعبارة قصيرة أو متلاحقة، مفعمة بالتساؤل والاستطلاع، أو السرد والعرض المجرّدين لهذا الإحساس أو ذاك.

وأهمية هذا الشكل الفني تتمثّل في كونها تتساوق مع حركة الإنسان، التي تواجه يومياً أكثر من ظاهرة أمامها عبْر ممارستها أحد الأعمال، فقد يستوقفها حادث اصطدام، أو مرور جنازة، أو مصافحة بين صديقين، أو أذان المسجد، أو رائحة شواء، أو صراخ الباعة، أو مجرد سماعها لنبأ أو مشاهدتها لظاهرة كونية... أمثلة هذه ( المواجهة ) العابرة التي تخطف كلاً منّا يومياً، تقترن - كما هو واضح - بإحساسٍ عابر، وتتطلّب - كما هو واضح أيضاً - حجماً قصيراً لا يتجاوز الأسطر، وشكلاً فنياً متطابقاً مع تموجّات الإحساس الذي تستثيره مثل هذه المواجهة.

ولا يخفى أيضاً أن لظهور الصحافة في العصور الحديثة أثره في حمل الكتّاب

١٦٥

على ممارسة هذا اللون من الكتابة، التي تحتل جانباً صغيراً من ( أعمدة ) الصحيفة أو المجلة. بَيْد أن هذا يشكّل مجرد باعث لانتشارها وليس لكاتبها بعامة ؛ ولذلك فلا يكاد يخلو عصر من عصور الأدب من أمثلة هذه ( الخواطر ) التي يمارسها الكتّاب قديماً وحديثاً.

المهم، يعنينا أن نعرض بعض ( النماذج ) التي ألِفَها الأدب التشريعي في هذا الصدد، ولنقرأ هذه الخاطرة السريعة للإمام الحسن (ع) في وصف أخٍ صالحٍ له:

( كان من أعظم الناس في عيني. وكان رأس ما عظمَ به في عيني صغر الدنيا في عَينِه. كان لا يشتكي ولا يتبرّم. كان أكثر دهره صامتاً، فإذا قال، بذَّ القائلين. كان إذا جالس العلماء على أن يسمع أحرص منه على أن يقول، وإذا غُلب على الكلام لم يُغلب على السكوت. لا يقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول. وإذا عرض له أمران لا يدري أيّهما أقرب إلى ربّه، نظر أقربهما إلى هواه فخالفه. لا يلوم أحداً على ما قد يقع العذر فيه ).

إن هذه الخاطرة تشمل في واقعها مجموعة ( أحاديث ) نجدها منتثرةً هنا وهناك، غير أن ما يميزها هو: تطبيق مضمونها الذي يُشكّل توصيات لسمات أخلاقية معيّنة، خلعها الإمام الحسن (ع) على أحد إخوانه. وقد اكتسبت طابعاً فنياً يميّزها عن مجرد الحديث ؛ نظراً لتمركزها حول شخص محدّد أملاه موقف عابر يتصل بالشخص المذكور، فجاءت ( خاطرة ) تحوم على ( سمات ) لحظها الإمام (ع) متوفّرة لدى الشخص.

ولعل أول ما يلفت انتباهنا من الخاطرة المذكورة، هو ( واقعيتها ) أو ( حقيقيتها ) التي لا نألف مماثلاً لها في الأدب الأرضي. فالشعراء أو الكتّاب ( في حقل المراثي أو المدائح - على سبيل المثال ) لا يكادون يتناولون ميتاً بالرثاء، أو حيّاً بالمدح، إلاّ وتجد ( المبالغة ) المقيتة طابعاً لنتاجهم، فالشمس والقمر، والجبل والجو، والبر والبحر والشجَر، تصبح عرضة للكسوف والخسوف، والزلزال والإعصار، والخسف والجفاف والْيَبْس نتيجة لموت أحد الأشخاص، أو أن كلاًّ من الظواهر الكونية المذكورة تقف منحسرةً أمام عظمة الشخص وسخائه مثلاً....

الإمام (ع) لم يصُغْ أية حقيقة لدى الشخص المذكور، خارجة عن سماته الموجودة فعلاً لديه، فأشار إلى زهده وعدم شكواه، وصمته وتسامحه...، دون أن يضيف إليها أو ينتقص منها شيئاً. كل ما في الأمر أن إشارته (ع) للسمات المذكورة صيغت وفق لغة ( فنية ) تتطلّبها الحقيقة ذاتها من حيث انعكاساتها في ذهن الكاتب والمتلقّي، وهذا ما يقودنا - ولو سريعاً - إلى توضيح بعض القيم الفنية للخاطرة المذكورة.

١٦٦

أول ما يطالعنا في هذه الخاطرة عنصر ( التقابل ) الذي يشكّل أحد مكوّنات ( الصورة الفنية )، كما يُطالعنا أحد أشكال الصورة متمثّلاً في ( الرمز ).

ويمكننا ملاحظة هذين العنصرين في الفقرة التالية:

( وكان رأس ما عظم به في عيني: صغر الدنيا في عينه ).

إنّ أهمية هذه الفقرة تتجسّد في انطوائها على الصورة الاستمرارية أو المركّبة، أي تعاقب الصور فيها وتداخلها فيما بينها. فثَمَّة صورة هي ( صغر الدنيا في عينه ) تقابلها صورة ( رأس ما عظم به في عيني ). ونفس ( التقابل ) - بصورتيه: العظمة والصغر - يشكّل ( صورة ) لها استقلاليتها وإثارتها الفنية.

مضافاً إلى ذلك - من حيث البناء الفني لمجموع الصور - أنّ استهلال الخاطرة بالصورة القائلة: كان من أعظم الناس في عيني. يجسّد تمهيداً، أو موقفاً مُجملاً، يتقدّم النصُّ بعد ذلك بتفصيله الذي اضطلعت به الصورتان المتقابلتان، أي أنّ التعليل الفنّي للحقيقة القائلة بأنَّ الأخ المذكور كان من أعظم الناس في عينه، إنما كان - في الدرجة الرئيسة - لصغر الدنيا في عين الأخ. بكلمة أخرى: جاء عنصر ( التقابل ) جواباً فنيّاً يفصّل ( التمهيد ) الذي استهلت به الخاطرة.

ولا يخفى مدى انطواء هذا النمط من ( بناء الصور ) وتداخلها وتواشجها العضوي، الذي يُنمّي أفكار الخاطرة من خلال التمهيد وتفصيله، لا يخفى ما لهذا النمط العماري من إثارة فنيّة قد يجهلها القارئ العابر، إلاّ أن الناقد الذي يمتلك حسّاً تذوقياً، يقدّر خطورة الإثارة التي يستجيب لها وفاقاً لمنطق البناء المذكور.

وإذا ذهبنا نتابع سائر مقاطع الخاطرة، لحظنا أن عنصر الصورة المتمثل في ( التقابل )، يكاد يشكّل البطانة أو العصب الفنّي للخاطرة:

فهناك ( الصمت ) يقابله ( القول): ( كان أكثر دهره صامتاً، فإذا قال، بذّ القائلين ).

وهناك ( الاستماع ) يقابله ( القول ) أيضاً: ( على أنْ يسمع أحرص منه على أن يقول ).

وهناك ( الفعل ) يقابله ( القول ) أيضاً: ( لا يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول ).

ولا نغفل أن ( التقابل ) الأخير ينطوي على عنصرين من التقابل: أحدهما: القول والفعل، والآخر: ( لا ) و( و ) ( لا يقول - ويفعل )، هذا إلى أن ( تقابلاً ) متكرراً أخذ موقعه العضوي من الخاطرة، متمثَّلاً في ( إذا غُلب على الكلام لم يُغلب على السكوت ).

١٦٧

إن هذا الحشد الضخم، المتعاقب، المتداخل، المتكرر، المتجانس: من ( التقابل ) بين ( القول والفعل )، وصياغته وفق منحنيات متعددة من الطرح، يشكّل عملاً فنيّاً ضخماً له قدراته التوصيلية، التي لا يستكنه قيمتها إِلاّ مَن خبر طرائق الاستجابة في السلوك البشري وتحديد مواطن الإثارة منها.

بَيْد إن أهم ما يلفت الانتباه في هذا الصدد، هو: أن عنصر ( التقابل ) بشكله المتجانس ( الصمت والقول والفعل ) - حيث انصبّ هيكل الخاطرة على المفردات الثلاث المذكورة - إنما صيغ ببساطة ويسر وسهولة، يظن القارئ من خلالها أنه حيال مجرد أحاديث عن مجالسة العلماء واختيار الصمت واقتران القول بالعمل... لا أنَّه حيال شكل فنّيّ صيغ وفقاً لسمات خاصة، لها أسرارُها في عملية التذوق وتعميق الدلالة التي يستهدفها الإمام (ع) من الخاطرة المذكورة.

أخيراً ينبغي أن نعرف أن صياغة الأفكار المذكورة وفقاً لقيمٍ فنية خاصة، إِنَّما توكّأت على عنصر ( الفن )، فلأن هذا الأخير يساهم في بلورة وتركيز ( القيمة الفكرية ) للخاطرة، ممّا يعني أن ( الأفكار ) المستهدفة في الخاطرة، ينبغي أن نتمثَّلها عملياً في سلوكنا اليومي، مادام ( الفن ) مجرد وسيلة لمعرفة الوظيفة العبادية.

إذن، لنلخّص ( أفكار ) الخاطرة، ونعرضها على واجهة أعمالنا التي نعتزم ممارستها من خلال الوظيفة العبادية.

وها هي الخاطرة تقول:

١ - لتكن الدنيا صغيرةً في عينك.

٢ - لا تشك ولا تتبرّم.

٣ - اختر الصمت على الكلام.

٤ - تكلّم بجدية وعلم إذا كان الأمر مستدعياً لذلك.

٥ - إذا ضمك مجلس العلم، فاحرص على الاستماع لا الكلام.

٦ - لم تخسر شيئاً بسبب الصمت، ولكنَّه قد تخسر شيئاً بسبب الكلام.

٧ - كن على العمل أحرص منك على القول.

٨ - مارس عملية ( تأجيل ) لشهواتك.

٩ - لا تعاتب أحداً وأنت تجد له موضعاً لإمكانية العذر.

أن هذه التوصيات التسع التي تضمنتها ( الخاطرة ) السريعة، حينما نعرضها على اللغة النفسية التي اخترناها إلى جانب اللغة الفنية في دراستنا للفن التشريعي، نجدها تتناول

١٦٨

جملة من الحقائق - أو لِنَقُلْ : جملة من العمليات النفسية - وهي:

١ - الزهد.

٢ - التسامح.

٣ - الصبر.

٤ - الصمت.

( فالزاهد ) لا يُعنى بأية حاجة دنيوية تستتلي التوتر والانشطار نتيجة لعدم إشباع الحاجة المذكورة.

( المتسامح ) لا يسمح لذاته بأن تُنمى لديها أية نزعة عدوانية، فيربح بذلك توازناً داخلياً ملحوظاً، بعكس النزعة الحاقدة التي تقترن بتوتر الأعماق وصراعاتها.

و( الصابر ) يوفر لنفسه التوازن المذكور، بعكس ( الجازع ) الذي يرشّح شخصيته للوقوع في هاوية أكثر من مرض.

أما ( الصامت )، فيكفيه أنه يدرّب شخصيته على ( وأد الذات )، ولا يسمح لها بالتورُّم والتمركز حول الذات، حيث تمزّق إحباطات الحياة المختلفة كل تطلّعات الذات المريضة، وتساهم في تعميق مرضها.

١٦٩

الدعاء

١ - السمات العامة:

الدعاء - كما نعرف جميعاً - يُعدّ نوعاً من الممارسة الوجدانية حيال ( الله ) تعالى... ويفترق عن سائر ألوان التعبير الفنّي بكونه يجسّد ( تجربة ) داخلية تتواصل مع ( الله ) مباشرةً... كلّ ما في الأمر أن ( التجربة ) المذكورة لم تخضع لصياغة (الداعي )، بل للصياغة الشرعية. بكلمة جديدة: المشرّع الإسلامي هو الذي يتكفّل بصياغة ( تجربة ) الداعي، ويقدّمها له ل- ( يتمثَّلها ) هذا الأخير وكأنَّها من نتاج ذاته.

من هنا يفترق ( الدعاء ) عن سائر الفنون التعبيرية الأخرى بكونه ( تجربة داخليّة )، لا أنّها ( أفكار منقولة ) إلى الشخص، كما هو شأن الخطبة والرسالة والخاطرة وغيرها من أشكال الفنّ، التي تتكفّل بعملية ( نقل ) للمواقف بنحوٍ يكون كلٌ منّا مجرّد ( متلّقٍ ) حيالها، في حين أن ( الدعاء ) يحوّل كلاًّ منّا - مضافاً لِما تقدّم - إلى ( مُنشي ) وجداني في توجّهنا بالكلام إلى الله.

ويترتّب على هذا الفارق بين ( الدعاء ) وغيره، أن تتمّ صياغته بنحوٍ لا تتجاوز تجربة الشخص من حيث انفعالاته بالمواقف، سواء أكانت هذه المواقف ( فردية ) أم ( اجتماعية ) أم ( موضوعية ) صرفاً.

والمقصود بالمواقف ( الفردية): الحاجات النفسية والحيويّة التي يتطلّع الداعي إلى تحقيقها بالنسبة ل- ( ذاته ).

أما المواقف ( الاجتماعية )، فيُقصدُ بها دعاء الشخص ( للآخرين ) وتطلّعه إلى تحقيق إشباع حاجاتهم المختلفة.

ولعله يمكن القول بأن ( الدعاء ) - بخلاف سائر الفنون التعبيرية - يحقّق، من حيث عمليات التعديل للسلوك، ممارسة مباشرة للتعديل المتّصل بسلوكنا نحو ( الآخرين )، أو ما يُطلق عليه ب- ( الغيريّة ) أو ( الإيثار )، حيث ( يدرّبنا ) - كما سنلحظ في النماذج التي

١٧٠

سنقدّمها - على أن نُعنى بالآخرين قبل أن نتجه إلى ( ذواتنا )، وهذا ما يجعل ( الدعاء ) بمثابة ( تطبيق ) للمبادئ التي تُطالبنا ( السماءُ ) بها في نصوص الأدب التشريعي التي تقدّم الحديثُ عنها.

وأما المواقف ( الموضوعية ) الصرف، فيُقصد بها: التعامل مع المبادئ بنحوٍ عام، بغض النظر عن فائدتها ( الذاتية )، مثل: التعامل مع حقائق الله أو ظواهره الإبداعية، أو التعامل أهل البيتعليهم‌السلام ... وفي الحالات جميعاً لا يضمر حجم التعامل ( الوجداني ) لدى الداعي إلاّ من حيث انسلاله من دائرة الحاجات ( الفردية )، والتوجه بذلك إلى الحاجات ( العقلية ).

ومن الواضح - في حقل العمليات النفسية - أن الكائن الآدمي تتوزّعه ثلاث حاجات، يحقق كلٌّ منها إِشباعاً لشخصيته، وهي:

١ - الحاجات النفسية، مثل: التقدير والحبّ ونحوهما، بما في ذلك محبته للآخرين أيضاً.

٢ - الحاجات الحيوية، مثل: الطعام، النوم... إلخ.

٣ - الحاجات العقلية، مثل: استكناه الحقائق وتقويمها، بغضّ النظر عن فائدتها ( الذاتية ) كما قلنا.

وطبيعياً، أن ينتسب النمط الثالث من الحاجات إلى ما أسميناه ب- ( المواقف الموضوعية ) المتصلة بالتعامل مع الله، وظواهره الإبداعية، والمصطفين من الآدميين.

المهمّ، يظلّ ( البُعد الوجداني ) هو البطانة العامة لأدب الدعاء، بما في ذلك النمط ( الموضوعي ) منه ؛ بصفة أن الداعي (ينفعل ) بالحقائق الموضوعية التي يتّجه بالدعاء من خلالها.

وفي ضوء ما تقدم يمكننا أن نقرّر بوضوح، بأنَّ الصياغة الفنيّة للدعاء تتحدّد وفقاً للأسس التي ألمحنا إليها، مضافاً لأدوات الشكل الجمالي: صوت، صورة، بناء، طرافة....

وإذا كانت الأسس المذكورة من الممكن أن تتجسّد في نصٍّ محدّد حيناً، أو أقلّ منها، إلاّ أنّ خصائص كلٍّ من ( البُعد الوجداني ) و( الموضوعي ) و( الفنّي ) تظلّ عصباً رئيساً يتسرَّب في الأدعية جميعاً، سواء أكانت ذات طابع فردي أم اجتماعي أم عقلي.

ويمكننا - على سبيل المثال - أن نأخذ الدعاء التالي لملاحظة السمات الثلاث التي أشرنا إليها:

١٧١

( اللّهم إنِّي أعتذر إليك من مظلوم ظُلِمَ بحضرتي فلم أَنْصُرْه، ومن معروفٍ أُسدِيَ إليَّ فلم أشكُرْه، ومن مسيءٍ اعتذر إليَّ فلم أعذُرْه، ومن ذي فاقة سألني فلم أوثرْه، ومن حق ذي حقٍّ لزمني لمؤمنٍ فلم أوفِّر، ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أسترْه، ومن كلِّ إِثمٍ عرضَ لي فلم أهجرْه. أعتذر اعتذراً إليك - إِلهي - منهنّ ومن نظائرهنّ: اعتذار ندامة تكون واعظاً لما بين يديّ من أشباههن. فصلّ على محمدٍ وآله، واجعل ندامتي على ما وقعتُ فيه من الزلاَّت، وعزمي على ما يعرض لي من السيِّئات، توبةً توجب لي محبّتك، يا محبّ التوّابين ).

إن هذا النصّ - على قصره - يتضمّن ( البُعد الوجداني ) المتمثّل في كلّ من: ( الاعتذار )، ( الندامة )، ( العزم على الترك ). ولا يخفى أن كلّ واحدة من المفردات الثلاث يجسّد عمليةً نفسيّة ذات طابع ( انفعالي ). فالاعتذار: إِفصاحٌ عن حالة داخلية ذات طابع ( متوتّر )، و( الندامة): انكسارٌ نفسي يجيء نتيجة لتوتّرات بالغة الحدّة. و( العزم على الترك): انفعال حادٌ على ( تصميم ) شيءٍ ما...

إذن: ( البُعد الوجداني ) واضحٌ كلّ الوضوح في هذا النصّ.

أما ( البُعد الفنّي ) في النص، فيتمثّل في أوضح أدواته في ( القرار الإيقاعي )، من نحو: أنصره، أشكره، أعذره، أوثره، أوفره، أستره، أهجره... كما يتمثّل في ( توازن ) العبارات هندسياً، من حيث توازن عدد المفردات في كلّ فقرة مع سائر الفقرات المنتهية بالقرار الإيقاعي المذكور، وهو أمر يلحظه المتلقّي - من حيث جمالية الجرس المذكور - بنحوٍ مُدهش دون أدنى شك.

وأخيراً: ( البُعد الموضوعي )، متمثّلاً في الصلاةً على محمّد وآله، كما لحظنا ذلك في الفقرات الأخيرة من الدعاء المذكور.

ويُلاحَظ: أن ما أسميناه ب- ( البُعد الموضوعي ) يتخلَّل الأدعية جميعاً، من حيث ( الآداب ) التي يصوغها المشرّع الإسلامي في ممارسة ( الدعاء )، وإلاّ فإن ( موضوعية ) الدعاء تشكّل - كما قلنا - واحداً من أنماط ثلاثة، هي: ( الحاجات الفردية ) و( الاجتماعية ) و( العقلية )، حيث ينتسب ( الدعاء الموضوعي ) إلى الأخير منها.

ولعل السّرّ الكامن وراء هذه ( الآداب ) يتمثّل في: نقل الداعي من ( همومه الذاتية ) إلى الهموم الموضوعية ؛ ليستكمل بذلك شخصيته ذات الطابع السويّ، وإلاّ فإن التأكيد على ما هو ( فرديّ ) فحسب يظلّ - كما هو معروفٌ في لغة علم النفس المَرَضي - من أبرز معالم الشخصية الشاذّة. ولذلك يُحاول ( الدعاء ) - بصفته واحداً من أشكال التعبير الفني الهادف - أن يدفع بالشخصية إلى ( تعديل ) سلوكها، من خلال مزج ما هو ( ذاتي ) بما هو

١٧٢

( موضوعي) كما مرّت الإشارة إليه فيما يتّصل ب- ( الغيرية ). والأمر نفسه فيما يتصل بموضوعيته من حيث الثناء على الله، والتوجّه نحو ظواهره الإبداعية، والتوجه نحو أهل البيتعليه‌السلام .

من هنا نلحظ أن غالبية نصوص الدعاء تبدأ بالثناء على الله أو الصلاة على محمد وآله، أو يختتم الدعاء بهما، أو بأيِّة عبارة أُخرى تتضمّن إحدى صفاته تعالى... أو أن الداعي نفسه - وفقاً للآداب المذكورة - يبدأ استهلال الدعاء أو اختتامه بذلك، في حالة ما إذا أنشأ الدعاء بنفسه.

المهمّ، أن موضوعية الدعاء تظلّ أبرز المعالم في هذا الصدد، حتى إن بعض النصوص تأخذ مبنىً هندسيّاً قائماً على ( السمة الفنيّة ) المذكورة، من خلال عمليات البناء الفكري للنص: في تعدد موضوعاته مثلاً، وتنامي مواقفه متمثلاً في وصل كلّ موضوعٍ بآخر، وتناميه: عن طريق ( الحمد ) أو ( الصلاة ).

ولعل أوضح نموذجٍ في هذا الصدد هو " دعاء مكارم الأخلاق "، فيما يتضمن عشرين مقطعاً، كلّ واحدٍ منها يتناول موضوعاً محدّداً، وكلّ موضوع تنتظمه جملة من المفردات، تُستهلّ بفقرة ( اللهم صلّ على محمد وآل محمد ) ؛ تدليلاً على السمة ( الموضوعية ) التي أشرنا إليها من جانب، وعلى السمة ( الهندسية ) التي يتطلّبها الانتقال من موضوع لآخر، ووصلها برباطٍ فكريّ يوحّد بين أجزائها من جانبٍ آخر.

ولنقرأ - على سبيل النموذج - قسماً من النصّ:

( اللّهم صلّ على محمد وآله: وبلّغ بإيماني أكمل الإيمان، وبيقيني...

اللّهم صلّ على محمد وآله: واكفني ما يشغلني الاهتمام به...

اللّهم صلّ على محمد وآله: ولا ترفعني في الناس درجةً إلاّ...

اللّهم صلّ على محمد وآله: ومتّعني بهدىً صالحٍ لا أستبدل به...

اللّهم صلّ على محمد وآله: وأبدلني من بغضة أهل الشنآن المحبة...

اللّهم صلّ على محمد وآله: واجعل لي يداً على مَن ظلمني... ).

إن هذا ( الدعاء ) الذي يشكّل ( وثيقة نفسية ) من حيث تضمّنه لمبادئ السلوك الصحّي، مصوغٌ وفق عمارة هندسية بالغة الدهشة: بدءاً من مقطعه الأوّل الذي يشكّل ( تمهيداً) تفصّله المقاطع الأخرى، مروراً بمقاطعه المتلاحمة عضويّاً، وانتهاءً بمفردات كلّ مقطع منها وتلاحم هذه المفردات فيما بينها أيضاً، وهو أمرٌ لا تسمح به دراستنا الأدبية

١٧٣

السريعة بتناوله مفصّلاً.

المهمّ أن نشير فحسب، إلى أن فقرة ( اللّهم صلّ على محمد وآل محمد ) وُظِفَت فنيّاً بحيث شكّلت نقلةً فنية من ( الذات ) إلى ( الموضوع ) من جانب، وأداة وصلٍ وتلاحمٍ بين الموضوعات من جانب آخر.

هذا كلّه: في حالة ما إذا كان الداعي في صدد حاجاته الفرديّة.

أما إذا كان في صدد المواقف العقلية مثلاً، أي استكناهه لحقائق الله وظواهره الإبداعية، أو المواقف الغيرية أيضاً، حينئذٍ فإن هذا النمط من التعامل يشكّل نوعاً مستقلاً من أدب الدعاء: له سماته الخاصة التي تميّزه عن أنواع الدعاء.

وهذا ما نحاول أن نعرض له الآن...

* * *

٢ - السمة الموضوعية والفردية:

إن السمة المميّزة للدعاء الموضوعي، هي: خلوّ الدعاء من الحاجات الفردية وانصرافه إلى الحاجات العقلية الخالصة، متمثلةً في المقولة المعروفة لعليّعليه‌السلام في ذهابه إلى أنَّهعليه‌السلام لم يعبد الله طمعاً في الجنة أو هرباً من النار بقدر ما وجده ( تعالى ) أهلاً لذلك.

طبيعياً، أن يتّسم هذا النمط من الدعاء بأرفع العمليات النفسية، من حيث نبذها لأيّة شائبة من الذات، وأن ممارسته تُعدّ ( تدريباً ) على ( الاستواء ) في السلوك في أعلى تصوّرٍ له.

ولعل أوضح نماذجه، يتمثّل في دعاء "العشرات " المعروف، وفي نصوصٍ من "الصحيفة السجَّادية " وغيرها.

ويمكن تصنيف هذا النمط من الأدعية - كما أشرنا - إلى ما يتصل بصفات الله، وظواهره الإبداعية، وأصفيائه من الآدميين. كما يمكن إضافة ( المواقف الغيرية ) إليه أيضاً، مادامت مبتعدة عن دائرة ( الذات ) أيضاً. وهذا جميعاً ما يمكن ملاحظته في أدعية ( الصحيفة السجادية )، مثل دعائهعليه‌السلام : ( التحميد لله عزّ وجلّ )، و( الصلاة على حملة العرش )، و( دعائه لجيرانه وأوليائه )، و( أهل البيتعليهم‌السلام .

طبيعياً أيضاً أن ( الحاجات الفردية ) من الممكن أن تتخلّل أمثلة هذه الأدعية، إلاّ أنها تظلّ عابرة أو ثانوية بالقياس إلى الطابع الموضوعي للدعاء. فلو وقفنا على الدعاء الأول

١٧٤

من الصحيفة السجادية، للحظنا أن مقاطعه جميعاً تمضي على النحو التالي الذي استُهلّ به الدعاء:

( الحمد لله الأوّل بلا أوّل كان قبله، والآخر بلا آخر يكون بعده. الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين. ابتدع بقدرته الخلق ابتداعاً، واخترعهم على مشيته اختراعاً.. ).

ثم تجيء فقرة عابرة في تضاعيف الحمد على هذا النحو:

( حمداً تقرّ به عيوننا إذا برقت الأبصار، وتبيّض به وجوهنا إذا اسودت الأبشار. حمداً نُعتَق به من أليم نار الله، إلى كريم جوار الله... ).، فهذه الفقرة تفصح عن حاجة ( فردية )، إِلاّ أنها ليست متصلة بالحياة الدنيا ومتاعها، بل بحاجات (أخروية)، مستهدَفةً عبادياً دون أدنى شك.

ومهما يكن، فإن السمة الموضوعية للدعاء، يمكن تحديدها في مستويات متنوعة، بعضها: يتصل بما هو ( عقليٌ صرف )، وبعضها بما هو ( أخروي )، وبعضها بما هو ( غيري)، على تفاوت في ذلك.

أما السمة ( الفردية )، فتتمثّل في جملة من الحاجات الرئيسة والثانوية، ممّا لا حاجة إلى عرضها، بقدر ما تمسّ الحاجة إلى تحديد ( الدعاء ) بها، من حيث معطياته النفسية ومساهمته في التفريج عن شدائد الحياة، حتى إن المُلاحِظ يمكنه أن يستقرئ غالبية الحاجات الفردية ليجد أن لكلٍّ منها ( وثيقة ) من الدعاء تتكفّل بمعالجة ذلك.

وأهميّة ( الدعاء ) المذكور تتمثّل في كونه - أي الدعاء - يعدّ طريقة للتفريج عنها من جانب، أو تعويضها - لا أقلّ - بالإشباع العقلي من جانب آخر، وهو أمرٌ عالجناه مفصلاً في دراساتنا النفسية عن ( الدعاء ) فيما لا حاجة إلى إقحامه في دراستنا الأدبية.

٣ - السمات الفنية:

لحظنا في نماذج من نصوص الدعاء، أكثر من سمة فنيّة تتصل بأدوات التعبير، مثل ( الإيقاع ) و( البناء الهندسي )، ويمكن القول بأن ( الدعاء ) يظل أكثر الأشكال التشريعية احتشاداً بأدوات الفنّ، بخاصة عنصر ( الإيقاع ). ولعلَّ السرّ الفنّي وراء ذلك، كامنٌ في طبيعة عنصر ( التلاوة ) التي يمتاز بها الدعاء عن غيره. فالدعاء ( يُتلى )، لا أنه ( يُسمَع ) أو ( يُقرأ ) فحسب، وتبعاً لذلك ؛ فإن ( التلاوة ) تتطلب إيقاعاً يتناسب مع وحداته الصوتية التي تنتظم في ( سجع ) أو ( تجانسٍ )، لا انَّه خاضعٌ لإيقاع داخليّ فحسب.

١٧٥

وأما عنصر ( البناء )، فيمكننا أن نُدرك أهميته أيضاً من خلال الطابع النفسي الذي ينتظم الأدعية، لبداهة أن الأدعية إنما تصاغ من أجل الإفصاح عن حاجات الشخصية بطريقة خاصة، هي ( الانفعالُ ) بها. وحينئذ لابدَّ أن تُصاغ وفقاً للعمليات النفسية التي يستثيرها ( منبّه ) محدّد، و( تستجيب ) له بنمط خاص، ممّا يعني أنَّها - أي الأدعية - تخضع لبناء هندسي، يأخذ العمليات النفسية المذكورة بنظر الاعتبار. ولنأخذ هذا الدعاء مثلاً:

١ - ( إلهي إليكَ أشكو نفساً بالسوء أمَّارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة، ولسخطك متعرّضة. تسلك بي مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك. كثيرة العلل، طويلة الأمل: إن مسَّها الشرّ تجزع، وإن مسَّها الخير تمنع. ميَّالةً إلى اللعب واللهو، مملوءةٌ بالغفلة والسهو. تسرع بي إلى الحوبة وتسوّفني بالتوبة ).

٢ - ( إِلهي: أشكو إِليك عدواً يضلّني وشيطاناً يغويني. قد ملأ بالوسواس صدري، وأحاطت هواجسه بقلبي. يعاضد لي الهوى، ويزيّن لي حبّ الدنيا، ويحول بيني وبين الطاعة والزلفى ).

٣ - ( إلهي: إليك أشكو قلباً قاسياً، مع الوسواس متقلّباً، وبالرين والطبع متلبِّساً، وعيناً عن البكاء من خوفك جامدة، وإلى ما يسرّها طامحة ).

٤ - ( إلهي: لا حول ولا قوة إلاّ بقدرتك، ولا نجاة لي من مكاره الدنيا إلاّ بعصمتك، فأسألك... ).

فهذا النصّ يتضمّن أربعة مقاطع، كل مقطع منها موصول بما قبله وبما بعده. فالمقطع يتحدث عن نفس أمَّارة بالسوء، بالعصية، بالخطيئة... نفس هذا المقطع يعرِّض جانباً من المفردات التي أشار إليها، مثل: كثرة العلل والأمل والجزع واللعب والمنع...، أي: صِيغَ بنحوٍ يتلاحم عضوياً بالنسبة إلى النفس التي ألمح إلى كونها أمَّارة بالسوء، ثم تفصيل الإجمال المذكور بمفردات من السلوك المنتسب إلى ذلك.

٢ - أما المقطع (٢)، فقد تحدّث عن ( المنبّه ) للسلوك المذكور، متمثِّلاً في: ( الشيطان )... ثم عرض مفردات ( التنبيه ) متمثّلة في: الوسوسة، تزيين الدنيا... إلخ، حيث فصّل إجمال المنبّه المذكور.

٣ - المقطع (٣) يترتّب على سابقه، وهو: الطبع والرَّين على الفؤاد، نتيجةً لممارسة المفردات التي عُرِضت في المقطع.

٤ - المقطع (٤): يتجه إلى ( الله ) لإنقاذ النفس من السوء الذي فصّلت الحديثَ عنه

١٧٦

المقاطعُ الثلاثة التي أشرنا إليها.

إذن: ( التنامي العضوي ) من الوضوح بمكان ملحوظ في النصّ المتقدم.

* * *

أما عنصر ( الصورة )، فإن استخدامه يضمر حجماً بالقياس إلى ( الإيقاع ) و( البناء )، بخاصة الصورة غير المباشرة. بَيْد أن ذلك لا يعني ضمورها في الحالات جميعاً، بقدر ما يتطلّب الموقف النفسي ذلك.

إن بعض المواقف تستلزم دلالاتُها إلحاحاً في أغوار النفس وتشابك حالاتها، حيث لا يتاح ( للإيقاع ) الخارجي وحده أن يبرز تشابك الحالات الوجدانية، بقدر ما يُتاح لعنصر ( الصورة ) تحقيق ذلك، بما تنطوي عليه طبيعةُ ( الصورة ) من إيحاءات ورموز وكشوف، تبلور التشابك المذكور.

وإليك المقطع رقم ( ٢ ) من دعاء ( العارفين ) في الصحيفة السجَّاديَّة:

( إلهي: فاجعلنا من الذين ترسَّخت أشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم، وأخذت لوعة محبّتك بمجامع قلوبهم. فهم إلى أوكار الأفكار يأوون، وفي رياض القرب والمكاشفة يرتعون، ومن حياض المحبّة بكأس الملاطفة يكرعون، وشرائع المصافاة يردون... ).

هذا المقطع مجموعة من ( الصور ) الفنية، تتوالى واحدةً بعد الأخرى دون أن يتخلّلها تعبيرٌ مباشر. فالقيم الوجدانية في هذا المقطع تتناول أغوار العلاقة بين الله والعبد: من حيث ( عمق المعرفة ) التي لا تتأتّى عند العامة من الآدميين، ومن حيث ( عمق الوجد ) الذي لا يُتاح بسهولة لدى الغالبية منهم، وهو أمرٌ يتطلّب الركون إلى ( تعبير مصوَّر ) يُشحن بدلالاتٍ ثانوية وإيحاءات شتّى، تتوافق مع تشابك وتجذّر ( المعرفة ) و( الوجد ).

لذلك اتَّجه النص إلى رصد علاقات جديدة بين الظواهر وفق تركيبة خاصة، منها: التركيبة الاستعارية، المتمثّلة في رصد العلاقة بين ( أشجار الحدائق ) و( أشواق الصدر )، من حيث ترسُّخها وتغلغلها وتعمّقها داخل النفس، فالشجر بقدر ما تمتدّ جذوره إلى باطن الأرض يأخذ ثباتاً أشد، يقابله الشوق الذي تُرسَّخ إمكاناته بقدر ما يتكاثر ويتنامى.

فهنا لو التجأ النصّ إلى التعبير المباشر، لَمَا زاد على ذلك بقولنا مثلاً: ( اللهم: اجعل أشواقنا شديدةً نحوك )، لكنّه بارتكانه إلى عنصر ( الصورة )، حقّق ظاهرة تغلغل الشوق وشدّته وتناميه: حيث نقل القارئ إلى تجربة الشجر والمزرعة ليوحي إليه كثافة الشوق. وكان من الممكن أن يكتفي

١٧٧

النصّ بمجرد ( الشجر ) دون أن يضيف إليه ( الحدائق )، مادام النموّ يتحقق في أية أرض صالحة للزراعة، ولكن بما أن النص لم يستهدف مجرّد تغلغل الشوق في الأعماق ليكتفي بالزرع، وإنما استهدف - أيضاً - الإشارة إلى المتعة الجمالية التي نشاهدها في ( حديقة ) تنتظم أشجارها وتتناسق، فتجمع إلى عملية ( النبت ): ( التنظيم الجمالي ) أيضاً. حينئذٍ فإن النصّ يكون قد استهدف لفت النظر إلى مدى الفرح والحبور اللذَيْن تنثرهما محبّةُ الله في صدور ( العارفين )، فيما يتحسّسونهما ببالغ الجمال الذي يتلاشى معه أيُّ متاعٍ دنيويٍّ عابر.

ولو ذهبنا نتابع سائر ( صور ) المقطع، للحظنا أمثلة هذه الظاهرة التي انطوت الصورةُ المتقدمةُ عليها، فيما لا حاجة إلى الوقوف عندها.

المهم: أردنا أن نلفت الانتباه على الأسرار الفنية الكامنة وراء حشد بعض الأدعية بعنصر ( الصورة )، وضمور ذلك في سائر الأدعية. كما أردنا لفت الانتباه على الأسرار الفنية الكامنة وراء حشد غالبية الأدعية - على الضد في عنصر الصورة - بعنصر ( الإيقاع )، وصلة ذلك بعنصر ( التلاوة ) الذي يميّز ( الدعاء ) عن غيره من فنون التشريع الإسلامي، بالنحو الذي فصَّلنا الحديث عنه.

١٧٨

الزيارة

الزيارة: شكلٌ فنيّ يتمثّل في صياغة العواطف البشرية حيال أهل البيتعليهم‌السلام . وإذا كان ( الدعاء ) يتمثَّل في التوجه بالعواطف إلى الله تعالى، فإن ( الزيارة ) تتمثّل في التوجه بالعواطف إلى أهل البيتعليهم‌السلام ، من خلال كونهم ( شفعاء ) أو ( وسائل ) بين الفرد والله.

وأهمية هذه العواطف لا تتجسّد في مجرد ( الشفاعة )، بل في التعبير الموضوعي عن محبّة الزائر لأهل البيتعليهم‌السلام ؛ بصفتهم النموذج الأرفع للوظيفة الخلافية، حيث اصطفاهم الله - دون خلقه - لممارسة الوظيفة المذكورة في أرفع صُعُدِها.

مضافاً إلى ذلك، فإن ( الزيارة ) تعدّ نمطاً من ( الوفاء ) لشخصيات أهل البيتعليهم‌السلام . فالميت العاديّ من البشر طالما يتّجه ذووه وأصدقاؤه وجيرانه ومقدِّروه بشكل عام، إلى تجديد ذكرياتهم مع الفقيد في شتّى المناسبات، بحيث تعدّ قراءة الفاتحة ونحوها تعبيراً عن ( الوفاء ) حيال الفقيد.

أما أهل البيتعليهم‌السلام بصفتهم النموذج العبادي الذي أشرنا إليه، فإن ( الزيارة ) لهم من خلال المشاهد المقدسة، أو مطلق ( الزيارة )، تعدّ تعبيراً خاصاً له تميّزه وتحدّده عن سائر الناس، بحيث تتناسب ( الزيارة ) - بما تنطوي عليه من دلالات سنشير إِليها - مع الموقع الخلافي الذي يحتلّه أهل البيتعليهم‌السلام .

وتتمثّل ( موضوعات ) الزيارة في جملةٍ من الدلالات: تبدأ - عادةً - بالثناء على الله، ثم ( السلام ) على ( المزور )، ثم التقويم لشخصيّته العبادية، ثم العرض لبعض الشدائد التي واجهها ( المزور)، بخاصة أن كلاًّ من شخصياتهم (ع) بين مقتول أو مسمومٍ، ثم اختتام ذلك بالدعاء لنفسه.

١٧٩

نموذج رقم (١):

من زيارة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( أشهد أن لا إِله إِلاّ الله.. وأشهد أنك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. وأشهد أنك قد بلّغت رسالات ربّك، ونصحت لأُمتّك، وجاهدتَ في سبيل الله.

اللَّهُم أعطه الدرجة الرفيعة، والوسيلة من الجنة.

اللَّهُم إنك قلت:( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) ، وإنّي أتيت نبيّك تائباً من ذنوبي.. ).

فالملاحظ في هذا النص أنَّه - كما أشرنا - بدأ بالثناء على الله، ثم ( المزور )، ثمّ التقويم لشخصيته، ثم الدعاء له، ثم الدعاء لنفسه.

وأهمية هذا النمط من ( الزيارة ) أنها تُدرّب الشخصية على السلوك السويّ ؛ من حيث شدّها إلى التفكير بوظيفتها العبادية حيال الله وأصفياء عباده، ومن حيث تذكيرها بالمبادئ التي ينبغي أن تلتزم الشخصية الإسلامية بها خلال ( تقويمها ) لشخصية ( المزور )، المتمثِّل في جهاده في سبيل الله وتأدية وظيفته (ع). فضلاً عن أنها تستثمر ذلك للتنبيه على سلوك (الزائر) واستحضاره لذنوبه، ممّا يحمله على تعديل السلوك. فضلاً عن أن ( الوفاء ) نفسه - من خلال ممارسة الزيارة - يُعد مواصلة للتدريب على السلوك السويّ.

هذا كلّه من حيث الدلالات الفكرية والنفسية لممارسة ( الزيارة ). أما من حيث القيم الفنية ل- ( الزيارة ) بصفتها شكلاً أدبيّاً له خصائصه الجمالية: من صورةٍ وإيقاع وبناءٍ، فإن هذا الشكل لا يختلف عن سائر الأجناس الأدبية التي وقفنا عليها في نصوص الفنّ التشريعي، من حيث كونه يرتكن إلى أدوات جمالية يخرجها من نطاق التعبير العادي إلى صعيد التعبير الفنّي، وهو ما سوّغ لنا أدراجه ضمن دراستنا للأدب التشريعي.

ويمكننا ملاحظة البُعد الفنّي لنصوص ( الزيارة ) في نماذج منها:

نموذج رقم (٢):

من زيارة لعليّ (ع):

( السلام عليك يا أمين الله.. أشهد أنّك جاهدت في الله حقّ جهاده.. حتى دعاك الله إلى جواره ،

١٨٠