الإسلام والفن

الإسلام والفن0%

الإسلام والفن مؤلف:
الناشر: بناية كليوباترا ـ شارع دكّاش ـ حارة حريك
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 191

الإسلام والفن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور محمود البستاني
الناشر: بناية كليوباترا ـ شارع دكّاش ـ حارة حريك
تصنيف: الصفحات: 191
المشاهدات: 65760
تحميل: 25532

توضيحات:

الإسلام والفن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 191 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65760 / تحميل: 25532
الحجم الحجم الحجم
الإسلام والفن

الإسلام والفن

مؤلف:
الناشر: بناية كليوباترا ـ شارع دكّاش ـ حارة حريك
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

النقد الأدبي أو الفنّي

يمكن تعريف ( النقد ) بأنَّّه عملية ( كشف ) للنصوص، أي تبيين قيمها الفنية من حيث الجودة أو الرداءة، وذلك من خلال ( تحليل ) أجزائها و( تفسيرها ) و( الحكم ) عليها.

وهذا يعني أنَّ عملية ( الكشف ) تتضمن ثلاثة عناصر هي:

١ - التحليل : كما لو قمنا بتفكيك القصيدة - مثلاً - إلى أجزاء مختلفة تتصل بعناصرها، من ( فكر ) و( انفعال ) و( صورة ) و( إيقاع ) و( تخيّل )... إلخ، أو تفكيك ( الصورة ) وتحديد أطرافها، أو تفكيك إيقاعها من فرز لعناصر التفعيلة - مثلاً - إلى التجانس الصوتي للعبارة، إلى ( الجرس ) الخاص بها... إلخ. كلّ أولئك يجسّد عنصر ( التحليل ) لمركَّبات القصيدة.

٢ - التفسير : وهو تبيين أو شرح أو إلقاء الإنارة على الأجزاء المحللة المشار إليها، كما لو قمنا بعملية فكّ لرموزها وصورها الغامضة مثلاً.

٣ - الحكم : وهو إلقاء وجهة نظرنا الايجابية أو السلبية على النص، مشفوعة بعنصر ( التعليل ) للحكم المذكور، أي: تقديم الأسباب الفنية الكامنة وراء ( حكمنا ) على النص.

والجدير بالملاحظة أن هناك اتجاهاً يكتفي من عملية ( النقد ) بعنصري ( التحليل ) و( التفسير ) فحسب، دون أن يعنى بعنصر ( الحكم ) ؛ مستنداً في ذلك إلى وجهة النظر الذاهبة إلى أن ( المتلقِّي ) ينبغي أن ( يساهم ) في عملية الكشف للنص، لا أن نحصر الكشف في نشاط الناقد وحده، وذلك لجملة من الاعتبارات:

منها: أن مساهمة المتلقِّي في عملية ( الكشف ) سوف تزيد من إمتاعه لتذوّق النص، وتثرى تجربته في عملية التذوق، بدلاً من أن نقدّم له وصفة جاهزة تحتجزه من ممارسة الإبداع، وهذا يعني أن المتلقِّي يقوم بعملية فنية مكمّلة لمهمة الناقد.

ومنها: أن للمتلقّي وجهة نظره الخاصة في عملية التذوّق، ممّا يتنافى مع ( الحكم ) الذي يطلقه الناقد على النص، وهو أمر يجعل كون النقد منحصراً في عمليتي ( التحليل ) و( التفسير ) دون ( الحكم) له مسوغاته في هذا الميدان، مادامت معايير الفن وقوانينه ( نسبية ) وليست مطلقة.

ومنها: أن الأعمال الفنية ، بخاصة الأعمال الخالدة لكبار الفنانين، لا حاجة لإصدار ( الحكم )

٦١

عليها مادامت مستوفية لشرائط الفن.

ومنها: أن عمليتي التحليل والتفسير ذاتهما تكشفان عن ( قيمة ) النص دون الحاجة لإصدار الحكم.

وفي تصورنا، أن الركون إلى ( التقويم ) أو ( التفسير والتحليل )، يظل محكوماً بطبيعة الموقف. فقد يستدعي السياق مجرد عملية ( وصفية ) للنص، وقد يتطلّب الموقف ( أحكاماً ) عليه، إلاّ أن عملية ( الحكم ) بنحو عام تظل هي المهمة الرئيسة للنقد، مادمنا - إسلامياً - مطالبين بنصح الآخرين وإرشادهم، حيث يفيد صاحب النصّ من الملاحظات النقدية على نتاجه، كما يفيد الفنانون الآخرون من الملاحظات المذكورة، فضلاً عما يفيده ( المتلقِّي / القارئ ) من ذلك أيضاً.

* * *

إن عملية ( الكشف ) للنص تقترن بجملة من المبادئ، منها ما يثيره النقّاد حيال عمليات التفسير أو التحليل أو الحكم، من حيث تناولها للنص وشطره إلى ( شكل ) و( مضمون ). فيما يذهب النقاد الجماليون بخاصة ( وهم النقّاد الذين يعنون بالفن من حيث كونه تعبيراً ( جميلاً ) فحسب، بغض النظر عن دلالته ) إلى صعوبة عزل الشكل عن ( دلالة ) النص، حيث يترتب على مثل هذا الاتجاه غياب المضمون الفكري أساساً، وهو ما يتنافى مع العناية الإسلامية بالمضمون كما هو واضح.

الناقد الإسلامي بمقدوره أن يتجاوز هذا المبدأ ( المفتعل )، ويتجه إلى عزل الشكل القصصي أو الشعري - مثلاً - عن مضمونه، دون أن يترتب على ذلك: تضييع ل- ( قيمة ) النص.

صحيح أن الإمتاع الفني لا يتحقَّق إلاّ من خلال وحدة العمل الأدبي - وهو أمر يؤكّده الالتزام الإسلامي كما سبقت الإشارة إلى ذلك - إلاّ أن ذلك لا يحتجز الناقد من فكّ ( الوحدة ) أو ( المركب ) وإرجاعه إلى ( الأجزاء ) التي انتظمت فيه، بل يمكن القول إن الفارق بين العمل الفني وبين دراسته هو: قيام العمل الفني على شكل ( تركيبي )، وقيام الدراسة على شكل ( تحليلي )، أي أن تحليل المركبات هو الوظيفة الرئيسية لعملية النقد.

من هنا فإن إكساب المهمة النقدية نفس المهمة الفنية يظل أمراً مضاداً تماماً لطبيعة العمل النقدي.

يترتب على المبدأ المذكور، مبدأ آخر يتمثّل في ذهاب النقّاد الجماليين إلى ضرورة تناول النص من خلال ( الوحدة ) المشار إليها، دون التناول ( الجزئي ) لها. فإذا افترضنا أن القصيدة - مثلاً - تتركّب من ( تخيّل ) و( عاطفة ) و( إيقاع)، حينئذٍ يظل من الممتنع - في نظر الاتجاه الجمالي في النقد - تناول الجزئيات المذكورة منفصلة عن ( الشكل ) الكلّي لها.

هنا نكرّر نفس الكلام السابق من أن وظيفة الناقد هي تفكيك المركّب وتناول جزئياته منفصلة عنه حيناً، أو وصلها - من جديد - بالمركب المذكور، حسب ما يتطلبه الموقف.

٦٢

إن بعض المواقف تتطلّب رصد أفكار جزئية من النص، كما لو حاولنا - على سبيل المثال - أن ننتزع من السورة القرآنية (وهي أساساً تقوم على هيكل عماري محكَم ) العنصر القصصي، أو الصوري أو الإيقاعي أو الفكري ( ظاهرة الجهاد، الإنفاق،.. إلخ )، حينئذٍ فإن التناول الجزئي المذكور قد يفرض ضرورته، كما لو استهدفنا الحديث عن ( الجهاد ) أو (الإنفاق) - مثلاً - حيث تفرض المهمة العبادية على الناقد أن يعنى بهذا الجانب السياسي أو الاقتصادي من النص، لكن دون أن يحتجزه ذلك من التناول الفني للظاهرة كما لو وصل بين إحدى الصور الفنية للإنفاق مثلاً( كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ... ) وبين الأهمية العبادية للإنفاق ذاته، ويكون الناقد - بهذا التناول الجزئي - قد حقّق مهمته العبادية من خلال اللغة الفنية التي توفّر عليها، كما هو الأمر في المثال السابق.

وقد يستدعي الموقف إبراز الظاهرة الإعجازية للقرآن الكريم مثلاً، حينئذٍ بمقدوره أن يتحدّث عن السورة كاملة من حيث كونها عمارة محكمة تتلاحم أجزاؤها بعضا مع الآخر.

إذاً: في الحالات جميعاً، تظل تجزئة النص أو وحدته محكومة بمتطلّبات الموقف ( العبادي ) للناقد، دون أن يترتّب على ذلك أي إخلال بمهمته الفنية أيضاً، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

لغة النقد

والآن، بعد أن ألممنا عابراً بطبيعة النقد وقضاياه، يحسن بنا أن نعرض ل- ( لغة النقد ) من حيث التصور الإسلامي لهذا الجانب.

إن عملية ( النقد ) بنحو عام، وجدت لها نماذج ( شرعية ) لدى المعصومينعليهم‌السلام ، فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة ( ع ) طالما ثمّنوا مواقف الشعراء وأغدقوا عليهم الهدايا ؛ تعبيراً عن ( الحكم ) على نتاجهم، أي الحكم بالجودة على ذلك، ممّا يعين أن نقد النص من خلال إظهار محاسنه ( وهو أحد عناصر التقويم الثلاثة: إظهار المحاسن، إظهار المساوئ، الوقوف عند التحليل والتفسير فحسب ) يظل أمراً مشروعاً، بل يمكن القول بأنه يظل أمراً ( مندوباً )، طالما يقتاد التقويم الايجابي إلى تشجيع الفنان لمواصلة المزيد من وظيفته الإسلامية.

كما أن التقويم السلبي ( أي إظهار المعائب ) وجد له نماذج شرعية أيضاً، حيث إن المعصومينعليهم‌السلام كانوا يقترحون على الشاعر أن يستبدل بيتا بآخر مثلاً، أو يطالبونه بإلقاء الموضوعات الهادفة فحسب، وعدم قراءة مقدمة القصيدة التي تستهل، وفقا للتقاليد الفنية عصرئذٍ، بالغزل ونحوه.

إن أمثلة هذه الاقتراحات تفصح عن أن ملاحظة النص من حيث جوانبه السلبية، يظل أمراً له مشروعيته أيضاً، بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن ملاحظة الجانب السلبي والتنبيه عليه في مطلق السلوك، يظل في الصميم من توصيات المشرّع الإسلامي، الذي يطالبنا جميعاً بنصح الآخرين وتنبيههم على أخطائهم، حيث يدخل ( العمل الفني ) ضمن مفردات ( السلوك ) العام أيضاً.

٦٣

إذاً، لا غبار على عملية النقد أساساً من حيث الحكم على النص بالجودة أو الرداءة، كلّ ما في الأمر أن لغة النقد - كما أشرنا - ينبغي أن تحكمها الموضوعية من جانب، وأن تتسم بالبعد الأخلاقي من جانب آخر. بمعنى أن التعامل بالحسنى ( في حالة النقد السلبي ) يظل غير منفصل عن السلوك العام الذي يطالبنا المشرّع الإسلامي بالصدور عنه.

ولعل التوصيات الإسلامية المطالبة بمفهومات من نحو: ( العدل ) ( قول الحقّ ) ( الإنصاف )... إلخ، ممّا تشكّل جوهر السلوك السوي، تظل منسحبةً على ( العمل النقدي ) أيضاً. بل يمكننا أن نستخلص هذه الحقيقة بوضوح حينما نقف على توصيات خاصة في هذا الميدان، أو حينما نقف على نماذج تطبيقية للمعصومينعليهم‌السلام تكشف عن أهمية ( البعد الموضوعي ) في النقد... من ذلك مثلاً: ما ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنه لو ( احتكم ) طفلان مثلاً إلى أحد الأشخاص حيال أفضلهما خطاً أو كتابة، كان من الضروري على الشخص أن يحكم ب- ( العدل ) حيال هذه القضية.

فإذا كان مجرد الخط أو الكتابة لطفلين، وهو عمل عادى، يتطلّب - في التوصيات الإسلامية - ( موضوعية ) في الحكم، حينئذٍ فإن ( الموضوعية - الحياد ) في إصدار الحكم على العمل الفني، تفرض ضرورتها - دون أدنى شك - على الكاتب الإسلامي.

الاستشهاد بالنموذج المعروف الذي أصدره الإمام عليّعليه‌السلام حيال أحد شعراء الجاهلية، حينما حكم (ع) بجودة نتاجه ( من حيث الأداة الفنية )، مع أنهعليه‌السلام وسم النتاج المذكور، أو وسم صاحبه، بالطابع الانحرافي (الضلال)،... وهو أمر يكشف عن ( الموضوعية ) في أرفع مستوياتها، مما يعني أن الطابع الموضوعي في النقد، يظل في الحالات جميعاً، موضع عناية المشرع الإسلامي.

* * *

هذا كلّه فيما يتصل بالبعد ( الموضوعي ) في النقد.

أما ما يتصل بالبعد ( الأخلاقي ) منه، فإن لغة النقد، وفق التصور الإسلامي لها، ينبغي أن تتسم بنفس لغة التعامل الاجتماعي مع الآخرين، من حيث الالتزام بالآداب العامة من عمليات الإرشاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ حيث لا فارق البتة بين لغة منطوقة ولغة مكتوبة...، بين لغة تتناول السلوك الفردي والاجتماعي ولغة تتناول السلوك الفني.

إن كلاًّ من عمليتي ( التجريح ) و( الفضح ) اللذين نألفهما في النقد الأرضي، ينبغي أن يتنزّه الناقد الإسلامي عنهما.

صحيح أن إبراز المساوئ الفنية في النص تفضي إلى عملية ( فضح ) لصاحب النص، إلا أن هذا الأخير ينبغي أن يتقبّل ذلك برحابة صدر مادام النص الأدبي ملكا للآخرين وليس لكاتبه فحسب، وهو ما يفترق تماماً عن السلوك الشخصي فيما يتعين إرشاد الشخص مباشرة دون فضحه أمام الآخرين... وهذا يعني أن هناك فارقاً بين نقد السلوك الفردي وبين نقد نتاجه الفني، وهو أمر

٦٤

يتعيّن التشدد عليه في هذا الجانب. كما يترتب عليه جانب آخر يظل في غاية الأهمية بالنسبة للناقد الإسلامي... إننا نعرف - مثلاً - أن هناك اتجاهاً نفسياً في النقد ( حيث سنتحدّث عنه في حقل لاحق ) يحاول ربط النص الأدبي بنفسية كاتبه، حيث يُلاحظ أن روّاد هذا الاتجاه يجنحون في الغالب إلى ( فضح ) كاتب النص وإخضاع شخصيته للتحليل النفسي، وهو تحليل يُعنى بإبراز السمات الشاذة للكاتب.

إن الشاعر أو القاص مثلاً يظل - مثل سائر النماذج البشرية - محكوماً بعقده المختلفة، وإفرازاتها المتمثلة في سمات من نحو: الإحساس بالنقص أو العظمة الموهومة أو المخاوف أو الوساوس، بما يستتبعها من الصدور عن ( آليات ) مختلفة، مثل: الإسقاط، النكوص، التسويغ... إلخ. فإذا اتجه الناقد إلى إبراز هذه السمات، حينئذٍ تظل هذه العملية بمثابة ( تشهير ) و( فضح ) للقاص أو الشاعر، يتنافى أساساً مع ( أخلاقية ) الشخصية المسلمة.

إن الناقد نفسه من الممكن أن تطبعه نفس السمات المرضية التي خلعها على كاتب النص، بل إن ( التشهير ) نفسه يجسد ( نزعة عدوانية ) تفصح عن شذوذ صاحبه،... وحينئذٍ ما فائدة أن يشخّص الناقد ( حالة مرضية ) تطبع شخصه بمثل ما تطبع شخصية كاتب النص... إن أمثلة هذا النقد دفعت الكثير من روّاده إلى الوقوع في أحكام لا تقف عند مجرد التشهير أو الفضح لعيوب خفية، بل تجاوزت ذلك إلى محاولة ( افتعال ) التهم وإلصاقها بكاتب النص، من نحو ما نلحظه من تفسيرات تتحدث عن شعراء وقصَّصين أخضعوا نتاجهم لتقاليد فنية لا علاقة لها بسلوكهم الشخصي، أو لوحظ أنهم - في السلوك الشخصي - قد طبعهم بعض الشذوذ، فالتمسوا لنتاجهم تفسيرات متعسّفة في ضوء وقوفهم على الشذوذ المذكور. فضلاً عن محاولتهم تفسير ما هو إيجابي عند بعض الفنانين - كما لو كانوا إسلاميين أو زهّاداً مثلاً - بأنه عملية ( تعويض ) لفشل، أو ( قناع ) لنزعة عدوانية، أو ( تصعيد ) لرغبة جنسية... إلخ.

أمثلة هذا النقد تظل غير متوافقة أساساً مع الاتجاه الإسلامي الذي لا يصدر ( الحكم ) إلاّ بعد اليقين بوجود الصلة بين نتاج الكاتب وشخصيته، وحتى بعد يقينه بذلك، لا يحقّ له - كما قلنا - فضح الشخصية، بل يجب أن يتستر عليها كما هو صريح التوصيات الإسلامية المطالبة بذلك، وبعدم الجهر بالسوء مادام الأمر غير مرتبط بالجانب الفنّي من النتاج، بل بالجانب الشخصي الصرف.

لكن تستثنى من ذلك - بطبيعة الحال - النماذج المنحرفة التي تجهر بممارسة الرذيلة، أو النماذج المنحرفة التي ( تتقنّع ) بما هو ايجابي من السلوك بغية تمرير نزعتها الشريرة على الآخرين، حيث يتطلّب مثل هذا الموقف عملية فضح وإدانة للنماذج المشار إليها.

٦٥

النقد واتجاهاته

بعد أن وقفنا على طبيعة النقد الفني ولغته، يحسن بنا أن نقف على تياراته أو اتجاهاته الأرضية، لملاحظة الموقف الإسلامي منها.

لا شك أن الناقد - أيَّاً كان اتجاهه - يتوسّل عبر تقويمه للنصوص بالأداة الرئيسة للفن. فإذا كان في صدد دراسة القصيدة الفنية التي تنتظم هذا الشكل الأدبي أو ذاك، فللقصيدة مثلاً لغتها الخاصة، وعناصرها التخيلية والعاطفية، وللمسرحية: لغتها وشكلها وبناؤها الخاص... وهكذا.

والأصل في الممارسة النقدية أن يعتمد الباحث الأداة الفنية الخاصة بذلك النص الذي يعتزم دراسته، بَيْد أن النص - في الآن ذاته - يرتبط بمقومات اجتماعية أو دلالات نفسية أو دلالات فكرية، مما يفرض على الناقد لقاء الإنارات المذكورة عليه، فيتجه إلى ( خارجه ) أيضاً، وهو أمر يجعل عملية ( النقد ) مقترنة بمبادئ أخرى قد يتفاوت الباحثون حيالها، بخاصة أن ذلك يظل خاضعاً لنسبية هذه الإنارة الخارجية، كما يخضع لوجهة النظر العقائدية للناقد. كلّ أولئك يقتادنا إلى عرض المبادئ ( الخارجة ) عن النص، وملاحظة التيارات أو الاتجاهات النقدية في هذا الصدد، ثم عرض التصور الإسلامي لهذا الجانب.

ونبدأ - أولاً - ب-:

الاتجاه العقائدي:

يقصد ب- ( الاتجاه العقائدي أو الأيدلوجي): دراسة النص في ضوء الموقف الفلسفي الذي يصدر الكاتب عنه. والملاحظ أن الكتّاب - قديماً وحديثاً - أثاروا هذه الظاهرة في حقل الدراسات العلمية، حيث انشطروا حيال ذلك إلى اتجاه رافض لإقحام ( الموقف الفلسفي ) في دراسة النص، واتجاه ملتزم بأهمية مثل هذا الإقحام.

أما إسلامياً، فإننا في غنى عن أثاره هذه الظاهرة ؛ مادمنا مقتنعين تماماً أن الشخصية الإسلامية ( موظّفة ) أساساً في كلّ تصرفاتها، بما في ذلك السلوك العلمي.

٦٦

الشخصية الإسلامية مدركة تماماً بأن ( السماء ) أبدعتنا لهدف خاص هو ( الخلافة في الأرض )، بمعنى أننا نمارس هذا السلوك أو ذاك، تبعاً لإحساسنا بمسئولية ( الخلافة )، بما في ذلك السلوك الحيوي الذي لا مناص من إشباعه، مثل: الطعام والنوم ونحوهما. وقد وردت التوصيات الإسلامية بضرورة أن تضع الشخصية الإسلامية في اعتبارها ( هدفاً ) عبادياً بالنسبة لكل تصرف يصدر عنها بما في ذلك الأكل والنوم، مطالبة إيانا أن تكون لنا ( نية ) حيالهما، وحيال سائر أنماط سلوكنا.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن السلوك العلمي يجيء في مقدمة الوظائف الخلافية التي أوكلتها ( السماء ) إلينا، مما يعني أن ( المنهج العقائدي ) في دراسة النصوص، يظل ( هدفاً أوحد ) بالنسبة للباحث ؛ إذ بدون وضع الهدف المذكور في حسبانها، يظل البحث عقيماً لا جدوى فيه، وهو أمر تطالبنا السماء بالتنزّه عنه.

لذلك، لا نجد أي معنى لطرح التساؤلات عن مشروعية دراسة النص في ضوء ( العقيدة ) أو عدمها، مادام هدفنا أساساً هو ( العقيدة ) ذاتها، من حيث إشاعتها في النفوس ونشرها بين الجمهور.

بَيْد أن الباحث الإسلامي عبر ممارسته لهذه المهمة ( العقائدية )، ينبغي - كما أشرنا سابقاً - ألاَّ يغيب عن ذهنه بأن البحث العلمي لابد أن يتسم بطابع ( الموضوعية ) أو ( الحياء ) من حيث دراسته للظواهر التي يتناولها، ليس بمعنى عدم تصوير ( هدفه العقائدي )، بل بمعنى أن الدراسة ينبغي ألاّ تتأثر ( عاطفياً ) بالموقف الفلسفي، بحيث يخرجها من دائرة المعالجة الموضوعية، بل تتناول النص بروح خالية من آثار العاطفة وانفعالاتها، ملتزمة بالحياد العلمي، مجادلة بالتي هي أحسن.

بكلمة جديدة: الكاتب الإسلامي مدعو إلى أن يدرس الموضوع بشكل ( محايد ) أولاً، ثم يتجه إلى تقويمه ( عقائدياً ). فإذا افترضنا أن الكاتب كان في صدد دراسة قصيدة مثلاً، حينئذٍ يتعيّن عليه أن يعالج القصيدة المذكورة من حيث قيمتها الفنية، بما تنطوي عليه من صياغة الصورة والإيقاع واللغة ونحوها، ثم يتّجه إلى تقويها ( عقائدياً ). فإذا كانت القصيدة - على سبيل المثال - رديئة الصياغة، بالرغم من كونها ( إسلامية ) المنحى، ينبغي ألاّ يتعصّب لها فيحكم بجودتها ( فنياً ) مع أنها رديئة، بل يتعيّن عليه أن يقر بكونها غير جيدة، من الزاوية الفنية.

بالمقابل، ينبغي على الباحث أيضاً إذا كان في صدد دراسة إحدى القصائد ( غير الإسلامية ) مثلاً، ألاَّ يتعصب ضدها من الزاوية الفنية، إذا كانت مستجمعة لشروط ( الفن )، بل يقوّمها بنحو ( موضوعي )، ثم يتجه إلى إسقاط قيمتها ( عقائدياً ). وهذا ما نلحظه لدى أئمة أهل البيت ( ع ) فيما كانوا يصدرون في أحكامهم عن هذا التناول الموضوعي للظواهر، حيث يطالبون الشاعر ( العقائدي ) مثلاً، بإسقاط أو تعديل العبارة أو البيت الشعري ( من الزاوية الفنية )، كما يقرّون الشاعر ( غير العقائدي ) بجودته فنياً، إلاّ أنهم يحكمون بضلالة أفكاره.

٦٧

إذن، ليس ثَمَّة منافاة البتة بين أن يجمع الباحث بين ( الحياد ) العلمي وبين معالجته للنص ( من الزاوية العقائدية )، بل يتعيّن عليه أن يتوفّر على مثل هذا المنهج الذي يزاوج بين الحياد العلمي والالتزام العقائدي، مادام عدم التحامهما يفضى إما إلى الوقوع في هاوية ( العبث )، في حالة معالجته للنص ( فنياً ) فحسب، دون إقحام البُعد العقائدي فيه، وهذا ما يتنافي أساساً مع وظيفته العبادية الهادفة. وإما أن يقع في تشويه الحقائق وتحريفها، في حالة عدم تقويمه للنص فنياً.

طبيعياً، ينبغي أن يضع الكاتب الإسلامي في حسبانه بأن دراسة النص أو الموضوع غير المتسم بطابع إسلامي يظل عملاً عابثاً، بل محظوراً من الزاوية العبادية، إلاَّ في حالة اعتزامه الرد عليه وتبيين انحرافاته. ولذلك لا يرد على الكاتب الإسلامي ما يورد اعتيادياً على الباحثين غير الإسلاميين أو غير الملتزمين، طالما يتنزه الباحث الإسلامي عن دراسة النصوص المنحرفة فكرياً، ولا يجد ثَمَّة حاجة إلى تناولها إلاّ في حالة الرد عليها، كما أشرنا، نظراً إلى أن ممارساته ( ومنها الممارسة العلمية ) تتسم بكونها ( هادفة ) لا مجال للعبث فيها.

نخلص من ذلك إلى أن ( المنهج الأيدلوجي ) يظل بالنسبة إلى الباحث الإسلامي هدفاً رئيسياً في ممارسته العلمية، أي أن هدفه أساساً هو ( المنهج الأيدلوجي ). وأما سائر المناهج ( الفنية والنفسية والتاريخية )، فتجيء ( موظَّفة ) لإنارة ( عقائده )، أي تجيء ثانوية الأهمية بالقياس إلى أهمية ( المنهج العقائدي ) ؛ لبداهة أن أية ممارسة علمية ينبغي أن ( توظَّف ) من أجل ( العقيدة ).

٦٨

الاتجاه الجمالي:

يقصد ب- ( الاتجاه الجمالي ) في النقد: دراسة النص في ضوء المبادئ الفنية له، دون تسليط أي ضوء خارجي عليه. بمعنى أن الناقد إذا كان في صدد دراسة القصيدة أو القصة مثلاً، حينئذ فإن دراسته تنحصر في معالجتهما من حيث عناصر النص وأدواته ولغته، مثل: الإيقاع، الصورة، الحوار، السرد... إلخ.

وهذا الاتجاه قد تفرضه سياقات خاصة من التناول، كما لو افترضنا أن ناقداً كان في صدد دراسة البناء الفني للسورة القرآنية، من حيث كونها ذات موضوعات يرتبط أحدها مع الآخر بسببية محكمة، وتتنامى أجزاؤها وفق تماسك عضوي، بحيث تبدأ السورة بموضوع، وتتدرّج إلى آخر، وتنتهي إلى الخاتمة، وفق ترتيب منطقي ( زمني أو نفسي ). بَيْد أن كثيراً من النصوص تتطلب الاستعانة بضروب أخرى من المعرفة ( التاريخية ) أو ( النفسية ) مثلاً، وحينئذٍ فإن التوسّل بالمعرفة المذكورة يظل أمراً لا مناص منه.

ومن الممكن أن يثير بعض المعنيين بشئون الدراسات الفنية تشكيكاً بقيمة الدراسات التي تتجاوز نطاق المنهج الفني إلى ( المعرفة ) الخارجة عنه، مدّعين في ذلك أن إخضاع الدراسة إلى المعرفة الخارجية يحوّلها من نطاق الدراسة الفنية إلى دراسة تاريخية أو نفسية أو علمية بعامة، مما يفقدها السمة الأصلية لها، وهو الفنّ أو الأدب.

لكن، من الممكن أن نجيب أمثلة هؤلاء الباحثين، بأن الفارق بين الأدب والفن وبين دراستهما، لابد أن يؤخذ أولاً بنظر الاعتبار من حيث كونهما - أي الأدب والفن - عملاً إنشائياً أو إبداعياً، ومن حيث كون ( البحث العلمي ) عملاً وصفياً يستهدف تحليل النص وتفسيره وتقويمه، مما يتطلّب معالجته في ضوء المعلومات التاريخية التي ولد النص في نطاقها، وفي ضوء المعلومات النفسية التي تُسعِف القاري - فضلاً عن الباحث - في فهم أسرار العمل الفني أو الأدبي. فنحن لا يمكننا تقويم النص من خلال مجرد تحليل الصورة الفنية - كالتشبيه مثلاً - ما لم نُخضِع الدراسة للمعرفة النفسية التي تُلقي الضوء على أسرار ( التشبيه ) الجيد وفرزه عن التشبيه الرديء.

إن عملية ( الإبداع الفني ) ذاتها، تعد في الصميم من مهمات العالم النفسي، كما أن عملية ( التوصيل الفني ) تعد في الصميم أيضاً من وظائف العالم المذكور، من حيث دراسة ( الاستجابة )

٦٩

البشرية وطرائقها في هذا الصدد.

والأمر ذاته يمكننا أن نلحظه في سائر الموضوعات أو النصوص التي نتناولها بالدراسة... سواء أكانت أدباً أم تاريخاً أم اجتماعاً أم اقتصاداً أم تشريعاً أم سياسة... إلخ... طالما نعرف بأن ( العلوم ) ( إنسانية ) كانت أم ( بحتة )، تتداخل فيما بينها بشكل أو بآخر، مما تستلي بالضرورة تسليط أحدها على الآخر، ولكن وفق ( نسبية ) محدّدة وليس بالنحو المطلق.

فضلاً عن ذلك، فإن كلاًّ من المعرفة ( التاريخية والنفسية ) تكاد تنفرد عن سواها من ضروب المعرفة الأخرى، بكونها تشكل ( أداة ) لا مناص من استخدامها في أية دراسة علمية، إنسانية كانت أم بحتة، طالما ندرك بأن كل ( معرفة ) لابد أن تولّد وتنمو وتتطوّر في ( إطار تاريخي ) لها، كما أنها لابد أن تفسر في ( إطار نفسي ) لها، إذ لا يمكن أن يحيا الشيء خارجاً من ( الزمن ) - ونعني به التاريخ - ولا يمكن أن تتمثّله البشرية خارجاً عن ( استجابة النفس ) له.

إذن: ما يطلق عليه مصطلح ( المنهج الموضوعي ) لا يتاح للناقد الأدبي أن يقتصر عليه إلاَّ في نطاق ضئيل بنحو ما سبقت الإشارة إليه. وخارجاً عن ذلك، فإن الضرورة العلمية تفرض على الباحث بتجاوزه إلى تخوم المعرفة التاريخية والنفسية، وسواهما من أدوات البحث العلمي، شريطة أن يتم في سياقات خاصة تظل بمثابة ( إنارة ) لا أكثر... وإلاّ فإن البحث لو تجاوز دائرة ( الإنارة )، فَقَد أصالته العلمية... كما أنه يفتقد أصالته في حالة جمود الباحث على ( المنهج الفني أو الموضوعي) دون توشيحه بالإنارة المشار إليها.

٧٠

الاتجاه الاجتماعي:

هذا الاتجاه، يحاول دراسة النص الفني في ضوء الظروف الاجتماعية التي ولد النص فيها، بصفة أن النص ظاهرة اجتماعية لها أسسها ومكوّناتها وصلاتها بمختلف الصُّعد التي تفرزها.

إن القصيدة أو القصة أو الخطبة، مجموعة من أفكار وأشخاص ومواقف وأحداث في ( بيئة ) معينة، تتميّز من مكانٍ لآخر وزمانٍ لآخر، ولكل منهما طابع يختلف بالضرورة عن سواه، حينئذٍ فإن سلخ النص من دائرته الاجتماعية يجعل عملية ( التقويم الفني ) بتراء، لا تحقق الفائدة المستهدفة في النصّ.

وبعامة يمكن للناقد الأدبي أن يتوكأ على البعد الاجتماعي في دراسته للنص وفق مستويات متنوعة، منها: استثمار البعد الاجتماعي فكرياً، بمعنى أن الناقد حينما يتناول نصاً فنياً قديماً - على سبيل المثال - فإن الضرورة تفرض عليه أن يعتمد البعد الاجتماعي بمستويين من التناول:

أولاً : وضع النص في بيئته الاجتماعية التي عكست تأثيرها عليه، كما لو افترضنا أننا حيال ( خطبة ) سياسية، حيث يتطلّب الموقف عرض المناخ السياسي عصرئذٍ بما يواكب ذلك من ظواهر اجتماعية مرتبطة بالمناخ المذكور.

ثانياً : محاولة ربط الأفكار التي انتظمت الخطبة، بالواقع الاجتماعي الحديث الذي يحياه الناقد ؛ بصفة أن الكاتب الملتزم لا يمارس نشاطه النقدي المتمثّل في ( نصٍ قديمٍ ) لمجرد تزجية الوقت أو الإمتاع الفنّي، بل يختار النشاط النقدي وظيفة عبادية له. فإذا كانت دراسته للخطبة المذكورة تمثِّل فترة ( زمنية ) مندثرة، لا صلة لها بالواقع المعاصر، حينئذٍ يكون الناقد الإسلامي قد تخلّى عن مهمته العبادية. ولكنه حينما يصل بين دراسة الخطبة المشار إليها وبين واقعه الاجتماعي، مستثمراً ذلك لتوجيه مجتمعه وإصلاحه، يكون حينئذٍ قد أدّى مهمّته العبادية.

أما ما يتصل بدراسة النص من حيث صلته بالبيئة الاجتماعية التي نشأ فيها، فضرورة ذلك من الوضوح بمكان، مادامت الدلالة الفكرية التي يستهدفها الناقد الإسلامي تتطلب الوقوف على طبيعة الظواهر السياسية التي عالجتها الخطبة، حتى يمكن الإفادة من ذلك ( إيجاباً أو سلباً ) في

٧١

تعديل السلوك.

طبيعياً، الإفادة المذكورة تحقَّق - بطريق أولى - حينما يدرس الناقد الإسلامي نصاً معاصراً خلال طرحه في البيئة الاجتماعية التي أفرزته.

المهم، أن وضع النص في إطاره الاجتماعي أو التاريخي، يتمّ من خلال مستويات متنوعة - كما قلنا. فإذا تجاوزنا قضية استثمار البعد الاجتماعي وتوظيفه عبادياً، أمكننا أن نقرّر بأن ذلك يتطلّب التوفّر على مختلف المستويات الاجتماعية بالقدر الذي تستلزمه، وهو أمر يستتلي:

١ - تحقيق النص من حيث تصحيح نسبته إلى قائله، ومن حيث سلامته من التحريف أو الخطأ ونحوهما.

إن انتحال النص أو تحريف بعض فقراته، أو زيادته أو نقصانه.. يستتلي الوقوع في عملية ( تشويه ) للحقيقة، وهو أمر يتنافى مع الأمانة التي تطبع الشخصية الإسلامية.

٢ - وضع النص في جميع الأطر التي يشّع بها: ثقافياً، سياسياً، اقتصادياً، وجغرافياً... إلخ ؛ بصفة أن إهمال بعض الجوانب يدع الدراسة بتراء، حيث ينعكس ذلك على طبيعة التفسير الذي يستخلصه الناقد.

٣ - عرض النص على البيئة الاجتماعية، وعرضها عليه أيضاً حتى يضاء أحدهما بالآخر ؛ استكمالاً لصحة التفسير الذي يقدّمه الناقد الأدبي.

هذا فيما يتصل بالتفسير الاجتماعي.

أما ما يتصل بالتفسير الفنّي، فينبغي إخضاع النص ل- ( النسبية ) في التقويم ؛ بصفة أننا لا يمكننا أن نطالب الشاعر الذي يكتب القصيدة قبل ألف عام مثلاً، أو في حقبة تاريخية سابقة لعصرنا الحديث: لا يمكننا أن نطالبه بتصوراتنا الفنية المعاصرة، بل نتعامل مع النص بأدواته ومبادئه التي خبرها مجتمعُه. لكن لا يعني هذا أن يتخلّى الناقد عن معاييره الفنية الحديثة، وإلاَّ انتفت الحاجة إلى النقد أساساً، وأصبحت الدراسة مكرورة، تتحدّث بنفس المستوى الذي تحدّثت عنه دراسات متزامنة لعصر الشاعر، بل لا مناص للناقد من أن يستخدم المعايير الحديثة أيضاً، لكن من خلال اكتشافه للقيم الفنية والفكرية التي عجز القدماء من النقاد عن اكتشافها بحكم القصور الثقافي لديهم.

٤ - ( مقارنة ) النص المدروس مع نصوص أخرى سابقة أو متزامنة أو لاحقة عليه.

إن ( المقارنة ) بين النصوص المختلفة التي تحوم على ( الموضوع ) الذي نعتزم دراسته، من أهم عناصر البحث التاريخي ؛ بصفة أن مقارنة الشيء بما يماثله من جانب، وبما يضاده من جانب آخر، إنما تساهم في بلورة الموضوع وإنارة جوانبه بنحو تام. فعن طريق ( التماثل ) أو ( التشابه ) بين الأشياء، يمكننا أن نرصد الظواهر المشتركة بين ( موضوع ) الدراسة والموضوعات الأخرى، كما يمكننا عن طريق ( التضاد ) رصد الظواهر غير المشتركة فيها، طالما نعرف أن كثيراً من الموضوعات لا تبرز قيمتها إلاَّ

٧٢

من خلال ( الضد ) لها.

فلو أردنا أن نتناول إحدى قصص القرآن الكريم مثلاً، ولتكن قصة ( أهل الكهف ) ؛ لملاحظة قيمتها الفكرية والفنية، للاحظنا أن مقارنتها بالقصص التي ( تماثلها ) وبالقصص التي ( تضادها )، سوف تساهم بتجلية المزيد من قيمتها. فمثلاً هناك في سورة الكهف أكثر من قصة تنتظم السورة المذكورة، منها: قصة صاحب الجنَّتين، وقصة ذي القرنين... القصة الأولى تتحدّث عن مُزارع يمتلك مزرعتين معيَّنتين، إلاَّ أن صاحبها لم يتسم بطابع الشخصية الواعية لمبادئ الإيمان، فنجدها قد ركبت رأسها، وخيَّل إليها أن المزرعتين سوف تحتفظان بحيويتهما ولن تبيدا أبداً، حتى حملها هذا الغرور على أن تشرك بالله.

بينا نجد أن القصة الأخرى ( قصة ذي القرنين ) تتحدّث عن بطلٍ مَلَكَ مشرق الدنيا ومغربها ( لا أنه مَلَكَ مجرد مزرعتين صغيرتين ) لكنه لم يحتجزه هذا المُلك عن السلوك العبادي المفترض عليه بقدر ما عمّق يقينه بالله، على العكس تماماً من صاحب الجنتين الذي ساقه مجرد الإشباع الضئيل إلى أن يستجيب حيال الله استجابة مرضية.

والآن، حينما نقوم بعملية ( مقارنة ) بين قصة أهل ( الكهف ) وبين هاتين القصتين، نجد أن ( المقارنة ) ستساهم بتجلية القصة الأولى وتعميق مفهومها للقارئ:

مثلاً أبطال الكهف يشكّلون نموذجاً للشخصية التي نبذت زينة الحياة الدنيا، بحيث تركوا كل أنماط المتاع الدنيوي واتجهوا إلى الله، من خلال اللجوء إلى أشد المواقع بعداً عن الحياة، وهو ( الكهف )، حيث هتفوا قائلين:( رَبّنَا آتِنَا مِن لّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً ) . لكننا حينما نقارن هؤلاء الأبطال - من خلال ( الضد ) - بصاحب الجنتين، نجد أن هذا الأخير يمارس سلوكاً مضاداً لأبطال الكهف، فإذا به يهتف:( مَا أَظُنّ أَن تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنّ السّاعَةَ قَائِمَةً ) أي أنه بدلاً من أن يتجه إلى الله كما فعل أصحاب الكهف، اتجه بدلاً من ذلك إلى ( الشيطان )، تشبثاً بزينة الحياة الدنيا، بينما نبذ أصحاب الكهف الزينة المذكورة كما لحظنا.

وأما لو قمنا بعملية ( المقارنة ) من خلال ( التماثل )، فحينئذٍ يمكننا أن نوازن بين أبطال الكهف وبين ذي القرنين، في تماثلهما من حيث الوعي العبادي. فهذا الأخير بعد أن هيمن على مشرق الأرض ومغربها، هتف قائلاً:( هذَا رَحْمَةٌ مِن رّبّي ) ، وأبطال الكهف حينما قرّروا اللجوء إلى الكهف هتفوا:( رَبّنَا آتِنَا مِن لّدُنكَ رَحْمَةً ) أي أن كليهما تعامل مع ( رحمة ) الله: ذلك من خلال التقرير، وهؤلاء من خلال الطلب.

إذن: حينما يتجه الدارس إلى عنصر ( المقارنة )، فيتوكّأ على الظواهر ( المتماثلة ) أو ( المتخالفة ) مع موضوع بحثه، إنما يسعف القارئ على تعميق إدراكه للموضوع، بالنحو الذي لحظناه في نموذج ( المقارنة ) القصصية.

والمقارنة يمكننا أن نتصورها على جملة أنحاء ، منها:

١ - المقارنة الموضعية.

٧٣

٢ - المقارنة الشاملة.

٣ - الدراسة المقارنة المستقلة.

ويقصد بالأولى: المقارنة الجزئية التي تحوم على النص وعلاقته بالنصوص الأخرى لموضوع محدد، كما لو قارنا بين ديوان أحد الشعراء مثلاً بدواوينه الأخرى.

وأما المقارنة الشاملة، فتجاوز ذلك إلى الشعراء الآخرين، سواء أكانوا معاصرين للشاعر أم سابقين عليه أم لاحقين له.

وأما ( البحث المقارن ) فيشكل موضوعا نقديا مستقلا بذاته وليس عنصرا من عناصر النقد، وهذا من نحو ما إذا افترضتنا مثلاً قيام أحد النقاد بدراسة مقارنة بين الشعراء الإسلاميين في صدر الرسالة وبين الشعراء الإسلاميين المعاصرين... والفارق بين هذا النمط الأخير من المقارنة وبين النمطين الأولين - كما أشرنا - هو أن المقارنة فيهما تشكل واحدا من عناصر العمل النقدي، وأما النمط الثالث فيشكل موضوعا مستقلا...

إن ما نستهدف التشدد عليه هو: أن ( المقارنة ) بأنماطها التي عرضنا لها تشكل واحدا من عناصر النقد التاريخي أو الاجتماعي: له أهميته الكبيرة في ميدان التقويم للنص من خلال عرضه على البيئات الفنية المختلفة، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

٧٤

الاتجاه النفسي:

يقصد ب- ( الاتجاه النفسي): الطريقة التي يستخدمها الباحث في دراسته لأحد الموضوعات في ضوء الظواهر النفسية له، أي: إخضاع البحث للتفسير النفسي، متمثِّلاً في الركون إلى مختلف المبادئ التي يطرحها ( علم النفس ) في هذا الميدان.

وإذا أدركنا أن ( علم النفس ) يعنى بدراسة السلوك الإنساني من حيث ( استجاباته ) حيال ( المثيرات ) المختلفة التي يواجهها الشخص، أدركنا حينئذٍ أهمية هذا الضرب من المعرفة من حيث انعكاساته على النص المدروس.

ولعل أهم ما يميّز البحوث المعاصرة هو: توسّلها بهذا الفرع من ( المعرفة ) التي وجدت طريقها إلى الظهور مع إطلالة القرن الحديث. طبيعياً، لا يعنينا أن هذا النمط من المعرفة مصحوب - مثل سائر الضروب المعرفة الإنسانية المنعزلة عن مبادئ السماء - بمفارقات علمية لا يمكن الركون إليها في تفسير الظواهر، إلاَّ أن ذلك لا يحتجز الباحث الإسلامي من الإفادة منه واستثمار الكثير من معطياته العلمية التي واكبها جانب من الصواب دون أدنى شك.

المهم، أن الكاتب الإسلامي - في ضوء وعيه العبادي - يمكنه أن يفرز بوضوح بين ما يمكن أن يفيد منه في دراساته العلمية ونبذ ما سواه... والمهم أيضاً أن يكون توسله بهذا الضرب من المعرفة، مفضياً إلى إلقاء مزيد من الإنارة على النص، واكتشاف مختلف دلالاته التي تظل غائمة - دون أدنى شك - لو اقتصر الباحث على البعد الفني والتاريخي لها فحسب... فلو افترضنا أن الباحث الإسلامي قد اعتزم أن يدرس ظاهرة ( الغناء ) ومعرفة الأسباب الكامنة - بعضاً أو كلاًّ - وراء حظر الشريعة الإسلامية لهذا النمط من الظواهر، حينئذٍ يمكنه أن يقصر بحثه على الدلالة الفقهية لها - أي يحصر البحث في صعيد المبادئ الفنية للموضوع -، كما لو استدل على ذلك بمجموعة من الروايات الحاكمة بتحريم ( الغناء)... كما يمكنه - مثلاً - أن يتجاوز ذلك إلى ( المنهج التاريخي ) فيعرض لظاهرة ( الغناء ) من حيث المناخ الاجتماعي الذي ألِفَ هذه الظاهرة، واقترانها بمجالس الشرب أو الاختلاط بين الجنسين ونحوهما. ثم تطوّر ذلك

٧٥

من خلال تأثره بالتيارات الوافدة عصرئذٍ - أي القرنين الأولين من بزوغ الإسلام - وانعكاساتها على المجتمع المذكور، وصلة ذلك بنمط من الأشكال الصوتية التي لم يرد نهي إسلامي عنها أو ندب إليها مثل... الحدر والترتيل وسواهما.

أقول: من الممكن أن يقتصر الباحث في دراسته المذكورة على استخلاص الحكم الشرعي لظاهرة ( الغناء)، ويمكنه أيضاً أن يتوسّل بالبعد التاريخي له، فيقدّم حينئذٍ مزيداً من الإنارة على الموضوع. ولكن لو اتجه الباحث بعدئذٍ إلى ( المعرفة النفسية)، لأمكنه أن يلقي الأضواء الكاملة على الظاهرة، معمِّقاً بذلك إدراك القارئ لأهمية التحريم الإسلامي ( الغناء).

فمثلاً يمكنه أن يوضح طبيعة البناء العصبي للشخصية، وصلة ذلك باستجابتها حيال ( المنبِّهات ) الصوتية التي تنتظم في طبقات مركبة من هذا الإيقاع أو ذلك. كما يمكنه أن يستعين بالدراسات التجريبية التي انتهت إلى تحديد صلة ( الغناء ) أو ( الموسيقي ) بعامة بجملة من الأمراض النفسية والعقلية والجسمية مثلاً. وحينئذٍ ستتَّسم دراسته بمزيد من الأهمية التي لا يمكن الظفر بها لو كان الباحث مقتصراً في دراسته للغناء على مجرد البعد الموضوعي والتاريخي له.

والامر ذاته فيما يتصل بظاهرة القمار مثلاً، حيث يمكن للباحث أن يستعين ب- ( المعرفة النفسية ) لتفسير سلوك ( المقامر )، من حيث كونه شخصية شاذة منحرفة، عدوانية متصارعة، متمزِّقة متوترة... إلخ.

إذن: الاستعانة بالمعرفة النفسية تظل أشد الأبعاد أهمية في إنارة الموضوع وتعميق دلالاته المختلفة... فضلاً عما تنطوى عليه من إثارة وتشويق يسهمان في دفع القارئ إلى متابعة الموضوع وتمثُّله.

ويمكننا أن نفيد من البُعد النفسي في جملة من الميادين ، منها:

١ - دراسة الموضوع - أو النص - في ضوء صلته بكاتبه . ويقصد بذلك: أن الناقد الأدبي يتعيّن عليه - في سياقات خاصة - أن يربط بين النص المدروس وسلوك كاتبه، من حيث انعكاسات سلوكه على النص، حتى تتضح دلالاته بنحو أشد عمقاً في هذا الصدد.

بَيْد أن أمثلة هذا الاستعانة بالبعد النفسي تنطوى على مزالق كثيرة ينبغي أن يظل الباحث على حذر شديد منها، بخاصة إذا عرفنا - أولاً - أن النصوص لا تعدّ في الحالات جميعاً ( وثيقة ) مفصِحة عن نفسية كاتبها، بقدر ما تعد عملاً (موضوعياً) ينفصم فيه الشخص عن نتاجه الفنّي. فقد نقرأ قصيدة - مثلاً - تتحدّث عن ( الشجاعة ) إلاَّ أن صاحبها موسوم بالجبن، وقد يتحدّث ( الخطيب ) عن أهمية الصدق إلاَّ أنه يمارس ( الكذب)... إلخ، مما يعني أن الباحث ليس بمقدوره أن يستخلص عن النص المدروس حقيقة السلوك الذي يصدر عن كاتبه، مادام النص غير مفصح بالضرورة عن كونه وثيقة عن نفسية صاحبه.

أما المفارقة الأخرى التي تترتّب على ربط الصلة بين النص وسلوك كاتبه، فتتمثّل في صعوبة

٧٦

تشخيص الدلالة النفسية ذاتها... فمثلاً إذا افترضنا أن أحد الأشخاص كان معتزماً لأن يكتب أو يتلفّظ بعبارة ( العلماء )، فكتبها أو تلفّظ بها بعبارة ( العملاء )، حينئذٍ لا يمكننا أن نرتّب أثراً نفسياً على هذه العبارة من النص المدروس، مادمنا غير واثقين بأن العبارة المذكورة قد عبّرت بالفعل عن ( سلوك لاشعوري ) حيال العلماء. من الممكن أن يكون صاحب النص ذا تركيب نفسي شاذ بالنسبة لنظرته عن ( العلماء )، بحيث قفزت عن لاشعوره، العبارة التي تختزنه أعماقه بالفعل، ونعني بها ( العملاء)، إلاَّ أن اليقين بذلك أمر لا سبيل إليه ؛ نظراً لتماثل مخارج الأصوات في العبارتين المذكورتين، بحيث نتوقّع أن يكون الخطأ المذكور ناجماً من الحقيقة الصوتية المذكورة وليس من اللاشعور.

إذن، وصل النص بنفسية كاتبه لا يعد من الحالات جميعاً عملاً ذا قيمة، مادمنا نعرف أن تشخيص ذلك لا يتم بسهولة، بل لابد من أن يمتلك الباحث مقدرة علمية متنوّعة، تتصل ليس بثقافته النفسية فحسب، بل بسائر أدوات الفن التي انطوى عليها النص المدروس.

هذا، إلى أن الباحث الإسلامي حينما يتوسل بالأداة ( النفسية ) في دراسة النص، يضع في اعتباره جانباً من الأهمية بمكان كبير، هو: أن كثيراً من النصوص لا يمكن البتة دراستها في ضوء الصلة بمبدعها، وهذا من نحو دراسته للنصوص القرآنية الكريمة مثلاً، أو دراسته للنصوص الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ؛ نظر لتنزّه الله تعالى عن ذلك، وعصمة أهل البيت عن الخطأ وسائر الفعاليات التي تصدر عن البشر العادي.

إنه من الممكن - فيما يتصل بالنصوص الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام - أن يصل الباحث بينها وبين نفسيتهمعليه‌السلام من حيث استخلاص السلوك السوي الصادر عنهم وانعكاساته على النص، إلاَّ أن ذلك يظل في مجالات محددة، بخاصة إذا عرفنا أن وصل النص بكاتبه يقترن - في غالبية الدراسات - باستخلاص الظواهر السلبية، وهمعليه‌السلام معصومون من ذلك دون أدنى شك.

على أية حال، خارجاً عن المزالق الثلاثة التي أشرنا إليها، من المفيد جداً أن يتوكأ الباحث العلمي على هذا النمط من الوصل بين الموضوعات وأصحابها ؛ نظراً للأهمية الكبيرة التي ينطوي عليها مثل هذه الاستعانة بالبعد النفسي... فإذا افترضنا أن أحد الشعراء - مثلاً - طالبَ في قصيدة له بتمزيق جثة الميت والتمثيل بها، أو أن أحد الأشخاص مارس عملية ( التمثيل ) بعدُوِّه... حينئذٍ فإن وصل القصيدة بنفسية صاحبها أو عملية التمثيل بممارسها، يظل من الأهمية بمكان، حيث يستخلص الباحث من ذلك أن الشاعر أو القاتل يحمل نزعة عدوانية يتلذّذ بتعذيب الآخرين، وإلاَّ فإن مجرد القتل كافٍ بتحقيق الغرض الذي استهدفه الشاعر أو القاتل، وهو التخلّص من العدو. أما أن يصحب ذلك ( تمثيل ) بجثته أيضاً، فيعد مؤشراً لمرض الشخصية وشذوذها ومعاناتها لمختلف الاضطرابات النفسية.

٧٧

ومن البيّن أن اكتشاف الباحث العلمي للحقيقة النفسية المذكورة، تلقي مزيداً من الضوء على دقائق الموضوع وتفصيلاته التي لم تكن لتتضح بجلاء، لو لم يسلّط عليها الضوء النفسي المذكور.

٢ - دراسة النص وعلاقته بالجمهور . ثَمَّة فرع من العلوم النفسية يسمّى ب- ( علم نفس الجمهور )، وهدف هذا الضرب من المعرفة هو، دراسة الأساليب النفسية التي ينبغي أن تصاغ بنحو تترك تأثيرها في المتلقّي، مادمنا نعرف بأن التركيبة البشرية ذات استعداد معين لمختلف الاستجابات، تبعاً للطريقة التي ينتخبها الباحث أو المصلح أو الخطيب مثلاً.

من هنا نجد أن علماء النفس طالما يخطّطون هذا الأسلوب أو ذاك، بغية التأثير على نفسية الجمهور، سواء أكان ذلك في ميدان الصحة النفسية، أو الميادين الأخرى المتصلة بالسياسة والاقتصاد والاجتماع، وسواء أكان ذلك مقترنا بهدف ايجابي أو سلبي. ولعل ما يصطلح عليه ب- ( الحرب النفسية ) مثلاً، يعد نموذجاً واحداً من أشكال هذا الضرب من المعرفة، التي تعنى بتحديد العلاقة بين المنبّه والاستجابة، وصياغتها وفقاً لِما ينطوي عليه هذا الهدف أو ذاك من انعكاسات سلبية على الجمهور.

وبالمقابل، فإن الانعكاسات الايجابية تأخذ طريقها أيضاً في هذا الميدان، من نحو دراسة مختلف الأساليب التي تساهم في تعميق دلالة الخير في النفس الإنسانية، أو في توصيل دلالة النص الفني أو العلمي إلى المتلقّي... وهذا المنحى الأخير من الدراسة، أي: دراسة عملية التوصيل الفني والعلمي، يظل في الصميم من مهمة الباحث، مادام الباحث معنياً بدراسة النصوص أو الموضوعات وفقاً لانعكاساتها على الآخرين.

ولنأخذ مثلاً على ذلك:

لقد استهدف القرآن الكريم في إشارته للإبداع الكوني تعميق الدلالة المذكورة فنِّياً، فبدأ في سورة الملك - مثلاً - بلفت أنظارنا إلى خلق السماوات:( الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى‏ فِي خَلْقِ الرّحْمنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى‏ مِن فُطُورٍ ) . هذه الآية لو دقّقنا النظر فيها، للحظنا أن دراستها في ضوء قوانين التفكير البشرى، أي: طبيعة الآلية الذهنية من حيث استجابتها لعملية ( التعلّم ) مطلقاً، سوف تسعفنا على فهم الكثير من أسرارها... فمن الواضح أن عملية التفكير تبدأ ( في بعض قوانينها ) من ( المجمل ) إلى ( المفصّل)، أو من ( الكل ) إلى ( الجزء )، فأنت حينما تفتح صفحة من الكتاب مثلاً، إنما تتصورها ( كلاّ )، ثم تبدأ بتشخيص سطورها، ثم العبارات، ثم، الحروف... وقد يحدث العكس، تبعاً للموقف، فتبدأ من الحروف إلى الأسطر إلى الصفحة.

ولو عدنا إلى الآية الكريمة، للحظناها بادئة بمجمل الإبداع المذكور، وهو( سَبْعَ سَماوَاتٍ طِبَاقاً ) . ثم يفرز هذه السماوات من حيث علاقتها واحدة بالأخرى، متمثّلة في ( عدم التفاوت ) بينها:( مَا تَرَى‏ فِي خَلْقِ الرّحْمنِ مِن تَفَاوُتٍ ) . ثم بفرز السماء الواحدة من حيث عدم مشاهدة ( الشقوق )

٧٨

فيها:( هَلْ تَرَى‏ مِن فُطُورٍ ) ، وهذا يعني أن الآية الكريمة أخذت بنظر الاعتبار قوانين التفكير أو الاستجابة التي تبدأ من المجمل أو الكل ( مطلق السماوات)، إلى تفصيلاتها الأولية ( عدم التفاوت )، إلى تفصيلاتها الثانوية ( عدم الفطور ).

ومن الواضح أن الناقد حينما يدرس النص في ضوء الحقيقة التي أشرنا إليها، إنما يكشف عن جوانب أخرى من الإعجاز الفني في القرآن الكريم، مثلما يكشف عن حقائق ( الاستجابة الذهنية ) وقوانينها.

والامر ذاته فيما يتصل بالكشف عن قوانين ( الاستجابة النفسية ) من حيث عناصر ( التشويق ) و( الإثارة ) وغيرها، ممّا نلحظه في القصص القرآني الكريم مثلاً، أو ما نلحظه في بناء السورة القرآنية الكريمة من حيث مقدمتها وخاتمتها، حيث تبدأ السور الكريمة بطرح دلالات معينة بنحو تجعلنا نتهيَّأ نفسياً لتقبّل ومعرفة ما تتضمّنه من أهداف وأفكار متنوّعة.

٣ - دراسة النص الأدبي في ضوء الظواهر النفسية العامة . يقصد ب- ( الظواهر النفسية العامة ): دراسة النص من حيث انطوائه على دلالات نفسية محدّدة، بغض النظر عن ارتباطها بسلوك الفنان أو المتلقّي، بل بما هي ظواهر يمكن إخضاعها لقوانين عامة. فإذا اعتزم الناقد دراسة عنصر فنّي، مثل ( التشبيه ) في الأعمال الشعرية، ومثل ( الحوار ) في الأعمال القصصية، حينئذٍ يمكن دراسة هذه الجوانب في ضوء ما ينطوي ( التشبيه ) أو ( الحوار ) عليه من دلالات نفسية، مثل انتقاء عنصر مشترك بين طرفي الصورة وكون ذلك أما حسيِّاً أو تجريدياً، ومثل كون ( الحوار الداخلي ) - مثلاً - أشد صدقاً من غيره في التعبير عن أسرار النفس... وهكذا.

المهم أن دراسة النص في ضوء دلالاته النفسية، يظل من أشد مستويات البحث النقدي بالقياس إلى غيره من المعرفة الإنسانية، بخاصة إذا أدركنا بأن المنهج القائم على ربط الصلة بين النص وصاحبه لا يمكن الاطمئنان إليه. وأما المنهج القائم على ربط الصلة بين النص والجمهور، فمن الممكن أن يندرج ضمن دراسة النص في دلالاته النفسية، ممّا يعني - في نهاية المطاف - أن المنهج المذكور يظل أشد فاعلية من سواه، بالنحو الذي فصلّنا الحديث عنه.

٧٩

البلاغة والنقد

البلاغة: مصطلح يطلق على أحد ضروب المعرفة المنتسبة إلى الموروث الأدبي القديم ( عربياً وأعجمياً)، وهو يتضمّن مجموعة من القواعد أو المبادئ التي ينبغي توفّرها في التعبير الأدبي ليكتسب جماليته الخاصة.. بَيْد أنّ هذا الضرب من المعرفة الذي اكتسب طابعاً استقلالياً في الموروث الأدبي، بدأ يضمر أو يختفي إلى حدٍ كبير في الأدب المعاصر، وبدأ ( النقد الأدبي ) يحتفظ لنفسه بهذه المهمة، ونعني بها: صياغة المبادئ أو القواعد التي ينبغي توفُّرها في التعبير الجميل، حيث يضطلع ما يُطلق عليه اسم ( النقد النظري ) بالمهمة المشار إليها، وهي مهمة تندرج ضمن عنوان عام هو ( نظرية الأدب )، الشاملة لعمليات (التنظير ) للظواهر الأدبية. مقابل ( دراسة الأدب وتاريخه )، الشاملة لعمليات ( التطبيق ) للظواهر المشار إليها.

إن ما نعتزم توضيحه في هذا الحقل هو: أن ( البلاغة ) في طابعها الموروث، تظل مثل غالبية ضروب المعرفة، محكومة بسمة العصر الذي ولدت في نطاقه، حيث ترتد بجذورها إلى أكثر من ألف عام، شهدت الأجيال الأدبية من خلالها تطوُّرات ملحوظةً في حقل الأدب وقواعده الفنية، بحيث لم تعد ( البلاغة ) منسجمةً مع التطورات التي أشرنا إليها. بل يمكن القول بأن الجمود والقصور والتكلّف تظل من أبرز سمات ( البلاغة ) القديمة بالقياس إلى أدوات النقد الأدبي المعاصر.

فالبلاغة - من جانب - تظل محدودة القواعد، لا تتجاوز صعيد الأشكال الأدبية التي خبرتها القرون الأُولى، مثل الشعر العمودي والخطبة والرسالة وما إليها، في حين أن الأشكال الأدبية المعاصرة - وفي مقدمتها القصة والمسرحية بكل مستوياتها - لا تخبر البلاغة أي شيء من مبادئهما: مع أن هذين الشكلين الأدبيين، يُعدّان من أكثر الفنون التعبيرية إثارةً وانتشاراً وتأثيراً في النفوس، ويكفينا أن نجد أن القرآن الكريم يعتمد الشكل القصصي بنحو ملفِت للنظر ،مما يفصح عن أهمية وخطورة الشكل الأدبي المذكور.

والغريب أن البلاغة الموروثة

٨٠