كتاب الصلاة الجزء ٢

كتاب الصلاة15%

كتاب الصلاة مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 400

  • البداية
  • السابق
  • 400 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 27611 / تحميل: 5151
الحجم الحجم الحجم
كتاب الصلاة

كتاب الصلاة الجزء ٢

مؤلف:
العربية

كتاب الصلاة

الجزء الثاني

الميرزا محمد حسين الغروي النائيني

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة إنشاء الله تعالى.

٢

كتاب الصلاة

من افادات قدوة الفقهاء والمجتهدين آية الله في الارضين

الميرزا محمد حسين الغروي النائيني

١٣٥٥ ه‍. ق

تأليف

الفقيه المحقق الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني ١٣٦٥ ه‍. ق

الجزء الثاني

٣

مكان المصلي

والاثر المهم الذي ينبغي البحث عنه في مكان المصلي إنما هو من حيث الاباحة والطهارة، وحيث كان المعتبر في الطهارة هو خصوص المسجد ليس إلا، أو هو مع سائر المواضع السبعة - كما سيأتي تحقيقه - كان البحث عن المكان من حيث الاباحة بمعنى آخر غير المعنى الذي يبحث عنه من حيث الطهارة، ومن عرف المكان من الفقهاء من أنه الفراغ الشاغل، فإنما يكون مراده المكان من حيث الاباحة، ولا يمكن تعريف المكان الذي يعتبر فيه الاباحة مع المكان الذي يعتبر فيه الطهارة بأمر واحد ومعنى فارد، إذ لا جامع بينهما. وعلى كل حال فقد عرف المكان كما عن الايضاح: بما يستقر عليه المصلي ولو بوسائط وما يلاقي بدنه وثيابه وما يتخلل بين مواضع الملاقاة من موضع الصلاة كما يلاقي مساجده ويحاذي بطنه وصدره(١) .

وعرف أيضا: بأنه الفراغ الذي يشغله بدن المصلي أو يستقر عليه ولو بوسائط. وهذا هو الاولى لان الظاهر أن المكان الذي يعتبر فيه الاباحة عند الفقهاء هو المكان الذي يكون عند الحكماء،

____________________

(١) ايضاح الفوائد: ج ١ ص ٨٦. (*)

٤

الذي هو عندهم الفراغ الشاغل، فالبحث يقع حينئذ في مقامين: الاول: اعتبار الاباحة في الفراغ الذي يشغله بدن المصلي، الثاني: اعتبار الاباحة فيما يستقر عليه الشئ ولو بوسائط: أما الاول فلا إشكال في اعتبار الاباحة في الفراغ الشاغل لبدن المصلي في حال صلاته وإن كان ما يستقر عليه مباحا، فإن إباحة المكان لا يلازم إباحة الفضاء والفراغ، فربما يكون المكان الذي يستقر عليه الشئ ملكا أو مباحا وكان الفضاء غصبا، كما لو وقف على الجناح الخارج إلى الدار المغصوبة، مع كون الجناح ملكا للمصلي أو مباحا له، فإن الهواء الذي شغله الجناح مع الهواء الذي تحته إلى أرض الدار المغصوبة والذي فوقه إلى عنان السماء أو مقدار ما يساعد عليه العرف والعادة كل ذلك يكون غصبا بغصب الدار، فالواقف على الجناح المملوك في الفرض المذكور يكون الهواء والفضاء الشاغل له غصبا، ولكن ينبغي أن يعلم أن ما يقال: من أن من ملك أرضا فقد ملكها من تخوم الارض إلى عنان السماء، فهو مما [ لم ] يقم عليه دليل، ولم يساعد عليه العرف أيضا، وإن ادعي على ذلك الاجماع إلا أن الظاهر عدم ثبوته، فالاولى إرجاع ذلك إلى العرف، والعرف لم يساعد على أن المالك للارض يملكها من التخوم إلى عنان السماء، بل الذي يساعد عليه أن مالك الارض يملك تبعا مقدارا من جهة التحت والفوق الذي جرت العادة عليه، وربما يختلف ذلك باختلاف الامكنة والاشخاص، بل ربما يقال بعدم ملكية ذلك المقدار أيضا، بل الثابت إنما هو حق الاولوية والاختصاص وبالجملة: في المسألة احتمالات أو أقوال ثلاثة: الاول: أنه مالك من تخوم

٥

الارض إلى عنان السماء، ويتفرع عليه بطلان الصلاة عند غصبية الفضاء والفراغ وإن بلغ ما بلغ، كما إذا فرض أنه وقف على جناح مملوك خارج على فضاء دار الغير المغصوبة وكان بينه وبين أرض الدار ألف ذراع أو أزيد.

الثاني: أنه مالك تبعا مقدارا يساعد عليه العرف وجرت العادة به، فلو كان الجناح فوق ذلك المقدار صحت الصلاة ولو كان دونه بطلت.

الثالث: عدم ملكه ذلك المقدار أيضا بل له حق أولوية، ويتفرغ عليه بناء على عدم قدح غصب الحق في صحة الصلاة هو صحة الصلاة، ولو كان دون ذلك المقدار، وحيث كان الاقوى أن غصب الحق كغصب الملك، فلا تظهر ثمرة بين القولين الاخيرين فيما نحن فيه، وإن كان الاقوى هو التبعية الملكية.

ثم إن المراد بالفضاء الذي يعتبر إباحته إنما هو الفضاء الذي يكون بدن المصلي شاغلا له من حيث الكون الصلاتي المختلف باختلاف أفعال الصلاة من القيام والركوع والسجود، فالعبرة إنما هو بكون القيام في الفضاء المغصوب، فلا بأس إذا كانت يده في الفضاء المغصوب، أو كان أطراف ثيابه مثلا فيه أو كان مقدار من رأسه الذي لا يضر بصدق القيام في المباح واقعا في الفضاء المغصوب، وبالجملة، العبرة إنما هو صدق القيام في المغصوب وكذا الركوع والسجود فكل ما صدق هذا المعنى تبطل الصلاة وكل ما لا يصدق صحت وإن وقع بعض بدنه أو ثيابه في المغصوب، وكذا لا يضر وقوع الاجزاء المندوبة في الفضاء المغصوب إذ غاية ما يلزم هو بطلان الاجزاء المندوبة فقط، ولا يسري بطلانها إلى بطلان الصلاة، فلو فرض أن خصوص جلسة الاستراحة وقعت في المغصوب لم تبطل الصلاة، بل وكذا لو وقعت الاجزاء الواجبة مع تداركها وفعلها ثانيا في المباح، هذا كله في الصلوات الواجبة وأما الصلاة المستحبة، فربما يقال بعدم قدح وقوعها جميعا في الفضاء والمكان المغصوب، لعدم اعتبار كون فيها بعد جواز فعلها

٦

ماشيا موميا للركوع والسجود، هذا ولكن الاقوى أنها كالصلاة الواجبة في اعتبار الاباحة في مكانها، ودعوى عدم اعتبار كون فيها واضحة الضعف، بداهة أنه ليس الكون الصلاتي إلا عبارة عن أفعالها من القيام والركوع والسجود وغير ذلك وهذا مما يشترك فيه الصلوات الواجبة والمستحبة غايته أن المكلف مخير في المستحب منها من فعلها ماشيا أو مستقرا "، هذا كله في المقام الاول من إباحة الفضاء.

[ الثاني ] وأما إباحة ما يستقر عليه ولو بوسائط فالظاهر أيضا أنه ليس بهذا التعميم وإن قيل به بل العبرة إنما هو على صدق التصرف في المغصوب عرفا والعرف يأبى عن صدقه كذلك فلو كان بعض قوائم الابنية مغصوبا والمصلي واقف على البناء فالعرف لا يرى ذلك تصرفا في المغصوب، وكذا الواقف على الساباط والارجوحة مع غصبية قوائمها، وكذا لو كان في السفينة لوح مغصوب ولم يكن المصلي واقفا عليها بل واقف على اللوح المباح فإن الظاهر أن في جميع ذلك لا يعد تصرفا في المغصوب، فلا مانع حينئذ من صحة الصلاة كذلك وبالجملة حيث لا دليل في المقام سوى مسألة اتحاد الغصب للكون الصلاتي وصدق التصرف عليها وهذا أمر عرفي ومجرد كون لبنة في قوائم البيت مغصوبة لا يعد الصلاة في البيت تصرفا في المغصوب وعلى كل تقدير الصلاة في الاماكن كلها جائزة لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : جعلت لي الارض مسجدا وطهورا(١) .

لكن بشرط أن يكون المكان مملوكا له أو مأذونا في الكون فيه عموما أو في خصوص الكون الصلاتي من دون فرق بين

____________________

(١) عوالي اللئالي: ج ٢ ص ١٤ ح ٢٧. (*)

٧

أن يكون الاذن بعوض كاجرة أو بإباحة ومن دون فرق في الاباحة بين كونها صريحة كقوله صل أو بالفحوى كإذنه بشئ تكون الصلاة أولى بالاذن بها أو بشاهد الحال على وجه يقطع برضا المالك أو قيام أمارة شرعية على ذلك، وقد اطيل الكلام في تعريف الفحوى وشاهد الحال إلا أن الظاهر أن الشخص أبصر بمعرفة الفحوى وشاهد الحال وبالجملة: العبرة إنما هو بالقطع بالرضا أو ما يقوم مقام القطع من الامارات الشرعية.

نعم الظاهر قيام السيرة على الصلاة في الاراضي المتسعة مع عدم القطع برضا المالك كقيام السيرة على الوضوء بالمياه والانهار الجارية وغير الوضوء من الشرب وقضاء الحوائج والتزود بل السيرة في المياه أقوى وأشد من السيرة في الاراضي فإن الظاهر قيام السيرة في المياه مع العلم بكراهة المالك بل لا يعتنى بمنعه صريحا ويخطئون المالك بالمنع.

وهذا بخلاف السيرة في الاراضي فإن الطاهر عدم قيامها مع منع المالك أو كراهته بل المتيقن منها هو صورة عدم العلم بالكراهة والمناقشة في اعتبار هذه السيرة في غير محلها بداهة القطع باستمرار هذه السيرة إلى زمن المعصومعليه‌السلام بل السيرة في المقام وفي المياه من أقوى السير فلا بأس بالعمل بها.

وعلى كل حال لا إشكال في بطلان الصلاة في غير الاراضي المتسعة مع عدم إذن المالك ورضاه وعلم المصلي بذلك وأما في صورة الجهل حكما أو موضوعا قصورا أو تقصيرا فقد تقدم الكلام فيه مفصلا عند البحث عن لباس المصلي فلا حاجة في إعادة نعم ينبغي الكلام عن حكم من توسط أرضا مغصوبة وصحة صلاته في حال الخروج مع ضيق الوقت.

اعلم أن فساد صلاته في حال الخروج مبني على وقوع الخروج منه مبغوضا عليه ومنهيا عنه بالنهي السابق الساقط، فلو قلنا بوقوع الخروج منه مبغوضا عليه كان اللازم فساد صلاته وإن قلنا بعدم كونه مبغوضا عليه بل يقع منه محبوبا

٨

كان اللازم صحة صلاته مع ضيق الوقت وأما مع سعته فعلى كل تقدير تفسد صلاته لتمكنه من الصلاة التامة ووقوع الخروج محبوبا أو مبغوضا مبني على أن الخروج عن الدار المغصوبة عند الدخول فيها اختيارا هل يكون من صغريات الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ملاكا وعقابا وإن كان ينافيه خطابا أو أن الخروج ليس داخلا تحت هذه الكبرى بل يكون الخروج واجبا على كل تقدير وإن حرمت مقدماته من الدخول فيكون واجبا على تقدير فعل محرم ولا غرر في أن يكون الشئ واجبا على تقدير محرم؟ فلو قلنا إن الخروج من صغريات الامتناع بالاختيار كان اللازم وقوع الخروج منه مبغوضا عليه فلا تصح الصلاة حاله، ولو قلنا إنه واجب على تقدير محرم كان الخروج محبوبا وتصح الصلاة حاله، والاقوى أنه واجب فلا مانع من الصلاة وتفصيل الكلام موكول إلى محله في مسألة اجتماع الامر والنهي.

ثم إنه قد عرفت بطلان الصلاة في المغصوب مع عدم إذن صاحبه وعلم المصلي بذلك وصحة الصلاة مع الاذن، فهنا مسائل ينبغي التنبيه عليها: الاولى: لو شرع في الصلاة جهلا بالغصب وفي الاثناء علم به فلا ينبغي الاشكال في وجوب قطع الصلاة لعدم تمكنه من اتمامها والحال هذه وإن كانت قبل العلم صحيحة واقعا إلا أن صحة الاجزاء السابقة واقعا لا تنفع بعد عدم تمكنه من اتمامها لفقدان شرطها من إذن المالك عند علم المصلي بالغصب بداهة أن إذن المالك شرطا للصحة حدوثا وبقاء وذلك واضح الثانية: لو شرع في الصلاة باعتقاد الاذن فتبين عدمه في الاثناء فالحكم كما سبق من وجوب قطعها بل هو من صغريات ما سبق من دون فرق بين ان حصل اعتقاده الاذن من الخارج أو من كلام صدر من المالك وتخيل أنه أذن وبعد ذلك انكشف الخلاف وتبين أن كلامه ذلك لم يكن إذنا.

٩

الثالثة: لو أذن في الكون غير الصلاة فالحكم كما سبق أيضا.

الرابعة: لو أذن في خصوص الكون الصلاتي أو الاعم منه ومن غيره بآن علم أن إذنه كان بالاعم حقيقة وواقعا فهل له الرجوععن إذنه بعد الشروع في الصلاة أو ليس له الرجوع فيه خلاف بين الاعلام ونظير المقام ما إذا أذن في الدفن فأراد الرجوع بعد الدفن أو أذن في الرهن بل أعار ملكه للرهن وبعد الرهن أراد الرجوع أو بذل للحج وبعد الاحرام أراد الرجوع والضابط في الكل أنه لو أذن في شئ يستتبعه حكم شرعي من تكليف أو وضع كحرمة إبطال الصلاة في مثال الصلاة وحرمة النبش في مثال الدفن وحرمة قطع الحج في مثال الحج ولزوم العقد في مثال الرهن فهل له الرجوع عن إذنه ويكون رجوعه نافذا فلا تحرم قطع الصلاة والحج ولا نبش القبر وعدم لزوم الرهن أو أنه ليس له الرجوع ولا يكون نافذا فيحرم إبطال الصلاة وقطع الحج ونبش القبر ويبقى عقد الرهن على لزومه؟ وتحقيق الكلام في ذلك هو أن في مثال الرهن الظاهر أنه لا إشكال في أنه ليس له الرجوع عن إذنه ولا ينفذ إذا رجع بل يبقى المرهون على رهانته بل الظاهر أنه مما انعقد الاجماع عليه وذلك لانه بعد فرض جواز رهن مال الغير بإذن صاحبه ولا يشترط في الرهن أن يكون من مال المديون والمفروض أن عقد الرهن أيضا من العقود اللازمة فإذنه في رهن مال نفسه يكون إذنا في موضوع حكمه الشرعي اللزوم وعدم طرو الفسخ له إلا بما جعله الشارع سببا له ولازم ذلك عدم نفوذ الرجوع عن إذنه بعد تحقق عقد الرهانة إذ ليس له رفع الحكم الشرعي عن موضوعه، نعم له رفع الموضوع والمفروض أن الموضوع في المقام هو وقوع الرهن على مال الغير بإذن صاحبه وهذا المعنى قد تحقق بالاذن السابق فيستتبعه حكمه من اللزوم فلا يؤثر رجوعه عن إذنه بعد عدم انقلاب الموضوع عما هو عليه.

وأما مثال الحج فإن قلنا إن من تلبس بالاحرام يجب عليه إتمام الحج ولو مع فوات

١٠

الاستطاعة الشرعية ولا يعتبر بقاؤها إلى آخر الحج بل بمجرد الاحرام يجب عليه الاتمام ولو متسكعا، فيخرج المثال عما نحن فيه إذ على فرض رجوع الباذل عن بذله بعد تلبسه بالاحرام لا يلزم منه شئ ولا رفع حكم عن موضوعه إذ على كل تقدير يجب عليه إتمام الحج فلا ملزم لبقائه على بذله من هذه الجهة، وإن قلنا إنه لا يجب عليه الاتمام بل يحرم عليه القطع على فرض بقاء الاستطاعة فيكون مثال الحج كمثال الصلاة والدفن.

ومجمل الكلام في ذلك هو أنه اختلفت كلمات الاعلام في جواز الرجوع عن إذنه بعد تلبس المأذون في الصلاة بها أو بعد دفن الميت في الارض مع إذنه بالدفن فقيل: إنه له الرجوع، فيجب عليه قطع الصلاة ونبش القبر وقيل: إنه ليس له فلا يجوز نبش القبر وقطع الصلاة والاقوى هو الثاني الذي عليه المشهور بل حكي عليه الاجماع وذلك لانه لا إشكال في أن المالك لو أذن في استيفاء شئ من ملكه أرضا كان أو دارا أو غيرهما وكان ما استوفاه المأذون له موضوعا لحكم شرعي لكان رجوعه عن إذنه كلا رجوع ولم يؤثر رجوعه شيئا أصلا إذ المالك إنما يكون له الرجوع بالنسبة إلى ما يأتي مما لم يستوفه المأذون له وأما بالنسبة إلى ما مضى مما استوفاه فليس له الرجوع لان المفروض أنه وقع بإذن منه والشئ عما وقع لا يتغير وفي المقام حرمة قطع الصلاة أو نبش القبر إنما هو من آثار ما مضى ومترتب على ما سبق إذ الموضوع لحرمة الابطال إنما هو الصلاة التي قد شرع فيها على وجه صحيح.

وكذا موضوع حرمة النبش إنما هو الدفن على وجه صحيح والمفروض أن الشروع في الصلاة والدفن إنما وقعا على وجه صحيح بإذن من المالك وكان استيفاء المصلي لما مضى من صلاته واقعا بإذنه واستيفاء ما مضى من الصلاة على هذا الوجه يكون موضوعا لحرمة الابطال فليس للمالك الرجوع عن إذنه لانه يكون من الرجوع في شئ قد استوفاه المالك قبل رجوعه،

١١

ومنه يعلم الفرق بين ما نحن فيه وبين ما سبق من أنه لو شرع في الصلاة باعتقاد الاذن فبان في الاثناء عدمه حيث قلنا: بأن له عدم الاذن في الاتمام ويجب عليه قطع الصلاة لانه وإن شرع على وجه صحيح لكون الجهل في المقام عذرا إلا أنه حيث كان الذي استوفاه مما مضى من صلاته لم يكن بإذن من المالك حسب الفرض كان المالك غير ملزم بشئ إذ لم يصدر منه إذن حتى يكون ملزما به، وهذا بخلاف المقام حيث كان ما استوفاه مما مضى من صلاته بإذن منه فيكون ملزما بإذنه إلا أن يكون ذلك ضررا عليه ويكون عدم نفوذ رجوعه عن إذنه موجبا لوقوعه في الضرر فلا يكون حينئذ ملزما بإذنه لحكومة أدلة " لاضرر " وإذنه في الصلاة ليس اقداما منه في الضرر كما لا يخفى.

١٢

الاذان والاقامة (موارد ثبوتهما)

اعلم أنه لا ينبغي الاشكال في ثبوت أذان الاعلام ومشروعيته واستحبابه وعظم أجره كما استفاضت به النصوص، وكذا لا ينبغي الاشكال أن أذان الاعلام غير أذان الصلاة بل هما وظيفتان لا ربط لاحدهما بالاخر كما لا يخفى على من راجع نصوص الباب، وكذا لا اشكال أيضا في ثبوت الاذان والاقامة للصلاة الخمس اليومية عند فعلها في وقتها أداء وأما لقضاء الصلوات اليومية فإن كانت المقضية صلاة واحدة فلا إشكال أيضا في ثبوت الاذان والاقامة لها ولو فرض فعلها عقيب صاحبة الوقت وقد أذن وأقام لها لاطلاق ما دل على أنه لكل صلاة أذان وإقامة كما سيأتي وأما إذا تعددت الصلاة المقضية بأن فاتته صلوات متعددة وأراد قضاء‌ها في مجلس واحد ففي ثبوت الاذان والاقامة لكل صلاة صلاة أو عدم ثبوت الاذان والاقامة إلا للاولى وفي البقية يقيم فقط بلا أذان وجهان بل قولان: فالمحكي عن المشهور هو ثبوت الاذان والاقامة لكل صلاة صلاة بل الافضل ذلك، وإن كان له الاقتصار بالاقامة فقط فيما عدا الاولى إلا أنه يكون دونه في الفضل قال في الشرائع فقاضي الصلاة الخمس يؤذن لكل واحدة ويقيم

١٣

ولو أذن للاولى من ورده ثم أقام للبواقي كان دونه في الفضل(١) انتهى وحكي عن المجلسي -قدس‌سره - أنه لم يثبت الاذان والاقامة إلا للاولى وأما البواقي فالاقامة فقط وقد استدل للمشهور بوجوه: الاول: الاستصحاب فإن كل صلاة أراد قضاء‌ها كان الاذان ثابتا لها ومشروعا في حقها عند فعلها أداء وجوبا أو استحبابا على ما يأتي تفصيل ذلك إن شاء الله فيستصحب مشروعيته لتلك الصلاة عند فعلها قضاء هذا ولا يخفى عليك فساد هذا الوجه بداهة أن هذا الاستصحاب يكون من الاستصحاب التعليقي الذي لا نقول بحجيته.

الوجه الثاني: الاطلاقات والعمومات الواردة في مشروعية الاذان لكل صلاة من غير تفصيل بين الاداء والقضاء كقولهعليه‌السلام في موثقة عمار: لا صلاة إلا بأذان وإقامة(٢) فإن اطلاقه يشمل الاداء والقضاء هذا، ولكن لابد من تقييد الاطلاق وتخصيص العموم بما في صحيحة محمد بن مسلم: في الرجل يغمى عليه ثم يفيق يقضي ما فاته يؤذن في الاولى ويقيم في البقية(٣) وفي معناها عدة من الروايات(٤) الظاهرة في ثبوت الاقامة فقط فيما عدا الاولى فيكون مقيدا لقولهعليه‌السلام : لا صلاة إلا بأذان وإقامة.

فإن قلت: إنه لا وجه للتقييد بعد البناء على استحباب الاذان لما تقرر في باب المطلق والمقيد من عدم حمل المطلقات على المقيدات في باب المستحبات قلت: أولا: ذلك مقصور في المطلق والمقيد والمقام

____________________

(١) شرائع الاسلام: ج ١ ص ٧٤ كتاب الصلاة.

(٢) الوسائل: ج ٤ ص ٦٦٤ باب ٣٥ من ابواب الاذان والاقامة، ح ٢.

(٣) الوسائل: ج ٥ ص ٣٥٦ باب ٤ من ابواب قضاء الصلوات، ح ٢.

(٤) الوسائل: ج ٤ ص ٦٦٦ باب ٣٧ من ابواب الاذان والاقامة، ج ١ وج ٥ ص ٣٦١ باب ٨ من ابواب قضاء الصلوات، ح ١ (*)

١٤

من العام والخاص لا المطلق والمقيد فإن قوله: " لا صلاة إلا بأذان وإقامة " يكون عاما لكل صلاة إذ النكرة في سياق النفي تفيد العموم فتكون صحيحة محمد بن مسلم مخصصة لذلك وثانيا: أن عدم حمل المطلقات على المقيدات في باب المستحبات إنما هو فيما إذا لم يكن دليل المقيد نافيا للحكم عن بعض أفراد المطلق وفي المقام يكون دليل المقيد نافيا للحكم عن بعض أفراد المطلق بداهة ظهور قوله في صحيحة محمد بن مسلم " ويقيم في البقية " هو عدم ثبوت الاذان فيها فتأمل جيدا ".

الوجه الثالث: خصوص خبر عمار أن الصادقعليه‌السلام سئل عن رجل إذا أعاد الصلاة هل يعيد الاذان والاقامة؟ قال: نعم.(١) .

بناء على حمل الاعادة على الاعم من القضاء وفي هذا الوجه أيضا نظر أما أولا: فلمعا رضته بمكاتبة موسى ابن عيسى قال: كتبت إليه: رجل يجب عليه إعادة الصلاة أيعيدها بأذان وإقامة؟ فكتب: يعيدها بإقامة(٢) . وثانيا: أن ظاهره وحدة الصلاة المعادة، وقد تقدم أن مع وحدة الصلاة لا إشكال في ثبوت الاذان والاقامة. وثالثا: أن الخبر أجنبي عن المقام فإن الظاهر أن يكون جهة السؤال فيه أنه لو صلى بأذان وإقامة ثم تبين فساد صلاته فهل كان ذلك موجبا لفساد الاقامة والاذان بمعنى أن الفصل بالصلاة الفاسدة الواقعة فيما بين أذانه وإقامته وبين إعادته الصلاة هل يوجب بطلان أذانه وإقامته أو لا يوجب بطلانهما فأجاب الامامعليه‌السلام : نعم، أي يوجب بطلانهما وأين ذلك مما نحن فيه من قضاء الصلوات التي لم يؤذن ولم يقم لها أصلا وبما ذكرنا من جهة السؤال يظهر وجه الجمع بين خبر عمار ومكاتبة

____________________

(١) الوسائل: ج ٥ ص ٣٦١ باب ٨ من ابواب قضاء الصلوات، ح ٢.

(٢) الوسائل: ج ٤ ص ٦٦٦ باب ٣٧ من ابواب الاذان والاقامة، ح ٢. (*)

١٥

موسى بن عيسى(١) فإنه بناء على هذا يكون طريق بينهما هو بطلان هذا الفصل للاقامة قطعا حيث اتفقت الروايتان عل إعادتها وأما الاذان فهو لم يبطل بهذا الفصل وإن كان الافضل أيضا إعادته فتأمل جيدا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا أنه بعد لم يظهر لنا ما يدل على فتوى المشهور من ثبوت الاذان للصلوات المقضية فضلا عن أفضليته نعم يمكن أن يقال: إن المقام يكون من صغريات الجمع بين الصلاتين التي سيأتي الكلام فيه من أن سقوط الاذان للصلاة الثانية هل يكون رخصة أو عزيمة وعلى كل حال لا إشكال في عدم ثبوت الاذان والاقامة لبقية الصلوات المفروضة والمندوبة كما يدل عليه نصوص الباب.

وجوب الاذان والاقامة

اعلم أن للاعلام في الاذان أقوالا ثلاثة الاول: وجوبه في خصوص صلاة الجماعة دون الفرادى.

الثاني: وجوبه في صلاة الصبح والمغرب ولو صليتا فرادى. الثالث: عدم وجوبه مطلقا في جميع الصلوات جماعة وفرادى وفي الاقامة قولان قول بالوجوب مطلقا وقول بالعدم مطلقا ونسب القول بعدم الوجوب مطلقا بالنسبة إلى كل من الاذان والاقامة إلى المشهور ولا بد من ذكر أدلة الاقوال أولا ثم نعقبه بما هو المختار عندنا.

فمما استدل به للقول الاول وهو وجوب الاذان في الجماعة عدة من الروايات منها خبر أبي بصير سأل أحدهما أيجزي أذان(٢) واحد قالعليه‌السلام : إن صليت

____________________

(١) الوسائل: ج ٤ ص ٦٦٦ باب ٣٧ من ابواب الاذان والاقامة، ح ٢.

(٢) المراد بالاذان هو الاقامة بقرينة الذيل. (*)

١٦

جماعة لم يجز إلا أذان وإقامة وإن كنت وحدك تبادر أمرا تخاف أن يفوتك تجزيك إقامة إلا الفجر والمغرب فإنه ينبغي أن يؤذن فيهما وتقيم من أجل أنه لا يقصر فيهما كما يقصر في سائر الصلوات(١) . ومنها موثق عمار: عن الرجل يؤذن ويقيم ليصلي وحده فيجئ رجل فيقول له نصلي جماعة هل يجوز أن يصليا بذلك الاذان والاقامة فقالعليه‌السلام : لا، ولكن يؤذن ويقيم(٢) . ومنها مفهوم صحيح الحلبي عنهعليه‌السلام : أن أباه كان إذا صلى وحده في البيت أقام إقامة واحدة ولم يؤذن(٣) .

ومنها مفهوم آخر لابن سنان(٤) ، هذه جملة ما يمكن أن يستدل به لوجوب الاذان في الجماعة، ولم يعلم المراد من القائل بالوجوب هو الوجوب التعبدي النفسي أو الوجوب الشرطي، وعلى تقدير أن يكون مراده الوجوب الشرطي فهل هو شرط للصحة أو شرط لفضيلة الجماعة؟ وعلى جميع التقادير هل هو واجب مطلقا حتى مع سماع أذان الغير أو أنه مقصور بصورة عدم سماع أذان الغير وعلى كل حال، الاقوى في النظر هو عدم الوجوب مطلقا لا نفسيا ولا شرطيا لا للصحة ولا للفضيلة مع سماع أذان الغير وعدمه وإن كان الافضل عدم تركه في الجماعة، وذلك لعدم دلالة الاخبار المتقدمة على الوجوب بجميع فروضه أما خبر أبي بصير فلعدم دلالة قولهعليه‌السلام " لم يجز إلا أذان وإقامة " على الوجوب إذ عدم الاجزاء أعم من الوجوب فإن معنى كون الشئ مجزياهو كونه مجزيا عن أمره ندبا كان أو واجبا وفي مقابله عدم الاجزاء فإن معناه عدم الاجزاء عن أمره من دون أن يكون له دلالة على أن أمره كان للوجوب.

____________________

(١) الوسائل: ج ٤ ص ٦٢٤ باب ٦ من ابواب الاذان والاقامة، ح ٧.

(٢) الوسائل: ج ٤ ص ٦٥٥ باب ٢٧ من ابواب الاذان والاقامة، ح ١.

(٣) الوسائل: ج ٤ ص ٦٢٢ باب ٥ من ابواب الاذان والاقامة، ح ٦.

(٤) الوسائل: ج ٤ ص ٦٢٢ باب ٥ من ابواب الاذان والاقامة، ح ٤. (*)

١٧

وبالجملة: لفظة الاجزاء وعدم الاجزاء في كل مورد وردت لا دلالة لها على الوجوب، فقوله " لم يجز إلا أذان وإقامة " معناه أنه لا يسقط الامر الاذاني في باب الجماعة بالاقامة فقط بل لابد من الاذان أيضا وفي مقابله الاجتزاء بالاقامة في غير الجماعة ومعنى الاجتزاء بالاقامة فقط في غير الجماعة ليس سقوط الامر الاذاني بالاقامة، وكون مصلحة الاقامة مشتملة على مصلحة الاذان فإن ذلك ضروري البطلان بداهة أن الاقامة إنما تكون مسقطة لامرها لالامر الاذان وإنما تكون مشتملة على مصلحتها فقط مع بقاء الاذان على ما كان عليه من المصلحة في غير موارد المستثنيات على ما يأتي تفصيلها وإلا لم يكن معنى للامر بالاذان في كل صلاة صلاة، وليست هذه الاخبار مخصصة لقولهعليه‌السلام لا تصل إلا بأذان وإقامة والحاصل: أنه ليس معنى الاجتزاء بالاقامة في غير الجماعة هو سقوط الامر الاذاني بها كما ربما يتخيل في بادي النظر بل معناه أن الوظيفة التي شرع الاذان والاقامة لاجلها وهي تهيؤ العبد للوقوف بين يدي ربه للصلاة وتقديم هدية وتحية قبل ذلك كما ربما يشعر بذلك بعض أخبار تشريع الاذان والاقامة لا تتأدى في باب الجماعة إلا بالاذان والاقامة وفي غير باب الجماعة تتأدى بالاقامة فقط، وإن كان يستحب له ذلك الاذان ومأمور به لمزيد التهيؤ، وعلى كل حال فقد ظهر لك أن معنى قولهعليه‌السلام " لم يجز إلا أذان وإقامة " معناه عدم تأدي الوظيفة في باب الجماعة إلا بالاذان والاقامة وأين ذلك من الدلالة على الوجوب بجميع تقاديره.

وأما موثق عمار(١) فقولهعليه‌السلام فيه " لا ولكن يؤذن ويقيم " ليس معناه

____________________

(١) الوسائل: ج ٤ ص ٦٥٥ باب ٢٧ من ابواب الاذان والاقامة، ح ١ (*)

١٨

أنه مع تركه الاذان قد فعل محرما نفسيا أو غيريا بل الجواز يستعمل بمعنيين الاول: بمعنى الرخصة مقابل الحرمة.

الثاني: بمعنى المضي والتجاوز (أي ترتب الاثر المقصود من الشئ) مقابل الوقوف والسكون (أي عدم ترتب الاثر) فيكون عدم الجواز أعم من الحرمة إذ يحتمل أن يكون بمعناه الثاني ويكون المراد من قوله: " لا ولكن يؤذن ويقيم " عدم ترتب أثر الاذان والاقامة بذلك الاذان والاقامة أي لم تتأدى الوظيفة المطلوب منهما ويتحد حينئذ معنى عدم الجواز مع عدم الاجتزاء.

فإن قلت: هذا خلاف ظاهر لا يجوز فإن لا يجوز لو لم يكن معناه الحرمة فلا أقل من ظهوره الاطلاقي في ذلك ولذا لم يتوقف أحد في ظهور قوله لا يجوز شرب الخمر وقوله لا يجوز الصلاة في الحرير في الحرمة النفسية أو الشرطية المساوقة للمانعية.

قلت: تارة يرد قولهعليه‌السلام لا يجوز لمقام تشريع الحكم وهذا مما لا ينكر ظهوره الاطلاقي في الحرمة واخرى يرد بعد تشريع الحكم كما في المقام حيث إنه بعدما ثبت شرعية الاذان والاقامة والامر بهما في الشريعة وقع السؤال عن أنه هل يجوز الصلاة بذلك الاذان والاقامة أي هل يكتفى بهما عن أمرهما فقالعليه‌السلام " لا " أي لا يكتفى بهما بل لابد من تجديد الاذان والاقامة بعدما انقلبت الصلاة الفرادى إلى الجماعة، وأين هذا من الدلالة على الوجوب، ثم إنه لم يظهر من الرواية كون اللاحق هو الامام أو السابق فإن كان اللاحق مأموما والسابق إماما فقطعا لايعتبر تجديد الاذان والاقامة، ومما انعقد عليه الاجماع فلابد من حملها بصورة كون اللاحق هو الامام.

وأما مفهوم صحيحة الحلبي(١) فعدم دلالته على الوجوب أظهر كما لا يخفى فالاقوى أن الجماعة كالفرادى لا يجب فيها الاذان وان كان افضل للاخبار المتقدمة

____________________

(١) الوسائل: ج ٤ ص ٦٢٢ باب ٥ من ابواب الاذان والاقامة، ح ٦. (*)

١٩

وأما وجوب الاذان في المغرب والصبح فقد استدل له بعدة من الروايات: منها: رواية زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: أدنى ما يجزي من الاذان أن تفتتح الليل بأذان وإقامة وتفتتح النهار بأذان وإقامة ويجزيك في سائر الصلوات الاقامة بغير أذان(١) .

ومنها: رواية صفوان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: الاذان مثنى مثنى والاقامة مثنى مثنى ولا بد في الفجر والمغرب من أذان وإقامة في الحضر والسفر لانه لا يقصر فيهما في حضر ولا سفر وتجزيك إقامة بغير أذان في الظهر والعصر والعشاء الاخرة والاذان والاقامة في جميع الصلوات أفضل(٢) .

ومنها: رواية سماعة قال: قال أبو عبداللهعليه‌السلام : لا تصل الغداة والمغرب إلا بأذان وإقامة ورخص في سائر الصلوات الاقامة والاذان أفضل(٣) .

ومنها: رواية أبي بصير(٤) المتقدمة، ومنها غير ذلك(٥) .

إلا أن ما ذكرناه أظهر دلالة على ذلك. هذا ولكن الانصاف أن شيئا من هذه الروايات لا دلالة لها على الوجوب إذ مامن رواية إلا وفيها قرينة على الاستحباب كقولهعليه‌السلام في رواية صفوان " والاذان والاقامة في جميع الصلوات أفضل " وكذا رواية سماعة، ولفظة " ينبغي " في رواية أبي بصير ولفظة [ يجزي ] في رواية زرارة(٦) قد عرفت الكلام فيها وأنها لا دلالة لها على الوجوب.

____________________

(١) الوسائل: ج ٤ ص ٦٢٣ باب ٦ من ابواب الاذان والاقامة، ح ١.

(٢) الوسائل: ج ٤ ص ٦٢٣ باب ٦ من ابواب الاذان والاقامة، ح ٢.

(٣) الوسائل: ج ٤ ص ٦٢٤ باب ٦ من ابواب الاذان والاقامة، ح ٥.

(٤) الوسائل: ج ٤ ص ٦٢٤ باب ٦ من ابواب الاذان والاقامة، ح ٧.

(٥) الوسائل: ج ٤ ص ٦٢٤ باب ٦ من ابواب الاذان والاقامة، ح ٣ و ٤.

(٦) الوسائل: ج ٤ ص ٦٢٣ باب ٦ من ابواب الاذان والاقامة، ح ١. (*)

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الإحداث، فإذن يمكن أن يقال بأنّ الإرادة المتعلّقة بالبقاء غير المتعلّقة بالحدوث؛ لأنّ الإحداث فعل لا دوام له، وأيضاً التأثير - بناءً على اختيار الشق الثاني من السؤال المتقدّم - لا يعقل إلاّ بتجدّد الإرادات، وأمّا بناءً على الوجه الأَوّل ففيه الوجهان.

مسألة

قالوا: إنّ الممكن القديم - أعني به المسبوق بالغير فقط لا بالعدم - لا يحتاج إلى المؤثّر، بناءً على مدخلية الحدوث في الحاجة؛ ضرورة فقدان مناط الحاجة حينئذٍ في القديم.

أقول: وفيه تفصيل، وأمّا بناءً على سببية الإمكان للفقر دون اشتراك الحدوث، فلا شكّ في أنّه محتاج إلى المؤثّر في بقائه بداهة ترتّب المعلول على علّته، وإنّما الكلام في أنّه هل يستند إلى المختار أو الموجب؟ والظاهر من أرباب الكلام هو الثاني، فإنّ فعل المختار مسبوق بالقصد، والقصد إلى الإيجاد متقدّم عليه، مقارن لعدم ما قصد إيجاده؛ لأنّ القصد إلى إيجاد الموجود ممتنع بديهةً.

وعن شارح المقاصد (1) أنّ هذا متّفق عليه بين الفلاسفة والمتكلّمين والنزاع فيه مكابرة، وقال اللاهيجي في شوارقه: التحقيق أنّ استناد القديم الممكن إلى المختار بالاختيار الزائد على الذات محال بدليل مرّ نقله، سواء كان الاختيار الزائد تامّاً كاختيار الواجب عند المتكلّمين، أو ناقصاً كاختيارنا، وذلك ضروري... والحكماء ينفون القصد عن الواجب؛ لأنّهم يجعلون القصد بالاختيار الزائد على الذات ويقولون: إنّ القصد لا يمكن إلاّ.. ولا ينفون الاختيار مطلقاً؛ لأنّهم مصرّحون بكونه تعالى فاعلاً بالاختيار الذي هو عين ذاته تعالى، ويعبّرون عنه بالرضاء (2) ... إلخ.

والتحقيق: أنّ القصد - بمعنى الصفة النفسانية - لا يتعلّق بالموجود بالضرورة، فلا يمكن استناد القديم إلى المختار بهذا المعنى، لكن القصد بهذا المفهوم ممتنع على الواجب كما يأتي في محلّه، والمراد من القصد المستعمل في حقّه هو تعلّل أفعاله بالأغراض الزائدة على ذاته.

وعليه فعدم استناد القديم إليه ليس بضروري بل سيأتي إن شاء الله - في مبحث قدرته واختياره - جواز استناد الممكن القديم إلى الواجب الوجود، فهذا الذي نقل اتّفاق المتكلّمين والفلاسفة عليه، ليس بشيء.

____________________

(1) الشوارق 1 / 131.

(2) المصدر نفسه.

٨١

وأمّا ما ذكره الفيّاض من أنّ الحكماء ينفون القصد دون الاختيار فسوف نتعرّض له تحليلاً ونقداً.

ثمّ إنّ الرازي (1) منع استناد الممكن القديم إلى الموجب أيضاً، متمسّكاً بأنّ تأثيره فيه إمّا حال بقائه فيلزم إيجاد الموجود، وإمّا حال عدمه أو حدوثه فيلزم كونه حادثاً، وقد فرضناه قديماً.

أقول: ما احتج به مدخول بعين ما أجبنا السؤال المتقدّم المشهور، فإنّه هو هو بعينه، وأمّا نفس المدّعى فهو لا يخلو عن وجه سندرسه في مسألة حدوث العالم.

ولكن لابدّ أن يلتفت الرازي أنّ هذه الدعوى تهدم ما بنى عليه هو وأشياخه الأشعريون وغيرهم، من زيادة الصفات الممكنة القديمة القائمة بالواجب الصادرة عنه بالإيجاب والجبر، وهذه زلّة وذلة وضلة عظيمة منهم في أعظم مباحث التوحيد، عصمنا الله من التخلّف عن السفينة المنجية المحمدية.

الخاصّة الرابعة: أنّ كلّ ممكن زوج تركيبي من الوجود والماهية

قال صاحب الأسفار: كما أنّ الضرورة الأزلية مساوقة للبساطة والأَحدية، وملازمة للفردية والوترية، فكذلك الإمكان الذاتي، رفيق التركيب والازدواج، فكل ممكن زوج تركيبي؛ إذ الماهية الإمكانية لا قِوام لها إلاّ بالوجود، والوجود الإمكاني لا تعيّن له إلاّ بمرتبة من القصور ودرجة من النزول ينشأ منها الماهية، ويُنتزع بحسبها المعاني الإمكانية ويترتّب عليها الآثار المختصة...

فإذن، كلّ هوية إمكانية ينتظم من مادة وصورة عقليتين هما المسمّاتين بالماهية والوجود، وكلّ منهما مضمّن فيه الآخر وإن كانت من الفصول الأخيرة والأجناس القاصية (2) انتهى كلامه.

وقال في موضع آخر منها: زيادة وجود الممكن على ماهيته، ليس معناه المباينة بينهما بحسب الحقيقية، كيف وحقيقة كلّ شيء نحو وجود الخاص به؟ ولا كونه عرضاً قائماً بها قيام الأعراض لموضوعاتها، حتى يلزم للماهية سوى وجودها وجود آخر، بل بمعنى كون الوجود الإمكاني، لقصوره وفقره، مشتملاً على معنىً آخر غير حقيقة الوجود، منتزعاً منه، محمولاً عليه، منبعثاً عن إمكانه ونقصه، كالمشبّكات التي يتراءى من مراتب نقصانات الضوء والظلال، الحاصلة من تصوّرات النور (3) انتهى.

____________________

(1) لاحظ شرح المواقف، وشرح التجريد للقوشجي / 77.

(2) الأسفار 1 / 186.

(3) الأسفار 1 / 243.

٨٢

الفائدة الحادية عشرة

في امتناع الدور والتسلسل

أمّا الدور فهو في اللغة - كما في بعض كتبها - التقلّب والحركة إلى ما كان عليه، وفي الاصطلاح هو توقّف الشيء على ما يتوقّف عليه (1) ، وإن شئت فقل: إنّه تعاكس الشيئين في السببية والمسببية، فإن توسّط بينهما واسطة أو وسائط أخرى يسمّى مضمراً، وإلاّ فمصرّح، فتوقّف الشيء على نفسه لا يسمّى دوراً بل هو نتيجته.

ثمّ إنّه ربّما يطلق الدور على شيئين لهما معيّة، ويقال له الدور المعي، وهو ليس بمحال، وهو أن يكون شيئان موجودان، يتوقّف كلّ منهما على الآخر في صفة من الصفات، بمعنى أن تتوقّف الصفة في كلّ منهما على ذات الآخر، سواء كانت تلك الصفة فيهما من نوع واحد، كالأُخوة في أخوين والمعية في شيئين، أو من نوعين كالفوقية والتحتية في الفوق والتحت، والتقدّم والتأخر بحسب المكان في جسمين، وهذا الدور جارٍ في كلّ متضايفين كما قيل.

ثمّ إنّ الدليل على استحالة الدور - بمعنييه المتقدّمين - أنّه يستلزم تقدّم الشيء على نفسه وتأخّره عن نفسه؛ ضرورة تقدّم العلّة على المعلول تقدّماً عليّاً وتقدّماً بالذات، فإذا كانت العلّة معلولة لمعلولها، لزم تأخّر الشيء عن نفسه بمرتبتين، وكذلك تقدّمه، وهو - أي تقدّم الشيء على نفسه أو تأخّره عنها - ضروري الاستحالة، مع أنّه قد يستدلّ عليه، بأنّه يستلزم تخلّل العدم بين الشيء ونفسه، وهو واضح الاستحالة، وبأنّ التقدّم نسبة لا تعقل إلاّ بين شيئين.

فإنّ توهّم أحد أنّ المراد بالتقدّم هنا إمّا التقدّم الزماني وهو غير لازم في العلة، أو العليّ وهو مصادرة؛ لأنّ معنى قولنا: إنّ الشيء لا يتقدّم على نفسه، أنّ الشيء لا يكون علّةً لنفسه.

يقال له: إنّ معنى تقدّم العلّة على معلولها هو صحّة مثل قولنا: تحركت اليد فتحرّك الخاتم، طلعت الشمس فوُجد النهار، وبطلان عكسه أي قولنا، تحرك الخاتم فتحركت اليد، وهذا الاعتبار الذي ممّا لا يشك فيه عاقل، بديهي البطلان بالنظر إلى الشيء ونفسه.

____________________

(1) الفرق بين تقدّم الشيء على نفسه، وتوقف الشيء على نفسه اعتباري، فإنّ الأَوّل باعتبار علّية كلّ منهما للآخر، والثاني باعتبار معلولية كلّ منهما للآخر.

٨٣

فإن قلت: إنّ الفرق بين الأجزاء التي هي العلة والمركّب الذي هو المعلول، إنّما هو باعتبار بشرط الشيء واللابشرط أو بشرط اللا، وقد ذكروا من جملة العلل الأربع المادة والصورة مع أنّهما عين المعلول، فكيف المخلص؟

قلت: الأجزاء بالنسبة إلى المركّب الذي ليس إلاّ نفسها ليست إلاّ نفسه، لا علية ولا معلولية بينهما، وإنّما يطلقون عليها العلية؛ لأنّ بها قِوام المركّب، فهي علل القِوام لا علل الوجود، والتأثير في الثانية لا في الأُولى، فافهم.

وأمّا تقدّم الأجزاء على المركّب ففيه بحث طويل، قد تعرّض له صاحب الأسفار مجملاً، وصاحب الشوارق مفصّلاً فراجع.

ثم إنّ معنى الدور - بتعبير واضح - هو كون الشيء علّةً وفاعلاً لوجود نفسه، وهذا ضروري الاستحالة، بديهي البطلان، يكذّبه العقل بأَوّل تصويره، فلا معنى لإطالة الكلام حوله وقد نقل العلاّمة قدّس سره (1) ، أنّ أكثر العقلاء على ضرورة استحالته.

وأمّا التسلسل فهو عند المتكلّمين (2) عبارة عن مطلق الأُمور غير المتناهية إذا ضبطها الوجود، سواء كانت مجتمعةً أم لا، مترتّبةً أم لا، ودليلهم على ذلك برهان التطبيق، فإنّهم يجرونه في الأُمور المتعاقبة في الوجود كالحركات الفلكية، وفي الأُمور المجتمعة، سواء كان بينها ترتّب طبيعي كالعلل والمعلولات، أو وضعي كالأبعاد، أو لا يكون هناك ترتّب أصلاً كالنفوس الناطقة المفارقة (3) .

وعند الحكماء يفسّر بالأُمور غير المتناهية المجتمعة في الوجود مع ترتّبٍ وضعاً أو طبعاً؛ ولذا قال صاحب الأسفار: وعليه (أي برهان التطبيق) التعويل في كلّ عدد ذي ترتيب موجود، سواء كان من قبيل العلل والمعلولات، أو من قبيل المقادير والأبعاد، أو الأعداد الوضعية (4) ... إلخ.

ثمّ إنّ الأدلة على امتناع التسلسل في الجملة كثيرة جداً، لكنّها بمجموعها غير مسلّمة عندهم، فلهم ردود ودفوع ونقوض ونقود، والبحث حولها طويل الذيل لا يسعه هذا المختصر، لكنّنا نستخدم لك منها حجّةً قويمة، قليلة المؤونة، وكثيرة المعونة، وهي ما اخترعه سلطان المحقّقين العلاّمة الطوسي (5) ، وأشار إليه في تجريده وإليك تقريره بعبارة

____________________

(1) كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد / 30.

(2) الشوارق 1 / 200، وكشف الفوائد / 30.

(3) شرح المواقف 1 / 541.

(4) الأسفار 2 / 145.

(5) كما ذكره صاحب الشوارق، ونُقل عن المحقّق الدواني أيضاً، لكن قيل: إنّ السيد الداماد رحمه‌الله ادّعى وجدان هذا الدليل في كتاب بهمنيار.

٨٤

المحقّق اللاهيجي (1) :

إنّ الممكن لا يجب لذاته، وما لا يجب لذاته لا يكون له وجود، وما لم يكن له وجود لا يكون لغيره عنه وجود، فلو كانت الموجودات بأسرها ممكنةً لَما كان في الوجود موجود، فلابدّ من واجب لذاته، فقد ثبت واجب الوجود وانقطعت السلسلة أيضاً.

ثمّ تعريضاً على الشارح العلاّمة قدّس سره حيث تنظّر فيها، والشارح القوشجي حيث حسبها مصادرةً، قال: وهذه الطريقة حسنة حقّة... إلخ، والأمر كما أفاد.

تتميم وتقسيم

ما لا يتناهى على ستة أقسام:

الأَوّل: المجتمع في الوجود، والمترتّب بالترتب العليّ.

الثاني: المجتمع في الوجود، والمترتّب بالترتب الوضعي كالأبعاد.

الثالث: المجتمع في الوجود بلا ترتيب، كالنفوس الناطقة على رأي الحكماء.

الرابع: المتعاقب في الوجود من قبل الماضي، مثل الصور الطارئة على المادة على سبيل المحو والإثبات.

الخامس: المتعاقب في الوجود في طرف المستقبل.

السادس: العدد.

أقول: أمّا الأَوّل فهو محال بلا خلاف بين الباحثين، بل لم أفز على مخالف ولو من الدهريين والماديين، فكأنّ هذا الاحتمال مصادم ما أودعه الله في كينونة البشر، فما يلتزم به فرد من هذا النوع الإنساني؛ ولذا ترى عبّاد الطبيعة متحيرين في تعيين المبدأ الأَوّل، فالتسلسل المذكور احتمال بدوي لم يتجاوز عن المسفورات العلمية إلى الخارج، وما نقلناه آنفاً من البرهان وغيره حجّة واضحة على إبطاله.

وأمّا الثاني فامتناعه موضع وِفاق بين المتكلّمين والحكماء، واستدلّوا عليه بأدلة منها برهان التطبيق، الذي هو عندي محلّ إشكال.

وأمّا الثالث والرابع فهما ممكنان، بل واقعان على زعم أصحاب الفلسفة؛ ولذا يدينون بقِدم العالم زماناً، لكنّ المتكلّمين يرونهما ممتنعين أيضاً، والحق معهم لِما سنبرهن على حدوث العالم في هذا الجزء إن شاء الله.

وأمّا الخامس فإمكانه متّفق عليه بينهم، فإنّ الوجود لم يضبطه، وهذا ما لا شك فيه، كيف

____________________

(1) الشوارق 1 / 199.

٨٥

وخلود المكلّفين في الجنة والنار، وبقاء ما يرتبط بهم من الضروريات الإسلامية؟

وأمّا السادس فهو مثل الخامس في اتّفاقهم على إمكانه، فإنّه إمّا غير موجود كما عن المتكلمين، وإمّا لا ترتّب بينها في غير الواحد كما عن الفلاسفة، فلم يتحقّق فيه مناط الاستحالة (1) .

وممّا ينبغي أن نختم به الكلام هنا، أنّ إبطال الدور والتسلسل إنّما يتوقف عليه إثبات الصانع؛ ضرورة أنّ إمكان أحدهما لا يدع مجالاً لإثباته، وأمّا إثبات الواجب الوجود، فهو غير موقوف عليه لِما ستعرفه إن شاء الله من الدليل على وجوده، سواء كان الممكن موجوداً خارجاً أم لا، أمكن الدور والتسلسل أم لا، وبعبارة أُخرى: إمكان الدور والتسلسل يبطل الأدلة الإنيّة، ولا ربط له بالبراهين اللميّة أو الشبيهة باللم.

هذا تمام كلامنا في المقدّمات، ثمّ بعد ذلك نرجع إلى بيان المقاصد، وإليك بيانها إجمالاً:

المقصد الأَوّل: في بيان الطريق إلى معرفة الواجب.

المقصد الثاني: في صفاته الثبوتية ذاتيةً كانت أو فعليةً.

المقصد الثالث: في صفاته السلبية.

المقصد الرابع: في التوحيد، أفردناه من سابقه اهتماماً بشأنه.

المقصد الخامس: في العدل.

المقصد السادس: في النبوّة.

المقصد السابع: في الإمامة.

المقصد الثامن: في المعاد.

____________________

(1) ولصاحب الأسفار هاهنا احتمال، وللسبزواري عليه كلام، لا يخلو مراجعتهما عن الفائدة، الأسفار 2 / 152.

٨٦

مقاصد الكتاب

المقصد الأَوّل: في بيان الطرق إلى معرفة الواجب لذاته

المقصد الثاني: في صفاته الثبوتية

المقصد الثالث: في صفاته السلبية

المقصد الرابع: في التوحيد

المقصد الخامس: في العدل

المقصد السادس: في النبوّة

المقصد السابع: في الإمامة

المقصد الثامن: في المعاد

٨٧

المقصد الأَوّل

في بيان الطرق إلى معرفة الواجب لذاته

البراهين والصُرط

مَن هم المخالفون في هذا المقصد؟

وما هو اعتقادهم؟

النظام الكامل يقضي على علّية المادة

ما يقول الماديون عن هذا النظام الأجمل؟

خاتمة

٨٨

المقصد الأَوّل

في بيان الطرق إلى معرفة

الواجب لذاته

وهو من أشرف المقاصد وأعظمها وأجلّها وأهمها، بل لا تكتسب مسألة علمية شرفاً وفضلاً ما لم تخدم هذا المقصد، فهو آخر ما تُناخ به الرواحل العقلية في سفر السعادة والفضيلة. ( أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) ( أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ ) .

وصُرط التصديق الحقّة المستقيمة، إلى الواجب القديم القدوس الأقدس - جلّت كبريائه وعَظُم سلطانه - متعدّدة، وإليك منها ما يناسب هذه الرسالة:

الصراط الأَوّل: إنّ العقل لا يرى الموجود الواجب لذاته مستحيلاً، بل يحكم بإمكانه إمكاناً عامّاً، ولا سيما قد شاهد الواجب الذاتي بنحو مفاد كان الناقصة، مثل زوجية الأربعة، ورطوبة الماء، ودسومة الدهن ونحوها، فإذا أمكن، وُجد وثبت من دون شرط وسبب، على ما أسلفنا برهانه.

وهذا الصراط أشرف الصُرط المذكورة في هذا المقصد، ليس له زيادة مؤونة، ولا توقّف له على استحالة الدور والتسلسل، بلا ولا على وجود ممكن، كل ذلك ظاهر جداً.

ولزيادة التأكيد لحكم العقل بعدم امتناع الواجب نقول: إنّ العقلاء - مليين كانوا أو ماديين (1) - اتفقوا في كلّ زمان ومكان، على الإذعان بوجود المبدأ الأَوّل في الخارج، وهذا ممّا يؤيّد استقلال العقل بعدم امتناع مثل هذا الوجود، والعجب من ذهول الباحثين عن هذا البرهان؛ حيث لم يذكروه في هذا المقام (2) .

الصراط الثاني: إنّ الأحاسيس قد قضت على أنّ في الخارج موجوداً ما، فهو إن كان واجباً لذاته فقد حصل الغرض، وإن كان ممكناً فهو يستلزم المقصود؛ لاستحالة الدور والتسلسل، وهذه الحجّة غير قائمة بوجود الممكن كما هو ظاهر.

____________________

(1) غير مَن قال منهم بجواز الترجّح بلا مرجّح (إن كان).

(2) وبه يمكن أن يفسّر ما أُثر عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : (يا مَن دلّ على ذاته بذاته)، وما عن السجّاد عليه‌السلام : (بك عرفتك وأنت دللتني عليك).

٨٩

ثمّ إنّ هذين الوجهين المذكورين، ليسا من الأدلة الإنيّة، ولا من البراهين اللميّة؛ لعدم انتقال فيهما من العلّة إلى المعلول، ولا من المعلول إلى علّته، بل هما من شبه اللم، كما يظهر من كلمات عدّة من أكابر الحكماء.

الصراط الثالث: ما نقلناه سابقاً من المحقّق الطوسي قدّس سره في إبطال التسلسل، فإنّه يفضي إلى معرفة الواجب الوجود، ويجوز أن نعبّر عنه بألفاظ أُخرى فنقول: لا يمكن أن يكون ممكن ما من الممكنات منشأ لوجوب الممكنات، ولا لامتناع طريان العدم علّيها بالكلية، فلابدّ من واجب. وبوجه آخر: إنّ الممكن لا يستقلّ بنفسه في وجوده وهو ظاهر، ولا في إيجاده لغيره؛ لأنّ مرتبة الإيجاد بعد مرتبة الوجود، فإنّ الشيء ما لم يُوجَد لم يُوجِد، فلو انحصر الموجود في الممكن، لزم أن لا يوجد شيء أصلاً؛ لأنّ الممكن وإن كان متعدّداً، لا يستقلّ بوجود ولا إيجاد، وإذ لا وجود ولا إيجاد، فلا موجود لا بذاته ولا بغيره، إلى غير ذلك من التقارير والتعابير.

الصراط الرابع: الممكن موجود بلا ريب، فإنّ الأجسام مركّبة، وكلّ مركّب ممكن، والأعراض لمكان حاجتها إلى موضوعاتها ممكنة، بل حدوث بعض الأشياء وفقدانها وفناؤها محسوس فهو ممكن، ومهما يكن من شيء فالممكن موجود قطعاً بل ضرورةً، فيكون الواجب موجوداً بالضرورة؛ لِما مرّ من احتياج الممكن إلى الواجب، ومن بطلان الدور والتسلسل، ولعلّ قوله تعالى: ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) (1) يشير إلى ذلك، فإنّ الممكن لا يمكن أن يكون خالق نفسه؛ لما عرفت في بطلان الدور، ولا يمكن أن يوجد بلا خالق فإنّه ترجّح بلا مرجّح، ويمكن إدراج نفي التسلسل أيضاً في هذا الفرض كما يظهر بالتأمل.

ثمّ إنّ هذا الدليل الإنّي أساس لعدّة من الدلائل الأُخرى.

الصراط الخامس: ما سلكه المتكلّمون فقالوا: إنّ العالم حادث، وكلّ حادث له محدَث كما تشهد به بديهة العقل؛ ولذا مَن رأى بناءً حادثاً حكم حكماً بتياً جزمياً، بأنّ له بانياً، وعن أكثر مشايخ الاعتزال أنّ هذه المسألة - أي الكبرى - استدلالية، وقد استدلّوا عليه بوجهين (2) ، لكنّ ذلك خطأ وما استدلوا به غلط.

ثمّ إنّ هذا المحدث الصانع إن كان حادثاً احتاج إلى مؤثّر آخر، فيلزم الدور أو التسلسل وهما محالان، وإن كان قديماً أو منتهياً إلى القديم فقد ثبت المطلوب.

هذا، ولكن جملة من الفلاسفة لم يرتضوا بسلوك هذا الصراط لوجوه ثلاثة:

الأَوّل: تفنيد حدوث العالم بشراشره، بل منه ما هو قديم، ومنه ما هو حادث.

____________________

(1) الطور 52 / 35.                                   (2) شرح المواقف 3 / 3.

٩٠

الثاني: قصور هذا الدليل عن إثبات الواجب لذاته؛ لجواز أن يكون ذلك المحدِث غير الحادث ممكناً قديماً، فلا يفتقر إلى علة، فتنقطع السلسلة بلا إثبات الواجب، كما ذكره الحكيم اللاهيجي في شوارقه (1) .

الثالث: خروجه عن منهج الصدق؛ لأنّ مناط الحاجة إلى العلّة هو الإمكان دون الحدوث ولو شرطاً، ذكره الحكيم السبزواري (2) ، وقبله عنه غيره أيضاً.

أقول: هذه الوجوه ساقطة، ولا يمكن سد هذا الصراط المستقيم بها، أمّا الأَوّل، فلِما سيمرّ بك في محلّه، من حدوث تمام ما سوى الله وبطلان قِدم شيءٍ منه.

وأمّا الثاني، فينبثق بطلانه من بطلان الأَوّل؛ فإنّ القديم حينئذٍ لا يكون ممكناً، فهو واجب لعدم واسطة بينهما بالضرورة، فالقديم والواجب لذاته مترادفان عند المتكلّمين.

وأمّا الثالث ففيه، أنّ معنى علّية الإمكان للحاجة، هو سببيته للحاجة في وجوده، أو عدمه إلى المرجّح الخارجي، فحدوث الوجود، معلول عن هذا المرجّح المحدِث الخارجي، وكاشف عنه كشف كلّ معلول عن علّته، ويعبّر عنه في عرفهم بدليل الإن، فهذا لا ربط له ببطلان علّية الحدوث للحاجة، والإنصاف أنّ دلالة الحدوث على المحدِث ضرورية، وإنكارها عن هذا الرجل الفيلسوف بعيد جداً.

فاتّضح أنّ الدليل تام في نفسه، من غير أن يُبنى على الحركة الجوهرية كما تبرّع به بعضهم، لكن الذي يوجب صعوبة سلوك هذا الطريق في الجملة، هو أنّ إثبات المدّعى أسهل من تثبيت مقدّمتها الأُولى، أعني بها حدوث العالم بأجمعه، فإنّه وإن كان حقّاً إلاّ أنّ المدّعى أظهر منه، وإن أخذنا حدوث بعض العالم في المقدّمة حتى تكون ضروريةً، فلا يستنتج منها المطلوب، كما ذكره صاحب الشوارق من جواز كون القديم ممكناً.

ولا دافع له حينئذٍ أصلاً إلاّ أن يقال: بأنّ هذا القديم لا يكون إلاّ واجباً، فإنّ الممكن يستلزمه دفعاً للدور والتسلسل، لكن الدليل حينئذٍ لا يكون بلحاظ الحدوث فقط، بل مع انضمام لحاظ الإمكان.

فالتحقيق أن يقال: إنّ جملةً من هذه الموجودات حادثة حسّاً، والحادث يقتضي محدِثاً بالضرورة، وهذا المحدِث إن لم يكن له سبب وعلّة فهو المراد؛ إذ لا نعني بالقديم أو الواجب إلاّ المحدِث الذي لا سبب له، وإن كان له سبب فلابدّ من الانتهاء إلى محدِث كذلك، أي بلا سبب وعلة دفعاً للدور والتسلسل، فافهم.

____________________

(1) الشوارق 2 / 204.

(2) شرح المنظومة / 143.

٩١

الصراط السادس: ما سلكه الحكماء الطبيعيون، وهو الاستدلال بالحركات، فإنّ المتحرّك لا يوجب حركةً بل يحتاج إلى محرِّك غيره، والمحرِّكات لا محالة تنتهي إلى محرِّك غير متحرك دفعاً للدور والتسلسل، فإن كان واجباً فهو وإلاّ استلزمه لِما مرّ.

الصراط السابع: إذا كانت الموجودات منحصرةً في الممكنات لزم الدور، إذ تحقّق موجود ما يتوقّف - على هذا التقدير - على إيجاد ما؛ لأنّ وجود الممكنات إنّما يتحقق بالإيجاد، وتحقّق إيجاد ما يتوقّف أيضاً على تحقّق موجود ما؛ لأنّ الشيء ما لم يوجَد لم يُوجِد.

لكن الإنصاف، أنّ هذا التوقّف من قبيل توقّف النطفة على الحيوان، وتوقف الحيوان على النطفة، وتوقف البيض على الدجاج، وتوقف الدجاج على البيض، وهذا ليس بدور محال؛ لأنّ الدور هو الذي يكون طرفاه واحداً بالعدد، لا ما يتقدّم فيه طبيعة مرسلة على طبيعة مرسلة أُخرى، وهي تتقدّم أيضاً عليها في صورة التسلسل، فالمغالطة نشأت هاهنا، من أخذ الكلّي مكان الجزئي، والوحدة النوعية مكان الوحدة الشخصية، فتتميم هذا البرهان لا يمكن إلاّ بالتسلسل كما في الأسفار، وما رامه اللاهيجي من إصلاح الدليل، وإتمامه بالدور فقط غير تام، ومنه يظهر الحال في الصراط الآتي بكلا طريقيه.

الصراط الثامن: إنّه ليس للموجود المطلق من حيث هو موجود مبدأ، وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه، وبذلك ثبت وجود واجب الوجود بالذات، وبعبارة أُخرى: مجموع الموجودات من حيث هو موجود ليس له مبدأ بالذات، فثبت بذلك وجود الواجب لذاته.

الصراط التاسع: مجموع الموجودات من حيث هو موجود يمتنع أن يصير لا شيئاً محضاً، ومجموع الممكنات ليس يمتنع أن يصير لا شيئاً محضاً، فيثبت به الواجب لذاته.

وفيه: أنّ حيثية الإمكان وإن كانت مخالفةً لحيثية الوجود؛ لأنّ الموجود بما هو موجود يستحيل أن يصير معدوماً: لأنّ فيه ضرورة بشرط المحمول، بخلاف الموجود بما هو ممكن، فإنّ عدمه غير ممنوع، لكن هذا الاختلاف لا يؤدي إلى الاختلاف في الموضوع، كما أفاده صاحب الأسفار أيضاً.

الصراط العاشر: ما ذكره صاحب الأسفار ومَن تبعه وقال: إنّه سبيل الصدّيقين الذين يستشهدون بالحقّ على الحق، ووصفه بأنّه أسدّ البراهين وأشرفها، وإليك تقريره بعبارة السبزواري (1) مع تغيير ما: حقيقة الوجود الذي ثبتت أصالته، إن كانت واجبةً فهو المراد، وإن كانت ممكنةً - بمعنى الفقر والتعلّق بالغير، لا بمعنى سلب ضرورة الوجود والعدم؛ لأنّ ثبوت الوجود لنفسه ضروري، ولا بمعنى تساوي نسبتي الوجود والعدم؛ لأنّ نسبة الشيء إلى نفسه

____________________

(1) شرح المنظومة / 141.

٩٢

ليست كنسبة نقيضه إليه؛ لأنّ الأُولى مكيّفة بالوجوب والثانية بالامتناع - فقد استلزمت الواجب على سبيل الخلف؛ لأنّ تلك الحقيقة لا ثاني لها حتى تتعلّق به وتفتقر إليه، بل كلّما فرضته ثانياً فهو هي لا غيرها، والعدم والماهية حالهما معلومة؛ أو على سبيل الاستقامة، بأن يكون المراد بالوجود مرتبة من تلك الحقيقة، فإذا كان هذه المرتبة مفتقرة إلى الغير استلزم الغني بالذات دفعاً للدور والتسلسل، والأَوّل أوثق وأشرف وأخصر.

أقول: هذا الوجه مبني على مقدّمات، هي أغمض تصديقاً من أصل الدعوى بمراتب، فلابدّ أن يُرجع إلى الصراط الثاني.

الصراط الحادي عشر: اتّفاق الأنبياء والأولياء والعقلاء على ذلك، فإنّهم أخبروا عن وجود الواجب الصانع، وهذا الاتّفاق أقوى من التواتر، ولا شيء من المتواترات مساوٍ له في القوّة وإفادة اليقين، ذكره بعض المؤلّفين (1) ، وببالي أنّ هذا الوجه نُسب إلى جماعة من المتكلّمين.

لكن الاستدلال المذكور هيّن جداً، فإنّ العقلاء في ذلك مختلفون، وأمّا الأنبياء فهم كغيرهم، ما لم تثبت نبوّتهم المتوقّفة على وجود الواجب وصفاته، بل لا سبيل لنا إلى إحراز وجودهم - سوى خاتمهم صلى‌الله‌عليه‌وآله - من غير جهة إخباره تعالى.

هذا، مع أنّ التواتر في الحدسيات غير حجّة؛ فإنّه لا يفيد اليقين، وقد مرّ بعض الكلام فيه في المقدّمات، نعم يمكن الاستدلال بمعجزات خاتمهم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوصيائه عليهم‌السلام ، على المطلوب، ولا محذور فيه أصلاً.

الصراط الثاني عشر: لو انحصرت الموجودات في الممكن لاحتاج الكلّ إلى موجِد مستقل - بأن لا يستند وجود شيء منها إلاّ إليه ولو بالواسطة - يكون ارتفاع الكلّ بالكلية - بأن لا يوجد الكلّ ولا واحد من أجزائه - ممتنعاً بالنظر إلى وجوده؛ لأنّ ما لم يجب لم يوجد، ويلزم من ذلك امتناع عدم المعلول من أجل العلة، والشيء الذي إذا فُرض عدم جميع أجزائه، كان ذلك العدم ممتنعاً نظراً إلى وجوده، يكون خارجاً عن المجموع، لا نفسه ولا داخلاً فيه؛ لأنّ عدم شيء منهما ليس ممتنعاً نظراً إلى ذاته، فيكون واجباً لذاته؛ إذ لا واسطة في الخارج بين الممكن والواجب، فتدبّر فيه.

هذه هي الصُرط القويمة، الحقّة المستقيمة، الموصلة إلى معرفة الواجب القديم، والصانع الحكيم (2)، وأنّ للعالم مبدأً تنتهي سلسلة الموجودات إليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

____________________

(1) كفاية الموحّدين 1 / 26.

(2) سوى بعضها، الذي ناقشنا فيه.

٩٣

مَن هم المخالفون

في هذا المقصد؟ وما هو اعتقادهم؟

نُسب إلى جماعة من القدماء كذيمقراطيس وأتباعه، إنكار حاجة الممكن إلى المؤثّر، وجعلوا كون العالم بالبخت والاتفاق، وأنكروا أن يكون له صانع أصلاً، ورأوا أنّ مبادئ الكل أجرام صغار لا تتجزّأ لصغرها وصلابتها، وأنّها غير متناهية بالعدد، ومبثوثة في خلاء غير متناهٍ، وأنّ جوهرها في طبايعها جوهر متشاكل، وبأشكالها تختلف، وأنّها دائمة الحركة في الخلاء، فيتفق أن يتصادم منها جملة، فتجتمع على هيئة ويكون منها عالم، وأنّ في الوجود عوالم مثل هذا العالم غير متناهية بالعدد، لكن مع ذلك يرون أنّ الأُمور الجزئية - مثل الحيوانات والنباتات - كائنة لا بحسب الاتّفاق، بل بحسب أسباب سماوية وأرضية، وفرقة أخرى منهم - كانباذقلس ومَن يجري مجراه - لم يقدموا على أن يجعلوا العالم بكلّيته كائناً بالاتفاق، ولكنّهم جعلوا الكائنات متكوّنةً عن الاسطقسات بالاتّفاق، وبالجملة فهؤلاء بأجمعهم يجوّزون الحدوث بلا سبب والكون بلا علة (1) .

أقول: هل ذميقراطيس (460 ق م) وانباذقلس كانا منكرين للواجب لذاته أم لا؟ سؤال لا طريق لنا إلى جوابه جزماً. وقد ذكر بانگون (2) ، أنّ الأَوّل ليس بمادي بل كان يعتقد وجود الروح، وذكر صاحب الأسفار أنّ كلام الثاني ناظر إلى أصالة الوجود واعتبارية الماهيات، وذكر غيره أنّ مراده هو إنكار العلة الغائية (3) ، لكن هذه الضلالة الخبيثة، والجهالة المبطلة حد الإنسانية، حدثت منذ زمن غير قريب، فإنّ آحاد الإنسان في أفكارهم ليسوا على مستوىً واحد، فمنهم مَن هو قاصر، ومنهم مَن هو متوسط، ومنهم مَن هو عالٍ، ولكلّ منها درجات.

هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى أنّ الحدود المقرّرة في الشرائع السماوية، كثيراً ما تضاد الشهوات النفسانية، والميولات الغريزية، والمخلص من هذا التضاد، هو البناء على إنكار المبدأ الشاعر القادر لا غير. قال أبيقورس أحد زعماء الماديين: إنّ راحة البال التي تقوم بها سعادة

____________________

(1) نقله في الشوارق 1 /126 من كتاب الشفاء لابن سينا.

(2) على أطلال المذهب المادي / 15.

(3) الأسفار 1 / 210.

٩٤

الإنسان، هي في اضطراب دائم؛ من جري الريب الواقع من نسبة الإنسان إلى الخليقة وإلى الله (1) ... فهذان السببان - أي القصور الفكري والشهوة - هما أحدثا هذه البلية الفاجعة.

وما قيل من أنّ المستفاد من أكثر التواريخ، أنّ تأسيس هذه النظرية الرديئة قبل ميلاد المسيح عليه‌السلام بستة قرون أو سبعة قرون، فلعلّه يُقصد به انتشارها واشتهارها، كما أنّ شدّة ظهورها وكثرة رواجها، إنّما كانت في القرن الثامن عشر والتاسع عشر بين الغربيين، فسرت منهم إلى الشرقيين، ثمّ ضعفت في القرن العشرين؛ لكشف بطلان ما اعتمدوا عليه في هذه الدعوى.

وأمّا أصل هذا المسلك فله عهد بعيد، كما ربّما يؤيّد قوله تعالى: ( يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ) (2) ، وإن لم يكن بدليل عليه كما لا يخفى.

ثمّ إنّ أساس عقائدهم يتخلّص إلى أصول أربعة. كما قيل:

1 - لا موجود في العالم غير المادة وآثارها.

2 - العالم مركّب من العلل والمعاليل المادية، وكلّ شيء يعلّل بعلل مادية.

3 - الموجودات بأسرها تؤثّر بعضها في بعضها، فكلّ منها علّة شيء ومعلول لشيء آخر، وجميع الحوادث في تغيّر وتحوّل، بيد أنّ القدر الجامع بينها - يعني المادة - أمر أزلي.

4 - إنّ الكائنات - بشموسها، وكواكبها، وأقمارها، وأراضيها، وسمواتها، وجميع جزئياتها - معلولة التصادف والاتّفاق، لا بمعنى أن لا علّة لها، بل بمعنى اتّحاد العلّة الفاعلية والعلة المادية فيها، فلا مُوجِد لها إلاّ المادة، ولا صانع مختار لها أبداً، فليس لها العلّة الغائية أيضاً.

والحاصل: أنّهم لا ينكرون مبدأ الكائنات، بل ينكرون شعوره وقدرته وإرادته.

تفتيش وتفنيد

أمّا الأصل الأَوّل ففيه بحثان: الأَوّل: في بيان المادة. والثاني: في بيان انحصار الموجودات بها.

أمّا البحث الأَوّل: فالمعروف عن ديمقراط (3) أنّ المادة هي الجواهر الفردة، وهي الأجزاء التي لا تتجزّأ (الأتُم)، وليس لها إلاّ أشكال هندسية، فالعالم عنده مركّب من هذه الذرّات، التي لها بنظر بعضها إلى بعض حركة دائرة، وحركة اصطدام مستقيمة (4) ، ويرى أنّ هذه الذرّات يتخلّل

____________________

(1) الرحلة المدرسية للعلاّمة المجاهد الشيخ جواد البلاغي / 292.

(2) يس 36 / 30.

(3) وقيل: إنّ أَوّل مَن تفوّه به لوقيوس أُستاذ ديمقراط.

(4) الرحلة المدرسية / 298.

٩٥

بينها فراغ، خلافاً لأرسطو وأتباعه، حيث ذهبوا إلى أنّ الجسم شيء واحد متماسك، يمكننا أن نقسّمه إلى أجزاء منفصلة، لا أنّه يشتمل سلفاً على أجزاء كذلك (1) . ثمّ إنّ هذا الذرّات غير مختلفة في حقيقتها، وما يشاهد من اختلاف آثار الموجودات المتكوّنة منها، إنّما هو من جهة اختلاف أشكالها، وأحجامها، وأمكنتها، ونظامها، وأوضاعها، هذا ولمّا كان الشكل الهندسي متناقضاً لعدم التجزّؤ، رفضوا شكلها وقالوا: إنّها غير مشكّلة؛ ولذا قال المحقّقون من أهل العصر: إنّ الجواهر التي نقول بها هي أصغر من جوهر ديمقراط جداً (2) .

أقول: وهو كذلك قطعاً، فإنّ الذرة التي زعموا عدم إمكان تجزئتها ولزوم بساطتها، قد وقع عليها التجزئة خارجاً عام 1919م، من قِبل العالِم روترفورد، ثمّ عُلم أنّ لها أجزاءً عمدتها: بروتون ونوترون والكترون.

وذهب لوسيبوس إلى أنّ تلك الذرّات تتحرّك في الفراغ منذ الأزل، والأشياء تظهر وتخفى بحسب ما تجمع وتنفصل، وعن أبيقورس: أنّها متحرّكة دائماً في الخلاء الذي لا نهاية له، بانحراف بعضها على موازاة بعض، بحيث تصطدم وتحدث حركة لولبية مخروطية كحركة الزوابع، فتؤدّي إلى تراكيب عديدية وصور متنوعة ومتغيّرة. وقال بخنر: أمّا حركة الجواهر عندنا، فمن تضادّ قوتي الجذب والدفع، اللتين نعتبرهما غريزتين في الجوهر (3).

هذا، ولكن لمّا رأى بعض العلماء أنّ الفراغ مستحيل في الطبيعة، فرضوا أنّ تلك الجواهر تسبح في مادة لطيفة، أو غاز (4) أخف من الهواء، أو سائل تام الاتصال مالئ للخلاء سمّوه الأثير، تتحرك فيه الجواهر التي هي أجزاؤه حركة الزوابع في الهواء الهادئ، ومن أحوال اجتماعها بالحركة وأفاعيلها تظهر صور الكائنات، وهذه الجواهر في الرأي القديم، هي أزلية أبدية، لم تحدث بعد العدم، ولا تتلاشى ولا تنعدم، وإنّما تخفى بتفرّقها، ولكن الرأي الجديد حسب اكتشافات العالم الفرنسي - غوستاف لبون - الرأي المبني على المشاهدة والاختبار، بحيث وافقه أكثر علماء أوروبا - هو أنّ المادة قوّة متكاثفة، وأنّ المادة ليست أبديةً، بل تتلاشى بانحلالها إلى القوة، والقوة أيضاً تنحلّ إلى الأثير، كما أنّ المادة ليست أزليةً، بل إنّ الأثير تكاثف في الأزمان البعيدة - بسبب لا نعلمه - فصار مادّةً (5) .

وأمّا البحث الثاني - وهو انحصار الموجودات في مضيقة المادة، وعدم الحاجة إلى علّة

____________________

(1) فلسفتنا / 318.

(2) الرحلة المدرسية / 274.

(3) الرحلة المدرسية / 298.

(4) جوهر هوائي قابل للضغط سيّال.

(5) الرحلة المدرسية للشيخ جواد البلاغي / 275.

٩٦

فاعلية غير مادية - فقد ذكروا لإثباته وجوهاً: الأَوّل: وهو عمدة تلفيقاتهم وأشهرها: إنّ مثل هذه العلّة غير مدركة بأحد الأحاسيس، ولم تدلّ عليها التجربة العلمية، فلا سبيل لنا إلى الإيمان به.

الثاني: إنّ كلّ موجود لابدّ له من سبب، كما أثبتته التجربة العلمية، فالوجود الغني عن السب غير معقول. ذكره بعض الفلاسفة الماركسية على ما تقدّم.

الثالث: إنّ العالم المادي لو لم يكن أزلياً وغنيّاً عن علّة مجردة لكان معلولاً لها، فيكون مخلوقاً من العدم، وهذا غير معقول، فإنّ العدم لا يسبّب الوجود ولا يكوّنه.

الرابع: إنّ كلّ موجود يجب أن يكون في الزمان والمكان، ولا يعقل ما يكون متحرّراً منهما.

الخامس: إنّ حدوث المادة غير محسوس، فلا دليل على كونها مخلوقةً للفاعل الخارج عن نشأة الطبيعة، فإذن هي قديمة.

السادس: إنّ مبدأ العالم لو كان فاعلاً مختاراً، لكان له غرض من خلقته لا محالة، مع أنّا لا نعلم الغرض المفيد في جملة من الأشياء.

السابع: إنّ التجربة العلمية دلّت على أنّ كلّ موجِد مادّي، معلّل بسبب مادّي آخر، ومعه لا ملزم للالتزام بوجد فاعل مجرّد مختار بعد المادة المذكورة.

الثامن: المؤثّر في العالم لابدّ أن يكون إمّا إرادة الفاعل المختار، وإمّا العلل الطبيعية - على سبيل منع الجمع والخلو - فإنّ تأثير المريد المختار، ينافي النظام الحاصل من تأثير العلل الطبيعي، الذي لا يتغيّر ولا يتشتّت، وحيث إنّ العلوم قاضية بتأثير العلل المادية، وإنّ الحوادث الطبيعية مسبّبة عن أسباب طبيعية، يستكشف منها عدم المبدأ المختار المذكور.

هذه هي تلفيقاتهم في هذا المبحث، ومن الضروري أنّها مخالفة للوجدان، والفطرة، والبرهان، والفلسفة، والمميّز العاقل لا يقدم على إبراز هذه الكلمات الفاسدة المخالفة لضرورة العقول الساذجة، والإنصاف أنّ هؤلاء الماديين المتفلسفين، بين مَن غرّته العلوم الطبيعية، فحسب أن تبحّره ومهارته فيها، يجوّز له الإفتاء في كل علم وفن، وإن كان جاهلاً به رأساً:

قل للذي يدّعي في العلمِ فلسفةً

حفظتَ شيئاً وغابتَ عنك أشياءُ

وبين مَن دعته إليه الأغراض السياسية الدنية، وبين مَن اشتبه عليه تباين الإلهيات والطبيعيات، فحيث لم يجد الله في الحقل التجربي أنكره، ولم يدرِ المسكين أنّ طريق الاستنتاج في كلّ من العلمينِ لا يرتبط بالآخر أصلاً، وبين مَن أضلّه تعريف أصحاب الكنائس، حيث جعلوا الخالق جسماً متحرّكاً، آكلاً شارباً، متصارعاً، إلى غير ذلك من خرافات التوراة والأناجيل الموجودين، فإذا أصبح الإله المعبود كذلك فالحق مع الماديين، والجناية حينئذٍ على عاتق

٩٧

القسّيسين والأحبار وكتّابهم.

وعلى الجملة: أنّ الموجودات - بكراتها السامية العظيمة، وميكروباتها الصغيرة - دليل على وجود الله سبحانه وتعالى، ولا يتأتى من عاقل صحيح المزاج إنكاره، وهذه الواهيات المذكورة ممّا يصادم الفطرة البشرية في أحكامها الأَوّلية، وعلى سبيل التوضيح - وإن كان توضيحاً للواضحات - ننبّه على فساد كلّ واحد واحد:

فنقول: أمّا الوجه الأَوّل فقد تقدّم بطلانه في أوائل الكتاب، وذكرنا أنّ المدركات العقلية كالحسية في الاعتبار والحجّية، بلا يتمّ إدراك حسي إلاّ بتوسط الحكم العقلي، فلابدّ أن يكون الإنسان إمّا شكّاكاً، وسوفسطائياً، أو فلسفياً يقبل العقليات والحسيات معاً؛ إذ لا حدّ فاصل بينهما.

ونزيد هنا فنقول: ماذا يريدون بقولهم هذا؟

فإن أرادوا الإحساس المباشري، وأنّ الشيء ما لم يحس بنفسه - بأحد الأحاسيس - لا يذعنون به، فهذا يرفض كيان العلوم الطبيعة بأسرها، ويبطل المجرّبات التي يقدّسونها من أصلها، أَليست الأرض متحرّكةً بحركات مختلفة؟ أَليس للهواء المحيط بنا ثقل عظيم؟ أَليس الأثير موجوداً بزعمهم بل جعلوه مبدأ الكائنات؟ أَليس الأتُم موجوداً؟ أَليست الجاذبية العامّة التي استكشفها نيوتن مسلّمةً؟ فهل الحواس أدركت حركة الأرض، وثقل الهواء، ووجود الأثير، والذرة، والجاذبية، فيجوز إنكارها بتاتاً؟ وهكذا الحال في أُلوف من نظائرها، كلا، فالإحساس المباشري لا يرتبط بقبول الحقائق والمعارف بتاتاً.

وإن أرادوا الأعم من ذلك، وأنّ الشيء يُصدّق به ولو بإحساس آثاره - كما هو المقرّر الثابت في العلوم التجربية، على ما عرفت من الأمثلة المزبورة - فهذا بعينه يجري في المقام، فإنّ الله الواجب القديم المجرّد عن الزمان والمكان، وإن لم يُدرك بإحدى الحواس لكن آثاره محسوسة، فإنّ جميع هذه الكائنات المشاهدة المحسوسة آثاره، كما تقدم برهانه، وستعرف أنّ المادة لا تصلّح للمبدئية بل هي مخلوقة لله القهّار.

وأمّا الشبهة الثانية، فقد مرّ جوابها في الفائدة العاشرة من فوائد المدخل وقلنا: إنّ التجربة قاصرة عن تثبيت الحكم في خارج الحقل المادي، ونزيدك هنا ونقول: لو صحّت ضرورة العلّة لكلّ موجود، لوجب مسببية المادّة المزعومة من مبدأ آخر، وكلّ شيء تفرضونه مبدأ للأشياء المادية، لابدّ له من سبب بحكم التجربة، فهذا - مع كونه من التسلسل المحال - يبطل قولكم أيضاً.

وأمّا الشبهة الثالث فهي مخالفة للوجدان، فإنّ الأحاسيس تشاهد في كلّ يوم أُلوفاً من

٩٨

الموجودات، توجد في الخارج بعد ما كانت معدومةً، أَليست الصور الطارئة على المادة الأزلية المزعومة حادثةً عندكم؟ فما هو جوابكم في إصلاحها؟ هو الجواب في حدوث المادة. وحلّ المطلب: أنّ معنى قولنا: يوجد من العدم، ليس كون العدم علّةً مادية للموجود، ولعلّه لم يخطر ببال صبيّ مميّز من صبيان الموحّدين، ولم يتصوّره عالم من العلماء الإلهيين، بل معناه أنّ الله يوجد الشيء بعد ما لم يكن موجوداً، فهذه الشبهة من غفلتهم بمراد المليين أو تجاهلهم به.

وأمّا الشبهة الرابعة فجوابها: أنّ كلّ موجود مادّي لابدّ له من مكان وزمان، ولا دليل على انسحاب هذا الحكم إلى كل موجود مطلقاً، وسيأتي تحقيقه في المقصد الثالث إن شاء الله.

وأمّا الخامسة فهي مضحكة، فإنّ قِدم المادة مثل حدوثها في عدم إحاطة الأحاسيس به، فكيف يذعنون بأحدهما دون الآخر، وهذا شيء عجيب؟ وسيأتي في آخر هذا الجزء أنّ العقل قاضٍ بحدوث جميع الموجودات الممكنة.

وأمّا الشبهة السادسة فهي واضحة الفساد، فإنّ الجهل بفائدة خلقة جملة من الأشياء - مع إحرازها في كثير من الموجودات بنحو تدهش العقول منها - لا يدل على أنّ المؤثّر غير عالم، بل لابدّ من الإذعان بوجود الغرض الكامل فيها إجمالاً، وأن لا نعلمه تفصيلاً؛ وذلك من جهة ما علمنا من تحقّقه في أكثر المخلوقات، أَليس إذا شاهدنا ماكنةً كبيرة ذات آلات كثيرة، وعلمنا فائدة أكثر أجزائها، لكن جهلنا فائدة بعضها الآخر، يحكم عقلنا بأنّ صانعها عالم قادر؟ وأنّ عدم علمنا بغرضه في بعض أجزائها، لا يدلّ على جهل الصانع المذكور، وإنّي أثق كل الثقة أنّ هذا الجواب ممّا يعرفه الصبيان في حين وجدانهم التمييز، لكن مَن غلب فطرته الغباوة والسفاهة لا يدرك ذلك.

وأمّا السابعة فتزيّف بأنّ الكلام في العلّة الأُولى انقطاعاً للدور التسلسل، فهي إمّا الأثير، وإمّا المادة، وعلى كلّ منهما يبطل ما ادّعوه من الكلّية المذكورة، فإنّ الذرّات أو الأثير مادّية لا علة مادّية لها، وإلاّ جاء الدور والتسلسل، فلابدّ من الالتزام بأنّ لها علّة غير مادية، وهي الواجب الوجود، ولِما ستعرف من أنّ المادة - بأي شيء فسّرت - لا تصلح للمبدئية.

وبالجملة: لزوم علّة مادية لكلّ موجود مادّي لا ينافي تأثير الواجب الوجود، ولم ينكر اللزوم المذكور الإلهيون، بل يقولون بصحّة الأسباب والمسبّبات الطبيعية في عالم الطبيعة، ومع ذلك يقولون بتأثير الواجب الوجود أيضاً، فإنّ الممكن بعلّته ومعلوله غير مستغنٍ عن الواجب حدوثاً وبقاءً كما مرّ.

وأمّا الثامنة فهي من أرذل الكلام، ولعلّ القائل بها لم يملك إدراكه حين التلفّظ بها؛ إذ أي إلهي يقول بإله ذي إرادة هدّامة للنظام الطبيعي، حتى يستكشف النظام عن عدمه؟ بل نقول: إنّ

٩٩

نظام الطبيعة من فعله وإرادته وهو - لمكان علمه وقدرته وحكمته وغنائه - لا يريد إلاّ الأصلح، فهذا النظام أكبر برهان على أنّ مبدأ العالم حي قادر عالم حكيم كامل، كما سيأتي توضيحه فيما بعد، والعمدة إلى العلل المادية في طول إرادة الخالق الحكيم، لا في عَرضها، فلا تنافي بينهما، وقد خفي هذا الموضوع المهم العالي على الماركسيين.

چشم باز وگوش باز واين عمى

حيرتم از چشم بندى خدا

فاتضح أنّ ما نسجه عبّاد المادة لا يناسب الموازين العلمية، ولا يرتبط بالنواميس العقلية، وإنّما الداعي لهم إليه ما تقدّم من الأسباب، وصدق القرآن المجيد حيث يقول: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ) (1) .

هذا كله في الأصل الأَوّل من أُصولهم الأربعة المتقدّمة، ومن تزييفه وهدمه يظهر سقوط الأصل الثاني والثالث منها أيضاً، فيبقى الأصل الرابع، وهو أنّ مبدأ العالم ومؤثّره ليس إلاّ المادة المذكورة، وقد تقدّم تفسير المادّة وكيفية تشكيل الأجسام منها. وخلاصة القول: أنّ صلاحية المادّة للمبدئية المطلقة، موقوفة على وجوبها الذاتي، وعدم توقّفها على سبب آخر، كما هو ظاهر، وكونها واجبة الوجود، وأزلية الثبوت، متفرّع على بساطتها، وعدم تركّبها اتفاقاً - ولذا أنكروا تجزئتها أشد الإنكار، فإنّ التركّب أمارة المسببية كما مرّ - وعلى أنّ حركتها من ذاتها لا من غيرها، وإلاّ كان فوقها قاهر محرّك يدبّرها، وكِلا الأمرين باطل قطعاً، فلا يمكن وقوف تعليل الموجودات على المادة المذكورة.

ثمّ يُعلم أنّا لا ننكر تركّب الأجسام من الذرّات؛ تثبيتاً لتركّبها من العناصر الأربعة المعروفة (2) أو أكثر منها، ولسنا نحن بصدده، فإنّه من مسائل العلوم الطبيعة، وإنّما ننتقد كونها علّة العالم وحدها، بحيث لا تحتاج إلى علّة فاعلية أُخرى، فنقول:

أمّا كون المادة أو الأثير مركّباً، فهو ممّا لا يدانيه شك ولا يمسّه ريب، وقد أكثروا الأدلة على ذلك وإليك بعضها:

1 - كلّ موجود مادّي له جهات ستّ، وكلّ جهة منه غير جهة أُخرى منه بالضرورة؛ إذ ليس جهتها اليمنى عين جهتها اليسرى، ولا جهتها الفوقانية عين جهتها التحتانية بالبداهة، ويستنتج منه أنّ كلّ ذرة - مهما فُرض صغرها - مركبة من أجزاء ستّة، وإن عجزت الآلات الصناعية عن تجزئته في الخارج.

____________________

(1) الحج 22 / 3.

(2) وهي الماء والتراب والهواء والنار، وزاد عليها بعض علماء العرب ثلاثة أخرى: الكبريت والزئبق والملح، وعدّها الباحثون الغربيون إلى 104 عناصر.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400