كتاب الصلاة الجزء ٢

كتاب الصلاة10%

كتاب الصلاة مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 400

  • البداية
  • السابق
  • 400 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 28529 / تحميل: 5540
الحجم الحجم الحجم
كتاب الصلاة

كتاب الصلاة الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

هذا كله مضافا إلى رواية عمر بن يزيد قال: سألت أبا عبدالله عن إقامة بغير أذان في المغرب فقال: ليس به بأس وما احب أن يعتاد(١) فإنه صريح في عدم وجوب الاذان في المغرب وقولهعليه‌السلام وما احب أن يعتاد يكون شاهدا على أن النهي عن ترك الاذان في المغرب محمول على الكراهة.

واما وجوب الاقامة في مطلق الصلاة اليومية فقد استدل له بطوائف من الاخبار: منها ما دل على أن من صلى بأذان وإقامة فقد صلى خلفه صفان من الملائكة ومن صلى بإقامة فقط صلى خلفه صف من الملائكة وقد ورد بهذا المضمون عدة من الروايات وقد عقد لذلك باب(٢) في الوسائل إلا أن دلالتها على وجوب الاقامة ضعيفة جدا بل نفس لسان هذه الطائفة من الاخبار ينادي بالاستحباب كمالا يخفى.

ومنها ما دل على أنه يجزي إقامة واحدة في السفر أو في الحضر أيضا وهي عدة من الروايات أيضا، وقد عقد لها في الوسائل باب(٣) على حدة إلا أنها لا تدل أيضا على الوجوب لما عرفت الكلام فيما يتعلق بلفظة يجزي فلا نعيده.

ومنها ما تقدم من الروايات الدالة على وجوب الاذان والاقامة في المغرب والصبح والاقامة فقط في سائر الصلوات وقد عرفت الجواب عنها. ومنها ما دل على أن الاقامة جزء للصلاة ويبطلها كل ما يبطل الصلاة كقول الصادقعليه‌السلام لابي هارون المكفوف: يا أبا هارون الاقامة من الصلاة فإذا أقمت فلا تتكلم ولا تؤم بيدك(٤) ، هذا. ولكن الانصاف أنه لا دلالة لهذه الطائفة على الوجوب أيضا، فإنه - مضافا إلى أنه لابد من حملها على خلاف ظاهرها، لما استفاضت النصوص به، من أن

____________________

(١) الوسائل: ج ٤ ص ٦٢٣ باب ٦ من ابواب الاذان والاقامة، ح ٦.

(٢) الوسائل: ج ٤ ص ٦١٩ باب ٤ من ابواب الاذان والاقامة.

(٣) الوسائل: ج ٤ ص ٦٢١ باب ٥ من ابواب الاذان والاقامة.

(٤) الوسائل: ج ٤ ص ٦٣٠ باب ١٠ من ابواب الاذان والاقامة، ح ١٢. (*)

٢١

أول الصلاة التكبير وآخرها التسليم(١) ، فلا يمكن القول بجزئية الاقامة للصلاة - لا دلالة لها على الوجوب إذ لا ملازمة بين الجزئية والوجوب كما لا يخفى. فالاقوى عدم وجوب الاقامة أيضا في مطلق الصلوات نعم استحبابها آكد من الاذان للنصوص المتقدمة.

موارد سقوط الاذان والاقامة

وفيه أبحاث(٢) . البحث الاول: في سقوط الاذان فقط: اعلم أنه قد ذكر الاعلام موارد يسقط فيه الاذان، ثم اختلفوا في أن سقوطه هل هو عزيمة أو رخصة؟ وقبل ذكر الموارد لابد من بيان المراد من الرخصة والعزيمة فنقول: إن المراد من العزيمة هو عدم مشروعية الاذان في هذه الموارد بمعنى أنه لا يجوز التعبد به وفعله بداعي الامر كما هو الشأن في كل عبادة لم تكن مشروعة وأما معنى الرخصة فليس المراد منها الرخصة في الترك الذي هو لازم الامر الاستحبابي فإن الرخصة بهذا المعنى لا يختص بهذه الموارد الخاصة بل بعد البناء على استحباب الاذان والاقامة يكون الشخص مرخصا في تركهما في جميع الموارد وإلا خرجا عن كونهما مستحبين، فالرخصة بمعنى جواز ترك المستحب قطعا ليس بمراد في المقام وكذا ليس المراد من الرخصة الاباحة بمعنى تساوي الطرفين إذ العبادة لا يمكن

____________________

(١) الوسائل: ج ٤ باب ١ من ابواب تكبيرة الاحرام وباب ١ من ابواب التسليم.

(٢) ذكر المصنف -رحمه‌الله - بحثا واحدا، ولم يتطرق عن موارد سقوط الاقامة، فتأمل. (*)

٢٢

تساوي طرفيها فلابد من أن يكون المراد من الرخصة هو أقلية الفضل بالنسبة إلى ما عدا هذه الموارد لا بمعنى أن يكون تركهما في تركهما في موارد سقوطهما أفضل من فعلهما بأن ينطبق عنوان على الترك يكون أفضل من الفعل نظير العبادات المكروهة التي لا بدل لها فإن ذلك بعيد في المقام.

بل الاقرب في المقام هو أن يراد من الرخصة أقلية الفضل من سائر الموارد وإن كان فعلهما في هذه الموارد فيه الفضل من دون أن يكون تركهما أفضل، ولكن لا يخفى عليك أن ثبوت الرخصة بهذا المعنى يحتاج إلى قيام الدليل عليه وإلا الاصل يقتضي أن يكون السقوط عزيمة إذ ما دل على السقوط في هذه الموارد يكون مخصصا للعمومات والاطلاقات الدالة على مشروعية الاذان والاقامة واستحبابهما كما سيأتي بيانه.

ثم إن كلمات العلماء في موارد السقوط وكونه عزيمة أو رخصة مضطربة غاية الاضطراب وتطبيقها على الدليل في غاية الاشكال. فالاولى الاقتصار على ما أفاده شيخنا الاستاذ - دام ظله - في المقام فنقول: موارد سقوط الاذان هو موارد الجمع بين الصلاتين ولكن الجمع بين الصلاتين تارة يكون مستحبا وأخرى يكون عدم الجمع والتفريق مستحبا وثالثة يكون كل من الجمع والتفريق متساويان من دون أن يكون بينهما تفاوت في الفضل، وقبل بيان الاقسام وأحكامها لابد من بيان معنى الجمع والتفريق فنقول: المراد من الجمع هو الجمع بين الصلاتين بالنسبة إلى الوقت بأن يأتي بالاولى في وقت الثانية أو الثانية في وقت الاولى من دون فصل بينهما عرفا وفي كون الفصل بالنافلة مخلا بالجمع كلام يأتي بيانه والمراد من التفريق تفريق الصلاتين على اوقاتهما مع الفصل بينهما عرفاولا يكفي مجرد التفريق على الاوقات من دون الفصل العرفي كما إذا صلى الظهر في آخر وقت فضلها والعصر في أول وقت فضلها فإن ذلك يكون من الجمع لعدم الفصل العرفي بينهما، ففى التفريق لابد

٢٣

من كلا القيدين التفريق على الاوقات والفصل العرفي، ثم إن الجمع بين الصلاتين تارة يكون أفضل من التفريق كما في يوم الجمعة وعرفة بالنسبة إلى الظهرين والمزدلفة بالنسبة إلى العشاء‌ين غايته أن في يوم الجمعة ويوم عرفة يستحب فعل الثانية في وقت الاولى وفي المزدلفة يستحب فعل الاولى وهي المغرب وفي وقت الثانية وأخرى يكون التفريق أفضل كما في سائر الايام إذ يستحب تفريق الصلوات على أوقاتها وثالثة يتساوى الجمع والتفريق كقضاء الصلوات إذ لا يتفاوت فيه بين الجمع والتفريق.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الذي يقتضيه الجمع بين الروايات هو أنه لو كان الجمع أفضل فأذان الثانية ساقط عزيمة إن لم يتنفل بين الصلاتين ورخصة إن تنفل ولو كان التفريق أفضل فعند الجمع مع التنفل في البين يسقط أذان الثانية رخصة ومع عدم التنفل يكون السقوط عزيمة إلا أن يكون إجماع على خلافه ولو تساوى كل من الجمع والتفريق كان السقوط أيضا عزيمة، وليس في هذا مظنة الاجماع على كون السقوط رخصة كما كان مظنته في موارد استحباب التفريق فجمع بلا تنفل كما يشعر إليه كلام الشهيد -رحمه‌الله - في اللمعة(١) .

وينبغي حينئذ ذكر الاخبار حتى يعلم انطباقها على ما قلناه فنقول: منها خبر غياث: الاذان الثالث يوم الجمعة بدعة(٢) . وبهذا الخبر قد استدل على سقوط أذان العصر في يوم الجمعة لان الاذان الاول في يوم الجمعة هو أذان الصبح والاذان الثاني أذان الظهر فيكون الثالث أذان العصر هذا، ولكن الظاهر أن يكون المراد من الاذان الثالث الاذان الثاني لصلاة الجمعة الذي أبدعه عثمان أو معاوية

____________________

(١) (١) اللمعة: ج ١ ص ١٠٩.

(٢) الوسائل: ج ٥ ص ٨١ باب ٤٩ من ابواب الصلاة الجمعة، ح ١. (*)

٢٤

حيث إنه كان يفعل لصلاة الجمعة أذانين قبل الخطبتين وبعدهما ويدل على ذلك لفظ البدعة.

ومنها: صحيح عبدالله بن سنان: السنة في الاذان يوم العرفة أن تؤذن وتقيم للظهر ثم تصلي ثم تقيم للعصر بغير أذان وكذلك المغرب والعشاء بمزدلفة(١) . وفي معناه عدة من الروايات(٢) ، وهو بظاهره يدل على أن الاذان للعصر في يوم عرفة وللعشاء في المزدلفة ليس من السنة بل هو عزيمة، فيكون دليلا على سقوط الاذان عزيمة في موارد استحباب الجمع، وهو بإطلاقه وإن كان يعم ما إذا تنفل بينهما فيدل بإطلاقه على عدم مشروعية الاذان في موارد استحباب الجمع ولو تنفل بين الصلاتين إلا أن في موثق محمد بن حكيم عنهعليه‌السلام : الجمع بين الصلاتين إذا لم يكن بينهما تطوع فإذا كان بينهما تطوع فلا جمع(٣) .

وهذا الموثق وإن كان ظاهره نفي أصل الجمع مع التطوع ويكون دليلا على عدم سقوط الاذان لا رخصة ولا عزيمة مع التطوع إلا أنه ورد أيضاأن التطوع في البين لا ينافي الجمع المسقط للاذان كما في خبر أبان بن تغلب قال: صليت خلف أبي عبدالله المغرب بالمزدلفة فلما انصرف أقام الصلاة فصلى العشاء الآخرة لم يركع بينهما، ثم صليت معه بعد ذلك بسنة فصلى المغرب ثم قام فتنفل بأربع ركعات ثم أقام فصلى العشاء الآخرة(٤) . فهذا الخبر يدل على أن التنفل غير مانع عن الجمع المستحب في المزدلفة وعن سقوط الاذان أيضا.

____________________

(١) الوسائل: ج ٤ ص ٦٦٥ باب ٣٦ من ابواب الاذان والاقامة، ح ١.

(٢) الوسائل: ج ٤ ص ٦٦٥ باب ٣٦ من ابواب الاذان والاقامة، ح ٢ وج ٣ ص ١٦٧ باب ٣٢ من أبواب المواقيت، ح ١ وج ١٠ ص، ص ٩ من ابواب احرام الحج والوقوف بعرفة، ح ١.

(٣) و (٤) الوسائل: ج ٣ ص ١٦٣ من أبواب المواقيت، ح ٣ و ١.

٢٥

ونحن لو خلينا وأنفسنا لقلنا إن سقوط الاذان عزيمة مطلقا ولو تنفل بينهما إلا أنه ورد في خبر زريق عن الصادقعليه‌السلام : أنه ربما كان يصلي يوم الجمعة ركعتين إذا ارتفع النهار وبعد ذلك ست ركعات أخر وكان إذا ركدت الشمس في السماء قبل الزوال أذن وصلى ركعتين فما يفرغ إلا مع الزوال ثم يقيم الصلاة الظهر ويصلي بعد الظهر أربع ركعات ثم يؤذن ويصلي ركعتين ثم يقيم ويصلي العصر(١) .

وهذا يدل على عدم سقوط الاذان مع التنفل بين الصلاتين، فيكون مقتضى الجمع بين الروايات هو أنه في موارد استحباب الجمع كيوم الجمعة وعرفة والمزدلفة يسقط الاذان للصلاة الثانية عزيمة إن لم يتنفل بينهما ورخصة إن تنفل، فتأمل، فتأمل جيدا. هذا كله في موارد استحباب الجمع.

وأما في موارد استحباب التفريق كسائر الايام فإن جمع بين الصلاتين مع التنفل بينهما فلا يبعد دعوى كون السقوط أيضا رخصة للاولوية فإنه لو كان التنفل في موارد استحباب الجمع موجبا لكون السقوط رخصة ففي غير موارد استحباب الجمع يكون السقط رخصة مع التنفل أولى. وأما مع عدم التنفل بينهما فمقتضى القاعدة كون السقوط عزيمة لعدم دليل لفظي يدل على ثبوت الاذان مع ماورد من فعل الائمة والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من ترك الاذان مع الجمع في عدة من الروايات(٢) .

ودعوى أن مجرد عدم فعلهمعليه‌السلام للاذان لا يوجب تخصيص المطلقات الدالة على استحباب الاذان لكل صلاة لجواز تركهم المستحب أو كان تركهم لبيان ذلك فاسدة فإن تركهم المستحب لم يعهد عنهم وبيانهم لجواز الترك

____________________

(١) الوسائل: ج ٥ ص ٢٧ باب ١٣ من ابواب المواقيت، ح ٤.

(٢) الوسائل: ج ٤ ص ٦٦٥ من باب ٣٦ من أبواب الاذان والاقامة ح ٢، وج ٣ ص ١٦٧، باب ٣٢ من أبواب المواقيت، ح ١ وج ١٠ ص ٩ باب ٩ من أبواب احرام الحج والوقوف بعرفة، ح ١. (*)

٢٦

لا ينحصر بالفعل إذ يمكن البيان بالقول فلا معنى لتركهم المستحب لمجرد بيان جواز الترك فتأمل جيدا. وكذا القول فيما لا يستحب فيه الجمع والتفريق كقضاء الصلوات بل كون السقوط في ذلك عزيمة أولى لقيام الدليل اللفظي على السقوط كما تقدم

٢٧

المقصد الثاني: في أفعال الصلاة(النية)

اعلم أن الكلام في النية يقع من جهتين:

الجهة الاولى: في كيفية اعتبارها وأنها كيف يمكن أخذها في متعلق التكليف مع كونها هي الداعي إلى إرادة الفاعل نحو الفعل وتنبعث الارادة عنها؟ فهي واقعة فوق دائرة الارادة وما كان فوق الارادة لا يمكن أن يرد الارادة عليه ويكون تحت دائرتها بحيث تتعلق الارادة بها نحو تعلقها بالفعل الصادر عن الفاعل فإذا لم يمكن تعلق إرادة الفاعل بها لا يمكن تعلق إرادة الآمر بها بحيث يطالب بها نحو طالبه بما يقع تحت إرادة الفاعل من الفعل الصادر عنه لان إرادة الآمر إنما تتعلق بما يتعلق به إرادة الفاعل لان الارادة الآمرية هي المحركة للارادة الفاعلية فلا يمكن أن يكون متعلق إرادة الآخر أوسع من متعلق إرادة الفاعل.

وهذا الاشكال وارد على اعتبار النية، وكونها متعلقة للطلب على جميع الوجوه والتفاسير حتى لو قلنا: إن النية والقربة المعتبرة في العبادات عبارة عن إتيان الفعل لله تعالى، مضافا إلى ما يرد على التفاسير الاخر من كونها عبارة عن قصد الامر وقصد الوجه وغير ذلك من لزوم الدور، وأن مالا يأتي إلا من قبل الامر كيف يمكن أخذه في المتعلق، فإن الدور يختص بما إذا قلنا: إنها عبارة عن قصد الامر وما يشبه ذلك وأما لو قلنا: إنها عبارة عن إتيان

٢٨

الفعل لله تعالى فلا دور، إلا أنه يرد عليه ما تقدم من الاشكال فإن الاشكال المتقدم وارد على كل حال كما لا يخفى.

الجهة الثانية: فيما يعتبر في النية وشرائطها وأركانها.

والبحث عن الجهة الاولى راجع إلى مسألة اصولية، وعن الجهة الثانية إلى مسألة فقهية، والمقصود في المقام إنما هو البحث عن الجهة الثانية، وفيه مباحث:

البحث الاول:

حقيقة النية ليس إلا الارادة الباعثة على الفعل، ولكن في العبادات تتقوم بأمرين، الاول: القصد إلى المأمور به الذي به يكون الفعل اختياريا وصادرا عنه بالارادة ويمتاز عن فعل النائم والساهي والغافل. الثاني: إنبعاث هذا القصد عن الداعي المقرب إليه تعالى دون سائر الدواعي الذي به يمتاز العبادة عن غيرها فحقيقة النية في العبادة إنما هي متقومة بهذين الامرين وكان كل منهما ركنا في النية وإن كان الثاني في طول الاول وربما يطلق النية على خصوص الثاني أي ما يمتاز به العبادة عن غيرها وعلى كل حال لابد في كل عبادة من تحقق هذين الركنين فلابد من التكلم في كل منهما على حدة.

ويعتبر في الركن الاول أي القصد إلى المأمور به امور: الاول: أن يتعلق القصد بذات المأمور به وبحقيقته وهويته التي بها يمتاز عما عداه وبعبارة أخرى لابد من القصد إلى واقع المأمور به بحيث يحمل عليه بالحمل الشائع الصناعي أنه هو فلا يكفي القصد إلى مفهوم الصلاة والصيام بل لابد من القصد إلى العنوان الذي أمر به سواء انحصر ما في ذمته في واحد معين أو لم ينحصر فإن الانحصار وعدم الانحصار لا دخل له بما نحن بصدده من القصد إلى المأمور به الذي قد عرفت أن بذلك يكون الفعل اختياريا ويمتاز عن فعل النائم والساهي.

٢٩

والحاصل أن الفعل الاختياري هو ما كان عن قصد وإرادة فأي مقدار من الفعل دخل تحت القصد وتعلقت به الارادة يكون الفعل بذلك المقدار اختياريا فلو تعلق القصد بذات الفعل والقدر المشترك بين الانواع والاصناف كان الاختياري هو ذلك القدر المشترك دون الخصوصيات المنوعة والمصنفة وذلك واضح غايته.

وحينئذ لو كان المأمور به نوعا خاصا من صوم الكفارة وصلاة الظهر وأمثال ذلك فلابد من القصد إلى ذلك النوع ويكون هو متعلق الارادة بوجه من الوجوه، ولا يكفي القصد إلى القدر المشترك من القصد إلى الصيام المطلق والصلاة كذلك عن قصد الكفارة والظهر وإن لم يكن في ذمته إلا ذلك فإن انحصار ما في الذمة في خصوص صوم الكفارة أو صلاة الظهر لا يوجب وقوع صوم الكفارة وصلاة الظهر من دون أن تتعلق الارادة بهما والقصد إليهما بل يقع باطلا حينئذ لعدم القصد إلى ما هو المأمور به حقيقة، وقد عرفت أن القصد إلى حقيقة المأمور به مما لا بد منه.

وبذلك يظهر أنه لو نوى القصر(١) مقام التمام أو نوى الجمعة بدل الجنابة والعصر بدل الظهر يقع باطلا وإن اعتقد أن ذلك هو المأمور به، وليس ذلك من الخطأ في التطبيق لان مورد الخطأ في التطبيق إنما هو بعد القصد إلى حقيقة المأمور به، وحقيقة الامر على ما سيأتي في الركن الثاني، وبعبارة أخرى موقع الخطأ في التطبيق إنما هو الخصوصيات الخارجة عن حقيقة المأمور به وعن حقيقة الامر من الاداء والقضاء والوجوب والاستحباب، وأما الخصوصيات التي لها دخل في حقيقة المأمور به أو في حقيقة الامر فلابد من القصد إليها ولمعرفة أن أي خصوصية تكون داخلة في حقيقة المأمور به وأي خصوصية تكون خارجة عنه مقام آخر لابد من استظهار ذلك من الادلة والغرض في المقام مجرد بيان الفرق بين

____________________

(١) سيأتي ان نية القصر والتمام مما لاتعتبر ولكن نية الخلاف مما يضر. " منه ". (*)

٣٠

الخصوصيتين وبيان مورد الخطأ في التطبيق.

وحاصل الكلام أن القصد إلى واقع المأمور به مما لابد منه ولا يكفي القصد إلى مفهوم المأمور به إذ المفهوم ليس متعلق التكليف بل متعلق التكليف هو ما يحمل عليه بالحمل الشائع الصناعي أنه مأمور به والحاجة إلى قصد المأمور به مما لا يحتاج إلى إقامة برهان عليه بل نفس تصوره يغني عن إقامة البرهان عليه، بداهة أنه لو لم يقصد حقيقة المأمور به لما كان الفعل اختياريا له ولما امتاز عن فعل الساهي والقصد إلى الجنس لا يكون قصدا إلى المأمور به بعدما كان المأمور به هو نوع خاص من الصيام مثلا أو الصلاة أو الغسل ولا يتوهم كفاية قصد الامر عن قصد المأمور به إذا لم يكن في ذمته إلا واحد فإن قصد الامر متأخر عن قصد المأمور به إذ لابد من فعل المأمور به بقصد أمره فقصد الامر لا يكون إلى قصد المأمور به إلا إذا كان قصد الامر ملازما لقصد المأمور به كما إذا نوى في الوقت المختص للظهر صلاة أربع ركعات بداعي أمرها الفعلي فإن القصد إلى ذلك قصد لما هو المأمور به حقيقة نعم لو لم يكن المأمور به إلا الصلاة ركعتين بلا عنوان كالصلوات المبتدأة لا يحتاج إلى أزيد من القصد إلى صلاة ركعتين إذ ليس حقيقة المأمور به إلا الصلاة ركعتين، وكذلك في صوم يوم الغدير وأيام البيض مثلا لا يحتاج إلى أزيد من قصد صوم الغد، وأما قصد كونه من غدير أو أيام البيض فهو مما لا يحتاج إليه لان الخصوصية الزمانية تدور مدار واقعها من دون أن تحتاج إلى القصد ومنه يظهر عدم اعتبار قصد الاداء والقضاء لان الاداء ليس إلا عبارة عن فعل الشئ في وقته ويقابله القضاء وهذا يدور مدار الواقع فإن كان الفعل واقعا في الوقت فهو أداء لا محالة ولو نوى ضده وهذا بخلاف القصر والتمام والظهر والعصر ونافلة الصبح وفريضتها وأمثال ذلك من العناوين المنوعة للمأموربه فإنه لابد من القصد وليس شيئا منها مورد الخطأ في التطبيق كما تقدمت الاشارة إليه

٣١

ويأتي توضيحه إن شاء الله.

الامر الثاني: أن يكون قاصدا وناويا للعمل المأمور به بجملته بما له من الاجزاء والقيود فلا يكفي القصد إلى كل جزء مستقلا وبنفسه إذ لم يكن كل جزء مستقلا مأمورا به، وقد عرفت أن القصد إلى المأمور به مما لابد منه. نعم لو قصد كل جزء بما له من الجزئية، وبوصف كونه جزء صح لان قصده كذلك يرجع إلى قصد الجملة في الحقيقة.

والحاصل أنه بعد ما عرفت من اعتبار قصد المأمور به بهويته وحقيقته فلا محيص من اعتبار قصد المركب بما له من الاجزاء نعم لا يعتبر العلم بتفاصيل الاجزاء حال النية بل يكفي القصد إليها إجمالا كما لو صلى الجاهل بها مع علمه بتعليم من يعلمه كلا منها في موقعه ومحله لان عدم العلم بها تفصيلا لا يخل بالنية إليها، فلو علم إجمالا أن الصلاة مشتملة على عدة من الاجزاء والشرائط مع عدم علمه بها تفصيلا ولكن نوى الصلاة بما لها من الاجزاء والقيود صح مع معرفة تلك الاجزاء في محالها.

الامر الثالث: مما يعتبر في الركن الاول من النية التعيين إذا تعدد ما في ذمته من نوع واحد كما إذا كان عليه صوم كفارة رمضان وكفارة الظهار إذ مع عدم التعيين لا يقع عن واحد منهما بعد صلاحية كل منهما لان ينطبق على المنوي وبالجملة: لو تعدد ما في الذمة على وجه كان المأتي ممكن الانطباق على كل واحد مما في الذمة بحسب الزمان والخصوصيات كان قصد التعيين مما لابد منه لان وقوع المأتي على أحدها ترجيح بلا مرجح فلو لم يعين يبطل ولا يقع عن واحد منها، فلو كان أجيرا من شخصين لابد في مقام العمل من تعيين المنوب عنه وإلا لم يقع عن واحد منهما.

نعم لو كان المتعدد مما في الذمة من صنف واحد من دون أن يكون له جهة تعيين سوى الزمان كما إذا كان عليه قضاء يومين من رمضان فلا يحتاج إلى قصد التعيين بل يكفي قصد صوم القضاء عن رمضان ولا يحتاج إلى

٣٢

تعيين كونه من اليوم الاول أو الثاني فإن ما اشتغلت ذمته ليس الا صوم يومين قضاء عن رمضان فلو صام يومين كذلك فرغت ذمته كما إذا اشتغلت ذمته بدرهمين على التدريج وأعطى كل يوم درهما فإنه لا يحتاج إلى تعيين كون هذا الدرهم عوضا عن الدرهم الاول الذي اشتغلت ذمتي به.

وكذلك لو كان أحد ما في ذمته يحتاج إلى القصد دون الآخر كما إذا كان عليه قضاء من نفسه وقضاء عن غيره فإن الذي يحتاج إلى القصد هو القضاء عن الغير وأما القضاء عن نفسه فلا يحتاج إلى القصد إذ صرف الفعل الذي باشره الفاعل عن نفسه وجعله عن الغير يحتاج إلى القصد وإلا الفعل بحسب طبعه يقع للمباشر حتى لو لم تشتغل ذمة المباشر بالفعل يقع باطلا إلا إذا صرفه عن نفسه وقصد الغير به فالتحمل والنيابة هي التي يحتاج إلى القصد.

فتحصل مما ذكرنا أن اشتغال الذمة بالمتعدد يكون على أقسام ثلاثة أحدها: احتياج كل من المتعدد إلى قصده بخصوصه وإلا لم يقع الفعل عن واحد من المتعدد وذلك كما إذا كان متحملا عن اثنين أو كان عليه صوم كفارتين من متعدد النوع، والسر في احتياج هذا القسم إلى القصد واضح لان تعيين وقوع الفعل عن أحدهما يكون بلا معين وينحصر المعين في القصد والتعيين. ثانيها: عدم احتياج كل من المتعدد إلى القصد والتعيين وذلك كما إذا كان عليه صوم يومين عن رمضان واحد بل رمضانين.

والسر في عدم الحاجة إلى التعيين في هذا القسم أيضا واضح لان ما اشتغلت به ذمته ليس إلا صوم يومين قضاء عن رمضان وقد عرفت أن الخصوصية الزمانية مما لا تحتاج إلى القصد. ثالثها: احتياج واحد من المتعدد إلى القصد دون الآخر وذلك كما إذا كان المتعدد عن نفسه وعن غيره فإن الذي يحتاج إلى القصد هو كونه عن الغير دون كون عن نفسه.

وقد ظهر أيضا مما ذكرنا أن الخصوصيات المأخوذة في المأمور به تختلف

٣٣

بحسب اعتبار قصدها وعدم اعتباره فمنها مالايعتبر قصدها مطلقا كالخصوصيات الزمانية من صوم الغدير وأيام البيض والمبعث ونوافل شهر رمضان ونصف شعبان وأمثال ذلك، ومن ذلك الاداء والقضاء إلا إذا توقف قصد النوع المأمور به أو بعينه عليه، ومنها ما يعتبر القصد إليها مطلقا وهي كل خصوصية تكون مميزة لنوع المأمور به وحقيقته كقصد الظهر والعصر والقصر والتمام، ومنها ما يعتبر القصد إليها إذا تعدد اشتغال الذمة دون ما إذا انحصر وهي كل خصوصية توجب تعيين المأتي وتطبيقه على أحد ما اشتغلت الذمة به، ومن ذلك يظهر الفرق بين الخصوصيات التي إذا لم تكن مقصودة يوجب عدم القصد إلى نوع المأمور به وبين ما يوجب ذلك عدم تعيين المأمور به، وحكي عن بعض إرجاع ما يرجع إلى النوع إلى التعيين وجعل اعتبار القصد إلى الخصوصية لاجل التعيين الذي قد عرفت أن مورده صورة تعدد اشتغال الذمة وألقى اعتبار القصد إلى نوع المأمور به مع انحصار مافي الذمة فتأمل في المقام جيدا. هذا كله فيما يعتبر في الركن الاول من النية وهو القصد إلى المأمور به.

وأما ما يعتبر في الركن الثاني منها وهو الداعي فامورأيضا: الاول: القربة بأن يكون الداعي والباعث مقربا إليه تعالى وينحصر ذلك بقصد امتثال الامر وما يقوم مقامه كما ستعرف. الثاني: أن يكون مقربيته إليه تعالى هي الموجبة لارادة الفعل، ومعلوم أن ما يكون مقربا إليه تعالى ليس إلا العبادة والفعل بنفسه لا يكون عبادة إلا في مثل السجود له تعالى حيث إنه بذاته عبادة له تعالى، لما فيه من الخضوع والتذلل.

وأما غير السجود من سائر الافعال فلا يكون بذاته عبادة مقربا لديه سبحانه بل ينحصر عبادية الفعل بإتيانه بداعي الامر والامتثال فلا محيص من انتهاء العبادة إلى قصد الامر والامتثال غايته أنه تارة يكون الامر بنفسه باعثا ومحركا نحو الفعل ويكون

٣٤

هوالغاية القصوى والمقصود بالاصالة من دون نظر إلى ما تستتبع فعلها من الدرجات وما يستتبع تركها من الدركات بل كان النظر هو نفس امتثال الامر حيث إنه تعالى أهل لان يمتثل أمره كما قالعليه‌السلام : ما عبدتك خوفا من نارك.. إلخ. وأخرى يكون الامر باعثا بمعونة الغايات القربية من سلسلة علل الامر كالمصالح والمفاسد وسلسلة معلولاته كالثواب والعقاب مطلقا دنيويا كان أو أخرويا.

والحاصل: أنه بعد ما كان المقرب هو الفعل العبادي لاذات الفعل فلابد في العبادة من قصد امتثال الامر إذ بذلك يكون الفعل عباديا ثم إن باعثية الامر ومحركيته نحو الفعل لابد وأن يكون له جهة تقع جوابا لسؤال من يسأل لم قصدت الامر وكان باعثا لك نحو الفعل إذ لا يمكن أن يكون نفس الامر بما هو أمر باعثا وإلا كان ينبغي أن يكون كل أمر صادر من كل أحد باعثا فلابد في باعثية الامر من أن يعلل بعلة تقع جوابا لقول القائل لم صار الامر باعثا لك نحو الفعل فهذه العلة والجهة تارة تكون أهليته تعالى لان يمتثل أمره واستحقاقه للعبودية فيكون أمر الله تعالى من حيث إنه أمر صادر ممن يكون أهلا لان يمتثل أمره هو المحرك بالاصالة والغاية المقصودة من دون أن يكون هناك نظر إلى سلسلة علل الامر ومعلولاته بل كانت العبادة أقصى غاية أمله وهذا المعنى هو المعني بقولهعليه‌السلام " بل وجدتك أهلا لذلك " بداهة أن الاميرعليه‌السلام إنما كان يعبدالله تعالى لكونه أهلا للعبادة.

وقد عرفت أن عبادة الله إنما تكون بقصد امتثال الامر الذي به يتحقق العبادة وليس مراد الاميرعليه‌السلام أني ما كنت قاصدا لامتثال الامر بل كان المحرك لي على العمل هو أهليتك فإن كون الاهلية بنفسها تكون محركة للعمل بلا توسيط قصد الامر إنما يكون فيما إذا كان ذلك العمل بنفسه وبذاته مقربا لديه تعالى وهو منحصر بالسجود وأما في غيره

٣٥

فلابد من توسيط قصد الامر الذي به يكون العمل عبادة وأخرى تكون العلة والجهة التي يكون الامر باعثا نحو العمل غير الاهلية من الفوز برضاه والامن من سخطه وأمثال ذلك مما كان معلولا للامر.

وبذلك ظهر فساد ما في بعض الكلمات من جعل قصد الامر في عرض قصد التخلص من العقاب أو نيل الثواب حتى أنهى بعض نية التقرب إلى عشرة وجعل كل واحد منها مناطا لعبادية العمل.

وجه الفساد هو أن التخلص من العقاب والنيل إلى الثواب معلول لقصد الامر وفي طوله وما كان في طول الشئ لايمكن أن يكون في عرضه بل لو قصد التخلص من العقاب بلا توسيط قصد الامر كان عمله باطلا إذا التخلص من العقاب ليس من لوازم نفس العمل بل من لوازم العبادة والعبادة لا بد فيها من قصد الامر بحيث يكون هو الباعث والمحرك وسيأتي مزيد توضيح لذلك إن شاء الله(١) .

وعلى كل حال لابد من أن يكون الباعث هو الامر إما بنفسه وإما بأثره ومعلوله. وأما إذا لم يكن الامر بنفسه باعثا ولا بمعلوله كان العمل باطلا كما إذا كان الباعث هو الاجرة والمال الذي يبذله الباذل لمن صلى صلاة الليل مثلا بداعي امتثال أمرها.

وتصحيح بعض الاعلام ذلك وجعله من باب الداعي [ إلى ] الداعي سخيف غايته صغرى وكبرى، أما الصغرى فلان داعي الداعي إنما يصح فيما إذا كان الداعي الاول الذي أوجب داعي الامر من معلولات الامر ومن الآثار المترتبة عليه شرعا كالثواب والعقاب ولو كان دنيويا بوعد من الشارع.

وأما إذا لم يكن الداعي واقعا في سلسلة معلولات الامر بل كان أمرا أجنبيا عن الامر

____________________

(١) وسيأتى أيضا أن الاقوى ما صنعه بعض الاعلام من عد الجميع في عرض واحد وكفاية قصد التخلص من العقاب والنيل إلى الثواب في صحة العباده ولو من دون توسيط قصدالامر " منه ".

٣٦

كالاجرة والمال الذي يبذله الباذل فلا يصلح لان يكون داعيا لقصد امتثال الامر بل لا يكون هناك إلا قصد أخذ المال ولا يمكنه قصد الامر حقيقة وشتان ما بين الثواب والعقاب وبين أخذ الاجرة فإن الثواب والعقاب حيث كان معلولا للامر وكان من آثار قصد الامر أمكن أن يكون التخلص عن العقاب أو النيل إلى الثواب داعيا إلى قصد الامر بعدالعلم بأن التخلص والنيل لايحصل إلا بفعل العبادة المتوقفة على قصد الامر وأما الاجرة فهي ليست من الاثار المترتبة على قصد الامر شرعا بل كان الترتب لبذل باذل لها وكان أخذ المال هو الغاية المقصودة وهو المحرك له نحو العمل حقيقة فكيف يمكن أن يكون داعيا إلى قصد الامر وهل يكون قصد الامر في مثل هذا إلا مجرد التصور والخطرت القلبية من دون أن يكون له حقيقة.

وبالجملة: من راجع وجدانه يعلم أنه لا يمكن أن يكون قصد أخذ المال داعيا حقيقة إلى قصد الامر وأما الكبرى فعلى فرض تسليم إمكان كون أخذ الاجرة يصير داعيا إلى قصد الامر إلا أن مجرد ذلك لا يكفي في العبادة.

بل يعتبر في عبادية العبادة أن يكون قصد الامر هو المقصود بالاصالة والغاية والقصوى ولو بأثره ولايكفي توسيط قصد الامر مع كون المقصود بالاصالة أخذ المال، إذ ليس لنا إطلاق يدل على أن مجرد قصد الامر يكفي في العبادة مع كون المقصود بالاصالة أخذ المال بل البحث في المقام بعد قيام الدليل على اعتبار نية القربة يكون عقليا، والذي يحكم به العقل هو أن يكون المقصود بالاصالة قصد الامتثال والامر ولا يكفي مجرد توسيط ذلك مع كون المقصود بالاصالة أخذ المال وسيأتي أن قصد الثواب والعقاب ولو كان نيويا لا ينافي كون المقصود هو قصد الامر. وأما الاجرة فعلى كل تقدير تكون هي المقصود بالاصالة، نعم لو لم يكن لاخذ المال دخل في تأثير إرادته قصد الامتثال وكان قاصدا للامر على كل حال

٣٧

سواء كان هناك باذلا أو لم يكن صح عمله وكان عبادة وجاز له حينئذ أخذ المال إن كان بذله إباحة مجانية وإن لم يكن مجانيا بل على نحو المعارضة حرم أخذ المال وفسدت المعاوضة لانه يعتبر في عقد المعاوضة أن يكون المعوض مما يمكن حصوله للباذل فإن كان من الاعيان ينتقل إليه ويصير ملكه وإن كان من الاعمال كما فيما نحن فيه يصير عمله ويكون في الحقيقة هو العامل للعمل لا بنفسه بل بنائبه أو وكيله أو أجيره ولا يكفي في صحة المعاوضة أن يكون الباذل ممن ينتفع بعمل الاجير إذ مجرد الانتفاع لا يكفي في صحة الاجارة بل لا بد من أن يكون العمل ممكن الحصول للمستأجر وفي المقام ليس العمل ممكن الحصول للمستأجر إذا العمل الذي يعمله العامل إنما يقع لنفسه ولا يقع للباذل، فلا تصح المعاوضة بالاجارة ولا بالجعالة بناء على كونها من عقود المعاوضة.

فتحصل من جميع ماذكرنا أنه إن كان لاخذ الاجرة تأثير في فعل العبادة فالعبادة باطلة ويحرم أخذ تلك الاجرة وإن لم يكن له تأثير فالعبادة صحيحة، وحل أخذ الاجرة أيضا إن كان دفعها على وجه المجانية وإن كان على وجه المعاوضة حرم أخذ الاجرة لانه يكون من أكل المال بالباطل لعدم حصول عوض الاجرة لباذلها.

وقد ظهر مما ذكرنا أن تصحيح أخذ الاجرة على العبادات الواجبة على فاعلها أو تصحيح العبادة المستأجر عليها الواجبة على المنوب عنه بإرجاعها إلى باب داعي الداعي ضعيف جدا، بل لا يصح أخذ الاجرة على ما كان واجبا على فاعله مطلقا عباديا كان أو غيره إلا إذا كان من الواجبات النظامية كالصناعات وتصحيح أخذ الاجرة فيما كان واجبا أو مستحبا على المنوب عنه وصحة وقوعه عبادة إنما يكون بوجه آخر غير باب داعي الداعي قد أشرنا إليه في كتاب القضاء.

الامر الثالث: مما يعتبر في النية الخلوص بأن لا تكون نيته مشوبة بالرياء

٣٨

بوجه من الوجوه فلو أدخل في النية أدنى شائبة الرياء بطلت عبادته مضافا إلى كونه من الكبائر الموبقة ثم الظاهر أنه لاإشكال في بطلان العبادة إذا كان الرياء تمام الداعي بحيث لم يقصد بالعبادة وجه الله تعالى، ولو كان الرياء جزء الداعي فقد يتوهم عدم بطلان العبادة بذلك وإن عصى نظرا إلى أنه لا يعتبر في صحة العبادة أزيد من قصد الامر ولا يعتبر الخلوص بحيث يكون الامر تمام الداعي بل يكفي توسيط قصد الامر ولو كان على نحو الجزئية، هذا.

ولكن الظاهر من أدلة اعتبار الخلوص هو خلوص النية عن جميع الشوائب على وجه لا يريد بالعبادة غير وجه الله تعالى فلو أدخل في نيته غير وجه الله تعالى ولو على وجه التبعية والضميمة بطلب العبادة فضلا من أن يكون قصد الغير جزء الداعي بحيث لو لم يضم إليه قصد الامر لا ستقل بالداعوية كما هو الشأن في العلل المجتمعة.

وبالجملة: الذي يظهر من الاخبار هو بطلان العبادة بأدنى شائبة الرياء سواء كان في جزئها أو شرطها أو وصفها واجبا كان أو مستحبا حتى في مثل وصف الجماعة بل في مثل التحنك وغير ذلك مما له دخل في العبادة بوجه من الوجوه.

كان ذلك لصدق أنه أدخل فيه رضا أحد من الناس كما في قولهعليه‌السلام في رواية زرارة: لو أن عبدا عمل عملا يطلب به وجه الله والدار الآخرة وأدخل فيه رضا أحد من الناس كان مشركا(١) .

وغير ذلك من الاخبار الدالة على بطلان العبادة بأدنى شائبة الرياء، فتأمل فيما ورد من الاخبار في المقام جيدا. هذا كله في الرياء.

وأما غير الرياء فلو ضم إلى الصلاة أمر آخر فلا يخلو إما أن يكون ذلك الامر من سنخ أفعال أو أقوال الصلاة وإما أن لا يكون من سنخ أفعال وأقوال الصلاة بل كان أمرا آخرا اجنبيا وذلك الامر الآخر إما أن يكون مباحا وإما أن يكون

____________________

(١) الوسائل: ج ١ ص ٤٩ باب ١١ من ابواب مقدمة العبادات، ح ١١. (*)

٣٩

راجحا، فلو ضم إلى الصلاة مما كان من سنخ أفعال الصلاة كانت الصلاة باطلة، وإن لم يقصد بذلك الفعل الجزئية لصدق أنه زاد في صلاته، وإن كان من سنخ أقوال الصلاة من الدعاء والذكر فإن كان ذلك محرما كقراء‌ة العزيمة بطلت صلاته أيضا سواء اقتصر عليها أو قرأ سورة أخرى أيضا لانه كلام منهي عنه، فهو إما من كلام الآدمي موضوعا وإما ملحق به حكما، بداهة أن الخارج من مطلق الكلام في الصلاة هوالدعاء والذكر الغير المنهي عنه فيبقى الذكر المنهي عنه تحت إطلاقات مبطلية مطلق الكلام من غير تقييد بكلام الآدمي كقولهعليه‌السلام في رواية أبي بصير: إن تكلمت أو صرفت وجهك عن القبلة فأعد الصلاة(١) ودعوى انصرافه إلى كلام الآدمي ممنوع.

وإن لم يكن الذكر منهيا عنه فإن لم يقصد به الجزئية فلا بأس وصحت صلاته، وإن قصد به الجزئية بطلت، لصدق الزيادة فيدخل في قولهعليه‌السلام " من زاد في صلاته.. إلخ "(٢) وإن كانت الضميمة أجنبيا عن سنخ أفعال الصلاة وأقوالها فإن لم ينوها مع الصلاة بأن لم تكن تلك الضميمة جزء الداعي والمحرك لفعل الصلاة فلا بأس به، وإن كانت جزء الداعي فقد حكي التفصيل بين كونها مباحة أو راجحة فإن كانت مباحة فالصلاة باطلة. لعدم استقلال الامر الصلاتي للداعوية، وإن كانت راجحة فلا بأس، هذا.

ولكن الظاهر عدم الفرق بين الضميمة الراجحة والمباحة والاقوى البطلان فيهما جميعا لما ذكر من عدم استقلال الامر الصلاتي للداعوية إلا أن تكون الضميمة على وجه التبعية بحيث لو لم تكن لكان الامر الصلاتي محركا له نحوها فتأمل في المقام، فإنه يحتاج إلى بسط من الكلام لا يسعنا،

____________________

(١) الوسائل: ج ٤ ص ١٢٧٥ باب ٢٥ من ابواب قواطع الصلاة، ح ١.

(٢) الوسائل: ج ٥ ص ٣٣٢ باب ١٩ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح ٢. (*)

٤٠

ولعله يأتي في بعض المباحث الآتية إن شاء الله.

البحث الثاني:

في تفصيل الدواعي القربية ويذكر في طي مسائل: الاولى: قد تقدم أن إرادة العمل إن كانت منبعثة عن الامر وكان هو المحرك له، فهذا مما لا إشكال في صحة العبادة وكفايته في المقربية، سواء كان نفس الامتثال هو المقصود بالاصالة، حيث يراه جل شأنه أهلا للعبادة، أو يكون الوصول إلى الغايات المترتبة عليه موجبا للانبعاث عن الامر بحيث يكون الموجب للانبعاث عن الامر الوصول إلى ماأوعده الله تعالى للمطيع من الثواب والعقاب، أخرويين كانا أو دنيويين.

المسألة الثانية: حكي عن الجواهر -قدس‌سره - عدم كفاية قصد الجهة من الحسن الذاتي والملاك في صحة العبادة، خصوصا مع سقوط الامر عن العبادة بواسطة مزاحمتها للاهم - كما في موارد التزاحم - مع أهمية أحد المتزاحمين، حيث إن الامر عن المهم يسقط فلا يكفي فعل المهم بداعي المحبوبية الذاتية ولا يوجب عباديته، بل لابد في وقوع الشئ عبادة من قصد الامر، وغاية ما يمكن أن يوجه ذلك هو أن يقال: إن في صورة سقوط الامر بالمزاحم الاهم لا سبيل لنا إلى إحراز الجهة والملاك والحسن الذاتي حتى تكون هي الداعي، بداهة أن الكاشف عن الملاك إنما هو الامر، إذ لا طريق لنا لاحرازه سوى الامر، وبعد سقوط الامر بالمزاحمة لا يمكن القول ببقاء الملاك، لاحتمال أن تكون للقدرة دخل في الملاك، ويكون الشارع قد اكتفى عن أخذها في لسان الدليل بحكم العقل باعتبارها لقبح مطالبة العاجز.

وحاصل الكلام: أن سقوط الامر عن المزاحم المهم إنما هو لاجل عدم قدرة

٤١

المكلف على فعله مع فعل مزاحمة الاهم، وعدم إمكان الجمع بينهما، ودعوى أن سقوط الامر لاجل عدم القدرة على متعلقه لا يوجب ارتفاع الملاك إلا إذا اخذت القدرة شرطا شرعيا، والمفروض في باب التزاحم عدم أخذها شرطا شرعيا، بل الامر بالنسبة إليها مطلق والتقييد بها إنما هو لحكم العقل بقبح مطالبة العاجز بما لا يقدر عليه، والقدرة العقلية مما لا دخل لها بالملاك، دون إثباتها خرط القتاد، إذا لا مانع من أن يكون للقدرة العقلية دخل في الملاك كالقدرة الشرعية، فمن أين يمكن إحراز الملاك في موارد سقوط الامر بالمزاحمة.

ودعوى ان إطلاق الامر وعدم تقييده بصورة القدرة يكشف عن عدم دخل القدرة في الملاك، ووجوه في كلتا صورتي القدرة وعدمها، إذ لو كانت القدرة العقلية مما لها دخل في الملاك لكان اللازم تقييد الامر بها(١) فإطلاق الامر يكشف عن وجودها، ففيها أن إطلاق الامر لا يكشف عن عدم دخلها في الملاك، فإن إطلاق الامر إنما يكشف عن عدم كون شئ قيدا إذا لم يكن القيد مما استقل العقل الضروري به، ومع استقلال العقل به يكون بمنزلة المخصص والمقيد المتصل، والتقييد بالقدرة في المقام مما استقل العقل به لقبح مطالبة العاجز بما لا يقدر عليه، وهذا الحكم الضروري العقلي لو لم يكن قرينة على تقييد الامر شرعا بصورة القدرة.

فلا أقل من صلاحيته للقرينية، ومع صلاحيته لذلك لا يمكن استكشاف بقاء الملاك مع سقوط [ الامر ] ولا يكون إطلاق الامر كاشفا عنه، وحينئذ لا يمكن تصحيح العبادة بقصد الملاك عند سقوط الامر في باب التزاحم، بل لا يمكن تصحيحها بالامر الترتبي أيضا لان الامر الترتبي على القول به إنما هو بعد إحراز الملاك ومع عدم إحرازه كما أوضحناه لا يمكن القول بالامر

____________________

(١) مع أن تقييد الامر بها يوجب خروجها عن كونها قدرة عقلية وتكون حينئذ شرعية كما لا يخفى " منه ". (*)

٤٢

الترتبي هذا ولا بد لكل من قال بصحة العبادة في باب التزاحم إما بالملاك وإما بالامر الترتبي من دفع هذا الاشكال هذا.

وقد أفاد شيخنا الاستاذ - مد ظله - في دفع الاشكال بما حاصله: ان حكم العقل بقبح مطالبة العاجز لا يمكن أن يكون حينئذ ثبوتا مماله دخل في الملاك، بل هو واقع لا محالة في المرتبة المتأخرة عن الملاك، وكذا لا يمكن أن يكون هذا الحكم العقلي إثباتا مقيدا لاطلاق الامر بحيث يصلح أن يمنع كاشفية إطلاق الامر عن وجود الملاك في كلتا صورتي القدرة وعدمها، فهذا الحكم العقلي لا يصلح للقرينية فضلا عن كونه قرينة.

أما عدم إمكان أن تكون القدرة العقلية مما لها دخل في الملاك ثبوتا، فلان حكم العقل بقبح مطالبة العاجز إنما هو من شرائط حسن الخطاب، فهو واقع في مرتبة المانع، ومعلوم أن رتبة المانع متأخرة عن رتبة المقتضي، فلابد أن يكون المقتضي في حد نفسه تاما بحيث يمكن أن يستتبعه الخطاب، فعند ذلك العقل يمنع عن توجه الخطاب نحو العاجز، ويحكم بقبح مطالبته فهذا الحكم العقلي دائما يمنع عن توجه الخطاب بعد أن تم مقتضيه، إذ مع عدم تمامية المقتضي يستند عدم الخطاب إلى عدم مقتضيه لا إلى عدم القدرة على متعلقه.

وحاصل الكلام: أنه قد مرمنا مرارا أن رتبة المانع متأخرة عن رتبة المقتضي، وعدم الشئ إنما يستند إلى المانع بعد وجود المقتضي، والمانع دائما يزاحم المقتضي في تأثيره، وحينئذ نقول: إن حكم العقل باعتبار القدرة وقبح مطالبة العاجز إنما هو واقع في رتبة المانع، وهو يتوقف على تمامية المقتضي وما هو ملاك الحكم، والسر في ذلك هو ما أشرنا إليه من أن حكم العقل باعتبار القدرة إنما هو من شرائط حسن الخطاب، فلابد من أن يكون المقتضي للخطاب موجود، بحيث يقتضي بنفسه استتباع الخطاب حتى تصل النوبة إلى منع العقل عند عجز

٤٣

المكلف، لكي يستند عدم الخطاب حينئذ إلى عدم القدرة فلو لم يكن المقتضي للخطاب تاما كان عدم الخطاب مستنداإلى عدم المقتضي لا إلى عدم القدرة على متعلقه، فحكم العقل بقبح مطالبة العاجز لا يعقل أن يكون في مرتبة الملاك والمقتضي، حتى يمكن توهم دخله في الملاك بل هذا الحكم العقلي دائما متوسط بين الملاك وبين الخطاب رتبته تكون متأخرة عن الملاك ومقدمة عن الخطاب كما لا يخفى.

وأما عدم إمكان صلاحية حكم العقل باعتبار القدرة للقرينية في مرحلة الاثبات، وعدم منعه عن كاشفية إطلاق الامر لثبوت الملاك في كلتا صورتي العجز وعدمه، فلان الخطاب إما أن يكون مقيدا بالقدرة وإما أن لا يكون، فإن كان مقيدا بالقدرة، فهذه القدرة حينئذ تكون شرعية لا عقلية، إلا أن يكون التقييد لتقرير حكم العقل ولا إشكال في دخل القدرة الشرعية في الملاك كسائر القيود الشرعية إلا أن هذا خارج عما نحن فيه، والكلام في القدرة العقلية، وإن لم يكن الخطاب مقيدا بالقدرة فإن كان الدليل مجملا ودار الامر بين أن يكون مشروطا بالقدرة الشرعية وأن لا يكون فالمتيقن منه الاشتراط، كما هو الشأن في كل ما دار الامر بين الاطلاق والاشتراط، وإن لم يكن الدليل مجملا فلا يمكن أن يكون حكم العقل بقبح مطالبة العاجز مانعا عن الاطلاق الكاشف لعدم دخل شئ في الملاك، لان حكم العقل بقبح مطالبة العاجز إنما هو بعد إطلاق الدليل وعدم اشتراطه بالقدرة، وإلا لما كان حاجة إلى هذا الحكم العقلي، فهذا الحكم العقلي فرع ثبوت الاطلاق فكيف يكون مانعا عنه، وحاصل الدعوى: إنما هي صلاحية حكم العقل الضروري بقبح مطالبة العاجز لتقييد إطلاق الدليل وجعله على حد ما إذا كان مقيدا بالقدرة صريحا في اللفظ، وكما أن في صورة التقييد بالقدرة لفظا لايمكن القول ببقاء الملاك عند

٤٤

سقوط الامر بالعجز كما في باب الحج فكذلك ما هو بمنزلة التصريح بالتقييد بها لفظا، وهو حكم العقل بقبح مطالبة العاجز.

وحاصل دفعها: أن هذا الحكم العقلي لا يمكن أن يكون مقيدا للدليل بصورة القدرة على حد تقييده لفظا، لان العقل إنما يحكم بقبح مطالبة العاجز، إذا كان الدليل مطلقا وشاملا لكلتا صورتي العجز وعدمه، فإنه عند ذلك العقل يستقل بقبح مطالبة العاجز، وقصر الحكم بصورة القدرة، فإذا كان هذا الحكم العقلي متأخرا رتبة عن إطلاق الدليل، فكيف يمكن أن يمنع عنه، إذ المنع عن الاطلاق معناه، أن يجعل اللفظ مجملا صالحا لان يكون مقيدا بالقدرة، فيكون كما إذا كان اللفظ من أول الامر مجملا، الذي قد عرفت أن المتيقن منه هو اشتراطه بالقدرة، وقد عرفت أنه إنما تصل النوبة إلى حكم العقل بقبح مطالبة العاجز، إذا كان اللفظ مطلقا ولم يحتف به ما يصلح لتقييده بالقدرة. فكيف يمكن أن يدعى أن نفس هذا الحكم العقلي مما هو محتف باللفظ وصالح للتقييد، وهل يستلزم ذلك إلا الدور فتأمل في المقام جيدا.

فالانصاف أن إطلاق الامر بنفسه كاشف عن ثبوت الملاك في كلتا صورتي العجز وعدمه، ويترتب عليه حينئذ بقاء الملاك عند سقوط الامر بالمزاحمة.

فإن قلت: إن التمسك بالاطلاق إنما هو لاجل مقدمات الحكمة، ومن مقدمات الحكمة أنه لو لم يكن الاطلاق بمراد للزم إيقاع المكلف على خلاف المراد والواقع، وهذه المقدمة فيما نحن فيه مفقودة، إذ لم يلزم من الاطلاق عند عدم إرادته محذور وقوع المكلف على خلاف الواقع، إذ على فرض أن لا يكون الاطلاق بمراد، وكان في الواقع الامر مقيدا بصورة القدرة، فالمكلف لا يقع في مخالفة الواقع، إذ عند العجز هو تارك للمتعلق لا محالة، فالاطلاق وعدمه سيان فيما نحن فيه، ومعه لا يمكن التشبث بالاطلاق والقول بكشفه عن ثبوت الملاك مطلقا.

٤٥

قلت: أولا: ليس من مقدمات الحكمة أنه لو لم يكن الاطلاق بمراد يلزم إيقاع المكلف على خلاف الواقع، بل مقدمة الحكمة إنما هي عبارة عن أن الآمر حيث كان بصدد بيان ماله دخل في غرضه ومراده، فلابد من أن يكون الاطلاق هو تمام المراد، سواء وقع المكلف بخلاف الواقع أو لم يقع، وثانيا: أنه يلزم فيما نحن فيه وقوع المكلف بخلاف الواقع، كما في باب التزاحم، فتأمل جيدا(١) .

فقد ظهر لك وجود الملاك عند سقوط الامر بالمزاحم الاهم وعليه يستقيم الامر الترتبي إذا عرفت ذلك فلنعد إلى ما كنا فيه، فنقول: إنه قد حكي عن الجواهر -قدس‌سره - عدم كفاية قصد الجهة والملاك في صحة العبادة، بل لابد من قصد الامر، وقد حكي عن الشيخ -قدس‌سره - بأن قصد الجهة أدخل في العبادة وأقوى من قصد الامر في صدق الاطاعة، كما يتضح ذلك بمراجعة ديدن العقلاء في مقام إطاعة العبيد لمواليهم العرفية، فإنه لو أمر المولى بالماء لجهة رفع عطشه، فالعبد تارة يجئ بالماء لان المولى أمره بذلك، واخرى يجئ به لكثرة حبه لمولاه، واشتياقه إليه، وتألمه من عطشه، بحيث يكون الداعي إلى العبد هو رفع عطش المولى، حيث لا يقدر أن يرى مولاه عطشانا، ولا إشكال في أن رتبة مثل هذا العبد عند المولى أعلى من رتبة من كان قصده امتثال الامر، وكان هذا العبد أقوى إطاعة من ذلك، هذا.

وقد أشكل على ذلك شيخنا الاستاذ - مد ظله - بما حاصله: أنه تارة تكون

____________________

(١) إذا اطلاق الامر بالمهم وعدم تقييده بالقدرة يوجب ايقاع المكلف على خلاف الواقع، لو كانت القدرة في الواقع شرطا وقيدا، فان المكلف من اطلاق الامر يستكشف اطلاق الملاك ووجوده في صورة سقوط الامر بالمزاحمة، فيأتي به بداعي الملاك بعد عصيانه الاهم، ويكتفي به ولم يأت به ثانيا عند عود الامر به، لضيق وقته أو لفوات الاهم وارتفاع موضوعه، مع أنه لو كانت القدرة شرطا لكان ما أتى به أولا خاليا عن الملاك وكان لغوا وكان اللازم فعله ثانيا، فاطلاق الامر هو الذي أوقع المكلف في خلاف الواقع، وأوجب عدم اتيان المكلف به ثانيا، بحسبان أنه قد أتى بما هو مشتمل على الملاك الذي استفاده من اطلاق الامر فتأمل. " منه ".

٤٦

الجهة والملاك معلومة لدى العبد تفصيلا، كالعطش في المثال المتقدم، واخرى لا تكون كذلك. بل يعلم إجمالا أن هناك جهة باعثة للآمر تكون محبوبة عنده، كما هو الشأن في غالب الاوامر الشرعية بالنسبة إلى أغلب الناس، حيث لا يعلمون الملاك تفصيلا، والقدر المسلم في أقوائية الاطلاعة والادخلية في العبادة هو ما إذا كانت الجهة معلومة بالتفصيل، ويكون داعيه تحصيل تلك الجهة لكثرة الاشتياق والمحبة.

وهذا لا يتفق إلا لاوحدي، وأما لو كانت الجهة معلومة إجمالا، فكونها أدخل وأقوى في الطاعة والعبادة ممنوعا، نعم يمكن أن يقال: إن الفعل لا يؤمر به على وجه العبادية إلا إذا كانت هناك جهة تقتضي العبادية، وإن لم تكن تلك الجهة معلومة لنا بالتفصيل، فالمعيار في العبادية إنما هي تلك الجهة، وقصد الامر إنما يكفي في وقوع الفعل عبادة، لانه يكون قصد إجمالي إلى تلك الجهة التي يدور عليها العبادة، فقصد نفس ذلك الجهة إجمالا يكون أولى في وقوع الفعل عبادة. وحينئذ لا ينبغي الاشكال في أن قصد الجهة يكفي في صحة العبادة. ككفاية قصد الامر فتأمل جيدا.

المسألة الثالثة: لو كان الداعي إلى الفعل هي الغايات المترتبة على الامتثال، كالفوز برضاه تعالى، أو النيل إلى الثواب، والامن من العقاب، وامثال ذلك بدون توسيط قصد الامر، ففي كفايته في الصحة إشكال، وقد حكي عن العلامة(١) -قدس‌سره - المنع عن كفايته، وتبعه غير واحد، وقد يوجه ذلك.

بأن الامن من العقاب، والنيل إلى الثواب، لا يترتب على ذات العمل، إذ ذات الصلاة بما هي هي لا يترتب على فعلها ثواب، ولا على تركها عقاب بل الذي يترتب الثواب والعقاب عليه إنما هو العبادة، والصلاة الواقعة على وجه العبادة.

____________________

(١) التذكرة: ج ١ ص ١١١ البحث الثاني في النية. (*)

٤٧

وبعبارة اخرى: الثواب إنما يترتب على فعل العبادة، والعقاب يترتب على ترك العبادة فلا يمكن أن يكون النيل إلى الثواب، والامن من العقاب موجبا لعبادية الشئ، بل لابد من قصد الامر الذي به يكون الشئ عبادة.

ومن هنا اشكل على من عد قصد النيل إلى الثواب والامن من العقاب في عرض قصد الامر، وجعل كل منهما موجبا للعبادة بما حاصله: أن قصد الثواب والعقاب في طول قصد الامر، لما عرفت من أنهما مترتبان على العبادة المتوقفة على قصد الامر، ومعه لا يمكن أن يكونا في عرض قصد الامر، فلابد في العبادة من توسيط قصد الامر، إلا إذا كان الشئ بنفسه عبادة، كالسجود لله، وقد تقدم شطر من الكلام في ذلك في أوائل مباحث النية، هذا وقد اختار شيخنا الاستاذ مدظله كفاية قصد ذلك في صحة العبادة.

وذلك لان الكلام في المقام بعد الفراغ عن إشكال كيفية اعتبار الداعي في العبادة، وأنه كيف يمكن الامر بالعبادة، مع أن العبادة متوقفة على الاتيان بالدواعي القربية، والدواعي لا يمكن أخذها في متعلق الامر، لانها لا تتعلق بها إرادة الفاعل، وما لا يتعلق به إرادة الفاعل لا يمكن أن يتعلق به إرادة الآمر، وقد عرفت أن الاشكال مطرد في جميع الدواعي القربية، من دون خصوصية لقصد الامر، مضافا إلى ما يرد من أخذ خصوص قصد الامر في المتعلق من المحاذير الاخر، على ما أوضحناه في باب التعبدي والتوصلي، وبالجملة: الكلام في المقام في تعداد الدواعي القربية، مع قطع النظر عن الاشكال الوارد في وجه إعتبارها في العبادة المأمور بها، فدعوى أن الامن من العقاب والنيل إلى الثواب لا يترتبان على ذات العمل، بل على ما هو عبادة.

فلا يعقل أن يكون الشئ عبادة بهما، هي بعينها ترجع إلى الاشكال في كيفية اخذ الدواعي في متعلق العبادة، وليس إشكالا آخر كما لا يخفى وجهه، على المتأمل. وقد عرفت أن كلامنا في المقام

٤٨

متمحض لما يصح أن يكون داعيا بعد دفع ذلك الاشكال بوجه على ما بيناه في محله، فحينئذ نقول: أولا: أنه بعد العلم بتعلق الامر بالشئ يكون قصد الامن من العقاب، والنيل إلى الثواب، مع كونهما من الغايات المترتبة على الامتثال قصدا للامر إجمالا، ولا ينفك قصدهما عن قصده لامحالة.

وثانيا: على فرض أنه يمكن التفكيك بينهما وأن قصدهما لا يكون قصدا إلى الامر اجمالا، نقول: إن قصد الامر لم يرد في آية ولا رواية حتى يقال بانحصار صحة العبادة فيه، بل الذي دلت عليه الروايات هو الاتيان بالفعل لله تعالى، وابتغاء لوجهه الاعلى ولمرضاته، فكلما كان الفعل لله كان العمل صحيحا. وقصد التخلص من عقابه تعالى، او النيل إلى ثوابه يوجب صدق هذا المعنى العام، وهو كون الفعل لله وبذلك يستقيم ما صنعه بعض من عد ذلك في عرض قصد الامر.

وبالجملة: ليس فيما بايدينا من الادلة ما يدل على انحصار صحة العبادة بقصد الامر أو وجه الامر، بل الذي يدل عليه الادلة هو أن تكون العبادة لله وابتغاء وجهه الاعلى، ومعنى العبادة لله وابتغاء وجهه الاعلى، وإن لم نعرفه تفصيلا إلا أنه يكفي في صحة العبادة هو هذا المعنى العام، فتأمل جيدا.

المسألة الرابعة: لو كان الداعي إلى فعل العبادة هو التوصل بها إلى غرض دنيوي، فلا يخلو الامر إما أن يكون ذلك الغرض الدنيوي مما أوعد به الله تعالى، وإما أن لا يكون والثاني إما يكون بوعد من غيره تعالى، وإما أن لا يكون بوعد، بل كان ذلك من الخواص المترتبة على الشئ، كما لو جرب أن صلاة الليل موجبة للتوسعة في الرزق، فقصد من صلاة الليل مجرد التوسعة، من دون أن يكون ذلك بوعد منه تعالى، ثم ما كان موعودا منه تعالى فتارة يكون الداعي هو نفس ذلك الغرض الدنيوي الموعود منه بلا توسيط قصد الامر، واخرى يكون ذلك من

٤٩

باب داعي الداعي، بأن كان غرضه من قصد الامر هو الوصول إلى ذلك الغرض، فهذه جملة الاقسام المتصورة في المقام. فإن لم يكن الغرض موعودا منه تعالى، فلا ينبغي الاشكال في بطلان العبادة، إذا كان غرضه منها هو الوصول إلى ذلك الغرض الدنيوي، سواء كان ذلك موعودا من غيره تعالى أو كان من الخواص المجربة، إذ لم يقصد بالعبادة لا الامر ولا جهته ولا ذلك المعنى العام الذي اخترناه في صحة العبادة،، وكذا لو كان الغرض الدنيوي موعودا منه تعالى، ولكن كان الداعي إلى فعل العبادة هو الوصول إلى ذلك الغرض، من دون نظر إلى الامر ولا يكون قصده قصدا إليه إجمالا(١) فإن هذا لم يأت بالعبادة لله بل أتى بها لسعة الرزق فقط.

وأما لو كان داعيه ذلك بتوسيط قصد الامر، فالاقوى فيه الصحة، وإن حكي عن بعض الخلاف فيه، فإن نفس الوعد منه تعالى إيجادا للداعي إلى التقرب بها، ويكون من غايات الامتثال، وإلا لغى الوعد منه تعالى كما لا يخفى، وشتان مابين أن يكون الوعد منه تعالى وما بين أن يكون من غيره، من بذل باذل، فإنه لو كان الداعي هو الوصول إلى ما يبذله الباذل لكان الغاية القصوى والمقصد الاعلى هو غير الله تعالى، ولو أمكن توسيط قصد الامر أيضا والحاصل: أنه قد تقدم أنه لو كان الداعي هو الاجرة وأمكن أن يكون من باب الداعي [ إلى ] الداعي، وإن كان ذلك ممنوعا جدا، على ما عرفت، كان توسيط قصد الامر مما لا أثر له: بعدما كان المقصود بالاصالة هو أخذ الاجرة، وهذا بخلاف ماإذا كان الادعي هو ما أوعده الله تعالى، فإنه بالاخرة يرجع إلى الله ويكون مقربا كما

____________________

(١) وإن كان يمكن أن يقال: إن قصد التوصل إلى غرض موعود منه تعالى لا ينفك عن قصد الامر ولو إجمالا كما تقدم ذلك في قصد الثواب والعقاب فتأمل " منه ".

٥٠

لا يخفى، فتأمل جيدا.

البحث الثالث:

قد عرفت أن المعتبر في النية أمران: قصد هوية المأمور به وقصد أمره الواقعي، وبعد تحقق هذين الامرين لايجب القصد إلى شئ من أوصاف المأمور به الخارجة عن حقيقته، وأوصاف الامر الذي يراد امتثاله، فمثل الاداء والقضاء والوجوب والندب مما لا يعتبر القصد إليها، بل لو نوي أحدهما مكان ضده صح، إذا إذا اكن ذلك منافيا لليقين أو مغيرا للنوع، وتفصيل ذلك هو أنه قد تقدم أن الخصوصيات في كلا ناحية الامر والمأمور به مختلفة، إذ منها ما تكون داخلة في هوية الامر أو المأمور به، ومنها ما تكون خارجة عنها، والذي لا محيص عن قصده هو الخصوصيات الداخلة في هوية المأمور به أو الامر، سواء تعدد مافي الذمة أو اتحد، وأما الخصوصيات الخارجة عن الهوية فلا يعتبر القصد إليها كالوجوب والندب والاداء والقضاء، سواء أخذ وصفا في ناحية الامر أو في ناحية المأمور به، فلا يعتبر قصد الصلاة الواجبة لامرها الوجوبي، بل لو قصد أحد هذه الخصوصيات مكان ضده، كأن قصده في مكان الامر الوجوبي الندبي أو في مكان الصلاة الواجبة الصلاة المندوبة صح أيضا، سواء كان جهلا حتى يكون من الخطأ في التطبيق، أو علما تشريعا إذا لم يؤخذ الوصف قيدا لكي يرجع إلى عدم قصد الامر أو المأمور به.

نعم ربما يكون قصد الضد مغيرا للنوع المأمور به، أو يكون عدم قصد الخصوصية منافيا للتعيين.

أما الاول: فكالقصر والاتمام، فإن الخصوصية القصرية والتمامية وإن كانت من الخصوصيات المنوعة لحقيقة المأمور به، إلا أنها لا يعتبر القصد إلى تلك

٥١

الخصوصية مع وحدة ما في ذمة المكلف، إلا أن قصدا أحدهما مكان الآخر يوجب البطلان، لعدم القصد إلى ماهو المأمور به، بداهة تضاد الصلاة ركعتين مع الاربع، فيكون قصد الضد مغيرا للنوع، والظاهر انحصار المثال في خصوصية لا يعتبر القصد إليها ابتداء، إلا أن قصد صدها يوجب تغيير النوع بمثل خصوصية القصرية والنوعية.

ولعل السر في ذلك هو أن خصوصية القصرية والتمامية ليست إلا عبارة عن قلة الاجزاء وكثرتها، وقد تقدم أن القصد إلى الاجزاء تفصيلا مما لا يعتبر بل يكفي القصد إليها إجمالا وإن لم يعرفها تفصيلا، فيكفي القصد إلى صلاة الظهر مثلا بداعي أمرها الفعلي وإن جهل بكونها قصرا أو تماما، ولكن أتى بما هو المأمور به من القصر والتمام بأن سلم على الركعتين لو كان القصر هو المأمور به.

وعلى الاربع لو كان التمام هو المأمور به، ولكن لو قصد القصر ما كان التمام أو العكس ولو جهلا لكان موجبا لعدم القصد إلى ما هو المأمور به واقعا، ويكون قد قصد نوعا لم يكن بمأمور به واقعا.

وأما الثاني: وهو ما إذا كان عدم قصد الخصوصية منافيا للتعيين، فكالوجوب والندب والاداء والقضاء.

٥٢

تكبيرة الاحرام

التي هي أول أفعال الصلاة ومن أجزائها، وبها يحرم كل ما كان يحل قبلها من منافيات الصلاة.

وتنقيح البحث فيها يستدعي رسم امور: الاول: المعروف بين الاصحاب كون تكبيرة الاحرام من أركان الصلاة التي توجب نقصها أو زيادتها بطلان الصلاة، ولو كان ذلك عن سهو ونسيان، أما في صورة النقص فالظاهر أنه لاإشكال فيه وقد حكي الاجماع مستفيضا على بطلان الصلاة يترك تكبيرة الاحرام عمدا أو سهوا، ويدل عليه قبل ذلك الاخبار تكبيرة الافتتاح(١) وفي معناها عدة من الروايات(٢) المصرحة بإعادة الصلاة عند ترك التكبيرة سهوا.

نعم ورد في جملة من الاخبار ما ظاهره الصحة وعدم بطلان الصلاة بذلك، كرواية زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت له: الرجل ينسي أول تكبيرة

____________________

(١) الوسائل: ج ٤ ص ٧١٥ باب ٢ من ابواب تكبيرة الاحرام، ح ١.

(٢) الوسائل: ج ٤ ص ٧١٥ باب ٢ من ابواب تكبيرة الاحرام.

٥٣

من الافتتاح، فقالعليه‌السلام : إن ذكرها قبل الركوع كبر ثم قرأ ثم ركع، وإن ذكرها في الصلاة كبرها في قيامه في موضع التكبير قبل القراء‌ة وبعد القراء‌ة. قلت: فإن ذكرها بعد الصلاة؟ قال: فليقضها ولا شئ عليه(١) . وفي معناها عدة من الروايات(٢) على اختلاف يسير بينها.

وقد ارم بعض الاعلام تطبيقها على القاعدة، وجعلها من باب الخطأ في التطبيق، بتقريب أن الناسى لتكبيرة الاحرام يتخيل أنه قد سقط عنه الامر بها ويكبر للركوع، بتخيل أن تكبيرة الركوع هي المأمور بها فعلا، مع أن في الواقع ما هو المأمور به تكبيرة الاحرام، فهو يقصد المأمور به الفعلي غايته أنه يتخيل أنه تكبيرة الركوع، ويكون حينئذ من قبيل قصد القضاء مع كون المأمور به هو الاداء وبالعكس.

فكما أن قصد القضائية يلغو وتصح صلاته، فكذلك قصد كون التكبيرة للركوع يلغو وتحسب تكبيرة الاحرام، غايته أنه يكون ناسيا للقراء‌ة وهو ليس، بمحذور، هذا.

ولكن لا يخفى عليك مافيه فإنه قد عرفت في مبحث النية أن مورد الخطأ في التطبيق إنما هو الاوصاف الخارجة عن حقيقة الامور والمأمور به، كالوجوب والاستحباب والاداء والقضاء على ما تقدم تفصيله، ولا إشكال أنه تفترق تكبيرة الاحرام عن تكبيرة الركوع بالحقيقة والهوية وإن اشتركا في الصورة، فإن تكبيرة الاحرام متقومة بالقصد، وليس هي عبارة عن تكبرة بل لابد من القصد إلى كونها إحراما وافتتاحا، لا نقول: إنه يعتبر القصد إلى الاحرامية والافتتاحية، بل نقول: إنه لا بد من القصد إلى أنه بها يدخل في الصلاة، ويكون بها شروعا فيها

____________________

(١) الوسائل: ج ٤ ص ٧١٧ باب ٢ من ابواب تكبيرة الاحرام، ح ٨.

(٢) الوسائل: ج ٤ ص ٧١٧ باب ٢ من ابواب تكبيرة الاحرام، ح ٩ و ١٠. (*)

٥٤

الذي بذلك تمتار عن سائر التكبيرات الافتتاحية المسحبة. وعن تكبيرة الركوع والسجود.

والحاصل: أن دعوى اتحاد تكبيرة الاحرام مع سائر التكبيرات بالهوية والحقيقة والصورة وأن الاحرامية والافتتاحية من الاوصاف الخارجة عن الحقيقة التي لا يعتبر القصد إليها بل لا يضر قصد خلافها كما هو الشأن في مثل وصفي الاداء والقضاء، بعيدة جدا.

بل ينبغي القطع بخلافها، وعلى تقدير التسليم وقلنا باتحاد الحقيقة فلا بد أيضا من القصد إليها وتعيينها، لما تقدم في مبحث النية، من أنه إذا تعدد مافي ذمة المكلف من متحد الحقيقة، فلابد في مقام الامتثال من التعيين ولو بالاوصاف الخارجة عن الحقيقة، كما في مثل نافلة الصبح وفريضتها فراجع، والمقام يكون حينئذ من ذلك القبيل فتأمل.

فالاول طرح الاخبار المخالفة وحملها على التقية كما عليه المعظم، هذا كله في نقصان التكبيرة سهوا.

وأما زيادتها فلا إشكال في البطلان في صورة العمد. وأما في صورة السهو فقد ادعي الاجماع على البطان أيضا ولم ينقل الخلاف عن أحد، فإن تم الاجماع فهو وإلا فالبطلان بالزيادة السهوية يكون خاليا عن الدليل مع أن الاصل لا يقتضيه، كما بين في محله.

وإطلاقات أدلة الزيادة من مثل قولهعليه‌السلام : " من زاد في صلاته فعليه الاعادة "(١) مقصورة بصورة العمد أو الاركان حسب مايقضيه الجمع بين أدلة الزيادة وحديث " لا تعاد "(٢) ، والكلام بعد في ركنية تكبيرة الاحرام وبالجملة: ليس مطلق الزيادة مطلقة للصلاة، بل المبطل حسب ما يقتضيه

____________________

(١) الوسائل: ج ٥ ص ٣٣٢ باب ١٩ من ابواب الخلل الواقع في الصلاة، ج ٢.

(٢) الوسائل ج ١١ ص ٢٩٥ باب ٥٦ من ابواب جهاد النفس، ح ١.

٥٥

الجمع بين الادلة - على مايأتي تفصيله في محله إن شاء الله - هي الزيادة العمدية، أو الزيادة في فرض الله، كما ورد في المسافر الذي أتم أن عليه الاعادة لانه زاد في فرض الله(١) .

وكما في حديث " لا تعاد "(٢) في أن الركوع والسجود فرض الله، فيظهر من ذلك أن كل ما كانت الزيادة في فرض الله فالصلاة باطلة وإن كانت الزيادة سهوية، وتكبيرة الاحرام إن كانت من فرض الله فزيادتها السهوية أيضا مبطلة، وتكون من الركن بالمعنى المصطلح، وهو ما يوجب زيادته ونقصانه العمدية والسهوية البطلان، وإن لم تكن من فرض الله فزيادتها السهوية غير مبطلة، والكلام بعد في كونها من فرض الله، اللهم إلا أن يستشعر ذلك مما ورد من مثل تحريمها التكبير(٣) ، وأنه لا صلاة بلا افتتاح(٤) وأمثال ذلك، ولا ينافي عدم ذكر التكبيرة في حديث " لا تعاد " بعد دلالته على البطلان في كل ما كان من فرض الله وإن أبيت عن ذلك كله كان المستند في المسألة هو الاجماع، فالاقوى أن الزيادة السهوية كالنقيصة مبطلة.

ثم إنه إن كانت الزيادة عمدية فلا إشكال في اقتضائها البطلان، والاحتياج إلى تكبيرة ثالثة بها تنعقد الصلاة، ولايمكن انعقادها بتلك التكبيرة لكونها منهيا عنها، فلا تصلح وقوعها تكبيرة الاحرام، إلا إذا قلنا ببطلان الصلاة بمجرد قصد التكبيرة الزائدة، بتوهم أنه يكون من القصد المنافي الهادم للاستدامة الحكمية، فحينئذ لا مانع من انعقاد الصلاة بالتكبيرة الثانية، لبطلان الصلاة قبل ذلك بالقصد، وبطلان الصلاة بمجرد قصد المنافي مع عدم وقوع فعل صلاتي منه في

____________________

(١) لوسائل: ج ٥ ص ٥٣٠ باب ١٧ من ابواب صلاة المسافر.

(٢) الوسائل: ج ٤ ص ٦٨٣ باب ١ من ابواب افعال الصلاة ح ١٤.

(٣) الوسائل: ج ٤ ص ١٠٠٣ باب ١ من ابواب التسليم.

(٤) الوسائل: ج ٤ ص ٧١٦ باب ٢ من ابواب تكبيرة الاحرام، ح ٧. (*)

٥٦

ذلك الحال محل تأمل، إلا إذا قلنا بالجزء الصوري والهيئة الاتصالية، حتى يكون ذلك القصد واقعا في حال الجزء الصلاتي، وقد استقصينا الكلام عن الجزء الصوري وما فيه في الاصول، فتأمل جيدا، وأما الزيادة السهوية، فاقتضاؤها البطلان كما عرفت، وأما عدم انعقاد الصلاة بها فمحل بحث، بل ربما مال إلى الانعقاد بعض الاعلام، بدعوى أنه لا مانع من انعقاد الصلاة بها بعد كونها عن سهو فتبطل بها التكبيرة الاولى وتنعقد بها أيضا الصلاة، ولكن يدفعه أنه لا تبطل الاولى إلا بعد تمام التكبيرة الثانية إذ الركن عبارة عن مجموع التكبيرة، فمع عدم إتمامها لم يزد ركنا فلا موجب لبطلان الاولى، وإذا كان بطلان الاولى لا يتحقق إلا بعد إتمام الثانية فكيف ينعقد بها الصلاة أيضا، فتأمل جيدا، وقد تنظر الشيخ -قدس‌سره - في ذلك في صلاته.

الامر الثاني: يعتبر في التكبيرة أن تكون بصورتها المعهودة وهي " الله اكبر " ولا تنعقد بما يرادفها من اللغة العربية، فضلا عن سائر اللغات. وقد أطالوا الكلام في البحث عن صورة التكبيرة، إلا أن الكل واضح فراجع. نعم ينبغى البحث عما نسب إلى المشهور، من أنه يعتبر عدم وصل التكبيرة بما قبلها من الادعية وغيرها، بحيث تمقط همزة " الله " في الكلام.

وكذلك يعتبر الوقف على راء " أكبر " بلا وصلها بالبسلمة أو الاستعاذة، وربما استدل على ذلك بما ورد من الامر بالتكبير مترسلا الذي هو بمعنى التأني المناسب للقطع، وفيه نظر، وليس في المسألة دليل يعتمد عليه، فلا بد من الرجوع إلى الاصل الجاري في المسألة والذي يقوي في بادي النظر هو كون الاصل في المقام البراء‌ة، لان المقام من صغريات دوران الامر بين الاقل والاكثر الارتباطي، أو من دون الامريين التخيير والتعيين.

ولكن مال شيخنا الاستاذ - مد ظله - في المقام إلى أن الاصل فيه هو الاشتغال، وإن قلنا بالبراء‌ة في الاصل والاكثر، وسبقه إلى ذلك الشيخ

٥٧

-قدس‌سره - في صلاته بتقريب: أن المأمور به هو الافتتاح والتحريم. والتكبيرة تكون من قبيل المحصل لذلك، وبدون القطع من الاول والآخر يشك في حصول هذا العنوان، فيكون من مجاري الاشتغال فتأمل جيدا.

الامر الثالث: يستحب افتتاح الصلاة بسبع تكبيرات، وهذا في الجملة مما لا إشكال ولا خلاف فيه، إنما الكلام في تعيين تكبيرة الاحرام منها والمحتملات، بل الاقوال خمسة: أحدها: تعيين جعلها الاولى. ثانيها: تعيين جعلها الاخيرة. ثالثها: التخيير بين جعلها أي منها من الاولى والاخيرة وما بينهما. رابعها: جعلها جملة تكبيرة الاحرام. خامسها: عدم لزوم تعيينها، بل هي تتعين في الواقع من جملة السبعة بحسب علم الله، ولا يجب على المصلي تعيينها. أما الاخير فضعيف غايته لما تقدم من لزوم القصد إلى تكبيرة الاحرام. وليست هي من الامور الواقعية بحيث تقع قهرا علهى.

وأما الاقوال الاخر فمنشأها اختلاف الانظار فيما يستفاد من الاخبار، ولا بأس بالاشارة إلى جملة منها: فمنها: مارواه البختري عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان في الصلاة وإلى جانبه الحسين بن علي عليهما السلام فكبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يحر الحسينعليه‌السلام بالتكبير ثم كبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يحر الحسينعليه‌السلام التكبير فلم يزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يكبر ويعالج الحسن فلم يحر حتى أكمل سبع تكبيرات فأحار الحسينعليه‌السلام التكبير في السابعة فقال أبوعبداللهعليه‌السلام : فصارت سنة(١) .

وفي معناها رواية اخرى(٢) . وقد استدل بها من قال بلزوم كون الاولى تكبيرة

____________________

(١) الوسائل: ج ٤ ص ٧٢١ باب ٧ من ابواب تكبيرة الاحرام، ح ١.

(٢) الوسائل: ج ٤ ص ٧٢٢ باب ٧ من ابواب تكبيرة الاحرام، ح ٤. (*)

٥٨

الاحرام، ولكن لا يخفى عليك ضعف الاستدلال بذلك، إذا لا دلالة فيها على لزوم تعيين الاولى لتكبيرة الاحرام، إذ غاية ما يمكن تسليمه هو كون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جعل الاولى تكبيرة الاحرام وكان ذلك أيضا قبل تشريع التكبيرات الافتتاحية، نعم لو كان دأبهصلى‌الله‌عليه‌وآله على جعله الاولى تكبيرة الاحرام بعد تشريع التكبيرات، واستدام على ذلك. لكان فيه دلالة على ذلك.

مع أنه أيضا يمكن منعه، خصوصا بعد ملاحظة الاخبار الاخر، هذا مضافا إلى ماقيل: من معارضة هذه الرواية بماورد(١) من كون علة التشريع هو أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ليلة المعراج كبر عند كل حجاب تكبيرة واحدة وكانت الحجب سبعة، فلذلك صارت الكتبيرات الافتتاحية سبعة، هذا ولكن الانصاف أنه لا معارضة بينهما.

لامكان أن يكون ماصدر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ليلة المعراج علة للتشريع في الواقع وعالم الباطن، وما صدر عنهعليه‌السلام في قضية الحسينعليه‌السلام علة التشريع في عالم الظاهر.

ومنها: خبر أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إذا افتتحت الصلاة فكبر. إن شئت بواحدة وإن شئت ثلاثا وإن شئت خمسا وإن شئت سبعا، وكل ذلك مجز عنك غير أنك إذا كنت إماما لم تجهر إلا بتكبيرة(٢) .

وقد استدل بهذه الرواية من قال بحصول تكبيرة الاحرام بالمجموع، وفيه أنه لو لم يكن قوله في الذيل غير أنك إذا كنت إماما... إلخ، لكان استظهار ذلك، في محله. إلا أنه ذيله يدل على كون تكبيرة الاحرام واحدة، ويكون فائدة الاجهار بها علم المأمومين بدخول الامام في الصلاة، لان لايحرموا قبل الامام، فهذه الرواية على القول بالتخيير أدل

____________________

(١) الوسائل ج ٤ ص ٧٢٢ باب ٧ من ابواب تكبيرة الاحرام ح ٥ و ٧.

(٢) الوسائل: ج ٤ ص ٧٢١ باب ٧ من ابواب تكبيرة الاحرام ج ٣. (*)

٥٩

كما لا يخفى، هذا مضافا إلى أنه لم ينقل القول بذلك إلا عن والد المجلسي(١) -رحمه‌الله - وقد أدعي الاجماع على خلافه، وإن حكي عن بعض المتأخرين الميل إليه.

ومنها: صحيحة الحلبي فإذا كنت إماما يجزيك أن تكبر واحدة تجهر فيها وتستر ستا(٢) وفي معناه عدة من الروايات(٣) . والانصاف أن هذه الروايات قوية الدلالة على القول بالتخيير، وفي غاية القوة من الظهور.

ومنها: رواية أبي بصير وفيها بعد ذكر الدعاء بعد التكبيرات الثلاث بقوله اللهم أنت الملك الحق المبين... إلخ، والدعاء عقيب الاثنين بقوله لبيك وسعديك... إلخ. وعقيب السادسة بقوله يا محسن قد أتاك المسئ قالعليه‌السلام : ثم تكبر للاحرام.

ومنها: الرضوي: واعلم أن السابعة هي تكبيرة الاحرام، وقد استدل بذلك على لزوم تعيين كون الاخيرة تكبيرة الاحرام، وظهورها في ذلك مما لاينكر، إلا أن أخبار التخيير أقوى ظهورا منها، وحينئذ لابد من رفع اليد عن ظهورها في الوجوب وحملها على الافضلية والرجحان الذي هي بالنسبة إلى ذلك نص، بخلاف دلالتها على الوجوب فإنها بالاطلاق ويصير حاصل الفتوى هو التخيير مع أفضلية جعلها الاخيرة.

فعليك بالتأمل في سائر ماورد من الاخبار في المقام، هذا تمام الكلام فيها يهم من مباحث تكبيرة الاحرام. وسائر مباحثها مما لا يهمنا التعرض لها.

____________________

(١) بحار الانوار: ج ٨٤ ص ٣٥٧.

(٢) الوسائل: ج ٤ ص ٧٣٠ باب ١٢ من ابواب تكبيرة الاحرام، ح ٣.

(٣) الوسائل: ج ٤ ص ٧٣٠ باب ١٢ من ابواب تكبيرة الاحرام. (*)

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400