عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم0%

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 321

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 321
المشاهدات: 120027
تحميل: 8074

توضيحات:

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 321 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120027 / تحميل: 8074
الحجم الحجم الحجم
عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

٦ - ماذا يراد من قوله سبحانه:( فتلّقى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه ) فهل التوبة دليل العصيان ؟

٧ - ما معنى قوله:( وإن لم تغفر لنا وترحمنا ) ؟

فلنبدأ بالإجابة على هذه الأسئلة واحداً بعد واحد، وعند ختام البحث يقف القارئ على أنّ آدم أبا البشر كان نزيهاً عمّا أُلصق به من المخالفة للتكليف الإلهي الإلزامي المولوي الموجب للعقوبة.

١ - ما هي نوعية النهى في قوله تعالى:( لا تقربا )

إنّ النهي ينقسم إلى قسمين: مولوي وإرشادي، والفرق بين القسمين بعد اشتراكهما غالباً في أنّ كلاًّ منهما صادر عن آمر عالٍ إلى مَن هو دونه، هو أنّه الآمر قد ينطلق في أمره ونهيه من موقع المولوية والسلطة، متخذاً لنفسه موقف الآمر، الواجبة إطاعته، فيأمر بما يجب أن يطاع، كما أنّه ينهى عمّا يجب أن يُجتنب، فعند ذلك يترتّب الثواب على الطاعة، والعقاب على المخالفة، وهذا هو شأن أكثر الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنّة.

وقد ينطلق في ذلك من موقع النصح والإرشاد، والعظة والهداية، من دون أن يتخذ لنفسه موقف الآمر، الواجبة طاعته، بل يتخذ لنفسه موقف الناصح المشفق، القاصد لإسعاد المخاطب وإنجائه من الشقاء، وعند ذلك يترك انتخاب أحد الجانبين للمخاطب ذاكراً له ما يترتّب على نفس العمل من آثار خاصّة، من دون أن تترتّب على ذات المخالفة أيّة تبعة.

وإن شئت قلت: إنَّ نفس العمل والفعل ذو آثار طبيعية ومضاعفات تترتّب عليه في كل حين وزمان، من دون فرق بين فاعل وآخر، فيذكر المولى العالم

١٠١

بعواقب الأعمال وآثار الأفعال، بما يترتّب على ذات العمل من سعادة وشقاء، فيجعل المخاطب في موقف العالم بآثار الشيء ويترك اختيار أحد الطرفين إليه، حتى يكون هو المختار في العمل، فإن اتّبع نصحه وإرشاده فقد نجا عمّا يترتّب على العمل من الهلاك والخسران، وإن خالفه تصيبه المضاعفات التي تكمن في ذات العمل.

ولتوضيح ذلك نأتي بمثال:

إنّ الطبيب إذا وصف دواءً لمريض وأمره بتناول ذلك الدواء والاجتناب عن أُمور أُخرى، فلو قام المريض بالطاعة والامتثال، تترتّب عليه الصحّة والعافية، وإن خالف أمر الطبيب لم يترتّب على تلك المخالفة سوى المضاعفات المترتّبة على نفس العمل؛ وذلك لأنّ الطبيب لم يكتب له تلك الوصفة إلاّ بما أنّه طبيب ناصح ومعالج مشفق.

ومثل ذلك ما إذا قال سبحانه:( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) بعدما أمر الناس بواجبات ونهى عن أُمور، فلو خالف المكلّف وترك الواجب كالصلاة والصوم وارتكب المنهيّات كالكذب والغيبة، فقد خالف عندئذٍ أمرين:

١ - الأمر بالصلاة والصوم.

٢ - الأمر بإطاعة الله ورسوله.

فلا يترتّب على تينك المخالفتين سوى عقاب واحد لا عقابان؛ وذلك لأنّ الأمر الثاني لم يكن أمراً مولوياً، بل كان أمراً إرشادياً لا يترتّب على مخالفته سوى ما يترتّب على مخالفة الأمر الأوّل؛ وذلك لأنّ المفروض أنّ الآمر لم يتخذ لنفسه عند الأمر بإطاعة الله ورسوله، موقف الآمر الواجب الطاعة، بل أمر بلباس النصح

١٠٢

والإرشاد.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ مخالفة النهي عن الشجرة إنّما تُعدّ معصية بالمعنى المصطلح إذا كان النهي مولوياً صادراً عنه سبحانه على وجه المولوية، لا أمراً إرشادياً وارداً بصورة النصح، والقرائن الموجودة في الآيات تشهد بأنّه إرشادي، لا يترتّب على مخالفته سوى ما يترتّب على ذات العمل من الآثار الوضعية والطبيعية، لا مولوي حتى يترتّب عليه وراء تلك الآثار، عقاب المخالفة ومؤاخذة التمرّد، وإليك هذه القرائن:

١ - لو كان النهي عن الشجرة نهياً مولوياً يجب أن يرتفع أثره بعد التوبة والإنابة، مع أنّا نرى أنّ الأثر المترتّب على المخالفة بقي على حاله رغم توبة آدم وإنابته إلى الله سبحانه، وهذا دليل على أنّ الخروج عن الجنّة والتعرّض للشقاء والتعب، كان أثراً طبيعياً لنفس العمل، وكان النهي لغاية صيانة آدمعليه‌السلام عن هذه الآثار والعواقب، كما إذا نهى الطبيبُ المصابَ بمرض السكر عن تناول المواد السكرية.

٢ - إنّ الآيات الواردة في سورة ( طه ) تكشف النقاب عن نوعية هذا النهي، وتصرّح بأنّ النهي كان نهياً إرشادياً لصيانة آدمعليه‌السلام عمّا يترتّب عليه من الآثار المكروهة والعواقب غير المحمودة، قال سبحانه:( فَقُلْنَا يا آدمُ إنَّ هَذَا عَدُوّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى * إنّ لَكَ ألاّ تَجُوعَ فِيهَا ولا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤا فِيهَا ولاَ تَضْحَى ) (١) فإنّ قوله سبحانه:( فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى ) صريح في أنّ أثر امتثال النهى هو البقاء في الجنّة، ونيل السعادة التي تتمثّل في قوله:( إنّ لَكَ ألاّ تَجُوعَ فِيهَا ولا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤا فِيهَا ولاَ

____________________

١ - طه: ١١٧ - ١١٩.

١٠٣

تَضْحَى ) وأنّ أثر المخالفة هو الخروج من الجنّة والتعرّض للشقاء الذي يتمثّل في الحياة التي فيها الجوع والعري، والظمأ وحرّ الشمس، كل ذلك يدلّ على أنّه سبحانه لم يتخذ لدى النهي موقف الناهي، الواجبة طاعته، بل كان ينهى بصورة الإرشاد والنصح والهداية، وأنّه لو خالفه لترتّب عليه الشقاء في الحياة والتعب فيها.

٣ - إنّه سبحانه - بعد ما أكل آدم وزوجته من الشجرة وبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة - ناداهما:( أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيطَانَ لَكُمَا عَدُوّ مُبِينٌ ) (١) .

فإنّ هذا اللسان، لسان الناصح المشفق الذي أرشد مخاطبه لمصالحه ومفاسده في الحياة، ولكنّه خالفه ولم يسمع قوله، فعندئذٍ يعود ويخاطبه بقوله: ألم أقل لك ألم أنهك عن هذا الأمر ؟

٤ - إنّه سبحانه يبيّن أنّ وسوسة الشيطان لهما لم يكن إلاّ لإبداء ما وُرى عنهما من سوءاتهما حيث يقول:( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُرِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءاتِهِمَا ) (٢) .

وهذا يكشف عن أنّ ما يترتب على الوسوسة ومخالفة آدمعليه‌السلام بعدها لم يكن إلاّ إبداء ما وُري عنهما من السوأة، الذي هو أثر طبيعي للعمل من دون أن يكون له أثر آخر من ابتعاده عن لطفه سبحانه، وحرمانه عن قربه، الذي هو أثر المخالفة للخطابات المولوية.

٥ - إنّه سبحانه يحكي أنّ وسوسة الشيطان لهما كانت بصورة النصح

____________________

١ - الأعراف: ٢٢.

٢ - الأعراف: ٢٠.

١٠٤

والإرشاد حيث قال:( وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) (١) وهذا يكشف عن أنّ خطابه سبحانه إليهما كان بصورة النصح أيضاً، وهذا واضح لمَن له أدنى إلمام بأساليب الكلام.

فهذه القرائن وغيرها الموجودة في الآيات الواردة حول قصّة آدمعليه‌السلام تدل بوضوح على أنّ النهي في هذا المقام كان نهياً إرشادياً لا مولوياً، وكان الهدف تبقية آدمعليه‌السلام بعيداً عن عوامل الشقاء والتعب، ولكنّه لم يسمع قول ناصحه فعرّض نفسه للشقاء، وصار مستحقّاً لأن يخاطب بقوله سبحانه:( قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعضٍ عدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرضِ مُسْتَقَرّ وَمَتاعٌ إِلَى حِين ) (٢) ، وقوله سبحانه:( قال اهْبِطَا مِنْهَا جَميعَاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدوّ ) (٣) .

أضف إلى ذلك أنّ الظرف الذي تلقّى فيه آدم هذا النهي ( النهي عن الأكل من الشجرة ) لم يكن ظرف تكليف حتى تُعدّ مخالفته عصياناً لمقتضاه، فإنّ ظرف التكليف هو المحيط الذي هبط إليه مع زوجته بعد رفض النصح، أمّا ذلك المحيط فكان مُعدّاً لتبصير الإنسان بأعدائه وأصدقائه، ودورة تعليمية لمشاهدة نتائج الطاعة وآثار المخالفة، أي ما يترتّب على قبول قوله سبحانه من السعادة، وما يترتّب على قبول قول إبليس من الشقاء، وفي مثل ذلك المحيط لا يُعدّ النهي ولا الأمر تكليفاً، بل يُعد وسيلة للتبصير وتحصيل الاستعداد لتحمّل التكاليف في المستقبل، وكانت تلك الدورة من الحياة دورة إعدادية لأبي البشر وأُمّهم، حتى يلمس الحقائق لمس اليد.

____________________

١ - الأعراف: ٢١.

٢ - الأعراف: ٢٤.

٣ - طه: ١٢٣.

١٠٥

إلى هنا تمّت الإجابة على السؤال الأوّل، غير أنّ هناك جواباً آخر ذكره أكثر المفسّرين، ونحن نأتي به بشكل موجز:

جواب آخر عن الإشكال

إنّ أكثر المفسّرين من العدلية اختاروا أنّ مخالفة آدم لم تكن إلاّ مخالفة لنهي مولوي غير إلزامي، وهو ما يعبّر عنه بترك الأولى وترك الأفضل، وأمّا إطلاق العصيان وغيره من الكلمات الموهمة في المقام، فحاصل كلامهم في ذلك: أنّ الذنب على قسمين: ذنب مطلق، وهو مخالفة الإرادة القطعية الإلزامية للمولى الحكيم من غير فرق بين إنسان وإنسان، فمَن خالفه يكون عاصياً سواء فيه العاكف والباد.

وذنب نسبي، وهو ما يعد ذنباً وأمراً غير صحيح بالنسبة إلى شخص دون شخص، وهو ما يكون العمل بالذات مباحاً وجائزاً غير قبيح في حد نفسه، غير أنّ العرف والمجتمع يستقبح صدوره من شخص خاص، ويعده أمراً غير صحيح، ومثاله ما يلي:

إنّ المساعدة المالية القليلة ممّن يمتلك الآلاف المؤلّفة وإن كانت جائزة، لكنّها تثير اعتراض الناس على فاعلها مع أنّه لم يرتكب عملاً قبيحاً بالذات.

كما أنّ إقامة الصلاة مع عدم تفرّغ البال مبرئة للذمة ومسقطة للتكليف، إلاّ أنّه إذا أتى بها النبيّ بهذه الصورة يُعد أمراً غير لائق بمقامه وغير مترقّب منه، فوزان الأكل من الشجرة الممنوعة وزان صدور بعض الأعمال المباحة بالذات من الشخصيات الكبيرة المحترمة.

ونزيد توضيحاً في ذلك: إذا وقفنا على أنّه سبحانه أعزّ آدم بتعليمه الأسماء ،

١٠٦

وجعله معلّماً للملائكة ومسجوداً لهم، وفي هذه الحالة طلب منه أن يترك الأكل من الشجرة المعيّنة، كان المترقّب من مثله أن يتورّع عن أيّة مخالفة مهما صغرت، ومهما كان الأمر والنهي غير إلزاميين، ولأجل ذلك يُعد هذا العمل - مع ملاحظة ما حفّه من الشرائط - عصياناً محتاجاً إلى التوبة.

جواب ثالث عن الإشكال

وهاهنا جواب ثالث: وهو أنّ محور البحث عند المتكلّمين في عصمة الأنبياء عبارة عن مخالفة الإنسان المكلّف، للتكليف الإلهي بعد تشريع الشرائع، وإنزال الكتب، ولو كان هذا هو المعيار لما صدق في قصّة آدم؛ لأنّ البيئة التي كان أبو البشر يعيش فيها قبل الهبوط، لم تكن دار التشريع والتكليف، ولم تكن هناك أيّة شريعة، والمخالفة في هذا المحيط لا تُعدّ نقضاً للعصمة، فلاحظ، فقد تقدّم بعض ذلك الكلام في ذيل الجواب الأوّل.

إلى هنا تبيّن أنّ مخالفة آدم لنهيه سبحانه لا تضاد عصمته، وقد عرفت الأجوبة الثلاثة، فحان حين البحث عن بعض المفاهيم الواردة في الآيات التي تقدّمت عليك، وربّما يُعد بعضها دليلاً على أنّ المخالفة من آدم كانت ذنباً شرعيّاً، ولأجل ذلك يجب علينا توضيح هذه المفاهيم الواردة في القصّة.

٢ - ما معنى وسوسة الشيطان لآدم ؟

وحقيقة هذا السؤال ترجع إلى أنّ ظاهر الآيات الماضية هو تأثير الشيطان في نفس آدم بالوسوسة قال سبحانه:( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ ) (١) ، وقال

____________________

١ - الأعراف: ٢٠.

١٠٧

سبحانه:( فَوسْوَسَ إِلَيهِ الشَّيْطانُ ) (١) ، وعندئذ يتساءل: إنّ تطرق الوسوسة إلى آدم من جانب الشيطان، كيف تجتمع مع ما حكاه سبحانه من عدم تسلّط الشيطان على عباد الله المخلصين إذ قال:( إِنَّ عباديَ لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوينَ ) (٢) ، وقال سبحانه حاكياً قول إبليس:( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٣) ؟

والجواب عن ذلك: إنّ المراد من ( المخلصين ) هم الذين اجتباهم الله سبحانه من بين خلقه، قال تعالى مشيراً إلى ثلّة من الأنبياء:( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيّينَ مِن ذُرّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْ-رائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ) (٤) وقال سبحانه مشيراً إلى طائفة من الأنبياء:( وَمِن آبائِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَ اجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ) (٥) .

فإذا كان المخلصون هم الذين اجتباهم الله سبحانه بنوع من الاجتباء، لم يكن آدمعليه‌السلام يوم خالف النهي من المجتبين، وإنّما اجتباه سبحانه بعد ذلك قال سبحانه:( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) (٦) وعلى ذلك فوسوسة الشيطان لآدم لا تنافي ما ذكره سبحانه في حق المجتبين، وأنّ الشيطان ليس له نصيب في حق تلك الصفوة وليس له طريق إليهم.

____________________

١ - طه: ١٢٠.

٢ - الحجر: ٤٢.

٣ - ص: ٨٢ - ٨٣.

٤ - مريم: ٥٨.

٥ - الأنعام: ٨٧.

٦ - طه: ١٢١ - ١٢٢.

١٠٨

أضف إلى ذلك: أنّ وسوسة الشيطان في صدور الناس إنّما هي بصورة النفوذ في قلوبهم والسلطان عليهم بنحو يؤثّر فيهم، وإن كان لا يسلب عنهم الاختيار والحرية، ويؤيّد كون الوسوسة بصورة النفوذ، الإتيان بلفظة ( في ) في قوله سبحانه:( يُوَسْوِسُ في صُدُورِ النَّاسِ ) (١) . وأمّا وسوسة الشيطان بالنسبة إلى أبي البشر فلم تكن بصورة النفوذ والتسلّط بشهادة تعديته بلفظة ( لهما ) أو ( إليه )(٢) وهذا التفاوت في التعبير يفيد الفرق بين الوسوستين، وأنَّ إحداهما على نحو الدخول والولوج في الصدور، والأخرى بنحو القرب والمشارفة.

٣ - ماذا يُراد من قوله:( فأزلّهما الشيطان ) ؟

وأمّا قوله سبحانه:( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ) (٣) وقوله:( فَدَلاّهُمَا بُغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا ) (٤) ، فلا يدلاّن على كون العمل الصادر منهما عصياناً بالمعنى المصطلح، وأمّا التعبير الوارد في الآية فهو لأجل أنّ عمل آدم لم يكن مقروناً بالمصلحة، بل كان مقروناً بالشقاء والبعد عن الحياة السعيدة، فكل مَن افتقد هذه البركات والمصالح يصدق عليه أنّه ( زلَّ ) أو ( إنّ الشيطان أنزلهما عن مكانتهما بغرور ).

وبالجملة: إنّ هذه التعابير تجتمع مع كون النهي إرشادياً غير مولوي، أو نهياً مولوياً تنزيهياً كما هو المقرّر في الجوابين الأوّلين.

٤ - ما معنى قوله:( وعصى ) و( فغوى ) ؟

ربّما يتمسّك المخالف بهذين اللفظين، حيث قال سبحانه:( وَعَصى آدَمُ

____________________

١ - الناس: ٥.

٢ - الأعراف: ٢٠، طه: ١٢٠.

٣ - البقرة: ٣٦.

٤ - الأعراف: ٢٢.

١٠٩

رَبَّهُ فَغَوى ) لكن لا دلالة لهما على ما يرتئيه المستدل.

أمّا لفظة( عصى ) فهي وإن كانت مستعملة في مصطلح المتشرّعة في الذنب والمخالفة للإرادة القطعية الملزمة، ولكنّه اصطلاح مختص بالمتشرّعة ولم يجر القرآن على ذلك المصطلح، بل ولا اللغة، فإنّ الظاهر من القرآن ومعاجم اللغة أنّ العصيان هو خلاف الطاعة، قال ابن منظور: العصيان خلاف الطاعة، عصى العبد ربّه: إذا خالف ربّه، وعصى فلان أميره، يعصيه، عصياً وعصياناً ومعصية: إذا لم يطعه وعلى ذلك فيجب علينا أن نلاحظ الأمر الذي خولف في هذا الموقف، فإن كان الأمر مولوياً إلزامياً كان العصيان ذنباً، وإذا كان أمراً إرشادياً أو نهياً تنزيهياً لم تكن المخالفة ذنباً في المصطلح، ولأجل ذلك لا يصلح التمسّك بهذا اللفظ وإثبات الذنب على آدمعليه‌السلام .

وأمّا اللفظة الثانية: أعني( فغوى ) فالجواب عنها: إنّ الغي يستعمل بمعنى الخيبة، قال الشاعر:

فمَن يلق خيراً يحمد الناس أمره

ومَن يغو لا يعدم على الغيّ لائماً

أي ومَن حرم من الخير ولم يلقه، لا يحمده الناس ويلومونه.

وفي حديث موسى وآدم:( أغويت الناس ) أي خيّبتهم، كما أنّه يستعمل في معنى الفساد، وبه فسّر قوله سبحانه:( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ) أي فسد عليه عيشه كما سيأتي(١) .

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ المراد من الغي في الآية هو خيبة آدم وخسرانه وحرمانه من العيش الرغيد الذي كان مجرداً عن الظمأ والعرى، بل من المنغصات

____________________

١ - لاحظ لسان العرب: ١٥/١٤٠.

١١٠

والمشقات، وليس كل خيبة تتوجّه إلى الإنسان ناشئة من الذنب المصطلح، كما أنّه يحتمل أن يكون المراد منه هو الفساد، وبذلك فسّر ابن منظور المصري في لسانه قوله سبحانه:( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ) أي فسد عليه عيشه(١) ، ولا شك أنّ العيش في الجنّة لا يقاس بالعيش في عالم المادة الذي هو دار الفساد والانحلال.

ولو سلم أنّ الغي بمعنى الضلال في مقابل الرشد، لكن ليس كل ضلال معصية، فإنّ من ضل في طريق الكسب أو في طريق التعلّم يصدق عليه أنّه غوى: أي ضل، ولكنّه لا يلازم المعصية.

وكان سيّدنا الأستاذ العلاّمة الطباطبائي - رضوان الله عليه - يقول في مجلس بحثه: إنّ لفظة( غَوى ) تعني الحالة التي تعرض للغنم عندما تنفصل عن القطيع فتبقى حائرة تنظر يميناً وشمالاً ولا تشق طريقاً لنفسها، وكان آدم أبو البشر حائراً بعد ما خالف نهي ربّه وابتلي بما ابتلي به لا يدري كيف يعالج مشكلته، وكيف يتخلّص من هذا المأزق الحرج ؟!

وبالجملة: فالغي إن أُريد منه الخروج عن جادّة التوحيد، والانحراف عمّا رسم للإنسان من الواجبات والمحرمات، فهو يلازم الكفر تارة والذنب أُخرى، ولكن ليس كل ضلال - على فرض كون الغي بمعنى الضلال - ملازماً للجرم والذنب، فمَن ضلّ عن الطريق وتاه عن مقاصده الدنيوية أو المصالح التي يجب أن ينالها، يصدق عليه أنّه( غَوى ) مقابل أنّه ( رشد ) ولكنّه لا يلازم المعصية المصطلحة.

ولا شك أنّ آدم بعدما أكل من الشجرة بدت له سوأته وخرج من الجنّة وهبط إلى دار الفساد، فعندئذ غوى في طريقه وضل عن مصلحته.

____________________

١ - لاحظ لسان العرب: ١٥/١٤٠، مادة ( غوى ).

١١١

وبالجملة: فهذه الوجوه الثلاثة المذكورة حول( غوى ) تثبت وهن الاستدلال بها على العصيان.

٥ - ما معنى قول آدمعليه‌السلام :( ربَّنَا ظَلَمنا أنْفُسَنا ) ؟

إنّ الظلم ليس إلاّ بمعنى وضع الشيء في غير موضعه، ومن أمثال العرب قولهم ( من أشبه أباه فما ظلم ) قال الأصمعي: الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وفي المثل ( مَن استرعى الذئب فقد ظلم ) ولأجل ذلك يُعد العدول عن الطريق ظلماً، يقال: ( لزموا الطريق فلم يظلموه) أي لم يعدلوا عنه(١) فإذا كان معنى الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه وتجاوز الحد، لا يلزم أن يكون كل ظلم ذنباً بل يشمله وغيره، فمن لم يسمع قول الناصح المشفق وعمل بخلاف قوله فقد وضع عمله في غير موضعه، كما أنّ مَن خالف النهي التنزيهي فقد عدل عن الطريق الصحيح.

وبالجملة: فكل مخالفة وانحراف عن طريق الصواب ظلم سواء أكان الأمر المخالف مولوياً أم إرشادياً، إلزامياً أم غيره.

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه يعد الظلم للنفس مقابلاً لعمل السوء، ويقول:( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً ) (٢) .

والآية تُعرب عن أنَّ الظلم للنفس ربّما يكون غير عمل السوء، وعند ذلك يتضح أنّ قول آدم: ( رَبَّنَا ظَلَمنَا أَنْفُسَنا ) لا يستلزم الاعتراف بالذنب؛ لأنّ الظلم

____________________

١ - لسان العرب: مادة ( ظلم ).

٢ - النساء: ١١٠.

١١٢

للنفس غير عمل السوء، فالأوّل موجب لحط النفس عن مكانتها ولا يستلزم تجاوزاً عن حدود الله، بخلاف عمل السوء فإنّه تجاوز على حدوده؛ وبذلك يعلم أنّ المراد من قوله سبحانه:( وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ) (١) هو الظلم للنفس المستلزم لحط النفس عن مكانتها، في مقابل عمل السوء المستلزم للتجاوز على حدوده سبحانه.

٦ - ما المراد من قوله:( فتاب عليه ) ؟

( التوبة ) بمعنى الرجوع، فإذا نسبت إلى الله تتعدّى بكلمة ( على ) قال سبحانه:( لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيّ وَالمُهَاجِرِينَ والأنصار الّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ) (٢) ، أي رجع عليهم بالرحمة.

وإذا نسبت إلى العبد تتعدّى بكلمة ( إلى ) قال سبحانه:( فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) (٣) .

وقال سبحانه:( أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (٤) .

فإذا كانت التوبة بمعنى الرجوع، فعندما تعدّت ب- ( على ) يكون معنى قوله:( فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (٥) أنّ الله رجع عليه بالرحمة، فالتوبة في هذه الجملة توبة من الله على العبد لا من العبد إلى الله، ومعنى الأوّل هو رجوعه سبحانه على العبد باللطف والمرحمة.

____________________

١ - البقرة: ٣٥.

٢ - التوبة: ١١٧.

٣ - البقرة: ٥٤.

٤ - المائدة: ٧٤.

٥ - البقرة: ٣٧.

١١٣

ومثله قوله سبحانه:( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) (١) فالتوبة هنا من الله على عبده، ومعنى الآية أنّه سبحانه اصطفى آدم لأجل تلقّيه الكلمات وسؤاله بها، فعندئذ رجع الله عليه بالرحمة وهداه سبحانه وأخرجه من الغواية التي غشيته، والظلمة التي اكتنفته، لأجل عدم الإصغاء إلى نصحه سبحانه وتقديم نصح غيره عليه.

نعم إنّ لفظة( فَتَابَ عَلَيْهِ ) في سورتى البقرة وطه، دالة على أنَّ آدم ( تاب إلى ربه )، ولأجل توبته إلى الله ورجوعه إليه بالندامة، تاب الله عليه ورجع عليه بالرحمة والهداية، ولكن لا دلالة لكل رجوع وإنابة إلى الله، على وقوع الذنب وصدوره منه، خصوصاً بالنظر إلى ما قدّمناه في التفسير الثاني لمخالفة آدم، وقلنا إنَّ من الممكن أن يكون نفس العمل جائزاً ومباحاً ولكن يعد صدوره من بعض الشخصيات محظوراً وأمراً غير صحيح، فإنابة تلك الشخصيات إلى الله في تلك المجالات لا تعد دليلاً على صدور الذنب، بل تعد دليلاً على سعة علمها بالعظمة الإلهية؛ ولأجل ذلك يقال: ( حسنات الأبرار سيئات المقرّبين ) وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إنّه ليران على قلبي وإنّي استغفر الله كل يوم سبعين مرّة )(٢) وليس هذا الاستغفار دليلاً على صدور الذنب، بل هو دليل على سعة علمه وعمق إدراكه لعظمة الله.

٧ - ما معنى الغفران في قوله:( وإن لم تغفر لنا ) ؟

بقيت هنا كلمة وهي توضيح قوله سبحانه:( وإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا

____________________

١ - طه: ١٢٢.

٢ - صحيح مسلم: ٨/٧٢، كتاب الذكر، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه وفيه: ( ليغان ) مكان ( ليران )، وهو من مادة ( الغين ) أي الستر.

١١٤

لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ) ، فربّما يتبادر إلى الذهن من هذا المقطع من الآية صدور الذنب من أبينا آدمعليه‌السلام ، فنقول: لا دلالة فيه ولا في واحدة من كلماته على ما يتوخّاه الخصم، وإليك بيان هدف الآية ومفرداتها.

أمّا الغفران فإنّ أصله ( الغفر ) بمعنى التغطية والستر، يقال: غفره، يغفره، غفراً: ستره، وكل شيء سترته فقد غفرته، فإذا كان الغفران بمعنى الستر فلا ملازمة بين الستر والذنب، فإنّ المستور ربّما يكون ذنباً وربّما يكون أمراً جائزاً غير مترقّب الصدور من الإنسان؛ ولأجل ذلك طلب آدم من الله سبحانه على عادة الأولياء والصالحين في استصغارهم ما يقومون به من الحسنات واستعظامهم الصغير من العيوب فقال:( وإن لم تغفر لنا ) أي لم تستر عيبنا ولم( ترحمنا ) أي لم ترجع علينا بالرحمة( لنكوننّ من الخاسرين ) ولا شك أنّ آدم قد خسر النعيم الذي كان فيه، بسبب عدم سماعه لنصح الله سبحانه؛ ولأجل ذلك طفق يطلب منه أن يرجع عليه بالمغفرة أي بستر عيبه، والرحمة أي بإخراجه من الخسران الذي عرض له.

إذا وقفت على ما ذكرنا حول هذه الآيات والجمل وتأمّلت فيها بإمعان ودقّة، يظهر لك أنّ الاستدلال بها على صدور الذنب المصطلح من آدم من غرائب الاستدلالات وعجائبها، ولا يصح لباحث أن يُفسّر آية دون أن يستعين لفهمها بأُختها، وبذلك يتضح أنّ ما سلكناه من المنهج في تفسير القرآن، هو الطريق الصحيح الذي يرفع النقاب عن وجوه كثير من الحقائق التي قد تخفى على الباحثين، وهذا الطريق هو تفسير كتابه سبحانه بالتفسير الموضوعي، أي جمع الآيات الواردة في موضوع واحد وعرض بعضها على بعض.

١١٥

عصمة آدمعليه‌السلام وجعل الشريك لله !

قد وقفت على أعظم شبه المخطّئة للأنبياء، كما وقفت على الجواب عنها، فهلم معي ندرس شبهة أُخرى لهم جعلوها ذريعة لفكرتهم الفاسدة حيث استدلّوا على عدم عصمة آدمعليه‌السلام بقوله سبحانه:( هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيَما آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُون * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) (١) .

استدل المخطّئة لعصمة الأنبياء بقوله سبحانه:( فَلَمَّا آتاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ ) قائلين بأنّ ضمير التثنية في كلا الموردين يرجع إلى آدم وحواء اللّذين أُشير إليهما بقوله سبحانه في صدر الآية:( مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) .

ولكن الاستدلال بالآية مبني على القول بأنّ المراد من ( مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) هي الواحدة الشخصية لا الواحدة النوعية، أعنى كل أب وأُم بالنسبة إلى أولادهما، ولكن القرائن تشهد بأنّ المراد هو الواحد النوعي لا الشخصي.

توضيح ذلك: أنّ تلك اللفظة قد استعملت في القرآن الكريم بوجهين:

الأوّل: ما أُريد منه الواحد الشخصي كقوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً

____________________

١ - الأعراف: ١٨٩ - ١٩٢.

١١٦

وَنِسَاءً ) (١) فالمراد من ( نفس واحدة ) هو آدم، ومعنى خلق الزوجة منها كونها من جنسها، والدليل على أنّ المراد هو الواحد الشخصي قوله:( وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساء ) والمعنى أنّه سبحانه خلق الخلق من أب واحد وأُم واحدة، فهذه الجماهير على كثرتها تنتهي إليهما ومثله قوله سبحانه:( يا أَيُّها النَّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعارَفُوا ) (٢) .

الثاني: ما أُريد منه الواحد النوعي أي الأب لكل إنسان ومثله الأُم، وذلك مثل قوله:( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُم مِنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَث ) (٣) ، فالمراد من (نفس واحدة ) هو الواحد النوعي، والمراد أنّ كل واحد منّا قد ولد من أب واحد وأُم واحدة، والدليل على ذلك قوله سبحانه:( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَث ) .

ومثلها الآية المبحوث عنها في المقام، إذ ليس المراد منها شخص آدم أبي البشر بعينه، بل المراد والد كل إنسان ووالدته، فالجنسان يتقاربان ويتولّد منهما الولد، وتدل على ما اخترنا من المعنى قرائن في نفس الآيات.

الأُولى : إنّ الآية وقعت في عداد الآيات التي تعرب عن الميثاق الذي أعطاه الإنسان لربّه في شرائط خاصّة، ولكنّه حينما نال النعم ورفل فيها، طفق ينقض ميثاقه، وهذه طبيعة الإنسان المجهّز بالغرائز، ويشير إليها قوله سبحانه:( وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ) (٤) ،

____________________

١ - النساء: ١.

٢ - الحجرات: ١٣.

٣ - الزمر: ٦.

٤ - فصلت: ٥١.

١١٧

فإذا كانت هذه طبيعة الإنسان فلا يبعد أن يسأل الله أن يرزقه ولداً صالحاً، معطياً لله ميثاقاً بأن يشكره على تلك النعمة، ولكنّه عندما ينال النعمة يجعل له شركاء فيما آتاه، وعلى ذلك فالآية جارية مجرى المثل المضروب لبني آدم في نقضهم ميثاقهم الذي واثقوه به.

والدليل على أنّ الآية واردة في ذاك المجال، ما ورد قبل هذه الآية من حديث الميثاق الذي أعطاه الإنسان لربّه ولكنّه نقضه بعده قال سبحانه قبيل هذه الآيات:( وَإِذْ أخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرّيّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ ) (١) .

والميثاق الذي ورد في الآية، معطوف على ذلك الميثاق الذي ورد في الآيتين، وهذا دليل واضح على أنّ المراد هو تعريف طبيعة الإنسان وتوصيفها بالتعهّد أوّلاً، والنقض ثانياً، وليس بصدد بيان حال الإنسان الشخصي، أعني: أبانا آدم.

الثانية : إنّ سياق الآية ولحنها يوحيان بأنّ الشخص الذي سأل الله أن يرزقه ولداً صالحاً، كان يعيش في بيئة كان فيها آباء وأولاد بين صالح وطالح، فنظر إليهم فتمنّى أنْ يرزقه الله ولداً صالحاً على غرار ما رآه، غير أنّه لمّا رزقه الله ذلك الولد الصالح، نقض ميثاقه أي شكره لله على ما رزقه من صالح الأولاد، وهذا غير صادق في شأن أبينا آدم وأُمّنا حواء؛ إذ لم يكن في بيئتهم آباء وأولاد صالحون وطالحون حتى يتمنّيا لنفسهما ولداً مثل ما رزقهم الله سبحانه.

الثالثة : إنّ ذيل الآية يشهد بوضوح على أنّها غير مرتبطة بصفي الله آدم ؛

____________________

١ - الأعراف: ١٧٢ - ١٧٣.

١١٨

وذلك لأنّه سبحانه يقول في ذيلها:( فَتَعَالى الله عَمَّا يُشْرِكُون ) ، فلو كان المراد من النفس وزوجها في الآية شخصين معيّنين كآدم وحواء، كان من حق الكلام أن يقول:( فتعالى الله عمّا يشركان ) وهذا بخلاف ما أُريد من النفس وزوجها، الطبيعة الإنسانية في جانبي الذكر والأنثى، إذ حينئذ يصح الجمع لكثرة أفراده.

الرابعة : إنّه سبحانه يقول:( أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون ) ، ومن المعلوم أنّ المراد من الشرك هو الشرك في العبادة، وحاشا أنْ يكون آدم صفي الله مشركاً في العبادة، كيف ؟ وقد وصفه الله سبحانه بالاجتباء حيث قال:( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيهِ وَهَدَى ) (١) ، وقال سبحانه:( وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ) (٢) وقال سبحانه:( ومن يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ ) (٣) ، وقال أيضاً:( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَن لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ) (٤) .

كل هذه الآيات تشهد بوضوح على أنّ الآية تهدف إلى ذكر القصة على سبيل ضرب المثل، وبيان أنّ هذه الحالة صورة تعم جميع الأفراد من الإنسان، إلاّ مَن التجأ إلى الإيمان، فكأنّه سبحانه يقول: هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية، فلمّا تغشى الزوج الزوجة وظهر الحمل دعوا ربّهما بأنّه سبحانه لو آتاهما ولداً صالحاً سوياً ليكونا من الشاكرين لآلائه ونعمائه، فلما آتاهما الله ولداً صالحاً سوياً جعل الزوج والزوجة لله شركاء في ذلك الولد الذي آتاهما، فتارة نسبوه إلى الطبيعة كما هو قول الدهريين، وأُخرى إلى الكواكب كما هو قول المنجّمين، وثالثة إلى الأصنام كما هو

____________________

١ - طه: ١٢٢.

٢ - الإسراء: ٩٧.

٣ - الزمر: ٣٧.

٤ - الأحقاف: ٥.

١١٩

قول عبدتها، فردَّ الله سبحانه على تلك المزاعم بقوله:( فَتَعَالى الله عَمَّا يُشْرِكُون ) (١) وعلى ما ذكرنا يحتمل أن يكون المراد من الشرك هو الشرك في التدبير، ومثل هذا لا يليق أن ينسب إلى من هو دون الأنبياء والأولياء، فكيف يمكن أن يوصف به صفي الله آدمعليه‌السلام ؟!

وأقصى ما يمكن أن يقال هو أنّ المراد من النفس الواحدة وزوجها في صدر الآية هو آدم وحواء الشخصيّان، ولكنّه سبحانه عندما انتهى إلى قوله:( ليسكن إليها ) التفت من شخصهما إلى مطلق الذكور والإناث من أولادهما أو إلى خصوص المشركين من نسلهما، فيكون تقدير الكلام( فلما تغشاها ) أي تغشى الزوج الزوجة من نسلهما( حملت حملاً خفيفا فمرت به ) إلى آخر الآية.

وهذا ما يسمّى في علم المعاني بالالتفات، وله نظائر في القرآن الكريم قال تعالى:( هُوَ الذي يُسَيّرُكُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ حَتّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ ) (٢) ترى أنّه سبحانه خاطب الجماعة بالتسيير ثم خصّ راكب البحر بأمر آخر ومثله الآية، ترى أنّه سبحانه أخبر عن عامّة أمر البشر بأنّهم مخلوقون من نفس واحدة وزوجها وهما آدم وحواء، ثم ساق الكلام إلى مطلق ذرّيّة آدم من البشر.

وهذا الوجه نقله المرتضى في ( تنزيه الأنبياء ) عن أبي مسلم محمد بن بحر الأصفهاني(٣) .

وتوجد وجوه أُخر في تفسير الآية غير تامّة(٤) وفيما ذكرنا غنى وكفاية.

____________________

١ - مفاتيح الغيب: ٤/٣٤٣.

٢ - يونس: ٢٢.

٣ - تنزيه الأنبياء: ١٦.

٤ - لاحظ مفاتيح الغيب: ٤/٣٤١ - ٣٤٣؛ مجمع البيان: ٤/٥٠٨ - ٥١٠؛ أمالي المرتضى: ١٣٧ - ١٤٣.

١٢٠