عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم0%

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 321

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 321
المشاهدات: 120032
تحميل: 8074

توضيحات:

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 321 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120032 / تحميل: 8074
الحجم الحجم الحجم
عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

يبحث عن عصمة الأنبياء ويعالج أدلّة المخطِّئة لها

تأليف:

العلاّمة المحقّق جعفر السبحاني

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة

إنشاء الله تعالى.

٢

اسم الكتاب: عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

المؤلِّف: العلاّمة المحقّق جعفر السبحاني

الطبعة: الثالثة

المطبعة: مؤسسة الإمام الصادقعليه‌السلام - قم

التاريخ: ١٤٢٥ ه- ق

الكمية: ١٠٠٠ نسخة

الناشر: مؤسّسة الإمام الصادقعليه‌السلام

الصفّ والإخراج باللاّينوترون: مؤسّسة الإمام الصادقعليه‌السلام

٣

بسم الله الرحمن الرحيم

٤

٥

- أ -

مقدّمة الطبعة الأُولى

الأنبياء والرسُل في القرآن الكريم

إنّ النظرة الفاحِصَة إلى الكون والحياة والإنسان تشهد بأنّ الخلق لم يكن عبثاً وسدى، وأنّ الإنسان لم يُخلَق بلا غاية ولا هدف، إنّما خلقه الله سبحانه، وأتى به إلى فسيح هذا الوجود لغاية روحيّة عليا، وللوصول إلى كمالٍ معنويٍّ ممكنٍ.

وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الحقائق بمختلف التعابير، قال سبحانه:( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ والأرض وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الّذينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ ) (١) .

وقال سبحانه أيضاً:( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرجَعُون ) (٢) .

غير أنّ بلوغ تلك الغاية المنشودة يتوقّف على أمرين:

١ - مؤهلاتٍ تكوينية ذاتيةٍ كامنةٍ في وجود الإنسان، تبعثه بدافع من ذاته للسير باتجاه الكمال.

٢ - قادةٍ أقوياءٍ متعلّمين بتعليمٍ من الله ومرسلين من جانبه لقيادة الإنسان

____________________

١ - ص: ٢٧.

٢ - المؤمنون: ١١٥.

٦

- ب -

وهدايته إلى ما خُلِق له، فإذا تجاوبَ العاملان الداخلي والخارجي تمّ سوقه إلى الهدف المنشود.

وهذا ممّا يشهد به العقل السليم، والذكر الحكيم.

غير أنّ قيادة الإنسان التي بُعِثَ من أجلها الأنبياء ليست أمراً سهلاً يمكن القيام به لكلّ مَن هبّ ودبّ، بل القائم به لمّا كان يُفترضُ أن يكون أُسوة للناس في العلم والعمل؛ وجب أن يكون موصوفاً بأمثل الصفات وأكملها وأقواها، وأن يكون منزّهاً عن كلّ مَينٍ وشينٍ وعن كلّ نقصٍ وعيبٍ، وفي مقدمة كلّ ذلك يجب أن يكون عاملاً بما يقول، قائماً بما يدعو إليه، مؤتمراً بما يأمر به، منتهياً عمّا ينهى عنه، وإلاّ لزلّ كلامه عن القلوب، كما يزل المطر عن الحَجر الصلد، ولما تحقّق هدفُ البعث والإرسال؛ فانّ الناس يميلون بطبعهم إلى رجالٍ يُوصَفونَ بالمُثُل العُليا، ويرغبون في مَن يقرن منهم العلم بالعمل، فيما ينفرون بطبعهم عن ما يقابل هذا الطراز من الرجال وإن كانوا قمّةً في قوّة الفكر، وحلاوة الكلام.

وهذا هو الذي دعا المسلمين إلى القول بوجوب عصمة الأنبياء والرسل عن الخطأ و الزلل وعن الإثم والعصيان.

وقد استشهدوا على ذلك بالذكر الحكيم، وحكم العقل السليم الذي لا يفارق الكتابَ الكريم.

فلأجل ذلك أخذت مسألة ( العصمة ) في كتب الكلام والتفسير مكانةً خاصةً، وأسهب المحقّقون فيها الكلام، وإن كان بين المسلمين مَن شذّ ولم يصف الأنبياء بالعصمة.

٧

- ج -

البحث عن العصمة من صميم الحياة

إنّ البحث عن ( العصمة ) ليس بحثاً عن مسائل جانبيةٍ لا تمتُّ إلى الحياة الإنسانية، خصوصاً الجانب المعنوي فيها، فإنّها من الأمور التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالثقافة والحياة الإسلامية الحاضرة.

فإنّ البحث في العصمة بحثٌ عمّا يضمن سلامة هذه الثقافة، واستقامتها، وبالتالي بحثٌ عمّا يضمن مطابقة حياتنا الحاضرة مع ما أنزله الله من تشريع، وما تركه نبيّه الكريم من سنّة.

من هنا يكون من المحبَّذ المؤكَّد، بل من اللازم الإمعان في حياة الأنبياء وسيرتهم، والإمعان في الآيات التي وردت في حقّهم، فهو بالإضافة إلى أنّه يعين على فهم حقيقة ( العصمة )، ويؤكّد ارتباطها بسلامة الثقافة الإسلامية، امتثالاً لقوله سبحانه:( أَفَلا يَتَدبَّرُونَ القُرآن ) (١) وقوله سبحانه:( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الألباب ) (٢) فالنظرة الفاحصة إلى الآيات الورادة في شأن الأنبياء، وكذا القصص المذكورة حولهم على الوجه العام، والآيات التي ترجع إلى عصمتهم من الخطأ والزلل، والإثم والعصيان بصورة خاصة يعتبر عبادة عمليةً يُثاب عليها المفكّر المتدبّر فيها.

غير أنّه للأسف اتّخذ بعض الكتاب المتسرّعين موقفاً سلبياً في مقابل العلماء الذين بحثوا عن (العصمة) ضمن تفاسيرهم أو كتبهم الاعتقادية فقال

____________________

١ - النساء: ٨٢.

٢ - ص: ٢٩.

٨

- ه-

مستنكراً، ومتهجّماً عليهم:

(ما سمعنا عن أحد من الصحابة أنّه ناقش النبي في كيف أكل آدم من الشجرة ؟ وكيف عصى ربّه ؟ ولا ناقشوا الرسولَ في غير آدم من الأنبياء على هذا المنحى الذي نحاه المتأخّرون، ولا والله ما كان أُولئك الصحابة أقلَّ معرفةً لمكانة الأنبياء من أُولئك المتأخّرين، ولا أقلَّ احتراماً وإجلالاً لشأنهم من أُولئك المتكلّفين مالا يعنيهم، والداخلين فيما ليس من شؤونهم.

وأمّا القلوب السقيمة فهي قلوب المتأخّرين الذين فتح عليهم الشيطان باباً واسعاً من فنون الجدل، وكثرة القيل والقال، والمماحكات اللفظية وأقوال أهل الكتاب من اليهود أشدّ الناس كراهيةً للأنبياء، وتحقيراً لهم، ومشاقّة لهم، وكفراً بهم وتقتيلاً(١) .

نحن لا نعلّق على هذا الكلام؛ لأنّه كلام ساقط جداً، فإنّ كاتباً يدّعي الإسلام وفي الوقت نفسه يصف علماء الإسلام - الذين أوكل الله إليهم قيادة الأُمّة الإسلامية - بأنّهم ممّن تأثروا بفتنة الشيطان، وجعل التدبّر في آيات الكتاب العزيز من وحي الشيطان، إنسان متناقض لا يستحق كلامه الردّ والنقد.

والعجب أنّ هذا الكاتب ( المجهول ) استثنى من الفرق الإسلامية فرقةً واحدةً وُقُوا من كيد الشيطان ووساوسه وفتنته ( وهم أهل الحديث المقتفون للأثر، الذين جعلوا عقولهم وآراءهم تحت حكم ما جاء به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استمساكاً بالعروة الوثقى والحبل المتين )(٢) عزب عنه أنّ أحداً من المسلمين لا

____________________

١ - من مقدّمة ( عصمة الأنبياء ) للرازي، بقلم كاتب مجهول الهوية، نشر دار المطبوعات الحديثة - جدّة.

٢ - من المقدّمة أيضاً.

٩

- و -

يعدل عن السنّة إلى غيرها بعد القرآن الكريم، وأنّ إنكار السنّة إنكار لنبوّة النبي الخاتم صلوات الله وسلامه عليه أبد الآبدين.

غير أنّ الكلام هو في تشخيص ( الصحيح ) عن غيره، و( الموضوع ) عمّا عداه، فإنّ تاريخ الحديث يكشف عن أنّ الحديث وقع في مشاكل كثيرة، فهذه هي المجسِّمة والمشبِّهة لله تعالى بخلقه، يستندون إلى هذه الأحاديث المدوَّنة في الصحاح والسنن، والمسانيد.

لا ذاكرة لكذوب !!

والذي أظن أنّ هذه المقدّمة كتبت لغاية خاصة وهي الحطُّ من مكانة أهل البيت النبويّ وأئمّتهم، الذين فرض الله تعالى على الناس محبّتهم ومودّتهم، وجعلها أجر الرسالة إذ قال:( قُلْ لا أَسأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي القُربى ) (١) .

فإنّ هذا الكاتب ( المجهول ) تارة يعرف اليهود بأنّهم أشدّ الناس كراهيةً للأنبياء وتحقيراً لهم إلى آخر ما قال ولازم ذلك التحقير أن لا يكون الأنبياء عندهم معصومين بل متهتّكين لحرم الله.

وتارة يُشبّه المقتفين لآثار أهل البيت باليهود؛ لأنّهم أثبتوا العصمة لأئمّتهم كما أثبت اليهود العصمة للأنبياء تكريماً لهم، وتعظيماً لشأنهم.

فما هذا التناقضُ الصريح بين الكلامين يا ترى ؟! فلو كان اليهود - كما وصفهم في العبارة الأُولى - من أشدّ الناس عداوةً للأنبياء وتحقيراً لهم، لما أثبتوا للأنبياء العصمة التي هي من أعظم المواهب الإلهية المفاضة للإنسان ولو كانت الشيعة كاليهود في القول بالعصمة فما معنى كون اليهود أشدّ الناس عداوة

____________________

١ - الشورى: ٢٣.

١٠

- ز -

للأنبياء ؟!

أضف إلى ذلك أنّه بأيّ دليل ينسب إلى اليهود القول بالعصمة، بل هم حسب نصوص التوراة زاعمين خلافها ؟

فلأجل توقير الأنبياء وتكريمهم، وامتثال قوله سبحانه:( ليدبروا ) عمدنا إلى جمع الآيات المتعلّقة بعصمة الأنبياء والرسل، ما يدل منها على عصمتهم وما يتوهّم منه خلاف ذلك، ونحن نحاول بذلك سدّ فراغ ملموسٍ في المكتبة الإسلامية بهذه الصورة الملموسة.

على أنّه وإن كان ثلةٌ من علماء الإسلام القدامى نظير: الشريف المرتضى (٣٥٥ - ٤٣٦ ه-)، والخطيب الفخر الرازي (٥٤٣ - ٦٠٦ ه-)، وغيرهما، قد أشبعوا هذه المسألة بحثاً ودراسة، غير أنّ لكلِّ تأليفٍ مزيّتُه، كما أنّ كلّ مؤلّف يناسب عصره، وثقافة بيئته.

نسأل الله سبحانه أن يعصمنا من الزلل، ويوفقنا لما يحب ويرضى.

جعفر السبحاني

قم - الحوزة العلمية

شهر ذي القعدة ١٤٠٨ ه-

١١

مقدّمة الطبعة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله، والصلاة والسلام على أنبيائه ورسله الذين أخذ على الوحي ميثاقَهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتَهم، وأرسلَهم إلى عبادِه ليستأدُوهُم ميثاقَ فطرته ويذكّروهم منسيّ نعمتِه، ويحتجُّوا عليهم بالتبليغ، ويُثيروا لهم دفائن العقول، لا سيّما خاتمَ رسله، وأفضلَ خليقته محمد، وعلى آله الذين هم عيبةُ علمِه، وموئِلُ حِكَمِه، وكهوفُ كتبه، وجبالُ دينه.

أمّا بعد: فإنّه سبحانه لم يخلق الناس عبثاً ولا سدى، وإنّما خلقهم لإيصالهم إلى الكمال، وعزّز ذلك ببعثِ الرسل لهداية الناس إلى الغاية المنشودة، وقرنهم بفضائلَ، وطهّرهم عن الأرجاس والأدناس؛ حتى يتيسَّر لهم تعليمُ الناس وهدايتهم.

وقد شهدت الآيات القرآنية على كمالهم ونضوج عقلهم، واستقامة طريقتهم، وابتعادهم عن الذنوب، وعلى ذلك استقرّت العقيدة الإسلامية عبر الأجيال والقرون.

وقد أُثيرت منذ عصور غابرة شبهات حول طهارتهم ونزاهتهم، وتمّ دحضها، إلاّ أنّها أُعيدت في العصور الأخيرة بأُسلوب جديد من قِبَلِ بعض الباحثين، وقد تشبَّثوا ببعض الآيات دعماً لموقفهم؛ ولهذا قمنا بتحليل هذه الآيات

١٢

وتفسيرها على منهج موافق لقواعد التفسير؛ كي يتّضح أنّ هذه الآيات لا تمس كرامة العصمة بل تعزّزها.

وثمّة بحوث جانبية حول واقع العصمة وحقيقتها وأسبابها، قدّمناها على تفسير الآيات لتكون كالمقدّمة، والله سبحانه من وراء القصد.

جعفر السبحاني

قم - مؤسّسة الإمام الصادقعليه‌السلام

تحريراً في الرابع عشر من

شهر رمضان المبارك من شهور عام ١٤٢٠ ه-

١٣

مبدأ ظهور نظريّة العصمة

قد استعملت لفظة ( العصمة ) في القرآن الكريم بصورها المختلفة ثلاث عشرة مرة، وليس لها إلاّ معنى واحد وهو الإمساك والمنع، ولو استعملت في موارد مختلفة فإنّما هو بملاحظة هذا المعنى.

قال ابن فارس: ( عصم ) أصل واحد صحيح يدل على إمساك ومنع وملازمة، والمعنى في ذلك كله معنى واحد، من ذلك: ( العصمة ) أن يعصم الله تعالى عبده من سوء يقع فيه، ( واعتصم العبد بالله تعالى ): إذا امتنع، و ( استعصم ): التجأ، وتقول العرب: ( أعصمت فلاناً) أي هيّأت له شيئاً يعتصم بما نالته يده أي يلتجئ ويتمسّك به(١) .

إنّ الله سبحانه يأمر المؤمنين بالاعتصام بحبل الله بقوله:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) (٢) .

والمراد التمسّك والأخذ به بشدّة وقوّة، وينقل سبحانه عن امرأة العزيز قولها:( وَلَقَدْ رَاودتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ) (٣) .

وقد استعملت تلك اللفظة في الآية الأُولى في الإمساك والتحفّظ، وفي الآية

____________________

١ - المقاييس: ٤/٣٣١.

٢ - آل عمران: ١٠٣.

٣ - يوسف: ٣٢.

١٤

الثانية في المنع والامتناع، والكل يرجع إلى معنى واحد.

ولأجل ذلك نرى العرب يسمّون الحبل الذي تشد به الرحال: ( العصام )، لأنّه يمنعها من السقوط والتفرّق.

قال المفيد: إنّ العصمة في أصل اللغة هي ما اعتصم به الإنسان من الشيء كأنّه امتنع به عن الوقوع في ما يكره، ومنه قولهم: اعتصم به الإنسان من الشيء كأنّه امتنع به عن الوقوع في ما يكره ومنه قولهم: ( اعتصم فلان بالجبل ) إذا امتنع به، ومنه سمّيت العصم وهي وعول الجبال لامتناعها بها.

والعصمة من الله هي التوفيق الذي يسلم به الإنسان في ما يكره إذا أتى بالطاعة؛ وذلك مثل إعطائنا رجلاً غريقاً حبلاً ليتشبّث به فيسلم، فهو إذا أمسكه واعتصم به، سمّي ذلك الشيء عصمة له، لما تشبّث به فسلم به من الغرق، ولو لم يعتصم به لم يسم عصمة(١) .

وعلى كل تقدير فالمراد من العصمة صيانة الإنسان من الخطأ والعصيان، بل الصيانة في الفكر والعزم، فالمعصوم المطلق مَن لا يخطأ في حياته، ولا يعصي الله في عمره ولا يريد العصيان ولا يفكّر فيه.

مبدأ ظهور فكرة العصمة في الأُمّة الإسلامية

إنّ الكتب الكلامية - قديمها وحديثها - مليئة بالبحث عن العصمة، وإنّما الكلام في مبدأ ظهور تلك الفكرة بين المسلمين، وأنّه من أين نشأ هذا البحث وكيف التفت علماء الكلام إلى هذا الأصل ؟

لا شك أنّ علماء اليهود ليسوا بالمبدعين لهذه الفكرة؛ لأنّهم ينسبون إلى

____________________

١ - أوائل المقالات: ١١.

١٥

أنبيائهم معاصي كثيرة، والعهد القديم يذكر ذنوب الأنبياء التي يصل بعضها إلى حد الكبائر، وربّما يخجل القلم عن ذكر بعضها استحياء، فالأنبياء عندهم عصاة خاطئون، وعند ذلك لا تكون أحبار اليهود مبدعين لهذه المسألة.

نعم إنّ علماء النصارى، وإن كانوا ينزّهون المسيح من كل عيب وشين، ولكن تنزيههم ليس بملاك أنّ المسيح بشر أرسل لتعليم الإنسان وإنقاذه، بل هو عندهم ( الإله المتجسّد ) أو هو ثالث ثلاثة.

وعند ذلك لا يمكن أن يكون علماؤهم مبدعين لهذه المسألة في الأبحاث الكلامية؛ لأنّ موضوع العصمة هو ( الإنسان ).

ويذكر ( المستشرق رونالدسن ) في كتابه ( عقيدة الشيعة ) أنّ فكرة عصمة الأنبياء في الإسلام مدينة في أصلها وأهمّيتها التي بلغتها بعدئذ، إلى تطوّر ( علم الكلام ) عند الشيعة وأنّهم أوّل مَن تطرّق إلى بحث هذه العقيدة ووصف بها أئمّتهم، ويحتمل أن تكون هذه الفكرة قد ظهرت في عصر الصادق، بينما لم يرد ذكر العصمة عند أهل السنّة إلاّ في القرن الثالث للهجرة بعد أن كان الكليني قد صنّف كتابه ( الكافي في أُصول الدين )(١) وأسهب في موضوع العصمة.

ويعلّل ( رونالدسن ) بأنّ الشيعة لكي يثبتوا دعوى الأئمّة تجاه الخلفاء السنيّين أظهروا عقيدة عصمة الرسل بوصفهم أئمّة أو هداة(٢) .

____________________

١ - لقد توفّ-ي محمد بن يعقوب الكليني في العقد الثالث من القرن الرابع، أي عام ٣٢٨ ه-، فلو استفحلت مسألة العصمة في القرن الثالث عند أهل السنّة حسب اعتراف الرجل، فكيف يكون كتاب الكافي منشئاً لهذه الحركة الفكرية، أفهل يمكن تأثير المتأخّر في المتقدّم، وهل يكون العائش في القرن الرابع مؤثراً في فكر مَن يعيش في القرن الثالث ؟ أضف إليه أنّ كتاب الكافي لم يؤلّف في الأُصول وحدها، بل هو كتاب مشتمل على أحاديث تربو على ستّة عشر ألف حديث حول أُصول الدين وفروعه.

٢ - عقيدة الشيعة: ٣٢٨.

١٦

إنّ هذا التحليل لا يبتنى على أساس رصين وإنّما هو من الأوهام والأساطير التي اخترعتها نفسيّة الرجل وعداؤه للإسلام والمسلمين أوّلاً، والشيعة وأئمّتهم ثانياً، وسيوافيك بيان منشأ ظهور تلك الفكرة.

القرآن يطرح مسألة العصمة

إنّ العصمة بمعنى المصونية عن الخطأ والعصيان مع قطع النظر عمّن يتصف بها، قد ورد في القرآن الكريم، فقد جاء وصف الملائكة الموكّلين على الجحيم بهذا الوصف إذ يقول:( عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤمَرُونَ ) (١) .

ولا يجد الإنسان كلمة أوضح من قوله سبحانه: ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) في تحديد حقيقة العصمة، وواقعها، وإلفات الإنسان المتدبّر في القرآن إلى هذه الفكرة، وذاك الأصل.

إنّ الله سبحانه يصف الذكر الحكيم بقوله:( لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (٢) .

كما يصفه أيضاً بقوله:( إِنَّ هذَا الْقُرآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ الْمُؤمِنينَ ) (٣) .

فهذه الأوصاف تنصّ على مصونية القرآن من كل خطاء وضلال.

وعلى ذلك فالعصمة بمفهومها الوسيع، مع قطع النظر عن موصوفها، قد طرحها القرآن وألفت نظر المسلمين إليها، من دون أن يحتاج علماؤهم إلى أخذ

____________________

١ - التحريم: ٦.

٢ - فصلت: ٤٢.

٣ - الإسراء: ٩.

١٧

هذه الفكرة من الأحبار والرهبان.

نعم إنّ الموصوف في هذه الآيات، وإن كانت هي الملائكة أو القرآن الكريم والمطروح عند علماء الكلام هو عصمة الأنبياء والأئمّة، لكنّ الاختلاف في الموصوف لا يضر بكون القرآن مبدعاً لهذه الفكرة؛ لأنّ المطلوب هو الوقوف على منشأ تكوّن هذه الفكرة، ثم تطوّرها عند المتكلّمين، ويكفي في ذلك كون القرآن قد طرح هذه المسألة في حق الملائكة والقرآن.

عصمة النبي في القرآن الكريم

إنّ العصمة ذات مراحل أربع، وقد تكفّل القرآن ببيان تلك المراحل في مورد الأنبياء عامّة، ومورد النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة، وسيوافيك بيان تلك المراحل ودلائلها القرآنية.

فإذا كان القرآن هو أوّل مَن طرح هذه المسألة بمراحلها ودلائلها، فكيف يصح أن ينسب إلى الشيعة ويتصوّر أنّهم الأصل في طرح هذه المسألة ؟!

وإن كنت في ريب ممّا ذكرناه - هنا - فلاحظ قوله سبحانه في حق النبي الأكرم حيث يصف منطقه الشريف بقوله:

( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى ) (١) .

فترى الآيتين تشيران - بوضوح - إلى أنّ النبي لا ينطق عن ميول نفسانية وإنّ ما ينطق به وحي أُلقي في روعه وأُوحى إلى قلبه، ومَن لا يتكلّم عن الميول النفسانية، ويعتمد في منطقه على الوحي يكون مصوناً من الزلل في المرحلتين: مرحلة الأخذ والتلقّي، ومرحلة التبليغ والتبيين.

على أنّ الآيات القرآنية تصف فؤاده وعينه بأنّهما لا يكذبان ولا يزيغان ولا

____________________

١ - النجم: ٣ - ٤.

١٨

يطغيان، إذ قال سبحانه:( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأَى * ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى ) (١) .

أفيصح بعد هذه الآيات القرآنية تصديق ما ذكره هذا المستشرق اليهودي، أو ذاك المستشرق النصراني، فيما زعما في كون الشيعة مبدأ لطرح العصمة على بساط البحث، وأنّه وليد تكامل علم الكلام عند الشيعة في عصر الإمام الصادقعليه‌السلام مع أنّا نرى أنّ للمسألة جذوراً قرآنية، ولا عتب على الشيعة أن يقتفوا أثر كتاب الله سبحانه، ويصفوا أنبياءه ورسله بما وصفهم به صاحب العِزّة في كتابه.

نظريّة أحمد أمين حول كلام الشيعة

إنّ بعض المصريين كأحمد أمين ومَن حذا حذوه يصرّون على أنّ الشيعة أخذت منهجها الفكري في العدل والعصمة وغيرهما من الأفكار، من المعتزلة حيث قالوا: إنّ الشيعة يقولون في كثير من مسائل أُصول الدين بقول المعتزلة، فقد قال الشيعة كما قال المعتزلة بأنّ صفات الله عين ذاته، وبأنّ القرآن مخلوق، وبإنكار الكلام النفسي، وإنكار رؤية الله بالبصر في الدنيا والآخرة، كما وافق الشيعة المعتزلة في القول بالحسن والقبح العقليين، وبقدرة العبد واختياره وأنّه تعالى لا يصدر عنه قبيح وأنّ أفعاله معلّلة بالأغراض.

وقد قرأت كتاب الياقوت لأبي إسحاق إبراهيم من قدماء متكلّمي الشيعة الإمامية(٢) فكنت كأنّي أقرأ كتاباً من كتب أُصول المعتزلة إلاّ في مسائل معدودة كالفصل الأخير في الإمامة وإمامة علي وإمامة الأحد عشر بعده، ولكن أيّهما أخذ من الآخر ؟!

____________________

١ - النجم: ١١ - ١٧.

٢ - قال أحمد أمين تعليقاً على هذه الجملة: وهو مخطوط نادر تفضّل صديقي الأستاذ أبو عبد الله الزنجاني فأهدانيه أقول: إنّ هذا الكتاب طُبع أخيراً في إيران مع شرح العلاّمة الحلّ-ي.

١٩

أمّا بعض الشيعة فيزعم أنّ المعتزلة أخذوا عنهم وأنّ واصل بن عطاء تتلمذ لجعفر الصادق، وأنا أرجح أن الشيعة هم الذين أخذوا من المعتزلة تعاليمهم ونشوء مذهب الاعتزال يدل على ذلك، وزيد بن علي زعيم الفرقة الشيعية الزيدية تتلمذ لواصل، وكان جعفر ( الصادق ) يتصل بعمّه زيد ويقول أبو الفرج في مقاتل الطالبيين: كان جعفر بن محمد يمسك لزيد بن على بالركاب، ويسوّي ثيابه على السرج(١) فإذا صحّ ما ذكره الشهرستاني وغيره من تتلمذه لواصل، فلا يعقل كثيراً أن يتتلمذ واصل لجعفر، وكثير من المعتزلة كان يتشيّع، فالظاهر أنّه عن طريق هؤلاء تسرّبت أُصول المعتزلة إلى الشيعة(٢) .

مناقشة نظريّة أحمد أمين

ما ذكره الكاتب المصري اجتهاد في مقابل تنصيص أئمّة المعتزلة أنفسهم بأنّهم أخذوا أُصولهم من محمد بن الحنفية وابنه أبي هاشم، وهما أخذا عن علي بن أبي طالب والدهما العظيم، وإليك بعض نصوصهم:

قال الكعبي: والمعتزلة يقال أن لها ولمذهبها إسناداً يتصل بالنبي ليس لأحد من فرق الأمّة مثله، وليس يمكن خصومهم دفعهم عنه، وهو أنّ خصومهم يقرّون بأنّ مذهبهم يسند إلى واصل بن عطاء، وأن واصلاً يسند إلى محمد بن علي بن أبي طالب، وابنه أبي هاشم ( عبد الله بن محمد بن علي ) وأنّ محمداً أخذ عن أبيه علي وأنّ علياً أخذ عن رسول الله(٣) .

وقال أيضاً: وكان واصل بن عطاء من أهل المدينة ربّاه محمد بن علي بن أبي

____________________

١ - مقاتل الطالبيين: ٩٣.

٢ - ضحى الإسلام: ٢٦٧ - ٢٦٨.

٣ - رسائل الجاحظ: ٢٢٨، تحقيق عمر أبو النصر.

٢٠