عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم0%

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 321

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 321
المشاهدات: 120053
تحميل: 8074

توضيحات:

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 321 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120053 / تحميل: 8074
الحجم الحجم الحجم
عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

إيمان النبيّ الأكرم قبل البعثة

كان البحث عن إيمان عبد المطلب وسيّد البطحاء ووالديّ النبي، كمقدمة للبحث عن إيمان النبي الأكرم قبل البعثة، فإنّ إيمانه برسالته، وإن كان أمراً مسلّماً وواضحاً كوضوح الشمس غير محتاج إلى الإسهاب، غير أنّ إكمال البحث يجرّنا إلى أن نأتي ببعض ما ذكره التاريخ من ملامح حياته منذ صباه إلى أن بُعث نبيّاً، حتى يقترن ذلك الاتفاق بأصحّ الدلائل التاريخية، وإليك الأقوال:

١ - روى صاحب المنتقى في حديث طويل: أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا تمَّ له ثلاث سنين، قال يوماً لوالدته ( لمرضعته ) ( حليمة السعدية ): ( مالي لا أري أخويّ بالنهار ؟ ) قالت له: يا بني إنّهما يرعيان غنيمات قال: ( فما لي لا أخرج معهما ؟ ) قالت له: أتحب ذلك ؟ قال: ( نعم )، فلمّا أصبح محمد دهنته وكحّلته وعلّقت في عنقه خيطاً فيه جزع يماني، فنزعه ثم قال لأُمّه: ( مهلاً يا أُمّاه، فإنّ معي مَن يحفظني )(١) .

وهذه العبارة من الطفل الذي لم يتجاوز سنّه ثلاث سنين آية على أنّه كان يعيش في رعاية الله، وكان له معلّم غيبي ( يسلك به طريق المكارم ) ويلهمه ما يعجز عن إدراكه كبار الرجال آنذاك، حيث كانت أُمّه تزعم بأنّ في الجزع اليماني مقدرة الحفظ لمَن علّقه على جيده، فعلى الرغم من ذلك فقد خالفها الطفل ونزعه وطرحه، وهذا إن دلَّ على شيء فإنّما يدل على أنّه كان بعيداً عن تلك الرسوم والأفكار السائدة في الجزيرة العربية.

____________________

١ - المنتقى الباب الثاني من القسم الثاني للكازروني، وقد نقله العلاّمة المجلسي في البحار: ١٥/٣٩٢ من الطبعة الحديثة.

٢٦١

٢ - روى ابن سعد في طبقاته: أنّ بحيرا الراهب قال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا غلام أسألك بحق اللات والعزّى ألاّ أخبرتني عمّا أسألك ؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا تسألني باللاّت والعزّى، فو الله ما أبغضت شيئاً بغضهما )، قال: بالله إلاّ أخبرتني عمّا أسألك عنه ؟ قال: ( سلني عمّا بدا لك )(١) .

٣ - روى ابن سعد في طبقاته: عند ذكر خروج النبي إلى الشام للتجارة بأموال خديجة مع غلامها ( ميسرة ): إنّ محمّداً باع سلعته فوقع بينه ورجل تلاح، فقال له الرجل: احلف باللاّت والعزّى، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ما حلفت بهما قط، وإنّي لأمرُّ فأعرض عنهما ) فقال الرجل: القول قولك، ثم قال لميسرة: يا ميسرة هذا والله نبي(٢) .

وممّا يشهد على توحيده أنّه لم ير قط مائلاً عن الحق، ساجداً لوثن أو متوسّلاً به، بل كان يتحنّث في كل سنة في غار حراء في بعض الشهور، فوافاه جبرئيل (عليه الصلاة والسلام) في بعض تلك المواقف وبشّ-ره بالرسالة وخلع عليه كساء النبوّة.

وهذه الوقائع التاريخية أصدق دليل على إيمانه؛ ولأجل اتفاق المسلمين على ذلك نطوي بساط البحث ونركّزه على بيان الشريعة التي كان عليها قبل بعثته، وهذا هو الذي بحث عنه المتكلّمون والأُصوليّون بإسهاب.

الشريعة التي كان يعمل بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

اختلف الباحثون في أنّ النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل كان متعبّداً بشرع قبل بعثته

____________________

١ - الطبقات الكبرى: ١/١٥٤، السيرة النبوية: ١/١٨٢.

٢ - الطبقات الكبرى: ١/١٥٦.

٢٦٢

أو لا ؟ على أقوال نلفت نظر القارئ إليها:

١ - لم يكن متعبّداً بشرع أصلاً نُسب ذلك إلى أبي الحسن البصري.

٢ - التوقّف وعدم الجنوح إلى واحد من الأقوال ذهب إليه القاضي عبد الجبار والغزالي، وهو خيرة السيد المرتضى في ذريعته.

٣ - إنّه كان يتعبّد بشريعة مَن قبله، مردّدة بين كونها شريعة نوح أو إبراهيم أو موسى، أو المسيح بن مريمعليهما‌السلام .

٤ - كان يتعبّد بما ثبت أنّه شرع.

٥ - كان يعمل في عباداته وطاعته بما يوحى إليه سواء أكان مطابقاً لشرع مَن قبله أم لا.

٦ - إنّه كان يعمل بشرع نفسه.

والأخير هو الظاهر من الشيخ الطوسي في عدّته قال: عندنا أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن متعبّداً بشريعة مَن تقدّمه من الأنبياء لا قبل النبوّة ولا بعدها، وأنّ جميع ما تعبّد به كان شرعاً له، ويقول أصحابنا: إنّه كان قبل البعثة يوحى إليه بأشياء تخصّه، وكان يعمل بالوحي لا اتّباعاً بشريعة(١) .

وما ذكره أخيراً ينطبق على القول السادس، والأقوال الثلاثة الأخيرة متقاربة، وإليك دراستها واحداً بعد آخر ببيان مقدّمة:

____________________

١ - راجع للوقوف على الأقوال: الذريعة: ٢/٥٩٥، وذكر أقوالاً ثلاثة، وعدّة الشيخ الطوسي: ٢/٦٠، وذكر الأقوال مسهبة، البحار: ١٨/٢٧١، ونقل الأقوال عن شرح العلاّمة لمختصر الحاجبي، والمعارج للمحقّق الحلّي: ٦٠، المبادئ للعلاّمة الحلّي: ٣٠، القوانين للمحقّق القمّي: ١/٤٩٤.

٢٦٣

نظرة إجمالية على حياته

إنّ مَن أطلّ النظر على حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقف على أنّه كان يعبد الله سبحانه ويعتكف ب- (حراء ) كل سنة شهراً، ولم يكن اعتكافه مجرّد تفكير في جلاله وجماله وآياته وآثاره، بل كان مع ذلك متعبّداً لله قانتاً له، وقد نزل الوحي عليه وخلع عليه ثوب الرسالة وهو متحنّث(١) ب- ( حراء )، وذلك ممّا اتفق عليه أهل السِيَر والتاريخ.

قال ابن هشام: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم مَن جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جواره من شهره ذلك، كان أوّل ما يبدأ به إذا انصرف من جواره، الكعبة، قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعاً أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه الله تعالى فيها؛ وذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته، ورَحِمَ العبادَ بها، جاءه جبريلُعليه‌السلام بأمر الله تعالى(٢) .

ولم تكن عبادته منحصرة بالاعتكاف أو الطواف حول البيت بعد الفراغ منه، بل دلّت الروايات المتضافرة عن أئمّة أهل البيت على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّ عشرين حجّة مستسراً(٣) .

____________________

١ - التحنّث: هو التحنّف، بدّلت الفاء ( ثاءً )، كما يقال ( جدف ) مكان جدث، بمعنى القبر، وربّما يقال: بأنّه بمعنى الخروج عن الحنث بمعنى الإثم، كما أنّ التأثّم هو الخروج عن الإثم، والأوّل هو الأولى.

٢ - السيرة النبوية: ١/٢٣٦.

٣ - الوسائل: ٨/٨٧ باب ٤٥، استحباب تكرار الحج والعمرة، البحار: ١١/٢٨٠.

٢٦٤

روى غياث بن إبراهيم، عن الإمام الصادقعليه‌السلام : ( لم يحج النبيّ بعد قدوم المدينة إلاّ واحدة، وقد حجّ بمكّة مع قومه حجّات )(١) .

ولم تكن أعماله الفردية أو الاجتماعية منحصرة في المستقلاّت العقلية، كالاجتناب عن البغي والظلم، وكالتحنّن على اليتيم والعطف على المسكين، بل كان في فترة من حياته راعياً للغنم، وفي فترات أُخرى ضارباً في الأرض للتجارة، ولم يكن في القيام بهذه الأعمال في غنى عن شرع يطبّق أعماله عليه، إذ لم يكن البيع والربا والخل والخمر ولا المذكّى وغيره عنده سواسية، وليست هذه الأمور ونظائرها ممّا يستقل العقل بأحكامها.

فطبيعة الحال تقتضي أن يكونصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عارفاً بأحكام عباداته وطاعاته، واقفاً على حرام أفعاله وحلالها، في زواجه ونكاحه في حلّه وترحاله، ولولاه أشرف على اقتراف ما حرّمه الله سبحانه في عامّة شرائعه، والاقتراف أو الدنو منه يناقض أهداف البعثة، فإنّها لا تتحقّق إلاّ بعمله قبل بعثته بما سوف يدعو إليه بعد بعثته.

وعلى ضوء هذه المقدّمة يبطل القول الأوّل من أنّه لم يكن متعبّداً بشرع أصلاً؛ لما عرفت من أنّ العبادة والطاعة لا تصح إلاّ بعد معرفة حدودها وخصوصيّاتها عن طريق الشرع، كما أنّ الاجتناب عن محارم الله في العقود والإيقاعات وسائر ما يرجع إلى أعماله وأفعاله الفردية والاجتماعية، يتوقّف على معرفة الحلال والحرام، حتى يتخذه مقياساً في مقام العمل، وعند ذاك كيف يصح القول بأنّه لم يكن متعبّداً بشرع أصلاً ؟ وإلاّ يلزم أن ننكر عباداته وطاعاته قبل

____________________

١ - الوسائل: ٨/٨٨ باب ٤٥، استحباب تكرار الحج والعمرة، الحديث ٤.

٢٦٥

البعثة أو نرميه باقتراف الكبائر في تلك الفترة، وهو يضاد عصمته قبل البعثة كما يضاد أهدافها.

قال العلاّمة المجلسي: قد ورد في أخبار كثيرة أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يطوف وأنّه كان يعبد الله في حراء، وأنّه كان يراعي الآداب المنقولة من التسمية والتحميد عند الأكل وغيره، وكيف يجوّز ذو مسكة من العقل، على الله تعالى أن يهمل أفضل أنبيائه أربعين سنة بغير عبادة ؟! والمكابرة في ذلك سفسطة، فلا يخلو إمّا أن يكون عاملاً بشريعة مختصة به أوحى الله إليه بها، وهو المطلوب، أو عاملاً بشريعة غيره(١) .

نعم روى أحمد في مسنده، عن سعيد بن زيد قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة هو وزيد بن حارثة، فمرَّ بهما زيد بن عمرو بن نفيل فدعوه إلى سفرة لهما، فقال يا بن أخي إنّي لا آكل ممّا ذبح على النصب، قال: فما رُؤي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك أكل شيئاً ممّا ذبح على النصب، قال: قلت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أبي كان كما قد رأيت وبلغك، ولو أدركك لآمن بك واتبعك فاستغفر له ؟ قال: نعم، فاستغفر له فإنّه يبعث يوم القيامة أُمَّة واحدة(٢) .

نحن لا نعلّق على هذا الحديث شيئاً سوى أنّه يستلزم أن يكون زيد أعرف بأحكام الله تعالى من النبي الأكرم، الذي كان بمقربة من البعث إلى هداية الأُمّة، أضف إليه أنّ الحديث مرويّ عن طريق سعيد بن زيد الذي يَدّعي فيه شرفاً لأبيه، وفي الوقت نفسه نقصاً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أفَواهِهِم ) (٣) .

هذا كلّه حول القول الأوّل.

____________________

١ - البحار: ١٨/٢٨٠.

٢ - مسند أحمد: ١/١٨٩ - ١٩٠.

٣ - الكهف: ٥.

٢٦٦

نظرية التوقّف في تعبّده

أمّا الثاني : أعني التوقّف، فقد ذهب إليه المرتضى، واستدلّ على مختاره بقوله: والذي يدل عليه أنّ العبادة بالشرائع تابعة لما يعلمه الله تعالى من المصلحة بها في التكليف العقلي، ولا يمتنع أن يعلم الله تعالى أنّه لا مصلحة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل نبوّته في العبادة بشيء من الشرائع، كما أنّه غير ممتنع أن يعلم أنّ لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك مصلحة، وإذا كان كل واحد من الأمرين جائزاً ولا دلالة توجب القطع على أحدهما وجب التوقّف(١) .

وما ذكره محتمل في حد نفسه، ولكنّه مدفوع بما في الأخبار والآثار من عبادته واعتكافه، وقد عرفت أنّه كان يتعبّد لله، وكانت له أعمال فردية واجتماعية تحتاج إلى أن تكون وفق شريعة ما.

نظرية عمله بالشرائع السابقة

وهذا هو القول الثالث بشقوقه الأربعة: فيتصوّر على وجهين:

الأوّل : أن يعمل على طبق أحد الشرائع الأربع تابعاً لصاحبها ومقتدياً به بوجه يعد أنّه من أُمّته؛ وهذا الشق مردود من جهات:

أ - إنّ هذا يتوقّف على ثبوت عموم رسالات أصحاب هذه الشرائع، وهو غير ثابت، وقد أوضحنا حالها في الجزء الثالث من موسوعة مفاهيم القرآن(٢) .

ب - إنّ العمل بهذه الشرائع فرع الاطّلاع عليها، وهو إمّا أن يكون حاصلاً

____________________

١ - الذريعة: ٢/٥٩٦.

٢ - لاحظ الجزء الثالث: ٧٧ - ١١٦.

٢٦٧

من طريق الوحي، فعندئذ يكون عاملاً بشريعة مَن تقدّم ولا يكون تابعاً لصاحبها ومقتدياً به، وإن كان عاملاً بالشريعة التي نزلت قبله، وهذا نظير أنبياء بني إسرائيل فقد كانوا مأمورين بالحكم على طبق التوراة مع أنّهم لم يكونوا من أُمّة موسى، قال سبحانه:( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) (١) وإلى هذا الشق يشير المرتضى بقوله: إنّه غير ممتنع أن يوجب الله تعالى عليه بعض ما قامت الحجّة من بعض الشرائع المتقدّمة لا على وجه الاقتداء بغيره فيها ولا الاتباع.

وإمّا أن يكون حاصلاً من طريق مخالطة أهل الكتاب وعلمائهم وهذا ممّا لا تصدّقه حياته؛ إذ لم يكن مخالطاً لهم ولم يتعلّم منهم شيئاً ولم يسألهم.

يقول العلاّمة المجلسي: لو كان متعبّداً بشرع لكان طريقه إلى ذلك إمّا الوحي أو النقل، ويلزم من الأوّل أن يكون شرعاً له لا شرعاً لغيره، ومن الثاني التعويل على اليهود، وهو باطل(٢) .

ج - إنّ العمل بشريعة مَن قبله ما سوى المسيح بن مريم، يستلزم أن يكون عاملاً بالشرائع المنسوخة فهو أشدّ فساداً، فكيف يجوز العمل بشريعة نسخت ؟

قال الشيخ الطوسي: فإن قالوا: كان متعبّداً بشريعة موسى، فإنَّ ذلك فاسد حيث إنّ شريعته كانت منسوخة بشريعة عيسى، وإن قالوا: كان متعبّداً بشريعة عيسى فهو أيضاً فاسد؛ لأنّ شريعته قد انقطعت واندرس نقلها ولم تتصل كاتصال نقل المعجزة، وإذا لم تتصل لم يصح أن يعمل بها(٣) .

____________________

١ - المائدة: ٤٤.

٢ - البحار: ١٨/٢٧٦.

٣ - عدّة الأُصول: ٢/٦١.

٢٦٨

أضف إلى ذلك أنّه لم يثبت أنّ عيسى جاء بأحكام كثيرة، بل الظاهر أنّه جاء لتحليل بعض ما حرّم في شريعة موسىعليه‌السلام قال سبحانه:( وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بآيَةٍ مِن رَبِّكُم فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ) (١) ، فلو كان النبيّ عاملاً بشريعة عيسى ففي الحقيقة يكون عاملاً بشريعة موسى المعدّلة بما جاء به عيسى.

د - اتفقت الآثار على كونه أفضل الخلق، واقتداء الفاضل بالمفضول غير صحيح عقلاً، قال الشيخ الطوسي: إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من جميع الأنبياء، ولا يجوز أن يُؤمر الفاضل باتّباع المفضول، ولم يخص أحد تفضيله على سائر الأنبياء، بوقت دون وقت، فيجب أن يكون أفضل في جميع الأوقات.

وهذه الوجوه وإن كان بعضها غير خالٍ من الإشكال لكنّ الجميع يزيّف القول بأنّه كان يعمل بشريعة مَن قبله.

وأمّا دليل مَن قال بهذا القول فضعيف جداً حيث قال: كيف يصح أن يقال: إنّه لم يكن متعبّداً بشريعة مَن تقدّم مع أنّه كان يطوف بالبيت، ويحج ويعتمر، ويذكّي ويأكل المذكّى، ويركب البهائم ؟(٢) .

وفيه أوّلاً : إنّ بعض ما ذكره يعد من المستقلاّت العقلية، فتكفي فيه هداية العقل ودلالته.

وثانياً : إنّ الدليل أعمّ من المدّعى؛ لأنّ عمله كما يمكن أن يكون مستنداً إلى شريعة مَن قبله، يمكن أن يكون مستنداً إلى الوحي إليه، لا اتّباعاً لشريعة، وسوف

____________________

١ - آل عمران: ٥٠.

٢ - الذريعة: ٢/٥٩٦، العدّة: ٦٠ - ٦١.

٢٦٩

يوافيك أنّه كان يوحى إليه قبل أن يتشرّف بمقام الرسالة وأنّ نبوّته كانت متقدّمة على رسالته، وأنّ جبريل نزل إليه بالرسالة عندما بلغ الأربعين، والاستدلال مبنيّ على أنّ نبوّته ورسالته كانتا في زمان واحد، وهو غير صحيح كما سيأتي.

وعلى هذا الوجه الصحيح لا نحتاج إلى الإجابة عن الاستدلال بما تكلّف به المرتضى في ذريعته، والطوسي في عدّته.

قال الأوّل: لم يثبت عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قبل النبوّة حجّ أو اعتمر، وبالتظنّي لا يثبت مثل ذلك، ولم يثبت أيضاً أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تولّى التذكية بيده، وقد قيل أيضاً: إنّه لو ثبت أنّه ذكّى بيده، لجاز أن يكون من شرع غيره في ذلك الوقت، ( أن يستعان بالغير في الذكاة )(١) فذكّى على سبيل المعونة لغيره، وأكل اللحم المذكّى لا شبهة في أنّه غير موقوف على الشرع؛ لأنّه بعد الذكاة قد صار مثل كل مباح من المأكل، وركوب البهائم والحمل عليها، يحسن عقلاً إذا وقع التكفّل بما يحتاج إليه من علف وغيره، ولم يثبت أنّهعليه‌السلام فعل من ذلك ما لا يستباح بالعقل فعله(٢) .

وقريب منه ما في عدّة الشيخ الطوسى(٣) .

ولا يخفى أنّ بعض ما ذكره وإن كان صحيحاً، لكنّ إنكار حجّه واعتماره وعبادته في حراء واتجاره الذي يتوقّف الصحيح منه على معرفة الحلال والحرام، ممّا لا يمكن إنكاره، فلا محيص عن معرفته بالمقاييس الصحيحة في هذه الموارد، إمّا من عند نفسه، أو من ناحية الاتّباع لشريعة غيره.

____________________

١ - يريد أنّ من أحكام الشريعة السابقة أن يستعين الرجل في تذكية الحيوان بالغير - وعلى ذلك - فالنبي ذكّى نيابة عن الغير، ولأجله ولم يذكّ لنفسه.

٢ - الذريعة: ٢/٥٩٧ - ٥٩٨.

٣ - عدّة الأُصول: ٢/٦٣.

٢٧٠

الوجوه الأخيرة الثلاثة المتقاربة

إذا تبيّن عدم صحّة هذه الأقوال الثلاثة تثبت الوجوه الأخيرة التي يقرب بعضها من بعض، ويجمع الكل أنّه كان يعمل حسب ما يلهم ويوحى إليه، سواء أكان مطابقاً لشرع مَن قبله أم مخالفاً، وأنّ هاديه وقائده منذ صباه إلى أن بُعث هو نفس هاديه بعد البعثة.

ويدل على ذلك وجوه:

١ - ما أُثر عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام من أنّه من لدن كان فطيماً كان مؤيّداً بأعظم ملك يعلّمه مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، وهذه مرتبة من مراتب النبوّة وإن لم تكن معها رسالة.

قالعليه‌السلام : ( ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره )(١) .

إنّا مهما جهلنا بشيء، فلا يصح لنا أن نجهل بأنّ النبوّة منصب إلهي لا يتحمّلها إلاّ الأمثل فالأمثل من الناس، ولا يقوم بأعبائها إلاّ مَن عمّر قلبه بالإيمان، وزوّد بالخلوص والصفاء، وغمره الطهر والقداسة وأُعطى مقدرة روحية عظيمة، لا يتهيّب حينما يتمثّل له رسول ربّه وأمين وحيه، ولا تأخذه الضراعة والخوف عند سماع كلامه ووحيه، وتلك المقدرة لا تفاض من الله على عبد إلاّ أن يكون في رعاية ملك كريم من ملائكته سبحانه، يرشده إلى معالم الهداية ومدارج الكمال، ويصونه من صباه إلى شبابه، وإلى كهولته عن كل سوء وزلّة وهذا هو السرّ في وقوعه تحت كفالة أكبر ملك من ملائكته حتى تستعد نفسه لقبول

____________________

١ - نهج البلاغة: ٢/٨٢، من خطبة تسمّى القاصعة ١٨٧، طبعة عبده.

٢٧١

الوحي، وتتحمّل القول الثقيل الذي سيلقى عليه.

٢ - ما رواه عروة بن الزبير عن عائشة أُمّ المؤمنين أنّها قالت: أوّل ما بدئ به رسول الله من الوحي، الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنَّث فيه - وهو التعبّد - الليالي ذوات العدد، قبل أن يَنزعَ إلى أهله ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوَّد لمثلها حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ(١) .

٣ - روى الكليني بسند صحيح عن الأحول قال: سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن الرسول والنبي والمحدّث؛ قال: ( الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلاً وأمّا النبي فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيمعليه‌السلام ، ونحو ما كان رأى رسول الله من أسباب النبوّة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل من عند الله بالرسالة )(٢) .

وهذه المأثورات تثبت بوضوح أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يُبعث، كان تحت كفالة أكبر ملك من ملائكة الله، يرى في المنام ويسمع الصوت، قبل أن يبلغ الأربعين سنة، فلمّا بلغها بُشّ-ر بالرسالة، وكلّمه الملك معاينة ونزل عليه القرآن، وكان يعبد الله قبل ذلك بصنوف العبادات، إمّا موافقاً لما سيُؤمر به بعد تبليغه، أو مطابقاً لشريعة إبراهيم أو غيره، ممّن تقدّمه من الأنبياء، لا على وجه كونه تابعاً لهم وعاملاً بشريعتهم، بل بموافقة ما أُوحي إليه مع شريعة مَن تقدّم عليه.

ثم إنّ العلاّمة المجلسي استدلّ على هذا القول بوجهٍ آخر، وهو: إنّ يحيى وعيسى كانا نبيّين وهما صغيران، وقد ورد في أخبار كثيرة أنّ الله لم يعط نبيّاً فضيلة

____________________

١ - صحيح البخاري: ١/٣، باب بدء الوحي إلى رسول الله ٦، السيرة النبوية: ١/٢٣٤ - ٢٣٦.

٢ - الكافي: ١/١٧٦.

٢٧٢

ولا كرامة ولا معجزة إلاّ وقد أعطاها نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكيف جاز أن يكون عيسىعليه‌السلام في المهد نبيّاً ولم يكن نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أربعين سنة نبياً ؟!(١) .

قال سبحانه حاكياً عن المسيح:( قَالَ إِنّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيَّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيَّاً ) (٢) .

وقال سبحانه مخاطباً ليحيى:( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ) (٣) .

ولازم ذلك أنّ النبيّ قبل بعثته في صباه، أو بعد ما أكمل الله عقله، كان نبيّاً مؤيّداً بروح القدس يكلّمه الملك، ويسمع الصوت ويرى في المنام.

وإنّما بُعث إلى الناس بعد ما بلغ أربعين سنة، وعند ذاك كلّمه الملك معاينة ونزل عليه القرآن وأُمر بالتبليغ.

ويؤيّد ذلك ما رواه الجمهور عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنّه كان نبيّاً وآدم بين الروح والجسد(٤) .

هذا كلّه راجع إلى حاله قبل بعثته، وأمّا بعدها فنأتي بمجمل القول فيه:

حاله بعد البعثة

قد عرفت حال النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل بعثته، فهلمّ معي ندرس حاله بعدها ،

____________________

١ - البحار: ١٨/٢٧٩.

٢ - مريم: ٣٠ - ٣١.

٣ - مريم: ١٢.

٤ - نقل العلاّمة الأميني مصادره عن عدّة من الكتب، وذكر أنّ للحديث عدّة ألفاظ من طرقٍ شتّى، لاحظ الجزء ٩/٢٨٧.

٢٧٣

وقد اختلفوا فيه أيضاً على قولين:

فمن قائلٍ: إنّه كان يتعبّد بشرع مَن قبله.

ومن قائلٍ آخر ينفيه بتاتاً.

وقد بسط الكلام في هذا المقام السيد المرتضى في ( ذريعته ) وتلميذه الجليل في ( عدّته ) فاختارا القول الثاني وأوضحا برهانه(١) .

غير أنّي أرى البحث في ذلك عديم الفائدة؛ لأنّ المسلمين اتفقوا على أنّه بعد البعثة، ما كان يقول إلاّ ما يوحى إليه، ولا يصدر عنه شيء إلاّ عن هذا الطريق، فإذا كان الواجب علينا اقتفاء أمره ونهيه، والعمل بالوحي الذي نزل عليه، فأيّ فائدة في البحث عن أنّه هل كان ما يأمر به وينهى عنه، صدر عن التعبّد بشريعة مَن قبله، أو صدر عن شريعته ؟ إذ الواجب علينا الأخذ بما أتى به، بأيّ لون وشكل كان، وفي ذلك يقول المحقّق الحلّ-ي: إنّ هذا الخلاف عديم الفائدة؛ لأنّا لا نشك أنّ جميع ما أتى به لم يكن نقلاً عن الأنبياء، بل عن الله تعالى بإحدى الطرق الثلاث التي أُشير إليها في قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (٢) .

فإذا كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يصدر عنه شيء إلاّ عن طريق الوحي، فلا تترتّب على البحث أيّة فائدة، فسواء أكان متعبّداً بشرع مَن قبله أم لم يكن، فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يأمر ولا ينهى إلاّ بإذنه سبحانه(٣) .

____________________

١ - الذريعة: ٢/٥٩٨، العدة: ٢/٦١.

٢ - الشورى: ٥١.

٣ - لاحظ المعارج: ٦٥، بتوضيح منّا.

٢٧٤

قال سبحانه:( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (١) ، وقال عزّ من قائل:( كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (٢) ، وقال تعالى:( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) (٣) ، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل بوضوح على أنّ كل ما يأمر وينهي، مستند إلى الوحي منه سبحانه إليه، سواء أمره بالأخذ من الشرع السابق أم أمره بما يماثله أو يخالفه.

أضف إلى ذلك: إنّه إذا لم يجز له التعبّد بالشرع السابق قبل البعثة بالدلائل السابقة لم يجز له أيضاً بعدها.

نعم هناك بحث آخر وهو حجيّة شرع مَن قبلنا للمستنبط إذا لم يجد في الشريعة المحمّدية دليلاً على حكم موضوع خاص، فهل يجوز أن يعمل بالحكم الثابت في الشرائع السماوية السالفة ما لم يثبت خلافه في شرعنا أم لا ؟

فهذه مسألة أُصولية طرحها الأُصوليون في كتبهم قديماً وجديداً، فاستدلّ القائلون بالجواز بالآيات التالية:

١ -( فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) (٤) .

٢ -( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ) (٥) .

٣ -( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ) (٦) .

____________________

١ - النجم: ٣ - ٤.

٢ - الشورى: ٣.

٣ - الأحقاف: ٩.

٤ - الأنعام: ٩٠.

٥ - النحل: ١٢٣.

٦ - الشورى: ١٣.

٢٧٥

٤ -( إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ) (١) .

ولكنّ الكلام في دلالة هذه الآيات على ما يتبنّاه هؤلاء وهي غير واضحة، وقد بسط المحقّق الكلام في دلالة الآيات في أُصوله،(٢) ونقله العلاّمة المجلسي في ( بحاره )(٣) ، ونحن نحيل القارئ الكريم إلى مظانّه.

الآيات التي وقعت ذريعة لبعض المخطِّئة

هذا حال النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة، وحال أجداده وآبائه وبعض أعمامه، وقد خرجنا من هذا البحث الضافي بهذه النتائج:

١ - إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وُلد في بيت كان يسوده التوحيد، وقد ترعرع وشبّ واكتهل في أحضان رجال لم يتخلّفوا عن الدين الحنيف قيد شعرة.

٢ - إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ نعومة أظفاره كان تحت رعاية أكبر ملك من ملائكته سبحانه فيلهم ويوحى إليه قبل أن يبلغ الأربعين، ويخلع عليه ثوب الرسالة.

٣ - إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مؤمناً بالله، وموحّداً له، يعبده، ولا يعبد غيره، ويتقرّب إليه بالطاعات والقربات، ويتجنّب المعاصي والمآثم.

هذه هي الحقيقة الملموسة من حياته يقف عليها مَن سبر تاريخ حياته بإمعان، وقد مرّ أنّ هناك آيات وقعت ذريعة لبعض المخطّئة لعصمته، فدخلت لأجلها في أذهانهم شبهات في إيمانه وهدايته قبل البعثة.

____________________

١ - المائدة: ٤٤.

٢ - معارج الأُصول: ١٥٧.

٣ - البحار: ١٨/٢٧٦ - ٢٧٧.

٢٧٦

وهؤلاء بدل أن يفسّروا الآيات على غرار التاريخ المسلّم من حياته، أو يسلّطوا الضوء عليها بما تضافرت الأخبار والروايات عليه، عكسوا الأمر فرفضوا التاريخ المسلّم الصحيح، والروايات المتضافرة، اغتراراً ببعض الظواهر، مع أنّها تهدف إلى مقاصد أُخر تتضح من البحث الآتي، وإليك هذه الآيات:

١ -( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى ) (١) .

٢ -( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) (٢) .

٣ -( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحَاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإيمانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ) (٣) .

٤ -( وَمَا كُنْتَ تَرْجُواْ أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) (٤) .

٥ -( قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (٥) .

وقد استدلّت المخطّئة بهذه الآيات على مدّعاها، بل على زعم سلب الإيمان عنه قبل أن يبعث، لكنّها لا تدل على ما يريدون؛ ولأجل تسليط الضوء على مقاصدها نبحث عنها واحدة بعد واحدة.

____________________

١ - الضحى: ٦ - ٧.

٢ - المدثّر: ٤ - ٥.

٣ - الشورى: ٥٢.

٤ - القصص: ٨٦.

٥ - يونس: ١٦.

٢٧٧

الآية الأُولى: الهداية بعد الضلالة ؟

إنّ قوله سبحانه:( وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى ) هل يتضمّن هدايته بعد الضلالة ؟

وقد ذكر المفسّرون للآية عدّة احتمالات أنهاها الرازي في تفسيره إلى ثمانية، لكن أكثرها من مخترعات الذهن، لأجل الإجابة عن استدلال الخصم على كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ضالاً قبل البعثة، غير مؤمن ولا موحّد، فهداه الله سبحانه، ولكنّ الحق في الجواب أن يقال:

إنّ الضال يستعمل في عرف اللغة في موارد:

١ - الضال: من الضلالة: ضد الهداية والرشاد.

٢ - الضال: من ضلّ البعير: إذا لم يعرف مكانه.

٣ - الضال: من ضلّ الشيء: إذا ضؤل وخفي ذكره.

وتفسير الضال بأيّ واحد من هذه المعاني لا يثبت ما تدّعيه المخطِّئة سواء أجعلناها معاني مختلفة جوهراً وشكلاً، أم جعلناها معنى واحداً جوهراً ومختلفاً شكلاً وصورة، فإنّ ذلك لا يؤثّر فيما نرتئيه، وإليك توضيحه:

أمّا المعنى الأوّل : فهو المقصود من تلك اللفظة في كثير من الآيات، قال سبحانه:( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ) (١) ، لكن الضلالة بمعنى ضد الهداية والرشاد يتصوّر على قسمين:

قسم: تكون الضلالة فيه وصفاً وجودياً، وحالة واقعية كامنة في النفس ،

____________________

١ - الحمد: ٧.

٢٧٨

توجب منقصتها وظلمتها، كالكافر والمشرك والفاسق، والضلالة في هاتيك الأفراد صفة وجودية تكمن في نفوسهم، وتتزايد حسب استمرار الإنسان في الكفر والشرك والعصيان والتجرّي على المولى سبحانه، قال الله سبحانه:( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْ-رٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمْا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (١) .

فإنّ لازدياد الإثم بالجوارح تأثيراً في زيادة الكفر، وقد وصف سبحانه بعض الأعمال بأنّها زيادة في الكفر، قال سبحانه:( إِنَّما النسيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (٢) .

وقسم منه: تكون الضلالة فيه أمراً عدمياً، بمعنى كون النفس فاقدة للرشاد غير مالكة له، وعندئذ يكون الإنسان ضالاً بمعنى أنّه غير واجد للهداية من عند نفسه، وفي الوقت نفسه لا تكمن فيه صفة وجودية مثل ما تكمن في نفس المشرك والعاصي، وهذا كالطفل الذي أشرف على التمييز وكاد أن يعرف الخير من الشر، والصلاح من الفساد، والسعادة من الشقاء، فهو آنذاك ضال، لكن بالمعنى الثاني، أي غير واجد للنور الذي يهتدي به في سبيل الحياة، لا ضال بالمعنى الأوّل بمعنى كينونة ظلمة الكفر والفسق في روحه.

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّه لو كان المراد من الضال في الآية، ما يخالف الهداية والرشاد، فهي تهدف إلى القسم الثاني منه لا الأوّل: بشهادة أنّ الآية بصدد توصيف النعم التي أفاضها الله سبحانه على نبيّه يوم افتقد أباه ثمّ أُمّه فصار يتيماً لا ملجأ له ولا مأوى، فآواه وأكرمه، بجدّه عبد المطلب ثم بعمّه أبي طالب، وكان

____________________

١ - آل عمران: ١٧٨.

٢ - التوبة: ٣٧.

٢٧٩

ضالاً في هذه الفترة من عمره، فهداه إلى أسباب السعادة وعرّفه وسائل الشقاء.

والالتزام بالضلالة بهذا المعنى لازم القول بالتوحيد الإفعالي، فإنّ كل ممكن كما لا يملك وجوده وحياته، لا يملك فعله ولا هدايته ولا رشده إلاّ عن طريق ربّه سبحانه، وإنّما يفاض عليه كل شيء منه، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ ) (١) فكما أنّ وجوده مفاض من الله سبحانه، فهكذا كل ما يوصف به من جمال وكمال فهو من فيوض رحمته الواسعة، والاعتقاد بالهداية الذاتية، وغناء الممكن بعد وجوده عن هدايته سبحانه يناقض التوحيد الإفعالي الذي شرحناه في موسوعة مفاهيم القرآن(٢) .

وقد تضافرت الآيات على هذا الأصل، وأنّ هداية كل ممكن مكتسبة من الله سبحانه من غير فرق بين الإنسان وغيره، وفي الأوّل بين النبي وغيره، قال سبحانه:( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) (٣) ، وقال سبحانه:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * والّذي قَدَّرَ فَهَدى ) (٤) ، وقال سبحانه:( وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ ) (٥) وقال سبحانه:( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ) (٦) ، وقال تعالى:( إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) (٧) ، وقال تبارك وتعالى:( وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ) (٨) ، إلى غير ذلك من الآيات.

____________________

١ - فاطر: ١٥.

٢ - لاحظ الجزء الأوّل: ٢٩٧ - ٣٧٦.

٣ - طه: ٥٠.

٤ - الأعلى: ٢ - ٣.

٥ - الأعراف: ٤٣.

٦ - الشعراء: ٧٨.

٧ - الزخرف: ٢٧.

٨ - سبأ: ٥٠.

٢٨٠