عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم0%

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 321

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 321
المشاهدات: 120243
تحميل: 8076

توضيحات:

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 321 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120243 / تحميل: 8076
الحجم الحجم الحجم
عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

عصمة الأنبياء في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

وعلى هذا الأساس، فالآية تهدف إلى بيان النعم التي أنعمها سبحانه على حبيبه منذ صباه فآواه بعد ما صار يتيماً لا مأوى له ولا ملجأ، وأفاض عليه الهداية بعدما كان فاقداً لها حسب ذاتها، وأمّا تحديد زمن هذه الإفاضة فيعود إلى أوليات حياته وأيّام صباه بقرينة ذكره بعد الإيواء الذي تحقّق بعد اليتم، وتمّ بجدّه عبد المطلب فوقع في كفالته إلى ثماني سنين ويؤيّد ذلك قول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( ولقد قرن الله بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره )(١) .

والحاصل : أنّ الهداية في الآية نفس الهداية الواردة في قوله:( أَعْطَى كُلَّ شيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) ، وفي قوله:( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ) إلى غير ذلك من الآيات التي أوعزنا إليها، والاعتقاد بكونه ضالاً أي فاقداً لها في مقام الذات ثم أُفيضت عليه الهداية، هو مقتضى التوحيد الإفعالي ولازم كون النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممكناً بالذات، فاقداً في ذاته كل كمال وجمال، مفاضاً عليه كل جميل من جانبه سبحانه، وأين هو من الضلالة المساوقة للكفر والشرك أو الفسق والعصيان ؟!

وإن شئت قلت: إنّ الضلالة في الآية ترادف الخسران الوارد في قوله سبحانه:( إنّ الإنسانَ لفي خسر ) والهداية فيها ترادف الإيمان والعمل الصالح الواردين بعده( إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) (٢) ، فالإنسان بما أنّه يصرف رأس ماله، أعني: عمره الغالي كل يوم، خاسر بالذات، إلاّ إذا اكتسب به ما يبقى ولا ينفد أثره وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح، والنبي وغيره في هذه الأحكام سواسية، بل في كل التوصيفات الواردة في مجال الإنسان التي يثبتها القرآن له ولا

____________________

١ - نهج البلاغة: الخطبة ١٧٨، والتي تسمّى بالقاصعة.

٢ - العصر: ٢ - ٣.

٢٨١

وجه لإرجاعها إلى صنف دون صنف، بعد كونها من خواص الطبيعة الإنسانية ما لم تقع تحت رعاية الله وهدايته.

وبذلك يتبيّن أنّ الضلالة في الآية - لو فُسّرت بضد الهدى والرشاد - لا تدلّ على ما تدّعيه المخطّئة، بل هي بصدد بيان قانون كلّي سائد على عالم الإمكان من غير فرق بين الإنسان وغيره، وفي الأوّل بين النبي وغيره.

حول الاحتمالين الآخرين

ولكن هذا المعنى غير متعيّن في الآية، إذ من المحتمل أن تكون الضلالة فيها مأخوذة من ( ضلّ الشيء: إذا لم يعرف مكانه ) و ( ضلّت الدراهم: إذا ضاعت وافتقدت ) و ( ضلّ البعير: إذا ضاع في الصحارى والمفاوز ) وفي الحديث: ( الحكمة ضالّة المؤمن أخذها أين وجدها ) أي مفقودته ولا يزال يتطلّبها، وقد اشتهر قول الفقهاء في باب ( الجعالة ): ( مَن ردّ ضالّتي فله كذا).

فالضال بهذا المعنى ينطبق على ما نقله أهل السِيَر والتاريخ عن أوّليات حياته من أنّه ضلّ في شعاب مكّة وهو صغير، فمنَّ الله عليه إذ ردّه إلى جدّه، وقصّته معروفة في كتب السِيَر(١) .

ولولا رحمته سبحانه لأدركه الهلاك ومات عطشاً أو جوعاً، فشملته العناية الإلهية فردّه إلى مأواه وملجأه.

وهناك احتمال ثالث لا يقصر عمّا تقدّمه من احتمالين، وهو أن تكون

____________________

١ - لاحظ السيرة الحلبية: ١/١٣١ ويقول: عن حيدة بن معاوية العامري: سمعت شيخاً يطوف بالبيت وهو يقول:

يا ربّ ردّ راكبي محمّدا

أردده ربّي واصطنع عندي يدا

٢٨٢

الضلالة في الآية مأخوذة من ( ضلّ الشيء إذا خفي وغاب عن الأعين ) قال سبحانه:( أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرضِ أَءِنَّا لفي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (١) ، فالإنسان الضال هو الإنسان المخفيّ ذكره، المنسيّ اسمه، لا يعرفه إلاّ القليل من الناس، ولا يهتدي كثير منهم إليه، ولو كان هذا هو المقصود، يكون معناه أنّه سبحانه رفع ذكره وعرّفه بين الناس عندما كان خاملاً ذكره منسيّاً اسمه، ويؤيّد هذا الاحتمال قوله سبحانه في سورة الانشراح التي نزلت لتحليل ما ورد في سورة الضحى قائلاً:

( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) (٢) .

فرفع ذكره في العالم، عبارة عن هداية الناس إليه ورفع الحواجز بينه وبين الناس، وعلى هذا فالمقصود من ( الهداية ) هو هداية الناس إليه لا هدايته، فكأنّه قال: فوجدك ضالاً، خاملاً ذكرك، باهتاً اسمك، فهدى الناس إليك، وسيّر ذكرك في البلاد.

وإلى ذلك يشير الإمام الرضاعليه‌السلام على ما في خبر ابن الجهم - بقوله: ( قال الله عزّ وجلّ لنبيّه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أَلم يجدك يتيماً فآوى ) يقول:( ألم يجدك ) وحيداً( فآوى ) إليك الناس( ووجدك ضالاً ) يعني عند قومك( فهدى ) أي هداهم إلى معرفتك )(٣) .

هذه هي المحتملات المعقولة في الآية ولا يدل واحد منها على ما تتبنّاه المخطِّئة وإن كان الأظهر هو الأوّل.

ويعجبني في المقام ما ذكره الشيخ محمد عبده في ( رسالة التوحيد ) فقال:

____________________

١ - السجدة: ١٠.

٢ - الانشراح: ١ - ٤.

٣ - البحار: ١٦/١٤٢.

٢٨٣

وفي السنة السادسة من عمره فقد والدته أيضاً فاحتضنه جدّه عبد المطلب، وبعد سنتين من كفالته، توفّي جدّه، فكفله من بعده عمّه أبو طالب وكان شهماً كريماً غير أنّه كان من الفقر بحيث لا يملك كفاف أهله.

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بني عمّه وصبية قومه، كأحدهم على ما به من يتم، فقد فيه الأبوين معاً، وفقر لم يسلم منه الكافل والمكفول، ولم يقم على تربيته مهذِّب، ولم يعن بتثقيفه مؤدِّب بين أتراب من نبت الجاهلية، وعشراء من خلفاء الوثنية، وأولياء من عبدة الأوهام، وأقرباء من حفدة الأصنام، غير أنّه مع ذلك كان ينمو ويتكامل بدناً وعقلاً وفضيلة وأدباً، حتى عرف بين أهل مكّة وهو في ريعان شبابه بالأمين، أدب إلهي لم تجر العادة بأن تزين به نفوس الأيتام من الفقراء خصوصاً مع فقر القوّام، فاكتهلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاملاً والقوم ناقصون، رفيعاً والقوم منحطّون، موحِّداً وهم وثنيّون، سلماً وهم شاغبون، صحيح الاعتقاد وهم واهمون، مطبوعاً على الخير وهم به جاهلون، وعن سبيله عادلون.

من السنن المعروفة أنّ يتيماً فقيراً أُميّاً مثله تنطبع نفسه بما تراه من أوّل نشأته إلى زمن كهولته، ويتأثّر عقله بما يسمعه ممّن يخالطه، ولا سيّما إن كان من ذوي قرابته، وأهل عصبته، ولا كتاب يرشده ولا أُستاذ ينبّهه، ولا عضد إذا عزم يؤيّده، فلو جرى الأمر فيه على مجاري السنن لنشأ على عقائدهم، وأخذ بمذاهبهم، إلى أن يبلغ مبلغ الرجال، ويكون للفكر والنظر مجال، فيرجع إلى مخالفتهم، إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم كما فعل القليل ممّن كانوا على عهده، ولكنّ الأمر لم يجر على سنّته، بل بغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره، فعاجلته طهارة العقيدة، كما بادره حسن الخليقة، وما جاء في الكتاب من قوله:( وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ) لا يفهم منه أنّه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد، أو على غير السبيل القويم

٢٨٤

قبل الخلق العظيم، حاش لله، إنّ ذلك لهو الإفك المبين، وإنّما هي الحيرة تلم بقلوب أهل الإخلاص، فيما يرجون للناس من الخلاص، وطلب السبيل إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين وإرشاد الضالين(١) .

الآية الثانية: الأمر بهجر الرجز

يقول سبحانه:( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالْرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) (٢) .

استدلت المخطِّئة بأنّ الرجز بمعنى الصنم والوثن، ففي الأمر بهجره إيعاز لوجود أرضية صالحة لعبادتهما في شخصية النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول : إنّ الرجز في القرآن الكريم استعمل في المعاني الثلاثة التالية:

١ - العذاب.

٢ - القذارة.

٣ - الصنم.

ولك أن تقول: إنّ المفاهيم الثلاثة أشكال لمعنى واحد جوهراً، وليست بمعان متعدّدة، ولكنّ تعيين أحد الأمرين لا يؤثّر فيما نرتئيه، توضيح ذلك:

إنّ ( الرجز ): بكسر الراء قد استعمل في القرآن تسع مرّات، وقد أُريد منه في جميعها العذاب إلاّ في مورد واحد، وإليك مظانّها: البقرة/٥٩، الأعراف/١٣٤ وجاءت اللفظة فيها مرّتين، والأعراف/١٤٥ و ١٦٢، الأنفال/١١، سبأ/٥، الجاثية/١١، والعنكبوت/٢٩.

____________________

١ - رسالة التوحيد: ١٣٥ - ١٣٦.

٢ - المدّثر: ١ - ٧.

٢٨٥

وأمّا ( الرجز ): بضمّ الراء، فقد جاء في القرآن الكريم مرّة واحدة، وهي الآية التي نحن بصدد تفسيرها، فسواء أُريد منها العذاب أم غيره من المعنيين، فلا يدل على ما ذهبت إليه المخطّئة، وإليك بيان ذلك:

أ - ( الرجز ) العذاب : فلو كان المقصود منه العذاب فيدل على الأمر بهجر ما يسلتزم العذاب، وبما أنّ الآيات القرآنية نزلت بعنوان التعليم فلا تدلّ على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مشرفاً على ما يجرّ العذاب؛ لأنّ هذه الخطابات من باب ( إيّاك أعني واسمعي يا جارة )، وهذا النوع من الخطاب بمكان من البلاغة؛ لأنّه سبحانه إذا خاطب أعزّ الناس إليه بهذا الخطاب فغيره أولى به، ومن هنا يقدر القارئ الكريم على حلّ كثيرٍ من الآيات التي تخاطب النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلحنٍ حادٍّ وشديد، فتقول:( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (١) ، وليست الآية دليلاً على وجود أَرضية الشرك في شخصية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنهاه عنه سبحانه، بل الآيات آيات عامّة نزلت للتعليم، والخطاب موجّه إليه والمقصود منها عامّة الناس، نرى أنّه سبحانه يخاطب نبيَّه الأكرم في سورة القصص بالخطابات الناهية الأربعة المتوالية، الخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقصود منه هو الأُمّة ويقول:( وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ * وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (٢) .

وهذا هو المقياس في أكثر الخطابات الناهية الواردة في القرآن الكريم.

ب - الرجز بمعنى القذارة : ثمّ إنّ القذارة على قسمين: القذارة المادية ،

____________________

١ - الزمر: ٦٥.

٢ - القصص: ٨٦ - ٨٨.

٢٨٦

والقذارة المعنوية، فيحتمل أن يكون المراد هو الأوّل، وقد ورد في الروايات أنّ أبا جهل جاء بشيء قذر ونادى أصحابه، وقال: هل فيكم رجل يأخذه منّي ويلقيه على محمد ؟ فأخذه بعض أصحابه فألقاه عليه، فحينئذٍ تكون الآية ناظرة إلى تطهير الثوب عن الدنس، وإن أُريد القذارة المعنوية فالمراد هو الاجتناب عن الأفعال والصفات الذميمة، فإنّ الآية نزلت للتعليم فلا تدل على اتصاف النبي الأكرم بها.

ج - الرجز بمعنى الصنم : نفترض أنّ المقصود منه في الآية هو الصنم، لكن لا بمعنى أنّه وضع لذاك المعنى، وإنّما وضع اللفظ لمعنى جامع يعمّ الصنم والخمر والأزلام، لاشتراك الجميع في كونها رجزاً، ولأجل ذلك وصف الجميع في مورد آخر بالرجس فقال:( إِنَّما الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ والأنصابُ والأزلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) (١) .

ولكنّ الجواب عن هذه الصورة هو الجواب عن الصورتين الأُوليين، والشاهد على ذلك أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم نزلت الآية لم يكن عابداً للوثن، بل كان مشمّراً لتحطيم الأصنام ومكافحة عبدتها، فلا يصح أن يخاطب مَن هذا شأنه، بهجر الأصنام إلاّ على الوجه الذي أوعزنا إليه.

الآية الثالثة: عدم علمه بالكتاب والإيمان

قوله سبحانه:( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإيمانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ) (٢) .

____________________

١ - المائدة: ٩٠.

٢ - الشورى: ٥٢.

٢٨٧

استدلت المخطّئة لعصمة النبي الأكرم بهذه الآية وزعمت - والعياذ بالله - دلالة الآية على أنّه كان فاقداً للإيمان قبل الإيحاء إليه، وقد انقلب وصار مؤمناً موحّداً بالوحي وبعد نزوله إليه.

لكنّ حياته المشرقة - بالإيمان والتوحيد - تفنّد تلك المزعمة، بشهادة التاريخ على أنّه من بداية عمره إلى أن لاقى ربَّه، كان مؤمناً موحّداً، وليس ذلك أمراً قابلاً للشك والترديد، وقد أصفق على ذلك أهل السير والتاريخ وحتى كان الأحبار والرهبان معترفين بأنّه نبيّ هذه الأُمّة وخاتم الرسالات الإلهية، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمع تلك الشهادات منهم في فترات خاصة في ( مكة ) و ( يثرب ) و ( بصرى ) و ( الشام ) وغيرها، وعلى ذلك فكيف يمكن أن يكون غافلاً عن الكتاب الذي ينزل إليه، أو يكون مجانباً عن الإيمان بوجوده سبحانه وتوحيده، والتاريخ المسلّم الصحيح يؤكّد على عدم صدق ذلك الاستظهار، وعلى ضوء هذا، لا بدّ من إمعان النظر في مفاد الآية كما لا بد في تفسيرها من الاستعانة بالآيات الواردة في ذلك المساق فنقول:

بُعث النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهداية قومه أوّلاً، وهداية جميع الناس ثانياً - بالآيات والبيّنات، وأخص بالذكر منها: كتابه وقرآنه ( معجزته الكبرى الخالدة ) الذي بفصاحته أخرس فرسان الفصاحة، وقادة الخطابة، وببلاغته قهر أرباب البلاغة وملوك البيان، وخلب عقولهم وقد دعاهم إلى التحدّي والمقابلة، فلم يكن الجواب منهم إلاّ إثارة التهم حوله، فتارة قالوا: بأنّه( يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) ، وأُخرى بأنّه( إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ) ، وثالثة: بأنّه( أساطِيرُ الأوّلِينَ اكْتَتَبها فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرةً وأصِيلاً ) ، قال سبحانه ردّاً على هذه التهم التي أوعزنا إليها:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى

٢٨٨

لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) (١) ، وقال سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَ-اوَاتِ وَ الأرضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) (٢) .

والآية التي تمسّكت بها المخطّئة بصدد بيان هذا الأمر وأنّه وحي سماوي لا إفك افتراه؛ ولأجل ذلك بدأ كلامه بلفظة( وكذلك أوحينا إليك ) أي كما أنّه سبحانه أوحى إلى سائر الأنبياء بإحدى الطرق الثلاثة التي بيّنها في الآية المتقدّمة، أوحى إليك أيضاً روحاً من أمرنا، وليس هذا كلامك وصنيعك، بل كلام ربّك وصنيعه.

هذا مجمل الكلام في الآية، ولأجل رفع النقاب عن مرامها نقدم أُموراً تسلّط ضوءاً عليه:

الأوّل : المراد من الروح في الآية هو القرآن، وسمّي روحاً لأنّه قوام الحياة الأُخروية، كما أنّ الروح في الإنسان قوام الحياة الدنيوية، ويؤيّد ذلك أُمور:

أ - إنّ محور البحث الأصلي في سورة الشورى، هو: الوحي والآيات الواردة فيها البالغ عددها ٥٣ آية، تبحث عن ذلك المعنى بالمباشرة أو بغيرها.

ب - الآية التي تقدّمت على تلك، تبحث عن الطرق التي يكلّم بها سبحانه أنبياءه ويقول:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلَىّ حَكِيمٌ ) (٣) .

____________________

١ - النحل: ١٠٢ - ١٠٣.

٢ - الفرقان: ٤ - ٦.

٣ - الشورى: ٥١.

٢٨٩

ج - ما تقدّم من أنّه سبحانه بدأ كلامه في هذه الآية بلفظة( وكذلك ) ، أي كما أوحينا إلى من تقدّم من الأنبياء كذلك أوحينا إليك بإحدى هذه الطرق( روحاً من أمرنا ) ووجه الاشتراك بينه وبين النبيّين، هو الوحي المتجلّ-ي في نبيّنا بالقرآن وفي غيره بوجهٍ آخر.

كل ذلك يؤيّد أنّ المراد منه هو القرآن الملقى إليه، نعم وردت في بعض الروايات أنّ المراد منه هو( روح القدس ) ولكنّه لا ينطبق على ظاهر الآية؛ لأنّ( الروح ) بحكم كونه مفعولاً ل- ( أوحينا ) يجب أن يكون شيئاً قابلاً للوحي حتى يكون ( موحاً ) وروح القدس ليس موحاً، بل هو الموحي بالكسر، فكيف يمكن أن يكون مفعولاً ل- ( أوحينا ) ؟ ولأجله يجب تأويل الروايات إن صحّ إسنادها.

الثاني: إنّ هيئة ( ما كنت ) أو ( ما كان ) تستعمل في نفي الإمكان والشأن قال سبحانه:( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ) (١) ، وقال عزّ اسمه:( وَمَا كَانَ الْمُؤمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّة ) (٢) .

وقال تعالى حاكياً عن بلقيس:( مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُون ) (٣) .

وعلى ضوء هذا الأصل يكون مفاد قوله:( ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) أنّه لولا الوحي ما كان من شأنك أن تدري الكتاب ولا الإيمان، فإن وقفت عليهما فإنّما هو بفضل الوحي وكرامته.

الثالث : إنّ ظاهر الآية أنّ النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان فاقداً للعلم بالكتاب والدراية للإيمان، وإنّما حصلت الدراية بهما في ظل الوحي وفضله، فيجب إمعان

____________________

١ - آل عمران: ١٤٥.

٢ - التوبة: ١٢٢.

٣ - النمل: ٣٢.

٢٩٠

النظر في الدراية التي كان النبي فاقداً لها قبل الوحي، وصار واجداً لها بعده، فما تلك الدراية وذاك العلم ؟

فهل المراد هو العلم بنزول الكتاب إليه إجمالاً، والإيمان بوجوده وتوحيده سبحانه ؟ أو المراد العلم بتفاصيل ما في الكتاب والإذعان بها كذلك ؟

لا سبيل إلى الأوّل؛ لأنّ علمه إجمالاً بأنّه ينزل إليه الكتاب، أو إيمانه بوجوده سبحانه كانا حاصلين قبل نزول الوحي إليه، ولم يكن العلم بهما ممّا يتوقّف على الوحي، فإنّ الأحبار والرهبان كانوا واقفين على نبوّته ورسالته ونزول الكتاب إليه في المستقبل إجمالاً، وقد سمع منهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فترات مختلفة - أنّه النبي الموعود في الكتب السماوية، وأنّه خاتم الرسالات والشرائع، فهل يصح أن يقال: إنّ علمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنزول كتاب عليه إجمالاً كان بعد بعثته وبعد نزول الوحي ؟ أو أنّه كان متقدّماً عليه وعلى بعثته ؟ ومثله الإيمان بالله سبحانه وتوحيده إذ لم يكن الإيمان بالله أمراً مشكلاً متوقّفاً على الوحي، وقد كان الأحناف في الجزيرة العربية، ومن جملتهم رجال البيت الهاشمي، موحّدين مؤمنين مع عدم نزول الوحي إليهم.

وبالجملة: العلم الإجمالي بنزول كتاب إليه والإيمان بوجوده وتوحيده، لم يكن أمراً متوقّفاً على نزول الوحي حتى يحمل عليه قوله:( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) .

وعندئذ يتعيّن الاحتمال الثاني، وهو أنّ العلم التفصيلي بمضامين الكتاب وما فيه من الأُصول والتعاليم والقصص - ثم الإيمان والإذعان بتلك التفاصيل - كانا متوقّفين على نزول الوحي، ولولاه لما كان هناك علم بها ولا إيمان.

وإن شئت قلت: العلم والإيمان بالأمور السمعية التي لا سبيل للعقل عليها - كالمعارف والأحكام والقصص ومحاجّة الأنبياء مع المشركين والكفّار وما

٢٩١

نزل بساحة أعدائهم من إهلاك وتدمير - لا يحصلان إلاّ من طريق الوحي، حتى قصص الأُمم السالفة وحكاياتهم لتسرّب الوضع والدس إلى كتب القصّاصين، والصحف السماوية النازلة قبل القرآن.

تفسير الآية بآية أُخرى

إنّ الرجوع إلى ما ورد في هذا المضمار من الآيات، يوضح المراد من عدم درايته بالكتاب أوّلاً، والإيمان ثانياً:

أمّا الأوّل: فيقول سبحانه:( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) (١) فالآية صريحة في أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن عالماً بتفاصيل الأنباء، وقد وقف عليها من جانب الوحي، فعبّر عن عدم وقوفه عليها في هذه الآية بقوله: ( ما كنت تعلمها أنت ولا قومك ) وفي تلك الآية: بقوله: (ما كنت تدري ما الكتاب) والفرق هو أنّ ( الكتاب ) أعم من ( أنباء الغيب ) والأول يشتمل على الأنباء وغيرها ( وأمّا الأنباء ) فإنّها مختصة بالقصص، والكل مشترك في عدم العلم بهما قبل الوحي والعلم بهما بعده.

وأمّا الثاني:

فقوله سبحانه:( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) (٢) فقوله: ( آمن الرسول بما أنزل إليه ) صريح في

____________________

١ - هود: ٤٩.

٢ - البقرة: ٢٨٥.

٢٩٢

أنّ متعلّق الإيمان الحاصل بعد الوحي، هو الإيمان( بما أُنزل إليه ) ، أعني: تفاصيل الكتاب في المجالات المختلفة، لا الإيمان بالله وتوحيده، وعندئذٍ يرتفع الإبهام في الآية التي تمسّكت بها المخطّئة، ويتبيّن أنّ متعلّق الإيمان المنفي في قوله: ( ولا الإيمان ) هو ( ما أنزل إليه ) لا الإيمان بالمبدأ وتوحيده.

والحاصل: أنّ هنا شيئاً واحداً، أعني: الإيمان بما أُنزل من المعارف والأحكام والأنباء، فقد نفى عنه في الآية المبحوث عنها لكونها ناظرة إلى ما قبل البعثة، وأثبت له في الآية الأُخرى لكونها ناظرة إلى ما بعد البعثة.

ومن هنا تتضح أهمّيّة عرض الآيات بعضها على بعض وتفسير الآية بأُختها، فهاتان الآيتان كما عرفت كافلتان لرفع إبهام الآية وإجمالها.

وقد تفطّن المفسّرون لما ذكرناه على وجه الإجمال، فقال الزمخشري في الكشّاف: الإيمان اسم يتناول أشياء: بعضها الطريق إليه العقل، وبعضها الطريق إليه السمع، فعنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل، وذاك ما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي(١) .

وقال الطبرسي:( ما كنت تدري ما الكتاب ) ما القرآن ولا الشرائع ومعالم الإيمان(٢) .

وقال الرازي: المراد من الإيمان هو الإقرار بجميع ما كلّف الله تعالى به، وأنّه قبل النبوّة ما كان عارفاً بجميع تكاليف الله تعالى بل إنّه كان عارفاً بالله ثم قال: صفات الله تعالى على قسمين: منها ما تمكن معرفته بمحض دلائل العقل، ومنها ما لا تمكن معرفته إلاّ بالدلائل السمعية، فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته

____________________

١ - الكشّاف: ٣/٨٨ - ٨٩.

٢ - مجمع البيان: ٥/٣٧.

٢٩٣

حاصلة قبل النبوّة(١) .

وقال العلاّمة الطباطبائي في ( الميزان ): إنّ الآية مسوقة لبيان أنّ ما عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يدعو إليه إنّما هو من عند الله سبحانه لا من قبل نفسه وإنّما أُوتي ما أُوتي من ذلك، بالوحي بعد النبوّة، فالمراد بعدم درايته بالكتاب عدم علمه بما فيه من تفاصيل المعارف الاعتقادية والشرائع العملية، فإنّ ذلك هو الذي أُوتي العلم به بعد النبوّة والوحي، والمراد من عدم درايته الإيمان، عدم تلبسه بالالتزام التفصيلي بالعقائد الحقّة والأعمال الصالحة، وقد سمّى العمل إيماناً في قوله تعالى:( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) (٢) ، والمراد الصلوات التي أتى بها المؤمنون إلى بيت المقدّس قبل النسخ، والمعنى ما كان عندك قبل وحي الروح، علم الكتاب بما فيه من المعارف والشرائع ولا كنت متلبّساً به بما أنت متلبّس به بعد الوحي من الالتزام التفصيلي والاعتقادي، وهذا لا ينافي كونه مؤمناً بالله موحّداً قبل البعثة صالحاً في عمله، فإنّ الذي تنفيه الآية هو العلم بتفاصيل ما في الكتاب والالتزام بها اعتقاداً وعملاً، لا نفي العلم والالتزام الإجماليين بالإيمان بالله والخضوع للحق(٣) .

الآية الرابعة: عدم رجائه إلقاء الكتاب إليه

قال تعالى:( وَمَا كُنْتَ تَرْجُواْ أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرينَ ) (٤) .

____________________

١ - مفاتيح الغيب: ٧/٤١٠، ولاحظ روح البيان: ٨/٣٤٧، روح المعاني: ١٥/٢٥.

٢ - البقرة: ١٤٣.

٣ - الميزان: ١٨/٨٠.

٤ - القصص: ٨٦.

٢٩٤

استدلّ الخصم بأنّ ظاهر الآية نفي علمه بإلقاء الكتاب إليه، فلم يكن النبي راجياً لذلك واقفاً عليه.

أقول : توضيح مفاد الآية يتوقّف على إمعان النظر في الجملة الاستثنائية، أعني قوله:( إلاّ رحمة من ربّك ) حتى يتضح المقصود، وقد ذكر المفسّرون في توضيحها وجوهاً ثلاثة نأتي بها:

١ - إنّ ( إلاّ ) استدراكية وليست استثنائية، فهي بمعنى ( لكن ) لاستدراك ما بقي من المقصود.

وحاصل معنى الآية: ما كنت يا محمد ترجو فيما مضى أن يوحي الله إليك ويشرّفك بإنزال القرآن عليك، إلاّ أنّ ربك رحمك وأنعم به عليك وأراد بك الخير، نظير قوله سبحانه:( وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَحْمَةً مِن رَبِّكَ ) (١) ، أي ولكن رحمة من ربّك خصّك بها، وهذا هو المنقول عن الفرّاء(٢) ؛ وعلى هذا لم يكن للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّ رجاء لإلقاء الكتاب إليه وإنّما فاجأه الإلقاء لأجل رحمة ربّه، ولكن لا يصار إلى هذا الوجه إلاّ إذا امتنع كون الاستثناء متصلاً لكون الانقطاع على خلاف الظاهر.

٢ - أن يكون ( إلاّ ) للاستثناء لا للاستدراك، وهو متصل لا منقطع، ولكنّ المستثنى منه جملة محذوفة معلومة من سياق الكلام، وهو كما في الكشّاف: ( وما ألقى إليك الكتاب إلاّ رحمة من ربّك )(٣) ، أي لم يكن لإلقائه عليك وجه إلاّ رحمة من ربّك، وعلى هذا الوجه أيضاً لا يعلم أنّه كان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجاء لإلقاء الكتاب

____________________

١ - القصص: ٤٦.

٢ - مجمع البيان: ٤/٢٦٩، مفاتيح الغيب: ٦/٤٠٨.

٣ - الكشّاف: ٢/٤٨٧ - ٤٨٨.

٢٩٥

عليه وإن كان الاستثناء متصلاً، وهذا الوجه بعيد أيضاً لكون المستثنى منه محذوفاً مفهوماً من الجملة على خلاف الظاهر، وإنّما يصار إليه إذا لم يصح إرجاعه إلى نفس الجملة الواردة في نفس الآية كما سيبيّ-ن في الوجه الثالث.

٣ - أن يكون ( إلاّ ) استثناء من الجملة السابقة عليه، أعني قوله:( وما كنت ترجوا ) ويكون معناه: ما كنت ترجوا إلقاء الكتاب عليك إلاّ أن يرحمك الله برحمة فينعم عليك بذلك، فتكون النتيجة: ما كنت ترجو إلاّ على هذا(١) ، فيكون هنا رجاءٌ منفي ورجاءٌ مثبت أمّا الأوّل: فهو رجاؤه بحادثة نزول الكتاب على نسج رجائه بالحوادث العادية، فلم يكن ذاك الرجاء موجوداً، وأمّا رجاؤه به عن طريق الرحمة الإلهية فكان موجوداً، فنفي أحد الرجاءين لا يستلزم نفي الآخر، بل المنفيّ هو الأوّل، والثابت هو الثاني، وهذا الوجه هو الظاهر المتبادر من الآية، وقد سبق منّا أنّ جملة( ما كنت ) وما أشبهه تستعمل في نفى الإمكان والشأن، وعلى ذلك يكون معنى الجملة: لم تكن راجياً لأن يلقى إليك الكتاب وتكون طرفاً للوحي والخطاب إلاّ من جهة خاصة، وهي أن تقع في مظلّة رحمته وموضع عنايته فيختارك طرفاً لوحيه، ومخاطباً لكلامه وخطابه، فالنبي بما هو إنسان عادي لم يكن راجياً لأن ينزل إليه الوحي ويلقى إليه الكتاب، وبما أنّه صار مشمولاً لرحمته وعنايته وصار إنساناً مثالياً قابلاً لتحمل المسؤولية وتربية الأُمّة، كان راجياً به، وعلى ذلك فالنفي والإثبات غير واردين على موضع واحد.

فقد خرجنا بفضل هذا البحث الضافي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إنساناً مؤمناً موحّداً عابداً لله ساجداً له قائماً بالفرائض العقلية والشرعية، مجتنباً عن المحرّمات، عالماً بالكتاب، ومؤمناً به إجمالاً، وراجياً لنزوله إليه إلى أن بُعثَ لإنقاذ البشرية عن

____________________

١ - مفاتيح الغيب: ٦/٤٩٨.

٢٩٦

الجهل، وسوقها إلى الكمال، فسلام الله عليه يوم وُلد ويوم مات ويوم يبعث حيّاً، وبقيت هنا آية أُخرى نأتي بتفسيرها إكمالاً للبحث وإن لم تكن لها صلة تامّة لما تتبنّاه المخطِّئة.

الآية الخامسة: لو لم يشأ الله ما تلوته

قال سبحانه:( قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (١) .

والآية تؤكّد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لابثاً في قومه، ولم يكن تالياً لسورة من سور القرآن أو تالياً لآيٍ من آياته، وليس هذا الشيء ينكره القائلون بالعصمة، فقد اتفقت كلمتهم على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف على ما وقف من آي الذكر الحكيم من جانب الوحي ولم يكن قبله عالماً به، وأين هو من قول المخطِّئة من نفي الإيمان منه قبلها ؟!

وإن أردت الإسهاب في تفسيرها فلاحظ الآية المتقدّمة عليها فترى فيها اقتراحين للمشركين، وقد أجاب القرآن عن أحدهما في الآية المتقدّمة وعن الآخر في نفس هذه الآية، وإليك نصّها:( قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (٢) .

اقترح المشركون على النبيّ أحد أمرين:

١ - الإتيان بقرآن غير هذا، مع المحافظة على فصاحته وبلاغته.

____________________

١ - يونس: ١٦.

٢ - يونس: ١٥.

٢٩٧

٢ - تبديل بعض آياته ممّا فيه سبّ لآلهتهم وتنديد بعبادتهم الأوثان والأصنام.

فأجاب عن الثاني في نفس الآية بأنّ التبديل عصيان لله، وأنّه يخاف من مخالفة ربّه، ولا محيص له إلاّ اتّباع الوحي من دون أن يزيد فيه أو ينقص عنه.

وأجاب عن الأوّل في الآية المبحوث عنها بأنّه أمر غير ممكن؛ لأنّ القرآن ليس من صنعي وكلامي حتى أذهب به وآتي بآخر، بل هو كلامه سبحانه، وقد تعلّقت مشيئته على تلاوتي، ولو لم يشأ لما تلوته عليكم ولا أدراكم به، والدليل على ذلك: إنّي كنت لابثاً فيكم عمراً من قبل فما تكلّمت بسورة أو بآية من آياته، ولو كان القرآن كلامي لبادرت إلى التكلّم به طيلة معاشرتي معكم في المدّة الطويلة.

قال العلاّمة الطباطبائي في تفسير الآية: إنّ الأمر فيه إلى مشيئة الله لا إلى مشيئتي فإنّما أنا رسول، ولو شاء الله أن ينزل قرآناً غير هذا لأنزل، أو لم يشأ تلاوة هذا القرآن ما تلوته عليكم ولا أدراكم به، فإنّي مكثت فيكم عمراً من قبل نزوله ولو كان ذلك إليّ وبيدي لبادرت إليه قبل ذلك وبدت من ذلك آثار ولاحت لوائحه(١) .

هذا آخر الكلام في عصمته عن العصيان، وصيانته عن الخلاف، بقي الكلام في عصمته عن الخطأ والنسيان، فنطرحها على بساط البحث إجمالاً.

عصمة النبيّ الأعظم عن الخطأ(٢)

إنّ صيانة النبي عن الخطأ والاشتباه سواء أكان في مجال تطبيق الشريعة، أم

____________________

١ - الميزان: ١٠/٢٦ ولاحظ تفسير المنار: ١١/٣٢٠.

٢ - البحث كما يعرب عنه عنوان البحث، مركّز على صيانة خصوص نبيّنا الأعظم عن الخطأ استدلالاً وإشكالاً وجواباً، وأمّا البحث عن عصمة غيره من الأنبياء فموكول إلى مجال آخر.

٢٩٨

في مجال الأمور العادية الفردية المرتبطة بحياته، ممّا طرح في علم الكلام وطال البحث فيه بين متكلّمي الإسلام.

غير أنّ تحقّق الغاية من البعثة رهن صيانته عن الخطأ في كلا المجالين، وإلاّ فلا تتحقق الغاية المتوخّاة من بعثته، وهذا هو الدليل العقلي الذي اعتمدت عليه العدلية، بعدما اتفق الكل على لزوم صيانته عن الخطأ والاشتباه في مجال تلقّي الوحي وحفظه، وأدائه إلى الناس، ولم يختلف في ذلك اثنان.

وإليك توضيح هذا الدليل العقلي: إنّ الخطأ في غير أمر الدين وتلقّي الوحي يتصوّر على وجهين:

أ - الخطأ في تطبيق الشريعة كالسهو في الصلاة أو في إجراء الحدود.

ب - الاشتباه في الأمور العادية المعدة للحياة كما إذا استقرض ألف دينار، وظن أنّه استقرض مائة دينار.

وهو مصون من الاشتباه والسهو في كلا الموردين؛ وذلك لأنّ الغاية المتوخّاة من بعث الأنبياء هي هدايتهم إلى طريق السعادة، ولا تحصل تلك الغاية إلاّ بكسب اعتماد الناس على صحّة ما يقوله النبي وما يحكيه عن جانب الوحي، وهذا هو الأساس لحصول الغاية، ومن المعلوم أنّه لو سها النبي واشتبه عليه الأمر في المجالين الأوّلين ربّما تسرّب الشك إلى أذهان الناس، وإنّه هل يسهو في ما يحكيه من الأمر والنهى الإلهي أم لا ؟

فبأي دليل أنّه لا يخطأ في هذا الجانب مع أنّه يسهو في المجالين الآخرين ؟! وهذا الشعور إذا تغلغل في أذهان الناس سوف يسلب اعتماد الناس على النبي، وبالتالي تنتفي النتيجة المطلوبة من بعثه.

٢٩٩

نعم، التفكيك بين صيانته في مجال الوحي وصيانته في سائر الأمور، وإن كان أمراً ممكناً عقلاً، ولكنّه ممكن بالنسبة إلى عقول الناضجين في الأبحاث الكلامية ونحوها، وأمّا العامّة ورعايا الناس الذين يشكلون أغلبية المجتمع، فهم غير قادرين على التفكيك بين تينك المرحلتين، بل يجعلون السهو في إحداهما دليلاً على إمكان تسرّب السهو إلى المرحلة الأخرى.

ولأجل سدّ هذا الباب المنافي للغاية المطلوبة من إرسال الرسل، ينبغي أن يكون النبي مصوناً في عامّة المراحل، سواء أكانت في حقل الوحي أو في تطبيق الشريعة أو في الأمور العامة؛ ولهذا يقول الإمام الصادقعليه‌السلام : ( جعل مع النبي روح القدس وهي لا تنام ولا تغفل ولا تلهو ولا تسهو).(١)

وعلى ذلك فبما أنّه ينبغي أن يكون النبي أُسوة في الحياة في عامة المجالات، يجب أن يكون نزيهاً عن العصيان والخلاف والسهو والخطأ.

القرآن وعصمة النبي عن الخطأ والسهو

قد عرفت منطق العقل في لزوم عصمة النبي من الخطأ في مجال تطبيق الشريعة، ومجال الأمور العادية المعدّة للحياة، وهذا الحكم لا يختص بمنطقه، بل الذكر الحكيم يدعمه بأحسن وجه، وإليك ما يدل على ذلك:

١ - قال سبحانه:( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ) (٢) ، وقال أيضاً:( وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ

____________________

١ - بصائر الدرجات: ٤٥٤.

٢ - النساء: ١٠٥.

٣٠٠