أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية0%

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 419

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 122741
تحميل: 9162

توضيحات:

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 122741 / تحميل: 9162
الحجم الحجم الحجم
أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الحاكم يستبطن قدراً كبيراً من العواطف الجاهلية، والمشاعر الجاهليّة، وهذا كان واضحاً من اللحظة الأولى في يوم السقيفة في الحُجج التي أوردها المهاجرون ضدّ الأنصار، كان من الواضح أنّ تقييم الخلافة لم يكن تقييماً إسلامياً، وأنّ تقييم النبوّة لم يكن تقييماً إسلامياً.

إذن فهذه الرواسب الفكريّة والعاطفية للجاهلية سوف تعمل عملها في سلوك هذا الحاكم، وفي تخطيط هذا الحاكم وفي كلّ ما يتصرّف فيه هذا الحاكم، إذا أضفنا إلى هذا الحكم بالخصوص كان يبدو منه في حياة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله نزعة الاستقلال بالرأي وروح التمرّد على التعبّد، هذا أمرٌ كان ظاهراً فيهم وبخاصّة في الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب، كان من الظاهر في حياة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان بعيداً عن نزعة التعبّد المطلق بكلّ ما يأتي به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل كان فيه روح التمرّد على جملةٍ من التعاليم التي جاء بها؛ لأنّها تُحدث عنده حالة التناقض بين الدعوة الجديدة التي دخل فيها وبين مفاهيمه وأفكاره وعواطفه السابقة التي صاغتها الجاهلية له هذه النزعة، نزعة التحرّر ونزعة التعويل على الرأي والتمرّد على التعبّد. هذا الشخص لم يكن يشكّل خطراً على الأُمّة في الوقت الذي كان إنساناً عادياً في المجتمع الإسلامي؛ لأنّ رسول الله كان حاكماً في المجتمع. أمّا حينما تولّى هذا الشخص وأصحابه زمام قيادة التجربة، قيادة هذه السفينة في هذا الوقت يعني ( مع خلوّ الميدان من شخص الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ) هذه النتيجة أصبحت تشكّل خطراً في المقام، فإذا أضفنا تلك الموروثات الجاهليّة إلى هذه النزعة - الاستقلال بالرأي - سوف نستنتج طبيعياً في المقام أنّ هذا الحاكم سوف يسير في جملةٍ من قضاياه ومشاكله على وفق الموروثات الجاهلية، وعلى وفق رواسبه العاطفية

٨١

النفسية التي خلّفها له آباؤه وأجداده، لا التي خلّفها له رسول الدعوةصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذا أضفنا إلى ذلك أيضاً أنّ الحاكم لم يكن قد هُيِّئَ أبداً لأن يكون حاكماً، للحاكم مشاكله الخاصّة، وسلوكه الخاصّ، وثقافته الخاصّة، الحاكم الخاصّ إذا كان حاكماً في صدر دعوةٍ جديدة، ذات حرارةٍ خاصّة، وذات ثقافةٍ جديدة، هذا الحاكم لا بدّ وأن يتهيّأ بصورة سابقة تهيّؤاً ثقافيّاً علمياً روحياً لأن يكون حاكماً.

هنا نريد أن نقصد بعدم التهيّؤ عدم التهيّؤ الثقافي والعلمي، يعني لم يكن قد استوعب الإسلام، ولم يكن قد حاول أن يدرس الإسلام في المقام، عمر يقول: بأنّه شغلنا في أيام رسول الله الصفق في الأسواق، تأتيه المشكلة فلا يعرف الجواب عنها، يبعث للمهاجرين والأنصار ليستفتهم، مرّةً ثانيةً، وثالثة، ورابعة، وحينما يتكرّر هذا المطلب منه ويقف موقفاً سلبياً تجاه المشاكل من الناحية الدينية يعتذر عن ذلك، يقول: شغلنا في أيام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الصفق في الأسواق(١) .

نعم، رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن قد اشتغل لتهيئة مجموعةٍ من الأُمّة لتحكم الناس؛ لأنّه قد كان هيّأ قادة معيّنين من أهل البيتعليهم‌السلام ليحكموا.

كان لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله درسان:

فإنّ له درساً وعملية توعيةٍ على مستوى الأُمّة، وهذه عملية توعية للأمّة بوصفها رعيّة بالمقدار الذي تتطلّبه الرعيّة وعياً وثقافةً.

وكان له درس آخر على مستوى آخر من التوعية للصفوة التي اختارها الله تعالى لتخلفه لقيادة هذه التجربة، وتلك كانت توعيةً على مستوى القيادة، وعلى

____________________

(١) انظر: الغدير ٦: ٢٢٣.

٨٢

مستوى الحاكمية.

وهؤلاء الذين تولّوا الحكم بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكونوا قد وعوا على هذا المستوى، ولم يكونوا هم أنفسهم قد هيئُوا أنفسهم بصورةٍ مسبقةٍ لهذا المستوى من الناحية الفكرية والثقافية، ألسنا جميعاً نعلم أنّ الصحابة في أيام أبي بكر وعمر اختلفوا في المسائل الواضحة جدّاً. اختلفوا في حكم مسألةٍ كان يمارسها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام أعينهم طيلة السنة، اختلفوا في حكم صلاة الجنائز، هذه المسألة العبادية الصرفة البعيدة عن كلّ المجالات الشيطانية والسياسية والاقتصادية. فالاختلاف هنا اختلاف ناشئ من الجهل حقيقةً، لا اختلاف ناشئ من الهوى، وليس من قبيل الاختلاف في حكم الأرض، وحكم الغنيمة وحكم الخمس.

قد يقال: إنّ هذا ليس جهلاً، بل هذا هوى. كلّ هذا ينشأ من عدم الاستعداد المسبق لممارسة الحكم والقيادة لهذه التجربة.

اتّساع رقعة البلاد الإسلاميّة:

يضاف إلى كلّ ذلك: أنّ الأُمّة كانت تحمل طاقةً حراريةً، ولم تكن واعية، وإلى أنّ الحاكم كان قاصراً ومقصّراً، يضاف إلى ذلك أنّ الإسلام كان على أبواب تحوّلٍ كمّيٍّ هائل، كان على أبواب أن يفتح أحضانه لأمم جديدةٍ لم ترَ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم تسمع آيةً من القرآن من فم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على الإطلاق. تلك الأُمّة التي خلّفها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وإن كانت تحمل طاقةً حراريةً لكن بعد أن اتّسعت الأمة كمّيّاً وضمّت إليها شعوباً كثيرةً من مختلف القوميات والشعب العربي بمجموعه، ما بال هذه الشعوب من الفارسية التركية والكردية التي لم تكن قد رأت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

٨٣

ولا سمعت منه كلمةً من القرآن. هل يترقّب أن يكون لها وعيٌ، أو يترقّب أن يكون لها طاقة حراريّة ؟ !

فتلك الطاقة الحرارية كانت نتيجة كفاح مستمّر مع أشرف قائد على وجه الأرض. أمّا هذه الشعوب التي دخلت في حظيرة الإسلام لم تكن قد عاشت هذا الكفاح المستمّر مع أشرف قائدٍ على وجه الأرض، إذن فهذا الانفتاح الهائل على شعوبٍ أخرى أيضاً أضعف من مناعة هذه الأُمّة، وأضعف من قدرة هذه الأُمّة على الحماية وفتح مجالاتٍ جديدةٍ للقصور والتقصير أمام الحاكم أيضاً.

الحاكم الذي لم يكن مهيّأًً نفسياً لأن يحكم في مجتمع المدينة فكيف يكون مهيّأً نفسياً وفكرياً وثقافياً لأن يحكم على بلاد كسرى وقيصر ؟ لأن يقود ويجتثّ أصول الجاهلية الفارسية، والهندية، والكردية، والتركية، إضافة إلى اجتثاث الجاهلية العربية، هذه الجاهليات التي كلّ واحدةٍ منها تحتوي على قدرٍ كبيرٍ من الأفكار والمفاهيم المنافية مع الأفكار والمفاهيم الأخرى، فهي أيضاً جاهليّات عديدة متضاربة فيما بينها عاطفيّاً وفكريّاً كلّها في مجتمع واحدٍ في حالة عدم وجود ضمانٍ لا على مستوى الحاكم ولا على مستوى الأُمّة.

الأُمّة هي مجموع أولئك الذين خلّفهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد رأوا بأمّ أعينهم ولو لحظة قصيرة تجسيداً واقعيّاً حيّاً للنظرة الإسلامية للحياة وللمجتمع في أيام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّهم قد رأوا تصرّفات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في المجال السياسي والاقتصادي والعسكري والاجتماعي؛ لأنّهم قد سمعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: إنّ ( الناس سواسية كأسنان المشط )، فهذه الشعوب التي دخلت الإسلام جديداً لم تكن قد سمعت كلّ هذا، بل سمعت خلاف هذا من الحكّام الجدد الذين كانوا يتولّون زعامة التجربة.

٨٤

إذن فكان كلّ هذا الذي قلناه يمهّد لانطماس النظرية الإسلامية للحياة الاجتماعية انطماساً كاملاً؛ لأنّ هذه النظرية الاجتماعية الإسلامية للحياة الاجتماعية كان أمينها حاكماً منحرفاً، وكانت الأُمّة غير قادرة على مواجهة هذا الانحراف، وكانت على أبواب توسّعٍ هائلٍ يضمّ شعوباً لا تعرف شيئاً أصلاً عن هذه النظرية الإسلامية للحياة الاجتماعية، وإنّما تعرف الواقع الذي يتجسّد خارجاً، والتي عاشته كواقع فاتحٍ مسلمٍ يسيطر على بلادها.

إذن فكان من المفروض ومن المنطقي بحسب طبيعة الأشياء أن تتحوّل النظريّة الإسلامية للحياة الاجتماعية إلى نظرية أخرى على وفق خطّ الحاكم. يعني: كان من المنطقي أن يعيش المسلمون ذهنياً وفكرياً نظرية أبي بكر وعمر وعثمان للحكم، كما عاشوها واقعياً سياسياً، وأن تنطمس تلك الأطروحة الصالحة فكرياً وروحياً كما انطمست سياسياً واقتصادياً في يوم السقيفة، هذا كان أمراً طبيعياً، وقد خطّط لحماية الإسلام من قبل قادة أهل البيتعليهم‌السلام ، وذلك عن طريق الدخول في الصراع السياسي مع خلفاء الجور.

صراع الأئمّةعليهم‌السلام مع الانحراف والخلفاء المنحرفين:

الأئمّةعليهم‌السلام دخلوا في صراعٍ مع الخلفاء المنحرفين ومع الزعامات المنحرفة، دخلوا في الصراع يحملون في أيديهم مشعل تلك النظرية الإسلامية للحياة الاجتماعية، بكلّ بهائها ونورها وجمالها وكمالها، ولم يكونوا يستهدفون من هذا أن يعيدوا خطّ التجربة إلى محلّه، وهذا ما نتحدّث عنه فيما يأتي:

إنّ خطّ التجربة لم يكن بالإمكان أن يعود مرّة أخرى إلى الاستقامة بعد أن انحرف، لم يكن الصراع السياسي يستهدف في المقام أن يعيد التجربة إلى خطّها

٨٥

المستقيم، وعلى مدى الخطّ الطويل لم يكن هذا هو الهدف الآني للصراع السياسي، وإنّما كان الهدف الآني للصراع السياسي هو: أن يصنع المسلمين، وأن يصنع الشعوبَ الجديدة، وأن يوعّوا الشعوب الأخرى التي كانت قد دخلت في حضانة الإسلام على النظرية الحقيقية للإسلام عن الحياة، عن المجتمع، عن الدولة، عن الاقتصاد، عن السياسة، عن الآخرة، عن التعامل والتعارض، ما هو مفهوم الإسلام في هذه المجالات ؟ يجب أن يبيّن للناس، يجب أن تزرع هذه النظريّة في ذهن الناس.

صحيح أنّ النظريّة كانت موجودةً في القرآن، وكانت موجودةً في النصوص ولكنّ وجودها في القرآن والنصوص لا يكفي وحده:

أوّلاً : النظريّات حينما تكون جبراً على ورقٍ لا تكفي لأن تعطي صورةً واضحةً في أذهان الناس.

ثانياً : بأنّ القرآن والسنّة لم تفهمهما هذه الشعوب الجديدة التي قد دخلت في الإسلام بعد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله . أمّا السنّة فلم يكونوا قد سمعوا عنها شيئاً، وإنّما سوف يسمعون عنها عن طريق الصحابة، وأمّا القرآن الكريم فلم يكونوا قد سمعوا شيئاً من تفسيره أيضاً، وإنّما سوف يسمعون تفسيره عن طريق الصحابة.

إذن فكان لا بدّ من تجسيدٍ حيٍّ لهذه النظرية الإسلامية، وحيث لم يكن بالإمكان تجسيده عن طريق الحكم بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة، ولهذا جسّد عن طريق المعارضة مع الزعامات المنحرفة على يد عليّ والحسن والحسينعليهم‌السلام .

الأئمّة في المرحلة الأولى ما رسوا هذا الصراع السياسي لأجل إعطاء هذه النظرية بكلّ وضوح، غاية الأمر أنّنا نرى أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام قام بالصراع

٨٦

الحادّ الواضح بعد موت عمر بن الخطّاب.

نعم، بعد السقيفة بأيامٍ سجّل أمير المؤمنينعليه‌السلام للتأريخ رأيه في السقيفة، وسجّل ذلك الحواريون من أصحابه من أمثال:سلمان ومقداد وعمّار ، حيث قالوا:

بأنّ هذا ليس تعديّاً على عليّعليه‌السلام ، وإنّما هو تعدٍّ على الأُمّة الإسلامية، وعلى التجربة الإسلامية، سلمان أخذ يصف المسلمين بأنّه ماذا سيكون حالهم لو بايعوا علياًعليه‌السلام (١) ؟ كما أنّفاطمة الزهراء عليها‌السلام في كلامٍ لها مع نساء المهاجرين والأنصار وصفت أيضاً حالة المسلمين بعد الانحراف، وحالة المسلمين لو أنّهم بايعوا عليّاًعليه‌السلام (٢) .

لكن بعد هذا أمير المؤمنينعليه‌السلام لم يبدُ على مسرح الصراع بشكلٍ مكشوفٍ أيام أبي بكر، وكذلك لم يبدُ بشكلٍ مكشوفٍ أيام عمر بن الخطاب بالرغم من أنّ الانحراف كان قد بدأ في خلافة أبي بكر.

تغيير شخص الحاكم، والانحراف في تفسير مضمون الحكم، وسياسة الحكم، هذا بدأ في أيام أبي بكر، واشتدّ في أيام عمر، وانجلى في أيام عثمان بصورةٍ غير إسلامية، وكان الانحراف يسير في خطّ منحنٍ حتّى وصل إلى الهاوية بعد ذلك.

وإنّما بدأ أمير المؤمنينعليه‌السلام معارضته لأبي بكر ولعمر ولعثمان وللزعامات المنحرفة جميعاً بشكلٍ مكشوفٍ وصريحٍ بعد وفاة عمر مباشرةً، وقبل أن يتمّ الأمر لعثمان، حينما قال له عبد الرحمن بن عوف في الشورى: مدّ يدك أبايعك

____________________

(١) انظر: بحار الأنوار ٢٨: ٣٠٠ - ٣٠١، باب الفتن والمحن، الباب ٤، الحديث ٤٨.

(٢) انظر: بلاغات النساء لابن طيفور: ٣٢ - ٣٣، ومعاني الأخبار للصدوق: ٣٥٤ - ٣٥٥، باب معنى قول فاطمةعليها‌السلام لنساء المهاجرين والأنصار في علّتها، وفيه حديث واحد.

٨٧

على كتاب الله وسنّة رسوله وسنّة الشيخين. وكان يريد عبد الرحمن بن عوف من ذلك أن يجعل سيرة الشيخين ممثّلاً شرعيّاً للنظرية الإسلامية، لو كان قَبِل عليّعليه‌السلام ذلك لانتهى هذا التمثيل وهذه النظرية السائدة.

فقال عليّعليه‌السلام : بايعني على كتاب الله وسنّة رسوله واجتهاد رأيي(١) ؛ لأنّ سيرة الشيخين لا يمكن أن تُجعل كممثّلٍ شرعيٍّ للنظرية الإسلامية للحياة الاجتماعية. هنا بدأ الإمام يشجب ويعارض هذه الزعامة المنحرفة، أمير المؤمنين رفض الخلافة والزعامة لأجل أن لا يُدخل هذين الرجلين كجزءٍ للنظرية الإسلامية للحياة الاجتماعية.

قد يقال: إنّ هذا من باب التزاحم، وباب العناوين الثانوية، ماذا كان يضرّه أن يقول: نعم، فيبايعه على كتاب الله وسنّة رسوله وسنّة الشيخين. ثمّ بعد هذا يقول أمير المؤمنين لعبد الرحمن بن عوف: شرطك مردود؛ لأنّه مخالف لكتاب الله وسنّة رسوله. ماذا كان سيحدث وما كان يضرّ ذلك ؟!

ألم يكن هذا تكليفاً شرعياً بناءًُ على أنّ الوصول إلى الخلافة واجب وينحصر مقدّمة هذا الواجب بإمضاء هذا الشرط ؟ إذن فهذه مقدّمة للواجب، فبالعنوان الثانوي يكون واجباً.

والجواب عن ذلك هو: أنّ قبول هذا الشرط لم يكن واجباً، ما أشدّ ضياع الإسلام لو قَبِل هذا، لو قَبِل عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ذلك ! إذن لتمّ التخطيط، لتمّ أنّ النظريّة الإسلامية للحياة الاجتماعية هي النظريّة التي قدّمها هؤلاء المنحرفون في المقام.

____________________

(١) انظر: بحار الأنوار ٣١: ٣٩٩، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١: ١٨٨.

٨٨

وقد قلنا: وسوف نشرح أنّ عود التجربة الإسلامية إلى الخطّ المستقيم على المدى البعيد لم يكن بالإمكان أصلاً، حتّى لو تولّى أمير المؤمنينعليه‌السلام الخلافة بعد عمر.

إذن لو أمضى أمير المؤمنين عمل الشيخين كان جزءاً من النظريّة الإسلامية للحياة الاجتماعية وكان هذا خسارةً كبيرة.

أمّا عدم الإمضاء كان بنفسه جزءاً من عملية إعطاء النظريّة الأخرى للحياة الاجتماعية على أساس الإسلام.

فمن هنا بدأ الإمام يصارع، ثمّ بعد هذا في أيام عثمان اتّضح صراعه السياسي بشكلٍ أوضح، كانعليه‌السلام هو يعبّر عن الأُمّة، وعن آمال الأُمّة، وعن مظالم الأُمّة أمام عثمان، وكان يعظه، ويحذّره ويذكّره بالله وأيام الله، والآخرة ورسول الله، ولكنّ عثمان لم يكن يتّعظ.

هنا يأتي سؤال، وهو: أنّ أمير المؤمنين لماذا تأخّر في عملية الصراع السياسي إلى ما بعد موت عمر مباشرة ؟ لماذا لم يدخل في الصراع أيام أبي بكر وأيام عمر ؟

والجواب عن هذا السؤال هو: أنّه كان حريصاً كلّ الحرص أن يبدو صراعه موضوعياً عقائدياً، كان يستهدف تثبيت دعائم نظريةٍ حقيقيةٍ للإسلام، لا تدعيم شخصه، كان الإمامعليه‌السلام حريصاً على أن تكون التصوّرات والانعكاسات التي يعيشها الناس عن صراعه على مستوى صراعٍ نظريٍّ عقائدي، وأن لا يكون على مستوى صراع شخصي؛ لأنّ هذا النحو من الصراع هو من أكبر الوسائل لتثبيت أحقيّة هذه النظرية التي يقدّمها.

وحينما أراد أن يثبت للذهنيّة الإسلامية أنّ النظرية الإسلامية للحياة هي

٨٩

هذه، لا تلك النظرية التي يطبّقها الزعماء المنحرفون كيف يستطيع أن يرسّخ هذا في الذهنية الإسلامية ؟ مع الالتفات إلى نقاط الضعف في الذهنية الإسلامية، وإلى عدم كون الذهنية الإسلامية ذهنيةّ واعية، يرسّخ هذا بأن لا يبدو منه أيّ ظاهرةٍ يمكن أن تفسّر حتّى على مستوى تلك الذهنية الضعيفة أنّه عمل شخصي، وأنّه صراع شخصي، لا أنّه صراع عقائدي ونضال في سبيل تثبيت النظرية.

ولهذا انتظر أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يبرز الانحراف واضحاً ثمّ يبدأ بالصراع، والانحراف لم يكن واضحاً ومكشوفاً لدى الناس، هؤلاء الناس غير الواعيين، هؤلاء لا يشعرون بمرارة الانحراف إلاّ إذا دخل الانحراف إلى بيوتهم، إلا إذا مسّ جلودهم، وأحرق شعورهم وأكدر معاشهم، حينئذٍ يشعرون بهذا الانحراف وبمرارة هذا الانحراف.

إذن قبل وضوح الانحراف لا يترقّب من الأُمّة غير الواعية أن تشعر بالانحراف.

الانحراف بدأ في أيام أبي بكر، ونما في أيام عمر، لكنّه كان انحرافاً مستوراً، وكان عمر موفّقاً جدّاً في أن يلبس هذا الانحراف في المقام الثوب الديني المناسب. نحن لا نريد أن نعطي مفهومنا الخاصّ عن عمر بل نأخذ بمفهوم السنّة عن عمر.

عمر ميّز في العطاء بين الناس، ووضع تركيباً قبليّاً في المجتمع الإسلامي، كما صنع عثمان بن عفّان، لكن فرق بينهما؛ لأنّ عمر جعل هذا التركيب الطبقي على أساس خدمة الإسلام، قال: كلّ من كان أقرب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نعطيه أكثر، وكلّ من كان أعظم جهاداً في سبيل الإسلام نعطيه أكثر(١) .

____________________

(١) انظر: بحار الأنوار ٣١: ٤٤ - ٥٨، كتاب الفتن والمحن، وتاريخ الطبري ٣: ٢٧٩.

٩٠

هذا ثوب تقبله أُمّة غير واعيةٍ قبولاً إجماعيّاً أكثر ممّا تقبله النظرية الإسلامية الحقيقية، قبل أن يلتفت إلى نتائج هذا التركيب القبلي في اللحظة الأولى، قبل أن يلتفت إلى ما سوف يتمخّض هذا التركيب الطبقي من بلايا، ومن كوارث ومحنٍ في المجتمع الإسلامي.

استطاع عمر أن يلبس هذا التركيب الطبقي ثوب الدين، هذا عمّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لا بدّ أن يكون أكثر عطايا، هؤلاء بدريّون لا بدّ أن يكون عطاؤهم أكثر من الأُحديّين، أن يكون المهاجرون أكثر عطاءً من غيرهم، أن يكون العرب الموجودون أيام الرسول وعاشوا الدعوة في مراحلها الأولى أكثر عطاءً من غيرهم، وهكذا.

فلو كان عليّعليه‌السلام يعارض هذا الانحراف وقتئذٍ لفسّر على مستوى تلك الذهنيّة بأنّه صراع شخصي وليس صراعاً عقائدياً، لم يكن بالإمكان يومئذٍ أن يبيّن بأنّه ماذا يتمخّض عن هذه الجريمة التي ارتكبها عمر بعد عشرين سنةً من كوارث ومحن، لم يكن بالإمكان أن يفهم المسلمون ذلك، ولهذا سكت لأجل أن لا يُلبس صراعه الثوب الشخصي.

ولهذا كانعليه‌السلام يقول: ( لأُسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين )(١) ، ما دام التعدّي عليّ، فأنا ساكت ما دام المسلمون يعيشون ويشعرون بأنّ الأمور بخير، فأنا ساكت حتّى يصابوا بشرارة الانحراف.

وبعد وفاة عمر أعلن رأيه في الشيخين، وهذا لم يكن صراعاً شخصياً، فإعلانه بمخالفة سيرة الشيخين كان موقفاً عقائدياً ونضالياً، ولم يكن موقفاً

____________________

(١) نهج البلاغة: ١٠٢، الخطبة ٧٤.

٩١

شخصياً، لأنّ مصلحته الشخصية كانت تقتضي هنا أن يسكت، وأن يعلن عدم المعارضة، فإنّه لم يكن بينه وبين وصوله إلى الخلافة إلاّ أن يقرّ بزعامة هؤلاء المنحرفين، هذا موقف لا يمكن أن يفسّر على أساس الصراع الشخصي، وإنّما يفسّر على أساس أنّ هذا الشخص يريد أن يمسك بيده نظريةً جديدةً للإسلام غير النظرية التي طبّقها الشيخان.

ثمّ بعد ما تكشّف الانحراف في أيام عثمان إلى درجةٍ شعرت الأُمّة غير الواعية بذلك، خصوصاً في السنوات الأخيرة من أيام عثمان دخل الإمام في الصراع بشكلٍ مكشوفٍ ليثبت للتجربة الإسلامية دعائم النظرية الأخرى، فكانعليه‌السلام رمزَ نظريةٍ إسلاميةٍ للحياة الاجتماعية تختلف عن النظرية المطبّقة لواقع الحياة، وبقي رمزاً لهذه النظرية الإسلامية للحياة، على ما سوف نشرح.

٩٢

بداية الانحراف

٩٣

٩٤

بسم الله الرحمن الرحيم

كنّا نريد أن نحدّد دور الأئمّةعليهم‌السلام والمخلصين ممّن يدور في فلكهم من أهل البيتعليهم‌السلام والواعين من المسلمين في عصرهم في حماية الإسلام وردّ الفعل بالنسبة لما وقع من انحراف بعد وفاة النبيّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

دور الأئمّةعليه‌السلام في صيانة التجربة الإسلامية:

هناك دور مرفوض للأئمّةعليه‌السلام في عالم التشريع وذلك بنصّ الشريعة الإسلامية المقدّسة. وهذا الدور عبارة عن صيانة التجربة الإسلامية في إنشاء المجتمع الإسلامي العالمي التي أنشأ بذرتها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان المفروض أنّ القيادة الإسلامية لهذه التجربة تتسلسل في هؤلاء الأئمة الاثني عشرعليه‌السلام واحداً بعد الآخر.

هذا هو الدور التشريعي المفروض والمنتظر بالنسبة للأئمةعليه‌السلام ، إلاّ أنّنا لا نريد أن نتحدّث عن هذا الدور التشريعي وأدلّته ومبرّراته، بمعنى أنّنا لا نريد الخوض في بحث الإمامة وإثبات إمامتهمعليه‌السلام ؛ لأنّنا سنعتبر هذا البحث مفروغاً عنه، ولأنّ هذا البحث هو دراسة مواطن العبرة من حياتهمعليه‌السلام ومحاولة فهم

٩٥

وضعهمعليه‌السلام بعد أن أقصوا عن مراكزهم القيادية في تزعمّ التجربة الإسلامية للمجتمع، للدولة، للاُمّة. ولأنّ هذه الدارسة ربّما تعطينا الضوء الذي نستعين به في تصوّرنا وموقفنا الإسلامي تجاه قضايانا وأهدافنا.

الفكرة التي أُريد عرضها خلال هذا البحث تتلخّص في عدّة أسطر، ولذا سنعرض هذا الملخّص ومن ثمّ ننتقل إلى الشرح والتوسيع، والفكرة هي:

نشوء الانحراف الخطير بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :

إنّ الإسلام جابه بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله انحرافاً خطيراً في صميم التجربة التي أنشأها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله للمجتمع الإسلامي والأُمّة الإسلامية، هذا الانحراف في التجربة الاجتماعية والسياسية للأمة في الدولة الإسلامية كان بحسب طبيعة الأشياء من المفروض أن يتّسع ويتعمّق بالتدريج وعلى مرّ الزمن؛ لأنّ الانحراف يبدأ بذرةً ثمّ تنمو، وكلّما تحقّقت مرحلة من هذا الانحراف مهّدت هذه المرحلة إلى مرحلةٍ أوسع وأرحب، وبناءً عليه كان من المفروض أن يصل هذا الانحراف في خطٍّ منحنٍ طوال عمليةٍ تأريخيةٍ وزمنيّةٍ طويلة المدى إلى الهاوية، أي إلى أبعد مدىً متصوّرٍ لهذا الانحراف، بحيث تصبح التجربة الإسلامية للمجتمع والدولة مليئةً بالتناقضات من كلّ جهةٍ وصوب، وتصبح عاجزةً عن مجاراة ومواكبة الحدّ الأدنى من حاجات ومصالح الأُمّة، بمعنى أن تتهاوى هذه التجربة بالتدريج فتثبت عجزاً تلو عجز، وقصوراً تلو قصور، حتّى تعلن إفلاسها نهائياً عن مواكبة الحدّ الأدنى للقضايا التي تتبنّاها وللرسالة التي تعلن عنها.

وحينما يتسلسل الانحراف في خطٍّ تصاعديٍّ من هذا القبيل أو في خطٍّ تنازليٍّ إلى الهاوية فمن المنطقي في فهم تسلسل الأحداث أنّ هذه التجربة سوف

٩٦

تتعرّض بعد مدىً من الزمن لانهيارٍ كامل، أي أنّ الدولة والمجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية كقيادةٍ للمجتمع سوف تتعرّض للانهيار الكامل، لأنّ هذه التجربة حينما تصبح مُلأى بالتناقضات، حينما تصبح عاجزةً عن مواجهة وظائفها الحقيقيّة، حينما تصبح بهذا الوضع عاجزة عن حماية نفسها، وتصبح الأُمّة نفسها عاجزةً عن حماية هذه التجربة.

أمّا أنّ التجربة عاجزة عن حماية نفسها، لأنّها تكون قد استنفدت أهدافها، واستنفدت إمكانية البقاء والاستمرار على مسرح التأريخ لأنّها أصبحت مكفوفةً ومفضوحةً وواضحة الخطأ، والتجربة المكفوفة لا يمكن أن تستمّر على مسرح التأريخ.

وأمّا أنّ الأُمّة ليست على مستوى حماية هذه التجربة لأنّ الأُمّة لا ترى منها، ولا تجني الخير الذي تفكّر فيه، ولا تحقّق عن طريقها الآمال التي تصبو إليها؛ ولذا لا ترتبط هذه التجربة بأيّ ارتباطٍ حقيقيٍّ مع الأُمّة.

وبناءً لما تقدّم لا بدّ أن تنهار هذه التجربة في مدىً من الزمن؛ وذلك كنتيجةٍ نهائيةٍ وحتميةٍ لبذرة الانحراف التي غُرست فيها، وحينما تنهار هذه التجربة يكون معنى ذلك أنّ الدولة الإسلامية تسقط، والحضارة الإسلامية تتخلّى عن قيادة المجتمع، والمجتمع الإسلامي يتفكّك، والإسلام يُقصى عن مركزه كقائدٍ للمجتمع وكقائدٍ للأمّة. ولكن الأُمّة تبقى طبعاً، المسلمون يبقون كأمّة، التجربة في المجتمع والدولة تفشل وتخطئ وتنهار أمام أوّل من يغزوها، كما حصل أمام الغزو التتري الذي واجه الخلافة العباسية(١) ، لكنّ هذه الأُمّة

____________________

(١) راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٨: ٢١٨ - ٢٤١.

٩٧

بقيت كمسلمين، ولكن بحسب منطق وتسلسل الأحداث من المحتوم أن تنهار الأُمّة بعد انهيار التجربة.

هذه الأُمّة كأمّةٍ تدين بالإسلام وتؤمن بالإسلام وتتفاعل مع الإسلام أيضاً تنهار، لماذا ؟ لأنّ هذه الأُمّة ما عاشت الإسلام الصحيح الكامل مدىً طويلاً من الزمن، عاشت الإسلامي الصحيح الكامل زمناً قصيراً، وهو الزمن الذي مارس فيه التجربة شخص الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن ثمّ عاشت تجربة منحرفة، هذه التجربة المنحرفة لم تستطع أن تعمّق الرسالة وتعمّق فيها المسئولية تجاه عقيدتها، ولم تستطع أن تثقّفها وتحصّنها وتزودّها بالضمانات الكافية لعدم الانهيار أمام حضارةٍ جديدةٍ وغزوٍ جديدٍ وأفكار جديدةٍ يحملها الغازي إلى بلاد الإسلام، هذا الغازي الذي يأتي فيحطّم التجربة، يحطّم المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، يأتي معه بتقاليد ومفاهيم وحضارةٍ وتصوّراتٍ وعادات، هذه كلّها سوف تؤثّر على الأُمّة الإسلامية التي لم تعرف الإسلام معرفةً حقيقيةً طيلة هذه التجربة المنحرفة.

وسوف لن تجد هذه الأُمّة في نهاية تلك التجربة المنحرفة - وبعد أن نفدت روحها الحقيقية، وبعد أن أُُهينت كرامتها، وبعد أن حُطّمت إرادتها، وبعد أن غلّت أياديها عن طريق الزعامات التي مارست تلك التجربة المنحرفة - ما تحصّن نفسها به ضدّ ما يطرأ بعد انهيار التجربة، وحينئذٍ ستنهار الأُمّة أيضاً، وسوف تندمج بالعالم الكافر الذي غزاها وفتحها وسيطر عليها، وسوف تذوب الرسالة والعقيدة، وتصبح الأُمّة خبراً بعد أن كانت أمراً حقيقياً على مسرح التأريخ، وبهذا ينتهي دور الإسلام.

هذا هو التسلسل المنطقي بقطع النظر عن دور الأئمّةعليه‌السلام .

٩٨

دور الأئمةعليه‌السلام تجاه تسلسل الانحراف:

أمّا دور الأئمّةعليه‌السلام تجاه هذا التسلسل فيتلخّص بأمرين:

الأمر الأوّل : الذي كان الأئمّة يمارسونه في حياتهم هو محاولة القضاء على الانحراف الموجود في تجربة المجتمع الإسلامي، وإرجاع التجربة إلى وضعها الطبيعي، وذلك بإعدادٍ طويلِ المدى، وبتهيئة الظروف الموضوعيّة التي تناسب وتتّفق مع إرجاع التجربة إلى وضعها الطبيعي، فمتى كانت الظروف الموضوعية مهيّأةً كان الأئمّةعليه‌السلام على استعدادٍ لأن يمارسوا إرجاع التجربة إلى الوضع الطبيعي كما مارس أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وقال:بأنّ الله أخذ عهداً على الإنسان أن لا يقرّ على الظلم مع وجود الناصر والناصر موجود ...(١) وكلمة الناصر استبطنت كلّ الحدود والظروف الموضوعيّة التي سوف تذكر فيما بعد، والتي تجعل في قدرة الإمام المعصوم أن يحاول إعادة التجربة الإسلامية إلى وضعها الطبيعي ووضعها الصحيح.

هذا هو الأمر الأوّل الذي يعني الإعداد والعمل لتهيئة المقدّمات والظروف الموضوعيّة للتمكّن من إعادة التجربة إلى وضعها الطبيعي والصحيح.

الأمر الثاني الذي كان يمارسه الأئمةعليه‌السلام حتّى في حالة الشعور بعدم وجود هذه الظروف الموضوعيّة، وبعدم تحقّق التي تهيّئ الإمامعليه‌السلام لخوض معركةٍ في مقام تسلّم زمام الحكم من جديد، هذا الأمر الذي كان يمارسه الأئمّةعليه‌السلام هو تعميق الرسالة فكرياً وروحياً وسياسياً في ذهن الأُمّة الإسلامية بغية إيجاد تحصينٍ كافٍ تامٍّ في صفوف الأُمّة الإسلامية، وذلك لكي يؤثّر هذا

____________________

(١) نهج البلاغة: ٥٠، الخطبة ٣ المعروفة بالشقشقيّة.

٩٩

التحصين في مناعتها وفي عدم انهيارها بعد تردّي التجربة وسقوطها.

كان من اللازم بعد أن حرمت الأُمّة الإسلامية من التجربة الصحيحة للحياة الإسلامية بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أن تطعّم وأن تغذّى رسالياً بالإسلام، تغذّى في مجالها الروحي، وفي مجالها الفكري، وفي مجالها الاجتماعي والسياسي، في جميع هذه المجالات تغذّى الأُمّة بالإسلام، وتحصّن بالإسلام لكي تعرف الإسلام وتستوعبه.

وأعني بتعبئة الأُمّة هنا لا مجموع الأُمّة؛ لأنّ هذه لا يمكن أن تتحقّّق بالنسبة لمجموع الأُمّة إلاّ في حال وجود قيادةٍ تمارس التجربة، تمارس الحكم في الدولة والمجتمع، ولكنّ الذي أعنيه في المقام من تعبئة الأُمّة هو إيجاد قواعد واعيةٍ في الأُمّة، وإيجاد روحٍ رساليةٍ في الأُمّة، وإيجاد عواطف تجاه هذه الرسالة في الأُمّة.

هذا هو الأمر الثاني الذي مارسه الأئمّةعليه‌السلام على طول الخطّ، وإن كان الأئمّةعليه‌السلام حتّى في حالة شعورهم بعدم إمكان استرجاع مركزهم المغصوب من الخلفاء الغاصبين، حتّى في هذه الحالة كانوا يعملون عملاً مهمّاً جدّاً لإنقاذ وجود الأُمّة في المستقبل، وضمان عدم انهيارها الكامل وتفتّتها كأمّة بعد سقوط التجربة، وذلك بإعطاء التحصين الكامل المستمرّ لهذه الأُمّة، على تفصيل سوف يأتي - إن شاء الله تعالى - خلال بحث هذه الفكرة بالتوسيع.

هذا هو ملخّص البحث. وأمّا التفصيل فبما يلي:

قسم من تفاصيل هذه الفكرة قلناه فيما سبق، ولكنّنا الآن نلخّصه لأجل أن يبقى التسلسل في عرض الفكرة، وسنستمرّ في عرض الفكرة في طول التلخيص.

١٠٠