المهذب البارع في شرح المختصر النافع الجزء ٣

المهذب البارع في شرح المختصر النافع10%

المهذب البارع في شرح المختصر النافع مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 584

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 584 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 123119 / تحميل: 7087
الحجم الحجم الحجم
المهذب البارع في شرح المختصر النافع

المهذب البارع في شرح المختصر النافع الجزء ٣

مؤلف:
العربية

المهذب البارع في شرح المختصر النافع

ال جزء الثالث

تأليف

العلامة جمال الدين ابي العباس

احمد بن محمد بن فهد الحلي

٧٥٧ - ٨٤١ ه‍.

تحقيق: الحجة الشيخ مجتبى العراقي

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى

قريبة إنشاء الله تعالى.

٢

٣

٤

كتاب الوديعة والعارية

بسم الله الرحمن الرحيم

أما الوديعة: فهي استنابة في الاحتفاظ، وتفتقر إلى القبول قولا كان أو فعلا، ويشترط فيهما الاختيار.

وتحفظ كل وديعة بما جرت به العادة. ولو عين المالك حرزا اقتصر عليه، ولو نقلها إلى أدون أو أحرز ضمن إلا مع الخوف. وهى جائزة من الطرفين، وتبطل بموت كل واحد منهما. ولو كانت دابة وجب علفها وسقيها، ويرجع به على المالك. والوديعة أمانة لايضمنها المستودع إلا مع التفريط أو العدوان. ولو تصرف فيها باكتساب ضمن وكان الربح للمالك. ولا يبرأ بردها إلى الحرز. وكذا لو تلفت في يده بتعد أو تفريط فرد مثلها إلى الحرز، بل لايبرأ إلا بالتسليم] كتاب الوديعة والعارية

مقدمة

الوديعة مشتقة من ودع يدع، اذا استقر وسكن، تقول: اودعته اودعه، اى أقررته، واسكنه، وقيل: إنه مشتق من ودع يقال: ودع الشئ يودع اذا كان في حفض وسكون، وهو قريب من الاول، وكأن المالك سكن إلى المستودع واطمأن اليه وثوقا بأمانته وأنه يقوم مقامه في حفظها، فهو في حفض ودعه من تكلف

٥

[إلى المالك أو من يقوم مقامه، ولا يضمنها لو قهره عليها ظالم، لكن إن أمكنه الدفع وجب، ولو أحلفه أنها ليست عنده حلف موريا. وتجب اعادتها إلى المالك مع المطالبة. ولو كانت غصبا منعه وتوصل في وصولها إلى المستحق. ولو جهله عرفها كاللقطة حولا، فإن وجده، والا تصدق بها عن المالك إن شاء، ويضمن ان لم يرض. ولو كانت مختلطة بمال المودع ردها عليه إن لم يتميز. وإذا إدعى المالك التفريط، فالقول قول المستودع مع يمينه].

إحفاظها، وقرار من تجشم مراعاتها. والاصل فيه الكتاب والسنة والاجماع.

أما الكتاب: فقوله تعالى (ان الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها)(١) وقوله تعالى (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي إئتمن امانته)(٢) .

وأما السنة: فروى أنس بن مالك وأبي بن كعب وابوهريرة كل واحد على الانفراد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال: أد الامانة إلى من إئتمنك، ولا تخن من خانك(٣) وكان عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله ودائع بمكة فلما أراد أن يهاجر أودعها أم ايمن، وأمر علياعليه‌السلام بردها على أصحابها(٤) وروى سمرة(٥) عنهعليه‌السلام

____________________

(١) النساء: ٥٨.

(٢) البقرة: ٢٨٣.

(٣) عوالى اللئالى: ج ٣ باب الوديعة ص ٢٥٠ الحديث ١ ولاحظ ماعلق عليه.

(٤) عوالى اللئالى: ج ٣، باب الوديعة ص ٢٥٠ الحديث ٢ ورواه في المستدرك: ج ٢ كتاب الوديعة، الباب ١ الحديث ١٢. نقلا عن عوالى اللئالى، ونقله في التذكرة: ج ٢ كتاب الامانات، ص ١٩٦.

(٥) بفتح السين المهملة وضم الميم وفتح الراء المهملة والهاء في الاصل سمي به جماعة من الصحابة (تنقيح المقال: ج ٢ ص ٦٨ باب سمرة).

٦

انه قال: على اليد ماأخذت حتى تؤدي(١) .

ومن طريق الخاصة عن زين العابدينعليه‌السلام : لو أن قاتل الحسينعليه‌السلام إئتمني على السيف الذي قتل به الحسينعليه‌السلام لرددته اليه(٢) .

وأما الاجماع: فمن الامة لا يختلفون فيه.

تنبيه

الوديعة والعارية من الامانات الخاصة.

والامانة مطلقا ينقسم إلى قسمين: أمانة خاصة كالوديعة، والعارية، والشركة، والمضاربة، والعين المرهونة، والمستاجرة، ومافى يد الوكيل، والوصي.

وضابطها كل عين حصلت في يد غير مالكها بغير اذنه أو باذنه، ثم اعلم ولم يطالبها، أو أقره الشارع على إمساكها ليدخل فيه الوديعة بعد موت المودع المشغول بحجة الاسلام، مع علم المستودع عدم تقييد الوارث، فإن الشارع جعل له ولاية الاستيجار للحج فهى في يده إلى وقت الاستيجار غير مضمونة.

ويدخل فيه ايضا اللقطة، فانها لاباذن المالك، بل الشارع أقر يده عليه للاحتفاظ.

وأمانة عامة: وهي كل عين حصلت في يد غير المالك مع عدم علمه بذلك على غير المتعدي كالثوب تطيره الريح إلى دار انسان، وكالوديعة اذا مات مالكها ولم يعلم الوارث، وكالمأمور بدفع عين إلى غيره، والمال الموصى بتفريقه أو بدفعه إلى من يعلم به.

ولو كان الموصى له معينا وعلم به كان أمانة خاصة، وحكم أمانة الخاصة

____________________

(١) سنن ابن ماجة: ج ٢ كتاب الصدقات(٥) باب العارية، الحديث ٢٤٠٠ والترمذي: ج ٣ كتاب البيوع(٣٩) باب ماجاء ان العارية مؤداة الحديث ١٢٦٦.

(٢) الامالى للشيخ الطوسي: المجلس الثالث والاربعون، ص ١٠٣.

٧

[ولو اختلفا في مال هل هو وديعة أو دين، فالقول قول المالك مع يمينه أنه لم يودع، اذا تعذر الرد، أو تلفت العين، ولو اختلفا في القيمة فالقول قول المالك مع يمينه، وقيل: القول قول المستودع، وهو أشبه، ولو اختلفا في الرد فالقول قول المستودع. ولو مات المودع وكان الوارث جماعة دفعها اليهم، أو إلى من يرتضونه، ولو دفعها إلى البعض ضمن حصص الباقين.

وأما العارية: فهي الاذن في الانتفاع بالعين تبرعا وليست لازمة لاحد المتعاقدين. ويشترط في المعير كمال العقل وجواز التصرف. وللمستعير الانتفاع، بل لايضمن إلا مع تفريط أو عدوان أو اشتراط، الا ان تكون العين ذهبا او فضة فالضمان يلزم وإن لم يشترط.

ولو استعار من الغاصب مع العلم ضمن، وكذا لو كان جاهلا لكن يرجع على المعير بما يغترم.

وكل مايصح الانتفاع به مع بقائه تصح إعارته، ويقتصر المستعير على مايؤذن له.

ولو اختلفا في التفريط فالقول قول المستعير مع يمينه] انها لايجب دفعها إلا مع الطلب من المالك او وكيله، ولو اتلفت قبله لم يضمن، وحكم العامة وجوب الدفع على الفور ويضمن مع التأخير، ويشتركان في الضمان مع التفريط أو التعدى.

قال طاب ثراه: ولو اختلفا في مال هل هو وديعة أو دين؟ فالقول قول المالك: أنه لم يودع، اذا تعذر الرد او تلفت العين. ولو اختلفا في القيمة فالقول قول المالك مع يمينه، وقيل: القول قول المستودع، وهو أشبه.

اقول: هنا مسألتان: (آ) اذا اختلفا في مال، فقال القابض: هو وديعة عندي، وقال مالكه: بل هو

٨

دين عليك، أي مثله دين، لان الملك المعين لانسان لايكون دينا على غيره، لان الدين كلي ثابت في الذمة غير مشخص، إلا أن نقول: القرض لايملك بمجرد القبض، بل بالتصرف، وهذا النزاع إنما يحصل ويتصور له ثمرة مع تلف العين أو تعذر ردها، كما لو أخذها ظالم فادعى القابض أنها وديعة عنده وتلفها من مالكها، وادعى المالك أنها دين عليه، وقال: حقى ثابت في ذمتك وإنما لي عليك مثلها أو قيمتها، فالقول قول المالك لان الاصل في اليد ضمانها مال الغير، لقولهعليه‌السلام : على اليد ماأخذت حتى تؤدى(١) ولما رواه اسحاق بن عمار قال: سألت أبا الحسنعليه‌السلام عن رجل استودع رجلا الف درهم، فضاعت، فقال الرجل: كانت عندي وديعة، وقال الآخر: انما كانت عليك قرضا، قال: المال لازم له، إلا أن يقيم البينة أنها كانت وديعة(٢) .

(ب) اذا ثبت تفريط الودعي باقراره أو البينة، لزمه ضمان العين مثلا أو قيمة، فإن اختلفا في القيمة، فهل القول قول المالك؟ قال الشيخان: نعم(٣) لان الودعي صار بالتفريط خائنا، ولا يكون قوله مسموعا، وقال التقى: يقبل قوله لانه غارم والاصل براء‌ة ذمته من الزائد(٤) وبه قال إبن حمزة(٥) وابن

____________________

(١) تقدم آنفا.

(٢) الفروع: ج ٥، كتاب المعيشة، باب ضمان العارية والوديعة، ص ٢٣٩ الحديث ٨.

(٣) المقنعة: باب الوديعة ص ٩٧ س ١٦ قال: واذا اختلف المودع والمودع في قيمة الوديعة كان القول قول صاحبها الخ وفي النهاية: باب الوديعة والعارية ص ٤٣٧ س ١٥ قال: واذا اختلف المودع والمودع في قيمة الوديعة كان القول قول صاحبها الخ.

(٤) الكافي: فصل في الوديعة ص ٢٣١ س ١٢ قال: فان اختلفا في القيمة أخذ منه ماأقربه وطولب المودع بالبينة الخ.

(٥) الوسيلة: فصل في بيان الوديعة ص ٢٧٥ س ١٣ قال: فان اختلفا في القيمة ولم يكن هناك ابينة كان القول قول المودع الخ.

٩

ادريس(١) واختاره المصنف(٢) والعلامة(٣) ذكر العارية قال في الصحاح: العارية بالتشديد، كأنها منسوب إلى العار، لان طلبها عار(٤) .

وقيل: منسوب إلى العارة، وهو اسم، من قولك: أعرت المتاع إعارة وعارة، والاعارة المصدر.

وقيل: اشتقاقها من عار يعير اذا ذهب وجاء، فسميت عارة لتحويلها من يد إلى يد.

وذكر الخطائى أن اللغة الغالبة التشديد، وقد يخفف.

وفي الشرع: هي غبارة عن إباحة الانتفاع بالعين، ثم استردادها، ويسمى مالك المنفعة المعير والمستبيح والمستعير، والعين المنتفع بها المستعار.

والاصل فيها الكتاب والسنة والاجماع.

أما الكتاب: فقوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى)(٥) والعارية إباحة الانتفاع لمن هو محتاج، فكان إعانة.

وقوله تعالى (الذين هم يراؤن ويمنعون الماعون)(٦) قال ابن عباس: الماعون العوارى(٧) وعن ابن مسعود: الماعون العوارى من الدلو والقدر والميزان(٨) .

____________________

(١) السرائر: باب الوديعة ص ٢٦٣ س ٢٩ قال: واذا ثبت التفريط واختلفا في قيمة الوديعة ولا بينة فالقول قول المودع الخ.

(٢) لاحظ عبارة المختصر النافع.

(٣) المختلف: في الوديعة ص ١٦٦ س ٢١ قال: مسألة لو اختلفا في القيمة بعد ثبوت التفريط فالقول قول الودعي الخ.

(٤) الصحاح: مادة عور.

(٥) المائدة: ٢.

(٦) الماعون: ٧.

(٧) الدر المنثور: ج ٨ في تفسير سورة الماعون ص ٦٤٤ عن ابن عباس قال: عارية متاع البيت، وفيه ايضا قال: ومنهم من قال: يمنعون العارية.

(٨) الدر المنثور: ج ٨ ص ٦٤٣ وفيه روايات آخر عنه، ورواه في مجمع البيان في تفسيره لسورة الماعون

١٠

وأما السنة: فروى جابر قال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: مامن صاحب الابل لا يفعل فيها حقها إلا جاء‌ت يوم القيامة اكثر ماكانت بقاع قرقر(١) يشد عليه بقوائمها واخفافها، قال رجل: يارسول الله ماحق الابل؟ قال: حلبها على الماء وإعارة دلوها وإعارة فحلها(٢) وروى أبو امامة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال في خطبة الوداع: العارية مؤداة والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم(٣) وروى أنس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إستعار من أبي طلحة فرسا فركبه(٤) واستعار من صفوان بن أمية يوم حنين درعا، فقال: أغصبا يامحمد؟ فقال: بل عارية مضمونة مؤداة(٥) .

وأما الاجماع: فمن سائر الامة.

تنبيه

العارية من الامانات الخاصة، والاصل فيها عدم الضمان عند الفرقة المحقة، إلا أن يعرض ما يوجب ضمانها، وهو أمور: (أ) التفريط، وهو ترك سبب من أسباب الحفظ الواجبة.

(ب) التعدي، وهو فعل ما لا يجوز شرعا.

____________________

(١) القرقر، القاع الاملس، وقيل: المستوى الاملس الذي لا شئ فيه، وفي حديث الزكاة بطح له بقاع قرقر، هو المكان المستوى لسان العرب ج ٥ لغة قرر.

(٢) مسند احمد بن حنبل: ج ٣ ص ٣٢١ قطعة من حديث جابر.

(٣) مسند احمد بن حنبل: ج ٥ ص ٢٦٧ عن ابي امامة الباهلي، وفي ٢٩٣ عن سعيد بن أبي سعيد.

(٤) مسند احمد بن حنبل: ج ٣ ص ١٨٠ ولفظ الحديث (عن انس قال: كان بالمدينة فزع فاستعار النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم فرسا لابي طلحة يقال له مندوب فركبه الحديث).

(٥) الفروع: ج ٥ كتاب المعيشة، باب ضمان العارية والوديعة: ص ٢٤٠ الحديث ١٠.

١١

[ولو اختلفا في الرد، فالقول قول المعير. ولو اختلفا في القيمة، فقولان: أشبههما قول الغارم مع يمينه. ولو استعار ورهن من غير اذن المالك، انتزع المالك العين ويرجع المرتهن بماله على الراهن].

(ج) أن يستعير ذهبا أو فضة الا ان يشترط سقوط الضمان، ولا فرق بين المستودع وغيره.

(د) أن يستعير من غاصب أو ممن ليس بكامل.

(ه‍) أن يشترط على المستعير ضمانها، فيضمن العين مع تلفها، ولا يضمن ما ينقص بالاستعمال.

(و) أن يستعير للرهن، فيكون مضمونة على المستعير دون المرتهن.

وذهب بعض العامة إلى كونها مضمونة في الاصل، لقولهعليه‌السلام (بل عارية مضمونة) والجواب أن ضمانها بإشتراطهعليه‌السلام على نفسه الضمان، لا أنه من لوازمها.

قال طاب ثراه: ولو اختلفا في القيمة فقولان: أشبههما قول الغارم.

أقول: مختار المصنف مذهب العلامة(١) وبه قال القاضي(٢) (٣) وسلار(٤)

____________________

(١) المختلف: كتاب الامانات، في العارية، ص ١٦٨ س ٣٨ قال بعد نقل قول ابن ادريس: وهو الوجه عندي.

(٢) ظاهر الامر على خلاف ماأثبته المصنفرحمه‌الله لان بعضهم في الاختلاف يقول: القول قول المعير وبعضهم يقول: القول قول المعير وبعضهم يقول: القول قول المستعير، واليك ما اثبتوه في كتبهم أو نقل عنهم.

(٣) المختلف: كتاب الامانات، في العارية ص ١٦٨ س ٣٥ قال: واذا اختلفا في القيمة بعد التفريط قال الشيخان: القول قول المالك مع يمينه إلى قوله وبه قال ابن البراج.

(٤) المراسم: ذكر احكام العارية ص ١٩٤ س ١٠ قال: فاذا اختلفا في شئ من ذلك فالقول قول المعير الخ.

١٢

وابن حمزة(١) وابن ادريس(٢) وقال الشيخان يقدم قول المالك(٣) ومنشأ الخلاف قد تقدم.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

____________________

(١) الوسيلة: فصل في بيان العارية ص ٢٧٦ س ٦ قال: وان اختلفا في القيمة كان القول قول المعير الخ.

(٢) السرائر: باب العارية، ص ٢٦٢ س ١١ قال: والذي يقتضيه الادلة واصول المذهب أن القول قول المدعى عليه الخ.

(٣) المقنعة: باب العارية ص ٩٧ س ٢٧ قال: وان لم تكن له بينة فالقول قول صاحب العارية الخ وفي النهاية: باب الوديعة والعارية ص ٤٣٨ س ١٣ قال: واذا اختلف المعير والمستعير في قيمة العارية كان القول قول صاحبها مع يمينه الخ.

١٣

١٤

كتاب الاجارة

١٥

١٦

[كتاب الاجارة وهي تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم. ويلزم من الطرفين]

كتاب الاجارة

مقدمة

الاجارة في اللغة كد الاجير، وإشتقاقه من الاجر وهو الثواب، يقال: آجر داره يوجرها ايجارا فهو موجر. والاجير فعيل بمعنى الفاعل كالعليم بمعنى العالم. وفي الشريعة تمليك المنفعة مدة معينة بعوض مالي. فالتمليك جنس، والمنفعة فصل يخرج به تمليك الاعيان كالبيع والهبة. ويخرج باشتراط العوض العارية، وباقى القيود شروطه. والاصل فيه الكتاب والسنة والاجماع.

أما الكتاب: فقوله تعالى (فإن أرضعن لكم فآتوهن اجورهن)(١) وقال (لو شئت لاتخذت عليه أجرا)(٢) وقال (إنى اريد أن انكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرنى ثمانى حجج)(٣) فاخبر بوقوع الاجارة.

وأما السنة: فروى أبوهريرة أن النبىصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: أعط الاجير اجرته

____________________

(١) الطلاق: ٦.

(٢) الكهف: ٧٧.

(٣) القصص: ٢٧.

١٧

قبل أن يجف عرقه(١) وروى أبوسعيد الخدرى وأبوهريرة عنهعليه‌السلام : من استأجر أجيرا فليعلمه أجره(٢) وروى ابن عمر ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل إستاجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره، ورجل أعطاني صفقته ثم غدر(٣) .

وفعله الصحابة، فعليعليه‌السلام آجر نفسه من يهودي ليستقي الماء كل دلو بتمرة وجمع التمراة وحمله إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) .

وروى محمد بن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن الاجارة؟ قال: صالح لا بأس بها اذا نصح قدر طاقته، وقدر آجر نفسه موسى بن عمران واشترط فقال: ان شئت ثمانيا وإن عشرا، فانزل الله الآية(٥) .

والتعرض للتكسب بالتجارة أفضل منها، روى محمد بن عمرو بن أبي المقدام عن عمار الساباطي قال: قلت لابي عبداللهعليه‌السلام : الرجل يتجر وإن هو آجر نفسه أعطى اكثر مما يصيب في تجارته، قال: لا يؤاجر نفسه ولكن يسترزق الله عز وجل ويتجر، فان من آجر نفسه فقد حظر على نفسه الرزق(٦) .

____________________

(١) سنن الكبرى للبيهقي: ج ٦ باب لاتجوز الاجارة حتى تكون معلومة وتكون الاجرة معلومة ص ١٢٠ س ٢٢.

(٢) سنن الكبرى للبيهقى: ج ٦ باب لاتجوز الاجارة حتى تكون معلومة وتكون الاجرة معلومة ص ١٢٠ س ٩ فعن أبى هريرة كما في المتن ولفظ ماعن أبي سعيد الخدري هكذا: نهى عن استئجار الاجير، يعنى حتى يبين له أجره.

(٣) صحيح البخاري: ج ٣ باب في الاجارة: باب ٤١ من منع أجر الاجير.

وسنن ابن ماجة: ج ٢ كتاب الرهون(٤) باب أجر الاجراء الحديث ٢٤٤٢.

(٤) سنن ابن ماجة: ج ٢ كتاب الرهون(٦) باب الرجل يستقى كل دلو بتمرة ويشترط جلدة الحديث ٢٤٤٦.

(٥) الفروع: ج ٥ كتاب المعيشة، باب كراهية اجارة الرجل نفسه ص ٩٠ الحديث ٢.

(٦) الفروع: ج ٥ كتاب المعيشة، باب كراهية إجارة الرجل نفسه ص ٩٠ الحديث ٣.

١٨

[وتنفسح بالتقايل، ولاتبطل بالبيع ولا بالعتق. وهل تبطل بالموت؟ قال الشيخان: نعم، وقال المرتضى: لاتبطل، وهو اشبه].

وأما الاجماع: فمن عامة المسلمين.

قال طاب ثراه: وهل تبطل بالموت؟ قال الشيخان: نعم، وقال المرتضى: لايبطل، وهو أشبه.

أقول: للاصحاب هنا ثلاثة اقوال: (أ) البطلان بالموت من أيهما إتفق قاله الشيخان(١) وسلار(٢) والقاضي(٣) وابن حمزة(٤) .

(ب) عدم البطلان من أيهما كان قاله السيد(٥) وابن ادريس(٦) والتقى(٧) وهو ظاهر أبي علي(٨) واختاره المصنف(٩) والعلامة(١٠) .

____________________

(١) المقنعة، باب الاجارات، ص ٩٨ س ٢٠ قال: والموت يبطل الاجارة.

وفي النهاية، باب المزارعة والمساقاة ص ٤٤١ س ١٩ قال: ومتى مات المستاجر أو الموجر بطلت الاجارة وفي باب الاجارة ص ٤٤٤ س ٤ قال: والموت يبطل الاجارة على مابيناه.

(٢) المراسم، ذكر أحكام الاجارات ص ١٩٦ س ٦ قال: ولايبطل الاجارة الا الموت.

(٣) المهذب: ج ١ كتاب الاجارة، ص ٥٠١ س ١٩ قال: والموت يفسخ الاجارة.

(٤) الوسيلة، باب في بيان الاجارة ص ٢٦٧ س ١٠ قال: وتبطل الاجارة بموت كليهما وبموت احدهما.

(٥) المختلف: كتاب الاجارة ص ٢ س ٣٠ قال: وقال ابوالصلاح لايبطل الاجارة بالموت إلى أن قال: وبه قال ابن ادريس ونقله عن السيد المرتضى إلى أن قال: والوجه ماقال ابوالصلاح.

(٦) السرائر: باب المزارعة، ص ٢٦٧ س ١١ قال: وقال الاكثرون المحصلون: لايبطل الاجارة بموت الموجر ولا بموت المستاجر وهو الذي يقوى في نفسى وافتي به.

(٧) الكافي: الاجارة، ص ٣٤٨ س ١٨ قال: ولا تبطل الاجارة بالموت الخ.

(٨) المختلف: كتاب الاجارة ص ٢ س ٣٠ قال: وقال ابن الجنيد: ولو مات المستأجر قام ورثته الخ.

(٩) لاحظ عبارة المختصر النافع.

(١٠) تقدم نقله آنفا.

١٩

(ج) بطلانها بموت المستأجر دون الموجر، نقله في الخلاف عن بعض الاصحاب(١) وفي المبسوط قال: وهو اظهر عندهم(٢) أي عند أصحابنا، وقال القاضي: وعمل الاكثر من أصحابنا على أن موت المستاجر هوالذي يفسخها، لاموت الموجر(٣) .

احتج الاولون بتعذر استيفاء المنفعة بالموت، لانه استحق استيفائها على ملك الموجر فاذا مات زال ملكه عن العين، فانتقلت إلى ورثته، فالمنافع تحدث على ملك الوارث، فلا يستحق المستاجر استيفائها، لعدم العقد على ملك الوارث.

وكذا في طرف المستاجر على تقدير موته لايمكن ايجاب الاجارة (الاجرة) من تركته، لانتقالها بالموت إلى ورثته، ولانه ربما كان غرض المالك تخصيص المستأجر، لتفاوت الاغراض بتفاوت المتسأجرين، وقد تعذر ذلك بالموت.

واجيب بان المستاجر قد ملك المنافع بالعقد، وملكت عليه الاجرة كاملة، فالمنتقل إلى ورثة الموجر بالموت ليس الا العين مسلوبة المنافع مدة الاجارة، والى ورثة المستأجر ماعدا مال الاجارة، لوجوبه في حياته للغير بعقد شرعي.

احتج العلامة ومن تابعه بوجوه: (أ) إن الاجارة حق مالي ومنفعته موجودة يصح المعاوضة عليها، وانتقالها بالميراث وشبهه، فلا يبطل بموت صاحبها كغيرها من الحقوق(٤) .

____________________

(١) الخلاف: كتاب الاجارة مسألة ٧ قال: وفي أصحابنا من قال: موت المستاجر يبطلها الخ.

(٢) المبسوط: ج ٣ كتاب الاجارات، ص ٢٢٤ س ١٨ قال: والاظهر عندهم ان موت المستاجر يبطلها الخ.

(٣) المهذب: ج ١ كتاب الاجارة ص ٥٠١ س ٢٠ قال: وعمل الاكثر من أصحابنا على أن موت المستاجر هو الذي يفسخها.

(٤) المختلف: كتاب الاجارة ص ٣ س ١ قال: لنا انه حق مالي ومنفعة مقصودة يصح المعاوضة عليها الخ

٢٠

بالنسبة إلى ما بعد البعثة فقط ، أو يجب أن تكون بالنسبة إلى ما قبلها أيضا؟(١)

والحقّ وجوب عصمتهم مطلقا من جهة الكذب مطلقا ، وغيره صغيرة وكبيرة مطلقا ، عمدا وسهوا ، بعد البعثة وقبلها.

أمّا عن الكذب في التبليغ فلمنافاته له. وأمّا عنه في غيره وعن غيره مطلقا فلوجوب الاتّباع المنافي لصدور الذنب عنه مطلقا ، أمّا بعد البعثة فظاهر ، وأمّا قبلها فلحصول النفرة المانعة عن الاتّباع ولو بعد البعثة ، ولصيرورته محلّ المناقشة والمشاجرة ، والمقصود أن يكون بعثهم بحيث لا يكون للناس على الله حجّة.

وهذا الوجه عامّ يقتضي امتناع صدور جميع المعاصي عنه في أيّ حال كان عمدا وسهوا ، وبعد البعثة وقبلها ، بل يقتضي لزوم تنزّههمعليهم‌السلام عن جميع العيوب الجسمانيّة ، والأخلاق الذميمة النفسانيّة ، والأمراض المزمنة ، وخساسة الذات ودناءتها وكفر الآباء والأمّهات ، ورذالة القبيلة ، وغيرها ممّا يوجب تنفّر الطبائع المانع عن الاتّباع والإرادة ، بل يجب اتّصافهمعليهم‌السلام بجميع صفات الكمال والأخلاق الحسنة ، والأقوال الممدوحة وكرامة الآباء وشرافة القبيلة ، ونحوها ممّا يوجب رغبة الناس إليهم وانقيادهم لهم ليحصل الغرض ، ويتحقّق اللطف الواجب على الله تعالى كما لا يخفى.

والحاصل : أنّه يدلّ على وجوب عصمة الأنبياءأوّلا العقل ؛ لأنّ بعث البشر المعصوم المرقوم لطف ؛ لعدم ارتباط الجميع بالملك ـ لو لم ندّع عدم الإمكان ـ إلاّ فيمن شذّ وندر ، فلا بدّ من بعثته ـ إتماما للحجّة ـ للغرض والحجّة ؛ مضافا إلى أنّ غيره مرجوح.

وثانيا : النقل كما قال تعالى :( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ) (٢) .

__________________

(١) انظر تفصيل هذا الخلاف في « كشف المراد » : ٣٤٩ ، المسألة الثالثة في وجوب العصمة.

(٢) يوسف (١٢) : ١٠٩.

٢١

وقال تعالى :( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ) (١) .

وقال تعالى :( قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ) (٢) .

وقال تعالى :( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٣) وقال :( إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ) (٤) . الآية ـ إلى أن قال : ـ( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) (٥) .

وقال تعالى بعد ذكر من الأنبياء :( وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ * وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٦) .

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّف مع بيان شارح القوشجي بقوله : «( وتجب في النبيّ العصمة ليحصل الوثوق بأقواله وأفعاله فيحصل الغرض من البعثة ) وهو متابعة المبعوث إليهم في أوامره ونواهيه( ولوجوب متابعته وضدّها ) يعني لو صدر عنه الذنب ، لزم اجتماع وجوب الضدّين وهما متابعته ومخالفته.

أمّا الأوّل : فللإجماع المنعقد على وجوب متابعة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولقوله تعالى :( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) (٧) .

وأمّا الثاني : فلأنّ متابعة المذنب حرام.( ولوجوب الإنكار عليه ) يعني لو صدر عنه الذنب ، لوجب منعه وزجره والإنكار عليه ؛ لعموم أدلّة الأمر بالمعروف والنهي

__________________

(١) الشورى (٤٢) : ٥١.

(٢) إبراهيم (١٤) : ١١.

(٣) البقرة (٢) : ١٢٤.

(٤) آل عمران (٣) : ٣٣ ـ ٣٤.

(٥) الأنعام (٦) : ٩٠.

(٦) الأنعام (٦) : ٨٦ ـ ٨٧.

(٧) آل عمران (٣) : ٣١.

٢٢

عن المنكر ، لكنّه حرام ؛ لاستلزامه الإيذاء المحرّم بالإجماع ؛ ولقوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) (١) .

ولزم أيضا أمورا أخر كلّها منتفية :

منها : أن يكون شهادته مردودة ؛ إذ لا شهادة للفاسق بالإجماع ، ولقوله تعالى :( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (٢) واللازم باطل بالإجماع ؛ ولأنّ من لا تقبل شهادته في القليل الزائل بسرعة من متاع الدنيا كيف تسمع شهادته في الدين القيّم؟!

ومنها : استحقاقه العذاب واللعن واللوم ؛ لدخوله تحت قوله تعالى :( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ ) (٣) ، وقوله تعالى :( أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (٤) ؛ وقوله :( لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) (٥) ؛ وقوله :( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) (٦) .

لكن ذلك منتف بالإجماع ، ولكونه من أعظم المنفّرات.

ومنها : عدم نيله عهد النبوّة ؛ لقوله تعالى :( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٧) ؛ فإنّ المراد به النبوّة أو الإمامة التي دونها.

ومنها : كونه غير مخلص ؛ لأنّ المذنب قد أغواه الشيطان والمخلص ليس كذلك ؛ لقوله تعالى حكاية عن إبليس :( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٨) .

ومنها : كونه من حزب الشيطان ومتّبعيه ، واللازم قطعيّ البطلان.

ومنها : عدم كونه متسارعا في الخيرات معدودا عند الله من المصطفين الأخيار ؛

__________________

(١) الأحزاب (٣٣) : ٥٧.

(٢) الحجرات (٤٩) : ٦.

(٣) الجنّ (٧٢) : ٢٣.

(٤) هود (١١) : ١٨.

(٥) الصفّ (٦١) : ٢.

(٦) البقرة (٢) : ٤٤.

(٧) البقرة (٢) : ١٢٤.

(٨) الحجر (١٥) : ٣٩ ـ ٤٠.

٢٣

إذ لا خير في المذنب ، لكن اللازم منتف ؛ لقوله تعالى في حقّ بعضهم :( إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ) (١) ،( وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ ) (٢) .

بقي الكلام في أنّ العصمة من أيّ معصية تجب ؛ فإنّ ما يتوهّم صدوره عن الأنبياء من المعاصي إمّا أن يكون منافيا لما تقتضيه المعجزة كالكذب فيما يتعلّق بالتبليغ ، أولا؟ والثاني إمّا أن يكون كفرا ، أو معصية غيره ، وهي إمّا أن تكون كبيرة كالقتل والزنى ، أو صغيرة منفّرة كسرقة لقمة والتطفيف بحبّة ، أو غير منفّرة ككذبة وشتمه وهمّ بمعصية ، كلّ ذلك إمّا عمدا أو سهوا ، بعد البعثة أو قبله.

والجمهور على وجوب عصمتهم عمّا ينافي مقتضى المعجزة ، وقد جوّزه القاضي سهوا ؛ زعما منه أن لا يخلّ في التصديق المقصود بالمعجزة وعن الكفر. وقد جوّزه الأزارقة من الخوارج ؛ بناء على تجويزهم الذنب ، مع قولهم بأنّ كلّ ذنب كفر. وجوّز الشيعة إظهاره تقيّة ؛ احترازا عن إلقاء النفس في التهلكة.

وردّ بأنّ أولى الأوقات بالتقيّة(٣) ابتداء الدعوة ؛ لضعف الداعي وشوكة المخالف ، وكذا عن تعمّد الكبائر بعد البعثة ، وجوّزه الحشويّة.

وكذا عن الصغائر المنفّرة لإخلالها بالدعوة إلى الاتّباع ؛ ولهذا ذهب كثير من المعتزلة إلى نفي الكبائر قبل البعثة أيضا ، وبعض الشيعة إلى نفي الصغائر ولو سهوا ، والمذهب عند محقّقي الأشاعرة منع الكبائر والصغائر الخسيسة بعد البعثة مطلقا ، والصغائر غير الخسيسة عمدا لا سهوا.

وذهب إمام الحرمين من الأشاعرة ، وأبو هاشم من المعتزلة إلى تجويز الصغائر عمدا(٤) .

__________________

(١) الأنبياء (٢١) : ٩٠.

(٢) ص (٣٨) : ٤٧.

(٣) في الأصل : « بالبعثة » وما أثبتناه موافق لما ورد في « شرح القوشجي » : ٣٥٧ ـ ٣٥٩.

(٤) انظر تفصيل الأقوال في « كشف المراد » : ٣٥١ وما بعدها.

٢٤

فالمصنّف إن أراد وجوب العصمة عن جميع المعاصي كما هو الظاهر من كلامه والظاهر من الشروح ، فلا يخفى أنّ ما ذكره من الأدلّة لا يفي بذلك ؛ فإنّ صدور الذنب عنه سيّما الصغيرة سهوا لا يخل بالوثوق بقوله وفعله ، والمتابعة قبل البعثة غير واجبة وبعد البعثة إنّما تجب فيما يتعلّق بالشريعة وتبليغ الأحكام ، وبالجملة فيما ليس بزلّة ولا طبع.

والإنكار على ما صدر عنهم سهوا غير جائز ، وردّ الشهادة إنّما يكون بكبيرة ، أو إصرار على صغيرة من غير إنابة أو رجوع ، ولزوم الزجر والمنع واستحقاق العذاب واللعن واللوم إنّما هو على تقدير التعمّد وعدم الإنابة ، ومع ذلك فلا يتأذّى به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل يبتهج. وبمجرّد كبيرة سهوا ، أو صغيرة ولو عمدا لا يعدّ المرء من الظالمين على الإطلاق ، ولا من الذين أغواهم الشيطان ، ولا عن حزب الشيطان سيّما مع الإنابة ، وعلى تقدير كون الخيرات لعموم كلّ فعل وتركه ، فمسارعة البعض إليها وكونه من زمرة الأخيار لا ينافي صدور ذنب من آخر سيّما سهوا ، أو مع التوبة.

وبالجملة : فدلالة الوجوه المذكورة على نفي الكبيرة سهوا ، والصغيرة غير المنفّرة عمدا محلّ نظر.

ويجب أيضا في النبيّ( كمال العقل والذكاء والفطنة وقوّة الرأي ) لأنّ من لم يتّصف بها لم يرغب في متابعته والانقياد لأوامره ونواهيه.

( ويجب أيضا عدم السهو ) لئلاّ يسهو فيما أمر بتبليغه ، ولعلّ مراده أن لا يكون السهو في الأمور ديدنا له وعادة( و ) عدم( كلّ يتنفّر عنه من دناءة الآباء ، أو عمر الأمّهات ، والفظاعة والغلظة والأبنة وشبهها ) من الأمراض التي يتنفّر عنها الطبائع ، كالبرص والجذام وسلس البول والريح ، والأكل على الطريق وشبهه من الأمور الخسيسة »(١) .

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٣٥٧ ـ ٣٥٩.

٢٥

الفصل الثالث :

في أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله يجب أن يكون مع المعجزة المصدّقة ، بناء على

أنّ طريق معرفة صدق النبيّ صلى الله عليه وآله في ادّعاء النبوّة منحصر في ظهور المعجزة

اعلم أنّ المعجزة عبارة عن الأمر العجيب الواقعي ، الخارق للعادة المقترن لادّعاء النبوّة الممكنة ، ونحوها من الرئاسة الإلهيّة الممكنة مع المطابقة في المصدّقة.

بيان ذلك : أنّ كلّ حادث مسبّب عن سبب لاقتضاء مصلحة الله خلق الأشياء بالأسباب ، ويسمّى ذلك عادة. والأسباب المقدّرة لحدوث الحوادث على ثلاثة أنواع : الأرضيّة ، والسماويّة ، والمركّبة منهما.

والأرضيّة منحصرة في حركات الأفلاك والكواكب وأوضاعها ، والمركّبة ما حصل منهما ، كما يقال : إنّ الدواء الفلاني يؤثّر أثرا كذا إن استعمل في ساعة كذا ، وإلاّ فلا ، فكلّ ما حدث في هذا العالم بسبب قسم من الأقسام الثلاثة يكون واقعا على مجرى العادة ، وإن حدث بلا توسّط سبب من تلك الأسباب ، لكان على خلاف مجرى العادة ، ويكون خارقا للعادة ، كمجيء الشجرة عند دعوة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما سنبيّن إن شاء الله تعالى ، فإنّه لم يكن من جهة أسباب عاديّة ؛ إذ الأسباب العاديّة للحركة منحصرة في الإرادة والطبيعة والقسر ، ولا إرادة للشجر ، والطبيعة إمّا أن تقتضي

٢٦

الحركة إلى الفوق أو التحت ، والقسر إمّا بالجذب أو بالدفع ، وحركة الشجر لم تكن داخلة في شيء من تلك الأقسام ، فتكون خارقة للعادة.

وقد يحدث الأمر بتوسّط سبب عادي خفيّ فيتوهّم كونه بلا سبب فيشتبه بخارق العادة كما في الشعبذة والطلسم والنيرنج ونحوها ، وقد لا يكون وجوده إلاّ بمجرّد التخييل من غير أن يكون له وجود الخارج كما في السحر.

والأمر الحادث لا من جهة سبب من الأسباب العاديّة يسمّى خارق العادة ، فإن اقترن بدعوى النبوّة ، أو الإمامة ، أو سائر ما لا يكون الاختصاص به إلاّ من الله وكان مطابقا لها يسمّى « معجزة » ، فما لم يكن يسمّى معجزة « مكذّبة » كما نقل أنّ مسيلمة الكذّاب لمّا سمع أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا للأعور فصار بصيرا ، دعا لأعور فذهبت عينه الصحيحة.

وما كان دالاّ على البعثة وحدث قبلها يسمّى « إرهاصا » كتضليل الغمامة لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتسليم الأحجار لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبلها ، وسقوط أربع وعشرين شرفة من إيوان كسرى ليلة ولادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخمود نيران فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ، ونحو ذلك ؛ إذ الإرهاص بمعنى الانتظار ، فكأنّه ينتظر البعثة.

وما كان غير منتظر مقترن بالدعوى المذكورة يسمّى « كرامة » كما كانت لمريم ؛ إذ( كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ) (١) . وهكذا إطاعة الكلاب لسلمان ، وغير ذلك.

فالمعجزة حيث كانت لا عن سلب لا يمكن معارضتها ، بخلاف السحر فإنّه لكونه مسبّبا عن سبب خفيّ يمكن معارضته بتعلّم سببه ، فهي ممتازة عنه ، ولكن إذا كان رجل قادرا على الإتيان بأمر يكون سببه خفيّا ، ويكون مشتبها بالمعجزة عند الأكثر ، فلو ادّعى النبوّة أو نحوها وأتى طبق دعواه بذلك الأمر ، وجب على الله إبطاله ؛ دفعا

__________________

(١) آل عمران (٣) : ٣٧.

٢٧

للإضلال العامّ كما أبطل سحر فرعون بابتلاع عصا موسى.

فالمعجزة صادرة بمجرّد إرادة الله بلا توسّط سبب من الأسباب العاديّة ، ولهذا إذا اقترنت بالدعوى المذكورة وكانت مطابقة لها تدلّ على صدق المدّعى.

ووجه انحصار طريق معرفة صدق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها أنّ دعوى النبوّة ـ مثلا ـ ادّعاء خصوصيّة موهبيّة لا كسبيّة ، ولا اطّلاع للعقل بسببها ، فلا يمكن له الاستدلال اللمّي ، فلا بدّ له من البرهان الإنّي الذي هو الاستدلال من الأثر إلى المؤثّر ، ولا بدّ أن يكون لذلك الأثر اختصاص تامّ بذلك المؤثّر حتّى يدلّ عليه. ولمّا كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشرا لم يميّز من غيره إلاّ باستجماع الكمالات الذي هو أعمّ من النبوّة لا بدّ أن يكون له أثر مخصوص به من حيث إنّه نبيّ ، وليس ذلك المعجزة المقترنة المطابقة لدعواه ، فانحصر طريق إثبات النبوّة ونحوها في المعجزة إمّا بلا واسطة ، أو بواسطة كما في صورة بيان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنبيّ آخر ، أو نحوه.

والحاصل : أنّ المعجزة أمر واقعيّ خارج عن العادة ، بسبب كونه بلا توسّط سبب أرضيّ ، أو سماويّ أو مركّب ، وكونه ممّا لا يتمكّن الخلق على تحصيلها بالتكسّب والتعلّم ونحو ذلك ـ كما في الحوادث العاديّة المسبّبة عن سبب من تلك الأسباب جليّا كان السبب ، أو خفيّا ـ موجبا للاشتباه بخارق العادة في أمثال الشعبذة ، مع كون ذلك الأمر الخارق للعادة مقترنا بادّعاء نحو النبوّة الممكنة مطابقا له ، فيمتاز عن « الإرهاص » و « الكرامة » و « السحر » مفهوما ومصداقا.

وأنّ الحوادث المحسوسة إمّا وهميّة وخياليّة محضة ، أو واقعيّة ، والأولى قسم من السحر ، والثانية إمّا مسبّبة عن سبب أرضيّ ، أو سماويّ ، أو مركّب ، أو لا ، والأولى تسمّى بالعاديّة وهي قد تكون مسبّبة عن سبب خفيّ ، والثانية أيضا قسم من السحر.

وغير المسبّبة إمّا أن تكون لصاحب الرئاسة الإلهيّة أم لا ، وعلى الثاني تسمّى « كرامة ». وعلى الأوّل إمّا أن تكون قبل الادّعاء أو تكون مقترنة بالادّعاء ، وعلى

٢٨

الأوّل تسمّى « إرهاصا » بمعنى حالة منتظرة للرئاسة كما في تظليل الغمام ونحوه للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانشقاق جدار الكعبة للوصيّ ، وعلى الثاني تسمّى « معجزة ».

وحينئذ إمّا أن تكون مطابقة للدعوة كما في ثعبان موسى ، وإحياء الأموات ، وشقّ القمر لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو مخالفة لها كما في مسيلمة الكذّاب. والأولى تسمّى معجزة مصدّقة ، والثانية معجزة مكذّبة.

فظهر الفرق بين السحر والمعجزة بأنّ السحر أعمّ من الوهمي والواقعي دون المعجزة ، وأنّ السحر الواقعي مسبّب عن سبب خفيّ ، والمعجزة من تصديق الله أو تكذيبه من غير سبب من العبد.

مضافا إلى أنّ السّحر عند الاختفاء والاشتباه ممّا يجب على الله إبطاله ، حذرا عن عدم إتمام الغرض في صدور القبح ، والمعجزة تكون باقية ويحصل التميّز في صورة الاشتباه بذلك ؛ وبأنّ السحر ممّا يمكن تعلّمه وتحصيله بالكسب دون المعجزة ؛ وبأنّ المعجزة غير مخصوصة بشيء دون شيء ، بل كلّما يريد المخاطب وجب على النبيّ والوصيّ إيقاعه بإذن الله ، بخلاف السحر :

وأنّه يدلّ على ذلك برهانان من ربّك :

أوّلا : العقل : لأنّ اللطف ـ الواجب المقتضي لبعث البشر المعصوم ـ موقوف على تعريف ذلك المعصوم ولا يتمّ إلاّ به ، وذلك لا يتمّ إلاّ بالمعجزة المصدّقة ؛ لخفاء العصمة وتوقّف ظهورها على تصديق الله له بالمعجزة ، فيكون الاقتران بها لازما مع أنّه راجح وتركه مرجوح ، واختيار المرجوح قبيح.

وثانيا : النقل كما قال :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ) (١) ونحو ذلك.

وعن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : لأيّ علّة أعطى الله عزّ وجلّ أنبياءه ورسله وأعطاكم المعجزة؟ فقال : « ليكون دليلا على صدق من أتى بها ، والمعجزة علامة لله

__________________

(١) الإسراء (١٧) : ١٠١.

٢٩

يعطيها أنبياءه ورسله وحججه ليعرف بها صدق الصادق وكذب الكاذب »(١) . ونحو ذلك.

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنفرحمه‌الله مع بيان الشارح القوشجي بقوله : «( وطريق معرفته وصدقه ) أي صدق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( في ) دعوى النبوّة( ظهور المعجزة على يده ، وهو ثبوت ما ليس بمعتاد ، أو نفي ما هو معتاد مع خرق العادة ومطابقة الدعوى ) قيّد بذلك احترازا عن الكرامات ؛ فإنّها لا تكون مطابقة للدعوى ؛ ضرورة عدم الدعوى ، لكنّه يخرج الإرهاص والمعجزة المكذّبة لمدّعي النبوّة أيضا ، والمصنّف يسمّيها معجزة ، كما سيأتي.

وأمّا قوله : مع خرق العادة فهو لغو محض ، ولعلّه من طغيان القلم ؛ لكنّه ينبغي أن يذكر هاهنا قيدا آخر ، وهو عدم المعارضة ، ليميّز عن السحر والشعبذة.

والمشهور في تعريف المعجزة أنّه أمر خارق للعادة ، ومقرون بالتحدّي مع عدم المعارضة.

وقيل : ينتقض بما إذا دلّ على خلاف دعواه كمن ادّعى النبوّة ويقول : معجزتي أن أنطق الحجر ، فنطق ، لكنّه قال : إنّه كاذب.

فالأولى في تعريفها أن يزاد على المشهور قولنا : ومطابقة الدعوى.

أقول : قد تطلق المعجزة على مثله كما سيأتي في كلام المصنّفرحمه‌الله .

وإنّما كان ظهور المعجزة طريقا لمعرفة صدقه ؛ لأنّ الله تعالى يخلق عقيبها العلم الضروري بالصدق ، كما إذا قام رجل في مجلس ملك بحضور جماعة وادّعى أنّه رسول هذا الملك إليهم ، فطالبوه بالحجّة؟ فقال : هي أن يخالف هذا الملك عادته ويقوم على سريره ثلاث مرّات ويقعد ففعل ، فإنّه يكون تصديقا له ومفيدا للعلم الضروري بصدقه من غير ارتياب.

__________________

(١) « علل الشرائع » ١ : ١٤٨ ، الباب ١٠٠ ، ح ١ ؛ « بحار الأنوار » ١١ : ٧١ ، ح ٢.

٣٠

فإن قيل : [ هذا تمثيل و ](١) قياس للغائب على الشاهد ـ وهو على تقدير ظهور الجامع إنّما يعتبر في العمليّات ؛ لإفادة الظنّ ـ قد اعتبرتموه بلا جامع لإفادة اليقين في العلميّات التي هي أساس ثبوت الشرائع ، على أنّ حصول العلم فيما ذكرتم من المثال إنّما هو لما شوهد من قرائن الأحوال.

قلنا : التمثيل إنّما هو للتوضيح والتعريف دون الاستدلال ، ولا مدخل لمشاهدة القرائن في إفادة العلم الضروري ، لحصوله في الغائبين عن هذا المجلس عند تواتر القصّة إليهم ، وللحاضرين فيما إذا فرضنا الملك في بيت ليس فيه غيره ودونه حجب لا يقدر على تحرّيها أحد سواه ، وجعل مدّعي الرسالة حجّته ؛ لأنّ الملك يحرّك تلك الحجب من ساعته ففعل.

( وقصّة مريم وغيرها تعطي جواز ظهورها على الصالحين ) اختلفوا في جواز وقوع ما هو خارق العادة على يد غير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصالحين ـ أعني المواظبين على الطاعات ، المجتنبين عن المعاصي ـ فذهب المعتزلة إلى منعه ؛ تمسّكا بما سيأتي ، والأشاعرة إلى ثبوته. واختاره المصنّف واحتجّ عليه بقصّة مريم كما دلّ عليه قوله تعالى :( كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ) (٢) وغيرها مثل قصّة آصف بن برخيا كما دلّ عليه قوله تعالى :( أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) (٣) وغيرها.

وأجاب عن أدلّة المعتزلة وهي وجوه :

منها : أنّه لو صدر عن غير النبيّ لكثر وقوعه ، ولصدوره عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالطريق الأولى وعن غيره أيضا فخرج [ عن ] أن يكون معجزا ؛ لخروجه عن أن يكون أمرا خارقا للعادة لكثرة وقوعه.

__________________

(١) الزيادة أضفناها من المصدر.

(٢) آل عمران (٣) : ٣٧.

(٣) النمل (٢٧) : ٤٠.

٣١

وتقرير الجواب : أنّا لا نسلّم خروجه عن حدّ الإعجاز ، فإنّ صدوره من الأنبياء والأولياء لا يجعله عادة معتادة. وإلى هذا أشار بقوله :( ولا يلزم خروجه عن حدّ الإعجاز ).

ومنها : أنّه لو جاز ظهور خارق العادة على [ يد ] غير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزم التنفّر عن الأنبياء ؛ لأنّ الباعث على اتّباعهم انفراد هم عن غيرهم ، وعجز غيرهم عن مشاركتهم فإذا شاركوهم هان الخطب ولزم النفرة عن اتّباعهم بمشاركة الأولياء لهم كما لا يلزم [ ذلك ] بمشاركة نبيّ آخر. وإلى هذا أشار بقوله :( ولا النفرة ).

ومنها : أنّ تميّز النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن غيره إنّما هو بظهور الأمر الخارق على يده ، فلو ظهر على يد غيره أيضا ، لزم عدم تمييز النبيّ عن غيره.

وتقرير الجواب : أنّا لا نسلّم لزوم عدم التميّز وإنّما يلزم لو لم يحصل التميّز بأمر آخر ، وهو ممنوع ؛ فإنّ النبيّ يتميّز عن الوليّ بدعوى النبوّة.

وإلى هذا أشار بقوله :( ولا عدم التميّز ) أي لا يلزم عدم التميّز.

ومنها : أنّه لو صدر عن غير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبطلت دلالته على صدق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّ مبنى الدلالة على اختصاصه بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا بطل الاختصاص بطلت الدلالة.

والجواب : منع الزوم ، وإنّما يلزم لو ادّعى دلالة كلّ خارق على صدق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس كذلك ، بل لها شرائط.

منها : مقارنة الدعوى ، وإلى هذا أشار بقوله :( ولا إبطال دلالته ).

ومنها : أنّه لو جاز ظهوره على يد صادق غير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجاز ظهوره على يد كلّ صادق ، فيلزم عموميّة ظهور المعجزة.

والجواب : منع اللزوم ؛ لأنّ مبنى ظهور الخارق للعادة كرامة صاحبه ، وهي إنّما توجد في الأنبياء والصالحين من عباد الله وهم الأولياء. وإلى هذا أشار بقوله :( ولا العموميّة ، ومعجزاته قبل النبوّة تعطي الإرهاص ).

اختلفوا في ظهور المعجزة على سبيل الإرهاص ـ وهو إحداث أمر خارق للعادة

٣٢

دالّ على بعثة نبيّ قبل بعثته ـ أنّه هل يجوز أم لا؟

واختار المصنّف الجواز ، واحتجّ عليه بظهور معجزات نبيّنا قبل نبوّته مثل : انكسار إيوان كسرى ، وانطفاء نار فارس ، وتظليل الغمامة ، وتسليم الأحجار عليه( وقصّة مسيلمة وفرعون وإبراهيم تعطي جواز ظهور المعجزة على العكس )

اختلفوا في أنّه هل يجوز المعجزة على الكاذبين على العكس من دعواهم إظهارا لكذبهم؟ فالذين منعوا ظهور الكرامات على غير الأنبياء منعوا من ذلك ، والذين جوّزوا ظهور الكرامات على غير الأنبياء جوّزوا ذلك ، واختاره المصنّف واحتجّ عليه بالوقوع ؛ لأنّ الوقوع دليل على الجواز.

وممّا وقع : ما نقل عن مسيلمة الكذّاب أنّه لمّا ادّعى النبوّة ، فقيل له : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا لأعور فارتدّ بصيرا ؛ فدعا مسيلمة لأعور فذهبت عينه الصحيحة.

وكما نقل أنّ فرعون لمّا ضرب موسى لبني إسرائيل طريقا في البحر يبسا ، قال فرعون : إنّا نمرّ أيضا على هذا الطريق فأتبعهم بجنوده فغشيهم الموج فأغرقوا جميعا.

وكما نقل أنّ إبراهيمعليه‌السلام لمّا جعل الله تعالى عليه النار بردا وسلاما ، قال عمّه : أنا أجعل النار على نفسي بردا وسلاما فجاءت نار فاحترقت لحيته.

( ودليل الوجوب يعطي العموميّة ، ولا تجب الشريعة )

اختلفوا في أنّه هل تجب البعثة في كلّ زمان بحيث لا يجوز خلوّ زمان عن بعثة نبيّ؟

قال الأشاعرة : لا تجب البعثة في كلّ زمان بناء على نفي الحسن والقبح العقليّين.

وقال الإماميّة : تجب البعثة في كلّ زمان ، واختاره المصنّف واحتجّ عليه بأنّ الدليل الدالّ على وجوب البعثة يعطي عموميّة الوجوب في كلّ وقت ؛ لأنّ الحثّ على الطاعات والنهي عن القبائح لا يحصل إلاّ بالبعثة ، فتكون لطفا ، فتكون واجبة

٣٣

في جميع الأوقات.

واختلفوا في أنّه هل تجب الشريعة للنبيّ المبعوث أم لا؟ فذهب أبو عليّ وأتباعه إلى أنّه يجوز بعثة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لتأكيد ما في العقول ، ولا يجب أن تكون له شريعة فإنّه يجوز بعثة نبيّ لشريعة واحدة فكذا يجوز بعثة نبيّ بمقتضى ما في العقول.

وذهب أبو هاشم وأصحابه إلى أنّه لا يجوز أن يبعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ بشريعة ؛ لأنّ العقل كاف في العلم بالعقليّات ، فلو لم يكن للنبيّ شريعة ، يلزم أن تكون بعثته عبثا.

وأجاب المصنّف بأنّه يجوز أن يكون البعثة قد اشتملت على نوع من المصلحة ، بأن يكون العلم بنبوّته ودعوته إيّاهم إلى ما في العقول مصلحة لهم ، فلا يكون البعثة عبثا »(١) .

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » للقوشجي ، ٣٥٩ ـ ٣٦١ ، وقد صحّحنا النقل على المصدر.

٣٤

الفصل الرابع :

في أنّ نبيّنا محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله رسول الله المبعوث إلى

الثقلين : الجنّ ، والإنس مع المعجزات التي منها : المعراج الجسماني ،

وشقّ القمر ، والقرآن ، وأنّه صلى الله عليه وآله خاتم النبيّين ، ودينه باق إلى يوم الدين

فلنذكر أوّلا نسبه ، وثانيا حسبه :

أمّا نسبه فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب ابن المسمّى بشيبة بن عمرو ، المعروف بهاشم بن المغيرة ، المعروف بعبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان بن أدّ بن أدر بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن ثابت بن حمل بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل بن تارخ بن ناخور بن شروغ بن رارعو بن فالخ بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن ملك بن متّوشلخ بن أخنوخ بن الناذر بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدمعليهم‌السلام .

وأمّا حسبه فهو أنّه رسول الله المبعوث إلى الثقلين ، وخاتم النبيّين بدلالة معجزاته المطابقة لدعواه.

اعلم أنّ معجزاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قسمين : ظاهرة ، وخفيّة. فالظاهرة عبارة عن

٣٥

القرآن المجيد ؛ لكونه ثابتا بالتواتر والتظافر المفيدين للقطع واليقين ، كما في العلم بالبلاد النائية ، والقرون الماضية ، والملوك الحالية ، وذوي السخاوة والشجاعة والعدالة ، ومؤلّف الكتب بحيث لا يمكن إنكاره ولا يقبل التشكيك.

وهكذا حصل القطع واليقين أنّ محمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ادّعى النبوّة وأتى على طبقها بالقرآن المجيد ، وتحدّى بطلب معارضته ، وعجز عن المعارضة الفصحاء والبلغاء المشهورون ، ولم يقدروا على معارضته مع تطاول الأزمنة ، فهذا العجز والتعذّر معجز خارق للعادة.

فأمّا الذي يدلّ على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ادّعى النبوّة ، وأتى بالقرآن ، وادّعى أنّ جبرئيل يهبط عليه ، وأنّ الله قد أبانه به ، فهو اتّفاق الموافق والمخالف ، وكونه ضروريّا عند الكلّ ، والقرآن ناطق بذلك ، كقوله تعالى :( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ) (١) ونحو ذلك.

وأمّا الذي يدلّ على انتفاء المعارضة منهم فهو أنّه لو وقعت المعارضة ، لوجب ظهوره ونقله ، وحيث لم ينقل قطعنا بانتفائه.

وأمّا وجوب النقل والظهور ؛ فلتوفّر الدواعي وشدّة الاهتمام بإطفاء نورهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كيف لا؟ وقد نقل عن مسيلمة الكذّاب حين ادّعى النبوّة والوحي من الله ما ليس قابلا للنقل مثل قوله : « الفيل ما الفيل ، وما أدراك ما الفيل ، له ذنب وبيل ، وخرطوم طويل »(٢) .

وأمّا انتفاء النقل فهو ظاهر ؛ إذ لم ينقل من المتصدّين لإطفائه خبر واحد دالّ على الإتيان بما يعارض القرآن فضلا عن المتواتر ، حتّى نقل أنّ الوليد بن المغيرة ـ من جهة نهاية حسده وعداوته وإجابة قومه ـ كان في الليالي متفكّرا في الإتيان

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٣.

(٢) انظر « إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة » : ١٧٥.

٣٦

بما يعارضه ، فلمّا كان الصباح جاءه قومه رجاء منه أن يأتي بما يعارضه ، فلمّا كانوا بالغين في الفصاحة عارفين قبح الكلام ، عرفوا قبح ما قاله الوليد فلم يظهروه.

وقد نقل من الوليد أنّه مرّ على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد كان تاليا لسورة « حم السجدة » ولمّا أتى قومه ، قال لهم : « لقد سمعت من محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آنفا كلاما ، ما هو من كلام الإنس والجنّ إنّ له لحلاوة ، وإنّ له لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لمغدق ، وإنّه ليعلو ولا يعلى. فقال قومه : صبا الوليد ؛ نظرا إلى تحسينه إلى الحدّ المذكور »(١) .

فإن قلت : لعلّ عدم النقل كان من جهة وجود المانع منه وهو الخوف من أهل الإسلام ، وقد بلغوا من الكثرة إلى حدّ يخاف من مثلهم.

قلت : إنّ الخوف لا يقتضي انقطاع النقل من كلّ وجه وإنّما يمنع من التظاهر به ، كما أنّ فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام وغيره من الأئمّةعليهم‌السلام قد نقلت ولم ينقطع النقل بها مع الخوف الشديد من بني أميّة وغيرهم ، مضافا إلى أنّ أعداء الإسلام يعارضون الآن بما هو أشدّ من نقل المعارض ، فلو كان المعارض موجودا لكان ثابتا في كتبهم ، وكان نقل المعارض عند المعارضة أهمّ من أنّهم لا يتمسّكون إلاّ بإنكار بعض المعجزات ، أو عدم إعجاز القرآن بسبب عدم الاطّلاع على لطائفه ـ كما نقل عن بعضهم ـ مع أنّ الكثرة في الإسلام حصلت بعد الهجرة ، وكان يجب نقل المعارضة قبل ذلك في مدّة مقامه بمكّة ونحوها من أزمنة كان الأعداء فيها كثيرين مجادلين ، بل محاربين ، ولو نقلت لم يكن قوّة الإسلام موجبة لخفائها ، كيف؟ وقد نقل محاربة عمرو وكسر سنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحو ذلك ممّا كان فيه إهانة ظاهرة.

فإن قلت : لعلّ المعارضة وقعت بعد الهجرة.

قلت : في ذلك كفاية في ثبوت المعجزة وحصول خرق العادة ، على أنّ الإسلام وإن قوي حينئذ بالمدينة فقد كان لأهل الكفر ممالك كثيرة وبلاد واسعة ، ومملكة

__________________

(١) « تهذيب سيرة ابن هشام » : ٦١.

٣٧

الفرس كانت ثابتة ، وممالك الروم وغيرها كانت عريضة ، فكان الواجب ظهور المعارضة في هذه البلاد.

فإن قلت : غاية ما ذكرت عدم الوجدان ، وهو لا يدلّ على عدم الوجود.

قلت : العلم الحدسي حاصل بعدم الوجود على وجه أشرنا إليه.

وأمّا الذي يدلّ على أنّ انتفاء المعارضة كان للتعذّر ، فهو أنّا علمنا أنّ كلّ فعل لا يقع من فاعله ـ مع توفّر دواعيه إليه ـ فإنّه يدلّ على تعذّره ، وهو إمّا أن يكون بسبب وجود المانع أو بسبب عدم القدرة ، ولا سبيل إلى الأوّل ؛ لما مرّ من انتفاء المانع في جميع البلاد سيّما في صدر الإسلام ، فتعيّن الثاني وهو المعنيّ من العجز والتعذّر ، مضافا إلى أنّهم تركوا المعارضة بالحروف على المقاتلة بالسيوف ، ولا شبهة أنّ الأخيرة أشدّ من الأولى بمراتب لا تحصى ؛ لاقتضائها هلاك كثير منهم ، وأسرهم ، وإفناء أموالهم ونحو ذلك ، ممّا ثبت بالتواتر المعنوي ، فترك الأسهل وارتكاب الأصعب من الماهرين البالغين في البلاغة والغاية ، وصاحب الحميّة الجاهليّة ليس إلاّ للعجز عنه.

فإن قلت : لا يلزم من العجز كون المأتيّ به من الله ؛ لاحتمال أكمليّة الآتي من غيره بحيث لا يقدر غيره على الإتيان بمثله ، أو تعلّمه في زمان طويل لم يتمكّنوا مع قصر الزمان من معارضته.

قلت أوّلا : إنّه يجب على الله إبطال ما يأتي به غير الحقّ إذا كان ذلك المأتيّ ممّا يعجز عنه غيره في صورة ادّعاء أمر مخصوص ، ولا يكون إلاّ من الله كالنبوّة والإتيان بذلك المأتيّ لبيان حقّيّته ، فلو كان نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبطلا كان الواجب على الله إبطال ما أتى به. فلو أبطله لنقل ذلك ولو بخبر واحد ، ولم ينقل فلم يبطل ، فيكون محقّا وهو المطلوب.

وثانيا : إنّ الأفصح ليس ممّا لا يمكن الإتيان بما يقاربه ، مع أنّ الأفصح إنّما يمتنع مساواته مجازاته في جميع كلامه أو أكثر كلامه ، ولا يمتنع في البعض على من هو

٣٨

دون طبقته كما نرى في الطبقة المتأخّرة من الشعراء فإنّهم قد يساوون للمتقدّمة منهم في بعض الأبيات ، بل قد يزيدون عليهم في بعض ، فحيث وقع التحدّي بسورة قصيرة من سور القرآن ولم تكن الأفصحيّة مانعة عن الإتيان بمثله ، ولم يقدروا على الإتيان بمثل سورة من القرآن ، بل بما يدانيه وإلاّ لأتوه ، ولو أتوه لاشتهر كما مرّ ، علم أنّه خارق العادة وليس من البشر ، بل من الله العزيز.

وأمّا احتمال أنّه تعمل زمانا طويلا. ففيه ـ بعد تسليمه ـ أنّه كان ينبغي للمعارضين أيضا أن يراجع مثله فيعارضوه به ـ مع امتداد الزمان ـ لما مرّ فثبت التعذّر الخارق للعادة إمّا لكون القرآن نفسه خارقا للعادة بفصاحته ؛ لكونه في الطبقة العليا من الفصاحة ، والدرجة القصوى من البلاغة على ما لا يعرفه فصحاء العرب بسليقتهم وعلماء الفرق بمهارتهم في فنّ البيان ؛ فلذلك عجزوا عن معارضته كما عن الأكثر.

أو لكون أسلوبه الغريب ونظمه العجيب مخالفا لأسلوب كلام العرب ونظمه في الأشعار والخطب والرسائل ، أو لمجموع الأمر الأوّل والثاني.

ولأنّ الله تعالى صرفهم عن معارضته ، ولولاه لعارضوه لقدرتهم عليها. وعلى أيّ تقدير يثبت المطلوب حتّى في الصورة الأخيرة ؛ لأنّ الله لا يصدّق كاذبا ولا يخرق العادة لمبطل ، بل يبطل ما يأتي به إن اشتبه بالمعجزة كما مرّ.

فنقول : إنّ محمّد بن عبد الله قد ادّعى النبوّة ، وأظهر المعجزة بالقرآن ـ كما يثبت بالتواتر ـ وكلّ من ادّعى النبوّة وأتى بالمعجزة فهو نبيّ ؛ لما بيّنا من أنّ المعجزة دالّة على صدق صاحبها ، فينتج أنّ محمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّ وهو المطلوب.

وأمّا المعجزات الباهرة الظاهرة بالمعنى الدالّة على نبوّته سوى القرآن :

[١] فمنها : شقّ القمر نصفين بمكّة ، وقد نطق به القرآن(١) .

__________________

(١) الانشقاق (٨٤) : ١.

٣٩

وعن عبد الله بن مسعود أنّه قال : « انشقّ القمر حتّى صار فرقتين ، فقال كفّار أهل مكّة ؛ هذا سحر سحركم به ، قال : فسئل السفار وقد قدموا من كلّ وجه ، فقالوا : رأيناه »(١) .

وبيانه على ما روي عن الصادقعليه‌السلام : « أنّه كان في الليلة الرابعة عشرة من ذي الحجّة باستدعاء أربعة عشر نفرا من أصحاب العقبة ـ بعد تخيير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم في اختيار أيّ معجزة يريدون واختارهم شقّ القمر ـ ونزل جبرئيل من الله تعالى واختاره فيه بأنّ جميع مكوّنات العالم العلوي والسفلي مطيعة له ، فعند ذلك أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للقمر بالانشقاق ، فانشقّ ، فسجد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنون شكرا ، وبعد رفع الرأس قال المنافقون : قل للقمر أن يرجع إلى حاله الأوّل ، فأمر ، فرجع ، ثمّ لمّا قالوا : قل له أن ينشق ثانيا ، فانشقّ ، فقالوا : إخواننا في السفر إلى الشام واليمن فإذا رجعوا نسألهم عن حال القمر فإن رأوا كما رأيناه ، علمنا أنّه من الله ، وإلاّ فنقول : هذا سحر مستمرّ »(٢) .

ودفعه أنّه لو كان سحرا لما وقع ذلك ، ولمّا كان.

[٢] ومنها : مجيء الشجرة إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : « لقد كنت معهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أتاه الملأ من قريش فقالوا : يا محمّد ، إنّك قد ادّعيت عظيما لم يدّعه آباؤك ، ولا أحد من بيتك ، ونحن نسألك أمرا إن أجبنا إليه وأريناه علمنا أنّك نبيّ ورسول ، وإن لم تفعل علمنا أنّك ساحر كذّاب ، فقال لهم : وما تسألون؟ » قالوا : تدعو لنا هذه الشجرة حتّى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله على كلّ شيء قدير ، فإن فعل ذلك بكم تؤمنون وتشهدون بالحقّ؟ قالوا : نعم ، قال : فإنّي سأريكم ما تطلبون ، وإنّي لأعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير ، وإنّ فيكم من يطرح في

__________________

(١) « إعلام الورى » ١ : ٨٤.

(٢) « بحار الأنوار » ١٧ : ٣٥١ ـ ٣٥٢ ، ح ١ ، بتفاوت يسير.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584