بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) 0%

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) مؤلف:
الناشر: فاروس
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 207

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عباس بن محمد رضا بن أبي القاسم القمي (المحدث القمي)
الناشر: فاروس
تصنيف: الصفحات: 207
المشاهدات: 97697
تحميل: 9408

توضيحات:

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 207 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 97697 / تحميل: 9408
الحجم الحجم الحجم
بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

مؤلف:
الناشر: فاروس
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فصل

نقل كلام المسعودي في كتاب إثبات الوصيّة

قال المسعودي في كتاب إثبات الوصيّة: قام أمير المؤمنينعليه‌السلام بأمر الله جلّ وعلا وعمره خمس وثلاثون سنة، واتّبعه المؤمنون، وقعد عنه المنافقون، ونصبوا للملك وأمر الدنيا رجلاً اختاروه لأنفسهم دون مَن اختاره الله عزّ وجلّ، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فروي أنّ العباس (رحمه الله) صار إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وقد قُبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له: امدد يدك أبايعك، فقال: ومَن يطلب هذا الأمر؟ ومَن يصلح له غيرنا؟ وصار إليه ناس من المسلمين، منهم [ فيهم ] الزبير وأبو سفيان صخر بن حرب فأبى، واختلف المهاجرون والأنصار، فقالت الأنصار: منّا أمير ومنكم أمير، فقال قوم من المهاجرين، سمعنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: الخلافة في قريش، فسلّمت الأنصار لقريش بعد أن داسوا [ ديس ] سعد بن عبادة، ووطئوا بطنه، وبايع عمر بن الخطاب أبا بكر وصَفَقَ على يديه، ثم بايعه قوم ممّن قدم المدينة ذلك الوقت من الأعراب والمؤلّفة قلوبهم، وتابعهم على ذلك غيرهم.

واتصل الخبر بأمير المؤمنينعليه‌السلام بعد فراغه من غسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتحنيطه وتكفينه وتجهيزه ودفنه، بعد الصّلاة عليه، مع مَن حضر من بني هاشم، وقوم من صحابته مثل: سلمان، وأبي ذر، والمقداد،

١٤١

وعمّار، وحذيفة، وأُبَيّ بن كعب، وجماعة نحو أربعين رجلاً، فقام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن كانت الإمامة في قريش فأنا أحقّ [ من ] قريش بها، وإن لا تكن في قريش، فالأنصار على دعواهم، ثم اعتزلهم ودخل بيته، فأقام فيه ومن اتبعه من المسلمين.

وقال: إنّ لي في خمسة من النبيّين أُسوة، نوح إذ قال:( إنّي مغلوب فانتصر ) (١) وإبراهيم إذ قال:( واعتزلكم وما تدعون من دون الله ) (٢) ، ولوط إذ قال:( لو أنّ لي بكم قوّة أو آوي إلى ركنٍ شديد ) (٣) ، وموسى إذ قال:( ففررت منكم لما خفتكم ) (٤) وهارون إذ قال: ( إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ) (٥) .

ثم ألّفعليه‌السلام القرآن، وخرج إلى النّاس، وقد حمله في إزار معه وهو ينط(٦) من تحته.

فقال لهم: هذا كتاب الله قد ألّفته كما أمرني وأوصاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أُنزل، فقال له بعضهم: اتركه وامضِ، فقال لهم: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لكم: إنّي مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فإن قبلتموه فاقبلوني معه أحكم بينكم بما فيه من أحكام الله، فقالوا: لا حاجة لنا فيه ولا فيك فانصرف به معك لا تفارقه ولا يفارقك، فانصرف عنهم، فأقام أمير المؤمنينعليه‌السلام ومَن معه من شيعته في منازلهم [ منزله ] بما عهده إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

____________________

(١) القَمَر: ١٠.

(٢) مريم: ٤٨.

(٣) هود: ٨٠.

(٤) الشُعَرَاء: ٢١.

(٥) الأعراف: ١٥٠.

(٦) نطّه: أي مدّه، أو شدّه.

١٤٢

فوجّهوا إلى منزله، فهجموا عليه وأحرقوا بابه واستخرجوه منه كرهاً، وضغطوا سيّدة النّساء بالباب حتّى أسقطت محسناً، وأخذوه بالبيعة فامتنع وقال: لا أفعل، فقالوا: نقتلك، فقال: إن تقتلوني فإنّي عبد الله وأخو رسوله. وبسطوا يده فقبضها، وعسر عليهم فتحها، فمسحوا عليها وهي مضمومة.

ثم لقي أمير المؤمنينعليه‌السلام بعد هذا الفعل بأيام أحد القوم، فناشده الله وذكّره بأيّام الله وقال له: هل لك أن أجمع بينك وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى يأمرك وينهاك، فقال له: نعم، فخرجا إلى مسجد قبا فأراه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاعداً فيه، فقال له: يا فلان، على هذا عاهدتموني في تسليم الأمر إلى عليعليه‌السلام وهو أمير المؤمنين؟ فرجع وقد همّ بتسليم الأمر إليه، فمنعه صاحبه من ذلك، فقال: هذا سحر مبين، معروف من سحر بني هاشم، أو ما تذكر يوماً كنّا مع ابن أبي كبشه؟ فأمر شجرتين فالتقتا فقضى حاجته خلفهما، ثم أمرهما فتفرّقتا وعادتا إلى حالهما.

فقال له: أمّا إن ذكّرتني هذا، فقد كنت معه في الكهف فمسح يده على وجهي، ثم أهوى برجله فأراني البحر، ثم أراني جعفراً وأصحابه في السقيفة تعوم في البحر، فرجع عمّا كان عزم عليه، وهمّوا بقتل أمير المؤمنينعليه‌السلام وتواصوا وتواعدوا بذلك، وأن يتولّى قتله خالد بن الوليد، فبعثت أسماء بنت عميس إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام بجارية لها، فأخذت بعضادتي الباب ونادت:( إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) (١)، فخرج مشتملاً بسيفه، وكان الوعد في قتله أن يسلم إمامهم(٢) ، فيقوم خالد إليه بسيفه، فأحسّوا بأسه، فقال الإمام قبل أن يسلّم: لا تفعلنّ خالد ما أمِرتَ به، ثم كان من أقاصيصهم ما رواه الناس(٣) .

____________________

(١) القصص: ٢٠.

(٢) [ ينتهي إمامهم من صلاته بالتسليم ] خ م المطبوع.

(٣) إثبات الوصيّة: ص١٤٢ - ١٤٤.

١٤٣

فصل

بعث أبي بكر في إخراج وكيل فاطمةعليها‌السلام من فدك

روى صاحب الاحتجاج، والشيخ الأجلّ علي بن إبراهيم القمّي، عن حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: لما بُويع أبو بكر واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار؛ بعث إلى فدك من أخرج وكيل فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [ منها ].

فجاءت فاطمةعليها‌السلام إلى أبي بكر فقالت: لِم تمنعني ميراثي من أبي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ وأخرجتَ وكيلي من فدك، وقد جعلها لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر الله تعالى؟ فقال: هاتي على ذلك بشهود، فجاءت بأُمّ أيمن، فقالت: لا أشهد يا أبا بكر حتّى احتجّ عليك بما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، [ فقالت ] أنشدك بالله، ألست تعلم أنّ رسول الله قال: إنّ أمّ أيمن امرأة من أهل الجنّة؟ فقال: بلى، قالت: فأشهد أنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( فآت ذا القربى حقّه ) (١) ، فجعل فدك لفاطمة بأمر الله(٢) ، وجاء عليعليه‌السلام فشهد

____________________

(١) الروم: ٣٨.

(٢) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٦ / ٢٢٠، وشواهد للتنزيل للحافظ الحسكاني، والاحتجاج للطبرسي: ١ / ٩٠.

١٤٤

بمثل ذلك، فكتب لها كتاباً ودفعه إليها.

فدخل عمر، فقال: ما هذا الكتاب؟ فقال: [ أبو بكر ]: إنّ فاطمةعليها‌السلام ادّعت في فدك، وشهدت لها أُمّ أيمن وعليّ فكتبته(١) ، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فمزّقه، وقال: هذا فيء المسلمين، وقال: مالك بن أوس بن الحدثان وعائشة وحفصة يشهدون على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه قال: إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة، فإنّ علياًعليه‌السلام يجرّ إلى نفسه، وأمّ أيمن فهي امرأة صالحة، لو كان معها غيرها لنظرنا فيه.

احتجاج عليعليه‌السلام مع أبي بكر في أمر فدك

فخرجت فاطمة (صلوات الله عليها) من عندهما باكية حزينة، فلمّا كان بعد ذلك [ هذا ] جاء عليّعليه‌السلام إلى أبي بكر وهو في المسجد، وحوله المهاجرون والأنصار فقال: يا أبا بكر، لِمَ منعتَ فاطمة ميراثها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ملكته في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ فقال أبو بكر: هذا فيء للمسلمين، فإن أقامت شهوداً أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعله لها، وإلاّ فلا حق لها فيه، فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : يا أبا بكر، تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال: لا، قال: فإنْ كان في يد المسلمين شيء يملكونه ثم ادّعيت أنا فيه، من تسأل البينة؟ قال: إيّاك كنت أسأل البيّنة، قال: فما بال فاطمةعليها‌السلام سألتها البيّنة على ما في يدها وقد ملكته في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده، ولم تسأل المسلمين البيّنة على ما ادّعوها شهوداً كما سألتني على ما ادّعيت عليهم، فسكت أبو بكر، فقال عمر: يا علي دعنا من كلامك، فإنّا لا نقوى على حجّتك، فإن أتيت بشهود عدول وإلاّ فهو فيء للمسلمين لا حق لك ولا لفاطمة فيه.

فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : يا أبا بكر تقرأ كتاب الله؟ قال: نعم، قال:

____________________

(١) فكتبت لها بفدك خ م.

١٤٥

أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ:( إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً ) (١) فينا نزلت أم في غيرنا؟ قال: بلى فيكم، قال: فلو أنّ شهوداً شهدوا على فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفاحشة، ما كنت صانعاً بها؟ قال: كنت أقيم عليها الحد كما أقيم على سائر نساء المسلمين، قال: إذاً كنت عند الله من الكافرين، قال: ولِمَ؟ قال: لأنّك رددت شهادة الله لها بالطّهارة، وقبلت شهادة الناس عليها، كما رددت حكم الله وحكم رسول الله، إذ جعل لها فدك وقبضته(٢) في حياته، ثمّ قبلت شهادة أعرابي بائل على عقبيه عليها، وأخذت منها فدك وزعمت أنّه فيء للمسلمين.

وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه، فرددت قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البيّنة على مَن ادّعى واليمين على مَن اُدّعي عليه. قال: فدمدم الناس وأنكر بعضهم(٣) وقالوا: صدق والله عليّ، ورجع عليعليه‌السلام إلى منزله، قال: ودخلت فاطمةعليها‌السلام المسجد فطافت على قبر أبيها وهي تقول:

قد كان بعدك أنباءٌ وهنبثةٌ(٤)

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطبُ

الأبيات.

التوطئة لقتل عليعليه‌السلام

قال: فرجع أبو بكر وعمر إلى منزلهما، وبعث أبو بكر إلى عمر فدعاه، ثم قال له: أما رأيت مجلس عليّ منّا في هذا اليوم، لئن قعد مقعداً مثله

____________________

(١) الأحزاب: ٣٣.

(٢) قد قبضته خ ج.

(٣) في الاحتجاج: فدمدم الناس فأنكروا ونظر بعضهم إلى بعض.

(٤) الهنبثة: الصوت الخفي. وهذا بيت من ثلاثة يُنسب لهند بنت أثاثة تمثّلت بهاعليها‌السلام في ذلك الموقف. وفي بعض النسخ: وهينمة، وهي بنفس المعنى.

١٤٦

ليفسدنّ أمرنا، فما الرأي؟ قال عمر: الرأي أن نأمر بقتله، قال: فمَن يقتله؟ قال: خالد بن الوليد.

فبعثنا إلى خالد فأتاهم، فقالا له: نريد أن نحملك على أمرٍ عظيم، فقال: احملوني على ماشئتم ولو على قتل علي بن أبي طالب، قالا: فهو ذاك، قال خالد: متى أقتله؟ قال أبو بكر: احضر المسجد وقم بجنبه في الصلاة، فإذا سلّمت قم إليه واضرب عنقه، قال: نعم.

فسمعت أسماء بنت عميس وكانت تحت أبي بكر، فقالت لجاريتها: اذهبي إلى منزل علي وفاطمةعليهما‌السلام وأقرأيهما السلام وقولي لعليعليه‌السلام :( إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) (١) ، فجاءت الجارية إليهما فقالت لعليعليه‌السلام : إنّ أسماء بنت عميس تقرأ عليك السلام وتقول:إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ ، ( الآية ) فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : قولي لها: ( إنّ الله يحول بينهم وبين ما يريدون ).

ثم قام وتهيّأ للصلاة وحضر المسجد، وصلّى لنفسه خلف أبي بكر، وخالد بن الوليد [ يصلّي ] بجنبه ومعه السيف، فلمّا جلس أبو بكر للتشهّد، ندم على ما قال وخاف الفتنة، وعرف شدّة عليعليه‌السلام وبأسه، فلم يزل متفكّراً لا يجسر أن يسلّم حتّى ظنّ الناس أنّه سها، ثم التفت إلى خالد، وقال: يا خالد لا تفعلنّ ما أمرتك [ به ] السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : يا خالد، ما الذي أمرك به؟ قال: أمرني بضرب عنقك، قال: أو كنت فاعلاً؟ قال: إي والله، لولا أنّه قال لي لا تفعله قبل التسليم لقتلك.

قال: فأخذه عليّعليه‌السلام فجلد به الأرض، فاجتمع الناس عليه، فقال

____________________

(١) القصص: ٢٠.

١٤٧

عمر: يقتله وربّ الكعبة، فقال الناس: يا أبا الحسن، الله الله بحق صاحب القبر، فخلّى عنه(١) .

ورواية أبي ذر (رحمه الله): إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام أخذ خالداً بأصبعه السبّابة والوسطى في ذلك الوقت فعصره عصراً، فصاح خالد صيحة منكرة ففزع النّاس وهمّتهم أنفسهم، وأحدث خالد في ثيابه، وجعل يضرب برجليه ولا يتكلّم، فقال أبو بكر لعمر: هذه مشورتك المنكوسة، كأنّي كنت أنظر إلى هذا وأحمد الله على سلامتنا، وكلّما دنا أحد ليخلّصه من يدهعليه‌السلام لحظه لحظة، تنحّى عنه راجعاً، فبعث أبو بكر عمر إلى العباس، فجاء وتشفّع إليه وأقسم عليه، فقال: بحق القبر ومَن فيه، وبحق ولديه وأُمّهما إلاّ تركته، ففعل ذلك، وقبّل العبّاس بين عينيه(٢) .

وفي روايةٍ أُخرى: ثمّ إنّ عليّاًعليه‌السلام قام إلى عمر وأخذ بتلابيبه وقال: يا ابن صهّاك الحبشية، لولا كتاب من الله سبق وعهد من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلمت أيّنا أضعف وأقلّ عدداً، وحال الحاضرون بينهعليه‌السلام وبين القوم، وخلّصوا عمر من يد أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فعندها قام وتقدّم العباس إلى أبي بكر وقال: أما والله لو قتلتموه ما تركنا تيميّاً يمشي على وجه الأرض(٣) .

في البحار، قال ابن أبي الحديد: سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن زيد، فقلت له: إنّي لأعجب من عليعليه‌السلام كيف بقي تلك المدّة الطويلة بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وكيف ما اغتيل وفتك به في جوف منزله مع تلظّي الأكباد عليه، فقال: لولا أنّه أرغم أنفه بالتراب ووضع خدّه في حضيض الأرض لقُتل، ولكنّه أخمل نفسه واشتغل بالعبادة والصّلاة والنظر في القرآن،

____________________

(١) تفسير القمّي: ج٢ - ١٥٥ - ١٥٩ الاحتجاج: ج١ ص١١٩ - ١٢٧.

(٢) البحار: ج٨ ط القديمة ص٩٣.

(٣) علم اليقين للمحدّث الكاشاني (ره): ج٢ ص٦٩٨.

١٤٨

وخرج عن ذلك الزي الأوّل وذلك الشعار ونسي السيف وصار كالفاتك، يتوب ويصير سايحاً في الأرض أو راهباً في الجبال، فلمّا أطاع الذين وُلّوا الأمر وصار أذلّ لهم من الحذاء تركوه وسكتوا عنه، ولم تكن العرب لتقدم عليه إلاّ بمواطاة من متولّي الأمر وباطن في السرّ منه، فلمّا لم يكن لولاة الأمر باعث وداعٍ إلى قتله وقع الإمساك عنه، ولولا ذلك لقتل، ثمّ الأجل بعدُ معقل حصين.

فقلت: أحقُّ ما يقال في حديث خالد؟ فقال: إنّ قوماً من العلوية يذكرون ذلك، وقد رُوي أنّ رجلاً جاء إلى زفر بن الهذيل، صاحب أبي حنيفة، فسأله عمّا يقول أبو حنيفة في جواز الخروج من الصلاة بأمر غير التسليم، نحو الكلام والفعل الكثير أو الحدث، فقال: إنّه جائز، قد قال أبو بكر في تشهده، [ ما قال ] فقال الرجل: وما الذي قاله أبو بكر؟ قال: لا عليك، قال: فأعاد عليه السؤال ثانية وثالثة، فقال: أخرجوه أخرجوه، قد كنت أحدث أنّه من أصحاب أبي الخطاب، قلت: فما الذي تقوله أنت؟ قال: أنا أستبعد ذلك وإنّه روته الإمامية، الخ(١) .

رسالة أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى أبي بكر

الاحتجاج، رسالة أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى أبي بكر، لما بلغ عنه كلام بعد منع الزّهراءعليها‌السلام فدك:

شقّوا متلاطمات أمواج الفتن بحيازيم سفن النّجاة، وحطّوا تيجان أهل الفخر بجمع أهل الغدر، واستضيئوا بنور الأنوار، واقتسموا مواريث الطّاهرات الأبرار، واحتقبوا(٢) ثقل الأوزار بغصبهم نِحْلة النبيّ المختار، فكأنّي بكم تتردّدون في العمى كما يتردّد البعير في الطّاحونة.

____________________

(١) البحار: ج٨ ط القديمة ص ٩٣ - ٩٤.

(٢) احتقبوا: أي حملوا على ظهورهم.

١٤٩

أما والله لو أذن لي بما ليس لكم به علم، لحصدت رؤوسكم عن أجسادكم كحبّ الحصيد بقواضب من حديد، ولقلعت من جماجمكم شجعانكم ما أقرح به آماقكم وأوحش به محالكم، فإنّي منذ عرفتموني مردي العساكر، ومفني الجحافل، ومبيد خضرائكم، ومخمد ضوضائكم وجزار الدوارين، إذ أنتم في بيوتكم معتكفون، وإنّي لصاحبكم بالأمس لَعَمْر أبي وأُمّي، لن تحبّوا أن تكون فينا الخلافة والنبوّة، وأنتم تذكرون أحقاد بدر وثارات أُحُد.

أما والله لو قلت ما سبق من الله فيكم، لتداخلت أضلاعكم في أجوافكم كتداخل أسنان دوارة الرحا، فإن نطقت تقولون: حسد، وإن سكتّ فيقال: جزع ابن أبي طالب من الموت، هيهات هيهات، أنا الساعة يقال لي هذا وأنا الموت المميت(١) ، خوّاض المنيّات في جوف ليل خامد(٢) حامل السيفين الثقيلين والرمحين الطويلين، ومكسّر الرايات في غطامط(٣) الغمرات ( ومفرّج الكربات عن وجه خيرة البريّات ).

فو الله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل إلى محالب أُمّه، هبلتكم الهوابل، لو بحت بما أنزل الله فيكم في كتابه، لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة، ولخرجتم من بيوتكم هاربين وعلى وجوهكم هائمين، ولكنّي أهوّن وجدي حتى ألقى ربّي بيدٍ جذّاء، صفراء من لذّاتكم، خلواً من طحنائكم، فما مثل دنياكم عندي إلاّ كمثل غيمٍ علا فاستعلى، ثم استغلظ فاستوى، ثم تمزّق فانجلى، رويداً فعن قليل ينجلي لكم القسطل(٤) ، فتجدون(٥) ثمر فعلكم

____________________

(١) في المصدر: وأنا المميت المائت خوّاض المنايا.

(٢) ( حالك خ م ).

(٣) غطامط: عظيم الأمواج.

(٤) القسطل: الغبار الساطع في الحرب.

(٥) فتجنون خ م.

١٥٠

مرّاً، أم تحصدون غرس أيديكم ذعافاً(١) ممزّقاً(٢) ، وسمّاً قاتلاً، وكفى بالله حكماً وبرسوله خصيماً وبالقيامة موقفاً، ولا أبعد الله فيها سواكم، ولا أتعس فيها غيركم، والسلام على مَن اتبع الهدى.

فلمّا أن قرأ أبو بكر الكتاب، رعب من ذلك رعباً شديداً، وقال: يا سبحان الله ما أجرأه عليّ وأنكله على(٣) غيري.

معاشر المهاجرين والأنصار، تعلمون أنّي شاورتكم في ضياع فدك بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلتم: إنّ الأنبياء لا يورّثون، وإنّ هذه أموال يجب أن تضاف إلى مال الفيء، وتصرف في ثمن الكراع والسلاح وأبواب الجهاد ومصالح الثغور، فأمضينا رأيكم، ولم يمضه مَن يدّعيه، وهو ذا يبرق وعيداً ويرعد تهديداً إيلاءً بحق نبيّه أن يمضخها دماً ذعافاً.

والله لقد استقلت منها فلم أُقل، واستعزلتها عن نفسي فلم أُعزل، كلّ ذلك احترازاً من كراهية ابن أبي طالب وهرباً من نزاعه، ومالي ولابن أبي طالب هل نازعه أحد ففلج عليه؟

فقال عمر: أبيت أن تقول إلاّ هكذا، فأنت ابن مَن لم يكن مقداماً في الحروب، ولا سخيّاً في الجدوب، سبحان الله ما أهلع(٤) فؤادك وأصغر نفسك!!! صفيت لك سجالاً(٥) لتشربها، فأبيت إلاّ أن نظمأ كظمائك، وأنخت لك رقاب العرب، وثبّت لك إمارة أهل الإشارة والتدبير.

ولولا ذلك، لكان ابن أبي طالب قد صيّر عظامك رميماً، فاحمد الله على ما قد وهب لك منّي، واشكره على ذلك، فإنّه مَن رقى منبر

____________________

(١) الذعاف: السمّ الذي يقتل من ساعته.

(٢) نسخة المصدر ممقراً: وهو المرّ.

(٣) عن غيري خ م.

(٤) الهلع: الجبن.

(٥) السجال: دلو عظيم.

١٥١

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان حقيقاً عليه أن يحدث لله شكراً، وهذا علي بن أبي طالب، الصخرة الصمّاء التي لا ينفجر ماؤها إلاّ بعد كسرها، والحيّة الرقشاء التي لا تجيب إلاّ بالرقى، والشجرة المرّة التي لو طليت بالعسل لم تنبت إلاّ مرّاً، قتل سادات قريش فأبادهم وألزم آخرهم العار ففضحهم، فطب نفساً، فلا تغرّنك صواعقه ولا يهولنّك رواعده وبارقه، فإنّي أسدّ بابه قبل أن يسدّ بابك، فقال له أبو بكر: ناشدتك الله يا عمر لما أن تركتني من أغاليطك وتربيدك.

فو الله لو همّ [ ابن أبي طالب ] بقتلي وقتلك لقتلنا بشماله دون يمينه، ما ينجينا منه إلاّ ثلاث خصال، إحداها: أنّه واحد لا ناصر له، والثانية: أنّه يتبع(١) فينا وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والثالثة: فما من هذه القبائل أحد إلاّ وهو يتخضمه كتخضم ثنيّة الإبل أوان الربيع، فتعلم لولا ذلك لرجع الأمر إليه ولو كنّا له كارهين، أما إنّ هذه الدنيا أهون عليّ من لقاء أحدنا الموت الخ(٢) .

ذكر خطبة فاطمة الزهراءعليها‌السلام في مسجد أبيها (ص)

الاحتجاج، روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائهعليه‌السلام ، أنّه لما أجمع أبو بكر [ وعمر ] على منع فاطمةعليها‌السلام فدكاً وبلغها ذلك، لاثت(٣) خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها(٤) وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم.

____________________

(١) ينتهج خ م.

(٢) الاحتجاج: ج١ ص١٢٧ - ١٣١ - ١٤٥، وأيضاً أخرجه العلاّمة المجلسي ( ره ) في البحار: ج٨ ط ق ص٩٤ مع مزيد بيان منه في عباراته فراجع هناك.

(٣) لاثت خمارها: أي لفّته.

(٤) والجلباب: الرداء والإزار.

١٥٢

فنيطت(١) دونها ملاءة فجلست، ثم أنّت أنّة أجهش(٢) القوم لها بالبكاء فارتجّ المجلس، ثم أمهلت هنيئة حتّى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فعاد القوم في بكائهم، فلمّا أمسكوا عادت في كلامها، فقالت (صلوات الله عليها):

الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدّم من عموم نعم ابتداها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن أولاها، جمّ عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنّى بالندب إلى أمثالها.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمّن القلوب موصولها، وأنار في الفكر معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيّته، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، إلى أن قالت (سلام الله عليها):

أيّها الناس، اعلموا أنّي فاطمة، وأبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أقول عوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً،( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) (٣) ، فإن تعزوه وتعرفوه: تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، ولنعم المـُعزى إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

____________________

(١) نيطت: علقت والملاءة: الإزار.

(٢) أجهش القوم: أي تهيّئوا.

(٣) التوبة: ١٢٨.

١٥٣

فبّلغ الرسالة صادعاً بالنذارة، مائلاً عن مدرجة(١) المشركين، ضارباً ثبجهم(٢) ، آخذاً بأكظامهم(٣) ، داعياً إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، يكسر الأصنام وينكث الهام، حتّى انهزم الجميع وولّوا الدّبر، حتّى تفرّى(٤) الليل عن صبحه وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدّين وخرست شقاشق(٥) الشياطين، وأطاح وشيظ النفاق(٦) ، وانحلّت عُقَدُ الكفر والشقاق، وفُهتُم بكلمة الإخلاص في نفرٍ من البيض الخماص(٧) .

وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب ونهزة الطامع(٨) وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطًَّرَق(٩) ، وتقتاتون الورق، أذلّة خاسئين، تخافون أن يتخطّفكم النّاس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد اللّتيا والتي، وبعد أن مُني بُبهم(١٠) الرجال، وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب.

كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أو نَجَم قرن للشيطان، وفغرت فاغرة(١١) من المشركين، قذف أخاه في لهواتها(١٢) ، فلا ينكفئ حتّى يطأ

____________________

(١) المدرجة: المسلك والمذهب.

(٢) الثبج: معظم الشيء.

(٣) الكظم بالتحريك مخرج النفس من الحلق.

(٤) تفرّى الليل: أي انشق حتى ظهر وجه الصباح.

(٥) شقاشق: جمع شقشقة وهي شيء كالرية يخرجها البعير من فيه إذا هاج.

(٦) طاح: هلك. والوشيظ: السفلة والرذل من الناس.

(٧) البيض الخماص: المراد بهم أهل البيتعليه‌السلام .

(٨) مذقة الشارب: شربته. نهزة الطامع: الفرصة أي محل نهزته وفرصته.

(٩) الطَّرَق: بالفتح ماء السماء الذي تبول فيه الإبل.

(١٠) بُهم الرجال: أي شجعانهم.

(١١) فغر فاه: أي فتحه.

(١٢) واللهوات: جمع لهات: وهي اللحمة التي في أقصى الفم.

١٥٤

صماخها بأخمصه(١) ويخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيّداً في أولياء الله، مشمّراً ناصحاً مُجِدّاً كادحاً، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون(٢) فاكهون آمنون، تتربّصون بنا الدوائر، وتتوكَّفون الأخبار(٣) ، وتنكصون عند النزال، وتفرّون عند القتال.

فلمّا اختار الله لنبيّه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه؛ ظهر فيكم حسيكة النفاق، وسمل(٤) جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلين، وهدر فنيق(٥) المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم، فألقاكم لدعوته مستجيبين وللغرة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً، وأحمشكم(٦) فألفاكم غِضاباً، فوسمتم غير إبلكم وأوردتم غير مشربكم.

هذا، والعهد قريب، والكَلْم رحيب، والجرح لما يندمل، والرسول لما يقبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة،( أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) .

فهيهات منكم، وكيف بكم، وأنّى تؤفكون، وكتاب الله بين أظهركم، أُموره ظاهرة وأحكامه زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجره لايحة، وأوامره واضحة، قد خلّفتموه وراء ظهوركم، أرغبةً عنه تريدون، أم بغيره تحكمون،( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) ،( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) .

____________________

(١) ينكفئ: يرجع. والأخمص: مالا يصيب الأرض من باطن القدم.

(٢) وادعون: ساكنون.

(٣) أي تتوقّعون.

(٤) حسيكة النفاق: أي عداوته. سمل: أي صار خَلِقاً بالياً.

(٥) الهدير: ترديد البعير صوته في حنجرته. والفنيق: الفحل المكرم من الإبل.

(٦) أحمشكم: أي حملكم. أو حَمّسكم.

١٥٥

ثمّ لم تلبثوا إلاّ ريث أن تسكن نفرتها ويسلس قيادها، ثمّ أخذتم تورون وقدتها وتهيجون جمرتها، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، وإطفاء أنوار الدين الجلي، وإخماد سنن النبيّ الصّفيّ، تسرّون حسواً في ارتغاء(١) ، وتمشون لأهله وولده في الخَمَر والضرّاء، ويصير منكم على مثل حزّ المـُدى(٢) ووخز السنان(٣) في الحشاء، وأنتم الآن تزعمون: أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهليّة تبغون ومَن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟!! أفلا تعلمون؟ بلى قد تجلّى لكم كالشمس الضاحية أنّي ابنته، أيّها المسلمون أأغلب على ارثيه؟!

يا ابن أبي قحافة، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً، أفعلى عمدٍ تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول:

( وورث سليمانُ داود ) (٤) ، وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا إذ قال:( فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (٥) وقال:( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) (٦) ، وقال: ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأُنثيين ) (٧) وقال:( إن ترك خيراً الوصيّة للوالدين والأقربين بالمعروف حقّاً على المتقّين ) (٨) وزعمتم أن لا حظوة(٩)

____________________

(١) والارتغاء هو شرب الرغوة وهي اللبن المشوب بالماء يضرب به مثلاً، والحسو: هو الشرب شيئاً بعد شيء. والخَمَر: ما يترك من الشجر وغيره. والضرّاء: الأرض المنخفظة.

(٢) الحَزّ: القطع. والمـُدى: السكّين.

(٣) ووخز السنان: أي جراحته في الأحشاء.

(٤) النمل: ١٦.

(٥) مريم: ٥ - ٦.

(٦) الأنفال: ٧٥.

(٧) النساء: ١١.

(٨) البقرة: ١٨٠.

(٩) الحظوة: المكانة.

١٥٦

لي ولا وارث من أبي ولا رحم بيننا، أفخصّكم الله بآيةٍ أخرج منها أبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أم هل تقولون إنّ أهل ملّتين لا يتوارثان، أوَلست أنا وأبي من أهل ملّةٍ واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي؟ فدونكما مخطومة مرحولة(١) تلقاك يوم حشرك. فنِعمَ الحكم الله، والزعيم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون ولا ينفعكم إذ تندمون، ولكلّ نبأ مستقرّ وسوف تعلمون مَن يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم.

ثم رنت (سلام الله عليها) بطرفها نحو الأنصار فقالت:

يا معشر النقيبة وأعضاد الملّة وأنصار الإسلام، ما هذه الغميزة في حقّي والسِّنَة(٢) عن ظلامتي؟! أما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبي يقول: ( المرء يُحفظ في ولده ) سرعان ما أحدثتم وعجلان ذا إهالةٍ(٣) ، ولكم طاقة بما أحاول، وقوّة على ما أطلب وأزاول.

وساقت (سلام الله عليها) الخطبة الشريفة إلى قولها:

ألا وقد قلت ما قلت على معرفة منّي بالخذلة(٤) التي خامرتكم، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم، ولكنّها قبضة النفس ونفثة الغيظ وخَوَر القناة(٥) وبثّة الصدر وتقدمة الحجّة، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر، نقبة الخف، باقية العار، موسومة بغضب الله وشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة

____________________

(١) مخطومة: من الخطام بالكسر وهو كل ما يدخل في أنف البعير ليقاد به. والرحل بالفتح: هو للناقة كالسرج للبعير.

(٢) السُنة: النوم الخفيف.

(٣) وسرعان ذا إهالة: مثل يضرب لمن يخبر بكينونة الشيء قبل وقته.

(٤) الخذلة: ترك النصر. خامرتكم: خالطتكم.

(٥) الخور: الضعف. والقناة: السنان.

١٥٧

التي تطّلع على الأفئدة، فبعين الله ما تفعلون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.

وأنا ابنة نذيرٍ لكم بين يدي عذاب شديد، فاعملوا إنّا عاملون وانتظروا إنّا منتظرون(١) .

ولقد أجاد الشيخ الأزري (رحمه الله) في هذا المقام في قوله:

نقضوا عهدَ أحمد في أخيه

وأذاقوا البتولَ ما أشجاها

يومَ جاءت إلى عديٍّ وتيمٍ

ومن الوجد ما أطال بكاها

فدعت واشتكت إلى الله شجوى

والرواسي تهتزّ من شكواها

لست أدري إذ رُوِّعت وهي حسرى

عاند القوم بعلها وأباها

تعظ القوم في أتمّ خطابٍ

حكت المصطفى به وحكاها

هذه الكتب فاسألوها تروها

بالمواريث ناطقاً فحواها

وبمعنى ( يوصيكم الله ) أمرٌ

شاملٌ للأنام في قرباها

فاطمأنّت لها القلوب وكادت

أن تزول الأحقاد ممّن طواها

أيّها القوم راقبوا الله فينا

نحن من روضة الجليل جناها

واعلموا أنّنا مشاعر دين الله

فيكم فأكرموا مثواها

ولنا من خزائن الغيب فيضٌ

ترد المهتدون منه هداها

أيّها الناس أيّ بنتِ نبيٍّ

عن مواريثه أبوها زواها

كيف يزوي عنّي تراثي عتيقٌ

بأحاديث من لدنه افتراها

كيف لم يوصنا بذلك مولانا

وتيماً من دوننا أوصاها

هل رآنا لا نستحق اهتداءً

واستحقّت تيم الهدى فهداها

أم تراه أضلّنا في البرايا

بعد علمٍ لكي نصيب خطاها

أنصفوني من جائرَين أضاعا

حرمة المصطفى وما رعياها

____________________

(١) الاحتجاج: ج١ ص١٣١ - ١٤٩.

١٥٨

عود إلى بدءٍ

فأجابها أبو بكر عبد الله بن عثمان، فقال: يا بنت رسول الله، لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفاً كريماً، رؤوفاً رحيماً، وعلى الكافرين عذاباً أليماً وعقاباً عظيماً، فإن عَزَوناه وجدناه أباك دون النساء، وأخاً لبعلك دون الأخلاّء(١) ( الإخاء خ ل ) آثره على كل حميم، وساعده في كلّ أمر جسيم، لا يحبكم إلاّ كل سعيد، ولا يبغضكم إلاّ كل شقي، فأنتم عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطيّبون، والخيرة المنتجبون، على الخير أدَلّتُنا، وإلى الجنّة مسالكنا، وأنتِ يا خيرة النساء وابنة خير الأنبياء، صادقة في قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقّك ولا مصدودة عن صدقك.

ووالله ما عدوت رأي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا عملت إلاّ بإذنه، وإنّ الرائد لا يكذب أهله!! وإنّي أُشهِد الله وكفى به شهيداً، أنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضة ولا داراً ولا عقاراً، وإنّما نورث الكتب ( والكتاب خ ل ) والحكمة والعلم والنبوّة.

وما كان لنا من طعمة فلوَليّ الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه، وقد جعلنا ما حاولته في الكُراع(٢) والسلاح يقاتل به المسلمون، ويجاهدون الكفّار، ويجالدون المردة الفجّار، وذلك بإجماع من المسلمين!! لم أتفرّد به وحدي، ولم أستبدّ بما كان الرأي فيه عندي، وهذه حالي ومالي، هي لك وبين يديك!!! لا تُزوى عنك ولا تُدّخَرُ دونك، وأنت سيّدة أُمّة أبيك، والشجرة الطيّبة لبنيك، لا يدفع مالَكِ من فضلك ولا يوضع من فرعك وأصلك، حكمك نافذ فيما ملكت يداي!!! فهل ترين أن أخالف في ذلك أباكصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقالتعليها‌السلام : سبحان الله، ما كان أبي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كتاب الله صادفاً، ولا لأحكامه مخالفاً، بل كان يتّبع أثره ويقفو سوره، أفتجمعون إلى

____________________

(١) وأخا إلفك دون الأخلاّء: خ م.

(٢) الكراع: الأنعام مثل الإبل والخيل.

١٥٩

العذر [ الغدر ] اعتلالاً عليه بالزّور، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته، هذا كتاب الله حكماً عدلاً وناطقاً فصلاً يقول:

( يرثني ويرث من آل يعقوب ) (١) ، ويقول:( وورث سليمان داود ) (٢) ، فبيّن عزّ وجلّ فيما وزّع عليه من الأقساط، وشرع من الفرائض والميراث، وأباح من حظّ الذّكران والإناث، ما أزاح به علّة المبطلين وأزال التظنّي والشّبهات في الغابرين، كلاّ بلا( سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) .

فقال أبو بكر: صدق الله وصدق رسوله، وصدقت ابنته، أنت معدن الحكمة وموطن الهدى والرحمة، وركن الدّين وعين الحجّة، لا أُبعد صوابك ولا أُنكر خطابك، هؤلاء المسلمون بيني وبينك، قلّدوني ما تقلّدت، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت، غير مكابر ولا مستبدُّ ولا مستأثر، وهم بذلك شهود.

فالتفتت فاطمة (صلوات الله عليها) [ إلى الناس ] وقالت:

معاشر الناس المسرعة إلى قيلٍ باطل، المغضِية على الفعل القبيح الخاسر،( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ؟ كلاّ بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم، فأخذ بسمعكم وأبصاركم، ولبئس ما تأوّلتم، وساء ما به أشرتم، وشر ما منه اغتصبتم، لتجدن والله محمله ثقيلاً، وغبّه وبيلاً، إذا كشف لكم الغطاء، وبان ما وراء الضرّاء، وبدا لكم من ربّكم ما لم تكونوا تحتسبون، وخسر هناك المبطلون.

ثم عطفت على قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت:

قد كان بعدك أنباءٌ وهنبثةٌ

لو كنتَ شاهدها لم تكثر الخطبُ

إنّا فقدناك فقدَ الأرض وابلَها

واختلّ قومك فاشهدهم وقد نكبوا

____________________

(١) مريم: ٦.

(٢) النمل: ١٦.

١٦٠