بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) 0%

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) مؤلف:
الناشر: فاروس
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 207

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عباس بن محمد رضا بن أبي القاسم القمي (المحدث القمي)
الناشر: فاروس
تصنيف: الصفحات: 207
المشاهدات: 97707
تحميل: 9408

توضيحات:

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 207 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 97707 / تحميل: 9408
الحجم الحجم الحجم
بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

بيت الأحزان في مصائب فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)

مؤلف:
الناشر: فاروس
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بالقرآن، ثم ترى نفسها ذليلةً بعد أن كانت في أيام أبيها عزيزة.

وكانت ترثي أباها وتقول:

ماذا على مَن شمّ تربة أحمدٍ

أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا

صُبّت عليَّ مصائبٌ لو أنّها

صُبّت على الأيّام صرن لياليا(١)

وتقول أيضاً:

إذا مات يوماً ميّتٌ قلَّ ذكره

وذكر أبي مذ مات والله أزيد

تذكّرت لما فرّق الموتُ بيننا

فعزّيت نفسي بالنبيّ محمّد

فقلت لها إنّ الممات سبيلنا

ومَن لم يمت في يومه مات في غد

وتقول أيضاً:

إذا اشتدّ شوقي زرت قبرك باكياً

أنوح وأشكو لا أراك مجاوبي

فيا ساكن الصحراءِ(٢) علّمتني البكا

وذكرك أَنساني جميع المصائبِ

فإن كنت عنّي في التراب مُغَيَّباً

فما كنتَ عن قلبي الحزين بغائبِ

وكان أمير المؤمنينعليه‌السلام اغتسل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قميصه، فكانت فاطمةعليها‌السلام تقول: أرني القميص، فإذا شمّته غشي عليها، فلمّا رأى ذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام غيّبه(٣) .

بكاؤها عند استماع ذكر أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله في الأذان

وروي أنّها قالت ذات يوم: إنّي أرغب أن أسمع صوت مؤذّن أبي

____________________

(١) وفي هامش نسخة المطبوع من الكتاب عن المؤلِّف ( ره ): قال قال المحقّق في المعتبر والشهيد في الذكرى: رُوي أنّها أخذت قبضة من تراب قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوضعته على عينها وقالت: ماذا الخ.

(٢) ( الغبراء - خ ل ).

(٣) البحار: ج٤٣ ص١٥٧.

١٨١

بالأذان، فبلغ ذلك بلالاً، - وكان امتنع من الأذان بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فأخذ في الأذان، فلّما قال: الله أكبر، الله أكبر، ذكرت أباها وأيّامه فلم تتمالك من البكاء، فلما بلغ إلى قوله ( أشهد أنّ محمّداً رسول الله ) شهقت فاطمةعليها‌السلام وسقطت لوجهها وغشي عليها، فقال الناس لبلال: أَمْسِك يا بلال، فقد فارقت ابنة رسول الله الدنيا، وظنّوا أنّها قد ماتت، فقطع أذانه ولم يتمّه، فأفاقت فاطمةعليها‌السلام فسألته أن يتمّ الأذان، فلم يفعل وقال لها: يا سيّدة النسوان، إنّي أخشى عليك ممّا تنزلينه بنفسك إذا سمعت صوتي بالأذان، فأعفته عن ذلك(١) .

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه قال: عاشت فاطمةعليها‌السلام بعد أبيها خمسة وسبعين يوماً، لم تُرَ كاشرةً ولا ضاحكة، تأتي قبور الشهداء في كلّ جمعة مرّتين، الاثنين والخميس، فتقول: هاهنا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هاهنا كان المشركون(٢).

وفي رواية أُخرى: كانت تصلّي هناك وتدعو حتّى ماتت (صلوات الله عليها)(٣).

وروي عن محمود بن لبيد قال: لما قُبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كانت فاطمةعليها‌السلام تأتي قبور الشهداء، وتأتي قبر حمزة وتبكي هناك، فلمّا كان في بعض الأيام أتيت قبر حمزة ( ره ) فوجدتها تبكي هناك، فأمهلتها حتّى سكنت، فأتيتها وسلّمت عليها وقلت: يا سيّدة النّسوان، قد والله قطعت نياط قلبي(٤) من بكائك، فقالت: يا أبا عمر، ويحقّ لي البكاء، فلقد أُصِبت بخير الآباء

____________________

(١) البحار: ج١ ص١٥٧.

(٢) الكافي: ج٣ باب زيارة القبور، ج٣، تعليق سماحة محمد جعفر شمس الدين. ط دار التعارف.

(٣) البحار: ج٤٣ ص١٥٩.

(٤) نياط: عرق غليظ ينط به القلب.

١٨٢

رسول الله، وا شوقاه إلى رسول الله، ثم أنشأت تقول:

إذا مات يوماً ميّت قلّ ذكْرُهُ

وذِكْرُ أبي مذ مات والله أكثرُ(١)

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: إنّ فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكثت بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستين يوماً، ثم مرضت فاشتدّت علّتها، فكان من دعائها في شكواها: يا حيّ يا قيوم، برحمتك أستغيث فأغثني، اللّهمّ زحزحني عن النار وأدخلني الجنّة، وألحقني بأبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول لها: يعافيك الله ويبقيك، فتقول: يا أبا الحسن، ما أسرع اللحاق بالله، وأوصته أن يتزوج أُمامة بنت أبي العاص وقالت: بنت أختي، وتحنو [ وتحنّن في البحار ] على ولديّ(٢) .

وصيتها لعلّيعليهما‌السلام

وفي رواية أُخرى قالت لأمير المؤمنينعليه‌السلام : إنّ لي إليك حاجة يا أبا الحسن، قال: تُقضى يا بنت رسول الله، فقالت: نشدتك بالله وبحق محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يصلّي عليّ أبو بكر وعمر، فإنّي لا كتمتك حديثاً. فقالت: قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا فاطمة، إنّك أوّل مَن يلحق بي من أهل بيتي، فكنت أكره أن أسوءك(٣) .

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال: بدو مرض فاطمةعليها‌السلام بعد خمسين ليلة من وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعلمت أنّها الوفاة، فاجتمعت لذلك تأمر عليّاًعليه‌السلام بأمرها، وتوصيه بوصيّتها، وتعهد إليه عهودها، وأمير المؤمنينعليه‌السلام يجزع لذلك ويطيعها في جميع ما تأمره، فقالت: يا أبا الحسن إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد إليّ وحدثني أنّي أوّل أهله لحوقاً به، ولا بدّ ممّا لا بدّ

____________________

(١) كفاية الأثر: ص١٩٨.

(٢) البحار: ج٤٣ ص٢١٧.

(٣) البحار: ج٨، ط قم، ص٩٠.

١٨٣

منه، فاصبر لأمر الله وارض بقضائه. قال: وأوصته بغسلها وجهازها ودفنها ليلاً، ففعل(١).

وعن ابن عباس، قال: رأت فاطمةعليها‌السلام في منامها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قالت: فشكوت إليه ما نالنا من بعده، قالت: قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لكم الدّار الآخرة الّتي أُعدّت للمتقين، وإنّك قادمة عليَّ عن قريب(٢) .

____________________

(١) البحار: ج٤٣ ص٢٠١.

(٢) البحار: ج٤٣ ص٢١٨.

١٨٤

فصل

استيذان الشيخين لعيادتهاعليها‌السلام

لما مرضت فاطمةعليها‌السلام مرضها الذي ماتت فيه، وصّت إلى علي بن أبي طالبعليه‌السلام أن يكتم أمرها، ويخفي خبرها، ولا يؤذن أحداً بمرضها، ففعل (سلام الله عليه) ذلك، وكان يمرِّضها بنفسه، وتعينه على ذلك أسماء بنت عُميس على استسرار بذلك كما وصّت به(١) .

وقد أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مرضها ذلك، وقال بعد أن ذكر ما يصيبها من الظلم والضيم، ثم يبتدي بها الوجع فتمرض، فيبعث الله إليها مريم بنت عمران تمرضها وتؤنسها في علتها، الخبر(٢) .

فلمّا ثقلت، وعلم الرجلان بذلك، أتياها عايدين، واستأذنا عليها فأبت أن تأذن لهما، فأتى عمر عليّاًعليه‌السلام فقال له: إنّ أبا بكر شيخ رقيق القلب، وقد كان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار، فله صحبته، وقد أتيناها غير هذه المرّة مراراً نريد الإذن عليها وهي تأبى أن تأذن لنا، فإن رأيت أن تستأذن لنا عليها فافعل، قال: نعم، فدخل عليّعليه‌السلام على فاطمةعليها‌السلام فقال: يا بنت رسول الله قد كان من هذين الرجلين ما قد رأيت، وقد تردَّدا مراراً كثيرة

____________________

(١) أمالي المفيد: ص٢١٨، البحار: ج٤٣ ص٢١١.

(٢) أمالي الصدوق: ص١١٤، ط الإسلامية.

١٨٥

ورددتهما ولم تأذني لهما، وقد سألاني أن أستأذن لهما عليك.

فقالت: والله لا آذن لهما، ولا أكلمّهما كلمة من رأسي حتّى ألقى أبي فأشكوهما إليه بما صنعاه وارتكباه منّي، قال عليعليه‌السلام : فإنّي ضمنت لهما ذلك، قالت: إنْ كنت ضمنت لهما شيئاً، فالبيت بيتك، والنساء تتبع الرِّجال، لا أُخالف عليك بشيء، فإذن لمـَن أحببت، فخرجعليه‌السلام فأذن لهما.

فلمّا وقع نظرهما على فاطمة (صلوات الله عليها)، سلّما عليها فلم تردَّ عليهما، فحوَّلت وجهها عنهما، فتحولاّ واستقبلا وجهها، حتّى فعلت مراراً وقالت: يا علي، جاف الثوب، وقالت لنسوة حولها: حوّلن وجهي، فلمّا حوَّلن وجهها حوَّلا إليها، وسألا أن ترضى عنهما وتصفح عمّا كان منهما إليها، فقالت فاطمةعليها‌السلام :

أنشدكما بالله، أتذكران أنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استخرجكما في جوف الليل بشيءٍ كان حدث من أمر عليٍّعليه‌السلام ؟ فقالا: اللّهمّ نعم، فقالت: أُنشُدكُما بالله، هل سمعتما النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: فاطمة بضعة منّي وأنا منها، مَن آذاها فقد آذاني ومَن آذاني فقد آذى الله، ومن آذاها بعد موتي كمَن آذاها في حياتي، ومَن آذاها في حياتي كمَن آذاها بعد موتي؟ قالا: اللّهمّ نعم، فقالت: الحمد لله، ثم قالت:

اللّهمّ إنّي أُشهدك فاشهدوا يا مَن حضرني، أنَّهما قد آذياني في حياتي وعند موتي، والله لا أُكلّمكما من رأسي كلمةً حتّى ألقى ربّي فأشكوكما إليه بما صنعتما بي وارتكبتما منّي(١) .

وفي رواية أُخرى: فرفعت يدها إلى السماء فقالت: اللّهمّ إنّهما قد آذياني فأشكوهما إليك وإلى رسولك، ولا والله لا أرضى عنكما أبداً حتّى ألقى

____________________

(١) البحار: ج٤٣ ص٢٠٣ - ٢٠٤.

١٨٦

أبي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره بما صنعتما، فيكون هو الحاكم فيكما، قال: فعند ذلك دعا أبو بكر بالويل والثّبور وقال: ليت أُمّي لم تلدني(١) .

فقال عمر: عجباً للناس كيف ولّوك أمورهم؛ وأنت شيخ قد خرفت، تجزع لغضب امرأة وتفرح برضاها، وما لمن غضب امرأة، وقاما وخرجا(٢) .

فلمّا خرجا، قالت فاطمةعليها‌السلام لأمير المؤمنينعليه‌السلام : قد صنعت ما أردت؟ قال: نعم، قالت: فهل أنت صانع ما آمرك؟ قال: نعم، قالت: فإنّي أنشدك الله أن لا يصلّيا على جنازتي ولا يقوما على قبري(٣) .

وروي أنّها قالت لأسماء بنت عميس: إنّي قد استقبحت ما يصنع بالنساء أن يطرح على المرأة الثوب فيصفها لمـَن رأى، وقالت: إنّي نحلت وذهب لحمي، ألا تجعلين لي شيئاً يسترني، قالت أسماء: إنّي إذ كنت بأرض الحبشة رأيتهم يصنعون شيئاً، أفلا أصنع لك، فإن أعجبك أصنع لك؟ قالت: نعم، فدعت بسرير فاكبَّته لوجهه ثم دعت بجرائد فشدّته على قوائمه، ثم جلّلته ثوباً، فقالت هكذا رأيتهم يصنعون، فقالت (سلام الله عليها): اصنعي لي مثله أُستريني، سترك الله من النّار(٤).

ورُوي أنّها لما رأت ما صوّرته أسماء تبسّمت. وما رؤيت مبتسمة إلاّ يومئذٍ، وقالت: ما أحسن هذا وأجمله لا تُعرف به المرأة من الرجل(٥) .

عيادة نساء المهاجرين والأنصار لها وما قالت في جوابهن

في الاحتجاج، قال سويد بن غفلة: لما مرضت سيّدتنا فاطمةعليها‌السلام

____________________

(١) ن. م: ج٤٣ ص١٩٩.

(٢) البحار: ج٤٣ ص٢٠٤.

(٣) لم يوجد في البحار والعوالم عبارة المتن بعينها ولكن مضمونه موجود متواتر.

(٤) العوالم: ج٦ ص٢٩١. البحار: ج٤٣ ص٢١٣.

(٥) كشف الغمّة: ج١ ص٥٣ - ٥٤، وذخائر العقبى لمحب الدين الطبري: ص٥٣.

١٨٧

المرضة التي تُوفّيت فيها، دخلت عليها نساء المهاجرين والأنصار لِيَعِدنها، فقلن لها: كيف أصبحت من علّتكِ يا ابنة محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ فحمدت الله وصلّت على أبيها وقالت:

أصبحت والله عائفة لدنياكن، قالية لرجالكن، لفظتهم بعد أن عجمتهم، وشنأتهم بعد أن سبرتهم، فقبحاً لفلول الحد واللعب بعد الجد، وقرع الصفاة، وصدع القناة، وخطل الآراء، وزلل الأهواء، وبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون، لا جرم لقد قلّدتهم ربقتها، وحملتهم أوقتها، وشنت عليهم غاراتها، فجدعاً وسحقاً وعقراً وبعداً للقوم الظالمين، ويحهم، أنّى زعزعوها عن رواسي الرّسالة، وقواعد النبوّة والدلالة، ومهبط الوحي ( خ ) والرّوح الأمين والطَّبين بأُمور الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين، وما الذي نقموا من أبي الحسن، نقموا منه واللهِ نكيرَ سيفه، وقلّة مبالاته بحتفه، وشدّة وطأته، ونكال وقعته، وتنمّره في ذات الله.

وتالله لو مالوا عن المحجّة اللائحة، وزالوا عن قبول الحجّة الواضحة، لردّهم إليها وحملهم عليها، ولسار بهم سيراً سُجُحاً، لا يكلم خشاشه، ولا يكلّ سائره، ولا يملّ راكبه، ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً رويّاً، تطفح ضفّتاه، ولا يترنّق جانباه. إلى أن قالت (سلام الله عليها):

استبدلوا والله الذُّنَابى بالقوادم، والعَجُز بالكاهل، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً، ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون، ويحهم( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لا يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (١) . أما لعمري لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج، ثم احتلبوا مِلْءَ القعب دماً عبيطاً وذُعافاً مبيداً، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غبَّ ما أسّس الأوّلون، ثم طيبوا عن دنياكم أنفساً، واطمأنّوا للفتنة جأشاً،

____________________

(١) يونس: ٣٥.

١٨٨

وأبشروا بسيفٍ صارمٍ وسطوة معتدٍ غاشم، وهرجٍ شامل، واستبدادٍ من الظالمين، يدع فيئكم زهيداً وجمعكم حصيداً، فيا حسرة لكم، وأنّى بكم وقد عميت عليكم أن لزمكموها وأنتم لها كارهون.

قال سويد بن غفلة: فأعادت النساء قولها على رجالهن؛ فجاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين وقالوا: يا سيّدة النساء، لو كان أبو الحسنعليه‌السلام ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد ونحكم العقد، لما عدلنا عنه إلى غيره. فقالتعليها‌السلام : إليكم عنّي فلا عذر بعد تعذيركم، ولا أمر بعد تقصيركم(١) .

وفي البحار عن العيّاشي: قال: دخلت أُمّ سلمة على فاطمةعليها‌السلام فقالت لها: كيف أصبحت عن ليلتك يا بنت رسول الله؟ قالت: قالت: أصبحت بين كمدٍ وكرب، فقد النبي وظلم الوصيّ، هتك والله حجابه مَن أصبحت إمامته مقيّضة(٢) على غير ما شرع الله في التنزيل، وسنّها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التأويل، ولكنّها أحقاد بدريّة وترات أُحُدية كانت عليها قلوب النفاق مكمنة [ مكتمنة ] لإمكان الوشاة، فلمّا استهدف الأمر، أرسلت علينا شآبيب الآثار من مخيلة الشّقاق، فيقطع وتر الإيمان من قسيِّ صدورها، ولبئس على ما وعد الله مَن حفظ الرِّسالة وكفالة المؤمنين، أحرزوا عائدتهم غرور الدنيا بعد استنصار ممن فتك بآبائهم في مواطن الكرب ومنازل الشهادات(٣) .

____________________

(١) الاحتجاج: ج١ ص١٤٧.

(٢) في البحار مقبضة [ مقتبضة ].

(٣) البحار: ج٤٣ ص١٥٦، عوالم العلوم: ج٦ ص٢٥٠، والحديث موجود في المناقب ج٢ ص٢٠٣ قولهاعليها‌السلام : ( عائفة ) أي كارهة، و ( القالية ): المبغضة. ( لفظتهم ) أي رميتهم وطرحتهم. ( والعَجْم ): العضّ. و( شنأه ): كمنعه أبغضه. و ( سبرتهم ) أي اختبرتهم. و( الفلول ) بالضمّ: جمع فلّ بالفتح وهو الثلمة والكسر في حد السيف. و ( الخور ) بالفتح: الضعف. و ( القناة ) الرمح. و ( الخطل ): المنطق الفاسد ( وقرع الصفاة ): الصفاة الحجر الأملس أي جعلتم أنفسكم مقرعاً لخصامكم حتى قرعوا صفاتكم. و( صدع القناة ): شقّها. =

١٨٩

____________________

= ( الأوق ): الثقل ( شنّت ): أي فرّقت. الجدع: قطع الأنف. العقر: الجرح، والطّبين: الفطن الحاذق. والسُجح بضمّتين: اللّين السهل. والكَلم: الجرح. والخشاش بالكسر: ما يجعل في أنف البعير. النمير: الماء النامي يعني عين لا ينقطع ماؤها، وضفتا النهر: جانباه. وتطفح: أي تمتلئ حتى تفرض.

والترنوق: الطين الذي في الأنهار والمسيل، والمعنى أنّه لا ينقص الماء حتى يظهر الطين والحمأ من جانبي النهر. الذنابي: ذنب الطائر. ذعاف: داء قاتل. غبّ ما أسّس الأوّلون: يعني عاقبته. الجأش: الارتفاع والاضطراب. غشم أي ظلم.

أقول: توضيح الكلمات الغامضة في كلامهاعليها‌السلام أكثرها من البحار للعلاّمة المجلسي ( ره ).

١٩٠

فصل

وصيّتها لعليٍّعليهما‌السلام لإخفاء قبرها

عن روضة الواعظين، وغيره: مرضت فاطمةعليها‌السلام مرضاً شديداً، ومكثت أربعين ليلة في مرضها إلى أن توفّيت (صلوات الله عليها)، فلمّا نُعيت إليها نفسها، دعت أُمّ أيمن وأسماءِ بنت عميس، ووجّهت خلف عليعليه‌السلام وأحضرته، فقالت: يا ابن عم، إنّه قد نُعيت إليَّ نفسي، وإنّني لا أرى ما بي إلاّ أنّني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة، وأنا أُوصيك بأشياء في قلبي. قال لها عليعليه‌السلام : أوصيني بما أحببت يا بنت رسول الله، فجلس عند رأسها وأخرج مَن كان في البيت، ثم قالت:

يا ابن عمّ، ما عهدتني كاذبة ولا خائنة، ولا خالفتك منذ عاشرتني، فقال: معاذ الله، أنت أعلم بالله وأبرّ وأتقى وأكرم، وأشدّ خوفاً من الله أن أوبّخك بمخالفتي، قد عزّ عليّ مفارقتك وتفقّدك ( فقدك - خ ل )، إلاّ أنّه أمر لا بدّ منه، واللهِ جدّدت عليَّ مصيبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد عظمت وفاتك وفقدك، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون من مصيبة ما أفجعها وآلمها وأمضّها وأحزنها، هذه والله مصيبة لا عزاء لها، ورزيّة لا خلف لها، ثم بكيا جميعاً ساعة، وأخذ عليعليه‌السلام رأسها وضمّها إلى صدره، ثم قال: أوصيني بما شئت فإنّك تجديني أمضي فيها كما أمرتني به، وأختار أمرك على أمري، ثم

١٩١

قالت: جزاك الله عنّي خير الجزاء يا ابن عمّ رسول الله(١) .

ثمّ أوصته بأن يتزوّج بعدها أُمامة بنت أُختها زينب، وأن يتخذ لها نعشاً، وأن لا يشهد أحد جنازتها من الّذين ظلموا وأخذوا حقّها، وأن لا يصلّي عليها أحد منهم ولا من أتباعهم، وأن يدفنها بالليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار.

وعن مصباح الأنوار، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، عن آبائهعليهم‌السلام قال: إنّ فاطمةعليها‌السلام لما احتضرت أوصت عليّاًعليه‌السلام فقالت: إذا أنا متّ فتولّ أنت غسلي، وجهّزني، وصلّ عليّ، وأنزلني في قبري، وألحدني وسوّ التراب عليَّ، واجلس عند رأسي قبالة وجهي فأكثر من تلاوة القرآن والدّعاء، فإنّها ساعة يحتاج الميت فيها إلى أُنس الأحياء، وأنا أستودعك الله تعالى وأوصيك في ولديّ خيراً، ثم ضمّت إليها أُمّ كلثوم، فقالت له: إذا بلغت فلها ما في المنزل، ثم الله لها، فلمّا تُوفّيت فعل ذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام ، الخ(٢) .

وروي أنّها قالت لأمير المؤمنينعليه‌السلام : إذا توفّيت، لا تُعلم أحداً إلاّ أُمّ سلمة وأُمّ أيمن وفضّة، ومن الرجال ابنيَّ والعباس [ وعبد الله بن عباس خ ل ] وسلمان وعماراً والمقداد وأبا ذر وحذيفة، وقالت: إنّي قد احللتك من أن تراني بعد موتي فكن مع النسوة فيمن يغسلنني، ولا تدفنّي إلاّ ليلاً ولا تعلم أحداً قبري(٣) .

وعن جعفر بن محمد، عن آبائهمعليهم‌السلام قال: لما حضرت فاطمة الوفاة بكت، فقال لها أمير المؤمنينعليه‌السلام : يا سيّدتي ما يبكيك؟ قالت: أبكي لما تلقى بعدي، قال لها: لا تبكي، فو الله إنّ ذلك لصغير عندي في ذات الله، قال: وأوصته أن لا يؤذن بها الشيخين، ففعل(٤) .

____________________

(١) البحار: ج٤٣ ص١٩١. روضة الواعظين: ج١ ص١٥١. عوالم العلوم: ج٦ ص٢٧٤.

(٢) البحار: ج٨٢ ص٢٧.

(٣) دلائل الإمامة: ص٤٤.

(٤) البحار: ج٤٣ ص٢١٨.

١٩٢

وروى شيخ الطائفة: إنّه لما ثقلت فاطمةعليها‌السلام جاءها العباس بن عبد المطلب عائداً، فقيل له: إنّها ثقيلة وليس يدخل عليها أحد، فانصرف إلى داره وأرسل إلى عليعليه‌السلام فقال لرسوله: قل له ابن أخ عمّك يقرئك السلام ويقول لك: لله قد فجأني من الغمِّ بشكاة حبيبة رسول الله، وقرّة عينيه وعيني فاطمةعليها‌السلام ما هدّني، وإنّي لأظنّها أوَّلنا لحوقاً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والله يختار لها ويحبوها ويزلفها لديه، فإن كان من أمرها ما لا بدّ منه، فاجمع - أنا لك الفداء - المهاجرين والأنصار حتّى يصيبوا الأجر في حضورها والصلاة عليها، وفي ذلك جمال للدين.

فقال عليعليه‌السلام لرسوله، قال الرّاوي وهو عمّار أنا حاضر عنده: أبلغ عمّي السلام وقل: لا عدمت إشفاقك وتحنّنك، وقد عرفت مشورتك، ولرأيك فضله، إنّ فاطمة بنت رسول الله لم تزل مظلومة، من حقّها ممنوعة، وعن ميراثها مدفوعة، لم تُحفظ فيها وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا رُعي فيها حقّه ولا حقُّ الله عزّ وجلّ، وكفى بالله حاكماً ومن الظالمين منتقماً، وأنا أسألك يا عم، أن تسمح لي بترك ما أشرت به، فإنّها وصّتني بستر أمرها، الخ(١) .

وروى الفريقان عن أُمّ سلمى امرأة أبي رافع، قالت: اشتكت فاطمةعليها‌السلام شكواها الّتي قُبضت فيها، وكنت أمرّضها، فأصبحَتْ يوماً أسكنَ ما كانت، فخرج عليعليه‌السلام إلى بعض حوائجه، فقالت: اسكبي لي غُسلاً، فسكبت، فقامت واغتسلت أحسن ما يكون من الغسل، ثم لبست أثوابها الجدد، ثم قالت: افرشي لي فراشي وسط البيت، ثم استقبلت القبلة ونامت وقالت: أنا مقبوضة وقد اغتسلت، فلا يكشفَنّي أحد، ثم وضعت خدّها على يدها وماتت (صلوات الله عليها)(٢) .

____________________

(١) أمالي الشيخ: ج١ ص١٥٥. البحار: ج٤٣ ص٢٠٩.

(٢) عوالم العلوم فاطمة الزهراء: ج٦ ص٢٧٦. البحار: ج٤٣ ص ١٨٣، وذخائر العقبى للطبري: ص٥٣ - ٥٤ مع تفاوت في بعض الألفاظ.

١٩٣

سلامها (ع) على جبرئيل والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حين نزلا عليها

ورُوي أنّها ماتت ما بين المغرب والعشاء، وأنّها لما احتضرت نظرت نظراً حادّاً، ثم قالت: السلام على جبرئيل، السلام على رسول الله، اللّهمّ مع رسولك، الّلهمّ في رضوانك وجوارك ودارك دار السلام، ثم قالت: أترون ما أرى؟ فقيل لها: ما ترين؟ قالت: هذه مواكب أهل السماوات، وهذا جبرئيل، وهذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول: يا بنية أقدمي فما أمامك خير لك(١) .

وعن زيد بن علي، أنّها (سلام الله عليها) لما احتضرت، سلّمت على جبرئيل، وعلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى ملك الموت، وسمعوا حسّ الملائكة، ووجدوا رائحة طيب كأطيب ما يكون من الطّيب(٢) .

وعن أسماء بنت عميس، قالت: لما حضرت فاطمةعليها‌السلام الوفاة قالت لي: إنّ جبرئيل أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما حضرته الوفاة بكافور من الجنّة فقسّمه أثلاثاً، ثلثاً لنفسه، وثلثاً لعليّعليه‌السلام وثلثاً لي، وكان أربعين درهماً، فقالت: يا أسماء ايتيني ببقيّة حنوط والدي من موضع كذا وكذا، فضعيه عند رأسي، ثم تسجّت بثوبها وقالت: انتظريني هنيهة، ثم ادعني، فإن أجبتك، وإلاّ فاعلمي أنّي قد قدمت على أبي ( ربي - خ ل ).

قال الراوي: فانتظرتها أسماء هنيهة، ثم نادتها فلم تجبها، فنادت يا بنت محمّد المصطفى، يا بنت أكرم مَن حملته النّساء، يا بنت خير مَن وطأ الحصى، يا بنت مَن كان من ربّه قاب قوسين أو أدنى، قال: فلم تجبها، فكشفت الثوب عن وجهها فإذا بها قد فارقت الدّنيا، فوقعت عليها تقبّلها وهي تقول: يا فاطمة، إذا قدمت على أبيك رسول الله فاقرأيه عن أسماء بنت عميس السّلام، ثم شقّت أسماء جيبها وخرجت فتلقّاها الحسن والحسينعليهما‌السلام

____________________

(١) البحار: ج٤٣ ص٢٠٠.

(٢) المصدر السابق.

١٩٤

فقالا: أين أُمّنا، فسكتت، فدخلا البيت فإذا هي ممتدّة، فحركّها الحسنعليه‌السلام فإذا هي ميّتة، فقال: يا أخاه، آجرك الله في الوالدة، فوقع عليها الحسنعليه‌السلام يقبّلها مرّة، ويقول: يا أُمّاه كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني، قالت: وأقبل الحسينعليه‌السلام يقبّل رجليها، ويقول: يا أُمّاه أنا ابنك الحسين كلميني قبل أن يتصدّع قلبي فأموت، قالت لهما أسماء: يا ابنا رسول الله انطلقا إلى أبيكما عليعليه‌السلام فأخبراه بموت أُمّكما، فخرجا يناديان: يا محمّداه يا أحمداه، اليوم جُدِّد لنا موتك إذ ماتت أُمّنا، ثم أخبرا عليّاًعليه‌السلام وهو في المسجد، فغشي عليه حتّى رُشّ عليه الماء ثمَّ أفاق، وكانعليه‌السلام يقول: بمَن العزاء يا بنت محمّد؟ كنت بك أتعزّى، ففيما العزاء من بعدك؟(١) .

قال المسعودي: ولما قُبضتعليها‌السلام جزع عليعليه‌السلام جزعاً شديداً، واشتدّ بكاؤه، وظهر أنينه وحنينه، وقال في ذلك:

لكلّ اجتماعٍ من خليلين فرقة

وكلّ الذي دون الممات(٢) قليلُ

وإنَّ افتقادي واحداً بعد واحدٍ(٣)

دليلٌ على أن لا يدوم خليلُ

قال الراوي: فحمل عليعليه‌السلام الحسنينعليهما‌السلام حتّى أدخلهما بيت فاطمةعليها‌السلام ، وعند رأسها أسماء تبكي وتقول: وا يتامى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كنّا نتعزّى بعدك، فكشف عليعليه‌السلام عن وجهها فإذا برقعة عند رأسها، فنظر فيها، فإذا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصت به فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أوصت وهي تشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبده ورسوله، وأنّ الجنّة حقّ، والنّار حق، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث مَن في القبور، يا علي، أنا فاطمة بنت محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوّجني الله منك لأكون ذلك في الدنيا والآخرة، أنت أولى بي من غيري، حنّطني وغسّلني

____________________

(١) كشف الغمّة: ص٥٠٠. البحار: ج٤٣ ص٢١٤ - ١٨٦ - ١٨٧.

(٢) ( الفراق - خ ل ).

(٣) ( فاطمة بعد أحمد - خ ل ).

١٩٥

وكفنّي وصلِّ عليّ وادفنّي باللّيل ولا تُعلم أحداً، وأستودعك الله، وأقرأ على ولديّ السلام إلى يوم القيامة(١) .

كفّنها وغسّلهاعليها‌السلام ليلاً

قال الراوي: فصاح أهل المدينة صيحةً واحدة، واجتمعت نساء بني هاشم في دارها فصرخن صرخةً واحدةً كادت المدينة أن تتزعزع لصراخهن، وهنّ يقلن: يا سيّدتاه يا بنت رسول الله، وأقبل الناس مثل عرف الفرس إلى عليعليه‌السلام وهو جالس، والحسن والحسينعليهما‌السلام بين يديه يبكيان، فبكى الناس لبكائهما، وخرجت أُمّ كلثوم وعليها برقعة وتجرّ ذيلها متجلّلة بردائها عليها نشيجها [ تسبّجها خ ](٢) وهي تقول: يا أبتاه يا رسول الله، الآن حقّاً فقدناك فقداً، لا لقاء بعده أبداً.

واجتمع الناس فجلسوا وهم يضجّون وينتظرون أن تخرج الجنازة فيصلّون عليها، فخرج أبو ذر ( ره ) وقال: انصرفوا فإنّ ابنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أُخّر إخراجها في هذه العشيّة، فقام النّاس وانصرفوا، فلمّا جنّ اللّيل، غسّلها أمير المؤمنينعليه‌السلام ولم يحضرها غيره، والحسن والحسين، وزينب وأُمّ كلثومعليهم‌السلام ، وفضّة جاريتها، وأسماء بنت عميس (رحمة الله عليها)(٣) .

وقالت أسماء: أوصت إليّ فاطمةعليها‌السلام أن لا يغسّلها إذا ماتت إلاّ أنا وعليعليه‌السلام ، فأعنت عليّاً على غسلها(٤) .

ورُوي أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام كان يقول حين غسّل فاطمةعليها‌السلام : اللّهمّ إنّها أمتك وابنة رسولك وصفيّك وخيرتك من خلقك، اللّهمّ لقّنها

____________________

(١) البحار: ج٤٣ ص٢١٤. عوالم العلوم: ص٢٧٨.

(٢) تسّبج الرجل بالسبجة: لبسها، والسبجة كساء أسود وفي العوالم: تسحبها.

(٣) البحار: ج٤٣ ص١٧١ - ١٩٢.

(٤) البحار: ج٤٣ ص١٨٤.

١٩٦

حجّتها، وأعظم برهانها، وأَعل درجتها، واجمع بينها وبين أبيها محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وروي أنّها نشفت بالبردة الّتي نشف بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا غَسّلَها عليّعليه‌السلام وضعها على السرير، وقال للحسنعليه‌السلام : ادع لي أبا ذر فدعاه، فحملاها إلى المصلّى ومعه الحسن والحسين فصلّى عليها(١) .

وفي رواية ورقة قال عليعليه‌السلام : والله لقد أخذت في أمرها وغسّلتها في قميصها ولم أكشفه عنها، فو الله لقد كانت ميمونة طاهرة مطهّرة، ثم حنّطتها من فضلة حنوط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكفّنتها وأدرجتها في أكفانها، فلمّا هممت أن أعقد الرداء ناديت: يا أُمّ كلثوم، يا زينب، يا سكينة، يا فضّة، يا حسن، يا حسين، هلمّوا تزوّدوا من أُمّكم فهذا الفراق واللقاء في الجنّة، فأقبل الحسن والحسينعليهما‌السلام ، وهما يناديان:

وا حسرتا لا تنطفي أبداً من فقد جدّنا محمّد المصطفى، وأُمّنا فاطمة الزهراء، يا أُمّ الحسين إذا لقيت جدّنا محمّداً المصطفى فاقرأيه منّا السلام وقولي له: إنّا قد بقينا بعدك يتيمين في دار الدنيا، فقال أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : إنّي أُشهد الله أنّها قد حنّت وأنّت ومدَّت يديها وضمّتهما إلى صدرها مليّاً، وإذا بهاتفٍ من السماء ينادي: يا أبا الحسن ارفعهما عنها، فلقد أبكيا والله ملائكة السّموات، فقد اشتاق الحبيب إلى المحبوب، قالعليه‌السلام : فرفعتهما عن صدرها(٢) .

ورُوي أنّ كثير بن عباس كتب في أطراف كفن سيّدة النساء: ( فاطمةعليها‌السلام ): تشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) .

____________________

(١) البحار: ج٤٣ ص٢١٥.

(٢) البحار: ج٤٣ ص١٧٩.

(٣) البحار: ج٤٣ ص٣٣٥.

١٩٧

ويظهر من رواية مصباح الأنوار، أنّ أثواب كفنها كانت غلاظاً خشنة، فإنّه روي أنّه لما حضرت فاطمةعليها‌السلام الوفاة، دعت بماء فاغتسلت، ثم دعت بطيب فتحنّطت به، ثم دعت بأثواب كفنها فأتيت بأثواب غلاظ خشنة فتلفّقت بها، الخ(١) .

وروي أيضاً أنّها كُفّنت في سبعة أثواب(٢) .

وفي رواية روضة الواعظين قال: فلمّا أن هدأت العيون ومضى شطرٌ من اللّيل، أخرجها علي والحسن والحسينعليهم‌السلام وعمّار والمقداد وعقيل والزبير وأبو ذر وسلمان وبريدة ونفر من بني هاشم وخواصّه، صلّوا عليها ودفنوها في جوف اللّيل، وسوّى عليعليه‌السلام حواليها قبوراً مزوّرَة مقدار سبعة حتّى لا يُعرف قبرها(٣).

وعن مصباح الأنوار، عن جعفر بن محمدعليه‌السلام أنّه سُئل: كم كبّر أمير المؤمنين على فاطمةعليها‌السلام ؟ فقال: كان يكبّر أمير المؤمنين تكبيرة فيكبّر جبرئيل تكبيرة والملائكة المقرّبون، إلى أن كبّر أمير المؤمنينعليه‌السلام خمساً، فقيل له: وأين كان يصلّي عليها؟ قال: في دارها ثم أخرجها(٤).

إرجاع عليعليه‌السلام الوديعة وشكواه عند قبر النبّي ( صلّى الله عليه وآله )

وروى الشيخ أبو جعفر الطوسي (رحمه الله) أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام لما دفن فاطمة (صلوات الله عليها)، وعفا موضع قبرها، ونفض يده من تراب القبر، هاج به الحزن، فأرسل دموعه على خدّيه، وحوّل وجهه إلى قبر

____________________

(١) البحار: ج٨١ ص٣٣٥.

(٢) المصدر السابق .

(٣) روضة الواعظين: ج١ ص١٥٢.

(٤) البحار: ج٨١ ص٣٩٠.

١٩٨

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك عن ابنتك وحبيبتك وقرّة عينك وزائرتك والبائتة في الثرى ببقعتك [ ببقيعك ]، المختار الله لها سرعة اللّحاق بك، قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، وضعف عن سيّدة النساء تجلّدي، إلاّ أنّ في التأسّي لي بسنّتك، والحزن الذّي حلّ بي لفراقك، لموضع التعزّي، ولقد وسّدتك في ملحود قبرك بعد أن فاضت نفسك على صدري، وغمّضتك بيدي، وتولّيت أمرك بنفسي.

بلى وفي كتاب الله أنعم القبول، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، قد استُرجعت الوديعة، وأُخذت الرّهينة، واختُلست الزّهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله، أمّا حزني فَسَرْمَد، وأمّا ليلي فَمُسَهَّد، وهم لا يبرح من قلبي أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم، كمد(١) مقيّح وهمّ مهيّج، سرعان ما فُرِّقَ بيننا وإلى الله أشكو، وستُنبئك ابنتك بتظافر أُمّتك عليَّ وعلى هضمها حقّها، فاستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثّه سبيلاً، وستقول: ( ويحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ). والسلام عليكما سلام مودّع لا سَئِم ولا قالٍ، فإن أنصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظنّ بما وعد الله الصّابرين واهاً واهاً، والصبر أيمن وأجمل، ولولا غلبة المستولين، لجعلت المقام عند قبرك لزاماً، والتلبّث عنده معكوفاً، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزيّة، فبعين الله تدفن ابنتك سرّاً، ويهتضم حقّها، ويمنع إرثها جهراً، ولم يطل العهد، ولم يَخْلَق منك الذّكر، وإلى [ فإلى ] الله يا رسول الله المشتكى، وفيك أجمل العزاء صلّى الله عليك، وعليها الرحمة والرضوان(٢) .

ولقد أجاد مَن قال:

____________________

(١) كمد مقيّح: أي مرض مع قيح، قيّح الجرح صار ذا قيح.

(٢) أمالي الشيخ: ج١ ص١٠٧، والعلاّمة المجلسي في البحار: ٤٣ /١٩٣ و٢١١، وفي أمالي الشيخ المفيد أيضاً.

١٩٩

ولأي الأمور تدفن سرّاً

بضعة المصطفى ويعفى ثراها

فمضت وهي أعظم الناس شجواً

في فم الدهر غصّة [ عضّة ] من حواها

وثوت لا ترى لها الناس

مثوىً أيّ قدسٍ يضمّه مثواها

وعن مصباح الأنوار، عن أبي عبد الله عن آبائهعليهم‌السلام : أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام لما وضع فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليهما وآلهما في القبر قال: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله محمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سلّمتكِ أيتها الصديقة إلى من هو أولى بك منّي، ورضيت لك بما رضي الله تعالى لك: ثم قرأ: ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى )، فلمّا سوّى عليها التراب، أمربقبرها فرشّ عليه الماء، ثم جلس عند قبرها باكياً حزيناً، فأخذ العباس بيده فانصرف به(١) .

مناقشة عمر مع عليعليه‌السلام

قال الراوي: وأصبح البقيع ليلة دُفنت (سلام الله عليها) وفيه أربعون قبراً جدداً، وإنّ المسلمين لما علموا وفاتها، جاؤوا إلى البقيع فوجدوا فيه أربعين قبراً، فأشكل عليهم قبرها من سائر القبور، فضجّ الناس ولامَ بعضهم بعضاً وقالوا: لم يخلّف نبيّكم فيكم إلاّ بنتاً واحدة تموت وتُدفن، ولم تحضروا وفاتها والصلاة عليها، ولا تعرفوا قبرها، ثم قال ولاة الأمر منهم: هاتم من نساء المسلمين من ينبش هذه القبور حتى نجدها فنصلّي عليها ونزور قبرها.

فبلغ ذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فخرج مغضباً قد احمرّت عيناه، ودرّت أوداجه، وعليه قباؤه الأصفر الذي كان يلبسه في كلِّ كريهة، وهو متّكئ على سيفه ذي الفقار حتّى ورد البقيع، فسار إلى النّاس النذير وقالوا: هذا عليُّ بن أبي طالب قد أقبل كما ترونه يقسم بالله لئن حوِّل من هذه القبور حجر ليضعنّ السيف على غابر الآخر.

____________________

(١) بحار الأنوار: ج٨٢ ص٢٨.

٢٠٠