المهذب البارع في شرح المختصر النافع الجزء ٤

المهذب البارع في شرح المختصر النافع10%

المهذب البارع في شرح المختصر النافع مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 553

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 553 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114278 / تحميل: 7350
الحجم الحجم الحجم
المهذب البارع في شرح المختصر النافع

المهذب البارع في شرح المختصر النافع الجزء ٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

١٨١

وأنّ أيام الخلاف والاقتتال قد انتهت، فها هو المأمون يستعدّ لإرجاع الحقّ إلى أصحابه، وها هو صاحب الحقّ قد أقبل، وستغدو الأيام رخيّةً سهلةً، لكنّهم كانوا واهمين، فالإمامعليه‌السلام يعرف حقّ المعرفة أنّ المأمون غير جادٍّ في عرضه، وأنّه يتظاهر بالرّغبة في التّنازل عن الحكم لأمر في نفسه، وإذا تجاوزنا المأمون إلى بطانته وأجهزته حوله، لرأينا أنّهم أحرص على الملك والجاه والدنيا، لذا فقد رفض الإمام عرض المأمون، فما كان من المأمون إلاّ أن عرض عليه ولاية العهد بعده، والعرض الجديد لم يكن حبّاً بالإمام، وميلاً إلى الحقّ، بل هو تغطية لمآرب أخرى، فالمأمون يرمي من ورائه للحصول على شرعيّةٍ لحكمه، كما يرمي إلى إسكات الثّائرين عليه، ومرّةً ثانيةً يرفض الإمام عرضه، فيلحّ المأمون ويهدّد، ويمعن في تهديداته حتى التلويح بالقتل، بل التصريح به، ويروى أنّ المأمون قال للإمام حين رأى امتناعه عن القبول بما يعرضه عليه: إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي، فبا لله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلاّ أجبرتك على ذلك، فإن فعلت وإلاّ ضربت عنقك.

١٨٢

١٨٣

كان الإمامعليه‌السلام يتوقّع كلّ هذا، كان يعرفه حين دخل مسجد جدّه الرسول في المدينة يودّعه، ويقول وهو يبكي: إنّي أخرج من جوار جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأموت في غربةٍ. كان يدرك ذلك وهو في طريقه من المدينة إلى خراسان مغلوباً على أمره.

وأخيراً فلم يجد أمام إلحاح المأمون وتشدّده بدّاً من القبول، إنّما بشروط لا مناص منها، فقال للمأمون: أنا أقبل ذلك على أن لا أولّي أحداً، ولا أعزل أحداً، ولا أنقض رسماً ولا سنّةً، وأكون في الأمر من بعيدٍ مشيراً.

رضي المأمون، وتمّت البيعة للإمام بولاية العهد، بحضور الوزراء والقادة والأعيان، وحشدٍ كبير من الناس. ووزّع المأمون الأموال والهدايا عليهم، وتزاحم الشعراء على تقديم مدائحهم.

وبهذه المناسبة ضرب المأمون الدراهم وطبع عليها اسم الرضاعليه‌السلام . وصار الخطباء يفتتحون خطبهم بالدعاء للمأمون والرضاعليه‌السلام .

١٨٤

وفي خراسان عقد الإمام مجالس المناظرة مع العلماء والأطبّاء وغيرهم، فكان علمه وسعة اطّلاعه مبعثاً لعجبهم، وكان المأمون يحضر بعض هذه المجالس، ولا يستطيع أن يخفي غيظه وحسده لمكانة الإمام، رغم ادّعائه تشجيع العلوم والأبحاث، وكان الإمام حين يرى منه ذلك، يختصر أحاديثه ويوجزها ما أمكنه، خاصّةً وأنّه أدرك أنّ الموكلين بأموره وقضاء حوائجه كانوا في الحقيقة عيوناً للمأمون عليه، فكانعليه‌السلام يتلوّى من الألم، ويتمنّى لنفسه الموت ليتخلّص من حياةٍ تحيط بها المكاره، وكان يقول: اللهم إن كان فرجي ممّا أنا فيه بالموت فعجّله لي الساعة.

صلاة لم تتمّ

لمّا حضر عيد الفطر في السنة التي عقد فيها المأمون ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام ، أرسل إليه بالركوب إلى العيد والصلاة بالناس والخطبة بهم، فبعث إليه الإمام الرضا: لقد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول هذا الأمر (يعني قبوله لولاية العهد(، فأعفني من الصلاة بالناس. فألحّ عليه المأمون وقال له: أريد بذلك أن تطمئنّ إليك قلوب الناس، ويعرفوا فضلك. فأجابه الإمام إلى طلبه على شرط أن يخرج إلى الصلاة كما كان يخرج إليها

١٨٥

رسول الله وأميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب من بعده، فقال له المأمون: اخرج كيف شئت. ثمّ أمر القوّاد والحجّاب والناس أن يبكّروا إلى باب الرضاعليه‌السلام ، ليرافقوه إلى الصلاة.

وصباح العيد وقف الناس في الطّرقات وعلى السطوح ينتظرون خروجه، ووقف الجند والقادة على بابه وقد تزيّنوا وركبوا خيولهم. قام الإمام فاغتسل ولبس ثيابه، وتعمّم بعمامةٍ بيضاء من قطن، فألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفيه، ومسّ شيئاً من الطيب، وقال لمن معه: افعلوا مثل ما فعلت، فخرجوا بين يديه وهو حاف قد شمّر سراويله، فرفع رأسه إلى السماء وقال: الله اكبر، فكبّر معه الناس، ولما رآه القادة والجند على تلك الصّورة، ترجّلوا عن خيولهم، ونزعوا أحذيتهم من أرجلهم، ومشوا خلفه حفاةً، ثم كبّر الرضاعليه‌السلام ، وكبّر معه الناس، وارتفعت أصواتهم بالتكبير حتى سمعت من كلّ الجهات، وضجت المدينة بالمكبّرين، وخرج الناس من منازلهم، وازدحمت بهم الشوارع والطرقات بشكلٍ لم تشهده (مرو) من قبل، وصدق فيه قول الشاعر:

ذكروا بطلعتك النبيّ فهلّلوا *** لمّا طلعت من الصّفوف وكبّروا

١٨٦

حتى انتهيت إلى المصلّى لابساً

نور الهدى يبدو عليك ويظهر

ومشيت مشية خاشعٍ متواضعٍ

لله لا يزهو ولا يتكبّر

ولو أنّ مشتاقاً تكلّف فوق ما

في وسعه لسعى إليك المنبر

كان المأمون يريده أن يخرج للصلاة كما يخرج الملوك، تحفّ بهم الزّينات ومعالم العظمة، ويستغلّون المناسبة لعرض قوّتهم وهيبتهم في النفوس، بينما يرى الإمام أنّ للمناسبة قداستها الروحيّة، ترفع فيها آيات الخضوع والعبوديّة لله تعالى، وترتفع الأصوات بحمده والتكبير له، وشتّان بين ما أراد المأمون وما فعله الإمام ، فما كان من المأمون إلاّ أن بعث إليه يقول:

لقد كلّفناك شططاً (أي زيادةً عن الحدّ( وأتعبناك يابن رسول الله، ولسنا نحبّ لك إلاّ الراحة، فارجع، وليصلّ بالناس من كان يصلي بهم.

فرجع الإمامعليه‌السلام ، لأنّ هذا هو ما يتمنّاه.

أموت في غربةٍ

منذ ذلك اليوم، وقد رأى المأمون تجاوب الناس مع الإمام، وكيف كان توجّههم إليه عميقاً، أحسّ بالمرارة تغلي في أحشائه، وتذكّر أيام أبيه هارون الرّشيد مع الإمام

١٨٧

الكاظمعليه‌السلام ، وكان يرى حفاوة الرشيد البالغة بالإمام، وإكرامه له، وهو (أي المأمون( لا يعرفه، فسأل أباه قائلاً: من هذا الرجل الذي عظّمته وقمت من مجلسك لأجله، وجلست بين يديه؟ قال الرشيد: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده. فقال المأمون: أليست هذه الصفات كلّها لك وفيك؟ فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حقّ، والله يا بنيّ إنّه لأحقّ بمقام رسول الله منّي ومن الخلق أجمعين، فقال له المأمون: إذا كنت تعرف ذلك فتنحّ عن الملك وسلّمه لأصحابه، فقال: يا بنيّ إنّ الملك عقيم، والله لو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك.

تذكّر المأمون هذه الواقعة مع أبيه، ولا يزال صدى العبارة الأخيرة يرنّ في مسامعه: والله لو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك.

وما له يسلّط على هذا الملك رجلاً يلتفّ الناس حوله إذا حضر، وتهفو إليه قلوبهم إن غاب، يجلّونه ويقدّرونه؟ أليس أبوه الذي قال: إنّ الملك عقيم؟ أليس بالأمس القريب قتل أخاه وعشرات الألوف من الناس في سبيل هذا الملك؟

١٨٨

تذكّر كلّ هذا وصمّم أمراً، صمّم أن يريح نفسه من هذا الهمّ الذي جلبه على نفسه بيديه، وقرّر أن يتخلّص من الإمام.

ولم يطل الأمر كثيراً، وكان قد مضى على الإمام في ولاية العهد ما يقرب من سنتين، حين استشهد مسموماً، واتّهم المأمون بقتله، لكنّه أنكر التّهمة، وأظهر عليه الأسى والحزن. وكان استشهاده سنة ٢٠٣ للهجرة بطوس، ودفن في مشهد. ويختلف الناس لزيارة قبره من جميع أنحاء العالم. ويروى عنه أنّه قال: من زارني في غربتي كان معي في درجتي يوم القيامة.

عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأزكى السلام.

١٨٩

الإمام محمد الجوادعليه‌السلام

الاسم: الإمام محمد الجوادعليه‌السلام

اسم الأب: الإمام علي الرضاعليه‌السلام

اسم الأم: خيزران

تاريخ الولادة: ١٠ رجب سنة ١٩٥ للهجرة

محل الولادة: المدينة

تاريخ الاستشهاد: ٦ ذي الحجة سنة ٢٢٠ للهجرة

محل الاستشهاد: الكاظمية

محل الدفن: الكاظمية

المواجهة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

في يوم دافئ، وأشعّة الشمس تتسلّل برفق عبر أزقّة مدينة بغداد، وتبدأ انتشارها فوق السّهول المترامية الأطراف حولها، خرج المأمون العباسي مع نفر من حاشيته للصيد، وقد امتطوا جيادهم يسابقون بها الريح، مصطحبين صقورهم وكلابهم، قاصدين السّهول الممتدّة حول المدينة.

بغداد في تلك الأيام كانت مدينةً كبيرةً جداً، تحيط بها مزارع البرتقال وكروم العنب وأشجار النّخيل، يزيّنها العشب الأخضر والورود.

كان الموكب يجتاز شوارع العاصمة، مثيراً الرعب والذّعر في قلوب الناس. وفي أحد الشوارع صادف مجموعةً من الصبية يلعبون ويتراكضون، وما إن شعر الصبيّة باقتراب خيل الحاكم حتى هربوا في كلّ

١٩٠

اتّجاهٍ؛ وتلك كانت صورة الحكّام المرعبة، فقد ترك أسلاف المأمون كالرّشيد والمنصور وهشامٍ والحجاج بصمات البطش والإرهاب في النفوس.

خلت الساحة من الأطفال، عدا طفل منهم، انتصب شامخاً أمام الموكب غير آبهٍ به، ممّا أثار دهشة المأمون، فأمر بإحضار الصبيّ إليه، وخاطبه قائلاً: لماذا لم تهرب مع الصبية الآخرين؟ قال الصبيّ: مالي ذنب فأفرّ منه، ولا الطريق ضيّق فأوسّعه عليك، فسر حيث شئت.

قال المأمون متعجّباً من جرأة الغلام: من تكون أنت؟ قال: أنا محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام .

قال المأمون: ما تعرف من العلوم؟

قال: سلني عن أخبار السّماوات.

(لقد سأل المأمون الغلام الصغير عمّا يعرفه من العلوم، والعلوم لا يعرفها إلاّ من درسها، وقضى السنين في تعلّمها، فكيف يسأل عنها غلاماً صغيراً؟

والجواب أنّ المأمون يعلم ذلك، لكنّه بعد أن

١٩١

عرف أنّ الغلام هو ابن الإمام الرضاعليه‌السلام ، وأنّه فرع من الشجرة المباركة، شجرة أهل البيتعليهم‌السلام ، الذين يتوارثون العلوم والمعارف، كلاّ عمّن سبقه، سأله هذا السؤال الطبيعيّ).

ترك المأمون الإمام مبتعداً نحو السّهول، وهو غارق في التفكير بأمر هذا الغلام، ومضى النهار إلا أقلّه، والمأمون لا يجد صيداً، فأطلق أحد صقوره يبحث عن طريدة؛ حلّق الصّقر عالياً وغاب عن الأنظار ساعةً، عاد بعدها وهو يحمل حيّةً بين مخالبه، وألقاها أمام المأمون، أمر المأمون بوضع الحيّة في صندوق وقال لأصحابه: قد دنا حتف ذلك الغلام في هذا اليوم، وعلى يديّ. ثمّ عاد أدراجه نحو بغداد.

وفي طريق عودته، التقى بالصبيّة أنفسهم وابن الرضا بينهم، فاقترب منه قائلاً (وكأنّما يتابع معه حديث الصباح):

وما عندك من أخبار السماوات؟

أجاب الإمام قائلاً: حدثني أبي عن آبائه، عن النبيّ، عن جبرائيل، عن ربّ العالمين أنّه قال: بين السماء والهواء عجاج (والعجاج هو الغبار أو الدخان)

١٩٢

يتلاطم به الأمواج. فيه حيات خضر البطون، رقط الظهور (لونها مبقّع بالبياض والسواد(، يصيدها الملوك بالبزاة الشهب، ليمتحنوا به العلماء.

فقال المأمون: صدقت، وصدق أبوك، وصدق جدّك، وصدق ربّك.

كان هذا هو اللّقاء الأول بين الإمام والمأمون، وتوالت اللّقاءات، وتعرّف المأمون أكثر وأكثر على مناقب الإمام العالية، وضلوعه بالعلم والمعرفة، وصمّم أن يزوّجه ابنته.

اعتراض العباسيين

كان المأمون يرمي من تزويج ابنته من الإمام الجوادعليه‌السلام ، إلى اكتساب رضى السادة العلويين، وإزالة ذكرى الموت المفاجئ للإمام الرضاعليه‌السلام من الخواطر، مدّعياً الصفاء معهم، كما يرمي من جهة ثانية إلى أن يكون الإمام الجواد على مقربةٍ منه، ليتمكّن من مراقبته بواسطة عيونه وجواسيسه، ومعرفة تحرّكاته واتّصالاته، وقد سبق للمأمون أن اتّبع الأسلوب نفسه مع الإمام الرضاعليه‌السلام .

ولمّا علم العباسيون بالأمر، ثقل عليهم

١٩٣

واستكبروه، وخافوا أن ينتهي الأمر مع الجواد إلى ما انتهى إليه مع أبيه الرضا، فيفوز بولاية عهد المأمون.

اجتمع نفر منهم إلى المأمون قائلين: ننشدك الله يا أميرالمؤمنين أن تصرف النظر عن هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا؛ فإنّا نخاف أن تخرج عنّا أمراً قد ملكناه، وتنزع عنّا عزّاً قد ألبسناه، فقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم آل عليّ قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك معهم، وقد كنّا في وهلةٍ (فزع( من عملك مع الرضا ما عملت، حتّى كفانا الله ألمهمّ من ذلك، فالله الله أن تردّنا إلى غم انحسر عنّا (زال عنا(، فاصرف رأيك عن ابن الرضا، واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لها دون غيرهم.

فأجابهم المأمون: أمّا ما كان بينكم وبين آل أبي طالب، فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم. وأمّا ما كان يفعله من قبلي بهم، فقد كان قاطعاً للرّحم، وأعوذ بالله من ذلك وأمّا أبوجعفرٍ محمد (الجواد( بن عليّ فقد اخترته لتبريزه (تفوّقه( على كافّة أهل الفضل في العلم، مع صغر سنّه.. وأنا

١٩٤

١٩٥

أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه، ليعلموا أنّ الرأي ما رأيت فيه.

فقالوا: أتزوّج ابنتك وقرّة عينك صبياً لم يتفقّه في دين الله، ولم يعرف حلاله من حرامه، ولا فرضه من سننه؟ فأمهله ليتأدّب ويقرأ القرآن ويتفقّه في الدين، ثمّ اصنع ما تراه بعد ذلك.

فقال لهم: ويحكم، إنّي أعرف بهذا الفتى منكم، وإنّه لأفقه منكم وإن شئتم فامتحنوه، فإن كان كما وصفتم قبلت منكم

فقالوا: لقد رضينا لك ولأنفسنا بامتحانه؛ فخلّ بيننا وبينه، لنعيّن من يسأله بحضرتك عن شيءٍ من فقه الشريعة، فإن أصاب الجواب لم يكن لنا اعتراض، وإن عجز عن ذلك فقد كفينا أمره.

قبل المأمون، وعيّن لهم يوماً لذلك.

ثم اجتمع رأيهم على يحيى بن أكثم ، قاضي القضاة يومذاك، على أن يسأل الإمام مسألة لا يعرف الجواب عنها، ووعدوه بأموالٍ وفيرةٍ إن هو استطاع ذلك.

مجلس الامتحان

وفي اليوم الذي عيّنه المأمون، حضر الإمام وقاضي القضاة والمأمون، كما حضر كبار العباسييّن، وأعيان الدولة، وجلس الناس على مراتبهم، بينما أجلس المأمون الإمام الجواد إلى جانبه.

من الجدير بالذكر أنّ تلك المجالس الفخمة التي كان العباسيون يقيمونها من وقت إلى آخر، لم تكن بالنسبة إليهم إلاّ مجالس ترفٍ ولهوٍ، ولم تكن تعقد بناءً على التعاليم الإسلامية التي تراعي أصول التساوي بين الناس، ولم يسيروا فيها على خطى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخطى الإمام عليّعليه‌السلام ، في جعلها مجالس للمذاكرة في تعاليم الإسلام وأحكامه، ممّا يعود بالفائدة على الجميع، بل كانت مجالس للمناظرة والمبارزة الكلاميّة وإلقاء الأشعار والخطب. فحضور الإمام في هذا المجلس لم يكن حضور مشارك أو حتى ضيفٍ، بل كان - في الواقع - حضوراً قهريّاً إجبارياً لا يستطيع منه فكاكاً على أيّ حالٍ، فقد جلس الإمام في مكانٍ فخمٍ مزيّن إلى جانب المأمون، كما جلس النبيّ يوسف

١٩٦

- من قبل - إلى جانب فرعون مصر. وفي قصص الأنبياء دروس للناس، تبيّن لهم الحقائق الكامنة وراء الأحداث التاريخية المختلفة باختلاف الأزمان، فها هو يوسف النبي، يجلس إلى جوار فرعون مصر ويدير له شؤون دولته، وفي يوم آخر، يقوم نبيّ آخر هو موسىعليه‌السلام ، ضدّ فرعون آخر، فيهزمه ويقضي عليه. ولكنّ الكثرين لا يفكّرون في أحداث التاريخ، ويعجزون عن فهمها وإدراك مغزاها. تقول الآية الشريفة:

( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسّائلين ) .

ساد المجلس صمت مطبق، والكلّ يتطلّع إلى رؤية الإمام الجواد، هذا القادم الجديد إلى بغداد، والذي لم تقع عليه أعين الناس من قبل، ورؤية مقدرته، وهو ابن تسع سنين، في مواجهة قاضي قضاة بغداد، ويتساءلون: هل في مقدور حفيد رسول الله أن يصمد أمام أسئلة هذا العالم الكبير؟

قطع القاضي يحيى بن أكثم حبل الصمت، والتفت إلى المأمون قائلاً:

أيأذن لي أميرالمؤمنين بأن أوجّه سؤالاً إلى أبي

١٩٧

جعفر بن الرّضا؟

أجاب المأمون: عليك أن تأخذ الإذن منه.

التفت يحيى بن أكثم إلى الإمام الجواد قائلاً:

(أتأذن لي - جعلت فذاك - في مسألة؟ فقال له أبو جعفر: سل إن شئت. قال يحيى: ماذا تقول في محرم قتل صيداً؟ أجاب الإمام:

قتله في حلّ أوحرم؟ عالماً كان المحرم أم جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حرّاً كان أم عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أم معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد أم من كباره؟ مصرّاً على ما فعل أم نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد في أوكاره أم نهاراً؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله، أو بالحجّ كان محرماً؟

فتحيّر يحيى بن أكثم، وبان في وجهه العجز والانقطاع، وتلجلج حتى عرف أهل المجلس أمره).

لم يكن يحيى بن أكثم قد سمع - حتى يومه ذاك - بأكثر من وجه واحدٍ للمحرم الذي يقتل صيداً، ولم يعرف لذلك سوى حكم واحدٍ، ويفاجأ الآن بأنّ سؤالاً قصيراً واحداً يحتاج - في الإجابة عليه - إلى كلّ

١٩٨

ذلك التفصيل الكبير.

تحيّر يحيى بن أكثم، وتحيّر معه كلّ من حضر المجلس، وأدركوا بأنّ الإمام الجوادعليه‌السلام بحر من العلم والمعرفة؛ فقد أعطاهم - على صغر سنه - درساً في الأحكام، وهو أنّ الحكم في كلّ مسألةٍ يختلف باختلاف ظروفها وملابساتها.

ويروى أنّ المأمون طلب من الإمام أن يسأل يحيى بن أكثم كما سأله، فأجابه الإمام إلى طلبه، وسأل القاضي سؤالاً لم يعرف الإجابة عليه، وقال: والله لا أهتدي لجوابك، ولا أعرف الوجه في ذلك، فإن رأيت أن تفيدنا. فاستجاب الإمام إلى رغبته، وأعطاه جواب المسألة.

عند ذاك، أقبل المأمون على من حضره من أهل بيته قائلاً: ويحكم، إنّ أهل هذا البيت خصّوا من بين الخلق بما ترون من الفضل، وإنّ صغر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال، أما علمتم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله افتتح دعوته بدعاء أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وهو ابن عشر سنين. وقبل الإسلام منه، ولم يدع أحداً في سنه غيره؟ أفلا تعلمون الآن ما خصّ

١٩٩

الله به هؤلاء القوم، وأنّهم ذريّة بعضها من بعض، يجري لآخرهم ما يجري لأوّلهم؟ فقالوا: صدقت يا أميرالمؤمنين، إنّ ما تراه هو الصّواب.

زواج سياسيّ

سرّ المأمون لخروجه من المراهنة منتصراً، ورأى أن يستغلّ الفرصة المتاحة، فالتفت نحو الإمام قائلاً:

يا بقيّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لقد علمت فضلك ومنزلتك، واخترتك زوجاً لابنتي (أمّ الفضل)، وإنّي - رغم معارضة الكثيرين لهذا الزّواج - أطلب منك القبول.

تردّد الإمام؛ فهو يعرف تماماً ما يرمي إليه المأمون من هذه المصاهرة، ويدرك الأهداف التي تكمن وراءها، فهي ليست في الواقع إلاّ زواجاً سياسيّاً، يحقّق للمأمون أغراضه في تهدئة وإرضاء العلويّين وفي جعل الإمام الجواد قريباً منه وتحت مراقبته.

شعر الإمام بالضيق، لكنّه كان يدرك حرج الموقف، فهو لا يستطيع أن يرفض طلب المأمون أمام هذا الجمع الكبير من أعيان بغداد، ورجالات الدولة وقوّادها، ففي الرّفض إهانة عظيمة للمأمون، والله

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

[وعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ان الله لا يقدس امة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقه(١) .

ولانه من باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قيل: قد روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين(٢) وهذا الحديث يشعر بالترغيب عنه. ولما طلب ابوقلابة للقضاء لحق بالشام، واقام زمانا، ثم جاء فلقيه ايوب السجستاني وقال له: لو انك وليت القضاء وعدلت بين الناس رجوت لك في ذلك اجرا، فقال: يا ايوب، السابح اذا وقع في البحر كم عسى ان يسيح؟ !(٣) .

واجيب عن الاول: بان الحديث لم يخرج مخرج الذم، بل المراد به بيان اشتماله على المشقة العظيمة والخطر الجسيم، كيف لا وهو من مناصب الرسل والاوصياءعليهم‌السلام .

وعن الثاني: بان ابا قلابة كان من التابعين فلا يقدح خلافه في اجماع الامة، وجاز امتناعه لاحساسه بالعجز عن القيام به، لانه كان محدثا لا فقيها، قاله الشيخرحمه‌الله (٤) .

(الرابعة) يحرم على غير الواثق من نفسه بالقيام، توليه وقوله].

____________________

(١)عوالي اللئالي: ج ٣ ص ٥١٥ الحديث ٥ ولاحظ ماعلق عليه ورواه الشيخ في المبسوط: ج ٨ كتاب آداب القضاء ص ٨٢ س ١١.

(٢)عوالي اللئالي: ج ٣ ص ٥١٦ الحديث ٦ ولاحظ ما علق عليه، ورواه الشيخ في المبسوط: ج ٨ كتاب آداب القضاء ص ٨٢ س ١٩ وتمام الحديث (قيل: يارسول الله، وما الذبح؟ قال: نار جهنم).

(٣)عوالي اللئالي: ج ٣ ص ٥١٦ الحديث ٧ ولاحظ ماعلق عليه.

(٤)المبسوط: ج ٨ كتاب آداب القضاء ص ٨٢ س ٤.

٤٢١

[روى ابن عباس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين، قيل: يارسول الله وما الذبح؟ قال: نار جهنم(١) .

وعنهعليه‌السلام : يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة، فمن شدة مايلقاه من الحساب يود ان لم يكن قضى بين اثنين في تمرة(٢) .

وعنهعليه‌السلام : ياأباذر اني احب لك ما احب لنفسي، واني اراك ضعيفا مستضعفا، فلا تأمر على اثنين، وعليك بخاصة نفسك(٣) .

وروي ان لقمان في ابتداء امره كان نائما نصف النهار، اذ جاء‌ه نداء يالقمان: هل لك ان يجعلك الله خليفة في الارض تحكم بين الناس بالحق؟ فاجاب الصوت: ان خيرني ربي قبلت العافية ولم اقبل البلاء، وان عزم علي فسمعا وطاعة، فاني اعلم انه ان فعل بي ذلك اعانني وعصمني، فقالت الملائكة بصوت لم يرهم: لم يالقمان؟ قال: لان الحكم اشد المنازل وآكدها، يغشاه الظلم من كل مكان، إن وفى فبالحري ان ينجو، وان أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكون في الدنيا ذليلا وفي الآخرة شريفا، خير من ان يكون في الدنيا شريفا وفي الآخرة ذليلا، ومن تخير الدنيا على الآخرة تفتنه الدنيا ولا نصيب له في الآخرة، فعجبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فاعطي الحكمة، فانتبه يتكلم بها، ثم كان يؤازر داود بحكمته، فقال له داود: طوبى لك يا لقمان اعطيت الحكمة وصرفت عنك النقمة(٤) ].

____________________

(١)تقدم آنفا.

(٢)عوالي اللئالي: ج ٣ ص ٥١٦ الحديث ٩ ولاحظ ماعلق عليه، ورواه في المبسوط: ج ٨ كتاب آداب القضاء ص ٨٢ س ٢١.

(٣)عوالي اللئالي: ج ٣ ص ٥١٦ الحديث ١٠ ولاحظ ما علق عليه.

(٤)الوافي: ج ٣ باب ٢٢ مواعظ لقمانعليه‌السلام ص ٨٣ س ٣٤ ورواه القمي في تفسيره: ج ٢ ص ١٦٣ س ١ في تفسيره لسورة لقمان.

٤٢٢

[وروى احمد بن خالد عن ابيه رفعه عن ابي عبداللهعليه‌السلام قال: القضاة اربعة، ثلاثة في النار وواحد في الجنة: رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالجور وهو لا يعلم انه قضى بالجور فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة(١) .

(الخامسة) الناس في القضاء على أربعة اضرب:

(أ) من يجب عليه، وهو جامع الشرائط، اذا لم يجد الامام غيره، فعلى الامام ان يوليه، وعليه ان يقبل، وان لم يعلم الامام به فعليه ان يعرفه بنفسه لتولية القضاء، لكونه من فروض الكفايات.

(ب) من يحرم عليه وهو غير الجامع كالجاهل العدل أو العالم الفاسق.

(ج) من يستحب له وهو جامع الشرائط اذا لم يكن له من ماله كفاية وافتقر في طلب الكفاية إلى الاشتغال بالمباح كالتجارة وغيرها، فلئن يلي القضاء ويصرف زمانه في طاعة الله ويرتزق من بيت المال خير له من الاشتغال بالمباح.

(د) من كان له كفاية من ماله، لا تخلو.

اما ان يكون مشهورا بالعلم، معروفا بالفضل، يقصده الناس يستفتونه ويتعلمون منه، فالمستحب له ترك القضاء، لان التدريس والتعليم طاعة وعبادة مع الامن والسلامة من ارتكاب الاخطار، والقضاء وان كان طاعة لكنه مشتمل على الغرر وتطرق الضرر، لقولهعليه‌السلام من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين(٢) ].

____________________

(١)الكافي: ج ٧ باب اصناف القضاة ص ٤٠٧ الحديث ١ وتمامه (وقالعليه‌السلام : الحكم حكمان، حكم الله وحكم الجاهلية فمن اخطا حكم الله، حكم بحكم الجاهلية).

(٢)درر الاحاديث النبوية بالاسانيد اليحيويه، باب في ذكر القضاء والقضايا، وهو السابع عشر ص ١٤٥ س ٨ ولفظه (وباسناده عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال: من سأل القضاء وكل إلى نفسه، ومن ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين).

٤٢٣

النظر في الصفات والآداب، وكيفية الحكم، واحكام الدعوى النظر الاول : في الصفات

والصفات ست: التكليف، والايمان، والعدالة، وطهارة المولد، والعلم، والذكورة.

ويدخل في العدالة اشتراط الامانة والمحافظة على الواجبات. ولا ينعقد الا لمن له أهلية الفتوى، ولا يكفيه فتوى العلماء. ولا بد أن يكون ضابطا، فلو غلبه النسيان لم ينعقد له القضاء. وهل يشترط علمه بالكتابة؟ الاشبه: نعم، لاضطراره إلى ما لا يتيسر لغير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الا بها، ولا ينعقد للمرأة.

[واما ان يكون خاملا لا يعرف علمه، ولا يعلم فضله، ولا ينتفع الناس بعلمه، فالمستحب له ان يليه ليدل على فضله واظهار علمه، وانتفاع الناس به، حتى قال بعضهم: يجوز ان يبذل مالا ليلي القضاء(١) .

قال طاب ثراه: وهل يشترط علمه بالكتابة؟ الاشبه: نعم.

أقول: ما اختاره المصنف، وهو علمه بالكتابة، مذهب الشيخ في المبسوط(٢) ومختار العلامة(٣) لاضطراره إلى الضبط، ولا يتم الا بها، وللاحتياط].

____________________

(١)وفي هامش بعض النسخ مالفظه (والاصح خلاف ذلك، لان بذل المال على ذلك لا يجوز، ولا للامام ان يأخذ على ذلك عوضا، قاله الشيخ في المبسوط: ج ٨ كتاب آداب القضاء ص ٨٤ س ١٦ قال: لان بذل المال على ذلك لا يجوز الخ.

(٢)المبسوط: ج ٨ كتاب آداب القضاء ص ١٢٠ س ٤ قال: والذي يقتضيه مذهبنا: ان الحاكم يجب ان يكون عالما بالكتابة، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحسن الكتابة بعد النبوة، وانما لم يحسنها قبل البعثة.

(٣)القواعد: ج ٢ في صفات القاضي ص ٢٠١ س ٢٣ قال: وفي اشتراط علمه بالكتابة اشكال وكذا البصر، والاقرب اشتراطهما.

٤٢٤

وفي انعقاده للاعمى تردد، والاقرب: انه لا ينعقد لمثل ما ذكرناه في الكتابة.

[وقيل: بعدم الاشتراط(١) للاصل، ولان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان خاليا من الكتابة في اول أمره مع اختصاصه بالرئاسة العامة، ومنصبهصلى‌الله‌عليه‌وآله اكمل المناصب ولم يشترط بها، فلا يضر خلو غيره منها.

واجيب بالفرق من وجوه:

(أ) عصمتهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الغلط والنسيان وجوازهما على غيره.

(ب) تأييده بالوحي المتواتر.

(ج) قوة حافظته، فلا يحتاج اليها.

(د) خلوهعليه‌السلام منها زيادة في كماله، وفي حق غيره نقص.

مع ان في الآية(٢) الايماء إلى سبب الخلو، وهي ريبة اهل الجحود.

وانما قلنا في اول أمره؟ لان الشيخرحمه‌الله قال في المبسوط: انما كان خاليا من الكتابة قبل البعثه لا بعدها(٣) واختاره ابن ادريس(٤) .

قال طاب ثراه: وفي انعقاده للاعمى تردد.

أقول: اشتراط البصر مذهب الشيخ(٥) والقاضي(٦) وابن الجنيد(٧) ويحيى]

____________________

(١)بداية المجتهد: ج ٢ في معرفة من يجوز قضائه ص ٥٠٠ س ١٣ قال: واما فضائل القضاء إلى قوله: واختلفوا في الامي، والابين جوازه.

(٢)قال تعالى: " وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك اذا لارتاب المبطلون " العنكبوت: ٤٨.

(٣)تقدم آنفا.

(٤)السرائر: في آداب القضاء ص ١٩٤ س ١٥ قال: والذي يقتضيه مذهبنا: ان الحاكم يجب ان يكون عالما بالكتابة: والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحسن الكتابة بعد النبوة، وانما لم يحسنها قبل البعثة.

(٥)المبسوط: ج ٨ شرائط القضاء ص ١٠١ س ٥ قال: واما كمال الخلقة فان يكون بصيرا، فان كان اعمى لم ينعقد له القضاء الخ.

(٦)المهذب: ج ٢ كتاب القضاء ص ٥٩٨ س ٢١ قال: اما كامل الخلقة، ان يكون بصيرا، الخ.

(٧)لم اعثر على قوله.

٤٢٥

[بن سعيد(١) واختاره المصنف(٢) والعلامة(٣) لافتقاره إلى التميز بين الخصوم، واحتياجه إلى الكتابة، وهي معتبرة في القاضي، ولان الاعمى لا ينفذ شهادته في بعض الاشياء، والقاضي ينفذ شهادته في كل الاشياء، واختاره المصنف(٤) والعلامة(٥) .

وقيل: بعدم الاشتراط(٦) للاصل، ولان شعيبا كان اعمى(٧) ].

____________________

(١)الجامع للشرائع: كتاب القضاء ص ٥٢٢ س ٣ قال: اذا كان الرجل عاقلا بصيرا كاملا كاتبا إلى قوله: فهو اهل لولاية القضاء.

(٢)لاحظ عبارة النافع.

(٣)القواعد: ج ٢ في صفات القاضي ص ٢٠١ س ٢٣ قال: وفي اشتراط علمه بالكتابة اشكال وكذا البصر والاقرب اشتراطهما.

(٤)الشرائع: كتاب القضاء، في الآداب، قال: وهنا مسائل، الاولى: الامام يقضي بعلمه مطلقا، وغيره من القضاة يقضي بعمه في حقوق الناس إلى قوله: ويجوز ان يحكم في ذلك كله من غير حضور شاهد يشهد الحكم.

(٥)القواعد: ج ٢، الفصل الثالث، في مستند القضاء ص ٢٠٥ س ١١ قال: وغيره (اي غير الامام) يقضي به في حقوق الناس وكذا في حقه تعالى على الاصح ولا يشترط في حكمه حضور شاهدين.

(٦)بداية المجتهد: ج ٢ في معرفة من يجوز قضائه ص ٥٠٠ س ٤ قال: ولا خلاف في مذهب مالك ان السمع والبصر والكلام مشترطة في استمرار ولايته، وليس شرطا في جواز ولايته الخ.

(٧)قال الطبرسي: إلى قوله: " ضعيفا " اى ضعيف البدن، او ضعيف البصر، او مهينا، وقيل: كانعليه‌السلام اعمى.

واختلف في ان النبي هل يجوز ان يكون اعمى؟ فقيل: لا يجوز لان ذلك ينفر، وقيل: يجوز ان لا يكون فيه تنفير ويكون بمنزلة سائر العلل والامراض (بحار الانوار: ج ١٢ كتاب النبوة باب ١١ قصص شعيب، ص ٣٧٩).

أقول: كونهعليه‌السلام اعمى، مع انه لم يثبت، ولذا نقله تحت عنوان (قيل): مخالف لما اورده في علل الشرائع: ج ١ باب ٥١ العلة التي من اجلها جعل الله عزوجل موسى خادما لشعيبعليهما‌السلام ولفظ الحديث (قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : بكى شعيبعليه‌السلام من حب الله عزوجل حتى عمى، فرد الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمى فرد الله عليه بصره، فلما كانت الرابعة: اوحى الله اليه يا شعيب إلى متى يكون هذا ابدا منك، ان يكن هذا خوفا من النار فقد أجرتك وان يكن شوقا إلى الجنة فقد ابحتك، قال: الهي وسيدي انت تعلم اني ما بكيت خوفا من نارك ولا شوقا إلى جنتك، ولكن عقد حبك على قلبي، فلست اصبر او اراك، فاوحى الله جل جلاله اليه: اما اذا كان هذا هكذا، فمن أجل هذا ساخدمك كليمي موسى بن عمران).

وفي شرح قوله (او اراك) نقلوا توجيهات لولا خوف الاطالة لاثبتناه.

٤٢٦

وفي اشتراط الحرية تردد، الاشبه: انه لا يشترط. ولابد من اذن الامام، ولا ينعقد بنصب العوام له، نعم لو تراضى اثنان بواحد من الرعية فحكم بينهما لزم. ومع عدم الامام ينفذ قضاء الفقيه من فقهاء اهل البيتعليهم‌السلام الجامع للصفات. وقبول القضاء عن السلطان العادل مستحب لمن يثق بنفسه، وربما وجب.

(النظر الثاني) في الآداب

وهي مستحبة ومكروهة.

فالمستحب: اشعار رعيته بوصوله ان لم يشتهر خبره، والجلوس في قضائه مستدبر القبلة، وان يأخذ مافي يد المعزول من حجج الناس وودائعهم، والسؤال عن اهل السجون واثبات اسمائهم، والبحث عن موجب اعتقالهم، ليطلق من يجب اطلاقه، وتفريق الشهود عند الاقامة، فانه اوثق، خصوصا في موضع الريبة عدا ذوي البصائر لما يتضمن من [واجيب: باختصاص النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالعصمة المانعة من الغلط والنسيان، ومزيد القوة الحافظة، والموجبة لبقاء التذكر، بخلاف غيره، ونمنع كونه اعمى بالكلية، ولانجباره بالوحي وقلة المؤمنين في زمانه.

قال طاب ثراه: وفي اشتراط الحرية تردد، الاشبه: انه لا يشترط].

٤٢٧

الغضاضة، وان يستحضر من اهل العلم من يخاوضه في المسائل المشتبهة.

والمكروهات: الاحتجاب وقت القضاء، وان يقضي مع مايشغل النفس كالغضب، والجوع، والعطش، والغم، والفرح، والمرض، وغلبة النعاس: وان يرتب قوما للشهادة، وان يشغل للغريم في اسقاط او ابطال.

[أقول: الاشتراط مذهب الشيخ(١) والقاضي(٢) والكيدري(٣) ويحيى بن سعيد(٤) وهو ظاهر ابن حمزة(٥) لانه ولاية، والعبد مولى عليه، ولانه من المناصب الجليلة فلا يليق بالرقيق. وعدمه مذهب المصنف(٦) للاصل، ولان المناط العلم مع الزهد، والاجتهاد مع العدالة فيكفي.

لعموم قول الصادقعليه‌السلام : اياكم ان يحاكم بعضكم بعضا إلى قضاة الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا، فاجعلوه بينكم، فاني قد جعلته قاضيا(٧) .

___________________________

(١)المبسوط: ج ٨ شرائط القضاء ص ١٠١ س ٩ قال: واما كمال الاحكام فان يكون بالغا علاقلا حرا ذكرا.

(٢)المهذب: ج ٢ كتاب القضاء ص ٥٩٩ س ٢ قال: واما كمال الاحكام بان يكون بالغا حرا ذكرا.

(٣)و(٤) مستند الشيعة: ج ٢ كتاب القضاء والشهادات ص ٥٢٠ س ١ قال: ومنها الحرية ذهب إلى الاشتراط: الشيخ، والقاضي وابن سعيد والكيدري إلى آخر.

(٥)الوسيلة: كتاب القضاء والاحكام ص ٢٠٩ س ١ قال: والكمال يثبت بثلاثة اشياء: بالتمام في الخلقة، وفي الحكم والاضطلاع بالامر الخ، وقال في مفتاح الكرامة، كتاب القضاء ج ١٠ س ١١ في شرح قول المصنف (واشتراط الحرية): وهو ظاهر محمد بن حمزة في الوسيلة.

(٦)لاحظ عبارة النافع.

(٧)التهذيب: ج ٦(٨٧) باب من اليه الحكم واقسام القضاء والمفتين ص ١٩ الحديث ٨.

٤٢٨

(مسائل)

(الاولى) للامام ان يقضي بعلمه مطلقا في الحقوق، ولغيره في حقوق الناس، وفي حقوق الله قولان.

[وفيه دلالة على جواز تجزي الاجتهاد، لقوله: (يعلم شيئا)، وهو نكرة.

قال طاب ثراه: للامام ان يقضي بعلمه مطلقا، ولغيره في حقوق الناس، وفي حقوق الله قولان.

أقول: اذا قامت البينة عند الحاكم، او اقر الخصم عنده سرا في مجلس قضائه وغيره بما يوجب حكما، حكم قطعا، وان لم يتفق احدهما، بل علم ما يوجب الحكم فهل يحكم بعلمه؟ فنقول: اما بالنسبة إلى جرح الشهود، وتعديلهم، فانه يحكم بعلمه اجماعا، والا لزم التسلسل، او الدور، او تعطيل الاحكام، والكل باطل.

وما عدا ذلك هل يحكم فيه بعلمه؟ فالذي يظهر ان للاصحاب فيه ثلاثة أقوال:

(أ) الحكم مطلقا، سواء كان امام الاصل او غيره، وسواء كان الحق لله أو لآدمى، وهو مذهب الشيخ(١) والمرتضى(٢) وأبي الصلاح(٣) واختاره المصنف(٤) ]

____________________

(١)الخلاف: كتاب آداب القضاء مسألة ٤١ قال: للحاكم ان يحكم بعلمه في جميع الاحكام الخ.

(٢)الانتصار: مسائل القضاء والشهادات وما يتصل بذلك ص ٢٣٦ قال: مسألة إلى قوله: القول بان الامام والحكام من قبله ان يحكموا بعلمهم في جميع الحقوق والحدود.

(٣)الكافي: فصل في العلم بما يقتضي الحكم ص ٤٢٨ س ٧ قال: علم الحاكم بما يقتضي تنفيذ الحكم كاف في صحته الخ.

(٤)الشرائع: مسائل (الاولى) قال: وغيره (اي غير الامام) من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس، وفي حقوق الله على قولين: اصحهما القضاء.

٤٢٩

[والعلامة(١) وفخر المحققين(٢) .

(ب) لا مطلقا في الحاكم والمحكوم به، وهو مذهب أبي علي(٣) ونقله في المبسوط عن قوم(٤) .

(ج) الحكم لامام الاصل مطلقا، ولغيره في حقوق الناس دون حقوقه تعالى، قاله ابن حمزة(٥) وابن ادريس(٦) .

احتج الاولون بوجوه:

(أ) قوله تعالى " الزانية والزاني فاجلدوا "(٧) وقوله: " والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما "(٨) فمن علمه الحاكم زانيا او سارقا وجب عليه القضاء بما اوجبته الاية.

(ب) ان قضائه بالشاهدين ظن، وبالعلم يقين، ومحال في الحكمة جواز الاول ومنع الثاني].

____________________

(١)القواعد: ج، الفصل الثالث في مستند القضاء ٢٠٥ قال: وغيره يقضي به في حقوق الناس وكذا في حقه تعالى على الاصح.

(٢)الايضاح: ج ٤ ص ٣١٢ س ٢٣ قال في شرح قول القواعد: وهو الاصح عندي وعند والدي.

(٣)المختلف: ج ٢ في لواحق القضاء ص ١٤٤ س ١٢ قال: وابوعلي بن الجنيد يصرح بالخلاف فيها، ويذهب إلى انه لا يجوز للحاكم ان يحكم بعلمه في شئ من الحقوق ولا الحدود الخ.

(٤)المبسوط: ج ٨ كتاب آداب القضاء ص ١٢١ س ١ قال: وقال آخرون لا يقضي، وعندنا ان الحاكم اذا كان مامونا قضى بعلمه الخ.

(٥)الوسيلة: فصل في بيان سماع البينات وكيفية الحكم بعلمه في حقوق الناس الخ.

(٦)السرائر: كتاب القضاء في سماع البينات ص ١٩٧ س ٢٠ قال: عندنا للحاكم ان يقضي بعلمه في جميع الاشياء، ثم استشهد بقضايا من حقوق الناس فلاحظ.

(٧)النور: ٢.

(٨)المائدة: ٣٨.

٤٣٠

[(ج) لو لم يحكم بعلمه، لزم فسق الحكام، او ايقاف الاحكام، لانه اذا طلق الزوج زوجته بحضرته، ثم جحد الطلاق كان القول قوله مع يمينه، فان حكم بغير علمه، وهو استحلاف الزوج وتسليمها اليه فسق، وان لم يحكم له وقف الحكم.

احتج المانعون بوجوه:

(أ) ان فيه تهمة، والتهمة تمنع القضاء، كالشهادة، فان تطرق التهمة اليها يمنع قبولها، فتطرق التهمة في الحكم يمنع نفوذه.

(ب) ان فيه تزكية نفسه، وقال تعالى: " ولا تزكوا انفسكم "(١) .

(ج) ماروي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في قضية الملاعنة: لو كنت راجما من غير بينة لرجمتها(٢) .

وأجاب الاولون عن الاول: بان التهمة حاصلة في الحكم بالبينة، او الاقرار مع عدم الالتفات اليها، واقوى فيما لو قال: ثبت عندي، وصح لدى، وحكمت بكذا، فانه يلزم حكمه، ولا يبحث عما صح به عنده.

وعن الثاني: ان تولية الحكم وجلوسه مجلس القضاء، تزكية نفسه، وهو غير قادح في امضاء حكمه.

وعن الثالث: بمنع السند.

احتج المفصلون: بالجمع بين القولين، ولان حقوق الله تعالى مبنية على التخفيف.

هذا جملة ما يظهر لي في هذه المسألة من اقوال اصحابنا.

وادعى الامام فخر الدين قدس الله روحه: اتفاق الامامية كافة على ان الامام]

____________________

(١)النجم: ٣٢.

(٢)عوالي اللئالي: ج ٣ ص ٥١٨ الحديث ١٤ ولاحظ ماعلق عليه.

٤٣١

[عليه‌السلام يحكم بعلمه، لعصمته، فعلمه يقيني، واما غيره فهو موضع الخلاف(١) .

قلت: ومعارضة السيد لابي علي فيما ابطل به قوله، حيث يقول: وكيف يخفى على ابن الجنيد هذا الذي لا يخفى على أحد، أو ليس قد روت الشيعة الامامية كلها ماهو موجود في كتبها ومشهر في رواياتها: ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ادعى عليه اعرابي سبعين درهما عن ناقة باعها منه، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : قد اوفيتك، فقال الاعرابي: اجعل بيني وبينك رجلا حكما يحكم بيننا، فاقبل رجل من قريش، فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : احكم بيننا، فقال للاعرابي: ما تدعي على رسول الله؟ قال: سبعين درهما ثمن ناقة بعتها منه، فقال: ماتقول يارسول الله؟ قال: قد اوفيته، فقال للاعرابي: ماتقول؟ قال: لم يوفني، فقال لرسول الله: ألك بينة على انك قد اوفيته؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا فقال للاعرابي: أتحلف انك لم تستوف حقك وتأخذه؟ فقال: نعم، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لاحاكمن هذا الرجل إلى رجل يحكم فينا بحكم الله عزوجل، فاتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى علي بن أبي طالب، ومعه الاعرابي، فقال عليعليه‌السلام : مالك يا رسول الله؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا ابا الحسن احكم بيني وبين هذا الاعرابي، فقالعليه‌السلام : ما تدعي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قال: سبعين درهما ثمن ناقة بعتها منه، فقال: يارسول الله ما تقول؟ فقال: قد اوفيته ثمنها، فقالعليه‌السلام للاعرابي: أصدق رسول الله فيما قال؟ قال: لا، ما اوفاني، فاخرج عليعليه‌السلام سيفه فضرب عنقه، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لم فعلت ذلك ياعلي؟ فقال يارسول الله نحن نصدقك على امر الله ونهيه، وأمر الجنة]

____________________

(١)الايضاح: ج ٤ كتاب القضاء ص ٣١٢ س ٢١ قال: اتفقت الامامية كافة على ان الامامعليه‌السلام يحكم بعلمه لعصمته، فعلمه يقيني.

٤٣٢

[والنار، والثواب والعقاب، ووحي الله عزوجل، فلا نصدقك في ثمن ناقة هذا الاعرابي، واني قتلته لانه كذبك لما قلت له: أصدق رسول الله فيما قال: فقال: لا، ما اوفاني شيئا، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اصبت يا علي، فلا تعد إلى مثلها، ثم التفت إلى القرشي، وكان قد تبعه، فقال: هذا حكم الله لا ما حكمت به(١) .

ثم قال السيد بعد ما اورد هذا الخبر بطريق آخر، واورد ما يضاهيه: فمن يروي مثل هذه الاخبار مستحسنا لها ومعولا عليها، كيف يجوز ان يشك في انه كان يذهب إلى ان الحاكم يحكم بعلمه، لولا قلة التأمل من ابن الجنيد(٢) .

قلت: وهذا الرد من السيدرحمه‌الله والحط على أبي علي بالمعارضة له بحكم عليعليه‌السلام ، وهو امام معصوم، وكذا فخر الدين حيث قال: احتج المانعون بما روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : لو كنت راجما من غير بينة لرجمتها، فلم يحكم بعلمهعليه‌السلام وهو صاحب الشريعة(٣) .

يدل على ان المانع يمنع مطلقا، فكيف يدعي اتفاق الامامية كافة على ان الامام يحكم بعلمه، وموضوع الخلاف غيره، لكنهرحمه‌الله اعلم بمواقع الخلاف، ودقائق الاقوال، واجل ان يخفى عليه ما ظهر لنا، فهو اعرف بما قال منا].

____________________

(١)الانتصار: مسائل القضاء والشهادات ص س ٦ قال: وكيف خفي على ابن الجنيد إلى آخره.

(٢)الانتصار: مسائل القضاء والشهادات ص ٢٤٠ س ٢٣ قال: فمن يروي هذه الاخبار الخ.

(٣)الايضاح: ج ٤ كتاب القضاء ص ٣١٣ س ٢٠ والحديث اوردها اصحاب الصحاح والمسانيد، لاحظ صحيح البخاري: باب اللعان، باب قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو كنت راجما بغير بينة، وسنن ابن ماجة: ج ٢ كتاب الحدود(١١) باب من اظهر الفاحشة ص ٨٥٥ الحديث ٢٥٥٩ و٢٥٦٠.

٤٣٣

(الثانية) اذا عرف عدالة الشاهدين حكم، وان عرف فسقهما اطرح، وان جهل الامرين، فالاصح التوقف حتى يبحث عنهما.

(الثالثة) تسمع شهادة التعديل مطلقة، ولا تسمع شهادة الجرح الا مفصلة.

(الرابعة) اذا التمس الغريم احضار الغريم وجب اجابته، ولو كان امرأة، ان كانت برزة. ولو كان مريضا او امرأة غير برزة، استناب الحاكم من يحكم بينهما.

(الخامسة) الرشوة على الحاكم حرام، وعلى المرتشي اعادتها.

[قال طاب ثراه: اذا عرف عدالة الشاهدين، حكم، وان عرف فسقهما أطرح، وان جهل الامرين، فالاصح التوقف حتى يبحث عنهما.

أقول: التوقف مذهب المفيد(١) وسلار(٢) والتقي(٣) واختاره المصنف(٤) والعلامة(٥) لان العدالة شرط قبول الشهادة، ولا يجوز الحكم بالمشروط مع الجهل بالشرط، ولانه احوط.

وقال الشيخ: يحكم لان الاصل في المسلم العدالة، ولانه لم ينقل عن الصحابة]

____________________

(١)المقنعة: باب كيفية سماع القضاة البينات ص ١١٣ س ١٨ قال: فان عرف له ما يوجب جرحه، او التوقف في شهادته لم يمض الحكم بها.

(٢)المراسم: ذكر احكام البينات ص ٢٣٤ س ١٢ قال: ومتى تلعثم الشاهد او تتعتع إلى قوله: ولا يحكمن بها الا بعد التعرف.

(٣)الكافي: فصل في الشهادات ص ٤٣٥ س ٦ قال: العدالة شرط في صحة الشهادة إلى ان قال: وان اختل شرط لم تقبل الشهادة.

(٤)لاحظ عبارة النافع.

(٥)القواعد: ج ٢، الفصل الثالث في مستند القضاء ص ٢٠٥ س ١٣ قال: فان علم فسق الشاهدين لم يحكم إلى ان قال: وان جهل الامر بحث عنهما.

٤٣٤

النظر الثالث: في كيفية الحكم وفيه مقاصد (الاول) في وظائف الحاكم

وهي اربع: (الاولى) التسوية بين الخصوم في السلام، والكلام، والمكان، والنظر، والانصات، والعدل في الحكم. ولو كان احد الخصمين كافرا جاز ان يكون الكافر قائما والمسلم قاعدا، أو اعلى منزلا.

(الثانية) لا يجوز ان يلقن احد الخصمين شيئا يستظهر به على خصمه.

(الثالثة) اذا سكتا استحب له ان يقول: تكلما، او ان كنتما حضرتما لشئ، فاذكراه، اوما ناسبه.

(الرابعة) اذا بدر احد الخصمين سمع منه، ولو قطع عليه غريمه منعه حتى تنتهي دعواه، او حكومته ولو ابتدرا الدعوى سمع من الذي عن [والتابعين البحث عن حال المسلم(١) .

واجيب: بان الاسلام يقتضي العدالة بمعنى ان المسلم اقرب اليها، ولا يقتضيها اقتضاء يمنع من النقيض، وقبول الشهادة مبني على عدم وقوعه، وجاز لا وقوعه لعدم احتياجهم اليه]

____________________

(١)الخلاف: كتاب آداب القضاء، مسألة ١٠ قال: دليلنا إلى قوله: وأيضا الاصل في الاسلام العدالة، والفسق طارئ عليه نحتاج إلى دليل، وأيضا نحن نعلم انه ما كان البحث في ايام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى آخره.

٤٣٥

يمين صاحبه. وان اجتمع خصوم كتب اسماء المدعين واستدعي من يخرج اسمه.

(المقصد الثاني): في جواب المدعى عليه

وهو اما اقرار، او انكار، او سكوت.

اما الافرار فيلزم اذا كان جائز الامر، رجلا كان او امرأة، فان التمس المدعي الحكم به، حكم له. ولا يكتب على المقر حجة الا بعد المعرفة باسمه ونسبه، او يشهد بذلك عدلان، الا ان يقنع المدعي بالحلية.

ولو امتنع المقر من التسليم امر الحاكم خصمه بالملازمة، ولو التمس حبسه، حبس، ولو ادعى الاعسار كلف البينة، ومع ثبوته ينظر، وفي تسليمه إلى الغرماء رواية، واشهر منها تخليته.

[قال طاب ثراه: ولو ادعى الاعسار كلف البينة، ومع ثبوته ينظر، وفي تسليمه إلى الغرماء رواية، واشهر منها تخليته.

أقول: انما كلف البينة بالاعسار اذا كان له اصل مال، او كان اصل الدعوى مالا، اما لو لم يعرف له اصل مال، ولا كان اصل الدعوى مالا، بل جناية، او صداقا، أو قريب استدان عليه باذن منه، او من الحاكم، فانه يقنع بيمينه.

اذا عرفت هذا: فاذا ثبت اعساره شرعا، فهل يخلى سبيله، او يسلم إلى الغرماء؟ المشهور بين الاصحاب هو الاول قاله الشيخ في الاخلاف(١) واختاره ابن ادريس(٢) ]

____________________

(١)الخلاف: كتاب التفليس، مسألة ١٥ قال: اذا افلس من عليه الدين إلى قوله: لا يواجر ليكتسب ويدفع إلى الغرماء الخ.

(٢)السرائر: باب النوادر في القضايا ص ٢٠٢ س ١٢ قال بعد نقل حديث السكوني: هذا الخبر غير صحيح ولا مستقيم، لانه مخالف لاصول مذهبنا، إلى قوله: ولم يذكر استعملوه ولا اجروه الخ.

٤٣٦

[وهو مذهب المصنف(١) واحد قولي العلامة(٢) لقوله تعالى: "وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"(٣) وقال في االنهاية: للغرماء مؤاجرته(٤) وفصل ابن حمزة فقال: اذا ثبت اعساره خلى سبيله ان لم يكن ذا حرفة يكتسب بها، وامره بالتمحل، وان كان ذا حرفة دفعه اليه ليستعمله، فما فضل عن قوته وقوت عياله بالمعروف اخذه بحقه(٥) واحتج بالحديث المشهور الذي رواه السكوني عن الصادقعليه‌السلام عن الباقرعليه‌السلام عن عليعليه‌السلام : انه كان يحبس في الدين، ثم ينظر ان كان له مال اعطى الغرماء، وان لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء فيقول لهم: انعوا به ما شئتم، ان شئتم واجروه وان شئتم استعملوه(٦) .

قال العلامة في المختلف: وما قاله ابن حمزة ليس بعيدا من الصواب لانه متمكن من اداء ما وجب عليه، وايفاء صاحب الدين حقه، فيجب عليه، أما الكبرى فظاهرة، واما الصغرى فلان الفرض انه متمكن من التكسب والتحصيل، وكما يجب السعي في المؤنة كذا يجب في اداء الدين، ونمنع اعساره، لانه متمكن، ولا فرق بين القدرة على المال وعلى تحصيله، ولهذا منعنا القادر على التكسب بالصنعة والحرفة من أخذ الزكاة باعتبار الحاقة بالغني القادر على المال(٧) ].

____________________

(١)لاحظ عبارة النافع.

(٢)القواعد: ج ٢، الفصل الثاني فيما يترتب على الدعوى ص ٢٠٩ س ٤ قال: فان ادعى الاعسار إلى قوله: لم يحل حبسه وانظر إلى ان يوسر.

(٣)البقرة: ٢٨٠.

(٤)النهاية: باب آداب القضاء ص ٣٣٩ س ٦ قال: والا امر خصمه بملازمته حتى يرضيه، واورد في ص ٣٥٢ تحت رقم ١٢ الحديث عن السكوني، ولم نظفر في النهاية بهذه العبارة.

(٥)الوسيلة: في بيان صفة القاضي وآداب القضاء ص ٢١٢ س ٧ قال: فاذا ثبت اعساره الخ.

(٦)التهذيب: ج ٦(٩٢) باب من الزيادات في القضايا والاحكام ص ٣٠٠ الحديث ٤٥.

(٧)المختلف: ج ٢ فيما يتعلق بالقضاء ص ١٥٩ قال: مسألة، قال ابن حمزة إلى آخره.

٤٣٧

ولو ارتاب بالمقر، توقف في الحكم حتى يتبين حاله.

واما الانكار: فعنده يقال للمدعي: ألك بينة؟ فان قال نعم أمر باحضارها، فاذا حضرت سمعها، ولو قال: البينة غائبة، اجل بمقدار احضارها. وفي تكفيل المدعى عليه تردد، ويخرج من الكفالة عند انقضاء الاجل، وان قال: لا بينة، عرفه الحاكم ان له اليمين. ولا يجوز احلافه حتى يلتمس المدعي، فان تبرع، او احلفه الحاكم لم يعتد بها، واعيدت مع التماس المدعي.

[قلت: هذا التعليل لا ينهض بالدلالة على قول ابن حمزة لان غاية وجوب السعي والتكسب في قضاء الدين، لايسلط صاحب الدين على استعماله ومواجرته، لانتفاء ولايته عليه.

فان قيل: الولاية ثابتة بقول الحاكم: (ان شئتم واجروه وان شئتم استعملوه).

قلنا: ولاية الحاكم وحجره تتعلق بالمال الموجود، والتقدير انه لا مال له.

تنبيه: لايجب التكسب في قضاء الدَّين

مذهب المصنفرحمه‌الله : أنه لا يجب التكسب في قضاء الدين، بل اذا تكسب وفضل معه عن مؤنته شئ، وجب صرفه في قضاء دينه(١) ومذهب العلامة وجوب السعي فيه(٢) والاجبار عليه كما يجبر على التكسب في مؤنة عياله، وهو امتن، وعليه يدل الاحاديث(٣) ويلزم المصنف مذهب الشيخ في الكتابة وهو لا يقول به.

قال طاب ثراه: ولو قال: البينة غائبة، أجل بمقدار احضارها، وفي تكفيل]

____________________

(١)لم اعثر عليه.

(٢)القواعد: ج ١ كتاب الدين ص ١٥٥ س ٢٣ قال: ويجب على المديون السعي في قضا الدين وترك الاسراف في النفقة.

(٣)الكافي: ج ٥ كتاب المعيشة باب قضاء الدين ص ٩٥ الحديث ٢.

٤٣٨

[المدعى عليه هنا تردد.

أقول: للاصحاب هنا ثلاثة أقوال:

(أ) تكفيله مدة لاحضارها وتخرج عن الكفالة بانقضاء الاجل قاله المفيد(١) والشيخ في النهاية(٢) وبه قال التقي(٣) والقاضي في الكامل(٤) واطلقوا المدة، والظاهر انها موكولة إلى نظر الحاكم.

(ب) تقييد المدة بثلاثة ايام، فان زادت لم يلزمه الكفيل، ويخرج عن الكفالة بانقضائها قاله ابن حمزة(٥) .

(ج) ليس له الزامه بكفيل، بل إما أن يحلفه أو يطلقه قاله الشيخ في الخلاف(٦) وهو مذهب أبي علي(٧) ، واختاره المصنف(٨) والعلامة(٩) ].

____________________

(١)المقنعة: باب قيام البينة على الحالف ص ١١٤ س ٨ قال: واذا بعدت بينة المدعى كان له تكفيل المدعى عليه إلى ان يحضر ببينة الخ.

(٢)النهاية: باب آداب القضاء ص ٣٣٩ س ١٦ قال: وان قال المدعي: لست اتمكن من احضارها جعل معه مدة من الزمان ليحضر فيه ببينة ويكفل بخصمه الخ.

(٣)الكافي: الفصل الثالث من تنفيذ الاحكام ص ٤٤٦ س ١١ قال: وان ادعى بينة غائبة إلى ان قال: فان انقضت المدة ولم يحضر بينة سقط تضمين خصمه الخ.

(٤)المختلف: ج ٢ كتاب القضاء وتوابعه ص ١٣٨ س ٣٦ قال: ولابن البراج قولان: ففي الكامل وافق الشيخ أيضا.

(٥)الوسيلة: كتاب القضايا والاحكام ص ٢١٢ س ١٨ قال: وان ادعى غيبة بينته إلى قوله: مالم تزد المدة على ثلاثة ايام، فان زادت لم يلزمه الكفيل الخ.

(٦)كتاب الخلاف: كتاب آداب القضاء مسألة ٣٦ قال: فقال المدعي: لي بينة غير انها غائبة لم يجب له ملازمة المدعى عليه ولا مطالبته له بكفيل الخ.

(٧)و(٩) المختلف: ج ٢ كتاب القضاء في الآداب ص ١٣٨ س ٣٤ قال: وقال ابن الجنيد: ولو سأل المدعي القاضي مطالبة المدعى عليه بكفيل إلى قوله لم يكن ذلك واجبا عليه الخ إلى ان قال: وما ذكرناه اولا (أي مختار الشيخ) هو الاظهر والاصح.

(٨)لاحظ عبارة النافع.

٤٣٩

ثم المنكر اما ان يحلف، أو يرد، او ينكل.

فان حلف سقطت الدعوى: ولو ظفر له المدعي بمال لم يجز له المقاصة، ولو عاود الخصومة لم تسمع دعواه، ولو اقام بينة لم تسمع (وقيل: يعمل بها مالم يشرتط الحالف سقوط الحق بها) ولو اكذب نفسه جاز مطالبته وحل مقاصته.

فان رد اليمين على المدعي صح، فان حلف استحق، وان امتنع سقطت دعواه.

[احتج الاولون: بان في تكفيله حفظا لحق المدعي، وصونا له عن الضياع، حذرا من هرب الغريم.

احتج المانعون: باصالة البرائة، وابن التكفيل عقوبة لم يثبت لها موجب.

قال طاب ثراه: وقيل: يعمل بها مالم يشترط الحالف سقوط الحق بها.

أقول: اتفق المسلمون على سقوط الدعوى في مجلس الحلف، وهل يسمع في غيره؟ للاصحاب فيه ثلاثة اقوال:

(أ) عدم السماع قاله الشيخ في النهاية(١) والخلاف(٢) وموضع من المبسوط(٣) ، وهو مذهب أبي علي(٤) واختاره المصنف(٥) والعلامة(٦) ].

____________________

(١)النهاية: باب آداب القضاء ص ٣٤٠ س ١٦ قال: وان قال المدعي إلى قوله: فحلفه الحاكم ثم اقام بعد ذلك البينة، لم يلتفت إلى بينته وابطلت.

(٢)كتاب الخلاف: كتاب الشهادات مسألة ٤٠ قال: اذا حلف المدعى عليه ثم اقام المدعي البينة بالحق لم يحكم له بها.

(٣)المبسوط: ج ٨ كتاب الشهادات ص ٢١٠ س ٤ قال: المدعى عليه اذا حلف ثم اقام المدعي بعد ذلك بينة بالحق فعندنا لا يحكم له بها.

(٤)و(٦) المختلف: ج ٢ كتاب القضاء، في الآداب ص ١٣٨ س ١٨ قال بعد نقل قول الشيخ في الخلاف والنهاية: وهو قول ابن الجنيد، إلى ان قال: والمعتمد مانقله الشيخ في النهاية.

(٥)لاحظ عبارة النافع.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553