المهذب البارع في شرح المختصر النافع الجزء ٤

المهذب البارع في شرح المختصر النافع10%

المهذب البارع في شرح المختصر النافع مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 553

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 553 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114277 / تحميل: 7350
الحجم الحجم الحجم
المهذب البارع في شرح المختصر النافع

المهذب البارع في شرح المختصر النافع الجزء ٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

١٨١

وأنّ أيام الخلاف والاقتتال قد انتهت، فها هو المأمون يستعدّ لإرجاع الحقّ إلى أصحابه، وها هو صاحب الحقّ قد أقبل، وستغدو الأيام رخيّةً سهلةً، لكنّهم كانوا واهمين، فالإمامعليه‌السلام يعرف حقّ المعرفة أنّ المأمون غير جادٍّ في عرضه، وأنّه يتظاهر بالرّغبة في التّنازل عن الحكم لأمر في نفسه، وإذا تجاوزنا المأمون إلى بطانته وأجهزته حوله، لرأينا أنّهم أحرص على الملك والجاه والدنيا، لذا فقد رفض الإمام عرض المأمون، فما كان من المأمون إلاّ أن عرض عليه ولاية العهد بعده، والعرض الجديد لم يكن حبّاً بالإمام، وميلاً إلى الحقّ، بل هو تغطية لمآرب أخرى، فالمأمون يرمي من ورائه للحصول على شرعيّةٍ لحكمه، كما يرمي إلى إسكات الثّائرين عليه، ومرّةً ثانيةً يرفض الإمام عرضه، فيلحّ المأمون ويهدّد، ويمعن في تهديداته حتى التلويح بالقتل، بل التصريح به، ويروى أنّ المأمون قال للإمام حين رأى امتناعه عن القبول بما يعرضه عليه: إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي، فبا لله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلاّ أجبرتك على ذلك، فإن فعلت وإلاّ ضربت عنقك.

١٨٢

١٨٣

كان الإمامعليه‌السلام يتوقّع كلّ هذا، كان يعرفه حين دخل مسجد جدّه الرسول في المدينة يودّعه، ويقول وهو يبكي: إنّي أخرج من جوار جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأموت في غربةٍ. كان يدرك ذلك وهو في طريقه من المدينة إلى خراسان مغلوباً على أمره.

وأخيراً فلم يجد أمام إلحاح المأمون وتشدّده بدّاً من القبول، إنّما بشروط لا مناص منها، فقال للمأمون: أنا أقبل ذلك على أن لا أولّي أحداً، ولا أعزل أحداً، ولا أنقض رسماً ولا سنّةً، وأكون في الأمر من بعيدٍ مشيراً.

رضي المأمون، وتمّت البيعة للإمام بولاية العهد، بحضور الوزراء والقادة والأعيان، وحشدٍ كبير من الناس. ووزّع المأمون الأموال والهدايا عليهم، وتزاحم الشعراء على تقديم مدائحهم.

وبهذه المناسبة ضرب المأمون الدراهم وطبع عليها اسم الرضاعليه‌السلام . وصار الخطباء يفتتحون خطبهم بالدعاء للمأمون والرضاعليه‌السلام .

١٨٤

وفي خراسان عقد الإمام مجالس المناظرة مع العلماء والأطبّاء وغيرهم، فكان علمه وسعة اطّلاعه مبعثاً لعجبهم، وكان المأمون يحضر بعض هذه المجالس، ولا يستطيع أن يخفي غيظه وحسده لمكانة الإمام، رغم ادّعائه تشجيع العلوم والأبحاث، وكان الإمام حين يرى منه ذلك، يختصر أحاديثه ويوجزها ما أمكنه، خاصّةً وأنّه أدرك أنّ الموكلين بأموره وقضاء حوائجه كانوا في الحقيقة عيوناً للمأمون عليه، فكانعليه‌السلام يتلوّى من الألم، ويتمنّى لنفسه الموت ليتخلّص من حياةٍ تحيط بها المكاره، وكان يقول: اللهم إن كان فرجي ممّا أنا فيه بالموت فعجّله لي الساعة.

صلاة لم تتمّ

لمّا حضر عيد الفطر في السنة التي عقد فيها المأمون ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام ، أرسل إليه بالركوب إلى العيد والصلاة بالناس والخطبة بهم، فبعث إليه الإمام الرضا: لقد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول هذا الأمر (يعني قبوله لولاية العهد(، فأعفني من الصلاة بالناس. فألحّ عليه المأمون وقال له: أريد بذلك أن تطمئنّ إليك قلوب الناس، ويعرفوا فضلك. فأجابه الإمام إلى طلبه على شرط أن يخرج إلى الصلاة كما كان يخرج إليها

١٨٥

رسول الله وأميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب من بعده، فقال له المأمون: اخرج كيف شئت. ثمّ أمر القوّاد والحجّاب والناس أن يبكّروا إلى باب الرضاعليه‌السلام ، ليرافقوه إلى الصلاة.

وصباح العيد وقف الناس في الطّرقات وعلى السطوح ينتظرون خروجه، ووقف الجند والقادة على بابه وقد تزيّنوا وركبوا خيولهم. قام الإمام فاغتسل ولبس ثيابه، وتعمّم بعمامةٍ بيضاء من قطن، فألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفيه، ومسّ شيئاً من الطيب، وقال لمن معه: افعلوا مثل ما فعلت، فخرجوا بين يديه وهو حاف قد شمّر سراويله، فرفع رأسه إلى السماء وقال: الله اكبر، فكبّر معه الناس، ولما رآه القادة والجند على تلك الصّورة، ترجّلوا عن خيولهم، ونزعوا أحذيتهم من أرجلهم، ومشوا خلفه حفاةً، ثم كبّر الرضاعليه‌السلام ، وكبّر معه الناس، وارتفعت أصواتهم بالتكبير حتى سمعت من كلّ الجهات، وضجت المدينة بالمكبّرين، وخرج الناس من منازلهم، وازدحمت بهم الشوارع والطرقات بشكلٍ لم تشهده (مرو) من قبل، وصدق فيه قول الشاعر:

ذكروا بطلعتك النبيّ فهلّلوا *** لمّا طلعت من الصّفوف وكبّروا

١٨٦

حتى انتهيت إلى المصلّى لابساً

نور الهدى يبدو عليك ويظهر

ومشيت مشية خاشعٍ متواضعٍ

لله لا يزهو ولا يتكبّر

ولو أنّ مشتاقاً تكلّف فوق ما

في وسعه لسعى إليك المنبر

كان المأمون يريده أن يخرج للصلاة كما يخرج الملوك، تحفّ بهم الزّينات ومعالم العظمة، ويستغلّون المناسبة لعرض قوّتهم وهيبتهم في النفوس، بينما يرى الإمام أنّ للمناسبة قداستها الروحيّة، ترفع فيها آيات الخضوع والعبوديّة لله تعالى، وترتفع الأصوات بحمده والتكبير له، وشتّان بين ما أراد المأمون وما فعله الإمام ، فما كان من المأمون إلاّ أن بعث إليه يقول:

لقد كلّفناك شططاً (أي زيادةً عن الحدّ( وأتعبناك يابن رسول الله، ولسنا نحبّ لك إلاّ الراحة، فارجع، وليصلّ بالناس من كان يصلي بهم.

فرجع الإمامعليه‌السلام ، لأنّ هذا هو ما يتمنّاه.

أموت في غربةٍ

منذ ذلك اليوم، وقد رأى المأمون تجاوب الناس مع الإمام، وكيف كان توجّههم إليه عميقاً، أحسّ بالمرارة تغلي في أحشائه، وتذكّر أيام أبيه هارون الرّشيد مع الإمام

١٨٧

الكاظمعليه‌السلام ، وكان يرى حفاوة الرشيد البالغة بالإمام، وإكرامه له، وهو (أي المأمون( لا يعرفه، فسأل أباه قائلاً: من هذا الرجل الذي عظّمته وقمت من مجلسك لأجله، وجلست بين يديه؟ قال الرشيد: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده. فقال المأمون: أليست هذه الصفات كلّها لك وفيك؟ فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حقّ، والله يا بنيّ إنّه لأحقّ بمقام رسول الله منّي ومن الخلق أجمعين، فقال له المأمون: إذا كنت تعرف ذلك فتنحّ عن الملك وسلّمه لأصحابه، فقال: يا بنيّ إنّ الملك عقيم، والله لو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك.

تذكّر المأمون هذه الواقعة مع أبيه، ولا يزال صدى العبارة الأخيرة يرنّ في مسامعه: والله لو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك.

وما له يسلّط على هذا الملك رجلاً يلتفّ الناس حوله إذا حضر، وتهفو إليه قلوبهم إن غاب، يجلّونه ويقدّرونه؟ أليس أبوه الذي قال: إنّ الملك عقيم؟ أليس بالأمس القريب قتل أخاه وعشرات الألوف من الناس في سبيل هذا الملك؟

١٨٨

تذكّر كلّ هذا وصمّم أمراً، صمّم أن يريح نفسه من هذا الهمّ الذي جلبه على نفسه بيديه، وقرّر أن يتخلّص من الإمام.

ولم يطل الأمر كثيراً، وكان قد مضى على الإمام في ولاية العهد ما يقرب من سنتين، حين استشهد مسموماً، واتّهم المأمون بقتله، لكنّه أنكر التّهمة، وأظهر عليه الأسى والحزن. وكان استشهاده سنة ٢٠٣ للهجرة بطوس، ودفن في مشهد. ويختلف الناس لزيارة قبره من جميع أنحاء العالم. ويروى عنه أنّه قال: من زارني في غربتي كان معي في درجتي يوم القيامة.

عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأزكى السلام.

١٨٩

الإمام محمد الجوادعليه‌السلام

الاسم: الإمام محمد الجوادعليه‌السلام

اسم الأب: الإمام علي الرضاعليه‌السلام

اسم الأم: خيزران

تاريخ الولادة: ١٠ رجب سنة ١٩٥ للهجرة

محل الولادة: المدينة

تاريخ الاستشهاد: ٦ ذي الحجة سنة ٢٢٠ للهجرة

محل الاستشهاد: الكاظمية

محل الدفن: الكاظمية

المواجهة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

في يوم دافئ، وأشعّة الشمس تتسلّل برفق عبر أزقّة مدينة بغداد، وتبدأ انتشارها فوق السّهول المترامية الأطراف حولها، خرج المأمون العباسي مع نفر من حاشيته للصيد، وقد امتطوا جيادهم يسابقون بها الريح، مصطحبين صقورهم وكلابهم، قاصدين السّهول الممتدّة حول المدينة.

بغداد في تلك الأيام كانت مدينةً كبيرةً جداً، تحيط بها مزارع البرتقال وكروم العنب وأشجار النّخيل، يزيّنها العشب الأخضر والورود.

كان الموكب يجتاز شوارع العاصمة، مثيراً الرعب والذّعر في قلوب الناس. وفي أحد الشوارع صادف مجموعةً من الصبية يلعبون ويتراكضون، وما إن شعر الصبيّة باقتراب خيل الحاكم حتى هربوا في كلّ

١٩٠

اتّجاهٍ؛ وتلك كانت صورة الحكّام المرعبة، فقد ترك أسلاف المأمون كالرّشيد والمنصور وهشامٍ والحجاج بصمات البطش والإرهاب في النفوس.

خلت الساحة من الأطفال، عدا طفل منهم، انتصب شامخاً أمام الموكب غير آبهٍ به، ممّا أثار دهشة المأمون، فأمر بإحضار الصبيّ إليه، وخاطبه قائلاً: لماذا لم تهرب مع الصبية الآخرين؟ قال الصبيّ: مالي ذنب فأفرّ منه، ولا الطريق ضيّق فأوسّعه عليك، فسر حيث شئت.

قال المأمون متعجّباً من جرأة الغلام: من تكون أنت؟ قال: أنا محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام .

قال المأمون: ما تعرف من العلوم؟

قال: سلني عن أخبار السّماوات.

(لقد سأل المأمون الغلام الصغير عمّا يعرفه من العلوم، والعلوم لا يعرفها إلاّ من درسها، وقضى السنين في تعلّمها، فكيف يسأل عنها غلاماً صغيراً؟

والجواب أنّ المأمون يعلم ذلك، لكنّه بعد أن

١٩١

عرف أنّ الغلام هو ابن الإمام الرضاعليه‌السلام ، وأنّه فرع من الشجرة المباركة، شجرة أهل البيتعليهم‌السلام ، الذين يتوارثون العلوم والمعارف، كلاّ عمّن سبقه، سأله هذا السؤال الطبيعيّ).

ترك المأمون الإمام مبتعداً نحو السّهول، وهو غارق في التفكير بأمر هذا الغلام، ومضى النهار إلا أقلّه، والمأمون لا يجد صيداً، فأطلق أحد صقوره يبحث عن طريدة؛ حلّق الصّقر عالياً وغاب عن الأنظار ساعةً، عاد بعدها وهو يحمل حيّةً بين مخالبه، وألقاها أمام المأمون، أمر المأمون بوضع الحيّة في صندوق وقال لأصحابه: قد دنا حتف ذلك الغلام في هذا اليوم، وعلى يديّ. ثمّ عاد أدراجه نحو بغداد.

وفي طريق عودته، التقى بالصبيّة أنفسهم وابن الرضا بينهم، فاقترب منه قائلاً (وكأنّما يتابع معه حديث الصباح):

وما عندك من أخبار السماوات؟

أجاب الإمام قائلاً: حدثني أبي عن آبائه، عن النبيّ، عن جبرائيل، عن ربّ العالمين أنّه قال: بين السماء والهواء عجاج (والعجاج هو الغبار أو الدخان)

١٩٢

يتلاطم به الأمواج. فيه حيات خضر البطون، رقط الظهور (لونها مبقّع بالبياض والسواد(، يصيدها الملوك بالبزاة الشهب، ليمتحنوا به العلماء.

فقال المأمون: صدقت، وصدق أبوك، وصدق جدّك، وصدق ربّك.

كان هذا هو اللّقاء الأول بين الإمام والمأمون، وتوالت اللّقاءات، وتعرّف المأمون أكثر وأكثر على مناقب الإمام العالية، وضلوعه بالعلم والمعرفة، وصمّم أن يزوّجه ابنته.

اعتراض العباسيين

كان المأمون يرمي من تزويج ابنته من الإمام الجوادعليه‌السلام ، إلى اكتساب رضى السادة العلويين، وإزالة ذكرى الموت المفاجئ للإمام الرضاعليه‌السلام من الخواطر، مدّعياً الصفاء معهم، كما يرمي من جهة ثانية إلى أن يكون الإمام الجواد على مقربةٍ منه، ليتمكّن من مراقبته بواسطة عيونه وجواسيسه، ومعرفة تحرّكاته واتّصالاته، وقد سبق للمأمون أن اتّبع الأسلوب نفسه مع الإمام الرضاعليه‌السلام .

ولمّا علم العباسيون بالأمر، ثقل عليهم

١٩٣

واستكبروه، وخافوا أن ينتهي الأمر مع الجواد إلى ما انتهى إليه مع أبيه الرضا، فيفوز بولاية عهد المأمون.

اجتمع نفر منهم إلى المأمون قائلين: ننشدك الله يا أميرالمؤمنين أن تصرف النظر عن هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا؛ فإنّا نخاف أن تخرج عنّا أمراً قد ملكناه، وتنزع عنّا عزّاً قد ألبسناه، فقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم آل عليّ قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك معهم، وقد كنّا في وهلةٍ (فزع( من عملك مع الرضا ما عملت، حتّى كفانا الله ألمهمّ من ذلك، فالله الله أن تردّنا إلى غم انحسر عنّا (زال عنا(، فاصرف رأيك عن ابن الرضا، واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لها دون غيرهم.

فأجابهم المأمون: أمّا ما كان بينكم وبين آل أبي طالب، فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم. وأمّا ما كان يفعله من قبلي بهم، فقد كان قاطعاً للرّحم، وأعوذ بالله من ذلك وأمّا أبوجعفرٍ محمد (الجواد( بن عليّ فقد اخترته لتبريزه (تفوّقه( على كافّة أهل الفضل في العلم، مع صغر سنّه.. وأنا

١٩٤

١٩٥

أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه، ليعلموا أنّ الرأي ما رأيت فيه.

فقالوا: أتزوّج ابنتك وقرّة عينك صبياً لم يتفقّه في دين الله، ولم يعرف حلاله من حرامه، ولا فرضه من سننه؟ فأمهله ليتأدّب ويقرأ القرآن ويتفقّه في الدين، ثمّ اصنع ما تراه بعد ذلك.

فقال لهم: ويحكم، إنّي أعرف بهذا الفتى منكم، وإنّه لأفقه منكم وإن شئتم فامتحنوه، فإن كان كما وصفتم قبلت منكم

فقالوا: لقد رضينا لك ولأنفسنا بامتحانه؛ فخلّ بيننا وبينه، لنعيّن من يسأله بحضرتك عن شيءٍ من فقه الشريعة، فإن أصاب الجواب لم يكن لنا اعتراض، وإن عجز عن ذلك فقد كفينا أمره.

قبل المأمون، وعيّن لهم يوماً لذلك.

ثم اجتمع رأيهم على يحيى بن أكثم ، قاضي القضاة يومذاك، على أن يسأل الإمام مسألة لا يعرف الجواب عنها، ووعدوه بأموالٍ وفيرةٍ إن هو استطاع ذلك.

مجلس الامتحان

وفي اليوم الذي عيّنه المأمون، حضر الإمام وقاضي القضاة والمأمون، كما حضر كبار العباسييّن، وأعيان الدولة، وجلس الناس على مراتبهم، بينما أجلس المأمون الإمام الجواد إلى جانبه.

من الجدير بالذكر أنّ تلك المجالس الفخمة التي كان العباسيون يقيمونها من وقت إلى آخر، لم تكن بالنسبة إليهم إلاّ مجالس ترفٍ ولهوٍ، ولم تكن تعقد بناءً على التعاليم الإسلامية التي تراعي أصول التساوي بين الناس، ولم يسيروا فيها على خطى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخطى الإمام عليّعليه‌السلام ، في جعلها مجالس للمذاكرة في تعاليم الإسلام وأحكامه، ممّا يعود بالفائدة على الجميع، بل كانت مجالس للمناظرة والمبارزة الكلاميّة وإلقاء الأشعار والخطب. فحضور الإمام في هذا المجلس لم يكن حضور مشارك أو حتى ضيفٍ، بل كان - في الواقع - حضوراً قهريّاً إجبارياً لا يستطيع منه فكاكاً على أيّ حالٍ، فقد جلس الإمام في مكانٍ فخمٍ مزيّن إلى جانب المأمون، كما جلس النبيّ يوسف

١٩٦

- من قبل - إلى جانب فرعون مصر. وفي قصص الأنبياء دروس للناس، تبيّن لهم الحقائق الكامنة وراء الأحداث التاريخية المختلفة باختلاف الأزمان، فها هو يوسف النبي، يجلس إلى جوار فرعون مصر ويدير له شؤون دولته، وفي يوم آخر، يقوم نبيّ آخر هو موسىعليه‌السلام ، ضدّ فرعون آخر، فيهزمه ويقضي عليه. ولكنّ الكثرين لا يفكّرون في أحداث التاريخ، ويعجزون عن فهمها وإدراك مغزاها. تقول الآية الشريفة:

( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسّائلين ) .

ساد المجلس صمت مطبق، والكلّ يتطلّع إلى رؤية الإمام الجواد، هذا القادم الجديد إلى بغداد، والذي لم تقع عليه أعين الناس من قبل، ورؤية مقدرته، وهو ابن تسع سنين، في مواجهة قاضي قضاة بغداد، ويتساءلون: هل في مقدور حفيد رسول الله أن يصمد أمام أسئلة هذا العالم الكبير؟

قطع القاضي يحيى بن أكثم حبل الصمت، والتفت إلى المأمون قائلاً:

أيأذن لي أميرالمؤمنين بأن أوجّه سؤالاً إلى أبي

١٩٧

جعفر بن الرّضا؟

أجاب المأمون: عليك أن تأخذ الإذن منه.

التفت يحيى بن أكثم إلى الإمام الجواد قائلاً:

(أتأذن لي - جعلت فذاك - في مسألة؟ فقال له أبو جعفر: سل إن شئت. قال يحيى: ماذا تقول في محرم قتل صيداً؟ أجاب الإمام:

قتله في حلّ أوحرم؟ عالماً كان المحرم أم جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حرّاً كان أم عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أم معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد أم من كباره؟ مصرّاً على ما فعل أم نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد في أوكاره أم نهاراً؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله، أو بالحجّ كان محرماً؟

فتحيّر يحيى بن أكثم، وبان في وجهه العجز والانقطاع، وتلجلج حتى عرف أهل المجلس أمره).

لم يكن يحيى بن أكثم قد سمع - حتى يومه ذاك - بأكثر من وجه واحدٍ للمحرم الذي يقتل صيداً، ولم يعرف لذلك سوى حكم واحدٍ، ويفاجأ الآن بأنّ سؤالاً قصيراً واحداً يحتاج - في الإجابة عليه - إلى كلّ

١٩٨

ذلك التفصيل الكبير.

تحيّر يحيى بن أكثم، وتحيّر معه كلّ من حضر المجلس، وأدركوا بأنّ الإمام الجوادعليه‌السلام بحر من العلم والمعرفة؛ فقد أعطاهم - على صغر سنه - درساً في الأحكام، وهو أنّ الحكم في كلّ مسألةٍ يختلف باختلاف ظروفها وملابساتها.

ويروى أنّ المأمون طلب من الإمام أن يسأل يحيى بن أكثم كما سأله، فأجابه الإمام إلى طلبه، وسأل القاضي سؤالاً لم يعرف الإجابة عليه، وقال: والله لا أهتدي لجوابك، ولا أعرف الوجه في ذلك، فإن رأيت أن تفيدنا. فاستجاب الإمام إلى رغبته، وأعطاه جواب المسألة.

عند ذاك، أقبل المأمون على من حضره من أهل بيته قائلاً: ويحكم، إنّ أهل هذا البيت خصّوا من بين الخلق بما ترون من الفضل، وإنّ صغر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال، أما علمتم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله افتتح دعوته بدعاء أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وهو ابن عشر سنين. وقبل الإسلام منه، ولم يدع أحداً في سنه غيره؟ أفلا تعلمون الآن ما خصّ

١٩٩

الله به هؤلاء القوم، وأنّهم ذريّة بعضها من بعض، يجري لآخرهم ما يجري لأوّلهم؟ فقالوا: صدقت يا أميرالمؤمنين، إنّ ما تراه هو الصّواب.

زواج سياسيّ

سرّ المأمون لخروجه من المراهنة منتصراً، ورأى أن يستغلّ الفرصة المتاحة، فالتفت نحو الإمام قائلاً:

يا بقيّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لقد علمت فضلك ومنزلتك، واخترتك زوجاً لابنتي (أمّ الفضل)، وإنّي - رغم معارضة الكثيرين لهذا الزّواج - أطلب منك القبول.

تردّد الإمام؛ فهو يعرف تماماً ما يرمي إليه المأمون من هذه المصاهرة، ويدرك الأهداف التي تكمن وراءها، فهي ليست في الواقع إلاّ زواجاً سياسيّاً، يحقّق للمأمون أغراضه في تهدئة وإرضاء العلويّين وفي جعل الإمام الجواد قريباً منه وتحت مراقبته.

شعر الإمام بالضيق، لكنّه كان يدرك حرج الموقف، فهو لا يستطيع أن يرفض طلب المأمون أمام هذا الجمع الكبير من أعيان بغداد، ورجالات الدولة وقوّادها، ففي الرّفض إهانة عظيمة للمأمون، والله

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

[احتجوا: بان البينة حجة المدعي، فيكون اليمين حجة المنكر، وكما لا يسمع حجة المنكر بعد حجة المدعي، كذا لا يسمع حجة المدعي بعد حجة المنكر.

ولصحيحة عبدالله بن أبي يعفور عن الصادقعليه‌السلام قال: اذا رضى صاحب الحق بيمين المنكر لحقه فاستحلفه فحلف ان لا حق له قبله، ذهبت اليمين بحق المدعي، ولا دعوى له، قلت له: وان كانت عليه بينة عادلة؟ قال: نعم، وان قام بعد ما استحلفه خمسين قسامة ماكان له، وكان اليمين قد ابطلت كل ما ادعاه قبله مما قد استحلفه عليه(١) .

قال رسول للهصلى‌الله‌عليه‌وآله : من حلف لكم فصدقوه، ومن سألكم بالله فاعطوه ذهب اليمين بدعوى المدعي فلا دعوى له(٢) .

(ب) السماع ان لم يكن المنكر شرط سقوط الحق بيمينه، وعدمه ان شرطه، قاله المفيد(٣) القاضي في الكامل(٤) وابن حمزة(٥) .

(ج) قال في موضع من المبسوط: ان كان قد اقام البينة على حقه غيره، وتولى ذلك الغير الاشهاد عليه، ولم يعلم هو، او تولى هو اقامة البينة ونسي، فانه يقوى في]

____________________

(١)التهذيب: ج ٦(٨٩) باب كيفية الحكم والقضاء ص ٢٣١ الحديث ١٦.

(٢)الفقيه: ج ٣(٢٤) باب بطلان حق المدعي بالتحليف وان كان له بينة ص ٣٧ الحديث ٢.

(٣)المقنعة: باب قيام البينة على الحالف ص ١١٤ س ٣ قال: اللهم إلا ان يكون المدعي قد اشترط على المدعى عليه ان يمحو عنه كتابه عليه ويرضى بيمينه في اسقاط دعواه.

(٤)المختلف: ج ٢ كتاب القضاء ص ١٤٦ س ٢٠ قال: قال ابن البراج في الكامل بما ذهب اليه المفيد.

(٥)الوسيلة: كتاب القضايا والاحكام ص ٢١٣ س ٥ قال: واذا حلف المدعى عليه وشرط في اليمين انه اذا حلف لم يكن رجوع الخ.

٤٤١

ولو نكل المنكر عن اليمين وأصر، قضي عليه بالنكول، وهو المروي.

وقيل: يرد اليمين على المدعي، فان حلف ثبت حقه، وان نكل بطل. ولو بذل المنكر اليمين بعد الحكم بالنكول لم يلتفت اليه. ولا يستحلف المدعي مع بينة الا في الدين على الميت، يستحلف على بقائه في ذمته، استطهارا.

واما السكوت: فان كان لآفة توصل إلى معرفة افراره او انكاره.

ولو [نفسي انه تقبل بينته، فاما مع علمه ببينته فلا تقبل(١) واختاره التقي(٢) وابن ادريس(٣) ومثله: لو اتفق انهما شهدا من غير شعور منه بشهادتهما، واحتمله العلامة في المختلف(٤) قال: لان طلب الاحلاف لظن عجزه عن استخلاص حقه بالبينة.

تنبيه: لو أقام المدعي بينة

لو اقام المدعي بينة على اقراره بالحق بعد الحلف، سمعت، لجواز المطالبة مع اكذاب نفسه اجماعا.

قال طاب ثراه: ولو نكل المنكر عن اليمين وأصر، قضى عليه بالنكول، وهو]

____________________

(١)المبسوط: ج ٨ كتاب الشهادات، فصل آخر ص ٢١٠ س ١٥ قال: وان كان غيره تولى ذلك سمعت منه الخ مع تفاوت يسير.

(٢)الكافي: القضاء، الفصل الثالث ص ٤٤٧ س ٧ قال: اعلم المدعي ان استحلاف خصمك يسقط حق دعواك ويمنع من سماع بينة ان كانت لك إلى قوله: فاذا حلف برئ من حق دعواه وتأثير بينة ان قامته له.

(٣)السرائر: كتاب القضاء ص ١٩٢ س ٢٩ قال: وان اعترف المنكر بعد يمينه بالله بدعوى خصمه عليه وندم على انكاره الزمه الحق الخ.

(٤)المختلف: ج ٢ كتاب القضاء ص ١٤٧ س ٣٤ قال: ويحتمل قويا عندي سماع بينته ان خفي عنه ن له بينة إلى قوله: لانه طلب الاحلاف لظن عجزه عن استخلاص حقه بالبينة الخ.

٤٤٢

افتقر إلى مترجم لم يقتصر على الواحد. ولو كان عنادا حبسه حتى يجيب.

[المروي.

وقيل: يرد اليمين على المدعي فان حلف ثبت حقه وان نكل بطل.

أقول: اذا نكل المنكر عن اليمين، بمعنى انه لم يحلف ولم يرد، هل يقضى عليه بالنكول، ويلزم الحق، ويكون النكول كاقراره، او كقيام البينة، او يرد اليمين على المدعي؟ الصدوقان(١) (٢) والمفيد(٣) وتلميذه(٤) والتقي(٥) على الاول، واختاره المصنف(٦) وهو ظاهر النهاية(٧) .

وابن حمزة(٨) وأبي علي(٩) وابن ادريس(١٠) على الثاني.

وهو قوله في]

____________________

(١)المختلف: ج ٢ الفصل الثالث في لواحق القضاء ص ١٤٣ س ١٩ قال وبه (اي القضاء بالنكول) قال في القدماء من علمائنا ابنا بابويه.

(٢)المقنع: باب القضاء والاحكام ص ١٣٢ س ١٦ قال: فان نكل عن اليمين لزمه الحق.

(٣)المقنعة: باب آداب القاضي ص ١١٣ س ٥ قال: وان نكل عن اليمين الزمه الخروج إلى خصمه مما ادعاه عليه.

(٤)المراسم: ذكر احكام القضاء ص ٢٣١ س ٧ قال: وان نكل عن اليمين الزمه المدعى عليه.

(٥)الكافى: القضاء ص ٤٤٧ س ١١ قال: وان نكل عن اليمين الزمه الخروج اليه من حق دعواه.

(٦)لاحظ عبارة النافع.

(٧)الوسيلة: فصل في بيان احكام اليمين ص ٢٢٩ س ١٠ قال: واذا نكل المدعى عليه عن اليمين إلى قوله: رد اليمين على المدعي.

(٩)المختلف: ج ٢ في لواحق القضاء ص ١٤٣ س ١٩ قال: وقال ابن الجنيد: يرد اليمين على المدعي ويحلف ويقضى له إلى قوله: والمعتمد انه لا يحكم بالنكول، بل بيمين المدعي.

(١٠)السرائر: في آداب القضاء ص ١٩٤ س ٤ قال: ولا يجوز ان يحكم عليه بالحق بمجرد النكول، بل لابد من يمين المدعي.

٤٤٣

[الخلاف(١) واختاره العلامة(٢) وفخر المحققين(٣) .

احتج الاولون: بصحيحة محمد بن مسلم عن الصادقعليه‌السلام : انه حكى عن امير المؤمنينعليه‌السلام : انه الزم اخرس بدين ادعي عليه، فانكر، ونكل عن اليمين(٤) فالزمه الدين بامتناعه عن اليمين.

اجابوا: باحتمال الزامه عقيب احلاف المدعي.

احتج الآخرون بوجوه:

(أ) ان الحكم مبني على الاحتياط التام، واتم ماكان بعد يمين المدعي، لاحتمال نكوله لا عن ثبوت الحق، بل لحرمة اليمين، او لحلفه انه لا يحلف، فهو اعم من ثبوت الحق، ولا دلالة للعام على الخاص.

(ب) ماروي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : انه رد اليمين على طالب الحق(٥) .

(ج) حسنة هشام بن سالم عن الصادقعليه‌السلام انه قال: ترد اليمين على المدعي(٦) فلم يفصل: فيتناول صورة النزاع].

______________________

(١)كتاب الخلاف: كتاب الشهادات مسألة ٣٨ قال: ردت اليمين على المدعي فيحلف ويحكم له، ولا يجوز الحكم على المدعى عليه بنكوله.

(٢)المختلف: ج ٢ في لواحق القضاء ص ١٤٣.

(٣)الايضاح: فيما يترتب على الدعوى ص ٣٣١ س ١٦ قال: وهو الحق عندي، اي رد اليمين على المدعي.

(٤)التهذيب: ج ٦(٩٢) باب من الزيادات في القضايا والاحكام ص ٣١٩ قطعة من حديث ٨٦.

(٥)سنن الدارقطني: ج ٤ كتاب في الاقضية والاحكام ص ٢١٣ الحديث ٢٤.

(٦)التهذيب: ج ٦(٨٩) باب كيفية الحكم والقضاء ص ٢٣٠ الحديث ١١.

٤٤٤

(المقصد الثالث) في كيفية الاستحلاف

ولا يستحلف احد الا بالله ولو كان كافرا، لكن ان رأى الحاكم احلاف الذمي بما يقتضيه دينه أردع، جاز. ويستحب للحاكم تقديم العظة.

ويجزيه ان يقول: والله ماله قبلي كذا. ويجوز تغليظ اليمين بالقول والزمان والمكان. ولا تغليظ لما دون نصاب القطع. ويحلف الاخرس بالاشارة، وقيل: يوضع يده على اسم الله تعالى في المصحف، وقيل: يكتب اليمين في لوح ويغسل، ويؤمر بشربه بعد اعلامه، فان شربه كان حالفا، وان امتنع الزم الحق. ولا يحلف الحاكم أحدا الا في مجلس قضائه، الا معذورا كالمريض، او امرأة غير برزة.

ولا يحلف المنكر الا على القطع، ويحلف على فعل غيره على نفي [قال طاب ثراه: ولا يستحلف احد الا بالله ولو كان كافرا، لكن ان رأى الامام احلف الذمي بما يقتضيه دينه أردع، جاز.

أقول: الاصل في اليمين ان يكون بالله، لقولهعليه‌السلام : من كان حالفا فليحلف بالله(١) و (من) من الفاظ العموم، نعم قد يرى الحاكم تحليف الذمي بما يقتضيه دينه اردع وازجر من اليمين المشتملة على الزجر.

قال طاب ثراه: ويحلف الاخرس بالاشارة، وقيل: بوضع يده على اسم الله في]

____________________

(١)عوالي اللئالي: ج ١ ص ٤٤٥ الحديث ١٦٨ وفيه من كان حالفا فليحلف بالله، أو ليذر.

٤٤٥

العلم كما لو ادعى على الوارث فانكر، او ادعى ان يكون وكيله قبض أو باع.

[المصحف، وقيل: يكتب اليمين في لوح ويغسل ويؤمر بشربه بعد اعلامه، فان شرب كان حالفا والا ثبت الحق(١) .

أقول: في كيفية تحليف الاخرس، ثلاثة أقوال:

(أ) الاكتفاء بالاشارة المفهمة الدالة على حلفه كسائر اموره، وهو المشهور، واختاره المصنف(٢) والعلامة(٣) لان الشارع اقام الاشارة فيه مقام الكلام.

(ب) لا يكفي الاشارة وحدها، بل لا بد من وضع يده على اسم الله تعالى، قاله الشيخ في النهاية(٤) وعبارته: اذا اراد الحاكم ان يحلف الاخرس حلفه بالاشارة والايماء إلى اسم الله ويضع يده على اسم الله في المصحف، ويعرف يمينه على الانكار كما يعرف اقراره وانكاره، وان لم يحضر المصحف وكتب اسم الله ووضع يده عليه، جاز فهذا الكلام يعطي انه لابد منهما، ولا يكفي أحدهما.

وقول المصنف: (وقيل: يضع يده على اسم الله) مراده مع الاشارة.

(ج) غسل اليمين بعد كتابتها وأمره بشربها، وهو قول ابن حمزة في الوسيلة، حيث قال: اذا توجهت اليمين على الاخرس، وضع يده على المصحف، وعرفه حكمها، وحلفه بالاسماء: وان كتب اليمين على لوح، ثم غسلها، وجمع الماء في شئ وأمر بشربه، جاز فان شرب فقد حلف، وان أبى الزمه، وجعله في النهاية رواية(٥) وهي صحيحة محمد بن مسلم عن الصادقعليه‌السلام قال: سألته عن]

____________________

(١)في النسخ المخطوطة الحاضرة عندي (والا ثبت الحق) كما اثبتناه، وفي النسخة المطبوعة من مختصر النافع كما اثبتناه في المتن، والامر سهل.

(٢)لاحظ عبارة النافع.

(٣)القواعد: ج ٢، المقصد الرابع في الاحلاف ص ٢١١ س ٩ قال: وحلف الاخرس بالاشارة.

(٤)النهاية: باب كيفية الاستحلاف، ص ٣٤٧ س ١٦ قال: واذا اراد الحاكم إلى آخر ما اثبتناه.

(٥)النهاية: باب كيفية الاستحلاف ص ٣٤٨ س ١ قال: وقد روي انه يكتب نسخة اليمين الخ.

٤٤٦

واما المدعي ولا شاهد له، فلا يمين عليه الا مع الرد، او مع نكول المنكر على قول، ويحلف على الجزم. ويكفي مع الانكار الحلف على نفي الاستحقاق، فلو ادعى المنكر الابراء، أو الاداء انقلب مدعيا، المدعي منكرا، فيكفيه اليمين على بقاء الحق. ولا يتوجه على الوارث بالدعوى [الاخرس كيف يحلف اذا ادعي عليه دين، ولم يكن للمدعي بينة؟ فقال: قال أمير المؤمنينعليه‌السلام ، لما ادعي عنده على أخرس من غير بينة: الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بينت للامة جميع ماتحتاج اليه، ثم قال: ائتوني بمصحف، فاتي به، فقال للاخرس: ما هذا؟ ورفع راسه إلى السماء، وأشار انه كتاب الله عزوجل، ثم قال: إئتوني بوليه، فاتى بأخ له، فأقعده إلى جنبه، ثم قال: يا قنبر علي بدواة وصحيفة، فاتاه بهما، ثم قال لاخ الاخرس: قل لاخيك: هذا بينك وبينه: انه علي، فتقدم اليه بذلك، ثم كتب امير المؤمنينعليه‌السلام : والله الذي لا اله الا هو عالم الغيب والشهادة، الرحمان الرحيم، الطالب الغالب الضار النافع المدرك المهلك، الذي يعلم من السر مايعلم من العلانية: إن فلان بن فلان المدعي ليس له من قبل فلان بن فلان اعنى الاخرس حق ولا طلب بوجه من الوجوه، ولا بسبب من الاسباب، ثم غسله وامر الاخرس ان يشربه، فامتنع، فالزمه الدين(١) .

وحملها ابن ادريس على اخرس لا يكون له كتابة معقوله ولا اشارة مفهومة(٢) .

قال طاب ثراه: اما المدعي ولا شاهد له، فلا يمين عليه الا مع الرد، او نكول المنكر على قول].

____________________

(١)التهذيب: ج ٦(٩٢) باب من الزيادات في القضايا والاحكام ص ٣١٩ الحديث ٨٦.

(٢)السرائر: باب كيفية الاستحلاف ص ١٩٨ س ٢٨ قال: ويمكن حمل هذه الرواية والعمل به الخ.

٤٤٧

على موروثه الا مع دعوى علمه بموجبه، او اثباته وعلمه بالحق، وانه ترك في يده مالا. ولا تسمع الدعوى في الحدود مجردة عن البينة، ولا يتوجه بها يمين على المنكر. ولو ادعى الوارث لمورثه مالا، سمع دعواه، سواء كان عليه دين يحيط بالتركة او لم يكن. ويقضي بالشاهد واليمين في الاموال والدعيون. ولا يقبل في غيره مثل الهلال والحدود والطلاق والقصاص. ويشترط شهادة الشاهد أولا، وتعديله. ولو بدأ باليمين وقعت لاغية، ويفتقر إلى اعادتها بعد الاقامة. ولا يحلف مع عدم العلم، ولا يثبت مال غيره.

(مسألتان)

(الاولى) لا يحكم الحاكم باخبار لحاكم آخر، ولا بقيام البينة بثبوت الحكم عند غيره، نعم لو حكم بين الخصوم واثبت الحكم واشهد على نفسه، فشهد شاهدان بحكم عند آخر، وجب على المشهود عنده انفاذ ذلك الحكم.

(الثانية) القسمة تمييز الحقوق، لا يشترط حضور قاسم، بل هو احوط، فاذا عدلت السهام كفت القرعة في تحقق القسمة.

وكل مايتساوى اجزائه يجبر الممتنع على قسمته كالحنطة والشعير، وكذا ما لا يتساوى اجزائه اذا لم يكن في القسمة ضرر، كالارض والخشب، ومع الضرر لا يجبر الممتنع.

[أقول: تقدم البحث في هذه المسألة.

٤٤٨

(المقصد الرابع) في الدعوى

وهي تستدعي فصولا: (الاول) في المدعي: وهو الذي يترك لو ترك الخصومة، وقيل: هو الذي يدعي خلاف الاصل، او امرا خفيا.

ويشترط التكليف، وان يدعي لنفسه، او لمن له ولاية الدعوى عنه، وايراد الدعوى بصيغة الجزم، وكون المدعى به مملوكا. ومن كانت دعواه عينا فله انتزاعها، ولو كان دينا والغريم مقر باذل، او مع جحوده عليه حجة، لم يستقل المدعي بالانتزاع من دون الحاكم.

[(النظر الرابع)(١) في الدعوى قال طاب ثراه: المدعي هو الذي يترك لو ترك الخصومة.

وقيل: الذي يدعي خلاف الاصل، أو أمرا خفيا.

أقول: اجمعت الامة: على ان البينة على المدعي، وعلى الجاحد اليمين، لما صح من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : البينة على المدعي واليمين على من انكر(٢) .

وسببه: ان جانب المنكر، لموافقته الظاهر اقوى من جانب المدعي، والبينة اقوى من اليمين، لانتفاء التهمة عنها وتطرق التهمة إلى اليمين لجلب النفع، فجعلت الحجة القوية اعني البينة على المدعي، ليجبر ضعف دعواه، واقتنع من المنكر بالحجة الضعيفة لقوة جانبه].

____________________

(١)في النسخ المخطوطة التي عندي من المهذب: النظر الرابع، وفي النسخة المطبوعة من مختصر النافع: المقصد الرابع، كما اثبتناه، والصحيح مافي المطبوعة كما لا يخفى.

(٢)عوالي اللئالي: ج ٣ ص ٥٢٣ الحديث ٢٢ ولاحظ ماعلق عليه، وفي تفسير القمي: ج ٢ ص ١٥٧ س ٣ نحوه فلاحظ، وفي سنن البيهقي: ج ٨، كتاب القسامة ص ١٢٣ س ٢ أيضا نحوه، وفي المبسوط: ج ٨ كتاب الدعاوى والبينات ص ٢٥٦ س ٥ كما اثبتناه في المتن.

٤٤٩

[فهذه القاعدة اخرجت الفقيه إلى معرفة المدعي والمدعى عليه ليحكم بكل منهما بما جعله الشارع حجة له. اذا تقرر هذا فنقول: الدعوى لغة: الطلب، قال الله تعالى: " لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون "(١) .

واصطلاحا: اضافة الانسان إلى نفسه شيئا، بل والى غيره. وقد عرفوا المدعي بثلاث تعريفات:

(أ) انه الذي يترك الخصومة، والمدعى عليه: من لا يترك لو سكت.

(ب) انه الذي يذكر امرا خفيا يخالف الظاهر، والمدعى عليه: هو الذي يذكر ما يوافق الظاهر.

(ج) انه الذي يذكر خلاف الاصل، والمدعي عليه هو الذي يذكر ما يوافق الاصل. فاذا ادعى زيد مثلا دينارا في ذمة عمرو، وانكر، فزيد هو الذي اذا سكت يترك وسكوته، وهو الذي يذكر خلاف الظاهر، وخلاف الاصل، لان الظاهر والاصل براء‌ة ذمة عمر عن حق ريد. وعمرو هو الذي لا يترك وسكوته ويوافق الظاهر والاصل. فزيد مدع بالتعريفات الثلاث، وعمر منكر كذلك، فلا تختلف التفاسير في مثل هذه المادة، ويختلف في غيرها، وهو مواضع.

منها: اذا اسلم الزوجان قبل الدخول، واختلفا، فقال الزوج: اسلمنا معا فالنكاح باق، وقالت المرأة: بل على التعاقب، فلا نكاح بيننا.

فان قلنا: المدعي هو الذي يترك وسكوته، فالمرأة مدعية، والزوج مدعى عليه، لانه لا يترك لو سكت، لزعمها انفساخ النكاح، فيحلف هو ويستمر النكاح].

____________________

(١)يس: ٥٧.

٤٥٠

وفي سماع الدعوى المجهولة تردد، اشبهه: الجواز.

[وان قلنا: المدعي من يخالف قوله الظاهر، فالزوج هو المدعي، لان التقارن الذي يزعمه الزوج نادر، والظاهر التعاقب، والمرأة مدعا عليها، لموافقتها الظاهر، فتحلف هي، فاذا حلفت حكم برفع النكاح.

وان قلنا: المدعي هو الذي يدعي خلاف الاصل: فالمرأة مدعية، لان الاصل عدم تقدم أحدهما على الآخر.

ومنها: لو قال الزوج: اسلمت قبلي، فلا نكاح ولا مهر، وقالت: اسلمنا معا، فهما بحالهما، فعلى التفسير الاول المدعي الزوجة، لانها يخلى وسكوتها، وكذا على الثاني لندور الاقتران، وعلى الثالث: الزوج هو المدعي، لان الاصل عدم سبق اسلام احدهما على الآخر.

ففي المسألة الاولى: المرأة مدعية على الاول والثالث، والزوج مدع على التعريف الثاني وفي المسألة الثانية: المرأة مدعية على الاولين، والزوج على الثالث.

فان قلت: التعريف الاول منقوض بادعاء المنكر القضاء او الابراء، فان مدع الحق هنا لا يخلى وسكوته.

اجيب: بان المنكر انقلب هنا مدعيا والمدعي منكرا، لانه ينكر القضاء او الابراء، فلهذا لا يخلى وسكوته.

وانما قلنا في تعريف المدعي: (انه الذي يذكر) ولم نقل (انه الذي يدعي) كما قاله بعضهم، نقصيا من لزوم الدور.

وان اجيب عنه: بانه تعريف لفظي.

قال طاب ثراه: وفي سماع الدعوى المجهولة تردد، اشبهه الجواز.

أقول: اذا ادعى وصية بمجهول سمعت قطعا، وكذا لو اقر له عند الحاكم او الشهود، كان له المطالبة بتلك الدعوى بلا خلاف في هاتين الصورتين.

واما الدعوى بغيرهما، كأن يدعى عليه فرسا او ثوبا، فهل يسمع هذه الدعوى؟

٤٥١

(الاولى) من انفرد بالدعوى لما لا يد عليه قضى له به، ومن هذا ان يكون بين جماعة كيس، فيدعيه احدهم.

(الثانية) لو انكسرت سفينة في البحر، فما اخرجه البحر، فهو لاهله، وما اخرج بالغوص، فهو لمخرجه، وفي الرواية ضعف.

[قال الشيخ: لا، لعدم فائدتها، وهو حكم الحاكم بها، لو اجاب بنعم.

واعترض على نفسه: بصحة الاقرار بالمجهول، واجاب بالفرق، فانه لو طالبناه بالتفصيل لربما رجع، بخلاف المدعي فانه لا يرجع عند مطالبة التفصيل(١) واختار المصنف والعلامة السماع(٢) (٣) لان المدعي ربما يعلم حقه بوجه ما، كما يعلم ان له فرسا او ثوبا ولا يعلم شخصهما ولا صفتهما، فلو لم يجعل له إلى الدعوى طريق لبطل حقه، فالمقتضي للسماع موجود والمانع منتف، فكما يصح الاقرار بفرس، او ثوب مجهولين، ويستفسره الحاكم، فكذا يصح الدعوى، ويستفسره الحاكم، والا لزم الحرج، وهو منفي بالآية(٤) والرواية(٥) .

قال طاب ثراه: لو انكسرت سفينة في البحر فما اخرجه البحر فهو لاهله، وما اخرج بالغوص فهو لمخرجه، وفي الرواية ضعف].

____________________

(١)المبسوط: ج ٨ كتاب آداب القضاء ص ١٥٦ س ٩ قال: فاما ان قال لي عنده ثوب او افرس إلى قوله فربما كان بنعم فلا يمكن الحاكم ان يقضي به عليه لانه مجهول ثم قال: هذا كله مالم يكن وصية فاما ان كانت وصية سمع الدعوى فيها وان كانت مجهولة، والفصل بينها وبين سائر الحقوق الخ.

(٢)لاحظ عبارة النافع.

(٣)القواعد: ج ٢ المقصد الثالث في الدعوى والجاب ص ٢٠٨ س ٢٠ قال: لزمه سماع الدعوى المجهولة كفرس او ثوب كما يقبل الاقرار به والوصية.

(٤)قال تعالى: " ما جعل عليكم في الدين من حرج " الحج: ٧٨.

(٥)اورد شطرا من رواياته في تفسير البرهان، لاحظ ج ٣ ص ١٠٥ الحديث ٣ - ٥.

٤٥٢

[أقول: الرواية اشارة إلى مارواه الحسن بن علي بن يقطين، عن امية بن عمر، عن الشعيري قال: سئل ابوعبداللهعليه‌السلام عن سفينة انكسرت في البحر، فاخرج بعضه بالغوص، واخرج البحر بعض ما غرق فيها فقال: اما ما اخرجه البحر فهو لاهله، الله اخرجه هم، واما ما اخرج بالغوص فهو لهم، وهم احق به(١) .

اوردها الشيخ في النهاية(٢) واستضعفها المصنف(٣) لان امية بن عمر واقفي.

وقال ابن ادريس: ما اخرجه البحر فهو لاصحابه، وما تركه اصحابه آيسين منه فهو لمن وجده وغاص عليه، لانه بمنزلة المباح، كالبعير يترك من جهد في غير كلاء ولا ماء فانه يكون لواجده، وادعى الاجماع على ذلك(٤) .

فالحاصل: ان الرواية لم يشترط فيها يأس اصحاب المتاع منه، وابن ادريس شرطه، ردا للفتوى إلى اصول المذهب، اذ الاصل بقاء ملك الانسان عليه لا يخرج عنه الا بمخرج شرعي، فعلى تقدير قطع نية المالك هنا، يكون مباحا.

ويحتمل بقاء‌ه على ملك المالك دائما، ولا يملكه الواجد وان غاص عليه، بل يكون لقطة، عليه تعريفه.

والحاصل: ان هنا ثلاث احتمالات:

(أ) كون ما اخرجه البحر لاهله، وما اخرج بالغوص لمخرجه مطلقا، اي سواء قطع المالك نيته عنه، او لا، وهو فتوى النهاية ومقنضى اطلاق الرواية.

(ب) اشتراط قطع نية المالك عنه في تملك المخرج له، فلو كان نية المالك]

____________________

(١)التهذيب: ج ٦(٩٢) باب من الزيادات من القضايا والاحكام ص ٢٩٥ الحديث ٢٩.

(٢)النهاية: باب جامع في القضايا والاحكام ص ٣٥١ الحديث ١١.

(٣)لاحظ عبارة النافع.

(٤)السرائر: باب النوادر في القضايا والاحكام ص ٢٠٢ س ١ قال: وجه الفقه في هذا الحديث: ان ما اخرجه البحر فهو لاصحابه الخ.

٤٥٣

(الثالثة) روي في رجل دفع إلى رجل دراهم بضاعة يخلطها بماله ويتجر بها، فقال: ذهبت، وكان لغيره معه مال كثير، فاخذوا اموالهم، قال: يرجع اليه بماله، ويرجع هو على اولئلك بما اخذوا.

ويمكن حمل ذلك على من خلط المال ولم يأذن له صاحبه، واذن الباقون.

(الرابعة) لو وضع المستاجر الاجرة على يد أمين، فتلفت كان المستاجر ضامنا، الا ان يكون الآجر دعاه إلى ذلك، فحقه حيث وضعه.

[تحصيله، وهو متأهب لاخراجه، لم يملك الغائض شيئا مما يخرجه، وهو قول ابن ادريس.

(ج) عدم التملك لشئ منه اصلا، لاصالة بقاء الملك على مالكه، وهو اضعفها.

قال طاب ثراه: روى في رجل دفع إلى رجل دراهم بضاعة، فخلطها بماله واتجر بها، فقال: ذهبت، وكان لغيره معه مال كثير إلى آخره.

أقول: هذه الرواية رواها حريز، ان أبي عبيدة قال: قلت لابي جعفرعليه‌السلام وأبى عبداللهعليه‌السلام : رجل دفع إلى رجل الف درهم يخلطها بماله ويتجر بها، قال: فلما طلبه منه قال: ذهب المال، وكان لغيره معه مثلها، ومال كثير لغير واحد، فقال: كيف صنع اولئك؟ قال: اخذوا اموالهم، فقال أبوجعفر وأبو عبداللهعليهما‌السلام جميعا: يرجع عليه بماله، ويرجع هو على اولئك بما اخذوا(١) وحملت على ان العامل مزج مال الاول بغير اذنه، وذلك تعد او تفريط.

وأما أرباب الاموال الباقية فقد كانوا اذنوا في المزج، ولو لم يأذنوا أيضا ضمن العامل للجميع].

____________________

(١)التهذيب: ج ٦(٩٢) باب من الزيادات في القضايا والاحكام ص ٢٨٨ الحديث ٦.

٤٥٤

(الخامسة) يقضي على الغائب مع قيام البينة، ويباع ماله ويقضي دينه، ويكون الغائب على حجته، ولا يدفع اليه المال الا بكفلاء.

(الفصل الثاني) في الاختلاف في الدعوى: وفيه مسائل:

(الاولى) لو كان في يد رجل وامرأة جارية، فادعى انها مملوكته، وادعت المرأة حريتها، وانها بنتها، فان اقام احدهما بينة، قضى له، والا تركت الجارية حتى تذهب حيث شاء‌ت.

(الثانية) لو تنازعا عينا في يدهما، قضى لهما بالسوية، ولكل منهما احلاف صاحبه. ولو كانت في يد أحدهما، قضى بها للمتشبث، ولخارج احلافه. ولو كانت في يد ثالث وصدق احدهما قضى له، وللآخر احلافه. ولو صدقهما قضى لهما بالسوية، ولكل منهما احلاف الآخر، وان كذبهما اقرت في يده.

(الثالثة) اذا تداعيا خصا قضى لمن اليه القمط وهي رواية عمرو بن شمر عن جابر، وفي عمرو ضعف، وعن منصور بن حازم عن أبي عبداللهعليه‌السلام : ان علياعليه‌السلام قضى بذلك، وهي قضية في واقعة.

[قال طاب ثراه: اذا تداعيا خصا قضى لمن اليه القمط، وهي رواية عمرو بن شمر عن جابر، وفي عمرو ضعف، وعن منصور بن حازم عن أبي عبدالله على السلام: ان علياعليه‌السلام قضى بذلك، وهي قضية في واقعة.

أقول: هذه الزواية رواها الشيخ عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام عن ابيه عن عليعليه‌السلام : انه قضى في رجلين اختصما في خص،

٤٥٥

(الرابعة) اذا ادعى ابوالميتة عارية بعض متاعها، كلف البينة، وكان كغيره من الانساب، وفيه رواية بالفرق، ضعيفة.

[فقال: ان الخص لمن اليه القمط(١) وقالوا: القمط هو الحبل، والخص هو الظن الذي يكون في السواد بين الدور، فكان الذي اليه الحبل هو اولى من صاحبه(٢) .

والذي عليه المتأخرون: انه لا يرجح بذلك، بل يكون حكمه حكم الجدار بين اثنين، والرواية واقعة، فلا تعدى، لاحتمال اطلاعهعليه‌السلام على ما اوجب الحكم في تلك الواقعة، فيبقى غيرها على الاصول المقررة.

قال طاب ثراه: اذا ادعى ابوالميتة عارية بعض متاعها كلف البينة، وكان كغيره من الانساب، وفيه رواية بالفرق ضعيفة.

أقول: مختار المصنف هنا(٣) هو مذهب العلامة(٤) وابن ادريس(٥) واحد قولي الشيخ ذكره في المسائل الحائريات(٦) .

والرواية اشارة إلى ما رواها جعفر بن عيسى قال: كتبت إلى أبي الحسنعليه‌السلام : جعلت فداك، المرأة تموت فيدعي ابوها، انه اعارها بعض ماكان عندها]

____________________

(١)الفقية: ج ٣(٩٤٢) باب الحكم في الحظيرة بين دارين ص ٥٦ الحديث ١ عن منصور بن حازم، والحديث ٢ عن عمرو بن شمر.

(٢)النهاية: باب جامع في القضايا والاحكام ص ٣٥١ الحديث ١٠.

(٣)لاحظ عبارة النافع.

(٤)القواعد: المقصد السابع في متعلق الدعاوي المتعارضة ص ٢٢٣ س ٩ قال: ولو ادعى ابوالميتة إلى قوله: كلف البينة الخ.

(٥)السرائر: باب النوادر في القضاء والاحكام ص ١٩٩ س ٣٤ قال بعد نقل ان قول الاب يقبل بلا بينة: وهذا خطأ عظيم في هذا الامر الجسيم إلى آخره، وقد اطال البحث والرد في ذلك فلاحظ.

(٦)المسائل الحائريات، في ضمن الرسائل العشر ص ٢٩٧ س ٢ وهي المسألة الرابع والعشرون، ولاحظ ماعلق عليه تحت رقم ٢ ويؤيد ما علق عليه: ما في السرائر: ص ٢٠٠ س ٧ حيث قال: ثم شيخنا ابو جعفر رجع عنه وضعفه في جواب المسائل الحائريات المشهورة عنه المعروفة.

٤٥٦

(الخامسة) اذا تداعى الزوجان متاع البيت، فله ما للرجال، ولها ما للنساء، وما يصلح لهما يقسم بينهما، وفي رواية: هو للمرأة وعلى الرجل البينة.

وفي المبسوط: اذا لم يكن بينة ويدهما عليه كان بينهما.

[من متاع وخدم، أتقبل دعواه بلا بينة؟ ام لا تقبل دعواه الا ببينة؟ فكتب اليهعليه‌السلام : يجوز بلا بينة، قال: وكتبت اليه: ان ادعى زوج المرأة الميتة وأبو زوجها وام زوجها في متاعها او خدمها مثل الذي ادعى ابوها من عارية بعض المتاع او الخدم، أيكونون بمنزلة الاب في الدعوى؟ فكتب: لا(١) .

وعمل عليها الشيخ في القول الآخر(٢) .

قال طاب ثراه: ولو تداع الزوجان متاع البيت، فله ما للرجال، ولها ما للنساء، وما يصلح لهما يقسم بينهما، وفي رواية: هو للمرأة وعلى الرجل البينة.

وفي المبسوط: اذا لم يكن بينة ويدهما عليه كان بينهما.

أقول: الاقوال الثلاثة المحكية: للشيخرحمه‌الله ، فالاول مختاره في الخلاف(٣) وبه قال ابن حمزة(٤) وابوعلي(٥) وابن ادريس(٦) والكيدري(٧) واختاره المصنف(٨) ].

____________________

(١)التهذيب: ج ٦(٩٢) باب من الزيادات في القضايا والاحكام ص ٢٨٩ الحديث ٧.

(٢)النهاية: باب جامع في القضايا والاحكام ص ٣٤٩ الحديث ٤ وايراد الحديث دليل العمل به.

(٣)كتاب الخلاف: كتاب الدعاوي والبينات مسألة ٢٧ قال: اذا ختلف الزوجان في متاع البيت الخ.

(٤)الوسيلة: فصل في بيان تداعى الزوجين في متاع البيت ص ٢٢٧ س ٦ قال: اذا اختلف الزوجان او من يرثهما في متاع البيت الخ.

(٥)المسالك: ج ٢ كتاب القضاء ص ٣٩٨ س ٢٢ قال: الثاني: ان ما يصلح للرجال خاصة يحكم به للزوج إلى قوله: ذهب اليه الشيخ في الخلاف وقبله ابن الجنيد.

(٦)السرائر: باب النوادر في القضاء والاحكام ص ٢٠١ س ٢٤ قال بعد نقل الاقوال: والذي يقوى عندي ماذهب اليه في مسائل خلافه الخ.

(٧)مفتاح الكرامة: ج ١٠ كتاب القضاء ص ٢٣٣ س ٢ قال: وقيل: للرجل ما يصلح له وللمرأة ما يصلح لها، وهو خيرة إلى قوله: وعلي بن مسعود الكيدري.

(٨)لاحظ عبارة النافع.

٤٥٧

[والمعتمد رواية رفاعة النحاس عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: اذا طلق الرجل أمرأته وفي بيتها متاع، فادعت ان المتاع لها، وادعى الرجل ان المتاع له، كان له ما للرجال، ولها ما للنساء، وما يكون للرجال والنساء قسم بينهما(١) .

والثاني: مختاره في الاستبصار(٢) .

والمعتمد صحيحة عبدالرحمان بن الحجاج عن الصادقعليه‌السلام قال: المتاع متاع المرأة الا ان يقيم الرجل البينة، قد علم من بين لا بيتها - يعني بين جبلى منى - ان المرأة تزف إلى بيت زوجها بمتاع، ونحن يومئذ بمنى(٣) .

والثالث: مختاره في المبسوط(٤) وختاره العلامة في القواعد(٥) وفخر المحققين في الايضاح(٦) .

والحجة عليه: الحاقه بسائر الدعاوى، لدخوله تحت العمومات المسلمة، والاصول المحققة، والقواعد المقررة].

____________________

(١)التهذيب: ج ٦(٩٢) باب من الزيادات في القضايا والاحكام ص ٢٩٤ الحديث ٢٥(٢) الاستبصار: ج ٣(٢٤) باب اختلاف الرجل والمرأة في متاع البيت ص ٤٧ قال بعد نقل حديث ٥ عن رفاعة النخاس: مالفظه: فهذا الخبر يحتمل شيئين أحدهما ان يكون محمولا على التقية الخ وهذا صريح في عدم قبوله.

(٣)الاستبصار: ج ٣(٢٤) باب اختلاف الرجل والمرأة في متاع البيت ص ٤٤ قطعة من حديث ١.

(٤)المبسوط: ج ٨، فصل في متاع البيت اذا اختلف فيه الزوجان، ص ٣١٠ س ٣ قال: اذا اختلف الزوجان في متاع البيت، فان كان مع احدهما بينة قضى له بها، وان لم يكن مع احدهما بينة، فيد كل واحد منهما على نصفه الخ.

(٥)القواعد: ج ٢ المقصد السابع ص ٢٢٣ س ٥ قال: ولو تداعى الزوجان متاع البيت حكم لذي البينة، فان فقدت الخ.

(٦)الايضاح: كتاب القضاء ص ٣٨٠ س ٢٤ قال: وهو (اي قول الشيخ في المبسوط) الذي اختاره المصنف هنا، وهو الاصح عندي.

٤٥٨

(الثالث) في تعارض البينات يقضي مع التعارض للخارج اذا شهدتا بالملك المطلق على الاشبه.

ولصاحب اليد لو انفردت بينته بالسبب، كالنتاج وقديم الملك، وكذا [وقال العلامة في المختلف: ان كان هناك قضاء عرفي رجع اليه وحكم به بعد اليمين، والا كان الحكم فيه كما في غيره من الدعاوى، قال: لان عادة الشرع في باب الدعاوى بعد الاعتبار والنطر، راجعه إلى ذلك، ولهذا حكم بقول المنكر مع اليمين بناء على الاصل وكون التشتث اولى من الخارج، لقضاء العادة بملكية ما في يد الانسان غالبا، فحكم بايجاب البينة على من يدعى خلاف الظاهر، والرجوع إلى من يدعي الظاهر، واما مع انتفاء العرف فلتصادم الدعويين مع عدم الترجيح لاحدهما، فتساويا فيها(١) .

واختاره الشهيد في شرح الارشاد(٢) وهو حسن، ويؤيده استشهادهعليه‌السلام بالعرف حيث قال: قد علم من بين لابتيها(٣) ومثله قولهعليه‌السلام : لو سألت من بينهما (يعني بين الجبلين ونحن يومئذ بمكة) لاخبروك: ان الجهاز والمتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت الرجل، فتعطي التي جاء‌ت به، فان زعم انه احدث فيه شيئا، فليأت البينة(٤) .

(الثالث) في تعارض البينات قال طاب ثراه: يقضي مع التعارض للخارج اذا شهدتا بالملك المطلق، على الاشبه، ولصاحب اليد لو انفردت بينته بالسبب، إلى آخره].

____________________

(١)المختلف: ج ٢ في لواحق القضاء ص ١٤٦ س ٦ قال: والمعتمد ان نقول: ان كان هناك قضاء عرفي الخ.

(٢)الكتاب مخطوط غير مطبوع.

(٣)الاستبصار: ج ٣(٢٤) باب اختلاف الرجل والمرأة في متاع البيت ص ٤٤ قطعة من حديث ١.

(٤)الاستبصار: ج ٣(٢٤) باب اختلاف والمرأة في متاع البيت ص ٤٥ قطعة من حديث ٣.

٤٥٩

الابتياع. ولو تساويا في السبب فروايتان، اشبههما: القضاء للخارج. ولو كانت يدهما عليه، قضى لكل منهما بما في يد الآخر، فيكون بينهما نصفين. ولو كان المدعى به في يد ثالث، قضى بالاعدل، فالاكثر، فان تساويا عدالة وكثرة، اقرع بينهما، فمن خرج اسمه احلف وقضي له، ولو امتنع احلف الآخر، ولو امتنعا قسم بينهما.

وفي المبسوط: يقرع بينهما ان شهدتا بالملك المطلق، ويقسم ان شهدتا بالملك المقيد، والاول اشبه.

[أقول: التعارض عبارة عن قيام بينتين يستلزم العمل باحدهما تكذيب الاخرى، إذ لو امكن التوفيق بينهما، وجب، ولا تعارض، كما لو شهدت البينتان: انهما لهما، وهي منتقلة عن احدهما إلى الآخر، فانهما في حكم الواحد واما مع عدم امكان الجمع، كأن يشهد لاحدهما بهذه العين، ويشهد الاخرى بها للآخر، فيفتقر في تقديم احدهما إلى الآخر إلى المرجح.

وأسباب الترجيح خمسة: اليد. والسبب. وقديم الملك. وكثرة العدالة. وكثرة العدد.

أما كثرة العدالة والعدد، فلا ريب في الترجيح بهما، وهما اول المرجحات.

هذا في قول قدماء الاصحاب: كالصدوق(١) وأبي علي(٢) ]

____________________

(١)المقنع: باب القضاء والاحكام ص ١٣٣ س ٢٢ قال: فان اقام كل واحد منهما البينة، فان احق المدعيين من عدل شاهداه، وان استوى الشهود في العدالة، فاكثرهم شهودا.

(٢)المختلف: ج ٢ في تعارض البينات ص ١٤١ س ١٠ قال: وقال ابن الجنيد: إلى قوله: ولو اختلف

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553