المهذب البارع في شرح المختصر النافع الجزء ٥

المهذب البارع في شرح المختصر النافع18%

المهذب البارع في شرح المختصر النافع مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 430

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 430 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51517 / تحميل: 7493
الحجم الحجم الحجم
المهذب البارع في شرح المختصر النافع

المهذب البارع في شرح المختصر النافع الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرّف الحاقّة ببعض أشراطها و نبذة ممّا يقع فيها.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ) قد تقدّم أنّ النفخ في الصور كناية عن البعث و الإحضار لفصل القضاء، و في توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضيّ الأمر و نفوذ القدرة فلا وهن فيه حتّى يحتاج إلى تكرار النفخة، و الّذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنّها النفخة الثانية الّتي تحيي الموتى.

قوله تعالى: ( وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الدكّ أشدّ الدقّ و هو كسر الشي‏ء و تبديله إلى أجزاء صغار، و حمل الأرض و الجبال إحاطة القدرة بها، و توصيف الدكّة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتّتهما بحيث لا يفتقر إلى دكّة ثانية.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) أي قامت القيامة.

قوله تعالى: ( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ) انشقاق الشي‏ء انفصال شطر منه من شطر آخر، و واهية من الوهي بمعنى الضعف، و قيل: من الوهي بمعنى شقّ الأديم و الثوب و نحوهما.

و يمكن أن تكون الآية أعني قوله:( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) في معنى قوله:( وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا ) الفرقان: 25.

قوله تعالى: ( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) قال الراغب: رجا البئر و السماء و غيرهما جانبها و الجمع أرجاء قال تعالى:( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) انتهى، و الملك - كما قيل - يطلق على الواحد و الجمع و المراد به في

٦١

الآية الجمع.

و قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) ضمير( فَوْقَهُمْ ) على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، و قيل: الضمير للخلائق.

و ظاهر كلامه أنّ للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن: 7 و قد وردت الروايات أنّهم أربعة، و ظاهر الآية أعني قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أنّ الحملة يوم القيامة ثمانية و هل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك و إن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنّهم من الملائكة.

و من الممكن - كما تقدّمت الإشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء و كون الملائكة على أرجائها و كون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة و السماء و العرش للإنسان يومئذ، قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) الزمر: 75.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) الظاهر أنّ المراد به العرض على الله كما قال تعالى:( وعُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا ) الكهف: 48، و العرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله و هو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد و عمل إبرازاً لا يخفى معه عقيدة خافية و لا فعلة خافية و ذلك بتبدّل الغيب شهادة و السرّ علناً قال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق: 9، و قال:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) المؤمن: 16.

و قد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ ما عدّ في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة كاختصاص الملك بالله، و كون الأمر له، و أن لا عاصم منه، و بروز الخلق له و عدم خفاء شي‏ء منهم عليه و غير ذلك، كلّ ذلك دائميّة الثبوت له تعالى، و إنّما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهوراً لا ستر عليه و لا مرية فيه.

٦٢

فالمعنى: يومئذ يظهر أنّكم في معرض على علم الله و يظهر كلّ فعلة خافية من أفعالكم.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) قال في المجمع، هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، و للاثنين: هاؤما يا رجلان، و للجماعة: هاؤم يا رجال، و للمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة و ليس بعدها ياء، و للمرأتين: هاؤما، و للنساء: هاؤنّ. هذه لغة أهل الحجاز.

و تميم و قيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، و للاثنين: هاءا، و للجماعة: هاؤا، و للمرأة: هائي، و للنساء هاؤنّ.

و بعض العرب يجعل مكان الهمزة كافاً فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكنّ، و معناه: خذ و تناول، و يؤمر بها و لا ينهى. انتهى.

و الآية و ما بعدها إلى قوله:( الْخاطِؤُنَ ) بيان تفصيليّ لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة و الشقاء، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إسراء: 71 كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، و الظاهر أنّ قوله:( هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) خطاب للملائكة، و الهاء في( كِتابِيَهْ ) و كذا في أواخر الآيات التالية للوقف و تسمّى هاء الاستراحة.

و المعنى: فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا و اقرأوا كتابيه أي إنّها كتاب يقضي بسعادتي.

قوله تعالى: ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) الظنّ بمعنى اليقين، و الآية تعليل لما يتحصّل من الآية السابقة و محصّل التعليل إنّما كان كتابي كتاب اليمين و قاضياً بسعادتي لأنّي أيقنت في الدنيا أنّي ساُلاقي حسابي فآمنت بربّي و أصلحت عملي.

قوله تعالى: ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقليّ.

٦٣

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -الْخالِيَةِ ) أي هو في جنّة عالية قدراً فيها ما لا عين رأت و لا اُذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

و قوله:( قُطُوفُها دانِيَةٌ ) القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو ما يجتنى من الثمر و المعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.

و قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) أي يقال لهم: كلوا و اشربوا من جميع ما يؤكل فيها و ما يشرب حال كونه هنيئاً لكم بما قدّمتم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا الّتي تقضّت أيّامها.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ) و هؤلاء هم الطائفة الثانية و هم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم و قد مرّ الكلام في معناه في سورة الإسراء، و هؤلاء يتمنّون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم و يدرون ما حسابهم يتمنّون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعدّ لهم.

قوله تعالى: ( يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) ذكروا أنّ ضمير( لَيْتَها ) للموتة الاُولى الّتي ذاقها الإنسان في الدنيا.

و المعنى: يا ليت الموتة الاُولى الّتي ذقتها كانت قاضية عليّ تقضي بعدمي فكنت انعدمت و لم اُبعث حيّاً فأقع في ورطة العذاب الخالد و اُشاهد ما اُشاهد.

قوله تعالى: ( ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) كلمتا تحسّر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنّه كان يحسب أنّ مفتاح سعادته في الحياة هو المال و السلطان يدفعان عنه كلّ مكروه و يسلّطانه على كلّ ما يحبّ و يرضى فبذل كلّ جهده في تحصيلهما و أعرض عن ربّه و عن كلّ حقّ يدعى إليه و كذّب داعيه فلمّا شاهد تقطّع الأسباب و أنّه في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون ذكر عدم نفع ماله و بطلان سلطانه تحسّراً و توجّعاً و ما ذا ينفع التحسّر.؟

قوله تعالى: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - إلى قوله -فَاسْلُكُوهُ ) حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه و إدخاله النار، و التقدير يقال للملائكة خذوه إلخ، و( فَغُلُّوهُ ) أمر من الغلّ بالفتح

٦٤

و هو الشدّ بالغلّ الّذي يجمع بين اليد و الرجل و العنق.

و قوله:( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي أدخلوه النار العظيمة و ألزموه إيّاها.

و قوله:( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ) السلسلة القيد، و الذرع الطول، و الذراع بُعد ما بين المرفق و رأس الأصابع و هو واحد الطول و سلوكه فيه جعله فيه، و المحصّل ثمّ اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعاً.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) الحضّ التحريض و الترغيب، و الآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ و الإدخال في النار أي إنّ الأخذ ثمّ التصلية في الجحيم و السلوك في السلسلة لأجل أنّه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحرّض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين و لا يبالي بما يقاسونه.

قوله تعالى: ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ - إلى قوله -الْخاطِؤُنَ ) الحميم الصديق و الآية تفريع على قوله:( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم ههنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.

و قوله:( وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) الغسلين الغسالة و كأنّ المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح و نحوه و الآية عطف على قوله في الآية السابقة:( حَمِيمٌ ) و متفرّع على قوله:( وَ لا يَحُضُّ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يحرّض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا طعام إلّا من غسلين أهل النار.

و قوله:( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) وصف لغسلين و الخاطؤن المتلبّسون بالخطيئة و الإثم.

٦٥

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يحمله اليوم أربعة و يوم القيامة ثمانية.

أقول: و في تقييد الحاملين في الآية بقوله:( يَوْمَئِذٍ ) إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.

و في تفسير القمّيّ، و في حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الأوّلين و أربعة من الآخرين فأمّا الأربعة من الأوّلين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أمّا الأربعة من الآخرين فمحمّد و عليّ و الحسن و الحسينعليهم‌السلام .

أقول: و في غير واحد من الروايات أنّ الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، و في بعضها أنّ حملة العرش - و العرش العلم - أربعة منّا و أربعة ممّن شاء الله.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ اُناس بإمامه الّذي مات في عصره فإن أثبته اُعطي كتابه بيمينه لقوله:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ‏ ) فمن اُوتي كتابه بيمينه فاُولئك يقرؤن كتابهم، و اليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه - إلى أن قال - و من أنكر كان من أصحاب الشمال الّذين قال الله:( وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) إلخ.

أقول: و في عدّة من الروايات تطبيق قوله:( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إلخ، على عليّعليه‌السلام ، و في بعضها عليه و على شيعته، و كذا تطبيق قوله:( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ) إلخ، على أعدائه، و هي من الجري دون التفسير.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو أنّ دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا.

و فيه، أخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان قال: جاء أعرابي

٦٦

إلى عليّ بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلّا الخاطون؟ كلّ و الله يخطو. فتبسّم عليّ و قال: يا أعرابيّ( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) قال: صدقت و الله يا أميرالمؤمنين ما كان الله ليسلم عبده.

ثمّ التفت عليّ إلى أبي الأسود فقال: إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئاً يستدلّون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع و النصب و الخفض.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و لو أنّ ذراعاً من السلسلة الّتي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرّها.

٦٧

( سورة الحاقّة الآيات 38 - 52)

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ( 38 ) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ( 39 ) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( 40 ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ ( 41 ) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( 42 ) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 43 ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ( 44 ) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( 45 ) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( 46 ) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( 47 ) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ( 48 ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ ( 49 ) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( 51 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 52 )

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكّد ما تقدّم من أمر الحاقّة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقّيّة ما أنبأ به من أمر القيامة.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ ) ظاهر الآية أنّه إقسام بما هو مشهود لهم و ما لا يشاهدون أي الغيب و الشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة و لا يشمل ذاته المتعالية فإنّ من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق و الخلق في صفّ واحد و يعظّمه تعالى و ما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد.

و في الإقسام نوع تعظيم و تجليل للمقسم به و خلقه تعالى بما أنّه خلقه جليل جميل لأنّه تعالى جميل لا يصدر منه إلّا الجميل و قد استحسن تعالى فعل نفسه و أثنى

٦٨

على نفسه بخلقه في قوله:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: 7، و قوله:( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) المؤمنون: 14 فليس للموجودات منه تعالى إلّا الحسن و ما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها و بقياس بعضها إلى بعض.

و في اختيار ما يبصرون و ما لا يبصرون للأقسام به على حقّيّة القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإنّ النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى و مصير الكلّ إليه و ما يترتّب عليه من بعث الرسل و إنزال الكتب و القرآن خير كتاب سماويّ يهدي إلى الحقّ في جميع ذلك و إلى طريق مستقيم.

و ممّا تقدّم يظهر عدم استقامة ما قيل: إنّ المراد بما تبصرون و ما لا تبصرون الخلق و الخالق فإنّ السياق لا يساعد عليه، و كذا ما قيل: إنّ المراد النعم الظاهرة و الباطنة، و ما قيل: إنّ المراد الجنّ و الإنس و الملائكة أو الأجسام و الأرواح أو الدنيا و الآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة و ما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعمّ مدلولاً من جميع ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) الضمير للقرآن، و المستفاد من السياق أنّ المراد برسول كريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنّه شاعر أو كاهن.

و لا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنّه إنّما ينسب إليه بما أنّه رسول و الرسول بما أنّه رسول لا يأتي إلّا بقول مرسلة، و قد بيّن ذلك فضل بيان بقوله بعد:( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

و قيل: المراد برسول كريم جبريل، و السياق لا يؤيّده إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب نفي كونه ممّا نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.

على أنّ قوله بعد:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و ما يتلوه إنّما يناسب كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المراد برسول كريم.

قوله تعالى: ( وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) نفي أن يكون القرآن

٦٩

نظماً ألّفه شاعر و لم يقل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شعراً و لم يكن شاعراً.

و قوله:( قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) توبيخ لمجتمعهم حيث إنّ الأكثرين منهم لم يؤمنوا و ما آمن به إلّا قليل منهم.

قوله تعالى: ( وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) نفي أن يكون القرآن كهانة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاهنا يأخذ القرآن من الجنّ و هم يُلقونه إليه.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) توبيخ أيضاً لمجتمعهم.

قوله تعالى: ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أي منزل من ربّ العالمين و ليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ - إلى قوله -حاجِزِينَ ) يقال: تقوّل على فلان أي اختلق قولاً من نفسه و نسبه إليه، و الوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد و إذا انقطع مات صاحبه، و قيل: هو رباط القلب.

و المعنى:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ) هذا الرسول الكريم الّذي حمّلناه رسالتنا و أرسلناه إليكم بقرآن نزّلناه عليه و اختلق( بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و نسبه إلينا( لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوّة كما في رواية القمّيّ( ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) و قتلناه لتقوّله علينا( فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ‏ ) تحجبونه عنّا و تنجونه من عقوبتنا و إهلاكنا.

و هذا تهديد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير أن يفتري على الله كذباً و ينسب إليه شيئاً لم يقله و هو رسول من عنده أكرمه بنبوّته و اختاره لرسالته.

فالآيات في معنى قوله:( لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) إسراء: 75، و كذا قوله في الأنبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام: 88.

فلا يرد أنّ مقتضى الآيات أنّ كلّ من ادّعى النبوّة و افترى على الله الكذب أهلكه الله و عاقبه في الدنيا أشدّ العقاب و هو منقوض ببعض مدّعي النبوّة من الكذّابين.

٧٠

و ذلك أنّ التهديد في الآية متوجّه إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقوّل على الله و نسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدّعي النبوّة المفتري على الله في دعواه النبوّة و إخباره عن الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) يذكّرهم كرامة تقواهم و معارف المبدأ و المعاد بحقائقها، و يعرّفهم درجاتهم عند الله و مقاماتهم في الآخرة و الجنّة و ما هذا شأنه لا يكون تقوّلاً و افتراء فالآية مسوقة حجّة على كون القرآن منزّهاً عن التقوّل و الفرية.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ ) ستظهر لهم يوم الحسرة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قد تقدّم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، و السورتان متّحدتان في الغرض و هو وصف يوم القيامة و متّحدتان في سياق خاتمتهما و هي الإقسام على حقّيّة القرآن المنبئ عن يوم القيامة، و قد ختمت السورتان بكون القرآن و ما أنبأ به عن وقوع الواقعة حقّ اليقين ثمّ الأمر بتسبيح اسم الربّ العظيم المنزّه عن خلق العالم باطلاً لا معاد فيه و عن أن يبطل المعارف الحقّة الّتي يعطيها القرآن في أمر المبدأ و المعاد.

٧١

( سورة المعارج مكّيّة و هي أربع و أربعون آية)

( سورة المعارج الآيات 1 - 18)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 ) مِّنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ ( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ( 5 ) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ( 6 ) وَنَرَاهُ قَرِيبًا ( 7 ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ( 8 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( 9 ) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( 10 ) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( 11 ) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ( 12 ) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ( 13 ) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ( 14 ) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ ( 15 ) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ ( 16 ) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ ( 17 ) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ ( 18 )

( بيان‏)

الّذي يعطيه سياق السورة أنّها تصف يوم القيامة بما اُعدّ فيه من أليم العذاب للكافرين. تبتدئ السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذاباً من الله للكافرين فتشير إلى أنّه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثمّ تصف اليوم الّذي يقع فيه و العذاب الّذي اُعدّ لهم فيه و تستثني المؤمنين الّذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح.

٧٢

و هذا السياق يشبه سياق السور المكّيّة غير أنّ المنقول عن بعضهم أنّ قوله:( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) مدني و الاعتبار يؤيّده لأنّ ظاهره الزكاة و قد شرّعت بالمدينة بعد الهجرة، و كون هذه الآية مدنيّة يستتبع كون الآيات الحافّة بها الواقعة تحت الاستثناء و هي أربع عشرة آية (قوله:إِلَّا الْمُصَلِّينَ - إلى قوله -فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ‏ ) مدنيّة لما في سياقها من الاتّحاد و استلزام البعض للبعض.

و مدنيّة هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه و هو على الأقل ثلاث آيات (قوله:إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً - إلى قوله -مَنُوعاً ).

على أنّ قوله:( فَما لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) متفرّع على ما قبله تفرّعاً ظاهراً و هو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضاً مدنيّة.

و من جهة اُخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافّين حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اليمين و عن الشمال عزين و هم الرادّون لبعض ما أنزل الله من الحكم و خاصّة قوله:( أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و قوله:( عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) إلخ على ما سيجي‏ء، و موطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكّة، و لا ضير في التعبير عن هؤلاء بالّذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة و غيرها.

على أنّهم رووا أنّ السورة نزلت في قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) الأنفال: 32 و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ سياقها و الّتي بعدها سياق مدنيّ لا مكّي. لكنّ المرويّ عن الصادقعليه‌السلام أنّ المراد بالحقّ المعلوم في الآية حق يسمّيه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.

و لا عبرة بما نسب إلى اتّفاق المفسّرين أنّ السورة مكّيّة على أنّ الخلاف ظاهر و كذا ما نسب إلى ابن عبّاس أنّها نزلت بعد سورة الحاقّة.

قوله تعالى: ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) السؤال بمعنى الطلب و الدعاء، و لذا عدّي بالباء كما في قوله:( يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ ) الدخان: 55 و قيل: الفعل مضمّن معنى الاهتمام و الاعتناء و لذا عدّي بالباء، و قيل: الباء زائدة للتأكيد،

٧٣

و مآل الوجوه واحد و هو طلب العذاب من الله كفراً و عتوّاً.

و قيل: الباء بمعنى عن كما في قوله:( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) الفرقان: 59، و فيه أنّ كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع. على أنّ سياق الآيات التالية و خاصّة قوله:( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار و الاستخبار.

فالآية تحكي سؤال العذاب و طلبه عن بعض من كفر طغياناً و كفراً، و قد وصف العذاب المسؤل من الأوصاف بما يدلّ على إجابة الدعاء بنوع من التهكّم و التحقير و هو قوله:( واقِعٍ ) و قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .

و المعنى سأل سائل من الكفّار عذاباً للكافرين من الله سيصيبهم و يقع عليهم لا محالة و لا دافع له أي إنّه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيريّ و إجابة لمسؤله تهكّماً.

قوله تعالى: ( لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) للكافرين متعلّق بعذاب و صفة له، و كذا قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) و قد مرّت الإشارة إلى معنى الآية.

قوله تعالى: ( مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ) الجارّ و المجرور متعلّق بقوله:( دافِعٌ ) أي ليس له دافع من جانب الله و من المعلوم أنّه لو اندفع لم يندفع إلّا من جانب الله سبحانه، و من المحتمل أن يتعلّق بقوله:( بِعَذابٍ ) .

و المعارج جمع معرج و فسّروه بالمصاعد و هي الدرجات و هي مقامات الملكوت الّتي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسّره قوله بعد:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) إلخ فله سبحانه معارج الملكوت و مقاماتها المترتّبة علوّاً و شرفاً الّتي تعرج فيها الملائكة و الروح بحسب قربهم من الله و ليست بمقامات وهميّة اعتباريّة.

و قيل: المراد بالمعارج الدرجات الّتي يصعد فيها الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر 10، و قال:( وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ ) الحجّ: 37.

و قيل: المراد به مقامات القرب الّتي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان و العمل

٧٤

الصالح قال تعالى:( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) آل عمران: 163 و قال:( لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: 4 و قال:( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ) المؤمن: 15.

و الحقّ أنّ مآل الوجهين إلى الوجه الأوّل، و الدرجات المذكورة حقيقيّة ليست بالوهميّة الاعتباريّة.

قوله تعالى: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.

و المراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنّه بحيث لو وقع في الدنيا و انطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا.

و المراد بعروج الملائكة و الروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكلّ إليه فإنّ يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط و تقطّع الأسباب و ارتفاع الروابط بينها و بين مسبّباتها و الملائكة وسائط موكّلة على اُمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطّعت الأسباب عن مسبّباتها و زيّل الله بينهم و رجع الكلّ إلى الله عزّ اسمه رجعوا إليه و عرجوا معارجهم فحفّوا من حول عرش ربّهم و صفّوا قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) الزمر 75، و قال:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: 38.

و الظاهر أنّ المراد بالروح الروح الّذي هو من أمره تعالى كما قال:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: 85 و هو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: 2.

فلا يعبأ بما قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل و إن اُطلق عليه الروح الأمين و روح القدس في قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: 194 و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) النحل: 103 فإنّ المقيّد غير المطلق.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لمّا كان سؤال السائل للعذاب عن تعنّت

٧٥

و استكبار و هو ممّا يشقّ تحمّله أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و وصفه بالجميل - و الجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع و الشكوى - و علّله بأنّ اليوم بما فيه من العذاب قريب.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً ) ضميراً( يَرَوْنَهُ ) و( نَراهُ ) للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع و يؤيّد الأوّل قوله فيما بعد:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) إلخ.

و المراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازيّة و رؤيتهم ذلك بعيداً ظنّهم أنّه بعيد من الإمكان فإنّ سؤال العذاب من الله سبحانه استكباراً عن دينه و ردّاً لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد و إن تفوّه به السائل، و رؤيته تعالى ذلك قريباً علمه بتحقّقه و كلّ ما هو آت قريب.

و في الآيتين تعليل أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر الجميل فإنّ تحمّل الأذى و الصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أنّ الفرج قريب و تذكّر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنّتهم و استكبارهم في سؤالهم العذاب صبراً جميلاً لا يشوبه جزع و شكوى فإنّا نعلم أنّ العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، و علمنا لا يتخلّف عن الواقع بل هو نفس الواقع.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) المهل المذاب من المعدنيّات كالنحاس و الذهب و غيرهما، و قيل: درديّ الزيت، و قيل: عكر القطران(1) .

و الظرف متعلّق بقوله:( واقِعٍ ) على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) العهن مطلق الصوف، و لعلّ المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: 5.

و قيل: هو الصوف الأحمر، و قيل: المصبوغ ألواناً لأنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض و حمر و غرابيب سود(2) .

____________________

(1) أي ردية و خبيثه‏.

(2) كما في الآية من سورة فاطر.

٧٦

قوله تعالى: ( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) الحميم القريب الّذي تهتمّ بأمره و تشفق عليه.

إشارة إلى شدّة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتّى أنّ الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.

قوله تعالى: ( يُبَصَّرُونَهُمْ ) الضميران للأحماء المعلوم من السياق و التبصير الإراءة و الإيضاح أي يُرى و يوضح الأحماء للأحماء فلا يسألونهم عن حالهم اشتغالاً بأنفسهم.

و الجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه لمّا قيل: لا يسأل حميم حميماً سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فاُجيب: يبصّرونهم و يمكن أن يكون( يُبَصَّرُونَهُمْ ) صفة( حَمِيماً ) .

و من ردي‏ءً التفسير قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يبصّر الملائكة الكفّار، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر المؤمنون أعداءهم من الكفّار و ما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر أتباع الضلالة رؤساءهم. و هي جميعاً وجوه لا دليل عليها.

قوله تعالى: ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ) قال في المجمع: المودّة مشتركة بين التمنّي و بين المحبّة يقال: وددت الشي‏ء أي تمنّيته و وددته أي أحببته أودّ فيهما جميعاً. انتهى، و يمكن أن يكون استعماله بمعنى التمنّي من باب التضمين.

و قال: و الافتداء الضرر عن الشي‏ء ببدل منه انتهى، و قال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى اُبوّة خاصّة عن اُبوّة عامّة. انتهى، و ذكر بعضهم أنّ الفصيلة عشيرته الأقربين الّذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.

و سياق هذه الآيات سياق الإضراب و الترقّي بالنسبة إلى قوله:( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) فيفيد أنّ المجرم يبلغ به شدّة العذاب إلى أن يتمنّى أن يفتدي من العذاب بأحبّ أقاربه و أكرمهم عليه بنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته و جميع من في الأرض ثمّ ينجيه الافتداء فيودّ ذلك فضلاً عن عدم سؤاله عن حال حميمه.

٧٧

و المعنى( يَوَدُّ ) و يتمنّى( الْمُجْرِمُ ) و هو المتلبّس بالأجرام أعمّ من الكافر( لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ ) و هذا هو الّذي يتمنّاه، و الجملة قائمة مقام مفعول يودّ.( بِبَنِيهِ ) الّذين هم أحبّ الناس عنده( وَ صاحِبَتِهِ ) الّتي كانت سكنا له و كان يحبّها و ربّما قدّمها على أبويه( وَ أَخِيهِ ) الّذي كان شقيقه و ناصره( وَ فَصِيلَتِهِ ) من عشيرته الأقربين( الَّتِي تُؤْوِيهِ ) و تضمّه إليها( وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) من اُولي العقل( ثُمَّ يُنْجِيهِ ) هذا الافتداء.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّها لَظى‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى) كلّا للردع، و ضمير( إِنَّها ) لجهنّم أو للنار و سمّيت لظى لكونها تتلظّى و تشتعل، و النزّاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، و الشوى الأطراف كاليد و الرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، و إيعاء المال إمساكه في وعاء.

فقوله:( كَلَّا ) ردع لتمنّيه النجاة من العذاب بالافتداء و قد علّل الردع بقوله:( إِنَّها لَظى) إلخ و محصّله أنّ جهنّم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنّها تطلب المجرمين لتعذّبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائناً ما كان.

فقوله:( إِنَّها لَظى‏ ) أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها و لا تخمد، و قوله:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) أي صفتها إحراق الأطراف و اقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذّبه.

و قوله:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى‏ ) أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهيّة إلى الإيمان بالله و أعرض عن عبادته تعالى و جمع المال فأمسكه في وعائه و لم ينفق منه للسائل و المحروم.

و هذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي و ذكر الصلاة و الإنفاق فيه.

٧٨

( بحث روائي‏)

في المجمع، حدّثنا السيّد أبوالحمد قال: حدّثنا الحاكم أبوالقاسم الحسكاني و ساق السند عن جعفر بن محمّد الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: لما نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحارث الفهريّ.

فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله و أنّك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شي‏ء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: و الله الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله.

فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى:( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) .

أقول: و هذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، و قد ردّ الحديث بعضهم بأنّه موضوع لكون سورة المعارج مكّيّة، و قد عرفت الكلام في مكّيّة السورة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و النسائيّ و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال هو النضر بن الحارث قال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ: في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال. نزلت بمكّة في النضر بن الحارث و قد قال:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و كان عذابه يوم بدر.

أقول: و هذا المعنى مرويّ أيضاً عن غير السدّيّ، و في بعض رواياتهم أنّ

٧٩

القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، و في بعضها أنّ سائل العذاب هو أبوجهل بن هشام سأله يوم بدر و لازمه مدنيّة السورة و المعتمد على أيّ حال نزول السورة بعد قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و قد تقدّم كلام في سياق الآية.

و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنّ في القيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدّون ثمّ تلا هذه الآية( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي، عن حفص بن غياث عنهعليه‌السلام .

و في المجمع، روى أبوسعيد الخدريّ قال: قيل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أطول هذا اليوم فقال: و الّذي نفس محمّد بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من الجوامع عن أبي سعيد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) قال: الرصاص الذائب و النحاس كذلك تذوب السماء.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يقول: يعرّفونهم ثمّ لا يتساءلون.

و فيه في قوله تعالى:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) قال: تنزع عينه و تسودّ وجهه.

و فيه في قوله تعالى:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ) قال: تجرّه إليها.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وقال في المبسوط: اذا تكررت منه السرقة، فسرق مرارا من واحد ومن جماعة ولما قطع، فالقطع مرة واحدة، لانه حد من حدود الله فاذا ترادفت تداخلت كحد الزنا وشرب الخمر، فاذا ثبت ان القطع واحد نظرت، فان اجتمع المسروق منهم وطالبوه باجمعهم، قطعناه وغرم لهم، وان سبق واحد منهم فطالب بما سرق منه، وكان نصابا غرم وقطع، ثم كل من جاء بعده من القوم، فطالب بما سرق منه غرمناه ولم نقطعه، لانا قد قطعناه بالسرقة، فلا يقطع مثل ان يسرق مرة اخرى(١) واختاره المصنف(٢) والعلامة(٣) وهو ظاهر التقى(٤) وأبي علي(٥) .

احتج الاولون: بما رواه بكير بن اعين عن الباقرعليه‌السلام في رجل سرق فلم يقدر عليه، ثم سرق مرة اخرى، وأخذ، فجاء‌ت البينة فشهدوا عليه بالسرقة الاولى، والسرقة الاخيرة، فقال: تقطع يده بالسرقة الاولى، ولا تقطع رجله بالسرقة الاخيرة فقلت: وكيف ذلك؟ فقال: لان الشهود شهدوا جميعا في مقام واحد بالسرقة الاولى والاخيرة قبل ان يقطع بالسرقة الاولى، ولو أن الشهود شهدوا عليه بالسرقة الاولى ثم امسكوا حتى تقطع يده، ثم شهدوا عليه بالسرقة الاخيرة، قطعت رجله اليسرى(٦) .

____________________

(١)المبسوط: ج ٨ كتاب السرقة ص ٣٨ س ١١ قال: اذا تكررت منه السرقة إلى قوله: مثل ان يسرق مرة اخرى.

(٢)لاحظ عبارة النافع حيث يقول: والاول التمسك بعصمة الدم.

(٣)المختلف: ج ٢ في حد السرقة ص ٢٢٠ س ٣٢ قال بعد نقل قول المبسوط: وهو الاقوى.

(٤)الكافي: فصل في السرق وحده ص ٤١٢ س ٧ قال: واذا اقر بسرقات كثيره إلى اخره وقد تقدم انفا.

(٥)المختلف: ج ٢ في حد السرقة ص ٢٢٠ س ٢٥ قال: وقال ابن الجنيد: لو سرق السارق مرارا إلى قوله: قطعت يمينه فقط.

(٦)التهذيب: ج ١٠(٨) باب الحد في السرقة ص ١٠٧ الحديث ٣٥.

[*]

١٢١

الفصل السادس: في المحارب

وهو كل من جرد سلاحا في بر أو بحر، ليلا أو نهارا لاخافة السابلة وان لم يكن من اهلها على الاشبه ويثبت ذلك بالاقرار ولو مرة، أو] واسقطها العلامة، لكون سهل بن زياد في طريقها(١) (٢) .

واستند اى اصالة البراء‌ة.

قال طاب ثراه: وهو كل من جرد سلاحا في بر أو بحر، ليلا أو نهارا لاخافة السابلة، وان لم يكن اهلها على الاشبه.

أقول: قال الشيخ في النهاية: المحارب هو الذي يجرد السلاح ويكون من اهل الريبة(٣)

وقال المفيد: واهل الدعارة(٤) اذا جردوا السلاح، ثم ذكر احكام المحارب(٥)

____________________

(١)سند الحديث كما في التهذيب (سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن عبدالرحمان بن الحجاج، عن بكير بن اعين، عن أبي جعفرعليه‌السلام ).

(٢)المختلف ج ٢ في حد السرقة ص ٢٢٠ س ٣٦ بعد نقل الحديث: والجواب: في الطريق سهل بن زياد وفيه ضعف، فيبقى المستند اصالة البراء‌ة.

(٣)النهاية باب حد المحارب.. ص ٧٢٠ س ٣ قال: المحارب هو الذي يجرد السلاح ويكون من اهل الريبة.

(٤)الدعر بالتحريك الفساد والشر، ومثله الدعارة، ورجل داعر أي خبيث مفسد (مجمع البحرين لغة دعر) وقال في لغة (زعر) ومنه الحديث: اخالط الرجل وارى منه زعارة، أي شواسة خلق وشكاسة

(٥) المقنعة، باب الحد في السرق ص ١٢٩ س ٢ قال: واهل الزعارة اذا جردوا السلاح في دار الاسلام كان الامام مخيرا.

[*]

١٢٢

[بشهادة عدلين. ولو شهد بعض اللصوص على بعض لم تقبل، وكذا لو شهد بعض المأخوذين لبعض.

وحده: القتل، أو الصلب، أوالقطع مخالفا، أو النفي. وللاصحاب اختلاف، قال المفيد: بالتخيير وهو الوجه، وقال الشيخ: بالترتيب. يقتل ان قتل، ولو عفا ولي الدم قتل حدا. ولو قتل واخذ المال، استعيد منه وقطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم قتل وصلب. وان أخذ المال ولم يقتل قطع مخالفا ونفي. ولو جرح ولم يأخذ المال، أقتص منه ونفى، ولو شهر السلاح، نفي لاغير. ولو تاب قبل القدرة عليه سقطت العقوبة، ولم تسقط حقوق] وهو المشهور في عبارات الاصحاب. وعموم الآية(١) تدل على عدم الاشتراط، وهو الذي اختاره المصنف(٢) والعلامة(٣) وفخر المحققين(٤) .

قال طاب ثراه: وحده: القتل، أو الصلب، او القطع مخالفا، أو النفى، وللاصحاب اختلاف، قال المفيد: بالتخيير وهو الوجه، وقال الشيخ: بالترتيب.

____________________

(١)قال تعالى: (انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا إلى اخر الآية، سورة المائدة: ٣٣.

(٢)لاحظ عبارة النافع حيث يقول: وهو كل من جرد سلاحا الخ.

(٣)القواعد ج ٢، المقصد السابع في حد المحارب ص ٢٧١ س ٢٢ قال: الاول، المحارب كل من أظهر السلاح وجرده لاخافة الناس إلى قوله: ولا يشترط كونه من اهل الريبة على اشكال.

(٤)الايضاح ج ٤ في حد المحارب ص ٥٤٣ س ١٧ قال: وعموم الآية يدل على عدم الاشتراط، وهو الاقوى عندي.

[*]

١٢٣

[الناس. ولو تاب بعد ذلك لم تسقط. ويصلب المحارب حيا على القول بالتخيير، ومقتولا على القول الآخر. ولا يترك على خشبة اكثر من ثلاثة أيام، وينزل، ويغسل على القول بصلبه حيا، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن. وينفى المحارب عن بلده، ويكتب بالمنع من مؤاكلته، ومجالسته، ومعاملته حتى يتوب، واللص محارب، وللانسان دفعه اذا غلب السلامة، ولا ضمان على الدافع، ويذهب دم المدفوع هدرا. وكذا لو كابرا امرأة على نفسها، أو غلاما فدفع، فأدى إلى تلفه، أو دخل دارا فزجره ولم يخرج، فأدى الزجر والدفع إلى تلفه، أو ذهاب بعض أعضاء‌ه. ولو ظن العطب سلم المال. ولا يقطع المستلب، ولا المختلس والمحتال، ولا المبنج، ولا من سقى غيره مرقدا، بل يستعاد منهم ما اخذوا ويعزرون بما يردع.] أقول: في كيفية حد المحارب مذهبان. الاول: الترتيب. والآخر التخيير، ومعناه: ان للحاكم قتله بمجرد اشهار السلاح وان لم يقتل، بل وان لم ياخذ المال، وله صلبه حيا حتى يموت، وله قطعه، وله نفيه، والخيار في ذلك اليه.

١٢٤

وهو قول المفيد(١) وتلميذه(٢) وابن ادريس(٣) وبه قال المصنف(٤) والعلامة(٥) . والترتيب المحكي في الكتاب مذهب الشيخرحمه‌الله (٦) وهو مذهب القاضي(٧) .

فالحاصل: ان الخلاف بين الشيخين في موضعين.

(أ) التخيير، والترتيب: والمفيد على الاول، والشيخ على الثاني.

(ب) الصلب بعد القتل عند الشيخ(٨) ، وقبله عند المفيد(٩) وهو لازم للاول.

____________________

(١)المقنعة باب الحد في السرقة والخيانة.. والفساد في الارضين ص ١٢٩ س ٣ قال: كان الامام مخيرا فيهم ان شاء قتلهم بالسيف، وان شاء صلبهم حتى يموتوا، وان شاء قطع ايديهم وارجلهم من خلاف، وان شاء نفاهم الخ.

(٢)المراسم كتاب الحدود والاداب ص ٢٥١ س ٦ قال: والمجرد للسلاح في ارض الاسلام، ان شاء الامام قتله، وان شاء صلبه الخ.

(٣)السرائر باب المحاربين وهو قطاع الطريق ص ٤٦٠ س ٣٥ قال بعد نقل قول المقنعة بتمامه: وهو الاظهر الاصح، لانه يعضده التنزيل الخ.

(٤)لاحظ عبارة النافع حيث يقول: وحده القتل الخ.

(٥)المختلف ج ٢ في حد المحارب ص ٢٢٧ س ٥ قال بعد نقل مختار المفيد وابن ادريس: وهو الاقوى، لنا: الاية، فان (او) يقتضي التخيير الخ.

(٦)النهاية باب حد المحارب ص ٧٢٠ س ٥ قال: فمتى فعل ذلك كان محاربا، ويجب عليه ان قتل ولم ياخذ المال، ان يقتل الخ.

(٧)المهذب ج ٢ قاب حدود المحارب ص ٥٥٣ س ٤ قال: فان قتل ولم ياخذ مالا كان عليه القتل إلى قوله: وان قتل واخذ مالا الخ.

(٨)النهاية باب حد المحارب ص ٧٢٠ س ١٠ قال: ثم يقتل بعد ذلك ويصلب.

(٩)المقنعة باب الحد في السرق والخيانة.. والفساد في الارضين ص ١٢٩ س ٥ قال: وجب قتلهم على كل حال بالسيف والصلب حتى يموتوا الخ.

[*]

١٢٥

احتج الاولون: بالاية، فان (او) يقتضي التخيير.

وبحسنة جميل بن دراج عن الصادقعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عزوجل: (انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الرض فسادا ان يقتلوا او يصلبوا) إلى اخر الاية فقلت: أي شئ عليهم من هذه الحدود التي سمى الله تعالى؟ قال: ذلك إلى الامام، ان شاء قطع، وان شاء صلب، وان شاء نفى، وان شاء قتل، قلت: النفى إلى اين؟ قال: ينفى من مصر إلى مصر اخر، وقال: ان علياعليه‌السلام نفى رجلين من الكوفة إلى البصرة(١) .

احتج الشيخ بما رواه عبيدالله المدائني عن الصادقعليه‌السلام قال: قلت له: جعلت فداك اخبرنى عن قول الله عزوجل: (انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا ان يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع ايديهم وارجلهم من خلاف او ينفوا من الارض) قال: فعقد بيده، ثم قال: يا ابا عبدالل خذها اربعا باربع، ثم قال: اذا حارب الله ورسوله وسعى في الارض فسادا فقتل، قتل، وان قتل واخذ المال قتل وصلب، وان اخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وان حارب الله وسعى في الارض فسادا ولم يقتل لم ياخذ من المال نفي من الارض، قال: قلت: وما حد نفيه؟ قال: سنة ينفى من الارض التي فعل فيها إلى غيرها، ثم يكتب إلى ذلك المصر: بانه منفى فلا تواكلوه، ولا تشاربوه، ولا تناكحوه، حتى يخرج إلى غيره، فيكتب اليهم ايضا بمثل ذلك، فلا يزال هذه حاله سنة، فاذا فعل به ذلك تاب وهو صاغر(٢) .

____________________

(١)التهذيب ج ١٠(٨) باب الحد في السرقه.. والفساد في الارضين ص ١٣٣ الحديث ١٤٥.

(٢)التهذيب ج ١٠(٨) باب الحد في السرقة.. والفساد في الارضين ص ١٣١ الحديث ١٤٠.

[*]

١٢٦

(تحصيل)

على القول بالتفصيل: يتحتم القتل بالسيف على تقدير ان يقتل، سواء كان المقتول مكافئا أولا، وسواء عفى الولى أولا، لكن مع عدم عفوه له المطالبة ومباشرة القاص مع اذن الامام، ومع اخذ المال يجب القطع، ولا يعتبر قدر النصاب، ولا اخذه من حرز، ولا يسقط بهبة المأخوذ قبل القدرة عليه، لانه حد، فخرج عن قانون السرقة في اربعة أشياء.

(أ) عدم اشتراط المرافعة من المالك.

(ب) عدم سقوطه بعفوه.

(ج) عدم اشتراط النصاب.

(د) قطع يده ورجله بسرقة واحدة.

وفي القتل ايضا خرج عن باب القصاص في ثلاثة أشياء.

(أ) عدم اعتبار مطالبة الولي.

(ب) عدم اعتبار التكافؤ، فيقتل بالعبد والذمي.

(ج) عدم سقوطه بعفوه.

فرع

هذا الحكم يثبت للنساء لعموم الآية(١) .

ولصحيحة محمد بن مسلم عن الصادقعليه‌السلام : من شهر السلاح في مصر من الامصار، فعقر اقتص منه(٢) ولفظة (من) من الفاظ العموم تتناول الذكر

____________________

(١)قال تعالى: (انما جزاء الدين يحاربون الله) الآية سورة المائدة / ٣٣.

(٢)التهذيب: ج ١٠(٨) باب الحد في السرقة.. والفساد في الارضين ص ١٣٢ قطعة من حديث ١٤١.

[*]

١٢٧

الفصل السابع: في اتيان البهائم، ووطء الاموات ومايتبعه

اذا وطئ البالغ العاقل بهيمة مأكولة اللحم كالشاة والبقرة، حرم لحمها ولحم نسلها. ولو اشتبهت في قطيع، قسم نصفين، واقرع هكذا حتى تبقى واحدة، فتذبح وتحرق، ويغرم قيمتها ان لم يكن له. ولو كان المهم ما يركب ظهرها، لالحمها كالبغل والحمار والدابة، أغرم ثمنها ان لم تكن له، واخرجت إلى غير بلده وبيعت. وفي الصدقة بثمنها قولان: والاشبه: انه يعاد عليه، ويعزر الواطئ] والانثى، وصرح به الشيخ في كتابي الفروع(١) (٢) . خلافا لابي علي حيث قال: الا النساء فانهن لايقتلن(٣) واختاره ابن ادريس لان النساء لا تقتلن في المحاربة، ثم قال في اخر المسألة: قد بينا ان احكام المحاربين تتعلق بالرجال والنساء سواء على ما فصلناه من العقوبات للاية، ولم يفرق بين الرجال والنساء، فوجب حملها على عمومها(٤) .

قال طاب ثراه: وفي الصدقة بثمنها قولان: والاشبه: انه يعاد عليه.

____________________

(١)الخلاف: كتاب قطاع الطريق مسألة ١٥ قال: احكام المحاربين تتعلق بالرجال والنساء سواء على ما فصلناه في العقوبات.

(٢)المبسوط: ج ٨ كتاب قطاع الطريق ص ٥٦ س ٤ قال: النساء والرجال في احكام المحاربين سواء على ما فصلناه في العقوبة.

(٣)المختلف: ج ٢ في حد المحارب ص ٢٢٧ س ١٨ قال: وقال ابن الجنيد: وكذلك كل النساء الا انهن لا يقتلن.

(٤)السرائر: في حد المحاربة ص ٤٦١ س ٦ قال: والذي يقتضيه اصول مذهبنا: ان لا يقتلن الا بدليل قاطع، ثم قال في س ٢٧ من تلك الصفحة: وقد قلنا: ان احكام المحاربين يتعلق بالرجال والنساء سواء على ما فصلناه من العقوبات الخ.

[*]

١٢٨

[على التقديرين. ويثبت هذا الحكم بشهادة عدلين، او الاقرار مرتين، ولو قيل يكفي المرة كان حسنا. ولا يثبت بشهادة النساء، منفردات ولا منضمات. ولو تكرر الوطء مع التعزير ثلاثا، قتل في الرابعة.] اقول: مختار المصنف(١) مذهب الشيخ في النهاية(٢) وابن ادريس(٣) لاصالة براء‌ة الذمة من وجوب الصدقة، وهو مذهب العلامة(٤) .

وقال المفيد: يتصدق بها، عقوبة على ما جناه، ورجاء لتكفير ذنبه بالصدقة عنه(٥) .

قال طاب ثراه: ويثبت بشهادة عدلين، او الاقرار مرتين، ولو قيل: يكفي المرة كان حسنا.

اقول: الاكتفاء بالمرة هو المشهور بين الاصحاب، لعموم نفوذ اقرار العاقل على نفسه(٦) الا ما خصه الدليل من الحدود ايضا، فان الانسان اذا اقر مرة ثم انكر

____________________

(١)لاحظ عبارة النافع حيث يقول: والاشبه انه يعاد عليه.

(٢)النهاية باب من نكح ميتة، او وطأ بهيمة ص ٧٠٩ س ١ قال: ويغرم ثمن البهيمة لصاحبها ان لم تكن له الخ.

(٣)السرائر باب وطء الاموات والبهائم ص ٤٥١ س ٩ قال: ومن وطأ بهيمة إلى قوله: ويغرم ثمن البهيمة لصاحبها.

(٤)المختلف ج ٢، القول في وطأ البهيمة ص ٢١٥ س ٩ قال بعد نقل قول الشيخ في النهاية: والوجه ما قاله الشيخ.

(٥)المقنعة باب الحد في نكاح البهائم ص ١٢٥ س ٣٢ قال: وتصدق بثمنها ولم يعط صاحبها شيئا منه عقوبة له على ما جناه الخ.

(٦)لاحظ عوالي اللئالي.

[*]

١٢٩

[ووطء الميتة كوطء الحية في الحد، واعتبار الاحصان، ويغلظ هنا. ولو كانت زوجة، فلا حد ويعزر. ولا يثبت الاباربعة شهود، وفي رواية يكفي اثنان، لانها شهادة على واحد. ومن لاط بميت كمن لاط بجى، ويعزر زيادة على الحد. ومن استمنى بيده عزر بمايراه الامام. ويثبت بشهادة عدلين، او الاقرار مرتين، ولو قيل: يكفي المرة كان حسنا.] وجب التعزير، وهذه الجناية توجب التعزير في الاصل، فلا معنى لاشتراط المرتين فيها.

وقال ابن ادريس: ويثبت بالاقرار مرتين(١) وظاهره عدم الثبوت بالمرة، هكذا فهم المصنف والعلامة(٢) وجعلا المسألة خلافية.

فروع

(أ) يتعلق الحكم بالبهيمة الموطوء‌ة، ولو كان الواطئ صبيا أو مجنونا، ولا فرق في الموطوء بين الذكر والانثى، ولا بين القبل والدبر، نعم لو كان الادمي مفعولا كالمرأة والمخنث لم يتعلق الحكم.

(ب) هل يشمل الحكم كل بهيمة؟ يحتمله قويا، لان المراد بالبهيمة ما ابهم عن الفهم، فتعم الطيور، ويحتمل اختصاص الحكم بذوات الاربع، لانه الظاهر في الاستعمال، وباصالة بقاء الحل، وبالاول قال فخر المحققين(٣) وبالثاني قال

____________________

(١)السرائر باب وطء الاموات والبهائم ص ٤٥١ س ٣٤ قال: ويثبت الفعل بذلك باقرار الفاعل مرتين الخ.

(٢)التحرير ج ٢، المقصد الثالث في وطء الاموات والبهائم ص ٢٢٦ س ٥ قال: وقال بعض علمائنا: يثبت بالاقرار مرتين.

(٣)الايضاح ج ٤ كتاب الاطعمة والاشرية ص ١٥١ س ١١ قال: ويحتمل العموم (أي من ذوات الاربع وغيرها) لان المحرم موجود، وخصوصية المحل لا تمنع، والاقوى عندي الثاني.

[*]

١٣٠

والده(١) .

(ج) لو تلفت في اخراجها عن البلد في الطريق، او احتاجت إلى مؤنة، او نفقة، فهي من الواطئ.

(د) لو حصل لها نماء كان للغارم.

(ه‍) لو كان الواطئ معسرا رد الثمن اليه، ان قلنا بانتقالها إليه بالوطء، فلو كان مفلسا تحاص فيه الغرماء، ويحتمل اختصاص المالك، لانه عوض ماله، ولم يخرج عن ملكه باختياره. وان قلنا بعدم الانتقال، اختص به المالك، وان نقص كان الباقي ثابتا في ذمته. وكذا يثبت الكل لو اوجبنا التصدق بالثمن.

(و) لايجوز قضاء هذا الدين من الزكاة، لكونه سببا عن المعصية.

(ز) لوردت هذه الدابه إلى البلد بعد بيعها في غيره لم يجب اخراجها ثانيا، وان عرفت مشهورة، لتحقق الامتثال.

(ح) يتعدى التحريم إلى النسل، وكذا اللبن والبيض، فلو احضنته حرم الفرخ. ولو كان الموطوء ذكرا تعدى التحريم إلى نسله، للعموم. وكذا تحرم الصلاة في الجلد والصوف والشعر، وهل يجوز استعماله في غير الصلاة؟ الاقوى المنع، لوجوب الاحراق، وهو ينا في جواز الاستعمال.

(ط) يحكم بنجاسة رجيعها.

(ى) لوجنى عليها قبل البيع، فالارش كالنماء، ولو اتلفت اخذت القيمة من المتلف، وهل يتصدق بها، او تعاد على الغارم؟ فيها القولان. (يا) حد الموضع الذي يخرج اليه، ضابطه موضع لا يعرف فيه.

____________________

(١)القواعد ج ٢ كتاب الصيد والذبائح ص ١٥٧ س ٤ قال: الثاني وطء الانسان إلى قوله: والاقرب اختصاص الحكم بذوات الاربع دون الطيور.

[*]

١٣١

(يب) لو تلفت قبل التقويم، وقبل حكم الحاكم عليه بتغريم الثمن عليه، هل يجب تقويمها على الواطئ، او يكون تلفها من المالك؟ اشكال: ينشأ من أنها تنتقل اليه بمجرد الوطء، أو بدفع القيمة، او لا ينتقل مطلقا، فيغرم على الاول، دون الاخيرين. وكذا الحكم في النماء الحاصل في الوقت المفروض. (يج) لو كانت البهيمة حاملا قبل الوطء فالاحوط سريان التحريم إلى الحمل.

(ى) لو بيعت في غير البلد بازيد مما اغترمه؟ فان اوجبنا الصدقة بالثمن تصدق بالجميع، وان قلنا بعوده على الغارم رد عليه الثمن. وما ذا يصنع بالزيادة؟ فيه ثلاث احتمالات.

(الاول) رد الفاضل على المالك، لانها لم تخرج عن ملكه بالوطء، وانما غرم له القيمة للحيلولة.

(الثاني) الصدقة به، لا نتقاله عن ملك المالك باخذ العوض، والا اجتمع له العوض والمعوض، وهو محال، لان ملكه العوض يستدعي خروج المعوض عن ملكه، لكونه في مقابله، ولهذا لا يستأذن في بيعها، ولا يباع بالوكالة عنه، فدل ذلك على خروجها عن ملكه، والغارم لا يملك الدابة، لعدم وجود سبب الانتقال اليه، ورد ما غرم عليه لا يقتضي ملك الزيادة، فيتعين للصدقة.

(الثالث) ردها على الغارم، وهو مبني على ملك الغارم بدفع القيمة، واذا لم يجب عليه الصدقة بثمنها فكذا الزيادة. تذنيب تقدير التعزير هنا منوط بنظر الحاكم، وفي رواية خمسة وعشرون، وفي اخرى القتل.

[*]

١٣٢

١٣٣

١٣٤

كتاب القصاص

وهو: اما في النفس واما في الطرف. والقود: موجبه ازهاق البالغ العاقل النفس المعصومة، المكافئة عمدا. ويتحقق العمد بالقصد إلى القتل بما يقتل ولو نادرا، او القتل بما يقتل غالبا وان لم يقصد القتل.]

مقدمات

الاولى: القصاص عبارة عن مقابلة الجناية بمثلها، وقد يكون في النفس، وقد يكون في الطرق. والقصاص في النفس موجبه ازهاق البالغ العاقل، النفس المعصومة المكافئة عمدا عدوانا. فالازهاق الاتلاف، واحترز ب‍ (البالغ العاقل) عن الصبي والمجنون، فان جنايتهما توجب الدية على العاقلة، و (النفس) احتراز عن الطرف، و (المعصومة) احتراز عن المهدور كالمرتد والحربي، واخترزنا ب‍ (المكافئة) عن غيرها كالعبد بالنسة إلى الحر، وكذا الذمي بالنسبة إلى المسلم، وب‍ (العدوان) عما كان بحق

١٣٥

كالحداد والقود والقصاص بمعنى، لكن القصاص يستعمل في النفس والطرف، ولا يستعمل القود الا في النفس. والاصل فيها الكتاب، والسنة، والاجماع.

اما الكتاب، فقوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة)(١) ومعناه: ان القاتل اذا علم انه يقتل إذا قتل، كف عن القتل، فلم يقتل فلا يقتل، فصار حياة للجميع. وفاقت هذه الكلمة الشريفة فصاحة العرب، لان العرب افتخروا بالفصاحة، وابلغ ما كان في الايجاز مع حصول المعنى وعذوبة اللفظ، وافصح ما قالت العرب في هذا المعنى: القتل أنفى للقتل)(٢) وحروف هذه الكلمة اربعة عشر حرفا، وكلمة القران الكريمة، اعني قوله تعالى: (القصاص حياة) عشرة احرف، فكانت اخصر، وعذوبة اللفظ بينهما ما بين السماء والارض. وايضا: فلفظ القتل مكرر في كلمة العرب، والتكرار ضد الفصاحة، فامتازت الكلمة القرانية عن الكلمة العربية بثلاثة أوجه من الفصاحة.

(أ) الاختصار. (ب) عدم التكرار في الفاظها. (ج) عذوبة اللفظ.

وقوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها ان النفس بالنفس إلى قوله تعالى والجروح قصاص)(٣) . قيل: هذا اخبار عن شرع تقدم. واجيب: بان ذلك وان كان شرعا لمن تقدم، فقد صار شرعا لنا بدليلين.

____________________

(١)البقرة / ١٧٩.

(٢)نقله في مجمع البيان ج ١ ص ٢٦٦ في تفسيره لآية ١٧٩ من سورة البقرة.

(٣)المائدة / ٤٥.

١٣٦

(١)الاجماع.(٢) انه قرئ (النفس بالنفس) نصبا، (والعين بالعين) رفعا، فالنصب اخبار عن شرع من قبلنا، والرفع استئناف حكم لنا. وقرئ ابوعمرو (والجروح قصاص) بالرفع(١) والمعنى ما قلناه.

وروى انس بن مالك قال: كسرت الربيع بنت مسعود، وهي عمة انس، ثنية جارية من الانصار، فطلب القوم القصاص، فاتوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فأمر بالقصاص، فقال انس بن النضر عم انس بن مالك: لا والله لا تكسر ثنيتها يا رسول الله؟ ! فقال رسلو اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا انس في كتاب الله القصاص، فرضى القوم وقبلوا الارش، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ان من عباد الله من لو اقسم على الله لابرقسمه(٢) . فموضع الدلالة: أنهعليه‌السلام قال: كتاب الله القصاص، وليس في كتاب الله (السن بالسن) الا هذا، فثبت انه شرع لنا.

واما السنة. فقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لو اجتمعت ربيعة ومضرى على قتل رجل مسلم، لقدتهم به(٣) . وقال الصادقعليه‌السلام : من قتل مؤمنا متعمدا، قيد به الا ان يرضى اولياء المقتول ان يقبلوا الدية(٤) .

____________________

(١)مجمع البيان: ج ٢ في تفسيره لاية ٤٥ من سورة المائدة قال: قرأ الكسائي (العين) وما بعده كله بالرفع إلى قوله: وابوعمرو كلها بالنصب الا قوله: (والجروج قصاص) فانهم قرؤا بالرفع.

(٢)عوالي اللئالي: ج ٣ ص ٥٧٦ الحديث ١ ولا حظ ما علق عليه، وايضا لا حظ تلخيص الحبير ج ٤ كتاب الجراح(٢) باب ما يجب به القصاص الحديث ١٦٨٠.

(٣)عوالى اللئالي: ج ٣ ص ٥٧٦ الحديث ٢.

(٤)الكافي: ج ٧ باب الدية في قتل العمد والخطأ ص ٢٨٢ قطعه من حديث).

[*]

١٣٧

واما الاجماع: فلا تختلف الامة فيه.

(الثانية) القتل من اعظم الكبائر، وذلك معلوم من الكتاب والسنة والاجماع.

اما الكتاب فقوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق)(١) يعني القصاص او شبهه.

وقال تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاء‌ه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما)(٢) . فغلظ فيه العقوبة بامور.

(أ) التوعد عليه بالنار.

(ب) الخلود فيه.

(ج) الغضب من الله.

(د) اللعنة.

(ه‍) اعداد العذاب، وهو دليل على غاية الاهتمام بتعذيبه، ووصف العذاب المعد له بالعظيم، وذلك يدل على تفخيم امره وتعظيم شأنه، وكل ذلك مبالغة في عصمة الدم، والاحتراز منه.

واما السنة فكثير. منها قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : اول ما ينظر الله بين الناس يوم القيامة الدماء(٣) .

____________________

(١)الانعام / ١٥١.

(٢)النساء / ٩٣.

(٣)سنن ابن ماجة ج ٢ كتاب الديات(١) باب التغليظ في قتل مسلم ظلما، الحديث ٢٦١٥ ولفظة اول ما يقضي بين الناس الخ. وسنن الترمذي ج ٤ باب الحكم في الدماء ص ١٧ الحديث ١٣٩٦ و ١٣٩٧ ولفظهما (ان اول ما يحكم) و (ان اول ما يقضي) ورواه في عوالي اللئالي ج ٣ ص ٥٧٧ الحديث ٤ كما في المتن.

[*]

١٣٨

ومرصلى‌الله‌عليه‌وآله بقتيل، فقال: من لهذا؟ فلم يذكر له، فغضب، ثم قال: والذي نفسي بيده لو أشرك فيه أهل السماء والارض لاكبهم الله في النار(١) .

وروى محمد بن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن أبي حمزة، عن احدهماعليهما‌السلام قال: أتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقيل له: يا رسول الله قتيل في جهينة، فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يمشي حتى انتهى إلى مسجدهم، قال: وتسامع الناس فأتوه، فقال: من قتل ذا؟ قالوا: يا رسول الله ما ندري، فقال: قتيل من المسلمين بين ظهراني المسلمين لا يدرى من قتله، والذي بعثني بالحق لو ان اهل السماء والارض شركوا في دم امرء مسلم، ورضوا به لاكبهم الله على مناخرهم في النار، أو قال: على وجوههم(٢) . وروى الصدوق في الصحيح عن الصادقعليه‌السلام قال: من اعان على مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة وبين عينيه مكتوب: آيس من رحمة الله(٣) .

وعن الباقرعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : اول ما يحكم الله فيه يوم القيامة الدماء، فيوقف ابنا ادم فيفصل بينهما، ثم الذين يلونهما من اصحاب الدماء، حتى لا يبقى منهم احد، ثم الناس بعد ذلك، حتى يأتي المقتول بقاتله فيتشخب دمه في وجهه، فيقول: هذا قتلني، فيقول: انت قتلته، فلا يستطيع أن يكتم الله حديثا(٤) .

____________________

(١)عوالي اللئالي: ج ٣ ص ٥٧٧ الحديث ٥ ولاحظ ما علق عليه.

(٢)الكافي: ج ٧ باب القتل ص ٢٧٢ الحديث ٨.

(٣)من لايحضره الفقيه: ج ٤ ص ٦٨ الحديث ٧.

(٤)الكافي: ج ٧ باب القتل ص ٢٧١ الحديث ٢.

[*]

١٣٩

وروى حماد بن عثمان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: يجئ يوم القيامة رجل إلى رجل حتى يلطخه بالدم والناس في الحساب فيقول: يا عبدالله مالي ولك !؟، فيقول: أعنت علي يوم كذا وكذا بكلمة فقتلت(١) . وعن الصادقعليه‌السلام في رجل يقتل رجلا مؤمنا، قال: يقال له: مت أي ميتة شئت، أن شئت يهوديا، وان شئت نصرانيا، وان شئت مجوسيا(٢) .

(الثالثة) قاتل العمد تقبل توبته فيما بينه وبين الله تعالى.

وقال ابن عباس: لا تقبل توبته، لان قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا)(٣) نزلت بعد قوله: (الا من تاب)(٤) بستة اشهر، فلم يدخلها النسخ، فتكون ناسخة(٥) . والمشهور قبولها، لقوله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبته عن عباده)(٦) وقال تعالى: (إن الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)(٧) . وفي الحديث من طريق العامة: ان رجلا قتل مائة رجلا ظلما، ثم سأل: هل من توبة؟ فدل على عالم، فسأله؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ولكن اخرج

____________________

(١)من لا يحضره الفقيه: ج ٤ ص ٦٧ الحديث ٤.

(٢)الكافي: ج ٧ باب القتل ص ٢٧٣ الحديث ٩.

(٣)النساء / ٣.

(٤)الفرقان / ٧٠.

(٥)الدر المنثور: ج ص ٦٢٥ س ١ قال في تفسيره لاية ٩٣ من سورة النساء: عن شهر بن حوشب قال: سمعت ابن عباس يقول: نزلت هذه الاية ومن يقتل بعد قوله: الا من تاب بسنة. وفي تفسير القرطبي ج ٥ ص ٣٣٢ قال: (السابعة) واختلف العلماء في قاتل العمد هل له من توبة؟ ثم نقل الحديث عن ابن عباس كما نقلناه، فقال: وروي عن زيد بن ثابت نحوه، وان اية النساء نزلت بعد اية الفرقان بستة اشهر، وفي رواية بثمانية اشهر.

(٦)الشورى / ٢٥.

(٧)النساء / ٤٨.

[*]

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430