المهذب البارع في شرح المختصر النافع الجزء ٥

المهذب البارع في شرح المختصر النافع13%

المهذب البارع في شرح المختصر النافع مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 430

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 430 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51523 / تحميل: 7495
الحجم الحجم الحجم
المهذب البارع في شرح المختصر النافع

المهذب البارع في شرح المختصر النافع الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

يقول الأُستاذ الطنطاوي: ويعتقد بعض العلماء اليوم أنّ تبادل الخواطر هو مستوى القوّة التي تُمكّن الشخص مِن نقل آرائه إلى شخصٍ آخر بدون أيّة واسطة مادّية أو ظاهريّة، فهل هذا الرأي مُمكن أو مُحتمل الوقوع؟ وإجابةً على ذلك يقول العالِم الإنجليزي (برسي): إنّ نقل الأفكار قد يحدث في أوقات شاذّة وحالات خاصّة، وذلك مالا يُعارض فيه أحد من الباحثينَ، ولكنّه لا ينطبق على الحالات العامّة، وذلك التبادل قد يُرى بوضوح بين الحشرات والحيوانات قد اقتربت حشرةً من أُخرى. قال: وبذلك نعرف أنّ الحيوانات تُكلّم بعضها بنقل الخواطر، والنَّمل من هذا القبيل، وأنّ الإنسان مُستعدّ لذلك؛ لأنّه من جُملة مواهبه، ولكن هذه المـَوهبة تجيء تارةً بطريق الوحي الخارق للعادة وتارةً بالتَمرين (1) .

فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً

زَعَموا أنّ القرآن ذَكَر مراحل تكوين الجنين فيما يُخالف العِلم الثابت اليوم!

ففي قوله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (2) .

جاء في تفسير الجلالَين: ( عَلَقَةً ) دماً جامداً، ( مُضْغَةً ) لَحمَة قَدَر ما يُمضغ (3) .

وهكذا جاء في تفسير المراغي (4) وغيره مِن المتأخّرين.

ومعنى ذلك: أنّ النطفة تحوّلت دماً مُتخثّراً، وتحوّل الدم إلى مُضغةٍ أي لَحمَة شِبه ممضوغة أو بقدرها، ثمّ تحوّلت اللَحمة إلى العظام.

الأمر الذي يتنافى مع العِلم القائل بأنّ اللحم ينبت على العظام بعد خَلقها، كما هو صريح القرآن أيضاً وهذا يبدو متناقضاً ( فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ) !!

____________________

(1) تفسير الجواهر، ج13، ص158 - 159.

(2) المؤمنون 23: 12 - 14.

(3) تفسير الجلالَين، ج2، ص44.

(4) تفسير المراغي، ج18، ص8.

٣٢١

غير أنّ هذه الشُبهة نشأت مِن خطأ هؤلاء المفسّرين وليست واردة على القرآن.

فقد كان تعبير القرآن أنّ النُطفة - وهي خليّة الذَكَر تمتزج ببويضة المرأة - تتحوّل إلى علقة: كُرة جرثوميّة لها خلايا آكلةً وقاضمةً تُعلّق بواسطتها وبواسطة حملات دقيقة بجدار الرحم، تتغذّى بدم المرأة، وهذه النُطفة الصغيرة العالقة تشبه دودة العَلَقة التي تَمتصّ الدم.

ثمّ إنّ هذه العَلَقَة تتحوّل إلى كُتلة غُضروفيّة تشبه ممضوغة العِلك في الفم، وتكون منشأ لتكوين العظام ثُمّ تكوين العضلات بعد بِضعة أيّام؛ لتكسو العظام أي تُغطّيها وتلتحم معها.

ومعنى ذلك: أنّ العِظام تسبق العضلات، ثُمّ تكسو العضلات العظام، وصدق الله العظيم حيث يقول: ( فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ) .

قال سيّد قطب: وهنا يَقف الإنسان مدهوشاً أمام ما كَشَف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تُعرف على وجه الدقّة إلاّ أخيراً بعد تقدّم عِلم الأجنّة التشريحي، ذلك أنّ خلايا العظام غير خلايا اللحم (العضلات)، وقد ثبت أنّ خلايا العِظام هي الّتي تتكوّن أَوّلاً في الجنين، ولا تُشاهد خليّة واحدة من خلايا اللحم إلاّ بعد ظهور خلايا العِظام وتمام الهيكل العظمي للجنين، وهي الحقيقة التي يُسجّلها النصّ القرآني (1) .

وقد أشبعنا الكلام في ذلك عند الكلام عن إعجاز القرآن العلمي في الجزء السادس من التمهيد.

وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ

يبدو من ظاهر تعبير آيات قرآنيّة أنّ النجوم جُعلت شُهُباً يُرمى بها الشياطين، قال تعالى: ( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ ) (2) .

وقال ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى

____________________

(1) في ظِلال القرآن، ج 18، ص 16 - 17.

(2) المـُلك 67: 5.

٣٢٢

الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) (1) .

وقال سبحانه: ( وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً ) (2) .

وقال عزّ مَن قائل: ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ) (3) .

غير خفيّ أنّ الشُهُب والنيازك إنّما تَحدث في الغلاف الغازي (الهواء) المحيط بالأرض؛ وقايةً لها، وقُدّر سُمكُه بأكثر من ثلاثمِئة كيلومتر، وذلك على أثر سقوط أحجار هي أشلاء متناثرة في الفضاء المتبقّية من كواكب اندثرت تعوم عبر الفضاء، فإذا ما اقتربت من الأرض انجذبت إليها بسرعة هائلة ما بين 50 و 60 كيلومتراً في الثانية، تخترق الهواء المحيط بالأرض، ولاحتكاكها الشديد بالهواء من جهةٍ ولتأثير الغازات الهوائيّة من جهةٍ أخرى تَحترق وتلتهب شعلة نار، لتتحوّل إلى ذرّات عالقة في الهواء مُكوّناً منها الغُبار الكوني، وهي في حال انقضاضها - وهي تشتعل ناراً - تُرى بصورة نجمة وهّاجة ذات ذَنب مستطيل تُدعى الشُهُب والنيازك.

فليست الشُهُب سِوى أحجار مُلتهبة في الهواء المحيط بالأرض، قريبة منها! فما وجه فَرضها نُجوماً في السماء يُرجم بها الشياطين الصاعدة إلى الملأ الأعلى؟!

لكن يجب أنْ نعلم قبل كلّ شيء أنّ التعابير القرآنيّة - وهي آخذة في الحديث عن كائنات ما وراء المادّة - ليس ينبغي الأخذ بظاهرها اللفظي؛ حيث الأفهام تقصر عن إدراك ما يفوق مستواها المادّي المحدود، والألفاظ أيضاً تضيق عن الإدلاء بتلك المفاهيم الرقيقة البعيدة عن متناول الحسّ.

وبتعبير اصطلاحي: إنّ الأفهام وكذا الألفاظ محدودة في إطار المادّة الكثيفة، فلا تَنال المجرّدات الرقيقة.

____________________

(1) الصافّات 37: 7 - 10.

(2) الجنّ 72: 8 و 9.

(3) الحجر 15: 16 - 18.

٣٢٣

وعليه، فكلّ تعبير جاء بهذا الشأن إنّما هو مجاز واستعارة وتمثيل بِلا ريب.

فلا تَحسب مِن الملأ الأعلى عالَماً يشبه عالَمَنا الأسفل، سوى أنّه واقع في مكان فوق أجواء الفضاء؛ لأنّه تصوّر مادّي عن أمرٍ هو يفوق المادةّ ومُتجرّد عنها، وعليه، فَقِس كلّ ما جاء في أمثال هذه التعابير.

فلا تتصوّر من الشياطين أجساماً على مثال الأناسي والطيور، ولا رَجمها بمِثل رمي النُشّاب إليها، ولا مُرودها بمثل نفور الوحش، ولا استماعها في محاولة الصعود إلى الملأ الأعلى بالسارق المتسلّق على الحيطان، ولا قذفها بمثل قذف القنابل والبندقيات، ولا الحرس الذين ملئوا السماء بالجنود المتصاكّة في القِلاع، ولا رصدها بالكمين لها على غِرار ميادين القتال... إذ كلّ ذلك تشبيه وتمثيل وتقريب في التعبير لأمرٍ غير محسوس إلى الحسّ لغرض التفهيم، فهو تقريبٌ ذهني، أمّا الحقيقة فالبون شاسع والشُقّة واسعة والمسافة بينهما بعيدة غاية البُعد.

قال العلاّمة الطباطبائي: إنّ هذه التعابير في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة؛ ليُتصوّر بها الأمور الخارجة عن محدودة الحسّ في صور المحسوسات للتقريب إلى الأذهان، وهو القائل عزّ وجلّ: ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاّ الْعَالِمُونَ ) (1) (أي لا يتعقّلها ولا يعرف مغزاها إلاّ مَن عَرف أنها أمثال ظاهريّة ضُربت للتقريب محضاً).

قال: وأمثال هذه التعابير كثير في القرآن كالحديث عن العرش والكرسي واللوح والكتاب وغيرها.

قال: وعلى هذا، فيكون المـُراد من السماء التي مَلأَتْها الملائكة: عالَماً ملكوتيّاً هو أعلا مرتبة من العالم المشهود، على مِثال اعتلاء السماء الدنيا من الأرض، والمـُراد من اقتراب الشياطين إليها واستراق السمع والقذف بالشُهب: اقترابهم من عالم الملائكة لغرض؛ الاطّلاع على أسرار الملكوت، وثَمّ طردهم بما لا يَطيقون تَحمّله مِن قذائف النور،

____________________

(1) العنكبوت 29: 43.

٣٢٤

أو محاولتهم لتلبيس الحقّ الظاهر، وثَمّ دحرهم ليعودوا خائبينَ (1) ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) (2) .

والآيات من سورة الجنّ لعلّها إشارة إلى هذا المعنى، حيث هي ناظرة إلى بعثة نبيّ الإسلام، وقد أَيسَ الشيطان من أنْ يُعبد وعلا نفيره.

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولقد سمعتُ رنّةَ الشيطان حين نَزل الوحي عليه (صلّى الله عليه وآله) فقلتُ: يا رسولَ الله، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيسَ من عبادته) (3) .

يقول تعالى في سورة الجنّ: ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناًَ عَجَباً - إلى قوله: - وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً ) (4) ، فهي حكاية عن حالٍ حاضرة وَجَدَتها الجنّ حينما بُعث نبيّ الإسلام.

وبهذا يشير قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (5) ، وقوله: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ) (6) .

نعم، كانت تلك بُغية إبليس أنْ يتلاعب بوحي السماء ولكن في خيبة آيسة: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذَا تَمَنَّى (ظهور شريعته) أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (7) ، أي حاول إبليس الحؤول دون بلوغ أُمنيّة الأنبياء، فكان يَندحر ويَغلب الحقّ الباطل وتَفشل دسائسه في نهاية المطاف.

أمّا عند ظهور الإسلام فقد خاب هو وجنوده منذ بدء الأمر وخَسِر هنالك المـُبطلون.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (فلمـّا وُلد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حُجِب (إبليس) عن السبع السماوات ورُميت الشياطين بالنجوم...) (8) .

____________________

(1) تفسير الميزان، ج 17، ص 130 نقلاً مع تصرّفٍ يسير.

(2) الأنبياء 21: 18.

(3) نهج البلاغة، الخطبة القاصعة، ص 301.

(4) الجنّ 72: 1 - 9.

(5) الحجر 15: 9.

(6) الفتح 48: 28.

(7) الحجّ 22: 52.

(8) الأمالي للصدوق، ص 253، المجلس 48، وبحار الأنوار، ج 15، ص 257.

٣٢٥

وفي حديث الرضا عن أبيه الكاظم عن أبيه الصادق (عليهم السلام) في جواب مُساءَلة اليهود: (أنّ الجنّ كانوا يَسترقون السمعَ قَبل مَبعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فمُنِعت مِن أوان رسالته بالرجوم وانقضاض النجوم وبُطلان (عمل) الكَهَنة والسحرة) (1) .

وهكذا حاول الشيخ الطنطاوي تأويل ظواهر التعابير الواردة في هذه الآيات إلى إرادة التمثيل، قال - ما مُلخّصه -: إنّ العلوم التي عَرفها الناس تُراد لأَمرَين: إمّا لمعرفة الحقائق لإكمال العقول، أو لنظام المعايش والصناعات لتربية الجسم، وإلى الأَوّل أشار بقوله تعالى: ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً ) (2) ، وإلى الثاني قوله: ( وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ) (3) ، وكلّ مَن خالف هاتَين الطريقتَين فهو على أحد حالَين: إمّا أنْ يُريد ابتزاز أموال الناس بالاستعلاء بلا فائدة، وإمّا أنْ يُريد الصيت والشُهرة وكسب الجاه، وكلاهما لا نفع في عِلمه ولا فضل له.

فمَن طلب العِلم أو أكثر في الذِكر؛ ليكون عالةً على الأُمّة فهو داخلٌ في نوع الشيطان الرجيم، مرجوم مُبعدٌ عن إدراك الحقائق ومُعذّبٌ بالذّل والهوان، وهذا مِثال قوله تعالى:) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى (فلا يعرفون حقائق الأشياء) وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً ) بما رُكّب فيهم من الشهوات وما اُبتلوا من العاهات ( وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ) أي في أَمل متواصل مُلازم لهم مدى الحياة، فلو حاول أنْ يَخطِف خَطفة من الحقائق حالت دون بلوغه لها الأميال الباطلة ( فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) (4) .

نعم ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ) (5) ، ولا شكّ أنّها كناية عن حرمانهم العناية الربّانيّة المـُفاضة مِن مَلكوت أعلى، الأمر الذي أُنعِمَ به الرّبانيّون في هذه الحياة: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) (6) ، فملائكة الرَحمة تَهبط إليهم وهم في مواضعهم آمنون مستقرّون سائرون في طريقهم صُعُداً إلى قمّة الكمال.

____________________

(1) بحار الأنوار، ج 17، ص 226 عن قرب الإسناد للحميري، ص 133.

(2) الحجر 15: 16.

(3) الأعراف 7: 10، الحجر 15: 20.

(4) الصافّات 37: 6 - 10. راجع: تفسير الجواهر، ج 8، ص 13، وج 18، ص 10.

(5) الأعراف 7: 40.

(6) فصّلت 41: 30.

٣٢٦

وكذلك قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ) (1) ، أي آخذ في الصعود إلى سماء العزّ والشرف والسعادة. ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (2) ، فما هذا الصعود وهذا الرفع؛ إلاّ ترفيعاً في مدارج الكمال.

وهكذا جاء التعبير بفتح أبواب السماء كنايةً عن هطول المطر ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ) (3) ، وأمثال هذا التعبير في القرآن كثير (4) ، والجميع مَجاز وليس على الحقيقة سواء في المعنويّات أم الماديّات، فلو كان عيباً لعَابَه العرب أصحاب اللغة العَرباء في الجزيرة، لا أرباب اللغة العجماء من وراء البحار.

وأمّا النجوم التي يُرجم بها الشياطين (أبالسة الجنّ والإنس) فهم العلماء الربّانيّون المتلألئون في أُفق السماء، يقومون في وجه أهل الزيغ والباطل فيَرجموهم بقذائف الحُجج الدامغة ودلائل البيّنات الباهرة، ويَرمونهم من كلّ جانب دحوراً.

فسماء المعرفة مُلئت حرساً شديداً وشُهُباً. قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يَحمل هذا الدِّين في كلِّ قَرن عدولٌ يَنفون عنه تأويل المـُبطلينَ وتحريف الغالينَ وانتحال الجاهلين...) (5) .

وقد أطلق النُجوم على أئمة الهُدى ومصابيح الدُجى من آل بيت الرسول (عليهم السلام) فقد روى عليّ بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) (6) قال: النُجوم آل مُحمّد (صلّى الله عليه وآله) (7) .

وفي حديث سلمان الفارسي رضوان الله عليه قال: خَطَبنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: (مَعاشرَ الناسِ، إنّي راحل عنكم عن قريب ومُنطلق إلى المـَغيب، أُوصيكم في عترتي خيراً وإيّاكم والبِدع، فإنّ كلّ بِدعةٍ ضلالة وكلّ ضلالة وأهلها في النار، معاشرَ الناسِ، مَن افتقدَ الشمس فليتمسّك بالقمر، ومَن افتقدَ القمر فليتمسّك بالفرقَدَين، ومَن افتقدَ الفرقَدَين فليَتمسّك بالنجوم الزاهرة بعدي، أقول قولي واستغفر اللّه لي ولكم).

____________________

(1) إبراهيم 14: 24.

(2) فاطر 35: 10.

(3) القمر 54: 11.

(4) الأنعام 6: 44، الأعراف 7: 96، الحجر 15: 14، النبأ 78: 19.

(5) بحار الأنوار، ج2، ص93، رقم 22 من كتاب العلم.

(6) الأنعام 6: 97.

(7) تفسير القميّ، ج1، ص211.

٣٢٧

قال سلمان: فتَبِعتُه وقد دَخل بيت عائشة وسألتُه عن تفسير كلامه فقال - ما ملخّصه -: (أنا الشمس وعليٌّ القمر، والفرقَدان الحسن والحسين، وأمّا النجوم الزاهرة فالأئمة مِن وُلد الحسين واحداً بعد واحد...) (1) (كلّما غابَ نجمٌ طلعَ نجمٌ إلى يوم القيامة) كما في حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رحمة اللّه عليهما قاله في شأن أهل البيت (عليهم السلام) (2) .

وفي حديث أبي ذر رضوان اللّه عليه التعبير عنهم بـ (النُجُوم الهادية) (3) وأمثال ذلك كثير.

سبع سماوات عُلا

قال تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ - إلى قوله: - وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) (4) .

ظاهر التعبير أنّ السماوات السبع هي أجواء وفضاءات متراكبة بعضُها فوق بعضٍ؛ لتكون الجميع محيطةً بالأرض من كلّ الجوانب ( وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ) (5) ، حيث الفوقيّة بالنسبة إلى جسم كريّ - هي الأرض - إنّما تعني الإحاطة بها من كلّ جانب.

وأيضاً فإنّ السماء الدنيا - وهو الفضاء الفسيح المـُحيط بالأرض - هي التي تَزينَّت بزينة الكواكب ( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا ) (6) ، والظاهر يقتضي التركيز فيها، وإنْ كان مِن المـُحتمل تَجلّلها بما تُشِعّ عليها الكواكبُ من أنوار!

ويبدو أنّ هذا الفضاء الواسع الأرجاء - بما فيه من أَنجم زاهرة وكواكب مضيئة لامعة - هي السماء الأُولى الدنيا، ومن ورائها فضاءات ستٌّ في أبعادٍ مُترامية، هي مليئة بالحياة لا يعلم بها سِوى صانعها الحكيم، ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً ) (7) .

والعقل لا يفسح المجال لإنكار ما لم يَبلغه العلم، وهو في بدء مراحله الآخذة إلى الكمال.

____________________

(1) بحار الأنوار، ج36، ص 289، عن كتاب كفاية الأثر للخزّار الرازي، باب ما جاء عن سلمان في النصّ على الأئمة الاثني عشر، ص293.

(2) بحار الأنوار، ج40، ص203 عن جامع الأخبار للصدوق، ص15.

(3) راجع: بحار الأنوار، ج28، ص275.

(4) الملك 67: 3 - 5.

(5) النبأ 78: 12.

(6) ق 50: 6.

(7) الإسراء 17: 85.

٣٢٨

نعم، يزداد العلم يقيناً - كلّما رَصَد ظاهرة كونيّة - أنّ ما بَلَغه ضئيل جدّاً بالنسبة إلى ما لم يبلغه، ويزداد ضآلةً كلّما تقدّم إلى الأمام؛ حيث عَظَمة فُسحة الكون تَزداد اُبّهةً وكبرياءً كلّما كُشف عن سرٍّ من أسرار الوجود وربّما إلى غير نهاية، لاسيّما والكون في اتّساع مطّرد: ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) (1) .

هذا وقد حاول بعضهم - في تَكلّفٍ ظاهر - التطبيق مع ما بَلغه العِلم قديماً وفي الجديد مِن غير ضرورة تدعو إلى ذلك، ولعلّ الأناة حتّى يأتي يوم يساعد التوفيق على حلّ هذا المجهول من غير تكلّفٍ، كانت أفضل.

يقول سيّد قطب: لا ضرورة لمحاولة تطبيق هذه النصوص على ما يَصل إليه عِلمنا؛ لأنّ علمنا لا يُحيط بالكون حتّى نقول على وجه التحقيق: هذا ما يريده القرآن، ولن يصحّ أنْ نقول هكذا إلاّ يوم يَعلم الإنسان تَركيبَ الكون كلّه عِلماً يقيناً، وهيهات... (2)

وإليك بعض محاولات القوم: حاول بعض القُدامى تطبيق التعبير الوارد في القرآن على فرضيّة بطلميوس لهيئة الأفلاك التي هي مَدارات الكواكب فيما حَسبه حول الأرض (3) ، ولكن من غير جَدوى؛ لأنّ الأفلاك في مزعومتِه تسعة؛ ومِن ثَمَّ أضافوا على

____________________

(1) الذاريات 51: 47.

(2) في ظِلال القرآن، ج28، ص152.

(3) زَعموا أنّ الأرض في مركز العالَم، وأنّ القمر وعطارد والزُهرة والشمس والمرّيخ والمشتري وزحل سيّارات حولها، في مَدارات هي أفلاك بعضها فوق بعض بنفس الترتيب، وكلّ وأحدٍ منها في فَلكٍ دائر حول الأرض من الغرب إلى الشرق في حركةٍ معاكسةٍ لحركتها اليوميّة من الشرق إلى الغرب على أثر تحريك الفَلك التاسع، المـُسمّى عندهم بفَلك الأفلاك أو بالفَلك الأطلس؛ لعدم وجود نجم فيه وأمّا النجوم الثوابت فهي مركوزة في الفَلك الثامن، فهذه تسعة أفلاك مُحيطة بالأرض بعضها فوق بعض.

وهكذا جاء في إنجيل برنابا من كلام المسيح (عليه السلام): أنّ السماوات تسع، فيها السيّارات، وتَبعُد إحداها عن الأُخرى مسيرة خمسمِئة عام.

ولمـّا تُرجمت فلسفة اليونان إلى العربيّة، ودَرَسها علماء الإسلام وَثقوا بأنّ الأفلاك تسعة، وقال بعضهم: هي سبع سماوات، والكرسي فَلك الثوابت، والعرش هو الفَلك المـُحيط.

والغريب أنّ مِثل مُحيي الدين ابن عربي اغترّ بهذه الغريبة وحسبها حقيقة وبنى عليها معارفَه الإشراقيّة فيما زعم، (راجع: الفتوحات المكّيّة، الباب 371 والفصل الثالث منه، ج3، ص416 و433، وكذا الفصّ الإدريسي من فصوص الحكم، ج1، ص75)، وهكذا شيخنا العلاّمة بهاء الدين العاملي في كتابه تشريح الأفلاك، وهو عجيب!

ولقد أَعجبني كلام أبي الحسن علي بن عيسى الرّمّاني المـُعتزلي في تفسير الآية، حيث أنكر إرادة الأفلاك البطلميوسيّة من السماوات السبع في القرآن؛ محتجّاً بأنّه تفسير يُخالف ظاهر النصّ، راجع: تفسير التبيان للشيخ الطوسي، ج1، ص 127.

٣٢٩

السماوات السبع - الواردة في القرآن - العرش والكرسي؛ ليَكتمل التسع ويحصل التطابق بين القرآن وفرضيّةٍ أساسُها الحَدسُ والتخمينُ المجرّد.

وأمّا المحدَثون فحاولوا التطبيق على النظرة الكوبرنيكيّة الحديثة، حيث الشمس هي نواة منظومتها والكُرات دائرة حولها ومنها الأرض مع قمرها (1) .

زَعَموا أنّ المـُراد بالسماوات السبع، هي الأجرام السماويّة، الكُرات الدائرة حول الشمس، تُرى فوق الأرض في أُفقها. فالسماوات - في تعبير القرآن على هذا الفرض - هي الأجرام العالقة في جوّ السماء (وكان جديراً أنْ يُقال - بَدلَ السماوات - السماويّات).

يقول الشيخ الطنطاوي: هذا هو الذي عرفه الإنسان اليوم من السماوات. فَقَايسَ بين ما ذَكَره علماء الإسكندريّة بالأمس، ويبن ما عرفه الإنسان الآن، إنّ عظمة اللّه تَجلّت في هذا الزمان..

إذن فما جاء في إنجيل برنابا مَبنيّاً على عِلم الإسكندرون أصبح لا قيمة له بالنسبة للكشف الحديث الذي يُوافق القرآن (2) .

ويزداد تَبّجُحاً قائلاً: إذن دين الإسلام صار الكشف الحديث مُوافقاً له، وهذه معجزة جديدة جاءت في زماننا.

ثُمَّ يورد أسئلةً وُجّهت إليه، منها: التعبير بالسبع، فيجيب: أنّ العدد غير حاصر، فسواء قُلت سبعاً أو ألفاً فذلك كلّه صحيح؛ إذ كلّ ذلك من فعل اللّه دالّ على جماله وكماله.

____________________

(1) جاءت النظرية على الأَساس التالي:

1 - الشمس: نَواة المنظومة.

2 - نجمة فلكان: بُعدها عن الشمس 13 مليون ميلاً، ودورها المحوري 18 ساعة، ودورها حول الشمس 20 يوماً.

3 - كوكب عطارد: بُعدها 35 مليون ميلاً دَورها المحوري 24 ساعة و5 دقائق، حول الشمس 88 يوماً.

4 - الزُهرة: بُعدها 66 مليون ميلاً، دَورها المحوري 23 ساعة و22 دقيقة، حول الشمس 225 يوماً.

5 - الأرض: بُعدها 93 مليون ميلاً، دَورها المحوري 24 ساعة، حول الشمس 365 يوماً.

6 - المرّيخ: بُعدها 140 مليون ميلاً، دَورها المحوري 24 ساعة و38 دقيقة، حول الشمس 687 يوماً.

7 - المشتري: بُعدها 476 مليون ميلاً، دَورها المحوري 10 ساعات، حول الشمس 12 سنة.

8 - زُحل: بُعدها 876 مليون ميلاً، دَورها المحوري 10 ساعات و 15 دقيقة، حول الشمس 29 سنة ونصفاً.

9 - أُورانوس: بُعدها 1753 مليون ميلاً، دَورها المحوري 10 ساعات، حول الشمس 84 سنة وأُسبوعا.

10 - نبتون: بُعدها 2746 مليون ميلاً، دَورها المحوري مجهول، حول الشمس 164 سنة و285 يوماً.

راجع: الهيئة والإسلام للسيّد هبة الدين الشهرستاني، ص61 - 62.

(2) تفسير الجواهر، ج1، ص49 الطبعة الثانية.

٣٣٠

وأخيراً يقول: إنّ ما قُلناه ليس القصد منه أنْ يَخضع القرآن للمباحث (العلميّة) فإنّه ربّما يَبطل المذهب الحديث كما بَطل المذهب القديم، فالقرآن فوق الجميع، وإنّما التطبيق؛ كان ليأنس المؤمنون بالعلم ولا ينفروا منه لظاهر مخالفته لألفاظ القرآن في نظرهم (1) .

وللسيّد هبة الدين الشهرستاني - علاّمة بغداد في عصره - محاولة أُخرى للتطبيق، فَفَرض من كلّ كُرة دائرة حول الشمس ومنها الأرض أرضاً والجوّ المحيط بها سماءً، فهناك أَرَضون سبع وسماوات سبع، الأُولى: في أرضنا وسماؤها الغلاف الهوائي المحيط بها، والأرض الثانية: هي الزُهرة وسماؤها الغلاف البخاري المحيط بها، والثالثة: عطارد وسماؤها المحيط بها، الرابعة: المرّيخ وسماؤها المحيط بها، الخامسة: المشتري وسماؤها المحيط بها، السادسة: زُحل وسماؤها المحيط بها، السابعة: أورانوس وسماؤها المحيط بها.

قال: ترتيبنا المـُختار تنطبق عليه مقالات الشريعة الإسلاميّة ويُوافق الهيئة الكوبرنيكيّة.

وأسند ذلك إلى حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) سنوافيك به عند الكلام عن الأَرَضين (2) .

وذكر الحجّة البلاغي أنّ السماوات السبع لا يمتنع انطباقها على كلّ واحدة من الهيئتَين القديمة والجديدة، فيُمكن أنْ يُقال على الهيئة القديمة: إنّ السماوات السبع هي أفلاك السيّارات السبع، وإنّ فَلك الثوابت هو الكرسي في قوله تعالى: ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) (3) ، وإنّ الفَلك الأطلس المـُدير - على ما زَعَموا - هو العرش في قوله تعالى: ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) (4) .

ويُمكن أنْ يُقال على الهيئة الجديدة: إنّ السماوات السبع هي أفلاكٌ خمسٌ من السيّارات مع فَلكَي (الأرض) و(فلكان) والعرش والكرسي هما فَلَكا (نبتون) و(أُورانوس)، وأمّا الشمس فهي مركز الأفلاك، والقمر تابع للأرض وفَلَكه جزء من فَلَكها (5) .

____________________

(1) المصدر: ص 50 - 51 بتصرّف وتلخيص.

(2) الهيئة والإسلام، ص177 - 179.

(3) البقرة 2: 255.

(4) المؤمنون 23: 86.

(5) الهدى إلى دين المصطفى للبلاغي، ج2، ص7.

٣٣١

قال: والحاصل أنّ كلاًّ مِن وضعَي الهيئة القديمة والجديدة يُمكن من حيث انطباق الحركات المحسوسة عليه، ولكنّه يُمكن أنْ يتعدّاه التحقيق إلى وضعٍ ثالث ورابع، فلا يَحسُن الجزم بشيءٍ ما لم يُشاهد بالتفصيل أو بصراحة الوحي، لكنّ الحِكمة تقتضي أنْ لا يتولّى الوحي بصراحته بالتفصيل (1) .

وبعد، فالطريقة السليمة هي التي سَلكها سيّدنا العلاّمة الطباطبائي، يقول:

إنّ المـُستفاد من ظاهر الآيات الكريمة - وليست نصّاً - أنّ السماء الدنيا هي عالم النجوم والكواكب فوقنا، وأنّ السماوات السبع هي أجواء متطابقة أقربُها منّا عالم النُجوم، ولم يَصف لنا القرآن شيئاً مِن الستّ الباقية سِوى أنّها طِباق، وليس المراد بها الأَجرام العلوية سواء من مَنظُومتنا الشمسيّة أو غيرها.

وما وَرد مِن كون السماوات مأوى الملائكة يَهبطون منها ويَعرجون إليها، ولها أبواب تُفتَّح لنزول البركات، كلّ ذلك يكشف عن أنّ لهذه الأُمور نوع تعلّق بها لا كتعلّقها بالجسمانيّات، فإنّ للملائكة عوالم ملكوتيّة مُترتّبة سماوات سبعاً ونُسب ما لها من الآثار إلى ظاهر هذه السماوات؛ بلحاظ ما لها من العلوّ والإحاطة والشمول، وهو تسامح في التعبير تقريباً إلى الأذهان الساذجة (2) .

ولبعض العلماء الباحثين في المسائل الروحيّة في إنجلترا - (هو: جيمس آرثر فندلاي من مواليد 1883م) - تصوير عن السماوات السبع يَشبه تصويرنا بعض الشيء: يرى من كُرة الأرض واقعة في وسط أبهاء وفضاءات تُحيط بها من كلّ الجوانب، في شكل كُراتٍ مُتخلِّلةٍ بعضُها بعضاً ومتراكبة إلى سبعة أطباق، كلّ طبقة ذات سطحَين أعلى وأسفل، مِلءُ ما بينهما الحياة النابضة، يُسمّى المجموع العالَم الأكبر الذي نعيش فيه، نحن في الوسط على وجه الأرض.

وهذه الأجواء المتراكبة تُحيط بنا طِباقاً بعضها فوق بعض إلى سبع طَبقات، وإنْ شئت فعبّر بسبع سماوات؛ لأنّها مبنيّة في جهةٍ أعلى فوق رؤوسنا، وإليك الصورة حسبما رَسَمها في كتابه (الكون المنشور).

____________________

(1) المصدر: ج2، ص6.

(2) تفسير الميزان، ج17، ص392 - 393.

٣٣٢

شَكل الأرض في الوسط تَحيط بها سبع أطباق هي سماوات عُلى:

في هذا الشَكل - كما رَسَمه (جيمس آرثر فندلاي) - نجد العالم الأَكبر في صورة أبهاء متراكبة بعضها فوق بعض مملوءة بالحياة، ويُرى الحياة في حركتها إلى أعلى وأسفل في شكل خُطوطٍ مُنحنية على السطوح، وتُمثّل الصُلبان الصغيرة الحياة على الأرض، أمّا النُقط فتُمثّل الحياة الأثيريّة ويُلاحظ أنّها ليست مقصورة على السطوح وحدَها؛ لأنّ الفضاءات بين السطوح مِلؤها الحياة سابحة فيها! (1)

____________________

(1) راجع: ملحق كتابه (على حافّة العالم الأثيري) تَرجمة أحمد فهمي أبو الخير (ط3)، ص199.

٣٣٣

مسائل ودلائل

هنا عدة أسئلة تستدعي الوقوف لديها:

1 - ( كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)

قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (1) .

وقال: ( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (2) .

هلاّ كان التعبير بالفَلَك مُتابعة لِما حَسبه بطلميوس؟

قلت: لا؛ لأنّ الفَلَك لفظة عربيّة قديمة يُراد بها الشيء المـُستدير، ومن الشيء مُستداره، قال ابن فارس: الفاء واللام والكاف أصل صحيح (3) يدلّ على استدارةٍ في شيء، من ذلك (فَلْكَةُ المِغزل) لاستدارتها؛ ولذلك قيل: فَلَكَ ثديُ المرأة، إذا استدار، ومن هذا القياس: فَلَكُ السماء (4) .

إذن، فكما أنّ السماء مستديرة حتّى في شكلها الظاهري، فكلّ ما يَسبح في فضائِها يَسير في مَسلك مُستدير؛ وبذلك صحّت استعارة هذا اللفظ.

والدليل على أنها استعارة هو استعمال اللفظة بشأن الليل والنهار أيضاً، أي أنّ لكلّ ظاهرة من الظواهر الكونيّة مَجراها الخاصّ وفي نظام رتيب لا تَجور ولا تَحور.

2 - ( فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ)

قال تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ) (5) .

أو هل كانت الطرائق هنا هي مَدارات الأفلاك البطليميوسيّة؟

قلت: كلاّ، إنّها الطَرائق بمعنى مَجاري الأُمور في التدبير والتقدير والتي هي محلّها السماوات العُلا.

____________________

(1) الأنبياء 21: 33.

(2) يس 36: 40.

(3) مقصوده من الأصل: كونها ذات أصالة عربيّة وليس مستعارة من لغةٍ أجنبيّة.

(4) معجم مقاييس اللغة، ج4، ص452 - 453.

(5) المؤمنون 23: 17.

٣٣٤

الطَرَائق: جمعُ الطَريقة بمعنى المـَذهب والمـَسلك الفكري والعقائدي وليس بمعنى سبيل الاستطراق على الأقدام، ولم تُستعمل في القرآن إلاّ بهذا المعنى:

يقول تعالى - حكايةً عن لسان الجنّ -: ( وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً ) (1) ، أي مَذاهب شتّى.

( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ) (2) ، أي بمَذهبكم القويم الأفضل.

( إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً ) (3) ، وذاك يوم الحَشر يَتخافت المـُجرمون: كم لَبِثوا؟ فيقول بعضهم: عشراً. ويقول أَعقلهم وأَفضلهم بصيرةً: ( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً ) .

( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ) (4) ، أي الطريقة المـُثلى والمـَذهب الحقّ.

فالمقصود بالطَرَائق - في الآية الكريمة - هي طَرائق التدبير والتقدير، المـُتّخذة في السماوات حيث مُستقرّ الملائِكِ المدبِّرات أمراً والمقسّمات (5) ، ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ) (6) ، ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) (7) ، أي تقدير أرزاقكم وكلّما قُدّر لكم مِن مَجاري الأُمور، ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ) (8) ، ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (9) .

فالتدبير في السماء ثُمّ التنزيل إلى الأرض ( وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ) (10) ، ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (11) ، ومِن ثَمَّ تعقّب الآية بقوله تعالى: قال العلاّمة الطباطبائي: أي لستُم بمُنقطعينَ عنّا ولا بمَعزلٍ عن مراقبتِنا وتدبيرنا لشؤونكم، فهذه الطَرائق السبع إنّما جُعلت؛ ليستطرقَها رُسُل ربّكم في التقدير والتدبير والتنزيل (12) .

____________________

(1) الجن 72: 11.

(2) طه 20: 63.

(3) طه 20: 104.

(4) الجنّ 72: 16.

(5) النازعات 79: 5، والذرايات 51: 4.

(6) السجدة 32: 5.

(7) الذاريات 51: 22.

(8) يونس 10: 3.

(9) الحجر 15: 21.

(10) مريم 10: 64.

(11) القدر 97: 4.

(12) راجع: الميزان، ج15، ص21.

٣٣٥

3 - ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) (1)

ماذا يعنى بذات الحُبُك؟

الحُبُك: جمع الحَبِيكة بمعنى الطَريقة المـَتّخذة، قال الراغب. فمنهم مَن تصوّر منها الطَرائق المحسوسة بالنجوم والمـَجرّات، ومنهم مَن اعتبر ذلك بما فيه مِن الطَرائق المعقولة المـُدرَكة بالبصيرة.

والحُبُك: المـُنعطفات على وجه الماء الصافي تحصل على أثرِ هُبوب الرياح الخفيفة، وهي تكسّرات على وجه الماء كتجعّدات الشعر، ويُقال للشعر المـُجعَّد: حُبُك والواحد حِباك وحَبيكة، قاله الشيخ أبو جعفر الطوسي في التبيان.

من ذلك قول زهير يصف روضة:

مُكلَّلٌ بأُصولِ النَجْمِ تَنْسِجُهُ

ريحٌ خَريقٌ لضاحي مائِهِ حُبُكُ

مراده بالنَجم النبات الناعم، وشَبّه تربية الرياح له بالنَسج، كأنّه إكليل (تاج مزيّن بالجواهر) نَسَجته الريح، ووصف الريح بالخَريق، وهو العاصف.

ثُمّ وَصَف ضاحي مائِهِ - وهو الصافي الزُلال - بأنّ على وجهه قَسَمات وتَعاريج على أثر مَهبّ الرياح عليه، وهو منظر بهيج.

فعلى احتمال إرادة التعرّجات المتأرجحة من الآية، فهي إشارة إلى تلكُم التمرُّجات النوريّة التي تُجلِّل كَبْدَ السماء زينةً لها وبهجةً للناظرين، فسبحان الصانع العظيم!

4 - ( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً) (2)

في هذه الآية تَوجّه الخطاب إلى عامّة الناس ولا سيّما الأُمَم السالفة الجاهلة حيث لا يعرفون من أطباق السماء شيئاً، فكيف يُعرض عليهم دليلاً على إتقان صنعه تعالى؟ (الآية في سورة نوح والخطاب عن لسانه موجّه إلى قومه).

____________________

(1) الذاريات 51: 7.

(2) نوح 71: 15.

٣٣٦

وهكذا قوله تعالى: ( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ) (1) .

وقوله: ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) (2) .

قلت: هذا بناءً على تفسير الطِباق بذات الطَبقات.

هكذا فسّره المشهور: طِباقاً، واحدة فوق أخرى كالقِباب بعضها فوق بعض (3) .

لكنّ الطِباق هو بمعنى الوِفاق والتَماثل في الصُنع والإتقان، بدليل تفسيره بقوله تعالى: ( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ) ، أي كلّها في الصُنع والاستحكام متشاكل.

وقد أُشرِب هنا معنى الالتحام والتلاصق التامّ بين أجزائها مُراداً به الانسجام في الخَلق، بدليل قوله تعالى: ( هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ) أي انشقاق وخَلَل وعَدم انسجام، وكذا قوله: ( وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ) أي منفرجات وخلاّت تُوجب فصل بعضها عن بعض بحيث تُضادّ النَظم القائم، الأمر الذي يستطيع كلّ إنسان - مهما كان مَبلَغه مِن العِلم - من الوقوف عليه إذا تأمّل في النَظم الساطي على السماوات والأرض.

5 - ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) (4)

( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ) (5) ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً ) (6) ، أو هل تعني البُرُوج هذه ما تصوّره الفلكيّون بشأن البروج الاثني عشر في أشكالٍ رَسَموها لرصد النجوم؟

قلت: المعنيّ بالبُرُوج هذه هي نفس النُجوم؛ تشبيهاً لها بالقصور الزاهية والحصون المنيعة الرفيعة، بدليل عطف السِراج - وهي الشمس الوهّاجة - والقمر المنير عليها.

____________________

(1) ق 50: 6.

(2) الملك 67: 3.

(3) راجع: مجمع البيان، ذيل الآية من سورة المـُلك والآية من سورة نوح، ج 10، ص 322 و 363، وروح المعاني للآلوسي، ج 29، ص 6 و75، وتفسير المراغي، ج 29، ص 6 و 85... وغيرها.

(4) البروج 85: 1.

(5) الحجر 15: 16.

(6) الفرقان 25: 61.

٣٣٧

ولا صلة لها بالأَشكال الفَلكيّة الاثني عشر.

البُرج - في اللغة - بمعنى الحِصن والقصر وكلّ بناءٍ رفيع على شكلٍ مُستدير، فالنُجوم باعتبار إنارتها تبدو مُستديرةً، وباعتبار تلألؤها تبدو كعُبابات تَعوم على وجه السماء زينةً لها، وباعتبارها مراصد لحراسة السماء ( وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ) (1) ، هي حُصون منيعة، فصحّ إطلاق البروج عليها من هذه الجوانب لا غيرها.

هذا، وقد خُلِط على لفيفٍ من المفسّرين فَحَسبوها منازل الشمس والقمر حسب ترسيم الفلكيّين (2) .

وسيّدنا العلاّمة الطباطبائي وإنْ كان في تفسيره لسورتَي الحِجر والفُرقان قد ذهب مذهب المشهور، لكنّه (قدس سره) عَدَل عنه عند تفسيره لسورة البُروج، قال: البُروج، جمع بُرج وهو الأمر الظاهر ويَغلب استعماله في القصر العالي والبِناء المـُرتفع على سُور البلد، وهو المـُراد في الآية، فالمـُراد بالبُروج مواضع الكواكب من السماء، قال: وبذلك يَظهر أنّ تفسير البُروج (في الآيات الثلاث) بالبُروج الاثني عشر المـُصطلح عليها في عِلم النجوم غير سديد (3) .

وقال الشيخ مُحمّد عَبده: وفُسّرت البُروج بالنُجوم وبالبُروج الفلكيّة وبالقُصور على التشبيه، ولا ريب في أنّ النُجوم أَبنية فخيمة عظيمة، فيصحّ إطلاق البُروج عليها تشبيهاً لها بما يُبنى من الحُصون والقُصور في الأرض (4) .

6 - ( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ)

قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ

____________________

(1) الحجر 15: 17.

(2) تفسير القمي، ج 1، ص 373، والميزان، ج 12، ص 143 و 154، وتفسير ابن كثير، ج 2، ص 548، وروح المعاني، ج 14، ص 20.

(3) تفسير الميزان، ج 20، ص 368.

(4) تفسير جزء عمّ لمـُحمّد عبده، ص 57.

٣٣٨

يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ ) (1) .

(يُزجي): يَسوق، (يُؤلّف بينه): يؤلّف بين متفرّقه، (يجعله رُكاماً): متكاثفاً، (فترى الوَدق): قَطرات المطر الآخِذة في الهُطول.

( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ) ؟

السؤال هنا: ماذا يعني بالجبال هذه؟ وماذا يكون المقصود مِن البَرد وهو الماء المتجمّد على أثر ضغط البرد؟ وكيف يكون هناك في السماء جبالٌ مِن بردٍ؟

وقد مرّ عليها أكثر المفسّرين القُدامى مرور الكرام، وبعضهم أَخذها على ظاهرها وقال: إنّ في السّماء جِبالاً من برد (من ثلج) يَنزل منها المطر، كما تنحدر المياه من جبال الأرض على أثر تراكم الثلوج عليها، عن الحسن والجبّائي (2) وعن مجاهد والكلبي وأكثر المفسّرين: أنّ المراد بالسّماء هي المظلّة وبالجبال حقيقتها، قالوا: إنّ الله خَلَق في السّماء جِبالاً من برد كما خَلق في الأرض جبالاً من صخر، قال الآلوسي: وليس في العقل ما ينفيه من قاطع، فيجوز إبقاء الآية على ظاهرها كما قيل (3) .

قال السيّد المرتضى: وجدتُ المفسّرين على اختلاف عباراتهم يذهبون إلى أنّه تعالى أراد: أنّ في السّماء جِبالاً من بردٍ، وفيهم مَن قال: ما قَدْرُه قَدْرُ جبال، يعني مِقدار جبال مِن كثرته.

قال: وأبو مسلم بن بحر الإصبهانيّ خاصّةً انفرد في هذا الموضع بتأويلٍ طريف، وهو أنْ قال: الجبال، ما جَبَل الله مِن بَرَد، وكلّ جسم شديد مُستحجِر فهو من الجبال، ألم ترَ إلى قوله تعالى في خَلق الأُمَم: ( وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ ) (4) ، والناس يقولون: فلا مجبول على كذا.

وأورد عليه السيّد بأنّه يَلزمه أنّ جعل الجبال اسماً للبرد نفسه؛ من حيث كان مجبولاً مستحجراً! وهذا غلط؛ لأنّ الجبال وإن كانت في الأصل مشتقّة من الجَبْل

____________________

(1) النور 24: 43.

(2) مجمع البيان، ج 7، ص 148.

(3) روح المعاني، ج 18، ص 172، وراجع: التفسير الكبير، ج 24، ص 14.

(4) الشعراء 26: 184.

٣٣٩

والجَمْع، فقد صارت اسماً لذي هيئةٍ مخصوصة؛ ولهذا لا يُسمّي أحد من أهل اللغة كلَّ جسم ضُمَّ بعضه إلى بعض - مع استحجار أو غير استحجار - بأنّه جبل، ولا يخصّون بهذا اللفظ إلاّ أجساماً مخصوصةً... كما أنّ اسم الدابّة وإن كان مشتقّاً في الأصل من الدبيب فقد صار اسماً لبعض ما دبّ، ولا يعمّ كلّ ما وقع منه الدبيب.

قال: والأَولى أنْ يُريد بلفظة السماء - هنا - ما عَلا من الغَيم وارتفع فصار سماءً لنا؛ لأنّ سماء البيت وسماواته ما ارتفع منه، وأراد بالجبال التشبيه؛ لأنّ السحاب المتراكب المتراكم تُشبّهه العرب بالجِبال والجِمال، وهذا شائعٌ في كلامها، كأنّه تعالى قال: ويُنزّل من السحاب الذي يشبه الجِبال في تَراكُمِه بَرداً.

قال: وعلى هذا التفسير تكون (مِن) الأُولى والثانية لابتداء الغاية، والثالثة زائدة لا حكم لها، ويكون تقدير الكلام: ويُنزّل من جبالٍ في السماء بَرداً، فزادت (مِن) كما تزاد في قولهم: ما في الدار من أحد، وكم أعطيته من درهم، ومالك عندي من حقّ، وما أشبه ذلك.

وأضاف: إنّه قد ظهر مفعولٌ صحيحٌ لـ (نُنزّل)، ولا مفعول لهذا الفعل على سائر التأويلات (1) .

قلت: وهو تأويل وجيه لولا جانب زيادة (مِن) في الإيجاب.

قال ابن هشام: شرط زيادتها تقدّم نفي أو نهي أو استفهام ولم يشترطه الكوفيّون واستدلّوا بقول العرب، قد كان من مطر. وبقول عمر بن أبي ربيعة:

ويَنمي لها حبُّها عندَنا

فما قال مِن كاشحٍ لم يَضِرّ

أي فما قاله كاشحٌ - وهو الذي يُضمر العداوة - لم يَضرّ.

قال: وقال الفارسي في قوله تعالى: ( وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ) : يجوز كون (مِن) الثانية والثالثة زائدتَين، فجوّز الزيادة في الإيجاب (2) .

____________________

(1) الأمالي للسيّد المرتضى عَلَم الهدى، ج 2، ص 304 - 306.

(2) مغني اللبيب لابن هشام، حرف الميم، ج 1، ص 325.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

[(الثانية): في جنين البهيمة عشر قيمتها، وفي عين الدابة ربع قيمتها.] قال طاب ثراه: في جنين البهيمة عشر قيمتها، وفي عين الدابة ربع قيمتها.

أقول: هنا مسألتان.

(الاولى) في جنين البهيمة عشر قيمتها، قاله الشيخ واتباعه(١) (٢) واختاره المصنف(٣) وذهب العلامة في التحرير إلى ضمان الارش(٤) .

احتج الاولون: بما رواه الشيخ عن النوفلي، عن السكوني عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : في جنين البهيمة اذا ضربت فالقت عشر ثمنها(٥) . احتج العلامة: بانه تقدير شرعي، فيقف على الدلالة الشرعية، ولا تصلح رواية السكوني لذلك، والمتيقن الارش، فتقوم الام حاملا وحائلا، ويلزم الجاني بالتفاوت(٦) .

(الثانية) في اعضاء الدابة، وفيها ثلاثة أقوال.

(أ) نصف القيمة في كل ما في البدن منه اثنان، كالعين واليد، وفي العينين كمال القيمة، قاله الشيخ في الخلاف، مستدلا بالاجماع والرواية، وهي كل ما في البدن منه اثنان، الحديث(٧) كذا فسره ابن ادريس(٨) .

____________________

(١)النهاية باب دية الجنين ص ٧٧٩ س ١١ قال: وفي جنين البهيمة عشر قيمتها.

(٢)المهذب ج ٢ باب دية الجنين ص ٥١٠ س ١٣ قال: وفي جنين البهيمة عشر قيمتها، والمراسم ذكر ضمان النفوس ص ٢٤٢ س ١٥ فلاحظ.

(٣)لاحظ عبارة النافع.

(٤)و(٦) التحرير ج ٢ في الجناية على الحيوان ص ٢٧٩ س ٢٠ قال: (ه‍) لا دية لجنين الدابة مقدرة، بل ارش ما نقص من امها إلى قوله: ويلزم الجاني بالتفاوت.

(٥)التهذيب ج ١٠(٢٧) باب الجنايات على الحيوان ص ٣١٠ الحديث ٩.

(٧)كتاب الخلاف، كتاب الغصب مسألة ٤ قال: اذا قلع عين دابة كان عليه نصف قيمتها.

(٨)السرائر باب الغصب ص ٢٨٠ س ٢٣ قال بعد نقل قول الشيخ في الخلاف: قال محمد بن ادريس: ما ذكره من قوله: كل ما في البدن منه اثنان إلى قوله: لان القياس عندنا باطل.

[*]

٤٠١

ويضعف: بانها لم ترد الا في الانسان، والتعدي قياس.

(ب) ربع القيمة في العين الواحدة، وفيهما النصف قاله الشيخ في النهاية(١) . محتجا بما روه مسمع عن الصادقعليه‌السلام : ان علياعليه‌السلام قضى في عين الدابة ربع ثمنها(٢) . وفي معناها رواية أبي العباس عن الصادقعليه‌السلام قال: من فقأ عين دابة فعليه ربع ثمنها(٣) .

(ج) الارش قاله الشيخ في المبسوط(٤) وتبعه القاضي(٥) وابن ادريس(٦) واختاره المصنف(٧) والعلامة(٨) لانه المتيقن، وما عداه يقف على الدلالة الشرعية، والروايتان ضعيفتان.

____________________

(١)النهاية باب الجنايات على الحيوان ص ٧٨١ س ١ قال: وفي عين البهيمة اذا فقأت ربع قيمتها.

(٢)التهذيب ج ١٠(٢٧) باب الجنايات على الحيوان ص ٣٠٩ الحديث ٤.

(٣)التهذيب ج ١٠(٢٧) باب الجنايات على الحيوان ص ٣٠٩ الحديث ١.

(٤)المبسوط ج ٣ كتاب الغصب ص ٦٢ س ٢ قال: وان جنى عليها فقيمة ما نقص، يقوم بعد الاندمال، فيكون عليه ما بين قيمته صحيحا قبل الاندمال وجريحا بعد الاندمال إلى قوله: فان اتلف بهيمة ففيها ما ذكرنا.

(٥)المهذب ج ٢ باب الجنايات على الحيوان ص ٥١٢ س ٦ قال: وجراح البهائم وقطع اعضائها إلى قوله: كان فيه ارش ما بين قيمته صحيحا ومعيبا.

(٦)السرائر باب الغصب ص ٢٨٠ س ٢٤ قال بعد نقل قول الشيخ في الخلاف (وقد تقدم انفا): والصحيح هو الارش ما بين قيمته صحيحا ومعيبا.

(٧)الشرائع في الجناية على الحيوان قال: ولو قطع بعض اعضائه، أو كسر شيئا من عظامه، فللمالك الارش.

(٨)المختلف ج ٢ في الجراحات ص ٢٦٣ س ٢٥ قال: وقوله في المبسوط من الرجوع بالتفاوت هو المعتمد إلى قوله: فكان الواجب الارش.

[*]

٤٠٢

[(الثالثة) روى السكوني عن أبي جعفرعليه‌السلام عن ابيه عليعليه‌السلام قال: كان لا يضمن ما افسدت البهائم نهارا ويضمن ما افسدته ليلا. والرواية مشهورة غير ان في السكوني ضعفا، والاولى اعتبار التفريط ليلا كان او نهارا.] قال طاب ثراه: روى السكوني عن أبي جعفرعليه‌السلام عن أبيه عليعليه‌السلام قال: كان لا يضمن ما افسدت البهائم نهارا ويضمن ما افسدته ليلا. والرواية مشهورة غير ان في السكوني ضعفا، والاولى اعتبار التفريط ليلا كان ام نهارا.

أقول: اكثر الاصحاب كالشيخين(١) (٢) والقاضي(٣) والتقي(٤) وابن حمزة(٥) والطبرسي(٦) وابن زهرة(٧) والكيدري(٨) .

____________________

(١)النهاية باب الجنايات على الحيوان ص ٧٨١ س ١٦ قال: فمن ذلك جناية غنم الانسان على زرع غيره قوله: فان كان افسادها له نهارا الخ.

(٢)المقنعة باب الجنايات على الحيوان ص ١٢٢ س ٥ قال: فمن ذلك جناية غنم الانسان على زرع غيره إلى قوله: وان كان افسادها له نهارا.

(٣)المهذب ج ٢ باب الجنايات على الحيوان ص ٥١٢ س ١٦ قال: فمن ذلك جناية غنم الانسان على زرع إلى قوله: وان كان افسادها كذلك نهارا لم يكن عليه شئ.

(٤)الكافي، الديات ص ٤٠١ س ١٢ قال: فمن ذلك ان يرسل غنمه ليلا فيضمن ما تجنيه على كل حال، ولا يضمن ما تجنيه نهارا الا ان يرسلها في ملك غيره.

(٥)الوسيلة في بيان احكام الجناية على الحيوان ص ٤٢٨ س ٧ قال: وكان بالليل ضمن، وان كان بالنهار لم يضمن.

(٦)غاية المراد في شرح قول المصنف: (ولو جنت الماشية على الزرع) ص.. س ١٣ قال: الضمان ليلا لا نهارا مذهب اكثر الاصحاب إلى قوله: والطبرسي.

(٧)الغنية (في الجوامع الفقهية) في الجنايات ص ٦٢٠ س ٢٠ قال: او بارسال غنمه ليلا على كل حال، ولا يضمن بما يجنيه نهارا الخ.

(٨)اصباح الشيعة للكيدري كتاب الجنايات ص ٣٠٠ س ٢١ قال: او بارسال غنمه ليلا، ولا [*]

٤٠٣

ورواه ابوعلي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ان على اهل الاموال حفظها نهارا، وعلى اهل الماشية ما افسدت مواشيهم بالليل، حكم به في قضية ناقة براء بن عازب لما دخلت حائطا فافسدت(١) . وفي رواية السكوني عن جعفر عن ابيهعليهم‌السلام قال: كان عليعليه‌السلام : لا يضمن ما افسدت البهائم نهارا، ويقول: على صاحب الزرع حفظه، وكان يضمن ما افسدت ليلا(٢) .

واما ابن ادريس، والمصنف، والعلامة، وولده فاعتبروا التفريط وعدمه، ولم يفرقوا بين الليل والنهار، وحملوا الرواية على ذلك(٣) (٤) (٥) (٦) وخرجت الرواية على الغالب: من حفظ الدابة ليلا، وحفظ الزرع نهارا. قال الشهيد: ولا ينبغي ان يكون الخلاف هنا الا في مجرد العبارة عن الضابط، اما المعنى فلا خلاف فيه(٧) .

____________________

يضمن ما يجنيه نهارا الا ان يكون ارساله في ملك غيره.

(١)سنن ابن ماجة ج ٢ ص ٧٨١(١٣) باب الحكم فيما افسدت المواشي الحديث ٢٣٣٢ ولاحظ ذيله أيضا.

(٢)التهذيب ج ١٠(٢٧) باب الجنايات على الحيوان ص ٣١٠ الحديث ١١.

(٣)السرائر باب الجنايات على الحيوان، ص ٤٤١ س ١٤ قال: ان كانت الجناية منها بتفريط وقع منه في حفظها إلى قوله: فهو ضامن لما افسدته بجنايتها، وان كان بغير ذلك لم يكن عليه ضمان إلى اخره.

(٤)لاحظ عبارة النافع حيث يقول: ولاولى اعتبار التفريط ليلا كان او نهارا.

(٥)القواعد ج ٢ في الجناية على الحيوان ص ٣٤٠ س ١٠ قال: والوجه: ان صاحب الغنم يضمن مع التفريط ليلا كان او نهارا.

(٦)الايضاح ج ٤ في الجناية على الحيوان ص ٧٣٢ س ١٢ قال: والوجه عندي ما اختاره المصنف، وهو ان صاحب الغنم ان فرط في حفظها ضمن ما افسدت سواء كان ليلا او نهارا وان لم يفرط فلاضمان عليه.

(٧)اللمعة ج ١٠ في الجناية على الحيوان، ص ٣٢٧ س ٧ قال: فلا ينبغي ان يكون الاختلاف هنا الا في مجرد العبارة عن الضابط.

[*]

٤٠٤

[(الثالث) في كفارة القتل.

تجب كفارة الجمع بقتل العمد، والمرتبة بقتل الخطأ مع المباشرة دون التسبيب، فلو طرح حجرا في ملك غيره، أو سابلة فهلك به عاثر ضمن الدية ولا كفارة، وتجب بقتل المسلم ذكرا كان أو انثى، صبيا كان أو مجنونا، حرا وعبدا، ولو كان ملك القاتل. وكذا تجب بقتل الجنين ان ولجته الروح، ولا تجب قبل ذلك. ولا تجب بقتل الكافر ذميا كان أو معاهدا. ولو قتل المسلم مثله في دار الحرب عالما لا لضرورة فعليه القود والكفارة. ولو ظنه حربيا فبان مسلما فلا دية وعليه الكفارة.

(الرابع): في العاقلة.] ونعم ما قال:(الرابع) العاقلة

مقدمة: اشتقاق العاقلة من العقل، وهو الشد، يقال: عقلت البعير اذا أثبت ركبتيه وشددتهما وسمي هذا الحبل عقالا(١) ، وسمي أهل العقل عاقلة، لانها تعقل الابل بفناء ولي المقتول المستحق للدية(٢) .

وقيل: العقل اسم للدية وعبارة عنها(٣) . وسمي اهل العقل عاقلة، لانها تعقل

____________________

(١)عقل البعير ثنى وظيفه مع ذراعه وشدهما جميعا في وسط الذراع، وكذلك الناقة، وذلك الحبل هو العقال (لسان العرب ج ١١ ص ٤٥٩).

(٢)قال الاصمعي: وانما سميت بذلك لان الابل كانت تعقل بفناء ولى المقتول (صحاح ج ٥ ص ١٧٦٩.

(٣)قال الازهري: والعقل في كلام العرب الدية، سميت عقلا لان الدية كانت عند العرب في الجاهلية ابلا، لانها كانت اموالهم فسميت الدية عقلا لان القاتل كان يكلف ان يسوق الدية إلى فناء ورثة المقتول، فيعقلها بالعقل وسلمها إلى اوليائه، (لسان العرب ج ١١ ص ٤٦١ لغة عقل).

[*]

٤٠٥

لسان ولي المقتول، تقول: عقلت عنه اذا تحملت عنه، وعقلت له اذا دفعت اليه الدية.

وقيل: سميت عاقلة، لانها ما نعة، والعقل المنع، وذلك ان العشيرة كانت تمنع عن القاتل بالسيف في الجاهلية فلما جاء الاسلام منعت عنه بالمال، فلهذا سميت عاقلة(١) .

فروع في الدية

(أ) اجمع علماء الاسلام على ان العاقلة تضمن دية الخطأ، ولا عبرة بخلاف الخوارج، لانهم عندنا ليسوا مسلمين وان انتحلوا الاسلام، ولا شذوذ الاصم لانقراضه حيث ذهبوا إلى وجوبها على القاتل(٢) .

(ب) الدية يجب ابتداء على العاقلة، ولا ترجع العاقلة بها على الجاني خلاف للمفيد(٣) وتلميذه(٤) حيث اوجباها على العاقلة وجعلا لها الرجوع بها، ولعله جمع بين الدليلين فالزم العاقلة بها اولا لدلالة النص والاجماع عليه، وجعل لهم الرجوع

____________________

(١)وسمى العقل عقلا، لانه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، أي يحبسه (لسان العرب ج ١١ ص ٤٥٩ لغة عقل.

(٢)قال في المبسوط ج ٧ ص ١٧٣ اجمع المسلمون على ان العاقلة تحمل دية الخطأ الا الاصم فانه قال: على القاتل، وبه قالت الخوارج.

(٣)المبسوط ج ٧ باب البينات على القتل ص ١١٥ س ١ قال: الزمت عاقلته الدية، وترجع العاقلة على القاتل.

(٤)المراسم ذكر احكام الجنايات في القضاء ص ٢٣٩ س ١٢ قال: ودية الخطأ ترجع العاقلة بها على مال القاتل.

[*]

٤٠٦

بها على القاتل تعويلا على دليل العقل، او لعله عثر على دليل لم يقف غيره عليه.

قال الشيخرحمه‌الله : ولا اعرف به نصا(١) وقال ابوعلي: ولا اعرف فيه خلافا(٢) .

واختاره القاضي(٣) والتقي(٤) وابن ادريس(٥) والمصنف(٦) والعلامة(٧) بل الاصحاب عدا المذكورين ولا فصل بين كون القاتل حال القتل موسرا او معسرا.

(ج) المشهور اختصاص العاقلة بضمان الخطأ المحض، وذهب التقي إلى ضمانها دية شبيه العمد(٨) وهو نادر.

(د) تحمل العاقلة دية الموضحة فما فوقها، وهل تحمل ما دونها؟ قال الشيخ في

____________________

(١)المبسوط ج ٧ فصل في العاقلة ص ١٧٤ س ٣ قال: ولست اعرف به نصا.

(٢)المختلف ج ٢ في دية القتل ص ٢٣٢ س ٢٥ قال: وقال ابن الجنيد: لا اعلم خلافا في ان دية المقتول خطا، على عاقلة المقتول الخ.

(٣)المهذب ج ٢ باب اقسام القتل ص ٤٥٧ س ٢٢ قال: واما دية قتل الخطأ فواجبة على عاقلة القاتل الخ.

(٤)الكافي، الديات، ص ٣٩٢ س ٤ قال: ودية الخطأ على العاقلة.

(٥)السرائر باب في اقسام القتل ص ٤١٩ س ٢٤ قال: فاما دية قتل الخطأ فانها تلزم العاقلة.

(٦)الشرائع، الرابع في العاقلة، قال: اما كيفية التقسط، فان الدية تجب ابتداء على العاقلة الخ.

(٧)الارشاد ج ٢ كتاب الديات، والمقصد الثاني: فيمن تجب عليه، قال: ودية الخطأ على العاقلة.

(٨)الكافي، الديات ص ٣٩٦ س ٢ قال: وخطأ محض وخطأ شبيه العمد يوجبان الدية على العاقلة.

[*]

٤٠٧

النهاية: لا(١) ، وبه قال التقي(٢) وابوعلي(٣) والقاضي في الكامل(٤) واختاره العلامة(٥) وفخر المحققين(٦) .

وقال في الخلاف: تحمل العاقلة قدر الجناية، قليلا كان أو كثيرا(٧) واختاره ابن ادريس(٨) .

احتج الاولون بوجوه.

(الاول) ان الاصل ايجاب الدية على مباشر الجناية، عدلنا عنه في دية النفس والموضحة فمازاد للنصوص والاجماع، فيبقى الباقي على اصله.

(الثاني) قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر اخرى)(٩) وغيرها من الايات الدالة على اختصاص الانسان بجنايته واكتساب يده.

____________________

(١)النهاية باب اقسام القتل ص ٧٣٧ س ١٦ قال: وما كان خطأ إلى قوله: لا يحمل في الجراح على العاقلة الا الموضحة فصاعدا.

(٢)الكافي، الديات ص ٣٩٥ س ٢١ قال: ولا تعقل العاقلة إلى قوله: ولا مادون الموضحة.

(٣)و(٤) المختلف ج ٢ في دية القتل ص ٢٣٥ س ٣١ قال بعد نقل قول الشيخ في النهاية: وبه قال ابن الجنيد إلى قوله: والمعتمد ما قاله الشيخ في النهاية.

(٥)غاية المراد، في شرح قول المصنف (وتحمل العاقلة دية الموضحة ص.. س ٣ قال: عدم التحمل فيما دونها إلى قوله: وتبعه ابن البراج في الكامل.

(٦)الايضاح ج ٤ في كيفية التوزيع ص ٧٤٦ س ٢٣ قال بعد نقل قوله الشيخ: وهو الاصح عندي.

(٧)كتاب الخلاف، كتاب الديات، مسألة ١٠٦ قال: القدر الذي تحمله العاقلة عن الجاني هو قدر جنايته قليلا كان او كثيرا.

(٨)السرائر في اقسام القتل ص ٤٢٠ س ١٠ قال: والقدر الذي تحمله العاقلة عن الجاني هو قدر جنايته قليلا كان او كثيرا.

(٩)الانعام / ١٦٤.

[*]

٤٠٨

(الثالث) ما رواه الشيخ عن علي بن إبراهيم، عن ابيه، عن ابن فضال، عن يونس بن يعقوب، عن ابي مريم عن الباقيعليه‌السلام قال: قضى اميرالمؤمنينعليه‌السلام ان لا تحمل على العاقلة الا الموضحة فصاعدا(١) .

قال المصنف: وفي الرواية ضعف(٢) وكذا العلامة في القواعد(٣) لان في طريقها (ابن فضال) فان كان الحسن فقد قيل: انه قطحي المذهب(٤) فمن هنا كانت الرواية ضعيفة، وجعلها العلامة في المختلف من الموثق(٥) .

قال فخر المحققين: لما قرأت على والدي التهذيب في المرة الثانية في طريق الحجاز في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، سألته عن هذه الرواية لما بلغت اليها وقلت له: انك حكمت عليها في المختلف: انها في الموثق وفي القواعد: فيها ضعف؟ فقال لي: بل هي ضعيفة(٦) .

وأقول: ان ابن فضال ان كان هو الحسن بن علي بن فضال، فقد قال الكشي: انه ممدوح، معظم، كان فطحيا فرجع قبل موته(٧) ومدحه الشيخ في

____________________

(١)التهذيب ج ١٠(١٢) باب البينات على القتل ص ١٧٠ الحديث ٩.

(٢)لاحظ عبارة النافع حيث يقول: غير ان في الرواية ضعفا، وسياتي عن قريب.

(٣)القواعد ج ٢ في كيفية التوزيع ص ٣٤٤ س ٨ قال: وهل تحمل ما نقص؟ قيل: نعم، وقيل: لا، لرواية فيها ضعف.

(٤)الفهرست باب الحاء ص ٤٧ تحت رقم ١٥٣ قال: الحسن بن علي بن فضال كان فطحيا يقول بامامة عبدالله بن جعفر، ثم رجع إلى امامة ابى الحسنعليه‌السلام عند موته.

(٥)المختلف ج ٢ في دية القتل ص ٢٣٥ س ٣٨ قال: وما رواه الشيخ في الموثق الخ.

(٦)الايضاح ج ٤ في كيفية التوزيع ص ٧٤٧ س ١٦ قال: لما قرأت عليه التهذيب في المرة الثانية الخ.

(٧)اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) ص ٥٦٥ تحت رقم ١٠٦٧ قال: وكان الحسن بن علي فطحيا يقول: بعبدالله بن جعفر، فرجع فيما حكي عنه.

[*]

٤٠٩

الفهرست(١) . وان كان علي بن الحسن بن علي بن فضال فقد قال النجاشي: انه فقيه اصحابنا بالكوفه، ووجههم، وعارفهم بالحديث، والمسموع قوله، سمع منه كثير، ولم يعثر له على زلة، وقل ما روى من ضعيف، الا انه كان فطحيا(٢) . والاولى اثبات هذه الرواية في الموثق كما ذكره العلامة في المختلف. احتج الاخرون: بعموم الاخبار الواردة: بايجاب دية الخطأ على العاقلة من غير تفصيل(٣) والجواب: قد بينا التفصيل في الرواية الموثقة.

(ه‍) لا يضمن العاقلة الغرامات اللاحقة للانسان باتلاف الاموال، سواء كان الجاني غنيا أو فقيرا، وسواء الخطأ او العمد، وسواء كان بالغا أو صغيرا، عاقلا أو مجنونا، وسواء كان التلف مالا او حيوانا. ولو كان عبدا فهل تضمنه العاقلة ام لا؟ قال الشيخ: نعم(٤) لعموم ضمان العاقلة جنايته على الادمي، وبه قال. القاضي(٥) واختاره المصنف(٦) والعلامة في

____________________

(١)تقدم آنفا.

(٢)رجال النجاشي (باب على) ص ١٩٤ قال: علي بن الحسن بن علي بن فضال إلى قوله: كان فقيه اصحابنا بالكوفة، ووجههم وثقتهم وعارفهم بالحديث الخ.

(٣)لاحظ من لا يحضره الفقيه ج ٤(٣٣) باب العاقلة ص ١٠٥ الحديث ١ و ٦.

(٤)كتاب الخلاف، كتاب الديات، مسألة ٨٥ قال: اذا قتل عبد عمدا، إلى قوله: وان كان خطأ محضا فعلى العاقلة سواء قتله او قطع اطرافه.

(٥)المهذب ج ٢ كتاب الديات ص ٤٨٧ س ٧ قال: واذا قتل حر عبدا، إلى قوله: فان قتله خطأ محضا فالقيمة على عاقلته وكذلك في اطرافه.

(٦)النافع ص ٣١٦ قال: (الثالثة) لا تعقل العاقلة بهيمة ولا اتلاف مال ويختص ضمانها بالجناية على الادمي حسب.

[*]

٤١٠

القواعد(١) . وقال ابوعلي: ولا يضمن العاقلة قيمة العبد اذا قتلهم اقرباؤهم خطأ، ولا ارش جراحتهم لان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الزم العاقلة الديات، وانما يؤخذ عن العبيد قيمة، لا دية، لا خلاف في ذلك، ولانهم كاموال مالكهم(٢) واستحسنه العلامة في المختلف(٣) .

وله في التحرير قولان: فجزم في اول كتاب الديات منه بضمان العاقلة(٤) وفي باب العاقلة بالضمان في ماله خاصة(٥) .

(و) لا تعقل العاقلة حالا، وانما تضمن مؤجلا، فالمضمون اما دية أو ارش، فان كان دية فاجله ثلاث سنين، سواء كانت الدية تامة او ناقصة كدية المرأة، والذمي، فيؤخذ عند انسلاخ كل حول ثلث دية، او سدس، او مأتين وستة وستين درهما، وثلثي درهم. وان كان ارشا فان كان بقدر ثلث الدية فما دون اخذ في سنة واحدة عند انسلاخها، وان كان اكثر حل الثلث عند انسلاخ الحول الاول. والزائد عند انسلاخ الثاني ان كان ثلثا فمادون. ولو كان اكثر من دية كقطع يدين وقلع عينين، فان تعدد الجاني او المجني عليه حل بانسلاخ كل حول عن كل جناية

____________________

(١)القواعد ج ٢ في كيفية التوزيع ص ٣٤٤ س ١٦ قال: والحر اذا قتل عبدا عمدا إلى قوله: وان كان خطأ فعلى عاقلته.

(٢)و(٣) المختلف ج ٢ في اللواحق ص ٢٦٧ س ١٤ قال: (مسألة) قال: ابن الجنيد ولا تضمن العاقلة قيم العبد اذا قتلهم اقرباؤهم الخ. ثم قال بعد اسطر: وقول ابن الجنيد حسن.

(٤)التحرير ج ٢ كتاب الديات ص ٢٦٩ س ٩ قال (يج) دية العبد قيمته إلى قوله: ومن عاقلته ان كان خطأ.

(٥)التحرير ج ٢ كتاب الجنايات ص ٢٨٠ س ٢٢ قال: (يب) لا يضمن العاقلة عبدا بمعنى ان العبد اذا قتل كانت قيمته في مال القاتل، لا على عاقلة القاتل خطأ.

[*]

٤١١

ثلث، وان اتحد أجل له ثلاث لكل جناية سدس، وهذا فتوى العلامة(١) . واستشكله المصنف: من حيث احتمال التاجيل بالدية لا بالارش، فعلى هذا يكون حالا، ولم يجزم به(٢) . والاول هو المعتمد: لان العاقلة لا تعقل حالا، ويؤخذ من العاقلة عند الحلول، كما تؤخذ من المديون فيترك له قوت يوم وليلة ويؤخذ من الفاضل عن ذلك، ولو اعسر عن ذلك نزل منزلة المعدوم. وينتظر قدوم الغائب، ولا يسقط بغيبته. ولو مات قبل الدفع قدم كفنه الواجب، وكذا كفن واجب النفقة، لانه من المؤونة. ومع اعساره وتحمل غيره من العاقلة باقي الدية لا يرجع اليه بعد يساره، نعم لو أيسر وقد بقي من الدية بقية لزم الاداء.

تحقيق

لا يتوجه المطالبة على العاقلة الا بعد الحلول، بل ولا تستقر الدية على الموجود حال الجناية، بل بعد الحلول، فالعاقلة الموجودون في ذلك الوقت، والاعتبار بيسار العاقلة وفقرها حينئذ، ولا اعتبار بوقت الجناية

وتظهر الفائدة في مسائل

(الاولى) لو مات بعض العاقلة قبل الحلول سقط ما ضرب عليه، فان كان وارثه من العاقلة اخذت منه بحساب حاله، والا اخذت من بقية العاقلة، ولا ضمان

____________________

(١)القواعد ج ٢ في قدر التوزيع ص ٣٤٤ س ٢١ قال: ولو كاناكثر من الدية كقطع يدين ورجلين، فان تعدد المجني عليه إلى قوله: وان كان واحدا حل له ثلث لكل جناية، سدس دية.

(٢)الشرائع ج ٤ في العاقلة قال: اما الارش فقد قال في المبسوط: يستأدي في سنة واحدة عند انسلاخها اذا كانت ثلث الدية فمادون، لان العاقلة لا تعقل حالا، وفيه اشكال: ينشأ من احتمال تخصيص التاجيل بالدية لا بالارش.

[*]

٤١٢

[والنظر في المحل وكيفية التقسيط، واللواحق. اما المحل: فالعصبة: والمعتق، وضامن الجريرة، واللواحق. والعصبة: من تقرب بالميت من الابوين، او بالاب كالاخوة واولادهم، والعمومة واولادهم، والاجداد وان علوا. وقيل: هم الذين يرثون دية القاتل لو قتل، والاول اظهر.] على التركة.

(الثانية) لو كان فقيرا في اول الحول ثم استغنى عند الحول، او بالعكس كان الاعتبار بوقت المطالبة، فتؤخذ بحسب حاله في ذلك الوقت.

(الثالثة) لو كان عاقلا وقت الجناية ثم جن في اخر الحول سقطت، ولو انعكس الحال طولب.

(الرابعة) لا يجوز اخذ الرهن من العاقلة قبل الحلول، لعدم القرار في الذمة.

(الخامسة) لا يصح ضمان قبله، لما قلناه.

قال طاب ثراه: والعصبة من تقرب بالميت من الابوين، او بالاب كالاخوة واولادهم، والعمومة واولادهم، والاجداد وان علوا، وقيل: هم الذين يرثون دية القاتل لو قتل، والاول اظهر.

أقول: اختلف الاصحاب في تفسير العصبة الذين يعقلون القاتل على خمسة اقوال:

(الاول) ما ذكره المصنف، وهو مذهب الشيخ(١) وتبعه القاضي(٢) واختاره

____________________

(١)المبسوط ج ٧ فصل في العاقلة ص ١٧٣ س ١٦ قال: والعاقلة كل عصبة خرجت عن الوالدين والمولودين، وهم الاخوة وابنائهم الخ.

(٢)المهذب ج ٢ باب العاقلة ص ٥٠٣ س ١١ قال: والعاقلة، هم كل عصبة خرجت عن الوالدين والمولودين، وهم الاخوة وابنائهم الخ.

[*]

٤١٣

العلامة(١) .

(الثاني) العاقلة من يرث دية القاتل لو قتل، ولا يلزم من لا يرث من ديته شيئا على حال، وهو مذهب الشيخ في النهاية(٢) . قال المصنف في الشرائع: وفي هذا الاطلاق وهم، فان الزوجين والمتقرب بالام يرثون من الدية، وليسوا عصبته(٣) ، اما الاول فقد مر بيانه في باب الميراث، واما الثاني فاجماعي، وايضا فان الانثى المتقربة بالاب ترث من الدية وليست عصبة. وايضا الدية يرثها الاقرب فالاقرب وليس كذلك العقل.

(الثالث) العصبة هم المستحقون لميراث القاتل من الرجال العقلاء سواء كانوا من قبل ابيه او امه، فان تساوت القرابتان كالاخوة للاب والاخوة للام كان على الاخوة للاب الثلثان وعلى الاخوة للام الثلث، ولا يلزم ولد الابن شئ الا بعد عدم الولد والاب، ولا يلزم ولد الجد من شئ الا بعد عدم الولد والابوين.

وعلى هذا: فان عدم قرابة النسب كانت على الموالي اعتاقه، فان عدموا كانت على الوالي علاقته، وهو قول أبي علي(٤) .

(الرابع) العاقلة العصبات من الرجال سواء كان وارثا أو غيروارث، الاقرب

____________________

(١)التحرير ج ٢ في محل الدية ص ٢٧٩ س ٣٤ قال: (ب) العصبة من تقرب بالابوين، او بالاب خاصة من الذكور كالاخوة واولادهم الخ.

(٢)النهاية باب اقسام القتل ص ٧٣٧ س ٢ قال: واما دية قتل الخطأ فانها تلزم العاقلة الذين يرثون دية القاتل ان لو قتل، ولا يلزم الخ.

(٣)الشرائع: ج ٤ ص ٢٨٨ قال: وقيل: هم الذين يرثون دية القاتل لو قتل، وفي هذا الاطلاق وهم إلى اخره.

(٤)المختلف ج ٢ في دية القتل ص ٢٣٥ س ٢ قال: وقال ابن الجنيد: العاقلة هم المستحقون لميراث القاتل من الرجال العقلاء سواء كانوا من قبل ابيه او امه.

[*]

٤١٤

[ومن الاصحاب من شرك بين من يتقرب بالام مع من يتقرب بالاب والام، او بالاب، وهو استناد إلى رواية سلمة بن كهيل، وفيه ضعف.] فالاقرب وهو قول ابن ادريس(١) .

(الخامس) عاقلة الحر عصبته، وعاقلة العبد مالكه، وهو قول التقى(٢) . قال طاب ثراه: ومن الاصحاب من شرك بين من يتقرب بالام مع من يتقرب بالاب والام، او بالاب، وهو استناد إلى رواية مسلمة بن كهيل، وفيه ضعف.

أقول: هذه اشارة إلى قول أبي علي، وقد حكيناه. واستند في ذلك إلى ما رواه الحسن بن محبوب، عن مالك بن عطية، عن ابيه، عن سلمة بن كهيل قال: اتى اميرالمؤمنينعليه‌السلام برجل من اهل الموصل قد قتل رجلا خطأ، فكتب اميرالمؤمنينعليه‌السلام إلى عامله بها في كتابه: وأسأل عن قرابته من المسلمين، فان كان من اهل الموصل ممن ولد بها واصبت له بها قرابة من المسلمين فاجمعهم اليك، ثم انظر فان كان منهم رجل يرثه له سهم في الكتاب لا يحجبه عن ميراثه احد من المسلمين فالزمه الدية، وخذه بها نجوما في ثلاث سنين، وان لم يكن له من قرابته أحد له سهم في الكتاب وكانوا قرابة سواء في النسب، ففض الدية على قرابته من قبل ابيه وعلى قرابته من قبل امه من الرجال المدركين المسلمين، ثم اجعل على قرابته من قبل ابيه ثلثي الدية، واجعل على قرابته من قبل امه ثلث الدية وان لم يكن له قرابة من قبل أبيه ففض الدية على قرابته من قبل امه من الرجال المدركين، ثم خذهم بها واستادهم الدية في ثلاث سنين، وإن لم يكن له قرابة من قبل أبيه ولا قرابة من قبل امه، ففض الدية على أهل الموصل ممن

____________________

(١)السرائر في اقسام القتل ص ٤١٩ س ٢٤ قال: وهي تلزم العصبات من الرجال سواء كان وارثا أو غير وارث الاقرب فالاقرب.

(٢)الكافي، الديات ص ٣٩٢ قال: وعاقلة الحر المسلم عصبته وعاقلة الرقيق مالكه.

[*]

٤١٥

ولد بها ونشأ، ولا تدخلن فيهم غيرهم من اهل البلد، ثم استأدي ذلك منهم في ثلاث سنين في كل سنة نجم حتى تستوفيه ان شاء الله، وان لم يكن لفلان بن فلان قرابة من اهل الموصل، ولا يكون من اهلها وكان مبطلا فرده إلي مع رسولي فلان، فانا وليه والمؤدي عنه، ولا يبطل دم امرء مسلم(١) .

وقد دلت هذه الرواية عليامور.

(أ) دخول الاباء والاولاد في العقل.

(ب) دخول الام في العقل، لان لها سهما في كتاب الله لا يحجب عنه.

(ج) دخول قرابة الام في العقل.

(د) الزامهم بثلث الدية مع قرابة الاب.

(ه‍) اشتراط الذكورة فيمن عدم الام.

(و) اشتراط البلوغ في العقل، فلا يعقل الصبي لقوله: من الرجال المذكورين(٢) .

(ز) اشتراط اسلام العاقل.

(ح) الزام اهل بلد القاتل.

(ط) الزام الامام مع عدمهم.

(ى) اشتراط الولادة في البلد، والنشوء فيه، فمن ولد في غيره فلا يعقل، وان اقام فيه وابن كهيل مذموم بتري قاله الكشي(٣) .

____________________

(١)التهذيب ج ١٠(١٢) باب البينات على القتل ص ١٧١ الحديث ١٥ والمصنفقدس‌سره أورد الحديث مقطعا.

(٢)في (گل): المدركين.

(٣)اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) ص ٢٣٦ تحت رقم ٤٢٩ وفيه (عن سدير قال: دخلت على أبي جعفرعليه‌السلام ومعى سلمة بنكهيل وجماعة، وعند أبي جعفرعليه‌السلام اخوه زيد بن عليعليه‌السلام فقالوا لابي جعفرعليه‌السلام : نتولى عليا وحسنا وحسينا ونتبرأ من اعدائهم قال: نعم، قالوا: نتولى ابابكر وعمر ونتبرأ من اعدائهم ! قال: فالتفت اليهم زيد بن علي قال لهم: أتتبرؤن من فاطمة؟ ! بترتم، أمرنا بتركم الله، فيومئذ سموا البترية).

[*]

٤١٦

[ويدخل الاباء والاولاد في العقل على الاشبه، ولا يشركهم القاتل، ولا تعقل المرأة ولا الصبي، ولا المجنون وان ورثوا من الدية.] قال طاب ثراه: ويدخل الاباء والاولاد في العقل على الاشبه.

أقول: قال الشيخ في كتابي الفروع: لا يدخل الاباء والاولاد في العقل(١) (٢) وتبعه القاضي(٣) .

وقال ابوعلي: بدخولهم(٤) واختاره المصنف(٥) والعلامة(٦) . احتج الاولون بوجوه.

(أ) اصالة براء‌ة الذمة من الضمان الا مع اليقين، وقد حصل الشك بوجود الخلاف هنا.

(ب) ما روي عنهعليه‌السلام : انت ومالك لابيك(٧) فلو غرم الابن جناية الاب لغرم الاب، لان ماله ماله(٨) . روى ابوعلي بن الفضل بن الحسن الطبرسي في كتابه المسمى بالباهر في شرح

____________________

(١)كتاب الخلاف، كتاب الديات مسألة ٩٨ قال: العاقلة كل عصبة خرجت عن الوالدين إلى قوله: ولا دليل على ان الوالدين والولد منهم والاصل براء‌ة ذمتهم.

(٢)المبسوط ج ٧ فصل في العاقلة ص ١٧٣ س ١٦ قال: والعاقلة كل عصبة خرجت عن الوالدين والمولودين الخ.

(٣)المهذب ج ٢ باب العاقلة ص ٥٠٣ س ١١ قال: والعاقله التي تحمل ذلك هم كل عصبة خرجت عن الوالدين والمولودين، وهم الاخوة الخ.

(٤)غاية المراد في شرح قول المصنف (قال الشيخ: ولا يدخل الاباء والاولاد) ص.. ص ١٠ قال: وابن الجنيد قال: (هم المستحقون ارث القاتل من الاب والام).

(٥)لاحظ عبارة النافع.

(٦)التحرير ج ٢ في محل الدية ص ٢٨٠ س ٢ قال: (ج) الاقرب دخول الاباء والاولاد في العقل.

(٧)سنن ابن ماجه ج ٢ ص ٧٦٨(٦٤) باب ما للرجل من مال ولده الحديث ٢٢٩١ و ٢٢٩٢.

(٨)زاد هنا في بعض النسخ المخطوطة التي عندي مايلي.

[*]

٤١٧

الحماسة(١) قال: روى الشيخ علي بن الحرب الساري مرفوعا إلى جابر بن عبدالله الانصاري قال: جاء رجل إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا رسول الله ان أبي أخذ مالي، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اللرجل: اذهب فأتنى بابيك، فنزل جبرئيلعليه‌السلام على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: ان الله يقرء‌ك السلام ويقول: اذا جاء‌ك الشيخ فسله عن شئ قاله في نفسه، ما سمعته أذناه، فلما جاء الشيخ قال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مابال ابنك يشكوك؟ ! أتريد ان تاخذ ماله؟ فقال: سله يا رسول الله هل هو الا غرامة، أو اداء امانة، أو ما انفقه على نفسي وعيالي هل انفقته الا على عماته أو خالاته، او على نفسي؟ ! فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أيه، دعنا من هذا، اخبرنا عن شئ قلته في نفسك ما سمعته اذناك، فقال الشيخ: والله يا رسول الله ما يزال الله يزيدنا بك يقينا، لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته اذناي، فقال: قل وانا اسمع، قال: قلت: غدوتك مولودا ومنتك يافعا * تعل بما أجني عليك وتنهل اذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت * لسقمك الا ساهرا أتململ كأني أنا المطروق دونك بالذي * طرقت به دوني فعيناي تهمل تخاف الردى نفسي عليك وانها * لتعلم أنالموت وقت مؤجل فلما بلغت السن والغاية التي * اليها مدى ما فيك كنت أومل جعلت جزائى غلظة وفظاظة * كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك اذ لم ترع حق أبوتى * فعلت كما الجار المجاور يفعل

____________________

(١)لم اظفر على كتاب (الباهر في شرح الحماسة) للطبرسي، ولم يورده أرباب المعاجم، ورأيت في بعض المدونات ايضا ينقلون بعنوان شرح الحماسة ولعل الله يحدث بعد ذلك امرا.

[*]

٤١٨

تراه معدا ل ل خلاف كأنه * برد على أهل الصواب موكل(١) وفي رواية اخرى زيادة على هذه الابيات: وعيرتني اني كبرت وعيني * ولم يمض لي من بعد ستين كمل وسميتني الشيخ المفيد وليه * وفي رأيك التقييد لو كنت تعقل وليتك اذ لم ترع حق ابوتي * فعلت كما الجار المجاور يفعل تراه معدا للخلاف كأنه * برد على اهل الصواب موكل قال: فبكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: انت ومالك لابيك. قوله: (او اداء مأنة) مأخوذ من المؤنة، يقال: مأنه مؤنة اذا عاله وانفق عليه.

ويقال للجنين اذا خرج من بطن امه مولود، فاذا تحرك وشب فهو يافع ومنه اليفاع(٢) .

وروي ان رجلا اتى النبي ومعه ابنه، فقال: من هذا؟ فقال: ابنى، فقال: اما انه لا يجني عليك ولا تجني عليه(٣) . وليس المراد نفي الحقيقة، لا مكانها، فيحمل على اقرب المجازات، وهو رفع حكم الجناية، فيكون معناه: لايلزمك موجب جنايته، ولا يلزمه موجب جنايتك، (ج) ما رواه سعيد بن المسيب: ان امرأتين من هذيل اقتتلتا، فقتلت احداهما الاخرى ولكل زوج وولد، فبرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الزوج والولد وجعل الدية على العاقلة(٤) .

____________________

(١)إلى هنا نقلته عن (المعجم الصغير للطبراني) ج ٢ ص ٦٢ وعن (مجمع الزوائد للهيثمي) ج ٤ ص ١٥٤ باب في مال الولد.

(٢)إلى ما في بعض النسخ المخطوطة التي عندي والله اعلم بالصواب.

(٣)عوالي اللئالي ج ٣ ص ٦٦٥ الحديث ١٥٧ ولا حظ ما علق عليه.

(٤)عوالى اللئالي ج ٣ ص ٦٦٦ الحديث ١٥٨ ولا حظ ما علق عليه.

[*]

٤١٩

[وتحمل العاقلة دية الموضحة فما فوقها اتفاقا، وفيما دون الموضحة قولان: المروي انها لا تحمله، غير ان في الرواية ضعفا، واذا لم يكن عاقلة من قومه، ولا ضمان جريرة، ضمن الامام جنايته. وجناية الذمي في ماله وان كانت خطأ، فان لم يكن له مال فعاقلته الامام، لانه يؤدي اليه ضريبته ولا يعقله قومه. واما كيفية التقسيط: فقد تردد الشيخ فيه، والوجه وقوفه على رأي الامام، او من نصبه للحكومة بحسب ما يراه من احوال العاقلة. ويبدأ بالتقسيط على الاقرب فالاقرب، ويؤجلها عليهم على ما سلف.] احتج الاخرون: بانهم اخص القوم، والقرابة ادنى القوم، وبرواية سلمة بن كهيل.

قال طاب ثراه: ويحمل العاقلة دية الموضحة فما فوقها اتفاقا، وفيما دون الموضحة قولان: المروي انها لا تحمله غير ان في الرواية ضعفا. أقول: قد تقدم البحث في هذه المسألة في فروع العاقلة.

قال طاب ثراه: واما كيفية التقسيط: فقد تردد فيه الشيخ، والوجه وقوفه على رأي الامام.

أقول: قال الشيخ في المبسوط: الذي يقتضيه مذهبنا، انه لا يقدر ذلك، بل يقسم الامام على ما يراه من حاله، من الغنى والفقر، وان يفرقه على القريب والبعيد، وان قلنا يقدم الاولى فالاولى كان قويا لقوله تعالى: (واولوا الارحام بعضهم اولى ببعض)(١)(٢) وقال قبل هذا الكلام بقليل: واكثر ما يحمله كل رجل من

____________________

(١)الانفال / ٧٥.

(٢)المبسوط ج ٧، فصل في العاقلة ص ١٧٨ س ٧ قال: الذي يقتضيه مذهبنا ان لا يقدر ذلك، بل يقسم الامام.

[*]

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430