• البداية
  • السابق
  • 315 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32032 / تحميل: 6186
الحجم الحجم الحجم
الانتصار

الانتصار

مؤلف:
العربية

على هذا القول إلا متقدم أو متناه في علم اللغة.

وأبيات ابن الرومي:

اسقني الاسكركة الصنبر في جعصلقونه * واجعل القيحن فيها يا خليلي بغصونه

انها مصفاه أعلاه ومسك لبطونه وأراد بالاسكركة الفقاع، والجعصلقون الكوز الذي يشرب فيه الفقاع والصنبر البارد، والقيحن الشراب.

وقد روى أصحاب الحديث من طرق معروفة، أن قوما من العرب سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الشراب المتخذ من القمح، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أيسكر؟ قالوا: نعم، فقال"ع": لا تقربوه، ولم يسأل " ع " في الشراب المتخذ من الشعير عن الاسكار بل حرم ذلك على الاطلاق، وحرم الشراب الآخر إذا كان مسكرا، فدل ذلك على أن الغبيرا محرمة بعينها كالخمر.

وقد روى أصحاب الحديث من العامة في كتبهم المشهورة أن عبدالله الاشجعي كان يكره الفقاع.

وقال أحمد بن حنبل: وكان ابن المبارك يكرهه.

وقال أحمد حدثنا أبوعبدالله المدائني قال: كان مالك بن أنس يكره الفقاع، ويكره أن يباع في الاسواق، وكان يزيد بن هارون يكرهه.

وقال أحمد: حدثنا عبدالجبار بن محمد الخطابي عن ضمرة قال: الغبيرا هي التي نهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عنها الفقاع.

وقال أبوهاشم الواسطي: الفقاع نبيذ الشعير، فإذا نش فهو خمر.

وقال زيد بن أسلم: الغبيرا التي نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عنها هي الاسكركة وقال أبوموسى: الاسكركة خمر الحبشة.

وإذا كانت هذه رواياتهم وأقوال شيوخهم ومتقدمي أصحاب حديثهم فما المانع لهم من تحريم الفقاع وهم يقبلون من أخبار الآحاد ما هو أضعف مما ذكرناه، وكيف يستحسنون الشناعة على الامامية في تحريم الفقاع، ومالك بن أنس وهو شيخ الفقهاء وأصحاب الحديث ينهى عنه وعن بيعه.

وكذلك ابن المبارك،

٢٠١

ويزيد بن هارون وهما شيخا أصحاب الحديث، ولولا العصبية وإتباع الهوى نعوذ بالله منهما.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بأن الخمر محرمة على لسان كل نبي وفي كل كتاب نزل، وأن تحريمها لم يكن متجددا، وخالف باقي الفقهاء في ذلك وذهبوا إلى أنها متجددة التحريم.

دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة فأنهم لا يختلفون فيما ذكرناه ولك أيضا أن تبني هذه المسألة على بعض المسائل المتقدمة التي فيها ظاهر الكتاب أو ما أشبهه، ونبين لك أن أحدا من المسلمين ما فرق بين المسألتين، وأن التفرقة بينهما خلاف الاجماع.

فان عورضنا بما يروونه من الاخبار الواردة في تجديد تحريم الخمر وذكر أسباد تحريمها فجوابنا عن ذلك أن جميع ما روي في تجديد تحريمها أخبار آحاد ضعيفة لا توجب علما ولا عملا ولا يترك ما ذكرناه من الادلة القاطعة بمثل هذه الاخبار.

فأما ما يدعيه اليهود والنصارى من تحليل أنبيائهم لها فكذب منهم عليهم كما كذبوا على أنبيائهم في كل شئ كذبهم المسلمون فيه، ولا حجة فيما يدعيه هؤلاء المبطلون المعروفون بالكذب.

(مسألة) وعند الامامية إذا إنقلبت الخمر خلا بنفسها أو بفعل آدمي إذا طرح فيها ما ينقلب فيه إلى الخل حلت.

وخالف الشافعي ومالك في ذلك وأبوحنيفة يوافق الامامية فيما حكيناه، إلا أنه يزيد عليهم فيقول فيمن ألقى خمرا في خل فغلب عليها حتى لا يوجد طعم الخمر أنه بذلك يحل، وعند الامامية أن ذلك لا يجوز، ومتى لم ينقلب الخمر إلى الخل لم يحل فكأنهم إنفردوا من أبي حنيفة بأنهم إمتنعوا مما أجازه على بعض الوجوه وإن وافقوه على انقلاب الخمر إلى الخل، فجاز لذلك ذكره هذه المسألة في الانفرادات، دليلنا بعد الاجماع المتردد أن التحريم إنما يتناول ما هو خمر وما إنقلب خلا فقد

٢٠٢

خرج من أن يكون خمرا، ولانه لا خلاف في إباحة الخل، وإسم الخل يتناول ما هو على صفة مخصوصة، ولا فرق بين أسباب حصوله عليها.

ويقال لاصحاب أبي حنيفة أي فرق بين غلبة الخل على الخمر في تحليلها وبين غلبة الماء عليها أو غيره من المايعات أو اجمادات حتى لا يوجد لها طعم ولا رائحة، فأن فرقوا بين الامرين بأن الخمر ينقلب إلى الخل ولا ينقلب إلى غيره من المايعات أو الجامدات.

قلنا: كلامنا فيها على الانقلاب.

والخمر إذا ألقيت في الخل الكثير فما إنقلبت في الحال إلى الخل بل عينها باقية.

وكذلك هي في الماء فما الفرق بين أن يلقى في ما ينقلب إليه وبين ما لا ينقلب إليه إذا كانت في الحال موجودة ولم تنقلب.

(مسألة) ومما يظن قبل التأمل إنفراد الامامية به القول بتحليل شرب أبوال الابل، وكلما أكل لحمه من البهائم أما للتداوي أو غيره، وقد وافق الامامية في ذلك مالك والثوري وزفر.

وقال محمد بن الحسن في البول خاصة مثل قولنا، وخالف في الروث، وقال أبوحنيفة وأبويوسف والشافعي: بول ما أكل لحمه نجس.

وروثه أيضا كنجاسة ذلك مما لا يؤكل لحمه.

والذي يدل على صحة مذهبنا بعد الاجماع المتردد أن الاصل في ما يؤكل لحمه أو يشرب لبنه في العقل الاباحة، وعلى من ذهب إلى الحظر دليل شرعي ولن يوجد ذلك في بول ما يؤكل لحمه، لانهم إنما يعتمدون على أخبار آحاد وقد بينا أن أخبار الآحاد إذا سلمت من المعارضات والقدح لا يعمل بها في الشريعة، ثم أخبارهم هذه معارضة بأخبار يرويها ثقاتهم ورجالهم تتضمن الاباحة، وسيجيئ الكلام في تفصيل هذه الجملة.

وأيضا فان بول ما يؤكل لحمه طاهر غير نجس، وكل من قال بطهارته

٢٠٣

جوز شربه، ولا أحد يذهب إلى طهارته والمنع من شربه.

والذي يدل على طهارته أن الاصل الطهارة والنجاسة هي التي يحتاج فيها إلى دليل شرعي، ومن طلب ذلك لم يجده.

ومما يجوز أن يعارض به مخالفونا في هذه المسألة ما يروونه عن البراء بن عازب عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: ما أكل لحمه فلا بأس ببوله.

وما يروونه أيضا عن حميد عن أنس أن قوما من عرينة قدموا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة فأستوخموها فانتفخت أجوا فهم، فبعثهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى لقاح الصدقة ليشربوا من أبوالها.

وأيضا فان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله طاف بالبيت راكبا على راحلته في جميع الروايات ويد الراحلة ورجلاها لا يخلو من بولها وروثها أيضا، هذا هو الاغلب الاظهر فلو كان ذلك نجسا لنزه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المسجد عنه.

فان قيل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا بأس به لا يدل على الطهارة وإنما يقتضي خفة حكمه عن غيره، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال مثل هذه اللفظة فيما لا شبهة في طهارته وإباحته، قلنا: لا يجوز أن نحمل هذه اللفظة إلا على الطهارة والاباحة، لان أهل الشريعة ما جرت عادتهم بأن يقولوا فيما حظره ثابت أنه لا بأس به، على أن بعض النجاسات قد تكون أخف حكما من بعض، ولا يقال فيه لا بأس، وإنما يجوز أن لا تدخل هذه اللفظة في المجمع على طهارته وإباحته، لان العادة جرت بدخولها فيما هو مباح طاهر على اختلاف فيه ودخول شبهة في حكمه.

فان قالوا في حديث العرنيين أنهعليه‌السلام إنما أباحهم شرب أبوال الابل في حال الضرورة وعلى سبيل التداوي كما تحل الميتة مع الضرورة، قلنا: لو كان في حال المرض يبيح الابوال لاباحها في أوقاتنا هذه، وأبوحنيفة يمنع من ذلك وإما يجيزه أبويوسف والشافعي، وإذا بطل إعتراض أبي حنيفة

٢٠٤

فالذي يبطل إعتراض أبي يوسف والشافعي وجهان: أحدهما أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لو كان أباح ذلك لضرورة لوقف عليه وبين إختصاصه بالضرورة، والوجه الثاني ما روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله أن الله لم يجعل شفاكم فيما حرم عليكم ولهذا الذي ذكرناه تأول قوله تعالى: (فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)، على أن المنافع هاهنا هي في المكاسب، فان قالوا: ما أبيح في حال الاضطرار ولم يتناوله هذا الخبر الذي رويتموه، لانه إنما يقتضي نفي الشفاء عما تحريمه ثابت، وما تدعو إليه الضرورة لا يكون حراما بل مباحا.

قلنا: الظاهر يقتضي نفي الشفاء عما حرم في سائر الاوقات، وتخفيف التحريم في حالة دون أخرى عدول عن الظاهر.

فان قيل: معنى الخبر أن شفاؤكم ليسبمقصور على المحرمات بل في المباحات لكم مندوحة، قلنا: هذا أيضا تخصيص للخبر وعدول عن ظاهره.

فان إحتج علينا مخالفونا في نجاسة البول بما يروونه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله: إنما يغسل الثوب من البول والدم والمني، وأنه عام في سائر الابوال وما يؤمر بغسله وجوبا لا يكون إلا نجسا، وما هو نجس لا يجوز شربه.

وبما يروونه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه مر بقبرين فقال: أنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما كان يمشي في النميمة، وأما الآخر فكان لا يستبري من البول، وهذا عام في جميع الابوال، وبما يروونه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله استبرؤا من البول، فان عامة عذاب القبر منه، فيقال لهم: قد مضى ان أخبار الآحاد ليست بحجة في الشريعة إذا خلت من المعارضات، ثم أخبارهم هذه معارضة بما يروونه من طرقهم وقد ذكره بعضهم.

وأما ما نرويه نحن من طرقنا مما لا يحصى كثرة، وإذا سلمنا هذه

٢٠٥

الاخبار ولم نعارضها بما يسقط الاحتجاج بها كان لنا أن نحمل الخبر الاول علما هو نجس من الابوال كبول الانسان وبول ما لا يؤكل لحمه، ووجب هذا التخصيص لمكان الادلة التي ذكرناها.

والشافعي لا يمكنه الاستدلال بهذا الخبر، لانه لا يوجب غسل المني، لانه عنده طاهر، ولا بد له أيضا من تخصيص لفظة البول، لانه(١) يرى أن بول الرضيع لا يجب غسله.

وأما أبوحنيفة فلا بد له من تخصيص أيضا، وحمله على الدم والبول الكثيرين، لانه لا يوجب غسل القليل منهما، لانه يرى أن بول الرضيع طاهر، ويعدل عن ظاهره أيضا في المني، لانه لا يوجب غسله، وإنما يوجب فركه، وقد أجمعنا كلنا على تخصيص هذا الخبر.

ويقال لهم في الخبر الثاني قد روي هذا الخبر على خلاف ما حكيتم لانه روي أنه كان لايتنزه من بوله.

وروي أيضا أنه كان لا يستبري من البول يختص ببوله لا بول غيره، وليس لهم أن يخالفوا في ذلك، فيقولون أن الاستبراء هو التباعد، وقد يلزمه التباعد والتنزه عن بوله وبول غيره، ولهذا يقال إستبرأت الامة إذا تباعدت عنها لتعرف براء‌ة رحمها، وذلك أن الاستبراء معتبر فيه بأصل وضع اللغة إذا كان في عرف الشرع قد إستقر على فائدة مخصوصة، فقد علمنا أن القائل إذا قال: فلان لا يستبري من البول أو إستبرأ من البول لا يفهم عنه إلا بوله دون بول غيره، على أن ظاهر الخبر لو كان عاما على ما رووه لوجب تخصيصه بالادلة التي ذكرناها على أن في هذا الخبر ما يقتضي الاختصاص ببول ما لا يؤكل لحمه، لانه تتضمن الوعيد وذكر العذاب.

____________________

(١) لانه لايرى خ ل.

٢٠٦

وعند من خالفنا أن مسائل الاجتهاد لا يستحق فيها الوعيد، فان قالوا لم يلحق الوعيد من حيث لم يتنزه فقط بل من حيث لم يتنزه عن البول مع إعتقاده نجاسته، ومن فعل ذلك يلحقه الوعيد لا محالة، قلنا: هذا عدول عن الظاهر، وبعد فهذا التأويل يسقط إستدلالكم بالخبر، لان تقدير الكلام على هذا التأويل أنه يعذب، لانه كان لا يتنزه عن البول مع إعتقاد نجاسته وهذا لا يدل على نجاسة كل بول، وإنما يدل على خطأ من أقدم على ما يعتقد قبحه ولم يجتنب ما يعتقد نجاسته، لان الفاعل كذلك في حكم من فعل القبيح، فأين دليلكم على نجاسة جميع الابوال وهو المقصود في المسألة على أن في الخبر اختلالا ظاهرا، لانه متضمن أنهما يعذبان وما يعذبان على كبير وذلك كالمتناقض، لان العذاب لا يكون إلا على الكبائر وما ليس بكبير فلا عذاب على فاعله عند من جعل في المعاصي كبائر وصغائر من غير إضافة، ولا يصح أيضا على مذهب القائلين بالارجاء، لانهم يعتقدون أن جميع المعاصي كبائر، وأنه يستحق العذاب على كل شي ء منها، ومن ذهب إلى هذا المذهب لاينفي اسم الكبير عن شئ من المعاصي، وإنما يقول على سبيل الاضافة هذه المعصية أصغر من تلك، وأما مع الافراد بالذكر، فالكل عنده كبائر.

وأما الخبر الاخير الذي تعلقوا به فكلامنا عليه كالكلام في الخبر الذي تقدمه بلا فصل فلا معنى لاعادته.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية أنه يجوز لبس الثوب الحرير إذا كان في خلله شئ من القطن أو الكتان وإن لم يكن غالبا، وخالف باقي الفقهاء في ذلك، وذهب أبوحنيفة وأصحابه إلى جواز لبس الحرير إذا كان سداه أو اللحمة من القطن أو الكتان ولم يجزه إذا كانت اللحمة أكثر.

وحكى الطحاوي عن الشافعي أنه أباح لبس قباء محشو بقز، قال لان القز باطن.

والذي يدل على صحة مذهبنا بعد الاجماع المتردد أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما نهى عن لبس الحرير، وهذا الاسم إنما يتناول ما كان محضا دون

٢٠٧

ما إختلط بغيره، والثوب الذي فيه قطن أو كتان ليس بحرير محض، فجاز لبسه والصلاة فيه.

وإذا ذهبوا إلى أن الثوب الذي لحمته قطن وسداه حرير يجوز لبسه، لانه ليس بحرير محض، وكذلك ما كان بعضه قطنا وإن لم يكن جميع اللحمة فان قيل: هذا يقتضي أنه لو كان في الثوب خيط واحد من قطن أو كتان جاز لبسه، قلنا: ظاهر النهي عن لبس الحرير المحض يقتضي ذلك إلا أن يمنع منه مانع غيره، والاولى أن يكون الخيط أو الخيطان غير معتد بهما ولا أثر لمثلهما، فأما إذا كان معتدا لمثله مثل أن يكون له نسبة إلى الثوب كخمس أو سدس أو عشر فأنه يخرجه من أن يكون محضا.

والعجب كله من قول الشافعي: في حشو القباء الحرير المحض الذي يتناوله بلا شبهة نهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأي تأثير لكون الحشو باطنا غير ظاهرا، ولا يرى أنه بطانة الجبة إذا كانت حريرا محضا لم يجز لبسها، وإن كانت البطانة لا تظهر للعين كظهور الظهارة هذا بعد شديد.

(مسألة) ومما كانت الامامية منفردة به أن جلود الميتة من جميع الحيوان لا تطهر بالدباغ، وقد وردت لهم رواية ضعيفة بجواز اتخاذ جلود الميتة ما لم يكن كلبا أو خنزيرا بعد الدباغ آنية، وإن كانت الصلاة فيها لا تجوز، والمعول على الاول.

وخالف الشيعة جميع الفقهاء إلا أحمد بن حنبل فقد حكى عنه أن الميتة لا تطهر بالدباغ، دليلنا بعد الاجماع المتردد قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة)، والتحريم يجب أن يتناول كل بعض من أبعاض الميتة حلته الحياة ثم فارقته، والجلد بهذه الصفة بعد الدباغ وقبله فيجب أن يحرم الانتفاع به بعد الدباغ، لان اسم الميتة يتناوله.

٢٠٨

ومما يجوز أن يذكر على سبيل المعارضة لهم ما رووه وسطروه في كتبهم عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله لا تنتفعوا من الميتة باهاب ولا عصب، وعموم هذا الخبر يقتضي تحريم الانتفاع بهذا بعد الدباغ.

وقول بعضهم أن اسم الاهاب يختص بالجلد قبل الدباغ ولا يستحقه بعده غلط مفحش، لان الاهاب إسم للجلد في الحالين وغير مختص بأحدهما.

ولو جاز أن يدعى في الاهاب إختصاص جاز أن يدعى في الجلد مثل ذلك، فان إعترضوا بما يروونه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد سئل عن جلود الميتة فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : دباغها طهورها.

وفي خبر آخر أيما إهاب دبغ فقد طهر كان جوابنا أن هذه أخبار آحاد لا يعمل بها في الشريعة، ثم بازائها ما يروونه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من النهي عن ذلك، وما رويناه من الاخبار التي لاتحصى في هذا المعنى، ولو لم يبطل هذين الخبرين إلا ظاهر القرآن لكفى، وقد يجوز أن يحمل الخبران على الخصوص وأن يريد بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيما إهاب دبغ فقد طهر المذكى دون الميت.

[مسائل البيوع والربا والصرف]

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية أن الخيار يثبت للمتبايعين في بيع الحيوان خاصة ثلاثة أيام وإن لم يشترط.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك وذهبوا إلى أن الحيوان كغيره لا يثبت فيه الخيار إلا بأن يشترط، دليلنا الاجماع المتردد.

ويمكن أيضا أن يكون الوجه في ثبوت هذا الخيار في الحيوان، خاصة أن العيوب فيه أخفى والتغابن فيه أقوى، ففسخ فيه ولم يفسخ في غيره.

وليس للمخالف أن يقول: كيف يثبت بين المتبايعين خيار من غير أن يشترطاه

٢٠٩

وذلك أنه إذاجاز أن يثبت خيار المجلس من غير اشتراط جاز أيضا أن يثبت الخيار الذي ذكرناه وإن لم يشرط.

(مسألة) ومما ظن إنفراد الامامية به وفيه موافق القول بأن للمتبايعين أن يشترطا من الخيار أكثر من ثلاثة أيام بعد أن يكون مدة محدودة، ووافقهم في ذلك ابن أبي ليلى ومحمد وأبويوسف والاوزاعي وجوزوا أن يكون الخيار شهرا أو أكثر كالاجل.

وقال مالك: يجوز على حسب ما تدعو الحاجة إليه في الوقوف على المبيع وتأمل حاله.

وحكى عن الحسن بن حي أنه قال: إذا اشترى الرجل الشئ فقال له البايع: اذهب فأنت فيه بالخيار فهو بالخيار أبدا حتى يقول: قد رضيت.

وذهب أبوحنيفة وزفر إلى أنه لا يجوز أن يشرط الخيار أكثر من ثلاث، فان فعل فسد البيع وهو قول الشافعي.

دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتردد.

وأيضا فأن خيار الشرط إنما وضع لتأمل حال المبيع، وقد تختلف أحوال تأمله في الطول والقصر فجاز أن يزيد على الثلاث كما جاز أن ينقص عنها، ولا يلزم على ذلك أن يثبت بلا انقطاع، لان ذلك نقيض الغرض بالبيع، فان اعترض المخالف بما يرويه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من أنه قال: الخيار ثلاثة أيام، فالجواب عن ذلك أن هذا خبر واحد، وقد بينا أن أخبار الآحاد لا يعمل عليها في الشريعة وبأزائه الاخبار الواردة بجواز الخيار أكثر من ثلاثة أيام، ولان قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله الخيار ثلاثة أيام لا يمنع من زيادة عليها، كما لم يمنع من نقصان عنها في البيوع، فإذا قيل زيادة خيار الشرط على الثلاثة غرر، ودخول الغرر في البيوع يفسدها، قلنا: وثبوته في الثلاثة أيضا غرر، لانه لا يدري في هذه المدة أيحصل له البيع أو لا يحصل، ومع ذلك فقد جاز البيع مع ثبوت هذا الغرر.

٢١٠

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول بجواز شراء العبد الآبق مع غيره، ولا يشتري وحده إلا إذا كان بحيث يقدر عليه المشتري.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك، وذهبوا إلى أنه لايجوز بيع الآبق على كل حال إلا ما روي عن عثمان البستي أنه قال: لا بأس ببيع الآبق والبعير الشارد وإن هلك فهو من مال المشتري، وهذا كالموافقة للامامية، إلا أنه لم يشترط أن يكون معه في الصفقة غيره كما شرطت الامامية.

والدليل على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتكرر، ومعول مخالفينا في منع بيعه على أنه بيع غرر، وأن نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن بيع الغرر، وربما عولوا على أنه مبيع غير مقدور على تسليمه فلا يصح بيعه كالسمك في ا لماء والطير في الهواء، وهذا ليس بصحيح، لان هذا البيع يخرجه من أن يكون غررا لانضمام غيره إليه، كبيع الثمرة الموجودة بعضها، والمتوقع وجود باقيها، وهذا هو الجواب عن قياسهم، وإن كنا قد بينا أن القياس لا مدخل له في الشريعة، لانه لا يمكن تسليم جميع الثمرة التي وقع عليها العقد في وقت الصفقة وإن كان العقد جايزا.

فان قيل: نحن نخالف في ذلك، ولا نجوز أن نبيع ثمرة معدومة مع موجودة، قلنا: أما مالك فأنه يوافقنا على هذا الموضع، وحجتنا على من خالفنا فيه أنه لا خلاف في أن طلع النخلة التي لم يؤبر داخل في المبيع معها، وإن كان في الحال معدوما فكيف يجوز أن يدعي أن بيع معدوم وموجود لا يجوز.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بتحريم بيع الفقاع وابتياعه، وكل الفقهاء يخالفون في ذلك، وقد روي عن مالك كراهية بيع الفقاع، دليلنا الاجماع المتردد.

وأيضا إن شئت تبنى هذه المسألة على تحريمه، فنقول: قد ثبت

٢١١

حظر شربه، وكل من حظر شربه حظر إبتياعه وبيعه، والتفرقة بين الامرين خروج عن إجماع الامة.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية أن من إبتاع شيئا معينا بثمن معين ولم يقبضه ولا قبض ثمنه وفارقه البايع بعد العقد ليمضي وينقده الثمن فالمتباع أحق به ما بينه وبين ثلاثة أيام، فان مضت الثلاثة أيام ولم يحضر المبتاع الثمن كان البايع بالخيار إن شاء فسخ البيع وباعه من غيره، وإن شاء طالبه بالثمن على التعجيل والوفاء، وليس للمبتاع على البايع في ذلك خيار فان هلك المبيع في مدة الايام الثلاثة كان من مال المبتاع دون البايع فان هلك بعد الثلاثة أيام كان من مال البايع.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يقل أحد منهم بالترتيب الذي رتبناه.

دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتردد، وإنما قلنا: أن المبتاع أحق به ما بينه وبين ثلاثة أيام، لانه بالابتياع وإشتراط أن ينقد الثمن الذي مضى في إحضاره قد ملك وعليه تعجيل الثمن، فإذا لم يحضره في هذه المدة المضروبة فكأنه رجع عن الابتياع ولم يف بالشرط الذي شرطه من تعجيل الثمن، وصار البايع بالخيار، إن شاء فسخ، وإن شاء طالب بالثمن وإنما جعلنا المبيع إذا هلك في الايام الثلاثة من مال المبتاع، لان العقد قد ثبت بينهما.

وقد حكى عن مالك أنه كان يقول في الدابة إذا حبسها البايع حتى يقبض الثمن فهلكت فهي من مال المشتري وذلك إن كان بيعا على النقد، فان كان على غير النقد فهو من مال البايع وهو موافق للامامية من بعض الوجوه، وقد قلنا أنه إن هلك بعد الثلاثة أيام كان من مال البايع لانه بتأخير الثمن عنه قد صار أملك به وأحق بالتصرف فيه فأن هلك فمن ماله.

٢١٢

(مسأله) ومما إنفردت به الامامية القول: بأن من إبتاع شيئا وشرط الخيار ولم يسم وقتا ولا أجلا مخصوصا بل أطلقه إطلاقا فان له الخيار ما بينه وبين ثلاثة أيام ثم لا خيار له بعد ذلك، وباقي الفقهاء يخالفونهم في ذلك لان أبا حنيفة يذهب إلى أنه إذا شرط الخيار إلى غير مدة معلومة فالبيع فاسد فان أجازه في الثلاثة جاز عند أبي حنيفة خاصة، وإن لم يجزه حتى مضت الثلاثة أيام لم يكن له أن يجيزه.

وقال أبويوسف ومحمد: له أن يجيز بعد الثلاثة، وقال مالك إن لم يجعل للخيار وقتا معلوما جاز وجعل له من الخيار مثل ما يكون في تلك الساعة، وقال الحسن بن صالح بن حي: إذا لم يعين أجل الخيار كان له الخيار أبدا، دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتكرر.

ويمكن أن نقول الوجه مع إطلاق الخيار في صرفه إلى ثلاثة أيام أن هذه المدة هي المعهودة المعروفة في الشريعة، لان يصرف الخيار فيها، والكلام إذا أطلق وجب حمله على المعهود المألوف فيه.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بأن من إبتاع أمة فوجد بها عيبا ما عرفه من قبل بعد أن وطئها لم يكن له ردها، وكان له أرش العيب، إلا أن يكون عيبها من حبل فله ردها مع الوطي، ويرد معها إذا وطئها نصف عشر قيمتها.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فذهب الشافعي إلى أنه إذا إبتاع أمة ثيبا فوطئها ثم أصاب بها عيبا فله ردها ولا مهر عليه.

وقال ابن أبي ليلى: يردها بالعيب ويرد معها المهر لاجل الوطي، وقد روي ذلك عن عمر، وذهب الزهري والثوري وأبوحنيفة وأصحابه إلى أنه لا يملك الرد بالعيب، بل يمسكها ويأخذ الارش، وإنفراد الامامية بالقول الذي ذكرناه ظاهر.

دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتردد وليس يجري وطي الثيب

٢١٣

مجرى وطي البكر، لان وطى البكر فيه إتلاف لجزء منها، وليس كذلك الثيب، ويمكن أن يكون الفرق بين الحمل وغيره من العيوب أن الحمل أفحش العيوب وأعظمها، فجاز أن يتغلظ حكمه على باقي العيوب.

(مسألة) ومما ظن إنفراد الامامية به وقد وافقها فيه غيرها القول بجواز بيع الانسان الشاة أو البعير ويشترط رأسه أو جلده أو عضوا من أعضائه، وروى ابن وهب عن مالك القول بجواز أن يستثنى جلدها وهو موافقة للامامية وروى ابن القاسم عن مالك أنه إذا باع شاة فاستثنى منها ثلثا أو ربعا أو نصفا أو فخذا أو كبدا أو صوفا أو شعرا أو كراعا فانه إن إستثنى ثلثا أو ربعا أو نصفا فلا بأس بذلك، وإن إستثنى جلدا أو رأسا، فان كان مسافرا فلا بأس به، وإن كان حاضرا فلا خير فيه، وهذه الرواية أيضا موافقة للامامية في السفر فلسنا نعرف فرقا بين السفر والحضر في هذا الموضع.

وقال أبوحنيفة وأصحابه: لا يجوز ذلك البتة وهو قول الثوري.

وقال الشافعي: لا يجوز أن يبيع الرجل الشاة ويستثني منها جلدا ولا غيره في سفر ولا حضر، دليلنا على ما ذهبنا إليه الاجماع المتردد، ولان هذا العقد يقع عليه اسم البيع باستثنائه فيجب أن يدخل في عموم قوله تعالى: (وأحل الله البيع) وليس يمكن أن يدعى في ذلك جهالة فان الاعضاء متميزة منفردة من غيرها وليس يجري مجرى غيرهما مما يقع فيه الاشتراك والاختلاط.

(مسألة) في الربا: ومما إنفردت به الامامية القول: بأنه لا ربا بين الولد ووالده، ولا بين الزوج وزوجته، ولا بين الذمي والمسلم ولا بين العبد ومولاه، وخالف باقي الفقهاء في ذلك فأثبتوا الربا بين كل من عددناه، وقد كتبت قديما في جواب مسائل وردت من الموصل تأولت الاخبار التي ترويها أصحابنا المتضمنة لنفي الربا بين من ذكرناه على أن المراد بذلك وإن كان لفظ الخبر بمعنى الامر كأنه قال: يجب أن لا يقع بين من ذكرناه ربا،

٢١٤

كما قال تعالى: (ومن دخله كان آمنا)، وكقوله تعالى: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).

وقولهعليه‌السلام : العارية مردودة والزعيم غارم ومعنى ذلك كله معنى الامر أو النهي وإن كان بلفظ الخبر، وأما العبد وسيده فلا شبهة في نفي الربا بينهما، لان العبد لا يملك شيئا، والمال الذي في يده مال لسيده، ولا يدخل الربا بين الانسان ونفسه، ولهذا ذهب أصحابنا إلى أن العبد إذا كان لمولاه شريك فيه حرم الربا بينه وبينه.

وإعتمدنا في نصرة هذا المذهب على عموم ظاهر القرآن، وأن الله تعالى حرم الربا على كل متعاقدين، وقوله تعالى: (ولا تأكلوا الربا)، وهذا الظاهر يدخل تحته الوالد وولده، والزوج والزوجة.

ثم لما تأملت ذلك رجعت عن هذا المذهب لاني وجدت أصحابنا مجمعين على نفي الربا بين من ذكرناه وغير مختلفين فيه في وقت من الاوقات، وإجماع هذه الطائفة قد ثبت أنه حجة، ويخص بمثله ظاهر القرآن، والصحيح نفي الربا بين من ذكرناه.

وإذا كان الربا حكما شرعيا جاز أن يثبت في موضع دون آخر كما يثبت في جنس دون جنس وعلى وجه دون وجه، فإذا دلت الادلة على تخصيص من ذكرناه وجب القول بموجب الدليل.

ومما يمكن أن يعارض ظاهر من ظواهر الكتاب أن الله تعالى قد أمر بالاحسان والانعام، مضافا إلى ما دلت عليه العقول من ذلك، وحد الاحسان إيصال النفع على وجه الاستحقاق إلى الغير مع القصد إلى كونه إحسانا، ومعنى الاحسان ثابت فيمن أخذ من غيره درهما بدرهمين، لان من أعطى الكثير بالقليل وقصد به إلى نفعه فيه فهو محسن إليه، وإنما أخرجنا من عدا من إستثنيناه من الوالد وولده والزوج والزوجة بدليل قاهر تركنا له الظواهر

٢١٥

وهذا ليس مع المخالف في المسائل التي خالفنا فيها، فظاهر أمر الله تعالى بالاحسان في القرآن في مواضع كثيرة كقوله: (وأحسن كما أحسن الله إليك) وقوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والاحسان) معارض للآيات التي ظاهرها عام في تحريم الربا، فإذا قالوا بتخصيص آيات الاحسان لاجل آيات الربا، قلنا: ما الفرق بينكم وبين من خصص آيات الربا بعموم آيات الامر بالاحسان وهذه طريقة إذا سلكت كانت قوية.

(مسألة) في الصرف: ومما إنفردت به الامامية القول بجواز إبتياع الانسان من غيره متاعا أو غيره نقدا أو نسية معا على أن يسلف البايع شيئا أو يقرضه مالا إلى أجل أو يستقرض منه، وأنكر ذلك باقي الفقهاء وحظروه ودليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتردد، ولان الله تعالى أحل البيع بالاطلاق، وهذا البيع الذي أشرنا إليه داخل في جملة الظاهر، والقرض أيضا جايز، وإشتراطه في عقد البيع غير مفسد له ولسنا ندري من أي جهة حظر المخالفون ذلك وإنما يرجعون إلى الظنون و الحسبان التي لا يرجع في الشرع إلى مثلها، ولا خلاف بينهم في أنه لو لم يشترط القرض عند عقد البيع، ثم رأى بعد ذلك أن يقرضه ذلك كان جائزا، وأي فرق بين أن يشرطه أو لا يشرطه.

(مسألة) فيه أيضا: ومما إنفردت به الامامية القول: بأنه يجوز أن يكون للانسان على غيره مال مؤجل فيتفقان على تعجيله بأن ينقصه من مبلغه ولا يشبه ذلك تأخير الاموال عن آجالها بزيادة فيها لان ذلك محظور لا محالة وخالفهم باقي الفقهاء في ذلك وسووا بين الامرين في التحريم، دليلنا على ما ذهبنا إليه الاجماع المتقدم ذكره.

وأيضا فان تصرف الانسان فيما يملكه مباح بالعقل والشرع، وقد علمنا أن الدين المؤجل له مالك يصح تصرفه فيه فيجوز أن ينقص منه

٢١٦

كما يجوز له الابراء منه ومن عليه أيضا هذا الدين هو مالك للتصرف في ماله فله أن يقدمه، كما له أن يؤخره إلى أجله، ولا خلاف في أنه لو قبض بعضه وأبرء‌ه من الباقي من غير إشتراط لكان ذلك جائزا، وأي فرق في جواز ذلك بين الاشتراط ونفيه.

[مسائل الشفعة]

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية إثباتهم حق الشفعة في كل شئ من المبيعات من عقار وضيعة ومتاع وعروض وحيوان كان(١) ذلك مما يحتمل القسمة أو لا يحتملها، وخالف باقي الفقهاء في ذلك وأجمعوا على أنها لا تجب إلا في العقارات والارضين دون العروض والامتعة والحيوان، وقد روي عن مالك خاصة أنه قال: إذا كان طعام أو بر بين شريكين فباع أحدهما حقه أن لشريكه الشفعة، ثم اختلف أبوحنيفة والشافعي فقال أبوحنيفة تجب الشفعة فيما يحتمل القسمة، ولا ضرر في قسمته وفيما لا يحتملها، وأسقط الشافعي الشفعة عما لا يحتمل القسمة ويلحق الضرر بقسمته، دليلنا على صحة مذهبنا إجماع الامامية على ذلك فانهم لا يختلفون فيه، ويمكن أن يعارض المخالفون في هذه المسألة بكل خبر.

وورد عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في إيجاب الشفعة مطلقا كروايتهم عنهعليه‌السلام أنه قال: الشفعة فيما لم يقسم.

وأيضا ما رووه عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله من قول الشفعة في كل شئ والاخبار في ذلك كثيرة جدا، ومما يمكن أن يعارضوا به أن الشفعة عندكم

____________________

(١) كل ذلك مما يحتمل القسمة خ ل.

٢١٧

إنما وجبت لازالة الضرر عن الشفيع، وهذا المعنى موجود في جميع المبيعات من الامتعة والحيوان، فإذا قالوا: حق الشفعة إنما يجب خوفا من الضرر على طريق الدوام، وهذا المعنى لا يثبت إلا في الارضين والعقارات دون العروض، قلنا: في الامتعة ما يبقى على وجه الدهر مثل بقاء العقارات والارضين كالياقوت وما أشبههه من الحجارة والحديد فيدوم الاستضرار بالشركة فيه وأنتم لا توجبون فيه الشفعة.

وبعد فان إزالة الضرر الدائم أو المنقطع واجبة في العقل والشرع، وليس وجوب إزالتها مختصا بالمستمر دون المنقطع، فلوكان التأذي بالشركة في الفروض منقطعا على ما إدعيتم لكانت إزالته واجبة على كل حال، فأما علة الشافعي في وجوب الشفعة بما على الشريك من الضرر بأجرة القاسم متى طلب القسمة فينقض بالعروض، لان هذا المعنى ثابت فيها، وربما ضم إلى هذه العلة أن القسمة تؤدي إلى الضرر من حيث يحتاج الشريك إلى أن يحدث ميزابا في حصته ثانيا بعد أن كان واحدا.

وكذلك البالوعة وما أشبهها وهذا ليس بشئ، لان الشفعة قد تجب فيما لا يحتاج فيه إلى شئ من ذلك، كالعراص الخالية من أبنية والحصص التي متى قسمت كان في كل واحد منهما كل ما يحتاج إليه من ميزاب وبالوعة وغير ذلك فبطلت هذه العلة أيضا.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بأن الشفعة إنما تجب إذا كانت الشركة بين إثنين، وإذا زاد العدد على الاثنين فلا شفعة، وخالف باقي الفقهاء في ذلك وأوجبوا الشفعة بين الشركاء قل أو كثر عددهم، دليلنا على ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة.

وأيضا فان حق الشفعة حكم شرعي والاصل إنتفاؤه، وإنما أوجبناه بين الشريكين لاجماع الامة فانتقلنا بهذا الاجماع عن حكم الاصل ولم ينقلنا فيما زاد على الاثنين بأقل فيجب أن يكون في ذلك على حكم الاصل، فان قيل

٢١٨

أليس قد وردت رواياتكم التي تختصون بها عن أئمتكمعليهم‌السلام أن الشفعة تجب على عدد الرجال، وهذا يدل على أن الشفعة تثبت فيما زاد على الاثنين وروي عن أبي عبداللهعليه‌السلام أنه قال قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة بين الشركاء في الارضين والمساكن، ولفظ الشركاء يقع على أكثر من إثنين، قلنا: هذه كلها أخبار آحاد وما لا يوجب علما من الاخبار ليس بحجة ولا تثبت به الاحكام الشرعية على ما بيناه في غير موضع، ويمكن تأويل ظواهر هذه الاخبار بأن يحمل قوله الشفعة على عدد الرجال أنها إنما تجب بالشركة وسواء زادت سهام أحد الشريكين على سهام الآخر أو نقصت فالمعتبر إنما هو بالشركاء لا بمبالغ سهامهم.

ويحمل لفظ الرجال على الشركاء في الاملاك الكثيرة لا في ملك واحد، ويجوز حمل هذه اللفظة على الشريكين في ملك واحد على أحد وجهين: أما على قول من يجعل أقل الجمع الاثنين أو على سبيل المجاز كما قال تعالى (فان كان له إخوة).

وتأويل الخبر الثاني داخل فيما ذكرناه، فأما الخبر الذي وجد في روايات أصحابنا أنه إذا سمح بعض الشركاء حقوقهم من الشفعة فأن لمن لم يسمح بحقه على قدر حقه فيمكن أن يكون تأويله أن الوارث لحق الشفعة إذا كانوا جماعة فأن الشفعة عندنا تورث متى سمح بعضهم بحقه كانت المطالبة لمن لم يسمح، وهذا لا يدل على أن الشفعة في الاصل تجب لاكثر من شريكين فان قيل: قد إدعيتم إجماع الامامية وابن الجنيد يخالف في هذه المسألة ويوجب الشفعة مع زيادة الشركاء على إثنين.

وأبوجعفر بن بابويه يوجب الشفعة في العقار فيما زاد على إثنين، وإنما يعتبر الاثنين في الحيوان خاصة على ما حكيتموه عنه في جواب مسائل أهل الموصل التسع الفقهية

٢١٩

قلنا: إجماع الامامية قد تقدم الرجلين فلا إعتبار بخلافهما، وقد بينا في مواضع من كتبنا أن خلاف الامامية أن تعين في واحد أو جماعة معروفة مشار إليها لم يقع به إعتبار.

(مسألة) ومما يظن إعتبار الامامية به القول: بأنه لا شفعة لكافر على مسلم، وأكثر الفقهاء يوجبون الشفعة للكافر، ولا يفرقون بينه وبين المسلم.

وقد حكي عن ابن حي أنه قال: لا شفعة للذمي في أمصار المسلمين التي إبتدأها المسلمون، لانهم لا يجوز له سكناها ولا تملكها ولهم الشفعة في القرى.

وإنفراد قول الامامية عن قول ابن حي باق، إلا أنه قد حكى عن الشعبي وأحمد بن حنبل أنهما أسقطا شفعة الذمي على المسلم، وهذه منهما موافقة للامامية.

والذي يدل على صحة مذهبنا بعد الاجماع المتكرر ذكره قوله تعالى: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة)، ومعلوم أنه تعالى إنما أراد لا يستوون في الاحكام، والظاهر يقتضي العموم إلا ما أخرجه دليل قاهر.

فان قيل: أراد في النعيم والعذاب بدلالة قوله: (أصحاب الجنة هم الفائزون) قلنا: قد بينا في الكلام على أصول الفقه أن تخصيص إحدى الجملتين لايقتضي تخصيص الاخرى وإن كانت لها متعقبة.

ومما يمكن الاستدلال به أن الاصل إنتفاء الشفعة عن المبيعات، لان حكم الشفعة حكم شرعي، ولما يثبت حق الشفعة للمسلم على الكافر والكفار بعضهم على بعض أثبتناه بدليله وبقي الباقي على حكم الاصل.

ومما يمكن أن نعارض به مخالفينا في هذه المسألة ما رووه ووجد في كتبهم عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله: لا شفعة لكافر، وفي خبر آخر لا شفعة لذمي على مسلم.

٢٢٠