• البداية
  • السابق
  • 315 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32036 / تحميل: 6186
الحجم الحجم الحجم
الانتصار

الانتصار

مؤلف:
العربية

(مسألة) ومما ظن إنفراد الامامية به أن حق الشفعة لا يسقط إلا بأن يصرح الشفيع بأسقاط حقه، ولايكون مسقطا بكفه في حال علمه عن الطلب، وهذا القول أحد أقوال الشافعي، لان له أقوالا أربعة: أحدها إن طلب الشفعة يجب على الفور، وثانيها أنه قد يثبت إلى ثلاثة أيام، وثالثها أنه يجب على التأبيد إلى أن يصرح بالعفو، وهذا وفاق للشيعة، ورابعها أنه ثابت إلى أن يعفو أو يعرض بالعفو.

وحكى أيضا عن شريك أنه قال: إذا علم فلم يطلب فهو أيضا على شفعته، وهذا أيضا موافقة للشيعة الامامية وباقي الفقهاء على خلاف ذلك، لان أبا حنيفة وأصحابه وابن حي يذهبون إلى أنه متى لم يطلبها مكانه بطلت شفعته، وقال الحسن بن زياد: إذا شهد أنه على شفعته ولم يقم بها ما بينه وبين أن تصل إلى القاضي فقد أبطل شفعته.

قال الحسن: وأما أبوحنيفة فقال ثلاثة أيام.

وروى محمد عن أبي حنيفة أنه على شفعته أبدا بعد الشهادة.

وقال محمد إذا تركها بعد الطلب شهرا بطلت وقال أبويوسف إذا أمكنه أن يطلب عند القاضي أو يأخذه فلم يفعل بطلت وقال ابن أبي ليلى إذا علم بالبيع فهو بالخيار ثلاثا.

وقال الشعبي يوما.

وقال البستي ثلاثا.

وقال مالك إذا علم بالشراء فلم يطلب حتى طال بطلت، والسنة ليست بكثيرة.

وله أن يأخذ وهذا في الحاضر، فأما الغايب فلا تبطل شفعته إذا لم يطلبها.

قال الثوري إذا لم يطلبها أياما بطلت شفعته، وذكر المعافى، عنه ثلاثة أيام.

وقال الاوزاعى والليث وعبدالله بن الحسن والشافعي إذا لم يطلب حتى علم بطلت.

وقد تقدم بياننا أقوال الشافعي المختلفة في هذه المسألة، وإن كان هذا القول الذي ذكرناه آنفا أظهرها.

وقال الشعبي: من بيعت شفعته وهو شاهد ولم ينكره فلا شفعة له.

٢٢١

والذي يدل على صحة مذهبنا الاجماع المتكرر، ويمكن أن يقوى ذلك بأن الحقوق في أصول الشريعة، وفي العقول أيضا لا تبطل بالامساك عن طلبها، وكيف خرج حق الشفعة عن أصول الاحكام العقلية والشرعية، ألا ترى أن من لم يطلب وديعته أو لم يطالب بدينه فان حقه ثابت لا يبطل بالتغافل عن الطلب، فإذا قالوا هذه حقوق غير متجددة وحق الشفعة متجددة قلنا: نفرضه متجددا، لان من حل له أجل دين فقد تجدد له حق ما كان مستمرا، ومع ذلك لو أخر المطالبة لم يبطل الحق.

وكذلك من مات وله قريب وإستحق في الحال ميراثه وعلم بذلك ثم لم يطالب بالميراث من هو في يده لم يبطل الحق، ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى فان قيل: هذا الذي تذهبون إليه يؤدي إلى الاجحاف بالمشتري، لان المدة إذا تطاولت لم يتمكن المشتري من التصرف في المبيع وهدمه وبنيانه وتغييره لان الشفيع إذا طالبه بالشفعة أمره بإزالة ذلك، وهذا ضرر داخل على المشتري قلنا: يمكن أن يحترز المشتري من هذا الضرر بأن يعرض المبيع على الشفيع ويبذل تسليمه إليه فهو بين أمرين إما أن يتسلم أو يترك بشفعته فيزول الضرر عن المشتري بذلك، وإذا فرط فيما ذكرناه وتصرف من غير أن يفعل ما أشرنا إليه فهو المدخل للضرر على نفسه.

فان قيل: كيف تدعون أنه ليس في الاصول الشرعية حق يجب على الفور ويسقطه بالتأخير، وحق الرد بالعيب يجب على الفور ومتى تأخر بطل.

قلنا: المعنى في حق الرد بالعيب أنه ربما كان في تأخيره إبطال له من حيث تخفى إمارات العيب ولا تظهر فتقع الشبهة في وجود العيب فلزمت المبادرة إلى الرد لهذا المعنى وذلك غير موجود في حق الشفعة لانه يجب بعقد البيع وذلك مما لا يجوز أن يتغير ولا يخفى في وقت ويظهر في آخر.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بأن لامام المسلمين وخلفائه

٢٢٢

المطالبة بشفعة الوقوف التي ينظرون فيها على المساكين أوعلى المساجد ومصالح المسلمين، وكذلك كل ناظر بحق في وقف من وصي وولي أن يطالب بشفعته وخالف باقي الفقهاء في ذلك، والدلالة على صحة مذهبنا الاجماع المتردد.

ويمكن أن يقال للمخالف على سبيل المعارضة له الشفعة إذا كانت إنما وجبت لدفع الضرر فأولى الاشياء بأن يدفع عنها الضرر حقوق الفقراء ووجوه القربات، فان قالوا: الوقوف لا مالك لها فيدفع الضرر عنه بالمطالبة بشفعته، قلنا: إذا سلم أنه لا مالك لها فها هنا منتفع بها ومستضر لما يعود إلى المشاركة فيها وهم أهل الوقوف ومصالح المسلمين إنما يجب دفع الضرر عنها مثل ما يجب من دفع الضرر عن الآدميين.

[مسائل شتى]

(من الهبات والاجارات والوقوف والشركة والرهن وغير ذلك) (مسألة) في الهبة: ومما إنفردت به الامامية القول بأن من وهب شيئا لغيره غير قاصد بثواب الله تعالى ووجهه جاز له الرجوع فيه ما لم يتعوض عنه ولا فرق في ذلك بين الاجنبي وذي الرحم.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فقال أبوحنيفة وأصحابه: إذا وهب لذي الرحم المحرم لم يرجع.

وإن وهب لامرأته لم يرجع، وكذلك المرأة لزوجها، وإن وهب لاجنبي رجع إن شاء ما لم يثب عنها أو يزيد الشئ في نفسه.

وذكر هشام عن محمد عن أبي حنيفة إذا علم الموهوب له المملوك القرآن أو الخبر فله أن يرجع فيه.

وقال محمد لا يرجع، قال محمد وكذلك لو كان كافرا فأسلم أو كان عليه دين فأداه الموهوب له.

٢٢٣

وقال الحسن عن زفر ان علمها الموهوب له القرآن أو الكتابة أو المشط فحذقت ذلك فله أن يرجع فيها.

وقال أبو يوسف لا يرجع.

وقال عثمان البستي في الرجل يعطي الرجل العطية لا يبين أنه متقرب مستغزر فعطيته جائزة وليس له أن يرجع فيها وقال مالك: من نحل ولدا له نحلا أو أعطاه عطاء ليس بصدقة فله أن يقبضها إن شاء ما لم يستحدث الولد دينا من أجل العطاء، فإذا صار عليه الديون لم يكن للوالد أن يقبض من ذلك شيئا.

وكذلك إذا زوج الفتاة بذلك المال أو كانت جاريته فتزوجت بذلك فليس للاب أن يقبض من ذلك شيئا.

وقال مالك: والامر المجمع عليه عندنا في بلدنا أن الهبة إذا تغيرت عند الموهوب له بزيادة أو نقصان فان على الموهوب له أن يعطي الواهب قيمتها يوم قبضها.

وقال مالك في الواهب يكون لورثته مثل ما كان له من الثواب إن إتبعوه وروى الثوري عن ابن أبي ليلى قال: للواهب أن يرجع في هبته دون القاضي وعند أصحاب أبي حنيفة لايرجع إلا بنقصانها ويرد الموهوب له.

وقال الثوري كقول أصحاب أبي حنيفة في جميع ذلك.

وقال الاوزاعي: لا يرجع فيما وهب لمولى ولا تابع له ولا لذي رحم ولا لامرأته ولا السلطان لمن دونه ويرجع فيما سوى ذلك فان كانت الهبة قد نمت وزادت عند أصحابها فقيمتها يوم وهبها وترجع المرأة فيما وهبت لزوجها.

وقال الحسن بن حي: إذا لم يرد بالهبة ثواب الدنيا لم يرجع إذا قبض ولا يرجع بما وهب لذي رحم محرم.

فإذا وهب لغير ذي رحم محرم ويريد بها ثواب الدنيا فله أن يرجع فيها.

وقال الليث: إذا وهب للثواب رجع فيها مثل قول مالك، ولا ترجع المرأة فيما وهبت لزوجها إلا أن يكون سألها أن تهب له ثم طلقها مكانه أو بعد ذلك بيوم أو نحوه.

وقال الشافعي: لا يرجع في الهبة إلا الوالد فيما وهبه لولده، وقال

٢٢٤

داود بن علي: كل من وهب شيئا لغيره لم يجز الرجوع فيه، ولا فرق في ذلك بين البعيد والقريب.

دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه بعد الاجماع المتردد إنا قد علمنا بإجماع من الامة ولا إعتبار بداود، فان الاجماع قد تقدمه وسبقه بأن عقد الهبة وإن قارنه القبض غير مانع من الرجوع وإنما إختلفوا في موضع جواز الرجوع فذهب قوم إلى أن الرجوع إنما يجوز مع ذوي الارحام دون ذوي الاجانب وذهب الآخرون إلى أنه الاجانب دون ذوي الارحام، وذهبت الامامية إلى أنه يجوز في المواضع كلها فقد بان بالاتفاق على أن قبض الهبة غير مانع من الرجوع على كل حال.

فمن إدعى أنه مانع من الرجوع في موضع دون آخر فعليه الدليل الشرعي على إختصاص ذلك الموضع بهذا الحكم ولا دليل لمن خصص موضعا دون آخر، لان تعويلهم على أخبار آحاد وقياس يقتضي الظن ولا معول على مثله في ثبوت الاحكام الشرعية فثبت بهذا الاعتبار جواز الرجوع في المواضع كلها، وأن ليس بعضها بذلك أحق من بعض، فأن قالوا: لو جاز الرجوع في الهبة لجاز في البيع وفي سائر العقود.

قلنا: سائر العقود ما أجمعت عليه الامة على جواز الرجوع فيها على الجملة، وإنما إختلفا في التفصيل وعقد الهبة قد بينا الاجماع على سبيل الجملة على جواز الرجوع فيه وإنما إختلفوا في مواضعه.

فان إحتج المخالف بما يروونه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله: الراجع في هبته كالراجع في قيئه، وبلفظ آخر الراجع في هبته كالكلب يعود في قيئه.

فالجواب عن ذلك أن هذه كلها أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ولا يثبت بمثلها الاحكام.

وهذا الخبر معارض بأخبار كثيرة يروونها عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جواز الرجوع في الهبة، وإذا سلم هذا الخبر على ما فيه فالمراد به الاستقذار

٢٢٥

لا التحريم، لان ذلك مستقذر مستهجن، ألا ترى أن الكلب لا تحريم عليه فأما الخبر الآخر الذي يتضمن ذكر الكلب فهو وإن كان مطلقا يرجع إلى الكلب لان الالف واللام يحملان على العهد، وليس هاهنا جنس يعهد منه الرجوع في قيئه إلا الكلب فلا فرق بين أن يقول كالعايد في قيئه وبين أن يقول كالكلب يعود في قيئه، على أنا لو حملنا لفظة العايد على الجنس والعموم لدخل فيه الكلب لا محالة فلا يجوز حمل العود على التحريم، لان ذلك لا يتأتى في الكلب فلا بد من حمله على الاستقذار والاستهجان وهو متأت في كل عايد فان قيل: كيف يجوز أن يجتمع جواز الرجوع في الهبة مع القول بأنها تملك بالقبض، قلنا: غير ممتنع إجتماع ذلك، كما أن المبيع إذا شرط فيه الخيار مدة معلومة كان مملوكا بالعقد، وإن كان حق الرجوع فيه ثابتا فان قالوا: الملك مع ثبوت حق الخيار ناقص أو غير مستقر، قلنا: نحن نقول في ملك الموهوب مع ثبوت حق الرجوع مثل ما يقولونه حرفا بحرف.

(مسألة) في الهبة أيضا: ومما إنفردت به الامامية ان من وهب شيئا في مرضه الذي مات فيه إذا كان عاقلا مميزا تصح هبته ولا يكون من ثلثه، بل يكون من صلب ماله.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك، وذهبوا إلى أن الهبة في مرض الموت محسوبة من الثلث، دليلنا الاجماع المتردد، ولان تصرف العاقل في ماله جايز وما تعلق للورثة بماله وهو حي حق فهبته جائزة، ولذلك صح بلا خلاف نفقة جميع ماله على نفسه في مأكل ومشرب.

فان قيل: أي فرق بين الهبة في المرض والوصية في المرض، قلنا: الهبة حكمها منجز في الحال وما تعلق في حال الحيوة حق لوارث المال والمورث، والوصية حكمها موقوف على الوفاة، وبعد الوفاة يتعلق حق الورثة بمال المورث فوجب أن تكون محسوبة في الثلث.

٢٢٦

(مسألة) في الاجارات: ومما إنفردت به الامامية بأن الصناع كالقصار والخياط ومن أشبههما ضامنون للمتاع الذي يسلم إليهم إلا أن يظهر هلاكه ويشهر بما لا يمكن دفعه أن يقوم بينة بذلك وهم أيضا ضامنون لما جنته أيديهم على المتاع بتعد وغير تعد، وسواء كان الصانع مشتركا أو غير مشترك ومعنى الاشتراك هو أن يستأجر الاجير على عمل في الذمة فيكون لكل أحد أن يستأجره ولا يختص به بعضهم دون بعض، ومعنى الاجير المنفرد وهو من استؤجر للعمل مدة معلومة فيختص المستأجر بمنفعة تلك المدة ولا يصح لغيره إستيجاره فيها وخالف باقي الفقهاء في ذلك.

فقال أبوحنيفة وأصحابه لا ضمان على الاجير المشترك إلا فيما جنته يداه وقال زفر: لا ضمان عليه في ما جنت يداه أيضا إلا أن يخالف، وقال أبويوسف ومحمد وعبيد الله بن الحسن يضمن إلا ما لا يستطاع الامتناع منه كالحريق وموت الشاة واللصوص الغالبين.

وقال الثوري يضمن في اللصوص أيضا.

وقال مالك: يضمن القصار إلا أن يأتي أمر من الله تعالى مثل الحرق والسرق والضياع إذا قامت عليه بينة ويضمن قرض الفار إذا لم يقم بينة.

وإذا قام بينة أنه قرض الفار من غير تضييع لم يضمن.

وقال الاوزاعي: لا يضمن القصار من الحريق والاجير المشترك ضامن إذا لم يشترط له أنه لا ضمان له عليه.

وقال الحسن بن حي: من أخذ الاجرة فهو ضامن تبرأ أو لم يتبرأ، ومن أعطى الاجرة فلا ضمان عليه وإن شرط، ولا يضمن الاجير المشترك من عدو حارب أو موت، وهذا القول من ابن حي كأنه موافق للامامية لانه إن عنى به الاجير المشترك والخاص فهو موافق لهم وإن كان يعني المشترك دون الخاص فهو خلاف إلا أنه يخالف للامامية على كل حال بقوله: ومن أعطى الاجرة فلا ضمان عليه وإن شرط، لان عندنا

٢٢٧

إن شرط كان الضمان بالشرط وإن اعطي الاجر.

وقال الليث: الصناع كلهم ضامنون لما أفسدوا أو هلك عندهم وهذا أيضا كموافقة الامامية إذا أراد بالصناع من كل مشتركا وخاصا، و للشافعي قولان: أحدهما يضمن والآخر لا يضمن إلا ما جنت يداه.

دليلنا على صحة ماذهبنا إليه الاجماع المتردد.

وأيضا فأن من خالفنا في هذه المسألة على تباين أقوالهم يرجعون فيها إلى ما يقتضي الظن من قياس أو خبر واحد ونحن نرجع إلى ما يقتضي العلم فقولنا أولى على كل حال.

ومما يمكن أن يعارضوا به لانه موجود في رواياتهم وكتبهم ما يروونه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله: على اليد ما أخذت حتى تؤديه، وهذا يقتضي ضمان المتاع على كل حال وإذا خصصوه إحتاجوا إلى دليل ولا دليل لهم على ذلك.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بأن من وقف وقفا جاز له أن يشترط أنه إن احتاج إليه في حال حياته كان له بيعه والانتفاع بثمنه، والقول أيضا: بأن الواقف متى حصل له من الخراب بحيث لا يجدي نفعا جاز لمن هو وقف عليه بيعه والانتفاع بثمنه، وإن أرباب الوقوف متى دعتهم ضرورة شديدة إلى ثمنه جاز لهم بيعه ولا يجوز لهم ذلك مع فقد الضرورة.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يجيزوا إشتراط الواقف لنفسه ما أجزناه ولا بيع الوقوف على حال من الاحوال إلا ما رواه بشر عن أبي يوسف في سنة تسع وسبعين أنه إن جعل الواقف الخيار لنفسه في بيع الوقف، وإن يجعل ذلك في وقف أفضل منه فهو جايز، وإن مات قبل أن يختار إبطاله مضى الوقف على سبيله.

قال: وقال أبويوسف بعد ذلك لا يجوز الاستثناء في إبطال الوقف والوقف جائز نافذ.

٢٢٨

دليلنا إتفاق الطائفة، ولان كون الشئ وقفا تابع لاختيار الواقف وما يشرط فيه، فإذا شرط لنفسه ما ذكرناه كان كسائر ما يشرطه وليس لهم أن يقولوا هذا شرط ينقض كونه وقفا وحبسا وخارجا من ملكه وليس كذلك باقي الشروط لانه لا تنافي بينها وبين كون ذلك وقفا، قلنا: ليس ذلك يناقض كونه وقفا، لانه متى لم يجز الرجوع فهو ماض على سبيله، ومتى مات قبل العود نفذ أيضانفوذا تاما، وهذا حكم ما كان مستفادا قبل عقد الوقف، وكيف يكون ذلك نقضا لحكمه وقد بينا أن الحكم باق، فان قيل: لو جاز دخول هذا الشرط في الوقف لجاز دخول مثله في العتق، قلنا: هذا قياس، وقد بينا أن القياس لا يصح إثبات الاحكام الشرعية به، وبعد فأن الفرق بين العتق والوقف: أن العتق عندنا لا يجوز دخول شئ من الشروط فيه، وليس كذلك الوقف لان الشرائط تدخله مثل أن يقول هذا وقف على فلان، فان مات فعلى فلان وما جرى هذا المجرى، وإذا دخلته الشروط جاز دخول الشرط الذي ذكرناه.

فان قيل: فقد خالف أبوعلي بن الجنيد فيما ذكرتموه وذكر أنه لا يجوز للواقف أن يشرط لنفسه بيعه له على وجه من الوجوه.

وكذلك فيمن هو وقف عليه أنه لا يجوز له أن يبيعه، قلنا: لا إعتبار بابن الجنيد وقد تقدمه إجماع الطائفة وتأخر أيضا عنه وإنما عول في ذلك على ظنون له وحسبان وأخبار شاذة لا يلتفت إلى مثلها.

فأما إذا صار الوقف بحيث لا يجدي نفعا أو ادعت أربابه الضرورة إلى ثمنه لشدة فقرهم، فالاحوط ما ذكرناه من جواز بيعه لانه إنما جعل لمنافعهم فإذا بطلت منافعهم منه فقد إنتقض الغرض فيه ولم يبق منفعة فيه إلا من الوجه الذي ذكرناه.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بأن المشتركين مع تساوي

٢٢٩

ماليهما إذا تراضيا بأن يكون لاحدهما من الربح أكثر مما للآخر جاز ذلك، وكذلك إذا تراضيا بأنه لا وضيعة على أحدهما، أو أن عليه من الوضيعة أقل مما على الآخر جاز أيضا.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فقال الشافعي: لا يجوز أن يشترطا تساويا في الربح مع التفاضل في المال ولا تفاضل في الربح مع التساوي في المال وإن شرطا ذلك فسدت الشركة، وأبوحنيفة أجاز التفاضل في الربح وإن كان رأس المال متساويا، وقال مالك: إذا كان رأس المال من عند أحدهما الثلث، ومن الآخر الثلثين، على أن العمل نصفان فالربح نصفان لا خير في هذه الشركة، ولا يجوز عنده التفاضل، فالربح مع التساوي في رؤوس الاموال.

وقالت الجماعة: أن الوضيعة على قدر المالين، وشرط الفضل باطل دليلنا الاجماع المتكرر.

وأيضا أن الشركة بحسب ما يشترط فيها، فإذا إشترطنا التفاضل في الربح أو الوضيعة وجب جواز ذلك، وأبوحنيفة يجيز إشتراط التفاضل في الربح فيلزمه جواز ذلك في الوضيعة.

فان قيل: إنما فسد إشتراط الفضل في الوضيعة لانه يجري مجرى قول أحدهما لصاحبه ما ضاع من مالك فهو علي وهذا فاسد لا محالة.

قلنا: مثال ما نحن فيه هو أن يقول ما هلك من هذه البضاعة مع تساوينا فيها فهو من مالي ومالك إلا أني قد سمحت ورضيت بأن يكون من مالي خاصة فلا مانع من ذلك، ويلزم أبا حنيفة إذا أجرى التفاضل في الوضيعة مجرى قول أحدهما لصاحبه ما هلك من مالك فهو علي أن لا يجوز التفاضل في الربح لانه يجري مجرى أن يقول له ما استفيده من الربح في كذا وكذا فهو لك وإذا جاز أحد الامرين جاز الآخر مثله.

٢٣٠

(مسألة) ومما إنفردت به الشيعة الاماميه أن الشركة لا تصح إلا في الاموال ولا تصح في الابدان والاعمال، ومتى إشترك إثنان في عمل كصياغة عقد ونساجة ثوب وما أشبه ذلك لم يثبت بينهما شركة، فكان لكل واحد منهما أجرة عمله خاصة وإن لم يتميز عملاهما لاجل الاختلاط كان الصلح بينهما، وإذا دفع رجل إلى تاجر مالا ليتجر له على أن الربح بينهما لم ينعقد بينهما بذلك شركة وكان صاحب المال بالخيار إن شاء أعطاه ما شرطه له وإن شاء منعه منه وكان له عليه أجرة مثله في تجارة كذلك.

وكذلك إذا أعطى الانسان غيره ثوبا ليبيعه وشرط له فيه سهما من الربح فهو بالخيار إن شاء أمضى شرطه وإن شاء رجع فيه، وكان عليه في بيع الثوب أجرة مثله في البيع.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فقال أبوحنيفة وأصحابه يجوز شركة الابدان والصناعات إتفقت أو إختلفت عملا في موضعين أو موضع واحد، ولا يجوز في الاصطياد والاحتطاب ونحوهما.

وروى أبويوسف عن أبي حنيفة قال: كلما يجوز فيه الوكالة تجوز فيه الشركة، وما لا يجوز فيه الوكالة لا يجوز فيه الشركة، وما جازت فيه الشركة من الصناعات نحو الخياطة والقصارة، فانه سواء عملا جميعا أو أحدهما فما حصل من فضل فهو بينهما نصفان.

وقال مالك تجوز الشركة على أن يحتطبا ويصطادا إذا كان يعملان جميعا في موضع واحد، وكذلك الاشراك إذا إشتركا في صيد البزاة والكلاب إذا كان الكلب والبازي بينهما نصفين.

وقال مالك: لا يجوز الشركة بين حداد وقصار وإنما تجوز في صناعة واحدة يعملان جميعا فيها في موضع واحد، فان عملا في موضعين أو كانتا صناعتين لم تجز الشركة.

وقال مالك: يجوز أن يشترك المعلمان في تعليم الصبيان إذا كانا في مجلس واحد،

٢٣١

وإن تفرقا في مجلسين فلا خير فيه.

وقال الحسن بن حي والليث: شركة الابدان جايزة في الاعمال، وقال الليث: وإن مرض أحدهما لم يكن للمريض شئ من عمل الصحيح إلا أن يشاء الصحيح أن يشركه في عمله.

وقال الشافعي: لا تجوز الشركة إلا بالدراهم والدنانير ويختلط المالان وهذا يدل على أنه لا يجيز شركة الابدان، إلا أنه ليس ينتهي في ذلك إلى ما تقوله الامامية من أن العمل لا يدخل في الشركة منفردا ولا مجتمعا.

دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتردد، ولان معول من مخالفينا في هذه المسائل التي ذكرناها كلها على الظنون والحسبان والرأي والاجتهاد ومرجعنا فيما نذهب إليه فيها إلى توقيف فما قلناه أولى.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بأن من رهن حيوانا حاملا فأولاده خارجون عن الرهن، فأن حمل الحيوان في الارتهان كان أولاده رهنا مع أمهاته.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك.

فقال أبوحنيفة: إذا ولدت المرهونة بعد الرهن دخل ولدها في الرهن، وكذلك اللبن والصوف وثمرة النخل والشجر وهو قول الثوري والحسن بن حي.

وقال مالك: ما حدث من ولد فهو رهن، وليست الثمرة الحادثة رهنا مع الاصل.

وقال الليث: إذا كان الدين حالا دخلت الثمرة في الرهن، فان كان إلى أجل فالثمرة لصاحب الاصل.

وروي عنه أنه لا تدخل فيه إلا أن تكون موجودة يوم الرهن.

وقال الشافعي: لا يدخل الولد ولا الثمرة الحادثة في الرهن، ومن تأمل هذه الاقوال على إختلافها علم أن قول الشيعة: منفردة عنها.

والذي يدل على صحة الطريقة التي ذكرناها في المسألة التي قيل هذه بلا فصل.

٢٣٢

(مسألة) أيضا في الاجارة: ومما إنفردت به الامامية القول بجواز أن يؤجر الانسان شيئا بمبلغ بعينه فيواجره المستأجر بأكثر منه إذا إختلف النوعان كأنه إستأجره بدينار فأنه يجوز له أن يواجره بأكثر من قيمة الدينار من الحنطة والشعير وما أشبه ذلك، وكذلك يجوز أن يستأجره بدينار ويواجر بثلاثين درهما، لان الربا لا يدخل مع إختلاف النوع، وهذا متى لم يحدث فيما إستأجره حدثا يصلحه به فان ما زاد فيه ما فيه نفع ومصلحة جاز أن يؤاجره بأكثر مما إستأجره على كل حال من غير تخصيص، وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فقال أبو حنيفة وأصحابه لا يجوز للمستأجر أن يؤجر ما إستأجره قبل القبض، ويجوز بعد القبض، فأن أجر بأكثر تصدق بالفضل إلا أن يكون أصلح فيه شيئا أو بنى فيه بناء وهو قول الثوري والاوزاعي والحسن بن حي، وقال مالك والبستي والليث والشافعي: لا بأس بأن يؤاجره بأكثر ولا يتصدق بشئ.

دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه بعد الاجماع المتردد أن المستأجر مالك للمنافع، وقد أجازت الشريعة ملك المنافع، فجرى مجرى ملك الاعيان في جواز التصرف فيها فللمالك أن يتصرف في ملكه بحسب اختياره من زيادة أو نقصان، والاصل في العقول والشريعة جواز تصرف المالك في ملكه إلا أن يمنع مانع ولا مانع هاهنا فيما ذكرناه.

[مسائل في المحارب]

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول بأن من حارب الامام العادل وبغى عليه وخرج عن إلتزام طاعته يجري

٢٣٣

مجرى محارب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وخالع طاعته في الحكم عليه بالكفر وإن إختلف أحكامهما من وجه آخر في المدافنة والموارثة وكيفية الغنيمة من أموالهم.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك وذهب المحصلون منهم والمحققون إلى أن محاربي الامام العادل فساق تجب البراء‌ة منهم وقطع الولاية لهم من غير إنتهاء إلى التكفير، وذهب قوم من حشو أصحاب الحديث إلى أن الباغي مجتهد وخطؤه يجري مجرى الخطأ في سائر مسائل الاجتهاد.

والذى يدل على صحة ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة، وأيضا فان الامام عندنا يجب معرفته وتلزم طاعته كوجوب المعرفة بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولزوم طاعته كالمعرفة بالله تعالى، وكما أن جحد تلك المعارف والتشكيك فيها كفر، وكذلك هذه المعرفة.

وأيضا فقد دل الدليل على وجوب عصمة الامام من كل القبائح وكل من ذهب إلى وجوب عصمته ذهب إلى الكفر الباغي عليه والخالع لطاعته والتفرقة بين الامرين خلاف إجماع الامة، فأن قيل: لو كان من ذكرتم بالغا إلى حد الكفر لوجب أن يكون مرتدا أو أن تكون أحكامه أحكام المرتدين، وإجتمعت الامة على أن أحكام الباغي تخالف أحكام المرتد، وكيف يكون مرتدا وهو يشهد الشهادتين، ويقوم بالعبادات؟ قلنا: ليس يمتنع أن يكون الباغي له حكم المرتد في الانسلاخ عن الايمان وإستحقاق العقاب العظيم، وإن كانت أحكامه الشرعية في مدافنه وموارثه وغير ذلك تخالف أحكام المرتد، كما كان الكافر الذمي مشاركا للحربي في الكفر والخروج عن الايمان وإن إختلفت أحكامهما الشرعية.

فأما إظهار الشهادتين فليس بدال على كمال الايمان، ألا ترى أن من أظهرهما وجحد وجوب الفرائض والعبادات لا يكون مؤمنا بل كافرا.

٢٣٤

وكذلك إقامة بعض العبادات من صلاة وغيرها، ومن جحد أكبر العبادات وأوجبها من طاعة إمام زمانه، ونصرته لم ينفعه أن يقوم بعبادة أخرى من صلاة وغيرها.

وأما ما يذهب إليه قوم من غفلة الحشوية من عذر الباغي وإلحاقه بأهل الاجتهاد.

فمن الاقوال البعيدة من الصواب ومن المعلوم ضرورة أن الامة أطبقت في الصدر الاول على ذم البغاة على أمير المؤمنينعليه‌السلام ومحاربته والبرائة منهم، ولم يقم لهم أحد في ذلك عذرا، وهذا المعنى قد شرحناه في كتبنا وفرعناه وبلغنا فيه النهاية، وهذه الجملة ها هنا كافية، فان إعترض المخالف على ما ذكرناه بالخبر الذي يرويه معمر بن سليمان عن عبدالرحمن ابن الحكم الغفاري عن عدية بنت أهبان بن صيفي قالت: جاء عليعليه‌السلام إلى أبي فقال: ألا تخرج معنا؟ قال ابن عمك وخليلك أمرني إذا إختلف الناس أن اتخذ سيفا من خشب أو بالخبر الذي يروى عن أبي ذر رحمة الله عليه أنه قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كيف بك إذا رأيت أحجار الزيت وقد غرقت بالدم، قال: قلت ما إختار الله لي ورسوله؟ قال: تلحق، أو قال عليك بمن أنت منه، قال قلت: أفلا آخذ بسيفي وأضعه على عاتقي، قال: شاركت القوم إذا، قال: فما تأمرني يا رسول الله؟ قال: إلزم بيتك، قلت: فان دخل علي ببيتي؟ قال: فان خفت أن يبهرك شعاع السيف فألق رداء‌ك على وجهك يبوء بأثمه وإثمك.

قلنا: هذان الخبران وأمثالهما لا يرجع بهما عن المعلوم والمقطوع بالادلة عليه بلا دليل وهي معارضة بما هو أظهر منها وأقوى وأولى من وجوب قتاله الفئة الباغية ونصرة الحق ومعونة الامام العادل، ولو لم يرو في ذلك إلا مارواه الخاص والعام والولي والعدو من قولهعليه‌السلام حربك يا علي حربي وسلمك يا علي سلمي، وقد علمنا أنهعليه‌السلام لم يرد أن نفس هذه الحرب تلك، بل أراد تساوي تلك لاحكام، فيجب أن تكون أحكام

٢٣٥

محاربيه هي أحكام محاربي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا ما خصصه الدليل، وما روي أيضا من قوله: اللهم انصر من نصره واخذل من خذله، ولانهعليه‌السلام لما إستنصر في قتال أهل الجمل وصفين والنهروان أجابته الامة بأسرها ووجوه الصحابة وأعيان التابعين وسارعوا إلى نصرته ومعونته، ولم يحتج أحد عليه بشئ مما تضمنه هذان الخبران الخبيثان الضعيفان على أن الخبر الاول قد روي على خلاف هذا الوجه، لان أهبان قال قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أهبان أما أنك إن بقيت بعدي سترى في أصحابي إختلافا، فان بقيت إلى ذلك اليوم فاجعل سيفك يا أهبان من عراجين، وقد يجوز أن يريدعليه‌السلام بالاختلاف الذي يرجع إلى القول والمذاهب دون المقاتلة والمحاربة على أن هذا الخبر ما يمنع من قتال أهل الردة عند بغيهم ومجاهرتهم فهو أيضا غير مانع من قتال كل باغ وخارج عن طاعة الامام.

فأما الخبر الثاني فمما يضعفه أن أبا ذر رحمة الله عليه لم يبلغ إلى وقعة أحجار الزيت، لان ذلك إنما كان مع محمد بن عبدالله بن الحسن في أول أيام المنصور، وأبوذر مات في أيام عثمان فكيف يقول له رسول الله صلى ا لله عليه وآله وسلم كيف بك، في وقت لا يبقى إليه، على أن أبا ذررضي‌الله‌عنه كان معروفا بانكار المنكر بلسانه وبلوغه فيه أبعد الغايات والمجاهرة في إنكاره وكيف يسمع من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يقتضي خلاف ذلك.

(مسألة) ومما كانت الامامية منفردة به القول: بأن من سب النبي صلى ا لله عليه وآله وسلم أو عابه مسلما كان أو ذميا قتل في الحال، وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فقال أبوحنيفة وأصحابه: من سب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو عابه، وكان مسلما فقد صار مرتدا، وإن كان ذميا عزر ولم يقتل.

وقال ابن اقسم عن مالك من شتم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من المسلمين قتل ولم يستتب، ومن شتم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم، وهذا القول من مالك مضاه لقول الامامية.

٢٣٦

وقال الثوري: الذمي يعزر، وذكر عن ابن عمر أنه يقتل، وروى الوليد بن مسلم عن الاوزاعي ومالك فيمن سب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قالا: هي ردة يستتاب، فان تاب نكل به وإن لم يتب قتل وإلا يضرب مائة ثم يترك حتى إذا هو برئ ضرب مائة ولم يذكرا فرقا بين الذمي والمسلم.

وقال الليث في المسلم يسب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه لا يناظر ولا يستتاب ويقتل مكانه، وكذلك اليهودي والنصراني وهذه موافقة للامامية.

وقال الشافعي ويشرط على المصالحين من الكفار أن من ذكر كتاب الله عزوجل أو محمدا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بما لا ينبغي أو زنى بمسلمة أو أصابها باسم نكاح أو فتن مسلما عن دينه، أو قطع عليه طريقا أو أعان أهل الحرب بدلالة على المسلمين أو آوى عينا لهم فقد نقض عهده وأحل دمه وبرئت ذمته قال الطحاوى: فهذا من الشافعي يدل على أنه إذا لم يشرط يستحل دمه بذلك.

دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه بعد الاجماع المتردد وإن سب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعيبه والوقيعة فيه ردة من المسلم بلا شك والمرتد يقتل.

وأما الذمي وإن لم يكن بذلك مرتدا، لان حقيقة الردة هي الكفر بعد الايمان، والذمي ما كان مؤمنا فصار كافرا، بل كفره متقدم، لكن هذا وإن لم يكن منه ردة فهو خرق للذمة وإستخفاف بالشريعة ووضع منها ومن أهلها وببعض هذا يبرأ من الذمة التي حقن بها فحينئذ يكون دمه مباحا من الوجه الذي ذكرناه فأما ما يستدل به أصحاب أبي حنيفة في الفرق بين المسلم والذمي في هذه المسألة من روايتهم عن الزهري عن عروة عن عائشة قال: دخل رهط من اليهود على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: السام عليك، قالت ففهمتها، فقلت عليكم السام واللعنة، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : مهلا يا عائشة فان الله تعالى يحب الرفق في الامر كله، فقالت يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا؟ قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد

٢٣٧

قلت وعليكم، قال المخالف لنا: ولو كان هذا الدعاء من ا لمسلم لصار مرتدا فيقتل فلم يقتله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك.

ومما يستدلون به أيضا ما رواه شعبة عن هشام بن زيد عن أنس بن مالك أن إمرأة يهودية أتت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بشاة مسمومة فأكل منها فجيئ بها فقيل ألا تقتلها؟ قال فقال: لا، قال المحتج: ولا خلاف بين المسلمين أن من فعل مثل ذلك بالنبي وهو ممن ينتحل الاسلام أنه مرتد يقتل.

فالجواب عنه: أن هذه أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ولا يعترض بها على مدلول الادلة وهي معارضة بأخبار كثيرة تقتضي قتل من هذه صفته مثل ما رووه عن أبي يوسف عن حصين بن عبدالرحمن عن رجل.

عن ابن عمر أن رجلا قال: إني سمعت راهبا سب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: لو سمعته لقتلته، إنا لم نعطهم العهد على هذا ولم ينكر أحد على ابن عمر هذا القول فدل على وقوع الرضا به.

فأما إبدال السلام بالسام فليس بصريح في سب ولا شتم، ولو وقع من مسلم أو ذمي ما إقتضى القتل.

وأما الشاة المسمومة فيجوز أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إعتقد أن اليهودية ما علمت بأنها مسمومة فقد يجوز أن لا تكون بذلك عالمة، وقد يجوز أيضا لو كانت عالمة وقاصدة أن يكونعليه‌السلام رأى درأ القتل عنها مع إستحقاقها لضرب من المصلحة فلهعليه‌السلام مثل ذلك وإنما كلامنا في الاستحقاق للقتل، والمسلم واليهودي في هذا الباب سواء.

مسائل القضاء والشهادات وما يتصل بذلك (مسألة) ومما ظن إنفراد الامامية به وأهل الظاهر يوافقونها فيه القول

٢٣٨

بأن للامام والحكام من قبله أن يحكموا بعلمهم في جميع الحقوق والحدود من غير إستثناء، وسواء علم الحاكم ما علمه وهو حاكم أو علمه قبل ذلك، وقد حكي أنه مذهب لابي ثور.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فذهب أبوحنيفة وأصحابه إلى أن لمشاهدة الحاكم من الافعال الموجبة للحدود قبل القضاء وبعده، فأنه لا يحكم فيها بعلمه إلا من القذف خاصة وما علمه قبل القضاء من حقوق الناس لم يحكم فيها بعلمه، فان علمه بعد القضاء حكم.

وقال أبويوسف ومحمد يحكم فيما علمه قبل القضاء من ذلك بعلمه وهو قول سوار، وقال الحسن بن حي يقضي بعلمه قبل القضاء بعد أن يستحلفه في حقوق الناس وفي الحدود لا يقضى بعد القضاء إذا علمه حتى يشهد معه في الزنا ثلاثة وفي غيره برجل آخر.

وقال الاوزاعي في الامام يشهد هو ورجل آخر على قذف رجل آخر أنه يحده هو.

وقال شريح: إرتفعوا إلى إمام فوقي وأنا أشهد لك به.

وقال مالك: لا يقضي بعلمه في سائر الحقوق حتى يكون شاهدان سواه، وفي الزنا أربعة غيره.

وقال الليث: لا يحكم في حقوق الناس بعلمه حتى يكون شاهدا آخر فيقضي بشهادته وشهادة الشاهد معه.

وقال الشافعي: يقضي بعلمه في حقوق الناس وفي الحدود قولان لانه يقبل رجوع المقر، وقال ابن أبي ليلى فيمن أقر عند القاضي في مجلس الحكم بدين، فأن القاضي لا ينفذذلك حتى يشهد معه آخر والقاضي شاهد.

ثم قال بعد ذلك إذا ثبت قوله في الاصول عنده أنفد.

عليه القضاء، فان قيل: كيف تستجيزون إدعاء الاجماع من الامامية في هذه المسألة، وأبوعلي بن الجنيد يصرح بالخلاف فيها، ويذهب إلى أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في شئ من الحقوق ولا الحدود.

٢٣٩

قلنا: لا خلاف بين الامامية في هذه المسألة، وقد تقدم إجماعهم ابن الجنيد وتأخر عنه، وإنما عول ابن الجنيد فيها على ضرب من الرأي والاجتهاد وخطأه ظاهر.

وكيف يخفى إطباق الامامية على وجوب الحكم بالعلم وهم ينكرون توقف أبي بكر عن الحكم لفاطمةعليها‌السلام بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بفدك لما إدعت أنه نحلها أبوها ويقولون: إذا كان عالما بعصمتها وطهارتها، وأنها لا تدعي إلا حقا فلا وجه لمطالبتها بإقامة البينة لان البينة لا وجه لها مع القطع بالصدق، وكيف خفى على ابن الجنيد هذا الذي لا يخفى على أحد، أو ليس قد روت الشيعة الامامية كلها ما هو موجود في كتبها ومشهور في رواياتها أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إدعى عليه أعرابي سبعين درهما عن ناقة باعها منه، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : قد أوفيتك، فقال الاعرابي: إجعل بيني وبينك رجلا حكما يحكم بيننا، فأقبل رجل من قريش فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : احكم بيننا، فقال للاعرابي: ما تدعي على رسول الله؟ قال: سبعين درهما ثمن ناقة بعتها منه، فقال: ما تقول يا رسول الله؟ قال: قد أوفيته، فقال للاعرابي: ما تقول؟ فقال لم يوفني فقال لرسول الله: ألك بينة على أنك قد أوفيته؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله لا، فقال للاعرابي: أتحلف أنك لم تستوف حقك وتأخذه؟ فقال: نعم، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لاحاكمن هذا الرجل إلى رجل يحكم فينا بحكم الله عزوجل فأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى علي بن أبي طالب ومعه الاعرابي، فقال عليعليه‌السلام مالك يا رسول الله؟ فقال يا أبا الحسن: أحكم بيني وبين هذا الاعرابي، فقالعليه‌السلام : ما تدعي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قال: سبعين درهما ثمن ناقة بعتها منه، فقالعليه‌السلام : يا رسول الله ما تقول؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : قد أوفيته ثمنها، فقالعليه‌السلام للاعرابي: أصدق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما قال؟ قال: لا ما أوفاني، فأخرج عليعليه‌السلام سيفه فضرب عنقه، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لم

٢٤٠