الفقه والمسائل الطبية

الفقه والمسائل الطبية16%

الفقه والمسائل الطبية مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 341

الفقه والمسائل الطبية
  • البداية
  • السابق
  • 341 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92443 / تحميل: 7843
الحجم الحجم الحجم
الفقه والمسائل الطبية

الفقه والمسائل الطبية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الفقه والمسائل الطبية

الشيخ محمد آصف المحسني

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً

قسم اللجنة العلمية في الشبكة

٢

الفِقهُ

والمَسائِل الطِبّيّة

بقلم

سماحة آية الله

الشيخ محمد آصف المحسني

٣

٤

يقول الدكتور الكسيس كاريل، المتوفّى ١٩٤٤:

إنّ علوم التشريح والفسيولوجيا والكيمياء والنفس والاجتماع، وغيرها من العلوم، لم تعطنا نتائج قطعيّة في ميادينها عن ماهيّة الإنسان، وإنّ الإنسان، الذي يعرفه العلماء، ليس إلاّ إنساناً بعيداً جدّاً عن الإنسان الحقيقي.

فالإنسان كائنٌ مجهولٌ لنفسه، وسيظلّ جهلنا به إلى الأبد.

٥

٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحَمدُ لله رَبِّ العالمين، مُنزل الوَحي على المرسلين، والصلاة على محمّدٍ وآلهِ خَير الخَلق أجمعين، والسلام على جميعِ عبادِ الله الصالحين، لاسِيّما عَلى الشُهداء والعلماء المُجْتَهدين.

أمّا بعد، إنّ المنظّمة الإسلاميّة للعلوم الطبيّة في الكويت عقدت ندوات علميّة، دعت فيها الأطباء، وأهل العلم ممّن لهم معلومات فقهيّة، فعنون الأطبّاء المسائل الطبيّة المستجدّة، وذكر أهل العلم أحكامها الشرعية، من وجهة نظرهم، أو نظر المذاهب الأربعة غالباً(١) ، ثمّ تصدّت المنظّمة لطبع ما دارت في تلك الندوات العلميّة المفيدة المباركة في سبعة أجزاء باسم:

( الإسلام والمشكلات الطبيّة المعاصرة ) على نحو ما يلي:

___________________

(١) ابتداءً من ١١ شعبان ١٤٠٣ ه- الموافق ٢٤ مايو ١٩٨٣ م، وانتهاءً بأواخر جمادى الآخرة ١٤١٤، الموافق ديسمبر ١٩٩٣ م.

٧

أوّلاً : الإنجاب في ضوء الإسلام.

ثانياً : الحياة الإنسانية، بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي.

ثالثاً : الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبّيّة.

رابعاً :... لم أجده.

خامساً :... لم أجده.

سادساً : رؤية إسلامية لزراعة بعض الأعضاء البشريّة.

سابعاً : رؤية إسلامية للمشاكل الاجتماعية لمرض الإيدز.

فشكراً كثيراً: للأطباء المتديّنين، ولأهل العلم المتفقّهين، والمخلصين القائمين بأعمال الثبت والطبع، والله يُحبُّ المحسنين، كما أشكر ولدي، مسؤول سفارة الجمهورية الإسلامية الأفغانية في الكويت، واعظ زاده - وهو من أعضاء الحركة الإسلامية الأفغانية - حيث أهدى إليّ هذه الأجزاء، سوى الرابع والخامس حيث لم يوجدا.

فقصدت بفضل الله وعونه أنْ أنقل منهما بعض المطالب(١) ، ثمّ أذكر الحكم الفقهي من الفقه الجعفري، بحسب اجتهادي، فإنْ أصبت فهو من فضل ربي، وإنْ أخطأت فهو من قصوري أو من تقصيري، وأسأل الله - تبارك وتعالى - أنْ يجعله نافعاً لإخواني من أهل العلم، ولجميع المؤمنين، وأنْ يتقبّله منّي بكرمه السابق، وفضله الواسع.

___________________

(١) من غير التزام بمراعاة ترتيب مطالب تلك الأجزاء في كتابي هذا ؛ كما تعلمون فيما بعد.

٨

المسألة الأُولى

حُكمُ التداوي في الفقه

جواز التداوي من الواضحات التي تسالم الكلّ عليه. وفي موثّقة الحسين بن علوان، المروي في قرب الإسناد عن جعفر، عن أبيه، عن جابر، قال: قيل يارسول الله، أنتداوى ؟

قال: ( نعم، فتداووا فإنّ الله لم يُنزل داءً إلاّ وقد أنزل له دواءً )(١) .

أقول : وهل أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتداوي للوجوب، أو للإرشاد ؟

فيه وجهان، نعم يجب التداوي من الأمراض الخطيرة لوجوب دفع الضرر، كما يجب تداوي الأطفال والمجانين على أوليائهم حسب قضيّة الولاية.

ثمّ الظاهر جوازه، بل وجوبه، وإن احتمل الضرر فيه احتمالاً مرجوحاً أو مساوياً ؛ لصحيح يونس بن يعقوب عن الصادقعليه‌السلام : الرجل يشرب الدواء ويقطع العرق، وربّما انتفع به، وربما قتله؟

قال: ( يشرب ويقطع )(٢) .

وربما يتخيّل بعض أهل العلم عدم وجوب التداوي مطلقاً، حتّى من الأمراض المهلِكة ؛ لاستبداله بالدعاء والتوكّل، قال الله تعالى:( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلى اللهِ فَهُوَ حَسْبُه ) (٣) ، وقال تعالى:( ادْعُونِيَ أسْتَجِبْ لَكُمْ ) (٤) .

___________________

(١) ص١٧٩ ج١٧ الوسائل، ولابُدّ لاعتبار الرواية من إثبات أنّ نسخة قرب الإسناد الواصلة الى صاحب الوسائل قد وصلت بسندٍ معتبرٍ، وفيه بحث طويل عميق ذكرناه في محلّه. وعلى كل أخرجه بألفاظ مختلفة: أحمد، وأبو داود، والنسائي، والتزمذي، لاحظ ص٥٦٠ وص٥٧ ج٦ ( رؤية إسلاميّة لزراعة بعض الأعضاء البشريّة ).

(٢) ص١٩٤ روضة الكافي.

(٣) الطلاق آية ٣.

(٤) غافر آية ٦٠.

٩

أقول : لكنّهما لا ينفيان وجوب التداوي وحده، بل لزوم تحصيل المعاش والنفقة، وتحصيل كلّ أمرٍ متوقّفٌ على أسبابه أيضاً، حتّى تحصيل العلم أيضاً !

بل لازم هذا التخيّل عدم وجوب حفظ النفس ! وهو كما ترى.

وهل يمكن أنْ يفتي عاقل بجواز ترك شرب الماء، أو أكل الطعام للمضطّر الذي يشرف على الهلاك ؟

والحلّ أنّ التوكّل لا ينافي السعي إلى تحصيل الأسباب، ولا هي تنافيه ( واعقل راحلتك وتوكّل على الله )(١) ، والدعاء لم يُشرَّع لإبطال الأسباب الطبيعيّة قطعاً، والأئمّةعليهم‌السلام تداووا، وأمروا أتباعهم بالتداوي، كما في الأحاديث الكثيرة(٢) ، بل ورد في بعض الأحاديث أنّ مَن يترك أُموراً لا يُستجاب دعاءه.

ثمّ إنّ التداوي كما قد يجب على المريض، يجب العلاج على الطبيب - أيضاً - وإنْ جاز له أخذ الأُجرة على طبابته إذا قدر المريض عليه.

وفي رواية محمّد بن مسلم، عن أبي جعفرعليه‌السلام المرويّ في التهذيب، قال: سألته عن الرجل يعالج الدواء للناس فيأخذ عليه جعلاً ؟

قال: ( لا بأس )(٣) .

قال الفقيه اليزديقدس‌سره في خاتمة كتاب الإجارة من العروة الوثقى:

( السابعة عشرة ): لا بأس بأخذ الأُجرة على الطبابة، وإنْ كانت من الواجبات الكفائيّة ؛ لأنّها كسائر الصنائع، واجبة بالعرض لانتظام نظام معائش

___________________

(١) ج٧١ ص١٣٧ و ج١٠٣ ص٥، بحار الأنوار نسخة الكومبيوتر.

(٢) لاحظ الجزء ٦٢ من بحار الأنوار.

(٣) ص٣ ج٥٩، بحار الأنوار، والسند صحيح على المشهور، ولنا في صحّة طريق الشيخ إلى الحسين بن سعيد بحث ذكرناه في( بحوث في علم الرجال ) .

١٠

العباد، بل يجوز وإنْ وجبت عيناً، لعدم من يقوم بها غيره، ويجوز اشتراط كون الدواء عليه مع التعيين الرافع للغَرَر، ويجوز - أيضاً - مقاطعته على المعالجة إلى مدّة، أو مطلقاً، بل يجوز المقاطعة عليها بقيد البُرء، أو بشرطه إذا كان مظنوناً بل مطلقاً.

وما قيل من عدم جواز ذلك ؛ لأنّ البُرء بيد الله، فليس اختياريّاً له، وأنّ اللاّزم مع إرادة ذلك أنْ يكون بعنوان الجعالة لا الإجارة.

فيه: إنّه يكفي كون مقدّماته العاديّة اختياريّة، ولا يضرّ التخلّف في بعض الأوقات، كيف ؟! وإلاّ لم يصحّ بعنوان الجعالة أيضاً(١) .

أقول : وعلّق سيّدنا الأُستاذ الخوئي على قوله ( بل مطلقاً ): يشكل الحكم بالصحّة في فرض التقييد مع الظن بالبُرء أيضاً، نعم لا تبعد الصحّة مع الاطمئنان به.

كما أنّه علّق على الجزء الأخير من كلامه: الفرق بين الجعالة والإجارة من هذه الجهة ظاهرٌ(٢) .

وقالقدس‌سره في منهاج الصالحين: تجوز الإجارة على الطبابة سواءٌ أكانت بمجرّد وصف العلاج، أم بالمباشرة كجبر الكسير، وتجوز المقاطعة على العلاج بقيد البُرء إذا كانت العادة تقضي ذلك، كما في سائر موارد الإجارة على الأعمال الموقوفة على مقدّمات غير اختياريّة للأجير، وكانت توجد حينها عادةً(٣) . وتبعه بعض تلاميذه عليه.

___________________

(١) العروة الوثقى ٢/٤٢٠ - ٤٢١ طبعة مدينة العلم.

(٢) نفس المصدر.

(٣) منهاج الصالحين ٢/١٠٢ طبعة مدينة العلم.

١١

فائدة

نذكر فيها بعض الروايات المعتبرة سنداً:

١ - قال الصادقعليه‌السلام : ( قال موسى بن عمران: ياربّ من أين الداء ؟ قال: مني. قال: فالشفاء ؟ قال: مني. قال: فما يصنع عبادك بالمُعالِج ؟ قال: يطيب بأنفسهم، فيومئذٍ سُمّي المعالج الطبيب )(١) .

أقول : أيّ سُمّي بالطبيب لرفعه الهمّ عن نفوس المرضى بالرفق والتدبير، وليس الشفاء منهم، وفي بعض كتب اللغة: طَبَّ: تأنّى للأُمور وتلطّف، وفي بعض النسخ بالياء المثنّاة ( يطيب ).

وليس المراد أنّ الطبيب مشتقٌّ من مادّة الطيب، بل المراد أنّ تسميته بالطبيب لتداويه عن الهموم، فتطيب بذلك.

أقول : الشفاء لا ينافي التداوي ؛ لأنّهما من العلل الطوليّة، وصنع المُعالِج هو تشخيص الداء وتعيين الدواء فقط، والشفاء من الله تعالى.

٢ - كتب ابن أُذينة إلى الصادقعليه‌السلام يسأله عن الرجل ينعت له الدواء من ريح البواسير، فيشربه بقدر أسكرجة من نبيذ ليس يريد به اللّذة ( و ) إنّما يريد به الدواء ؛ فقال: ( لا، ولا جرعة ).

وقال: ( إنّ الله - عزّ وجلّ - لم يجعل في شيءٍ ممّا حرّم شفاءً ولا دواءً )(٢) .

أقول : اتّفقت أحاديثنا على منع التداوي بالخمر(٣) ، وهذا الحديث

___________________

(١) ص٨٨ روضة الكافي.

(٢) ص٨٨ ج٥٩ بحار الأنوار نقلاً عن الكافي.

(٣) لاحظ ص٢٠٢ وما بعدها ج٢٤ جامع الأحاديث.

١٢

يمنعه بمطلق الحرام. لكن، لو فرض بطريق قطعي مورداً: توقّف حياة أحد على شرب مسكر، أو خمر، أو على شرب دواءٍ فيه خمر ؛ جاز شربه أو لعلّه فرض نادر جدّاً.

٣ - قال الصادقعليه‌السلام : ( ما من دواءٍ إلاّ وهو شارع إلى الجسد ينظر ( سارع إلى الجسد ينتظر خ ) متى يؤمر به فيأخذه )(١) .

أقول : كأنّ الحديث يشير إلى موضوعٍ علميّ، وهو ما ثبت في علم الطب وغيره من مناعة البدن، وستعرفها في المسألة الخامسة والثلاثين، إنْ شاء الله تعالى.

نظر المذاهب الأربعة حول التداوي

نقل بعض أهل السنّة أنّ العلاج عند الإمام أحمد رخصة، وتركه درجة أعلى، وعند الشافعي: التداوي أفضل من تركه، ومذهب أبي حنيفة أنّه ( أي التداوي ) مؤكّد حتّى أنّه يقارب الوجوب، ومذهب مالك: أنّه يستوي فعله وتركه(٢) .

___________________

(١) روضة الكافي ص٨٨.

(٢) ص٦٢٤ وص٦٢٥ الحياة الإنسانيّة بدايتها ونهايتها.

١٣

المسألة الثانية

أثر الاضطرار والحرج والضرر والحاجة في رفع الأحكام الإلزاميّة

والبحث الأوّل في الاضطرار، قال الله تعالى:

( وَمَالَكُمْ ألاّ تَأكُلُوا ممّا ذُكِر اسْمُ الله عَلَيهِ وَقَد فَصَّل لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيكُم إلاّ ما اضْطُررْتُم إلَيهِ ) ( الأنعام: ١١٩ ).

وقال تعالى:

( إنَّما حَرَّمَ عَليكُمْ المَيْتَةَ والدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيِرَ وما أُهلّ به لِغَير الله فَمَن اضطُرَّ غَيَر بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إثْمَ عَلَيه... ) (البقرة: ١٧٣).

ولاحظ سورة المائدة(٣) ، والأنعام (١٤٥)، والنحل (١١٥).

وكلّ هذه الآيات وردت في مورد أكل المحرّمات الخاصّة.

وقال رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله - كما في حسنة حريز المرويّة في الخصال، عن الصادقعليه‌السلام :

( رُفع ( وضع ) عن أُمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أُكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطرّوا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكّر في الوسوسة في الخلق، ما لم ينطق بشفته)(١) .

وفي موثّقة سماعة - على إشكالٍ في صحّة طريق الشيخ إلى الحسين بن سعيد في المشيخة، عن الصادقعليه‌السلام : (... ولن يكلّفه الله ما لا طاقة له به )(٢) .

وفي موثّ-قةٍ أُخرى له - على إشكالٍ عرفته -: ( وليس شيء ممّا حرّم الله

___________________

(١) ص٨٨ ج١، مقدّمة جامع الأحاديث، الطبعة الأُولى.

(٢) ص٤٨٣ ج٥، الوسائل نسخة الكومبيوتر.

١٤

إلاّ وقد أحلّه لمَن اضطرّ إليه )(١) . وقريب منها موثّ-قة أبي بصير(٢) .

وفي صحيح محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الرجل والمرأة يذهب بصره، فيأتيه الأطباء، فيقولون: نداويك شهراً أو أربعين ليلة مستلقياً كذلك يصلي ؟ فرخّص في ذلك، وقال:( فمَن اضطُرّ غَير باغٍ وَلا عادٍ فلا إثم عليه ) (٣) .

أقول : مورد الرواية ظاهراً الحاجة أو الحرج، ولكنّ الإمام طبّق عليه الاضطرار. ثمّ إنّ الحديث يدلّ على تعميم الآية لمطلق المحرّمات من دون اختصاصٍ لها بالأكل المحرّم، فلا تغفل، وفي صحيح حفص البختري عن الصادقعليه‌السلام قال: سمعته يقول في المغمى عليه: ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر(٤) .

وبالجملة : الاضطرار رافع للتكليف كما في الأحاديث الكثيرة. والتّتبع بالكومبيوتر سهل.

( البحث الثاني في الحرج ):

قال الله تعالى:( وَمَا جَعَلَ عَلَيكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ( الحج: ٧٨ ).

وقال تعالى:( لِّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المَرِيِض حَرَجٌ ) (الفتح: ١٧ ) و ( النور: ٦١ ).

وفي صحيح زرارة عن الباقرعليه‌السلام في قوله تعالى:( مَا يُريدُ الله

___________________

(١) ص٢٢٨ ج٢٣ المصدر.

(٢) ص٤٨٣ ج٥ نفس المصدر.

(٣) ص٤٩٦ نفس المصدر.

(٤) ص٢٧٣ج ١ جامع الأحاديث.

١٥

ليَجْعَلَ عَليكُم مِنْ حَرَجٍ ) : والحرج الضيق(١) .

وفي صحيح بريد العجلي، عنهعليه‌السلام : (... ولم يجعل الله تبارك وتعالى في الدين من ضيق، فالحرج أشدّ من الضيق )(٢) .

وعليه فيمكن أن يُحمل الضيق في الحديث السابق، على مرتبة عالية منه دفعاً للتعارض، فافهم.

وفي موثّقة أبي بصير - على إشكالٍ في صحّة طريق الشيخ إلى الحسين بن سعيد في المشيخة-: ( فإنَّ الدين ليس بضيّق، فإنّ الله يقول:( مَا جَعَلَ عَلَيكُمْ في الدِين مِنْ حَرَجٍ ) )(٣) .

قال سيِّدنا الأُستاذ الحكيمقدس‌سره في مستمسكه:... فلا يكون الحرج مجوّزاً لفعل المحرّمات عندهم، وإنْ كان مجوّزاً لترك الواجبات، فلا يجوز الزنا للحرج، ولا يجوز أكل مال الغير للحرج... وإن كان الفرق بين الواجبات والمحرّمات في ذلك غير ظاهر، ومقتضى دليل نفيه نفي التحريم كنفي الوجوب(٤) .

أقول : والحقّ جريان نفي الحرج في مطلق الأحكام الإلزاميّة الحرجيّة من الواجبات والمحرّمات، لكن لابُدّ أن يعلم أنّ للحرج مراتب متفاوتة، والأحكام الإلزاميّة - أيضاً - لها مراتب من حيث الأهميّة، فلا يمكن نفي حرمة الزنا واللواط والمساحقة، لمَن لا زوج له بدعوى الحرج، وهو ظاهر، فإذا رُوعيت هذه النكتة حسب الذوق الشرعي، والارتكاز المتشرّعي في جريان قاعدة نفي الحرج، لا يبقى وجهٌ للتفصيل بين الواجبات والمحرّمات.

___________________

(١) ص٣٦٤ ج٣ الوسائل نسخة الكومبيوتر.

(٢) ص١٩١ ج١ أُصول الكافي.

(٣) ص١٦٣ ج١ الوسائل نسخة الكومبيوتر.

(٤) ص٢٤٧ ج١٤.

١٦

( البحث الثالث في الضرر ):

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما في موثّقة زرارة عن الباقرعليه‌السلام : ( لا ضرر ولا ضرار )(١) .

فكلّ حكمٍ ضرريٍّ يُنفى بهذا.

وأعلم أنّ البحث حول قاعدة نفي الضرر والضرار طويل، مذكور في علم أُصول الفقه، بل ألَّف غيرُ واحدٍ من الأعلام حولها رسالة مستقلّة.

( البحث الرابع في الحاجة ):

قال الله تعالى:( يُرِيُد الله بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بكُمُ العُسْر ) ( البقرة: ١٨٥ ).

وفي صحيح الثمالي المروي في الكافي عن الباقرعليه‌السلام قال: سألته عن المرأة المسلمة يصيبها البلاء في جسدها إمّا كسر وإمّا جرح في مكان لا يصلح النظر إليه، يكون الرجل أرفق بعلاجه من النساء أيصلح له النظر إليها ؟ قال: ( إذا اضطرّت إليه فليعالجها ( فيعالجها - جامع )، إن شاءت )(٢) ، فلاحظ.

أقول : الحديث يدلّ على جواز نظر الطبيب إلى المريضة لاضطرارها، وتقييد النظر إليها بعدم إمكان العلاج بالنظر إليها بالنظر إلى المرآة، كما عن بعض الفقهاء خلاف إطلاق الصحيحة، فلا نلتزم به، والله أعلم بأحكامه.

___________________

(١) ص٣٢ ج١٨ الوسائل نسخة الكومبيوتر.

(٢) ص١٧٢ ج١٤ الوسائل ( الطبعة المتوسطة ).

١٧

المسألة الثالثة

ما يتعلّق بضمان الطبيب وعدمه

( الأوّل ) : إذا تبرّأ الطبيب من الضمان، وقبل المريض أو وليّه، ولم يقصّر في الاجتهاد والاحتياط ؛ فالأظهر براءته من ضمان الفساد إن اتّفق بمباشرته، كما اختاره جماعةٌ من المحقّقين، بل عن المسالك أنّه المشهور، واستدل له بخبر السكوني: ( من تطبّب أو تبيطر فليأخذ البراءة من وليّه، وإلاّ فهو ضامن )، وبأنّ العلاج ممّا تمسّ الحاجة إليه، فلو لم يشرع الإبراء تعذّر العلاج كما في الشرائع(١) .

وعن ابن إدريس أنّه لا يبرء ؛ لأنّه إسقاط الحقّ قبل ثبوته(٢) .

وفي الجواهر:... على أنّه ينبغي الجزم به ( أي بالإبراء ) إذا أخذ بعنوان الشرطيّة في عقد إجارة الطبيب مثلاً، إذ هو حينئذٍ يكون كاشتراط سقوط خيار الحيوان والمجلس ونحوهما ممّا يندرج تحت قولهمعليهم‌السلام : ( المؤمنون عند شروطهم )... وليس هذا من الإبراء قبل ثبوت الحق، بل من الإذن في الشيء المقتضية ( المقتضى ظ ) لعدم ثبوته نحو الإذن في أكل المال مثلاً.

أقول : وما ذكره صاحب الجواهر موجّه، وأمّا ما ذكره المحقّق في الشرائع من الوجهين ففيه نظر وإن قبله صاحب الجواهر ؛ لضعف الخبر

___________________

(١) ص ٤٧ ج ٤٣ جواهر الكلام.

(٢) نفس المصدر.

١٨

سنداً، ولتردّد في الثاني.

وهنا شيء، وهو أنّه إذا كان الطبيب قاصراً، ولكنّ المريض يعتقد مهارته، فقَبِل إبراءه فأفسد لجهله، ففي براءته نظر أو منع، فإنّ الطبيب مدلّس حينئذٍ.

( الثاني ) : الطبيب يضمن ما يتلف بعلاجه إن كان قاصراً - سواء كان قصوره في علاج المرض، أو في تشخيصه - وإنْ أذن المريض بالعلاج، ويظهر منهم نفي الخلاف فيه بل عن التنقيح الإجماع عليه(١) .

لكن قد يُقال بسقوط الضمان فيه بسبب الإذن، وردّ بقاعدة الضمان على كلّ مُتْلف خصوصاً في الدماء التي ورد فيها:

( أنّه لا يبطل دم امرئ مسلم )(٢) ، والإذن كعدمها بعد النهي عنه شرعاً، بل لو جوّزنا المباشرة للحاذق بلا إذنٍ لقاعدة الإحسان، أو أوجبناها عليه مقدّمةً لحفظ النفس المحترمة، لما ينافي ذلك الضمان الذي هو من باب الأسباب، كما في تأديب الزوجة والصبي ونحوهما، فتأمّل.

( الثالث ) : قالوا: يضمن الطبيب العارف الحاذق إذا عالج: صبيّاً، أو مجنوناً، أو مملوكاً، من غير إذن الولي والمالك، أو عالج عاقلاً حرّاً من غير إذنٍ فيه(٣) .

وقيل: إنّه لا خلاف فيه ظاهراً(٤) .

( الرابع ) : الطبيب العارف ( علماً وعملاً ) إذا أذن له المريض في العلاج، ولم يقصّر هو فيه، فعالج وآل علاجه إلى التلف في النفس أو الطرف

___________________

(١) جواهر الكلام ص ٤٤ ج ٤٣.

(٢) لاحظ ج ٤٣ من الجواهر.

(٣) نفس المصدر.

(٤) نفس المصدر.

١٩

فعن ابن إدريس: أنّه لا يضمن ؛ للأصل، ولأنّ الضمان يسقط بالإذن، ولأنّه فعلٌ سائغٌ شرعاً فلا يستعقب ضماناً(١) .

وعن جمعٍ من الأعلام: أنّه يضمن لمباشرته للإتلاف.

وفي الجواهر: وإن لم يصرّحوا أو أكثرهم بالإذن.

وعن المحقّق: نسبة ضمان الطبيب المُتْلف بعلاجه بقول مطلق إلى الأصحاب(٢) .

وأُجيب عن ما استدلّ به ابن إدريس بأنّ الإذن في العلاج ليس إذناً في الإتلاف، والجواز الشرعي لا ينافي الضمان، كما في الضرب للتأديب، نعم، وحيث أنّه غير متعمد لا يُقتص منه ؛ ثمّ إنّ فعل الطبيب في المقام من شِبْه العمد، فالضمان في ماله لا على عاقلته.

( الخامس ) : قال الفقيه اليزديقدس‌سره في كتاب الإجارة من العروة الوثقى: إذا أفسد الأجير للخياطة أو القصارة أو لتفصيل الثوب ضَمَن، وكذا الحجّام في حجامته أو الختان في ختنه، وكذا الكحّال أو البيطار، وكلّ من آجر نفسه لعمل في المستأجر، إذا أفسده يكون ضامناً إذا تجاوز عن الحدّ المأذون وإنْ كان بغير قصده ؛ لعموم مَن أتلف، وللصحيح عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في الرجل يعطى الثوب ليصبغه، فقالعليه‌السلام :

( كلّ عاملٍ أعطيته أجراً على أنْ يُصلح فأفسد فهو ضامن )(٣) .

___________________

(١) جواهر الكلام ج ٤٣ ص ٤٥.

(٢) نفس المصدر ص ٤٦.

(٣) وهو صحيح الحلبي المروي في الفقيه. ورواه في الكافي والتهذيبين عن علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عنهعليه‌السلام بلفظ: سُئل عن القصار يفسد ؟

قال: ( كلّ أجيرٍ يُعطى الأجر على أن يُصلح فيفسد فهو ضامن ). ص ٥١ ج ١٩ جامع الأحاديث.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الفصل الثالث : الإمام الصادق في ظل جدّه وأبيهعليهم‌السلام

ملامح عصر الإمام زين العابدين ومواقفه

لقد واجه الإمام زين العابدينعليه‌السلام بعد استشهاد أبيه الحسينعليه‌السلام ما يلي :

١ ـ التعاطف مع أهل البيتعليهم‌السلام تعاطفاً كان يفتقد الوعي ويقتصر على الشعور الإيجابي بالولاء مع خلوّه عن الموقف العملي الجادّ .

٢ ـ ثورات انتقاميّة كانت تتحرّك نحو هدف محدود ، وثورات نفعية مصلحيّة ، ونشوء حركات منافقة ، وظهور وعّاظ السلاطين لإسباغ الشرعية على السلطة القائمة .

٣ ـ بروز ظاهرة الشعور بالإثم عند الأمة بسبب ما ارتكبته من خذلان لأبيه الحسين السبطعليه‌السلام لكن هذا الشعور كما هو معروف كان بلا ترشيد واضح ، والعقليات المدبّرة للثورة على الوضع القائم كانت تفكر بالثأر فحسب وهنا خطط الإمام زين العابدينعليه‌السلام لعمله على مرحلتين أو خطوتين :

الخطوة الأولى : تناول الإمامعليه‌السلام ظاهرة الشعور بالإثم وعمل على ترشيدها بعد أن عمّقها بشكل متواصل عبر تذكيره الأمة بمأساة كربلاء والمظالم التي لحقت بآل البيتعليهم‌السلام وقد استغرق هذا التذكير زمناً طويلاً ،

٤١

حيث حاول إعطاء ظاهرة الشعور بالإثم بُعداً فكرياً صحيحاً ليجعل منه أداة دفع وتأثير في عملية البناء والتغيير .

وبعد أن تراكم هذا الشعور شكّل في نهاية الأمر خزيناً داخلياً كانت لا تقوى الأمة أن تصبر عليه طويلاً ، وأصبح الإلحاح على مخرج تعبّر به الأمّة عن ألمها أمراً جدّياً ، حتَّى حدثت الثورة الكبرى وطبيعي أنّ هذا الجو المشحون الذي كان ينبئ بالثورة والإطاحة بالأمويين جعلهم يشددّون الرقابة على الإمام زين العابدينعليه‌السلام باعتباره الرأس المدبّر لهذه المطالبة ولكونه الوريث الشرعي للخلافة بعد أبيه الحسينعليه‌السلام ومن هنا كانت الحكومة الأموية تفسّر أيّ حركة تصدر من الإمامعليه‌السلام على أنّها تمهيد للثورة .

الخطوة الثانية : توزّع نشاط الإمامعليه‌السلام في هذه الخطوة على عدّة اتّجاهات .

الاتجاه الأوّل : قام الإمامعليه‌السلام ببلورة العواطف الهائجة وحاول أن يدفعها باتّجاه الفكر الصحيح ويضع لها الأسس العقائديّة ويجعل منها مقدمة لعملية التغيير التي ينشدها الإمامعليه‌السلام ، وقد تمثّلت في إيجاد الفكر الإسلامي الصحيح الذي طالما تعرّض للتشويه والتحريف ثم إعداد الطليعة الواعية التي تشعر بالمسؤولية وتكون أهلاً لحمل الأمانة الإلهيّة .

الاتّجاه الثاني : تحرّك الإمام زين العابدينعليه‌السلام انطلاقاً من مسؤوليته في حماية الإسلام وبقائه كشريعة دون تحريف وتشويه لمحتواه ضمن عدة نشاطات :

١ ـ النشاط الأول : واجه الإمامعليه‌السلام الحركات الانحرافية والفرق الضالّة والمغالية التي كانت تستهدف الفكر الإسلامي وتعتمد الإسرائيليات والنظريات الهندية واليونانية حول الكون والحياة في فهم القرآن والحديث

٤٢

الشريف ، وقام بنشر مختلف العلوم والفنون وتبيان الصيغة الصحيحة للعلاقات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي كان قد أصابها الفساد ، كما يتّضح ذلك بجلاء في رسالته المعروفة برسالة الحقوق ، كما ساهم في حل المشاكل التي كانت تهدّد كرامة الدولة الإسلامية كما يلاحظ ذلك جليّاً فيما حدث في جوابه على رسالة ملك الروم حين هدّد الخليفة بالحصار الاقتصادي(١) .

النشاط الثاني : إنّ الأمويين كانوا قد ضيّقوا على حركة الإمامعليه‌السلام ونشاطه مع الأمة إلاَّ أنّ الإمامعليه‌السلام استخدم الدعاء سلاحاً للارتباط الفكري والمعنوي بها ، وحيث إنّ هذا السلاح لم يستهدف الأمويين مباشرة ، توفّر للإمامعليه‌السلام مجالٌ أوسع لمعالجة الظواهر المرضية والانحرافات الأخلاقية .

الاتّجاه الثالث : التأكيد على أهمية العمل الثوري ومكافحة الظلم والانحراف ، وإيقاد روح الجهاد التي كانت خمدت في الأمة عبر سنوات الانحراف ، كما يتجلّى ذلك في دعائه للمختار الذي طالب بثأر الحسين وكان على اتصال دائم بالإمامعليه‌السلام أثناء ثورته من خلال عمّه محمد ابن الحنفيّة .

الاتّجاه الرابع : لم يكن موقف الإمامعليه‌السلام من الحكّام موقف المواجهة والتحدّي المباشر ; إذ لو كان قد فعل الإمام زين العابدينعليه‌السلام ؛ ذلك لما كان يستطيع أن يحقق ما حققه من مكاسب في الأمة في مجال التربية ، ولما توفّرت أجواء سليمة وفرص واسعة لنشاط الإمام الباقرعليه‌السلام من بعده وللجماعة الصالحة التي ربّاها .

لكن هذا لا يعني أن الإمامعليه‌السلام لم يوضح رأيه في الحكومة فلم يترك

ـــــــــــــــــ

(١) البداية والنهاية : ٩/١٢٢ .

٤٣

الأمر ملتبساً على شيعته ، بل كانت للإمام زين العابدينعليه‌السلام مواقف مع الحكّام سوف نشير إلى بعض منها ، وكان هدفه منها إعطاء خطّ في التربية والتغيير حفاظاً على الشيعة من الضياع ; إذ لم تكن الجماعة الصالحة على سبيل المواجهة ولكنها كانت كافية في التحصين في تلك المرحلة على مستوى التربية والإعداد وتأسيساً لمستقبل سياسي أفضل .

ونستطيع أن نلاحظ موقف الإمامعليه‌السلام مع السلطة من خلال رسالته الجوابية إلى عبد الملك حين لامَ عبد الملك الإمامعليه‌السلام على زواجه بأمته التي كان قد أعتقها .

إنّ ردّ الإمامعليه‌السلام على عبد الملك كان يتضمّن تحدّياً للخليفة الذي كان يفكرّ بعقلية جاهلية ; فإنّ الإمامعليه‌السلام وضّح فيها الموقف الإسلامي الذي يلغي كل الامتيازات التي وضعتها الجاهلية بقولهعليه‌السلام :( فلا لؤم على امرئ مسلم إنَّما اللؤمُ لؤم الجاهلية ) .

يظهر هذا التحدّي ممَّا جاء في مصادر التأريخ من أن الخليفة الأموي بعد أن قرأها هو وابنه سليمان ، قال الابن : يا أمير المؤمنين لَشدَّ ما فخر عليك علي بن الحسين !! فردّ الخليفة على ابنه قائلاً : ( يا بنيّ لا تَقل ذلك فإنّها ألسن بني هاشم التي تَفلق الصخر وتغرف من بحر ، إنّ عليّ بن الحسين يا بني يرتفع من حيث يتّضع الناس(١) .

وفي هذا الجواب إشارة إلى أنّ المواجهة مع الإمام من قبل الخليفة لا تخدم سلطان بني أمية .

ومن مواقف الإمام زين العابدينعليه‌السلام تجاه السلطة أيضاً موقفه من

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٤٦/١٦٥ ، والعقد الفريد : ٧/١٢١ .

٤٤

الزهري ذلك المحدث الذي كان مرتبطاً بالبلاط الأموي ـ فقَد أرسل إليه الإمامعليه‌السلام رسالة قَرعه فيها على شنيع فعله(١) ، وان كان قد علم الإمام بأنّه غارق إلى هامته في موائد السلطان ولهوه ، إلاَّ أنّها رسالة للأجيال .

ومن الأحاديث التي وضعها هذا الرجل دعماً لسياسة بني أمية حينما منعوا حج بيت الله الحرام لمّا كان ابن الزبير مسيطراً على الحرمين الشريفين ما رواه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : لا تشد الرحال إلاَّ إلى ثلاثة : مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى .

ملامح عصر الإمام محمد الباقرعليه‌السلام

استشهد الإمام زين العابدينعليه‌السلام سنة ( ٩٥ هـ ) في أيام حكم الوليد ابن عبد الملك وتوّلى الإمام محمد بن علي الباقرعليه‌السلام مسؤولية الإمامة بوصية من أبيه حيث أعلن عن إمامته أمام سائر أبنائه وعشيرته حين سلّمه صندوقاً فيه سلاح رسول اللهعليه‌السلام وقال له :( يا محمَّد هذا الصندوق فاذهب به إلى بيتك ، ثم قالعليه‌السلام :أما إنّه لم يكن فيه دينار ولا درهم ولكنه مملوءٌ علم ) (٢) .

إذن فهو صندوق يرمز لمسؤولية القيادة الفكرية والعلمية كما أنّ السلاح يرمز لمسؤولية القيادة الثورية .

وبالرغم من توالي الثورات التي تلت واقعة الطف والتي كان الإمام الباقرعليه‌السلام قد عاصرها جميعاً مع أبيهعليه‌السلام بقي موقف الأعمّ الأغلب من الناس الاستجابة لمنطق السيف الأموي إلى جانب القسم الآخر الذي آمن بأنّ الحكّام الأمويين يمثّلون الخلافة الإسلامية .

ـــــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٢٧٢ ـ ٢٧٧ .

(٢) بصائر الدرجات ٤/٤٤ و٤٨ ، وأصول الكافي ١/٣٠٥ وعنهما في بحار الأنوار : ٤٦/٢٢٩ .

٤٥

كما أنّه عاصر عمليات الهدم الفكري والتحريف والمسخ الثقافي الذي مارسه الأمويون بحق الرسالة والقيم الإسلامية .

وعند مجيء سليمان بن عبد الملك إلى الحكم بعد وفاة أخيه الوليد بن عبد الملك سنة ( ٩٦ هـ ) أصدر قرارات جديدة استراحت الأمة بسببها قليلاً حيث أمر بالتَنكيل ( بآل ) الحجاج بن يوسف الثقفي وطرد كلّ عمّاله وولاته(١) كما أطلق سراح المسجونين في سجون الحجّاج(٢) .

وفي سنة ( ٩٩ هـ ) تقلّد الحكم الأموي عمر بن عبد العزيز فازدادت الحريّات في مدّة خلافته القصيرة ، كما يراه بعض المؤرّخين ، كما أنّه عالج مشكلة الخراج التي قال عنها بأنّها سنّة خبيثة سنّها عمّال السوء(٣) .

وعامل العلويين معاملة خالف فيها أسلافه فقد جاء في كتابه لعامله على المدينة : ( فأقسم في ولد علي من فاطمة رضوان الله عليهم عشرة آلاف دينار فطالما تخطّتهم حقوقهم )(٤) ورَدَّ فدكاً ـ التي كان قد صادرها الخليفة الأوّل ـ على الإمام الباقرعليه‌السلام (٥) ورفع سبّ الإمام عليّعليه‌السلام الذي كان قد سنّه معاوية(٦) .

أمّا الناحية الفكرية : فتبعاً للتغيّرات السياسية نلمس تطوّراً في الجانب الفكري أيضاً ؛ فقد برزت في هذا الظرف تيارات فكريّة جديدة واتجّه الناس

ـــــــــــــــــ

(١) الكامل ، ابن الأثير : ٤/١٣٨ .

(٢) تاريخ ابن عساكر : ٤/٨٠ .

(٣) الكامل : ٥/٢٩ وتاريخ الطبري : ٨/١٣٩ .

(٤) مروج الذهب : ٣/١٩٤ .

(٥) الكامل : ٤/١٦٤ والمناقب : ٤/٢٠٧ وسفينة البحار : ٢/٣٧٢ .

(٦) انظر الفكر السامي ١/٢٧٦ عن صحيح مسلم ، وتاريخ اليعقوبي ٢/٢٢٣ و٢٣٠ و٢٣٥ و٣٠٥ ، وشرح النهج للمعتزلي ٥/٩٨ تاريخ الخميس : ٢/٣١٧ .

٤٦

للبحث والدرس وتلقّي المعرفة الإسلامية ورفع المنع الحكومي عن تدوين الحديث النبوي وبدأت تتميّز مدرسة أهل الحديث عن مدرسة أهل الرأي ومال الموالي من غير العرب إلى مدرسة أهل الرأي في الكوفة ، وتزعّم أبو حنيفة هذه المدرسة في حينها ضد مدرسة أهل الحديث في المدينة(١) .

وكنتيجة طبيعية للإخفاق الذي سجّلته الحركات الفكرية ، ظهرت فكرة الاعتزال التي نادى بها ( واصل بن عطاء ) في البصرة عندما اعتزل حلقة درس أستاذه ( الحسن البصري ) وهي تعتبر تعديلاً لفكرة الخوارج التي لم تلقَ رواجاً حينما قالت بكفر مرتكب الكبيرة(٢) ، والمرجئة التي قالت بأنّه لا تضر مع الإيمان معصية(٣) فقال واصل ( مؤسس اتّجاه الاعتزال والمتوفى في ١٣١هـ ) : إنّ صاحب الكبيرة ليس بمؤمن بإطلاق بل هو في منزلة بين منزلتين أي إنّ مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر لكنّه فاسق والفاسق يستحق النار بفسقه(٤) .

هذه صورة مجملة عن الواقع الذي عايشه الإمام الصادقعليه‌السلام خلال مرحلة قيادة أبيه الباقرعليه‌السلام .

متطلّبات عصر الإمام الباقرعليه‌السلام

ونلخّص دور الإمام الباقرعليه‌السلام في ثلاثة خطوط أساسية :

الخط السياسي ، وإكمال بناء الجماعة الصالحة ، وتأسيس جامعة أهل البيتعليه‌السلام العلمية .

ـــــــــــــــــ

(١) ضحى الإسلام لأحمد أمين : ٢/١٧٨ .

(٢) الملل والنحل : ١/١٥٨ .

(٣) تاج العروس ، مادة رجأ .

(٤) الأغاني : ٧ / ١٥ .

٤٧

١ ـ الخط السياسي للإمام الباقر عليه‌السلام

لقد كان الخيار السياسي للإمام الباقرعليه‌السلام في فترة تصدّيه للإمامة هو الابتعاد عن الصدام والمواجهة مع الأمويين وهذا واضح من خلال تصريحه الذي تضمّن بياناً للجوّ السائد وحالة الأمة ومستوى وعيها آنذاك :( إنْ دَعَوْناهم لم يستجيبوا لنا ) (١) .

كما نجده فيما بعد يستوعب سياسة الانفتاح والاعتدال التي أبداها عمر ابن عبد العزيز ، سواء كان هذا الاعتدال بدافع ذاتي لعلاقته بالإمامعليه‌السلام ، أم بدافع الضغوط الخارجيّة وخوفه من انهيار الدولة الأموية .

إنّ الإمام قد رسم خطّه السياسي في هذه المرحلة بأسلوبين :

الأسلوب الأول : تصريح الإمامعليه‌السلام برأيه حول عمر بن عبد العزيز وحكومته قبل تصدّي عمر للخلافة فعن أبي بصير ، قال : كنت مع أبي جعفر الباقرعليه‌السلام في المسجد ودخل عمر بن عبد العزيز وعليه ثوبان ممصّران متكئاً على مولى له فقالعليه‌السلام :( لَيَلِيَنَّ هذا الغلام [ أي سوف يتولّى السُلطة ]فيظهر العدل ) (٢) .

ولكن الإمامعليه‌السلام قدح في ولايته باعتبار وجود مَن هو أولى منه .

الأسلوب الثاني : أسلوب المراسلة واللقاء فقد روي أنّ عمر بن

ـــــــــــــــــ

(١) الإرشاد ، للشيخ المفيد : ٢٨٤ .

(٢) سفينة البحار : ٢/١٢٧ .

٤٨

عبد العزيز كرّم الإمام أبا جعفرعليه‌السلام وعظّمه وقد أرسل خلفه فنون ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود وكان من عُبّاد أهل الكوفة فاستجاب له الإمامعليه‌السلام وسافر إلى دمشق فاستقبله عمر استقبالاً رائعاً واحتفى به وجَرَت بينهما أحاديث وبقي الإمام أيّاماً في ضيافته(١) .

ومن المراسلات ما جاء أنّه : كتب عمر للإمامعليه‌السلام بقصد الاختبار فأجابه الإمام برسالة فيها موعظة ونصيحة له(٢) ، ولكن سياسة الابتعاد عن الصدام المباشر لم تمنع الإمام الباقرعليه‌السلام من أن يقف من الأمة بشكل عام ومن الأمويين وهشام بن عبد الملك بشكل خاص موقف التحدّي الفكري والعقائدي والعلمي لبيان الحق المغتصب وكشف ستار الباطل الذي كان قد أسدله الحكّام على الحق ورموزه .

وحين حجّ هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين وكان قد حجّ في تلك السنة محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام وابنه جعفر ، قال جعفر بن محمدعليه‌السلام في بعض كلامه :( الحمد لله الذي بعث محمّداً نبيّاً وأكرمنا به ، فنحن صفوة الله على خلقه وخيرته من عباده فالسعيد مَن اتّبعنا والشقيّ مَن خالفَنَا ، ومن الناس مَن يقول : إنّه يتولاَّنا وهو يتولّى أعدائنا ومَن يليهم من جلسائهم وأصحابهم ، فهو لم يسمع كلام ربّنا ولم يعمل به ) (٣) .

فبيّنعليه‌السلام مفهوم القيادة الإلهية ومصداقها الحقيقي الذي يمثّلها آنئذ .

وهذا الطرح وان كان فيه نوع مجابهة صريحة للحاكم وما يدور في

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ دمشق : ٥١/٣٨ .

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢/٣٠٥ .

(٣) دلائل الإمامة : ١٠٤ ـ ١٠٩ ، بحار الأنوار : ٤٦/٣٠٦ .

٤٩

أذهان الناس لكنّه لم يكن مغامرة ; لأنّ الظرف كان بحاجة إلى مثل هذا الطرح والتوضيح ، بالرغم من أنّه قد أدّى إلى أن يستدعي هشام الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام إلى الشام فيما بعد .

٢ ـ إكمال بناء الجماعة الصالحة

لم تكن عملية بناء الجماعة الصالحة وليدة عصر الإمام الباقرعليه‌السلام فقد باشرها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم لإمام عليعليه‌السلام ، حيث نجد لأشخاص أمثال مالك الأشتر وهاشم المرقال ، ومحمد بن أبي بكر ، وحجر بن عدي ، وميثم التمّار ، وكميل بن زياد ، وعبد الله بن العباس ، دوراً كبيراً في الصراع الذي خاضه الإمام عليعليه‌السلام مع مناوئيه .

واستمرت عملية البناء بشكل فاعل في عصر الإمامين الحسن والحسينعليهما‌السلام ، ثم تقلّص النشاط المباشر في بناء هذه القاعدة وتوسيعها ، ثم استمرّت عملية البناء في العقود الأخيرة من حياة الإمام زين العابدينعليه‌السلام وتكاملت في عصر الإمام الباقرعليه‌السلام حيث سنحت الفرصة له بأن يتحرك نحو تطوير الجماعة الصالحة بتوضيح أهدافها التي تمثّلت في الدفاع عن المجتمع الإسلامي وحفظ الشريعة الإسلامية من التحريف إلى جانب توسيع القاعدة كمّاً مع تطويرها كيفاً .

ونقتصر فيما يلي على بعض ما قام به الإمام الباقرعليه‌السلام من خطوات :

الخطوة الأولى : أخذ الإمامعليه‌السلام يعمّق ويوضّح صفات الجماعة الصالحة الموالية لأهل البيتعليهم‌السلام ودورها في المجتمع ، فقد جاء في وصفه لهذه الجماعة قولهعليه‌السلام :( إنّما شيعتنا ـ شيعة علي ـالمتباذلون في ولايتنا المتحابّون في

٥٠

مودّتنا ، المتزاورون لإحياء أمرنا ، الذين إذا غضبوا لم يظلموا ، وإذا رضوا لم يسرفوا ، بركة على مَنْ جاوروا ، سلم لمَن خالطوا ) (١) ، وقال أيضاً :( شيعتنا من أطاع الله ) (٢) .

وبهذا أراد الإمامعليه‌السلام أن يرسّخ الكمالات الإنسانية في جانبي الأخلاق والعبادة التي تعرّضت للضياع طيلة سنوات المحنة ، ويوضّح أن الانتماء لخطّ أهل البيتعليهم‌السلام هو بالعمل والتحلّي بهذه الصفات .

الخطوة الثانية : قام الإمامعليه‌السلام ـ بالإضافة إلى توضيح مستوى الروح الإيمانية التي ينبغي أن يتَمتّع بها أفراد الجماعة الصالحة ـ بشحذِ هممها وتربيتها على روح الصبر والمقاومة لكي تمتلك القدرة على مواصلة العمل في سبيل الله ومواجهة التحدّيات المستمرّة وعدم التنازل أمام الإغراءات أو الضغوط الظالمة ، فقد جاء في كلامهعليه‌السلام لرجل حين قال له : والله إنّي لأحبّكم أهل البيت فقالعليه‌السلام :( فاتّخذ للبلاء ، جلباباً ، فو الله إنّه لأسرع إلينا وإلى شيعتنا من السيل في الوادي ، وبنا يبدو البلاء ثم بكم ، وبنا يبدو الرخاء ثم بكم ) (٣) .

هكذا رسم الإمامعليه‌السلام معالم الطريق الشائك أمامه ، إنّه طريق مفروش بالدماء والدموع ، والإمام رائد المسيرة على هذا الطريق يصيبه البلاء أوّلاً قبل أن يصيب شيعتَه .

وقد كان الإمامعليه‌السلام يذكّرهم بمعاناة الشيعة قبل هذا الظرف بقولهعليه‌السلام :( قتلت شيعتنا بكلّ بلدة وقُطِعت الأيدي والأرجل على الظنة وكان مَن يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن ونُهب مالُه وهُدِمَت داره ) (٤) .

ومن الأعمال التي قام بها الإمامعليه‌السلام في بناء الجماعة الصالحة هو إلزام

ـــــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٢٩٥و ٣٠٠ .

(٢) تحف العقول : ٢٩٥و ٣٠٠ .

(٣) بحار الأنوار : ٤٦/٣٦٠ ، وأمالي الشيخ الطوسي : ٩٥ .

(٤) حياة الإمام الحسنعليه‌السلام دراسة وتحليل : ٢/٢٥٧ .

٥١

أتباعه وخاصّته بمبدأ التقية ؛ حفاظاً عليهم من القمع والإرهاب والإبادة التي طالما تعرّضوا لها وقد اعتبر هذا المبدأ من الواجبات الشرعية ذات العلاقة بالإيمان ، فكان يوصيِهم بالتقية قائلاً :( التقيّة ديني ودين آبائي ، ومَن لا إيمان له لا تقيّة له ) (١) .

ومن المبادئ التي تتداخل مع التقيّة : كتمان السرّ ، فقد جاء عنهعليه‌السلام في وصيّته لجابر بن يزيد الجعفي في أوّل لقاء له بالإمامعليه‌السلام : أن لا يقول لأحد أنّه من أهالي الكوفة ، وليظهر بمظهر رجل من أهل المدينة وجابر الجعفي هذا قد أصبح فيما بعد صاحب سرّ الإمامعليه‌السلام ، ولشدّة فاعليّته وتأثيره في الأمة أمر هشام بن عبد الملك واليه في الكوفة بأن يأتيه برأس جابر ، لكنّ جابراً قد تظاهر بالجنون قبل أن يصدر الأمر بقتله حسب إرشادات الإمام الباقرعليه‌السلام التي كانت تصله سرّاً ، فقد جاء في كتاب هشام إلى واليه : أن أُنظر رجلاً يقال له جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه وابعث إليَّ برأسه .

فالتفت إلى جلسائه فقال لهم : مَن جابر بن يزيد الجعفي ؟ قالوا : أصلحك الله ، كان رجلاً له علم وفضل وحديث وحجّ فجنّ وهو ذا في الرحبة مع الصبيان على القصب يلعب معهم .

قال : فأشرف عليه فإذا هو مع الصبيان يلعب على القصب فقال : الحمد لله الذي عافاني من قتله(٢) .

وكان في هذه المرحلة رجال كتموا تشيّعهم وما رسوا نشاطات مؤثرة في حياة الأمة فكرية وعسكرية وفقهية مع الاحتفاظ بعلاقاتهم ، فمن فقهاء الشيعة : سعيد بن المسيّب ، والقاسم بن محمد ، فقد كانا بارزين بين علماء ذلك العصر

ـــــــــــــــــ

(١) أصول الكافي : ٢/١٧٤ .

(٢) بحار الأنوار : ٤٦/٢٨٢ ، والكافي : ١/٣٩٦ .

٥٢

في الفقه وغيره إلاَّ أنّه لم تكن لهم صبغة التشيّع الصريح ، فقد شاع عن سعيد بن المسيّب أنّه كان يجيب أحياناً برأي غيره من علماء عصره أو برأي مَن سبقه من الصحابة ؛ مخافة أن يصيبه ما أصاب سعيد بن جبير ويحيى بن أم الطويل وغيرهما ممّن تعرّضوا للقتل والتشريد بسبب تشيّعهم .

وهذا موسى بن نصير من رجالات الكوفة العسكريين وزهّادها المؤمنين ممّن عرف بولائه لأهل البيتعليهم‌السلام هو وأبوه نصير ، ولقد غضب عليه معاوية إذ لم يخرج معه لصفِّين ، وموسى هو الذي فتح الفتوحات العظيمة في بلاد المغرب وكان تحت إمرته مولاه طارق بن زياد وولده عبد العزيز وبسبب تشيّعه غضب عليه سليمان بن عبد الملك وقبل أن يقتله عرّضه لأنواع العذاب فقتل ولده أمامه وألزمه بدفع مبلغ كبير(١) .

وكان لجابر الجعفي وزرارة وأبان بن تغلب وغيرهم دور بالغ في نجاح حركة الإمام الفكريّة ، وأصبحوا ـ فيما بعد ـ النواة لجامعته ، وبقي هؤلاء بعد وفاة الإمام الباقرعليه‌السلام بصحبة ولده الصادقعليه‌السلام ليمارسوا مسؤولياتهم بحجم أكبر كما سيأتي توضيحه .

٣ ـ تأسيس جامعة أهل البيت عليهم‌السلام

جاءت فكرة زرع البذرة الفكرية وتشكيل النواة الأولى لجامعة علمية إسلامية في هذهِ المرحلة كضرورة حضارية لمواجهة التحدّي الحاضر ونسف البنى الفكرية لكل الأطروحات السابقة التي وجدت من ظروف المحنة مناخاً مناسباً لبثّ أفكارها .

كما تأتي ضرورة وجود تيّار فكري يبلور الأفكار الإسلامية الأصيلة

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢/٢٩٤ .

٥٣

ويعبّئ بها ذهن الأمة ويفوّت الفرصة على الظالمين في حالة تبدّل الظروف .

ويمكن تلخيص الأسباب التي شكّلت عاملاً مهمّاً في التهيئة لنجاح هذه الجامعة فيما يلي :

١ ـ لقد عُزلت الأمة عن تبني أفكار الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام وفقههم أكثر من قرن وبقيت تتناقله الخواص في هذه الفترة عن طريق الكتابة والحفظ شفاهاً وبالطرق السرّية .

٢ ـ في هذه الفترة طرحت على العالم الإسلامي تساؤلات فكريّة ومستجدّات كثيرة لم تمتلك الأمة لها حلاًّ بسبب اتّساع البلاد الإسلامية وتبدّل الظروف وحاجات المسلمين .

٣ ـ شعر المسلمون في هذا الظرف بأهمية البحث عن مبدأ فكري يتكفّل حلّ مشكلاتهم ; لأنّ النصّ المحرّف واجتهادات الصحابة أصبح متخلّفاً عن المواكبة ، بل أصبح بنفسه مشكلة أمام المسلم لتعارضه مع العقل والحياة .

٤ ـ في هذا العصر ظهرت مدارس فكرية متطرّفة مثل مدرسة الرأي القائلة بالقياس والاستحسان ، زاعمة أنّ للنصوص التي نقلت عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قليلة(١) لا تفي بالغرض ، الأمر الذي تسرّب فيه العنصر الذاتي للمجتهد ودخل الإنسان بذوقه الخاص إلى التشريع(٢) ، كما ظهرت مدرسة الحديث قِبال

ـــــــــــــــــ

(١) هذا في غير مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام الذين حرصوا على نقل تراث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وواجهوا منع تدوين السنّة النبوية بالحث على التدوين والنقل والتعليم ؛ لئلاَّ تندرس معالم الدين .

(٢) فقد عرف حسن أبي حنيفة أنّه لم يصح عنده من أحاديث الرسول الفقهية سوى سبعة حشر حديثاً راجع مقدمة ابن خلدون : ٣٧٢ .

٥٤

مدرسة الرأي والتي عرفت بالجمود على ظاهر النص ولم تتفرّغ لتمييز صحيح النصوص من غيره .

٥ ـ غياب القدوة الحسنة والجماعة الصالحة التي تشكّل مناخاً لنمو الفضيلة وزرع الأمل في نفوس الأمة باتّجاه الأهداف الربّانيّة .

في هذا الظرف الذي ذهب فيه الخوف واستطاع المسلم أن يبحث عن المعرفة وعن حل لمشكلاته الفكرية ، قام الإمام الباقرعليه‌السلام بتشكيل حلقاته العلمية في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ فكان وجودهعليه‌السلام مركز جذب لقلوب طلاب الحقيقة فالتفّ حوله صحابة أبيه الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، وبدأ منذ ذلك الحين بالتركيز على بناء الكادر العلمي آملاً أن يواجه به المشكلات الفكرية التي بدأت تغزو الأمة المسلمة وكان يشكّل هذا الكادر فيما بعد الأرضية اللازمة لمشروع الإمام الصادقعليه‌السلام المرتقب ، فتناول الإمامعليه‌السلام أهمّ المشكلات الفكرية التي كان لها ارتباط وثيق بحياة الناس العقائدية والأخلاقية والسياسية .

وزجّ الإمام بكادره العلمي وسط الأمة بعد أن عبّأه بكل المؤهّلات التي تمكّنهُ من خوض المعركة الفكرية حينما قال لأبان بن تغلب :( اجلس في مسجد المدينة وافت الناس فإنّي أحبّ أن أرى في شيعتي مثلك ) (١) .

وعندما يدرك الأصحاب مغزى هدف الإمام من هذا التوجيه وضرورة الحضور مع الناس ؛ يتصدّى هؤلاء بأنفسهم لمعالجة المشكلات الفكرية وإبطال الشبه عن طريق الحوار والمناظرة حسب الخط الذي رسمه لهم الإمامعليه‌السلام في وقت سابق .

ـــــــــــــــــ

(١) اختيار معرفة الرجال للكشي ٢/٦٢٢ ، ح ٦٠٣ .

٥٥

قال عبد الرحمن بن الحجاج : كنّا في مجلس أبان بن تغلب فجاء شاب فقال له : يا أبا سعيد أخبرني كم شهد مع علي بن أبي طالب من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ وأدرك أبان مراده فانبرى قائلاً : كأنّك تريد أن تعرف عليّاً بمَن تبعه من أصحاب رسول الله ؟ فقال هو ذاك .

فأجابه أبان : والله ما عرفنا فضلهم ـ أي الصحابة ـ إلاَّ باتّباعهم إيّاه .

وتعميقاً لهذا التوجيه وبنفس السياق يبادر محبوب أهل البيت ولسانهم مؤمن الطاق ليواجه أفكار حركة الخوارج ويردّ على جرأتها في التشكيك بموقف الإمام عليعليه‌السلام من مسألة التحكيم(١) .

يدخل مؤمن الطاق على بعض زعماء الخوارج في الكوفة فيقول له : أنا على بصيرة من ديني وقد سمعتك تصف العدل فأحببت الدخول معك ، فيقول الخارجي لأصحابه إن دخل هذا معكم نفعكم.

فيقول له مؤمن الطاق : لِمَ تبرّأتم من عليّ بن أبي طالب واستحللتم قتله وقتاله ؟

يجيبه الخارجي : لأنّه حكّم الرجال في دين الله .

فيقول له : وكلَّ من حكّم في دين الله استحللتم قتله ؟

فيجيب الخارجي : نعم .

فيقول له : أخبرني عن الدين الذي جئت أُنظارك به لأدخل معك فيه ، إن غَلَبَتْ حجّتي حجّتك ، من يوقِفُ المخطئ منّا عن خطئه ويحكم للمصيب بصوابه ؟

فيشير الضحّاك إلى رجل من أصحابه ويقول : هذا هو الحكم بيننا .

ـــــــــــــــــ

(١) معجم رجال الحديث : ١/٢١ ـ ٢٢ وتنقيح المقال : ١/٤ .

٥٦

هنا يتوجّه مؤمن الطاق إلى مَن كان حاضراً من الخوارج ويقول : زعيمكم هذا قد حكّم في دين الله(١) وهكذا يفحمهم بحجّته البالغة ومنطقه القويم .

وقبل أن ننتهي من حياة الإمامعليه‌السلام نشير إلى ثلاث وقائع تاريخية لها صلة بالمرحلة التي سوف يتصدّى لها الإمام الصادقعليه‌السلام .

الواقعة الأولى : إنّ هشام بن عبد الملك هو واحد من الحكّام الأمويين الَّذين نصبوا العداوة لأهل البيت ، بل نراه قد زاد على غيره حتَّى أنّه على أثر الخطبة التي خطبها الإمام الصادقعليه‌السلام في مكة والتي أوضح فيها معنى القيادة ولمَن تكون القيادة ، يأمر هشام فور رجوعه إلى الشام بجلب الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام إلى دمشق لغرض التنكيل بهما .

وبعد اللقاء بهشام تفوّق الإمام الباقرعليه‌السلام في البلاط الأموي في الحوار الذي أجراه مع هشام ثم حواره مع عالم النصارى في الشام ، يسمح لهما هشام بالرجوع إلى المدينة ولكنّه يأمر أمير ( مدين ) ـ وهي المدينة الواقعة في طريقهما ـ بإيذائهما فقد جاء في رسالته : إنّ ابن أبي تراب الساحر محمّد بن علي وابنه جعفر الكذابين فيما يظهران من الإسلام ، قد وردا عليّ فلمّا صرفتهما إلى يوم الدين مالا إلى القسسين والرهبان ، وتقربّا إليهم بالنصرانية فكرهت النكال لقربهما ، فإذا مرّا بانصرافهما عليكم فليناد في الناس : برئت الذمّة ممّن باعهما وشاراهما وصافحهما وسلّم عليهما ، ورأى أمير المؤمنين قتلهما ودوابّهما وغلمانهما لارتدادهما والسلام(٢) .

ولم يترك هشام الإمام الباقرعليه‌السلام حُرّاً يتحرّك في المدينة ، ولم يسترح

ـــــــــــــــــ

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢/ ٧٢ .

(٢) دلائل الإمامة : ١٠٤ ـ ١٠٩ وبحار الأنوار : ٤٦ ـ ٣٠٦ .

٥٧

من تواجده في الساحة الإسلامية حتَّى أقدم على قتله غيلةً بالسمّ سنة (١١٤هـ)(١) .

الواقعة الثانية : في هذهِ الفترة تحفّز زيد بن علي بن الحسينعليه‌السلام وصمّم على الثورة ضد هشام بن عبد الملك على أثر تصرّفات الأمويين ، ولا سيّما تصرّف هشام المهين بحق زيد ، والنيل من كرامته ، وما كان يفعله هشام بحق الشيعة بشكل خاص .

لقد دخل زيد على هشام فسلّم عليه بالإمرة فلم يردّ السلام إهانةً له ، بل أغلظ في الكلام ولم يفسح له في المجلس .

فقال زيد : السلام عليك يا أحول ، فإنّك ترى نفسك أهلاً لهذا الاسم فغضب هشام وجرت بينهما محاورة كان نصيب هشام فيها الفشل ، وخرج زيد وهو يقول : ما كره قومٌ حرّ السيوف إلاَّ ذلّوا .

وأمر هشام بردّه وقال له : اُذكر حوائجك ، فقال زيد : أما وأنت ناظر على أمور المسلمين فلا وخرج من عنده وقال : مَن أحبّ الحياة ذلّ(٢) .

ومضى زيد إلى الكوفة ثمّ خطّط للثورة واستشار بذلك الإمام الباقرعليه‌السلام .

قال الإمام الصادقعليه‌السلام :إنّ عمّي أتى أبي فقال إنّي أريد الخروج على هذا الطاغية .

ولمّا أزمع على الخروج أتاه جابر بن يزيد الجعفي فقال له : إنّي سمعت أخاك أبا جعفر يقول :إنّ أخي زيد بن علي خارج ومقتول وهو على الحق فالويل لمَن خذله ، والويل لمَن حاربه ، والويل لمَن يقتله فقال له زيد : يا جابر لم يسعني أن أسكت وقد خولف كتاب الله تعالى

ـــــــــــــــــ

(١) شذرات الذهب : ١/١٤٩ ، تاريخ بن الأثير : ٤/٢١٧ ، طبقات الفقهاء : ٣٦ .

(٢) تاريخ الطبري : حوادث سنة ( ١٢١ ) ، وتاريخ ابن عساكر : ٦ / ٢٢ ـ ٢٣ .

٥٨

وتحوكم بالجبت والطاغوت(١) .

الواقعة الثالثة : ولمّا قربت وفاة الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام دعا بأبي عبد الله جعفر الصادقعليه‌السلام فقال له :إنّ هذه الليلة التي وُعدت فيها ثم سلّم إليه الاسم الأعظم ومواريث الأنبياء والسلاح وقال له :يا أبا عبد الله ، الله الله في الشيعة فقال أبو عبد الله :لا تركتهم يحتاجون إلى أحد ... (٢) .

بهذا العرض ننتهي من تصوير حياة الإمام الصادق مع أبيه لتبدأ مرحلة تصدّيه للإمامة ، وبها يبدأ عصر جديد من العمل والجهاد والإصلاح .

ـــــــــــــــــ

(١) راجع تيسير المطالب : ١٠٨ ـ ١٠٩ .

(٢) إثبات الهداة : ٥/٣٣٠ .

٥٩

الباب الثالث :

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : ملامح عصر الإمام الصادقعليه‌السلام .

الفصل الثاني : دور الإمامعليه‌السلام في تثبيت معالم الرسالة .

الفصل الثالث : دور الإمامعليه‌السلام في بناء الجماعة الصالحة .

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341