الفقه والمسائل الطبية

الفقه والمسائل الطبية11%

الفقه والمسائل الطبية مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 341

الفقه والمسائل الطبية
  • البداية
  • السابق
  • 341 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92416 / تحميل: 7841
الحجم الحجم الحجم
الفقه والمسائل الطبية

الفقه والمسائل الطبية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الجغرافيين العرب لم يتّفقوا على رأيٍ واحدٍ بصدده.

فالمقدسي المعروف بالبشاري يقول: (أمّا جبل اللكام، فإنّه أعمر جبال الشام، وأكبرها وأكثرها ثماراً، وهو اليوم بِيَد الأرمن، وطرسوس ورائه، وأنطاكية دونه)(1) .

أمّاالاصطخري فيذكر: (وكورة الشام إنّما هي من حدّ فلسطين، وحدّ الشام، وثغور الجزيرة جبل اللكام، وهو الفاصل بين الثغرين، وجبل اللكام داخل في بلد الروم، وينتهي إلى نحو مئتي فرسخ، ويظهر في بلاد الإسلام من مرعش والهارونية وعين زربة فيسمّى لكام، إلى أن يجاوز اللاذقية ثمّ تسمّى بهراء وتنوخ، إلى حمص ثمّ تسمّى جبل لبنان)(2) .

وياقوت الحموي يقول: (اللكام وهو الجبل المشرف على أنطاكية، وبلاد ابن ليون والمصيصة وطرسوس، وتلك الثغور)(3) .

وفي لبنان توجد النصيرية في شمال عكار(4) ، وفي وادي التيم(5) ، كما توجد في جبال الظنيين.

ويقولابن الوردي : (أحاطت عساكر الشام بجبال الظنيين المنيعة، وكانوا عصاة مارقين، وترجّلوا عن الخيل، وصعدوا في تلك الجبال من كل جانب، وقتلوا وأسّروا جميع مَن فيها من النصيرية)(6) .

ولم يحدّد ابن الوردي مكان وجود هذه الجبال، ونعتقد أنّه المقصود بجبال الظنيين هو جبل الضنية أو الظنية، الواقع إلى الشمال من بشري.

يقولأنطوان شكر الله حيدر: (وهذا الجبل يحمِل إلى هذا اليوم اسم الجماعة الشيعية التي استقرّت به، وهي الضنية أو الظنية على الأصحّ، وهو

____________________

(1) أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم.

(2) كتاب الأقاليم.

(3) معجم البلدان: الجزء5، ص22.

(4) أحد الآباء اليسوعيين: مختصر تاريخ سورية ولبنان.

(5) الدكتور محمد علي مكي: لبنان من الفتح العربي إلى الفتح العثماني.

(6) تتمة المختصر في أخبار البشر.

٤١

الاسم الذي أُطلق على عدد من الفِرق الباطنية، وبخاصة الإسماعيلية)(1) .

وبهذا المعنى كتبَ الشيخ طه الولي (وكان آل عمار على مذهب الشيعة الإمامية، وقد امتدّ سلطانهم حتى شملت - بالإضافة إلى طرابلس - مناطق عكار، والضنية، وبلاد جبيل، والبترون، وما تزال الجبال المطلّة على طرابلس من جهة الشرق تحمل حتى اليوم اسم (الضنية)، والضاد هنا حلّت مكان الظاء، وهذه الكلمة أُطلقت في الماضي على هذه الجبال ؛ لأنّ أهلَها كانوا يُعرفون آنذاك باسم الظنية، وهو الاسم الذي اشتهروا به ؛ لأنّهم كانوا على مذهب الشيعة، الذين يقولون بالظنّ والتأويل في تفسير أحكام الشريعة الإسلامية، الواردة في القرآن الكريم والسنّة الشريفة)(2) .

وتوجد النصيرية أيضاً في العراق، في الشرطة، وهي كما يذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان: (كورة كبيرة من أعمال واسط، بينها وبين البصرة، لكنّها عن يمين المنحدر إلى البصرة).

كما توجد في بعض أجزاء شمال فلسطين.

أمّا في البلاد الأوروبية، فتوجد النصيرية في كلٍّ من: تركيا، واليونان، وبلغاريا، وألبانيا السفلى.

وبنتيجة الهجرة، توطّنت جماعات كثيرة منهم في أمريكا الجنوبية، وبشكلٍ خاص في الأرجنتين والبرازيل.

____________________

(1) مجلّة الحوادث: العدد 1143 تاريخ 29/9/1987.

(2) جريدة اللواء، العدد 3381، تاريخ 29/6/1980.

٤٢

عقائدُ النصيرية

ذهبت أقوال المؤرّخين حول عقائد النصيرية في كلّ اتجاه، واختلطت الأقوال اختلاطاً عجيباً، وتشابكت وبَلَغ تشابكها حدّاً استحالَ معه إيجاد نقطة تلاقٍ واحدة، ما بين قول وقول، وبالتالي أصبحت معرفة ما هو حقيقي، وما هو موضوع مدسوس من أشقّ الأمور على الباحث.

وليس بخافٍ أنّ اصطلاح (نصيرية) ظهرَ في عدد كثُرت فيه الفتن، والانقسامات والميول، والأهواء والنزعات، والمذاهب الفلسفية، والعداوات المذهبية، كما كثر فيه الدسّ والاختلاق والتحريف، وتزييف الحقائق وتشويهها.

وأوّل ما يلاحظ أنّ عقائد النصيرية - كما وردتنا - مأخوذة كلّها من خصوم هذا المذهب، ولم نرَ أيّاً من المؤرّخين مَن ذَكر اسم كتابٍ واحدٍ من كتب النصيرية، أو ذَكر اسم رجلٍ واحدٍ من رجالاتها.

ولمـّا كان أخذ المذهب من خصومه مغامرة جريئة، تحتاج إلى كثيرٍ من التحرّي والدقّة، لذلك فإنّنا تعامَلنا مع مختلف الأقوال بمنتهى الحيطة والحذر، ووقفنا عند كلّ نقطة، وحاولنا جهد المستطاع إرجاع الأشياء إلى أُصولها، ولا غنى عن القول: إنّه لابدّ عند البحث عن عقائد النصيرية من التمييز ما بين نوعين من الكتابات:

٤٣

الأوّل: كتابات المؤرّخين الأقدَمين.

الثاني: كتابات المؤرّخين المحدَثين، ثمّ المعاصرين، وهناك اختلافُ كبير، بين هذين النوعين من الكتابات.

ونحن في هذا الفصل، سنتكلّم عن عقائد النصيرية كما تحدّث عنها القدماء، ثمّ كما تحدّث عنها المحدّثون، ثمّ كما تحدّث عنها رجالات العلويين وشيوخهم، وكما تظهر في كتاباتهم وأشعارهم.

٤٤

النصيريةُ عند الأقْدمين

كان ما كتَبه حمزة بن علي (ت 433هـ)، أحد مؤسّسي المذهب الدرزي، في رسالته المسمّاة(الرسالة الدامغة في الردّ على النصيري)، أوّل إشارة وصَلت إلينا عن عقائد النصيرية.

وهذه الرسالة جاءت ردّاً على كتاب(الحقائق وكشف المحجوب) ، الذي ألّفه شخصٌ من النصيرية لم نعرف اسمه، أثارتهُ - على ما يبدو - دعوى القائلين بتأليه الحاكم، فصنّفَ كتابه للتشنيع عليهم، والطعن في مقالتهم، كما يُفهم ممّا أورده حمزة في رسالته، لم يكن لهذا الفاسق النصيري - لعنة المولى عليه - بُغية غير الفساد في دين مولانا جلّ ذِكره، ودين المؤمنين، ودين مولانا لا ينفسد أبداً.

لذلك رأينا حمزة يُحذّر من قبول كلام هذا النصيري، مُعلناً أنّ (مَن قَبِل كلامه عَبَد إبليس، واعتقد التناسخ، وحلّل الفروج، واستحلّ الكذب والبهتان).

ومن خلال ردّ حمزة على (النصيري) قارنَ بين أقوال النصيرية، وأقوال القائلين بإلوهية الحاكم، موضّحاً حقيقة أقوال مؤلّهة الحاكم، من ذلك مثلاً قوله: (مَن اعتقدَ التناسخ مثل النصيرية المعنوية، في علي بن أبي طالب وعَبَده - خسرَ الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين).

وقوله: (ثمّ إنّه إذا ذكرَ علياً يقول: علينا سلامه ورحمته، وإذا ذكرَ مولانا جلّ ذكره يقول: علينا سلامه. فيطلب الرحمة من المفقود المعدوم

٤٥

ويجحد الموجود الحاكم بذاته المنفرد عن مبدعاته، ولا يكون في الكفر أعظم من هذا، فصحّ عند الموحّد العارف بأنّ الشرك الذي لا يُغفر أبداً (هو): بأن يُشرك بين علي بن أبي طالب وبين مولانا جلّ ذكره، ويقول: علي مولانا الموجود، ومولانا هو علي، لا فرق بينهما، والكفر ما اعتقدهُ هذا الفاسق من العبادة في علي بن أبي طالب والجحود لمولانا جلّ ذكره).

وإلى جانب اتّهام حمزة بن علي النصيرية، باعتقادهم التناسخ، وعبادة علي بن أبي طالب، فقد اتّهمهم بأمورٍ أخلاقية تنال من سمعتهم وشرفهم، من ذلك: (إنّ النصيريين لا يُحرّمون القتل ولا السرقة، ولا الكذب ولا الافتراء، ولا الزنا حتى ولا اللواطة، ولا يحجب عريقو النصيرية نساءهم وبناتهم عن بعضهم، ولا يعبأون بكلّ ما يمكن حدوثه بين الرجال والنساء، وإلاّ فلا يكمل إيمانهم).

وكان هذا الاتّهام ردّاًَ على اتّهام النصيريين، القائلين بإلوهية الحاكم بأنّ (جميع ما حرّموه من القتل والسرقة والكذب والبهتان والزنا والفاحشة، فهو مطلق للعارف والعارفة)، ونحن لا نستطيع أن نطمئن إلى صحة اتّهامات كل واحدٍ منهما إلى الآخَر ؛ لأنّ الدافع إليها خلاف عقائدي شديد، فلا عجب إذاً أن يَصمَ كلٌ منهما الآخَر بأقبح وأشنع التّهم ؛ للحطّ من مقامه.

وأوّل مَن تنبّه إلى بطلان الاتّهامات التي كالَها حمزة بن علي إلى النصيرية، صاحبا (ولاية بيروت)، رفيق التميمي، ومحمد بهجت، إذ قالا: (لعلّ هذه الاتّهامات مختلَقة، إذ لا يُعثر في كتب النصيرية، ولا في أغانيهم أدنى إشارة تدلّ على صحتها، وقد أجمعَ كلّ مَن احتكّ بهذه الطائفة واختبرها أنْ لا صحة لوجود تلك الرذائل الأخلاقية فيهم، ولعلّ مؤلّف الرسالة الدامغة استهجنَ من النصيريين عدم الاحتجاب فضربَ أخماسه بأسداسه، وتشفّى منهم بهذه التّهمة المشينة).

وقد تناسى المؤرّخون كتاب النصيري، وتمسّكوا بكل ما جاء في رسالة حمزة التي ذاعت وانتشرت، وكانت نقطة الانطلاق لكلّ مَن يريد أن يطعن في أخلاقيات النصيرية.

٤٦

ومن القدماء الذين أشاروا إلى شيء من عقائد النصيرية أيضاً، المعرّي في (اللزوميات)، بقوله:

يا آكِلَ التُفّاحِ لا تَبعَدَن

وَلا يُقِم يَومُ رَدىً ثاكِلَك

قالَ النُصَيريُّ وَما قُلتُهُ

فَاِسمَع وَشَجِّع في الوَغى ناكَلَك

قَد كُنتَ في دَهرِكَ تُفّاحَةً

وَكانَ تُفّاحُكَ ذا آكِلَك

وَحَرفَ هاجٍ لُحتَ فيما مَضى

وَطالَما تَشكُلُهُ شاكَلَك

وفي(رسالة الغفران) عند حديثه عن التناسخ، إذ قال: (وتؤدّي هذه النحلة إلى التناسخ، وهو مذهبٌ عتيقٌ يقول به أهل الهند، وقد كثر في جماعة من الشيعة، نسأل الله التوفيق والكفاية، وينشد لرجلٍ من النصيرية:

أعَجَبي أمنّا لصرف الليالي

جعلتْ أختَنا سكينة قاره

فازجري هذه السنانير عنها

واتركيها وما تضمّ الغراره

وقال آخَرٌ منهم:

تبارك الله كاشفَ المِحن

فقد أرانا عجائب الزمن

حمار شيبان شيخُ بلدتنا

صيّره جارنا أبو السكن

بدّل من مَشيته بحلته

مَشيته في الحزام والرسن

وهذه الأبيات - التي رواها المعرّي عن اثنين من النصيرية لم يسمِّهما - لا تعطينا أيّة فكرة عن مذهب النصيرية، وهي تفيد السخرية والدعابة لا أكثر.

وأوّل مَن تعرّض للحديث عن النصيرية - من كتّاب الفِرق - الشهرستاني في(الملل والنحل) ، وجميع الذين كَتبوا عن الفِرق الإسلامية من قَبله، وهم: ابن قتيبة (ت 276هـ)، النوبختي (ت: 288هـ)، الأشعري القمي (ت: 301هـ)، أحمد بن حمدان الرازي (ت 332هـ)، الأشعري (ت 324هـ)، البلخي (ت: 340هـ)، المسعودي (ت 346هـ)، الملطي (ت 377هـ)، البغدادي (ت: 429هـ)، لم يأتِ

٤٧

أيٌ منهم على ذكر للنصيرية، والشهرستاني عندما تكلّم عن النصيرية، لم يتكلّم عنها لوحدها، وإنّما تكلّم عنها وعن الإسحاقية معاً، معتبراً إيّاهما فرقة واحدة، قال:

(النصيرية والإسحاقية من جملة غلاة الشيعة، ولهم جماعة ينصرون مذهبهم، ويذبّون عن أصحاب مقالاتهم، وبينهم خلافٌ في كيفية إطلاق اسم الإلهية على الأئمة أهل البيت).

قالوا: ظهور الروحاني بالجسد الجسماني أمرٌ لا ينكره عاقل، أمّا في جانب الخير فكظهور جبريلعليه‌السلام ببعض الأشخاص والتصوّر بصورة أعرابي، والتمثّل بصورة البشر، وأمّا في جانب الشر فكظهور الشيطان بصورة إنسان حتى يعمل الشرّ بصورته، وظهور الجن بصورة بشر حتى يتكلّم بلسانه.

فكذلك نقول: إنّ الله تعالى ظهرَ بصورة أشخاص، ولمـّا لم يكن بعد رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) شخص أفضل من علي (رضي الله عنه) وبعده أولاده المخصوصون، وهُم خيرُ البريّة، فظهرَ الحقّ بصورتهم، ونطق بلسانهم، وأخذ بأيديهم، فعن هذا أطلقنا اسم الإلهية عليهم، وإنّما أثبتنا الاختصاص لعليعليه‌السلام دون غيره ؛ لأنّه كان مخصوصاً بتأييد إلهي من عند الله تعالى، فيما يتعلّق بباطن الأسرار.

قال النبي (صلّى الله عليه وسلّم): (أنا أحكم بالظاهر والله يتولّى السرائر)، وعن هذا كان قتال المشركين إلى النبي (صلّى الله عليه وسلّم)، وقتال المنافقين إلى علي (رضي الله عنه)، ومن هذا شبّهه بعيسى بن مريمعليه‌السلام فقال النبي (صلّى الله عليه وسلّم): (لولا أن يقولَ الناس فيكَ ما قالوا في عيسى بن مريم عليه السلام لقلتُ فيكَ مقالاً)، وربّما أثبتوا له شركة في الرسالة ؛ إذ قال النبي (صلّى الله عليه وسلّم): (فيكم مَن يقاتل على تأويله، كما قاتلتُ على تنزيله، ألا وهو خاصف النعل).

فعِلم التأويل، وقتال المنافقين، ومكالمة الجن، وقلع باب خيبر لا بقوّة جسدانية، من أوّل الدليل على أنّ فيه جزءاً إلهياً وقوّة ربّانية، أو يكون هو الذي ظهرَ الإله بصورته وخلق بِيَده وأمر بلسانه. وعن هذا قالوا: كان هو موجوداً قبل خلق السماوات والأرض، قال: (كنّا أظلّة على يمين العرش، فسبّحنا فسبّحت الملائكة بتسبيحنا)، فتلك الظِلال وتلك الصور التي تُنبئ عن الظِلال هي

٤٨

 حقيقته، وهي مشرقة بنور الربّ، إشراقاً لا ينفصل عنها، فسواء كانت في هذا العالَم أو في ذلك العالم، وعن هذا قال علي (رضي الله عنه): (أنا مِن أحمد كالضوء من الضوء، لا فرق بين النورين، إلاّ أنّ أحدهما سابقٌ، والثاني لاحقٌ به تالٍ له).

قالوا: وهذا يدلّ على نوع من الشركة، فالنصيرية أمْيَل إلى تقرير الجزء الإلهي، والإسحاقية أمْيَل إلى تقرير الشركة في النبوّة، ولهم اختلافات أُخرى لا نذكرها.

وقد نجزت الفِرق الإسلامية وما بقيت إلاّ فرقة الباطنية....).

وتستوقفنا في هذا النص الملاحظات التالية:

1 - لم يذكر الشهرستاني أسماء أصحاب مقالة النصيرية والإسحاقية، كما أنّه لم يَنسب أيّاً من الفرقتين إلى شخصٍ معيّن بالذات.

2 - ذكرَ للبيانية مقالة تشبه مقالة النصيرية شبهاً كاملاً، هي: (أتباع بيان بن سمعان التميمي، قال: حلّ في علي جزء إلهي، واتّحد بجسده، فبه كان يعلم الغيب ؛ إذ أخبرَ عن الملاحم وصحّ الخبر، وبه كان يحارب الكفار وله النصرة والظفر، وبه قلع باب خيبر، وعن هذا قال: (والله، ما قلعتُ باب خيبر بقوّة جسدانية، ولا بحركة غذائية، ولكن قلعته بقوّة رحمانية ملكوتية بنور ربّها مضيئة).

3 - إذا تأمّلنا قوله: (وقد نجزت الفِرق الإسلامية وما بقيت إلاّ فرقة الباطنية)، وقارنّاه بما ذكره عن الإسماعيلية (وأشهر ألقابهم الباطنية، وإنّما لزمَهم هذا اللقب لحُكمهم بأنّ لكلّ ظاهر باطناً، ولكلّ تنزيل تأويل، ولهُم ألقابٌ كثيرة، سوى هذه على لسان قوم قوم، فبالعراق يسمّون الباطنية، والقرامطة، والمزدكية، وبخراسان التعليمية، والملحدة...) تبيّن لنا أنّ النصيرية غير القرامطة والباطنية، وأنّه لا رابطة تجمع ما بينهم وبين هؤلاء.

4 - يُفهم من كلامه: أنّ مقالة الإسحاقية هي ذاتها مقالة النصيرية، والخلاف ما بينهما محصور فقط في كيفية إطلاق اسم الإلهية على الأئمة أهل البيت، وأنّ النصيرية أمْيَل إلى تقرير الجزء الإلهي، بينما الإسحاقية

٤٩

أمْيَل إلى تقرير الشركة في النبوّة.

لكنّه أوقَع نفسه في تناقضٍ كبير، حينما ذكر للإسحاقية مقالة تختلف تماماً مع ما تقدّم بيانه ؛ وذلك عند حديثه عن الكرامية، قال:

(أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام،... وهُم طوائف بَلَغ عددهم اثنتي عشرة فرقة، وأصولها ستة: العابدية، والتونية، والزرينية، والإسحاقية، والواحدية، وأقربهم الهيصمية، ولكلّ واحدٍ منهم رأي، إلاّ أنّه لمـّا لم يصدر ذلك عن علماء معتبرين، بل عن سفهاء اغتام جاهلين، لم نفردها مذهباً، وأوردنا مذهب صاحب المقالة، وأشرنا إلى ما يتفرّع منه.

نصّ أبو عبد الله على أنّ معبوده على العرش استقراراً، وعلى أنّه بجهة فوق ذاتاً، وأطلقَ عليه اسم الجوهر، فقال في كتابه المسمّى عذاب القبر: إنّه أحَدي الذات، أحَدي الجوهر، وإنّه مماس للعرش من الصفحة العليا، وجوّز الانتقال، والتحوّل، والنزول،... وأطلق أكثرهم لفظ الجسم عليه....

ومن مذهبهم جميعاً: جواز قيام كثير من الحوادث بذات الباري تعالى، ومن أصلهم: أنّ ما يحدث في ذاته فإنّما يحدث بقدرته، وما يحدث مبايناً لذاته فإنّما يحدث بواسطة الأحداث... ويفرّقون بين الخلق والمخلوق، والإيجاد والموجود والموجِد، وكذلك بين الإعدام والمعدوم.....

وزعموا أنّ في ذاته سبحانه حوادث كثيرة، مثل: الإخبار عن الأمور الماضية والآتية، والكتب المنزلة على الرسلعليهم‌السلام ، والقصص والوعد والوعيد والأحكام، ومن ذلك المـُسمعات والمـُبصرات فيما يجوز أن يُسمع ويُبصر، والإيجاد والإعدام هو القول والإرادة، وذلك قوله (كُن) للشيء الذي يريد كونه، وإرادته لوجود ذلك الشيء، وقوله للشيء كُن، صورتان.

وعلى قول الأكثرين منهم: الخلق عبارة عن القول والإرادة.

ومن أصلهم: أنّ الحوادث التي يحدثها في ذاته واجبة البقاء، حتى يستحيل عدمها.

ومن أصلهم: أنّ المـُحدث إنّما يحدث في ثاني حال ثبوت الأحداث بلا فصل، ولا أثَر للأحداث في حال بقائه.

ومن أصلهم: أن ما يحدث في ذاته من الأمر فمنقسم إلى أمر

٥٠

التكوين، وإلى ما ليس أمر التكوين،..... وممّا أجمعوا عليه من إثبات الصفات قولهم: الباري تعالى عالِم بعلم، قادر بقدرة، حيٌّ بحياة، شاءٍ بمشيئة، وجميع هذه الصفات صفات قديمة أزلية قائمة بذاته.

واتّفقوا على أنّ العقل يحسّن ويقبّح قبل الشرع، وتجب معرفة الله تعالى بالعقل.

وقالوا: الإيمان هو الإقرار باللسان فقط دون التصديق بالقلب، ودون سائر الأعمال.

وقالوا في الإمامة: إنّها تثبت بإجماع الأمّة، دون النصّ والتعيين كما قال أهل السنّة، إلاّ أنّهم جوّزوا عقد البيعة لإمامين في قطرين.

ومذهبهم الأصلي: اتّهام علي (رضي الله عنه) في الصبر على ما جرى مع عثمان (رضي الله عنه) والسكوت عنه، وذلك عرق نزع).

وإزاء هذا التناقض بتنا لا نعلم أيّ القولين هو الصحيح. وتزداد حيرتنا إذا عَلمنا أنّ كتّاب الفِرق، نقلوا عن الإسحاقية كلاماً يختلف جذرياً، عمّا أوردهُ الشهرستاني.

فالخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) يذكر(1) :

(سمعتُ أبا القاسم عبد الواحد بن علي الأسدي يقول: إسحاق بن محمد بن أبان النخعي الأحمر كان خبيث المذهب، رديء الاعتقاد، يقول: إنّ علياً هو الله جلّ جلاله وأعز، قال: وكان أبرص، فكان يطلي البرص بما يُغيّر لونه فسمّي الأحمر لذلك، قال: وبالمدائن جماعة من الغلاة يُعرفون بالإسحاقية، يُنسبون إليه.

سألتُ بعض الشيعة ممّن يعرف مذاهبهم، ويخبر أحوال شيوخهم عن إسحاق، فقال: لي مثل ما قاله عبد الواحد بن علي سواء.

وقال: لإسحاق مصنّفات في المقالة المنسوبة إليه، التي يعتقدها الإسحاقية، ثمّ وقَع إليّ كتاب لأبي محمد الحسن بن يحيى النوبختي من تصنيفه، في الردّ على الغلاة، وكان النوبختي هذا من متكلّمي الشيعة الإمامية، فذكرَ أصناف مقالات الغلاة، إلى أن قال: وقد كان ممّن جوَّد الجنون في الغلو في عصرنا، إسحاق بن محمد المعروف بالأحمر، وكان ممّن يزعم

____________________

(1) المجلّد 6، ص380.

٥١

أنّ علياً هو الله، وأنّه يظهر في كلّ وقت، فهو الحسن في وقت الحسن، وكذلك هو الحسين، وهو واحد، وأنّه هو الذي بعثَ بمحمد (صلّى الله عليه وسلّم)، وقال في كتابٍ له: لو كانوا ألْفاً لكانوا واحداً.

وكان راوية للحديث، وعمل كتاباً ذَكر أنّه كتاب التوحيد، فجاء فيه بجنون وتخليط لا يتوهّمان، فضلاً مَن يدلّ عليهما، وكان ممّن يقول: باطن صلاة الظهر محمد (صلّى الله عليه وسلّم) ؛ لإظهاره الدعوة، قال: ولو كان باطنها هو هذه التي هي الركوع والسجود، لم يكن لقوله: ( إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَى‏ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَر ) يعني أنّ النهي لا يكون إلاّ من حي قادر.

وعن الإسحاقية، قال ابن الجوزي في (تلبيس إبليس): (قالوا: إنّ النبوّة متّصلة إلى يوم القيامة، وكلّ مَن يعلم علم أهل البيت فهو نبي).

فخر الدين الرازي في(اعتقادات فِرق المسلمين والمشركين) ، يسمّي الإسحاقية (الإسجافية) ويقول عنها: (ويزعمون أنّ الله تعالى كان يحلّ في علي في بعض الأوقات، وفي اليوم الذي قلعَ علي باب خيبر كان الله تعالى قد حلّ فيه).

5 - ما تجدر الإشارة إليه: أنّ الشهرستاني كان يتلاعب في الأقوال، ويورد النصّ بصيغة بعيدة عن الحقيقة، مثال ذلك قوله: (عن هذا قالوا: كان هو موجوداً قبل خلق السموات والأرض، قال...)، بحيث يُفهم من صيغة هذا الكلام: أنّ قائله هو جماعة النصيرية أو الإسحاقية، مع أنّ الحقيقة خلاف ذلك، وعبارة (كان هو موجوداً قبل خلق السماوات والأرض)... ليست من كلام النصيرية أو الإسحاقية، وإنّما هي نصّ حديث شريف، جاء في كتاب(غاية المرام) للعلاّمة البحريني، عن(فرائد السمطين)، و(مسند أحمد)، و(فضائل الخوارزمي) ، و(مناقب الخطيب) أنّ النبي (صلّى الله عليه وسلّم)، قال: ( كنتُ أنا وعلي نوراً بين يدي الله تعالى، قبل أن يخلق الخلق، فلمّا خلقَ آدم ركّبَ ذلك النور في صلبه، فلم يزل في شيء واحد حتى أفرق في صلب عبد المطلب).

وهو حديث مشهور ذكره المعري في قصيدته ذات المطلع:

٥٢

علّلاني فإنّ بيضَ الأماني

فنيتُ والزمان ليس بفانِ

يقول:

أحَد الخمسة الذين هُم الأغراض

في كلّ منطقٍ والمعاني

والشخوص الذين خَلقن ضياء

قبل خلق المِرّيخ والميزان

قبل أن تُخلق السماوات أو تؤمر

أفلاكهنّ بالدوران ...

هذا التلاعب في الأقوال من قِبَل الشهرستاني، يجعلنا نتساءل: هل كان الشهرستاني يختلق الأقوال ويحرِّفها؟ لا نستبعد ذلك، وهو على كلّ حال متّهم في عقيدته، وفي نزاهته، وفي أمانته العلمية.

يقول معاصره أبو محمد الخوارزمي: (ولولا تخبّطه في الاعتقاد، ومَيله إلى هذا الإلحاد لكانَ هو الإمام، وكثيراً ما كنّا نتعجّب من وفور فضله وكمال عقله، وكيف مالَ إلى شيء لا أصل له، واختارَ أمراً لا دليل عليه لا معقولاً ولا منقولاً، ونعوذ بالله من الخذلان والحرمان من نور الإيمان)(1) ، ومثل هذا الكلام عن الشهرستاني يروي السبكي في(طبقات الشافعية) .

ويذكر ظهير الدين البيهقي في(تاريخ حكماء الإسلام): إنّ الشهرستاني كان يصنّف تفسيراً ويؤّول الآيات على قوانين الشريعة والحكمة وغيرها، فلمّا قيل له: هذا عدول عن الصواب، امتلأَ من ذلك غضباً.

وكان ممّن جرَحوا الشهرستاني أيضاً، عبد الحسين أحمد الأميني في (الغدير)، الذي سجّلَ عليه كثيراً من المآخذ والسقطات ؛ وذلك في تعليقه على قول الشهرستاني: (اختلفَ الشيعة بعد موت علي بن محمد العسكري أيضاً، فقال قوم: بإمامة جعفر بن علي، وقال قوم: بإمامة الحسن بن علي، وكان لهم رئيس يقال له علي بن فلان الطاحن، وكان من أهل الكلام، قوّى أسباب جعفر بن علي،

____________________

(1) ياقوت الحموي: معجم البلدان، مادة شهرستان.

٥٣

وأمالَ الناس إليه، وأعانه فارس بن حاتم بن ماهويه ؛ وذلك أنّ محمداً قد مات، وخلّف الحسن العسكري، قالوا: امتحنّا الحسن ولم نَجِد عنده عِلماً، ولقّبوا مَن قال بإمامة الحسن الحمارية، وقوّوا أمر جعفر بعد موت الحسن، واحتجّوا بأنّ الحسين مات بلا خلف، فبطلت إمامته ؛ لأنّه لم يعقّب، والإمام لا يكون إلاّ ويكونَ له خلفٌ وعَقب، وحاز جعفر ميراث الحسن بعد دعوةٍ ادّعاها عليه، أنّه فعلَ ذلك من صلب جواريه وغيره، وانكشفَ أمرهم عند السلطان والرعية وخواصّ الناس وعوامّهم، وتشتّتت كلمة مَن قال بإمامة الحسن، وتفرّقوا أصنافاً كثيرة، فثبتت هذه الفرقة على إمامة جعفر، ورجع إليهم كثير ممّن قال بإمامة الحسن، منهم الحسن بن علي بن فضّال، وهو من أجَلّ أصحابهم وفقهائهم، كثير الفقه والحديث، ثمّ قالوا بعد جعفر، بعلي بن جعفر، وفاطمة بنت علي أخت جعفر، وقال قومٌ: بإمامة علي بن جعفر دون فاطمة السيدة، ثمّ اختلفوا بعد موت علي وفاطمة اختلافاً كثيراً).

فكان ردّ الأميني على هذا الكلام: (ليتَ شِعري متى وقعَ الخلاف في الإمامة بين الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام ، وبين أخيه جعفر، الذي ادّعى الإمامة بعد وفاة أخيه؟ ومَن هو علي بن فلان الطاحن، الذي قوّى أسباب جعفر، وأمالَ الناس إليه؟! ومتى خُلق؟! ومتى مات؟ ولستُ أدري أي هي بن بي هو؟ وهل وجَد لنفسه مقيلاً في مستوى الوجود؟

أنا لا أدري والشهرستاني لا يدري والمنجّم أيضاً لا يدري، وكيف أعانَ جعفراً فارس بن حاتم بن ماهويه، وقد قتلهُ جنيد بأمر والده الإمام علي الهاديعليه‌السلام ، ومَن هو محمد الذي خَلف الإمام الحسن العسكري؟! أهو الإمام محمد الجواد؟! ولم يَخلف إلاّ ابنه الإمام الهادي سلام الله عليه، أو هو أبو جعفر محمد بن علي صاحب البقعة المعظّمة بمقربة بلد، وقد مات بحياة أبيه الطاهر والإمامة مستقرّة لوالده، ومتى كان إماماً أو مدّعياً الإمامة حتى يخلف غيره عليها؟! ومَن هؤلاء الذين امتحنوا الحسن الزكي العسكري فلم يجدوا عنده عِلماً؟! ثمّ وجدوه في جعفر، الذي لم يُعرف عنه شيء غير أنّه ادّعى الإمامة باطلاً بعد أخيه؟!

٥٤

وقصارى ما عندنا: أنّه أدرَكته التوبة، ولم يوجد له ذكر بعلم أو ترجمة في أيّ من الكتب، ولا نَشرت عنه كتب الأحاديث شيئاً من علومه المدّعاة له عند الشهرستاني، لو صدقت الأوهام، وهذا الحسن العسكريعليه‌السلام تجده في التراجم والمعاجم من الفريقين مذكوراً بالعلم والثقة، وملأ كتب العلم والحديث تعاليمه ومعارفه، ومَن هُم الذين لقّبوا أتباع الحسنعليه‌السلام بالحمارية؟!

نعم، أهل بيت النبوّة محسودون في كل وقت، فكان يحصل لكلّ منهم في وقته مَن يسبّه حسداً، ويسبّ أتباعه، لكن لا يذهب لقباً له أو لأشياعه، وإنّما يتدهور في مهوى الضعة.

ومتى كان الحسن بن علي بن فضّال في عهد الإمام الحسن العسكري؟! حتى يرجع عنه جعفر إلى جعفر، وقد توفّي ابن فضّال سنة 221 ونطفة الحسن وجعفر بعدُ لم تنعقد، وقبل أن يبلغ الحُلم والدهما الطاهر الإمام الهادي المتولّد سنة 212هـ، ومَن ذا الذي ذَكر للإمام الهادي بنتاً اسمها فاطمة؟! حتى يقولَ أحدٌ بإمامتها ؛ فإنّ الإمامعليه‌السلام لم يُخلّف من الذكور إلاّ الحسن والحسين وجعفراً، ومن الإناث إلاّ عليّة، باتّفاق المؤرّخين).

ومهما يكن من أمر، فإنّ لظهور الروحاني بالجسد الجسماني، أدلّة كثيرة في الكتاب والسنّة، قال تعالى في سورة مريم:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنّي أَعُوذُ بِالرّحْمنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً... ) .

وفي السنّة عن عمر (رحمه الله)، قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ذات يوم، إذ طلعَ علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منّا أحد، حتى جلسَ إلى النبي (صلّى الله عليه وسلّم) فأسندَ ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفّيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبِرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت إن

٥٥

 استطعتَ إليه سبيلاً) قال: صدقتَ. فعجبنا له، يسأله ويصدّقه!.

قال: فأخبِرني عن الإيمان؟ قال: (أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبهُ ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه).

قال: صدقتَ.

قال: فأخبِرني عن الإحسان؟

قال: (أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك).

قال: فأخبِرني عن الساعة؟

قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل).

قال: فأخبِرني عن إماراتها؟

قال: (أن تلد الأمَة ربّتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان).

ثمّ انطلقَ، فلبثتُ مليّاً، ثمّ قال: (يا عمر، أتدري مَن السائل؟)، قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنّه جبريل، أتاكم يعلّمكم دينكم) (رواه مسلم، متن الأربعين النووية، الحديث الثاني).

فنحن إذاً لا نستطيع أن نُنزّل كلام الشهرستاني منزلة اليقين ونعطيه الحجّية المطلقة، وعلينا أن نتعامل معه بمنتهى الحذر، وأن نضعه في غربال التدقيق والتمحيص. ومع ذلك، فإنّ ما كُتب عن النصيرية في مرحلة ما بعد الشهرستاني لا يتلاقى مع ما كَتبه الشهرستاني، ولا في نقطةٍ واحدة، مثال ذلك: ما رواه ابن الأثير في (الكامل) عند حديثه عن الشلمغاني ومذهبه، قال(1) : (وكان مذهبهُ أنّه إله الآلهة، يحقّ الحقّ. وأنّه الأوّل القديم الظاهر الباطن الرازق التام، الموما إليه بكلّ معنى. وكان يقول: إنّ الله سبحانه وتعالى يحلّ في كل شيء على قدر ما يحتمل، وإنّه خلقَ الضدّ ليدلّ على المضدود، فمِن ذلك أنّه حلّ في آدم لمـّا خلقهُ، وفي إبليسه أيضاً، وكلاهما ضدّ لصاحبه ؛ لمضادّته إيّاه في معناه، وأنّ الدليل على الحقّ أفضل من الحق، وأنّ الضد أقرب الشيء من شبهه، وأنّ الله عزّ وجل إذا حلّ في جسد ناسوتي ظهرَ من القدرة والمعجزة ما يدلّ على أنّه هو، وأنّه لمـّا غابَ آدم ظهرَ اللاهوت في خمسة ناسوتية، كلمّا غابَ منهم واحد ظهرَ مكانه آخَر. وفي

____________________

(1) حوادث سنة 322هـ.

٥٦

خمسة أبالسة أضداد لتلك الخمسة. ثمّ اجتمعت اللاهوتية في إدريس وإبليسه، وتفرّقت بعدهما، كما تفرّقت بعد آدم. واجتمعت في نوحعليه‌السلام وإبليسه، وتفرّقت عند غيبتهما. واجتمعت في إبراهيمعليه‌السلام وإبليسه نمرود، وتفرّقت لمـّا غابا. واجتمعت في هارون وإبليسه فرعون، وتفرّقت بعدهما. واجتمعت في سليمان وإبليسه، وتفرّقت بعدهما. واجتمعت في عيسى وإبليسه، فلمّا غابا تفرّقت في تلامذة عيسى وأبالستهم. ثمّ اجتمعت في علي بن أبي طالب وإبليسه.

ثمّ إنّ الله يظهر في كلّ شيء، وكلّ معنى، وإنّه في كلِ أحَد، بالخاطر الذي يخطر بقلبه، فيتصوّر له ما يغيب عنه، حتى كأنّه يشاهده. وإنّ الله اسم لمعنى، وإنّ مَن احتاج الناس إليه فهو إله ؛ ولهذا المعنى يستوجب كل أحَد أن يسمّى إلهاً. وإنّ كل أحَد من أشياعه يقول: إنّه ربّ لِمَن هو دون درجته، وإنّ الرجلَ منهم يقول: أنا ربٌّ لفلان، وفلان ربٌّ لفلان، وفلان ربُّ ربّي، حتى يقع الانتهاء إلى ابن أبي القراقر، فيقول: أنا ربُّ الأرباب، لا ربوبية بعده، ولا يُنسب الحسن والحسين (رضي الله عنهما) إلى علي (كرم الله وجهه) ؛ لأنّ مَن اجتمعت له الربوبية لا يكون له ولَد ولا والد.

وكانوا يسمّون موسى ومحمداً (صلّى الله عليه وسلّم) الخائنين ؛ لأنّهم يدّعون أنّ هارون أرسلَ موسى، وعلياً أرسلَ محمداً، فخاناهما.

ويزعمون أنّ علياً أمهلَ محمداً عدد سِنين أصحاب الكهف، فإذا انقضت هذه المدّة - وهي ثلاثمئة وخمسون سنة - انتقلت الشريعة، ويقولون: إنّ الملائكة كلّ مَن مَلَك نفسه وعرفَ الحق، وإنّ الجنة مَعرفتهم وانتحال مذهبهم، والنار الجهل بهم والعدول عن مذهبهم.

ويعتقدون تَرك الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات، ولا يتناكحون بعقدٍ، ويبيحون الفروج، ويقولون: أن يمتحنَ الناس بإباحة فروج نسائهم، وإنّه يجوز أن يجامع الإنسان مَن يشاء من ذوي رحمه، وحَرَم صديقه وابنه، بعد أن يكون على مذهبه، وأن لابدّ للفاضل منهم أن ينكح المفضول ؛ ليولج النور فيه، ومَن امتنعَ عن ذلك قُلب في الدَّور الذي يأتي بعدَ هذا العالَم امرأة ؛ إذ كان من مذهبهم التناسخ.

وكانوا يعتقدون إهلاك الطالبيين والعباسيين (تعالى الله عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً)، وما أشبه هذه المقالة بمقالة النصيرية، ولعلّها هي هي ؛ فإنّ النصيرية يعتقدون في ابن

٥٧

الفرات ويجعلونه رأساً في مذهبهم...).

وإذا كان ابن الأثير شبّه مقالة الشلمغاني بمقالة النصيرية، وصرّح: (لعلّها هي هي) ؛ فإنّ الحقيقة خلاف ما يزعمه، والأدلّة على ذلك كثيرة، منها:

1 - الشلمغاني مات قتلاً سنة 322هـ، واصطلاح النصيرية - كما رأينا - ظهرَ لأوّل مرّة في مطلع المئة الرابعة.

2 - ياقوت الحموي - الذي نقلَ ابن الأثير عنه - لم يقُل: إنّ مقالة الشلمغاني تشبه مقالة النصيرية، ولم ترد على لسانه كلمة نصيرية(1) .

وكذلك فإنّ جميع المؤرّخين الذين كتبوا عن الشلمغاني: كالمسعودي (ت 345هـ)، وابن النديم (ت 385هـ)، والبغدادي (ت 429هـ)، والأسفرايني (ت 471هـ)، وابن الجوزي (ت 597هـ)، والحموي (ت 626هـ)، وابن خلّكان (ت 681هـ)، وأبي الفداء (ت 732هـ)، واليافعي اليمني (ت 768هـ)، والسيوطي (ت 911هـ)، وابن العماد (ت 1089هـ)، والمؤلّف المجهول، لم يقُل أيّ منهم: إنّ مقالة الشلمغاني تشبه مقالة النصيرية، ومنهم مَن جاء قبل ابن الأثير، ومنهم بعده.

3 - ما وردنا من أخبار عن مقالة النصيرية على لسان الشهرستاني، لا يأتلف مع ما ذكره ابن الأثير.

4 - ثمّة أقوال أوردها ابن الأثير على أنّها من مذهب الشلمغاني، قرأناها في كتب الفِرق منسوبة إلى القرامطة، كالقول بالتناسخ وإباحة نساء بعضهم لبعض، والقول بالناسوت في اللاهوت، وإسقاط فرائض العبادات.

يقول الملطي في(التنبيه والرد) عن القرامطة: (وقومٌ منهم يقولون

____________________

(1) إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب: الجزء الأوّل، ص (296) تحت عنوان (إبراهيم بن أبي عون).

٥٨

بتناسخ الروح، وهم يقولون: بالناسوت في اللاهوت، على قول النصارى سواء، وزعموا أنّ نساء بعضهم حلال لبعض، وكذلك أولادهم وأبدانهم، مباحة من بعضهم لبعض، لا تحظير بينهم ولا منع...).

وفي كُتب الفِرق: أنّ فرقة المخمِّسة هي التي تقول: إنّ الله حلّ في خمسة أشخاص.

وذكرَ البغدادي في (الفَرق بين الفِرق) عند حديثه عن الشريعية: أنّ الشريعي هو الذي زعمَ أنّ الله تعالى حلّ في خمسة أشخاص، وهُم: النبي (صلّى الله عليه وسلّم)، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وزعموا أنّ هؤلاء الخمسة آلهة، ولها أضداد خمسة.

ولم يقُل أيُّ أحدٍ من كتّاب الفِرق: إنّ المخمسة، أو الشريعية هي النصيرية، أو أنّ مقالتها تشبه مقالة النصيرية.

5 - على رأي الشلمغاني، كما ذكرَ ابن الأثير: يوجد أربابٌ عديدون على شكلٍ هَرَمي، رأسه الشلمغاني (ربّ الأرباب، لا ربوبية بعده)، بينما مقالة النصيرية - كما ذكرَ الشهرستاني -: أنّ في عليعليه‌السلام جزءٌ إلهي وقوةٌ ربّانية، أو يكون هو الذي ظهرَ الإله بصورته.

6 - ولنا أن نتساءل: مَن هو (ابن الفرات) الذي قال ابن الأثير: إنّ النصيرية يعتقدون فيه، ويجعلونه رأساً في مذهبهم، وما مقام هذا الكلام هنا؟!

ابن الأثير لم يُصرّح باسمه، وكُتب التاريخ ذكرتْ لنا أسماءً كثيرةً من بني الفرات، منهم: علي بن محمد بن موسى بن الفرات وزير المقتدر، وأسد بن الفرات فاتح صقلية، وإسحاق بن الفرات قاضي ديار مصر، وجعفر بن الفضل بن الفرات، والفضل بن جعفر بن موسى بن الفرات، وأحمد بن الفرات، والمحسن بن فرات، ووثيمة بن الفرات، وعمر بن الفرات.

وكتّاب الفِرق ذَكروا اثنين من بني الفرات:

الأوّل : هو عمر بن الفرات، والفرقة التي تُنسب إليه تسمّى بالعمرية، على ما يذكر الحافظ رجب البرسي

٥٩

في(مشارق أنوار اليقين) . والثاني : هو محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات، الذي كان يقوّي أسباب النميري، على ما روى النوبختي في(فِرق الشيعة) .

ويميل ذهننا إلى الظنّ بأنّ المقصود هو علي بن محمد بن موسى بن الفرات، وزير المقتدر ؛ لأنّ ابن الأثير في أخبار سنة اثنتي عشرة وثلاثمئة - عند ذكره اعتراض أبي طاهر القرمطي الحاج في طريق مكّة - قال: (انقلبت بغداد واجتمعَ حرم المأخوذين إلى حرم المنكوبين، الذين نكبهم ابن الفرات، وجعلنَ ينادين: القرمطي الصغير أبو طاهر قَتل المسلمين في طريق مكّة، والقرمطي الكبير ابن الفرات قَتل المسلمين ببغداد،... فقال له نصر الحاجب: ومَن الذي سَلّم الناس إلى القرمطي غيرك ؛ لِمَا يجمع بينكما من التشيّع والرفض).

7 - وأخيراً نشير إلى أنّ البغدادي في(الفَرق بين الفِرق) أطلقَ على الفرقة التي تُنسب إلى الشلمغاني، اسم العذاقرية، وذكرها مرّتين: مرّة عند حديثه عن مذاهب المشبّهة وأصنافهم، ومرّة ثانية عند ذكر أصناف الحلولية، وفي المرّتين لم يذكر أنّ مقالة الشلمغاني أو العذاقرية، تشبه مقالة النصيرية، ولم يشِر إلى وجود أيّة صلة ما بين العذاقرية والنصيرية.

ما دام الأمر كذلك، لماذا شبّه ابن الأثير مقالة الشلمغاني بمقالة النصيرية، واعتبرها هي نفسها؟!

الجواب برأينا ؛ لأنّ الشلمغاني اتُّهم بالرفض، وهذا ما يُفهم من أقوال المؤرّخين: (أظهر الرفض)، و(دعا إلى الرفض)، و(إنّ زعيم الرافضة الحسين بن روح أظهرَ شأنه)، وكذلك لِمَا نُقل عنه من قول: (إنّ الله عزّ وجل إذا حلّ في هيكل ناسوتي أظهرَ من القدرة والمعجزة ما يدلّ على أنّه هو).

***

[تغيُّر وتبدُّل أقوال النصيرية بحسب مؤرِّخي الفِرق:

أ - فتواى ابن تيميَّة. ]

وممّا يسترعي الانتباه: أنّه كلمّا تقدّمنا في الزمن، وجَدنا أقوال النصيرية تتغيّر وتتبدّل عند كتّاب الفِرق والمؤرّخين، بحيث تختلف هذه

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

خصوص رحمها، فلاحظ.

وفي رواية الدعائم: (... واشدّ الناس عذاباً يوم القيامة من أقرّ نطفته في رحمٍ محرّم عليه ).

وفي رواية الجعفريّات والدعائم، عن عليّ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

( ما من ذنبٍ أعظم عند الله تبارك وتعالى بعد الشرك من نطفة حرام، وضعها في رحم لا تحل له ).

وقريبة منها رواية العوالي.

لاحظ كلّ هذه الروايات في ص٣٤٦ ج٢٠ من جامع الأحاديث.

أقول : الأحاديث كلّها ضعاف إسناداً، لكن إذا لوحظت مع المرتكز عند المتشرّعة، واستنكارهم للعمل المذكور، يكفي للحكم بالتحريم إنْ شاء الله تعالى.

وأمّا الثاني، فبيانه موقوف على ذكر الأقسام، فانّ إقرار منيّ الرجل إنْ لم يستلزم حملاً فلا بحث فيه ولا أثر له، سوى الحرمة التكليفيّة، والتعزير في الدنيا، واستحقاق العقاب في الآخرة، وإن استلزم الحمل، فالمرأة إمّا خليّة وإمّا مزوّجة، وعلى الثاني قد يشتبه الحمل بين كونه من ماء الزوج أو من ماء الأجنبي، وقد يعلم استناده إلى أحدهما.

فإذا علم استناد الولد إلى ماء الزوج، أو شكّ فيه واشتبه الحال، فالولد ولد الزوج بلا إشكال، ولا يُنسب إلى الأجنبي صاحب الماء، سواء نقل ماءه بطريق الزنا، أو بطريقٍ طبيٍّ في رحم المرأة، أمّا في فرض العِلم فواضح، وأمّا في صورة الشكّ ؛ فلقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( الولد للفراش وللعاهر الحَجَر )(١) .

وأمّا إذا علم أنّ المولود من ماء الأجنبي - سواء بطريق الزنا أو غيره، وسواء

___________________

(١) الكافي ج٧ ص١٦٣، التهذيب ج٩ ص٣٤٦، جامع الأحاديث ج٢٤ ص٤٨٠.

١٠١

كانت المرأة خليّة أو متزوّجة، فهو ولد صاحب الماء وولد المرأة - سواء كانت زانيةً أم لا، سواء كانت متعمِّدةً في انتقال الماء إلى رحمها أو جاهلة أو مُكْرَهة - ويترتّب على الولد ووالديه جميع أحكام النسب، سوى حكم واحد في فرض الزنا، فإنّ ولد الزنا عند مشهور فقهائنا لا يرث ولا يورث مطلقاً(١) ، ومع عدم صدق الزنا لا مانع من التوارث أيضاً، وهذا هو الأظهر عندي.

وبالجملة : ولد الزنا وولد الحرام - كما في فرض نقل المنيّ بطريقٍ طبّيٍّ، وكما في وطء الزوجة الحائض والنفساء والمُحْرِمة بإحرام الحجّ والعمرة أو المعتكفة، وفي شهر رمضان وفي المسجد - ولد لصاحب الماء وللحامل الوالدة لغةً وعرفاً وطبّاً، ولم يثبت من الشريعة اصطلاح خاصّ في الأُبوّة والأُمومة والبنوّة مغايراً للعرف واللّغة، وإنّما الثابت منه عدم التوارث بين ولد الزنا والزاني والزانية.

وممّا يدلّ على ذلك: أنّه لا يُظنّ بفقيه يبيح تزويج ولد الزنا بأبيه الزاني، أو تزوّجه بأُمّه الزانية، بل لا يُظنّ بأحدٍ يفتي بصحّة زواجه مع أولادهما وأقربائهما. وما حُكي عن الشافعي من عدم تحريم البنت على أبيها الزاني واضح المنع.

واعلم أنّ المستفاد من كلام جمعٍ من فقهائنا بعد حرمة النكاح ولو عن نسب غير شرعي كالزنا بلا خلاف بينهم أنّهم لا يرون هذا النسب ثابتاً، وأورد الشهيد الثانيرحمه‌الله في مسالكه(٢) بأنّ المعتبر إنْ كان هو صدق الولد لغةً ؛ لزم ثبوت باقي الأحكام المترتّبة على الولد كإباحة النظر، وعتقه على القريب، وتحريم حليلته، وعدم القِوَد من الوالد بقلته ( وصلة الرحم وجواز الربا، على قول، والعقل ) وغير ذلك، وإنْ كان المعتبر لحوقه به شرعاً فاللاّزم انتفاء الجميع، فالتفصيل

___________________

(١) لاحظ كتاب الميراث في الكتب الفقهيّة.

(٢) لاحظ ص٢٠٦ وما بعدها ج٦٤ الفقه.

١٠٢

غير واضح.

وربّما أُجيب عنه: بأنّ حرمة النكاح خرجت للإجماع، وغيره بقي على أصلها، لكنّ الإجماع ممنوع، والحقّ ما عرفته، والاحتياط لا يخفى سبيله.

كلام حول حديث:

في صحيح الحلبي المرويّ في الكافي والتهذيبين(١) عن الصادقعليه‌السلام :

(أيّما رجل وقع على وليدة قوم حراماً، ثمّ اشتراها فادّعى ( ثمّ ادّعى - كا ) ولدها فإنّه لا يورث عنه شيء ؛ فإنّ رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله - قال:

( الولد للفراش وللعاهر الحَجَر، ولا يورث ولد الزنا إلاّ رجل يدّعى ابن وليدته، وأيّما رجل أقرّ بولده، ثمّ انتفى منه فليس ذلك له ولا كرامة، يلحق به ولده إذا كان من امرأته أو وليدته ). وللحديث أسانيد ضعيفة أُخرى.

أقول : ربّما يُظن أنّ ظاهر هذا الحديث، أنّ عدم الإيراث مستند إلى قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله الدال على نفي الوَلديّة والنسب، فهذا هو دليل مَن قال ببطلان النسب غير الشرعي مطلقاً.

وفيه: أنّ الإمامعليه‌السلام علّل عدم إرث الولد في فرض الفراش، والشكّ في نسبه إلى الحديث النبوي الدالّ على إلحاق الولد بالفراش في فرض تحقّقه، ولا يدلّ كلامهعليه‌السلام ولا الحديث النبوي على نفي نسب ولد الزنا عن الزاني في فرض عدم الفراش، أو في فرض العِلم بعدم كون الولد من نطفة الزوج أو المالك، وحصول اليقين بكونه من ماء الزاني. على أنّ هنا روايات معتبرة الأسانيد ؛ تدلّ على صحّة النسب المذكور في فرض عدم الفراش.

ففي صحيحة سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام : ( قضى علي -عليه‌السلام -

___________________

(١) ص١٦٢ ج٧ الكافي، وص٣٦٤ ج٩ التهذيب، وص١٨٥ ج٤ الاستبصار، ولاحظ ج٢٤ ص٤٨٠ جامع الأحاديث، ولاحظ ص٧٤٣ الرؤية الإسلاميّة لبعض الممارسات الطبيّة آراء أهل السنّة في نسب ولد الزنا، وكذا في ص١٧٠ وص١٧١، الإنجاب في ضوء الإسلام.

١٠٣

في ثلاثةٍ وقعوا على امرأةٍ في طهرٍ واحدٍ، وذلك في الجاهليّة قبل أنْ يظهر الإسلام، فأقرع بينهم، فجعل الولد لمَن قرع، وجعل عليه ثُلثَي الديّة للآخرين ( للأخيرين - صا )، فضحك رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله - حتّى بدت نواجذه(١) ، قال: وما أعلم فيها شيئاً إلاّ ما قضى علي )(٢) .

وقريب منه صحيح أبي بصير عن الباقرعليه‌السلام ، وصحيح معاوية بن عمّار، وعن الصادقعليه‌السلام ، فإنّ هذا المعنى يُستفاد منهما(٣) ، وكذا صحيح الحلبي على المشهور(٤) .

وفي صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام (٥) قال:

( إذا وقع الحرُّ والعبدُ والمُشرك بامرأةٍ في طهرٍ واحدٍ، فادّعوا الولد ؛ أُقرع بينهم، فكان الولد للّذي يخرج سهمه )(٦) .

فهذه الروايات واضحة الدلالة في صحّة النسب من الزنا عند عدم الفراش، بل لو لم يكن إجماع أمكن أنْ يُقال بصحّة التوارث - أيضاً - في هذا الفرض - وهو فرض عدم الفراش، بل يمكن أن نستدلّ عليها - أي صحّه التوارث بصحيحي حنان عن الصادقعليه‌السلام أيضاً(٧) بعد حملهما على فرض عدم الفراش، وكون المرأة خليّة، فلاحظ وتأمّل.

ولاحظ صحيح محمّد بن قيس، فإنّه يخالف بقيّة الروايات(٨) .

___________________

(١) النواجذ: أقصى الأسنان، وهي: أربعة في أقصى الأسنان.

(٢) ص١١٦ ج ٢١ جامع الأحاديث.

(٣) ص١١٧ المصدر.

(٤) ص١٢١ المصدر.

(٥) ص١١٨ نفس المصدر.

(٦) ص٤٨١ ج٢٤ جامع الأحاديث.

(٧) نفس المصدر.

(٨) ص١٢٠ ج٢١ المصدر.

١٠٤

ثمّ إنّ الحديث النبويّ إنّما نفى الولد عن الزاني، وألحقه بصاحب الفراش، وأمّا الزانية فلم يتعرّض الحديث لنفي الولد عنها ؛ فهي أُمّه، وهذا شاهد آخر على ضعف قول مَن يُبطل النسب غير الشرعيّ من فقهائنا وفقهاء العامّة ؛ نعم لا توارث بينها وبينه لِما عرفت، فلا ملازمة بين النسب وعدم التوارث.

ثمّ إنّ نفي الولد عن الزاني، وإلحاقه بصاحب الفراش، إنّما هو في فرض الشكّ دون العلم بكونه مخلوقاً من ماء الزاني، كما ذكرنا سابقاً، وربّما تدلّ بعض كلمات أهل السنّة على الإلحاق، حتّى في فرض العلم، وأنّ سبيل نفيه عنه هو اللّعان فقط، لكنّه ضعيف جدّاً ؛ فإنّه مخالف بسيرة العقلاء، والطبائع الإنسانيّة، وظلم على الزوج، وإحقاق باطل، كما لا يخفى، ويؤكِّده عدم نفي الولد عن الزانية ؛ للعلم بكون الولد من بييضتها، ونفيه عن الزاني لا مطلقاً بل في صورة وجود الفراش، وهو فرض الشكّ في كون الولد منه، أو من صاحب الفراش.

فروع:

١ - لو مات أحد الزوجين وكان له ولد عن زنى، فهل للآخر نصيبه الأعلى أو الأدنى ؟

فإن قلنا ببطلان النسب فالنصيب الأعلى، وإن قلنا بصحّته فالنصيب الأدنى، إذْ لم يقيّد الولد في لسان الأدلّة بكونه يستحق الإرث.

هذا هو مقتضى القاعدة، ولم أقف عاجلاً على بحثٍ لأحدٍ حول الموضوع.

٢ - لو كان الزنا من الرجل فقط كما في فرض إغمائها، أو نومها وإكراهها وقهرها، وأمثال ذلك، فلا يبعد جريان التوارث بين الولد وأُمّه، فلاحظ وتأمّل.

وإمّا إذا كان الولد عن شبهةٍ، فالنّسبُ ثابتٌ إجماعاً بقسميه عليه، كما في الجواهر.

٣ - تقدّم في المسألة المتقدّمة أنّ نفي التوارث يختصّ بالزنا دون نقل الماء إلى الرحم - بطريقٍ طبّيٍّ غير الزنا - وإن كان النقل محرّماً.

١٠٥

المسألة العاشرة

بنوك الألبان

البنك يقوم بجمع لبن الأُمّهات عن طريق التبرّع، أو البيع، ثمّ تبريده وحفظه في ثلاجات لمدّة ثلاثة أشهر، أو تجفيفه وإعطائه للأطفال المحتاجين للرضاعة الطبيعية.

والأسئلة المتعلِّقة به أربعة:

١ - ماذا يحدث إذا رضع طفل وطفلة من هذا اللبن ثمّ كبرا وأرادا التزاوج، فهل تقف مسألة ( الأُمّهات في الرضاعة ) عقبةً في زواجهما ؟

٢ - إذا كانت في الأُمّهات التي تُجمع ألبانهنّ، الكافرات، فألبانهنّ نجسة، حتّى من الكتابيّات عند المشهور من فقهاء الأماميّة، فهل يجوز لأولياء الأطفال سقيهم الحليب النجس ؟

٣ - أعلن علماء الاجتماع أنّه لو تحقّق هذا المشروع، وشرب الجيل الجديد لبن تلك النساء مجفّفاً أو معقّماً، فإنّه سيخرج إلى الدنيا جيل فاسد، لا ندري كيف نسوّيه ونضبط اتصالاته وسلوكيّاته(١) ، فهل الخوف على المفاسد الأخلاقيّة لا يوجب تحريم المشروع المذكور ؟

٤ - ادّعى بعضٌ: أنّ الإرضاع بهذه الطريقة، له مضارّ أكثر عن نفعه عند الأطبّاء(٢) .

أقول : أمّا السؤال الأوّل فجوابه أنّه لا عقبة - في زواجهما حتّى وإنْ

___________________

(١) ص٤٦٢ الإنجاب في ضوء الإسلام.

(٢) ص٤٦٣ نفس المصدر.

١٠٦

علما - على فرضٍ بعيدٍ موهومٍ - أنّهما شربا من لبن امرأةٍ واحدة، عند المشهور من فقهاء الإماميّة، فإنّهم اعتبروا الامتصاص من الثدي شرطاً في التحريم، وعن مستند النراقيرحمه‌الله في ضمن الشروط: أنْ يرتضع من الثدي، فلو وجر في حلقه، أو احتقن أو أكله جبناً لم ينشر الحرمة على المشهور بين الأصحاب(١) ، بل ظاهر التذكرة الإجماع عليه(٢) ، وعن المسالك لا نعلم فيه خلافاً لأحد من أصحابنا إلاّ ابن الجنيد(٣) .

أقول : لكن نقل عن الشيخرحمه‌الله في مواضع من مبسوطه خلاف المشهور(٤) ، وعن المفاتيح وشرحها اختياره(٥) .

ثمّ دليل المشهور أمران:

أوّلهما : عدم صدق مفهوم الرضاع والإرضاع والارتضاع بالوجور ومن الكأس، ولذا لا يصدق على مَن شرب لبن البقر من الكوب - مثلاً - أنّه ارتضع من البقر !

بل يقول الفقيه المتتبّع الماهر، صاحب الجواهررحمه‌الله :

بل لا يبعد أنْ يكون في حكم وجور الحليب الوجور من الثدي، فإنّ المعتبر هو ما كان بالتقامه الثدي وامتصاصه، كما صرّح به في كشف اللثام، بل قد يشكّ في جريان حكمه بالامتصاص من غير رأس الثدي، فضلاً عن الامتصاص من غير الثدي كثقبٍ ونحوه، بل وفي جذب الصبي اللبن من الثدي بغير الفم، فتأمّل(٦) .

___________________

(١) جواهر الكلام ج ٢٩ ص ٢٩٤.

(٢) الفقه ج ٦٤ ص ٢٩٢.

(٣) جواهر الكلام ج ٢٩ ص ٢٩٤.

(٤) نفس المصدر.

(٥) الفقه ج ٦٤ ص ٢٩٢.

(٦) جواهر الكلام ج ٢٩ ص ٢٩٤.

١٠٧

ثانيهما : صحيح الحلبي المرويّ في الكافي ( ج٥ ص٤٤٥ ) عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال:

( جاء رجلٌ إلى أمير المؤمنين، فقال: إنّ امرأتي حلبت من لبنها في مكوك - أي طاس يُشرب به -فاسقته جاريتي، فقال: أوجع امرأتك وعليك بجاريتك، وهو هكذا في قضاء علي-عليه‌السلام -)(١) .

أقول : الاستدلال بالحديث على المقام، موقوف على أنّ الجارية كان عمرها ما دون الحولين، وهو غير ثابت، بل ربما يشعر قولهعليه‌السلام : ( عليك بجاريتك ) بكبرها، وإيجاع المرأة من جهة قصدها تحريم الجارية على زوجها ؛ فالعمدة في إثبات فتوى المشهور هو مفهوم الرضاع الوارد في القرآن(٢) والحديث، فإنّه إلقام الثدي والتقامه، وتناول ما ينزل من الثدي كما قيل.

وعن جمهور فقهاء أهل السنّة ومنهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي: أنّ الرضاع المحرِم ( بكسر الراء ) كلّ ما يصل إلى جوف الصبي عن طريق حلقه مثل الوجور، بل ألحقوا به السعوط، وهو أنْ يصيب اللبن في أنفه، بل بالغ بعضهم فألحق الحقنة عن طريق الدبر بالوجور والسعوط.

وعن جماعة من أهل السنّة، الوقوف على مفهوم الرضاع كما هو مذهب مشهور فقهائنا الإماميّة(٣) .

ودليل هؤلاء الذين أهملوا عنوان الرضاع من جمهور أهل السنّة، وبعض علماء الشيعة: أنّ الغاية المطلوبة هي إنبات اللحم وشدّ العظم، وهي تحصل بغير المصّ أيضاً.

___________________

(١) ص٤١٢ ج٢٢ جامع الأحاديث.

(٢) النساء آية ٢٣.

(٣) ص٥١ وص٥٢، الإنجاب في ضوء الإسلام.

١٠٨

وأورد عليه بعض أهل السنّة: بأنّه لو كانت العلّة هي إنشاز العظم، وإنبات اللحم بأي شيءٍ كان، لوجب أنّ نقول اليوم بأنّ نقل دم امرأة إلى طفل يحرمها عليه ويجعلها أُمّه ؛ لأنّ التغذي بالدم في العروق أسرع وأقوى تأثيراً من اللبن.

أقول : وإنْ قيل: إنّ العلة الإنبات والإنشاز باللبن فقط ؛ نقول له: فَلِمَ لا تقول باللبن من طريق الامتصاص، حتّى وافق قولك القرآن ؟!

وأمّا السؤال الثاني، فالظاهر جواز سقي الحليب النجس للأطفال، ففي معتبرة عبد الرحمان، قال:

سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام : هل يصلح للرجل أنْ ترضع له اليهوديّة والنصرانيّة والمشرِكة ؟

قال: ( لا بأس. وقال: امنعوهنّ من شرب الخمر )(١) .

وأمّا السؤال الثالث، فهو لا يوجب الحرمة الشرعيّة إلاّ في بعض الصور الخطرة وهو غير ثابت، نعم لا ينبغي الشكّ في حسن الاجتناب عن لبن غير الأُمّ، ثمّ عن لبن غير العاقلات الصالحات، وقد نبّه عليه الفقهاء في كتاب النكاح.

وأمّا السؤال الرابع، فإن أثبت الطبُّ مضارّ مهمّة لصحّة الطفل، فيمكن القول بمنع المشروع المذكور وإلاّ فلا.

___________________

(١) ص٣٩٨ ج٢١ جامع أحاديث الشيعة، وبهذا أخذت تشريعات الأحوال الشخصيّة الأخيرة في مصر، وأقرّه مجمع البحوث الإسلاميّة منذ أكثر من عشر سنين، كما في ص١٠٨ الإنجاب في ضوء الإسلام.

١٠٩

المسألة الحادية عشرة

معرفة جنس الجنين

لم يثبت في القرآن والسنّة المعتبرة أنّ الإنسان لا يمكن معرفته بجنس الجنين، وأنّ غير الله سبحانه لا يعلم ما في الأرحام.

نعم تخيّل جماعة من أهل العلم أنّ قوله تعالى:

( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ( لقمان ٣٤ )، يدلّ على نفي علم غيره تعالى بهذه الأُمور الخمسة، ولكنّه تخيّلٌ واهٍ، إذ لا يُستفاد الحصر منه، وإثبات شيءٍ لشيءٍ لا يوجب نفيه عمّا عداه كما اشتهر - نعم ثبت أنّ علم الساعة خاصّ به تعالى - وأمّا أنّه لا يعلم ما في الأرحام غيرُه تعالى فهو دعوى جُزافيّة. وكذا لا يدلّ على حصره به تعالى قوله تعالى:

( اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ) (الرعد ٨ ).

وأمّا الروايات الواردة حول الآية الأُولى النافية، لعلم غيره تعالى بما ذكر فيها من الأُمور الخمسة(١) فلم تصحّ سنداً.

فمَن أخبر اليوم بأنّ الجنين ذكر أو أُنثى لم يخالف الدين، ولا داعي لتكذيبه، بل الطبّ اليوم قادر على معرفة ذلك في الجملة، والله تعالى هو الذي علّم الإنسان ذلك.

___________________

(١) بحار الأنوار، المجلّد ٧ ص ٣٠٠، صراط الحق ج ٣ ص ٣٨٣.

١١٠

يقول بعض الأطبّاء: هناك إنجازان عمليّان، وهما:

١ - معرفة جنس الجنين بشفط بعض من السائل المحيط به بواسطة إبرة من الرحم، وفيه بعض خلايا الجنين منفوضة عن سطح جسمه، وبفحص هذه الخلايا يُعرف جنس الجنين.

٢ - اكتشاف الاختلاف بين المنويّ المُفْضِي للذكورة، والمنويّ المُفْضِي للأُنوثة في طائفة من الصفات: كالكتلة، والسرعة، والقدرة على اختراق المخاط اللزج في قناة عنق الرحم، والاستجابة للتفاعل الكيميائي لمخاط عنق الرحم وغير ذلك.

وقد تمّ هذا في النطاق الحيواني، ويطبّق في صناعة تربية الحيوان، وذلك بتحضير كمّيّةٍ كبيرةٍ من السائل المنويّ، تجمع من عددٍ كبيرٍ من الفحول، أمكن فصلها لقسمين، أحدهما: ترجّح فيه المنويّات المُفْضِية إلى الأُنوثة، والآخر: ترجّح فيه المنويّات المُفْضِية إلى الأُنوثة(١) .

أقول : واليوم يخبر الأطبّاء بوسيلة التلفزيون الحاملات عن جنس حملهنّ.

___________________

(١) ص٣٧، الإنجاب في ضوء الإسلام.

١١١

المسألة الثانية عشرة

التحكّم في جنس الجنين

هل يجوز للوالدين اختيار جنسٍ للجنين على جنسٍ آخر إذا أمكن ذلك طباً ؟ إمّا خارج الرحم وقبل انعقاد النطفة كما إذا عولج ماء الزوجين ثمّ يدخل رحمها أو بأشكال آخر ؟ إمّا داخل الرحم(١) إذا لم يستلزم محرماً آخر من المسّ والنظر المحرّمين ؟(٢) .

قد يُقال بحرمة التحكّم المذكور فإنّه مناقض لروح الإسلام ولروح العدالة الإلهيّة، وقيل: إنّه من الوأد، وقيل: إنّه تدخّل في مشيئة الله، وقيل: إنّه مخالف لقوله تعالى:( يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ) ( الشورى ٤٩ ).

كلّ ذلك غلط وتوهّم بل واضح الضعف، فلا نشتغل بردّه.

والعمدة في المنع في المقام وغيره، هو قوله تعالى حكايةً عن الشيطان - لعنه الله -:

( وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الأَنْعَامِ وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ) ( النساء ١١٩ ).

___________________

(١) قيل ليس من الممكن تغيير جنس المبيض داخل الرحم ؛ لأنّ التحام حيوان منويّ بييضة أنهى الموضوع وختمه،أقول : العلم في تطوّر، وليس من حقّ الطبيب وغيره الحكم بالاستحالة وعدم الإمكان، والعلم إنّما يصلح للإخبار عن الوقوع وعدم الوقوع حسب الظروف فلاحظ.

(٢) مجرّد علاقة أحد الزوجين بجنسٍ خاصٍّ لا يبيح له وللطبيب النظر واللّمس المحرّمين.

١١٢

قال الطبرسيرحمه‌الله في مجمع البيان: أي لآمرنّهم بتغيير خلق الله فليغيّرنّه، واختُلف في معناه، فقيل: يريد دين الله وأمره، عن ابن عبّاس، وإبراهيم، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وجماعة، وهو المرويّ عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، ويؤيّده قوله تعالى:

( فَأَقِمْ وَجْهَکَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ) (١) ، وأراد بذلك تحريم الحلال وتحليل الحرام.

وقيل: أراد معنى الخصاء عن... عن ابن عبّاس... وقيل: إنّه الوشم، عن ابن مسعود، وقيل: إنّه أراد الشمس والقمر والحجارة، عدلوا عن الانتفاع بها إلى عبادتها، عن الزجّاج، انتهى(٢) .

أقول : الأخير خلاف الظاهر جدّاً أو غلط، فإنّ العدول عن الانتفاع الصحيح بمخلوق ليس تغييراً له، وأمّا القولان الوسطان فهما أيضاً ضعيفان ؛ لأنّهما من التقييد من دون مقيّد.

وعلى الجملة: إنْ أُريد من تغيير الخلق - الذي هو بمعنى المخلوق، ضرورة عدم قدرة البشر على تغيير الخلق بمعنى المصدر، والله غالب على أمره - مطلقه، لزم تخصيص الأكثر المستهجن جدّاً لجواز تغيير أكثر المخلوقات من النبات والجماد والحيوان، بل الإنسان(٣) - وإنْ شئت فقل: إنّ حياة الإنسان وحوائجه الأوّليّة موقوفة على تغيير المخلوقات، حتّى لا يمكن أكله من دون تغيير، وكلّ ذلك جائز بالضرورة الدينيّة - وإنْ أُريد بعضه فلابُدّ

___________________

(١) الروم آية ٣٠.

(٢) مجمع البيان، في تفسير سورة الروم آية ٣٠.

(٣) يجوز كثير من العمليّات الطبيّة وغير الطبيّة في حقّه، وجواز إزالة شعره سوى اللّحية وغير ذلك.

١١٣

لاثباته من دليل معتبر وهو مفقود، مع لزوم استهجان تقييد الأكثر تخصيصه كما قرر في أُصول الفقه.

وأمّا الوجه الأوّل، فلا يترتّب عليه محذور أصلاً، سوى أنّه مخالف لظاهر الكلمة، وأنّ حمل الخلق على الدين محتاج إلى دليل مفقود، واستعماله فيه إنّ صحّ في قوله:( لا تبديل لخلق الله ) لا يوجب صحّته في المقام وغيره من غير دليل ؛ نعم يمكن أن يُقال: إنّ قوله تعالى:( فَلَيُبَتّكُنَّ آذان الأنعام ) ، سواء كان التبتيك بمعنى التشقيق أو القطع، قرينة على أنّ المراد بالخلق الدين، فإنّه من تغيير الخلق، ولا معنى بعنوانه في مقابله إذا أُريد بالخلق المخلوق التكويني.

ويدلّ على تفسير الخلق بالدين حديثان مذكوران في بحار الأنوار ص٢٢١ وما بعدها ج٦٤ نسخة الكومبيوتر، لكنّ سندهما ضعيف، فلا اعتماد عليهما.

ويُحتمل أنْ يُراد بتغيير الخلق مطلقه بغرض تحريم الحلال، ويؤكِّده أنّ تبتيك غير محرّم بعنوانه، وليس من الشيطان إلاّ بقصد تحريم الحلال، كما كان أهل الجاهليّة يفعلونه، وعليه فيقرب القولان في تفسير الآية، وهذا عندي أحسن الأقوال، فإنْ تمّ فهو، وإلاّ فلا بُدّ من الحكم بدخول الآية في المتشابِهات.

والمتحصّل من جميع ما مرّ: جواز التحكّم في جنس الجنين في حدّ نفسه، ما لم يستلزم محرّماً آخر، اعتماد على أصالة البراءة، نعم إذا فرضنا أنّه ينجرّ إلى الاختلال بالتوازن العام الموجود بين الجنسين فنحكم بحرمته ؛ فإنّه يترتّب عليه مفاسد كما لا يخفى.

١١٤

تفصيل وتوضيح

قال بعض الأطبّاء: إنّ نسبة الجنسيّة الأوّليّة عند بدء الإخصاب، عندما يكون الجنين خليّةً واحدةً بالتحام المنويّ ببويضته، الإحصاء ١٣٠ من الذكور لكل ١٠٠ من الإناث، وفي فترة الحمل يكون المُجهَض تلقائيّاً من الذكور أكثر من المجهَض تلقائيّاً من الإناث، فعند الميلاد وفي إحصائيّات العالم ككل، تكون النسبة مئة وستّة من الذكور لكلّ مئة من الإناث ؛ ذلك أنّ الهالك الذكري، في فترة الحمل، أكثر بكثير من الهالك الأُنثوي، على مستوى العالم...

وفي نهاية السنة الأُولى من العمر تكون النسبة ١٠٣ من الذكور لكلّ ١٠٠ من الإناث ؛ وذلك أنّ معدّل وفيّات العام الأوّل من الذكور تزيد قليلاً على معدّلاتها من الإناث، وعند سنّ البلوغ فما بعدها، تكاد النسبة تتساوى بينهما، حتّى تميل إلى جانب الإناث مرّة أُخرى عند الوفاة(١) .

ويقول طبيبٌ آخر: إنّ دوائر الإحصاء في أمريكا - مثلاً - أخذت ونشرت في وثائق رسميّة دوليّة أنّ النساء يلدن كثرةً من الذكور بعد كلّ حرب(٢) ؛ لأنّ الحرب تحصد الرجال غالباً، ولا يلدن الإناث إلاّ قليلاً، وهناك توازن وتعادل في كلّ شيءٍ وحتّى في الجمادات: الذهب والفضّة والطين والحجر...(٣) ، وقد يُقال: إنّه في بعض البلاد الإناث أكثر ولادةً من الذكور، وفي

___________________

(١) ص١٠٦ وص١٠٧، الإنجاب في ضوء الإسلام.

(٢) الدعوى محتاجة إلى إراءة دليل مقنع.

(٣) المصدر ص ١٠١.

١١٥

البلاد التي تزيد نسبة ولادة الذكور، ت-نقلب النسبة المذكورة في سنين الزواج، فيقلّ عدد الذكور من عدد الإناث.

ويقول اشلي مونتاغون في كتابه ( المرأة الجنس الأفضل ):

إنّ عدد الإناث الصالحات للتزويج يزيد عدد الذكور الصالحين للتزويج في جميع أرجاء العالم أبداً.

وكتب باحثٌ أنّ في بريطانيا تزيد النساء على الرجال بمليونين.

ولزيادة الإناث شواهد أُخرى.

وهذا هو فلسفة تشريع تعدّد الزوجات في شريعة الإسلام.

١١٦

المسألة الثالثة عشرة

تغيير الجنس

عمليّات تغيير الجنس تجري الآن في الغرب في مراكز كثيرة كعمليّة روتينيّة، سواء كان تحويل الذكر إلى أُنثى أو العكس، وفي الأوّل يجري: استئصال العضو الذكري، وبناء مهبل، وعملية إخصاء، وتكبير الثديين، وفي الحالة الثانية: استئصال الثديين، وبناء عضو ذكري، وإلغاء القناة التناسليّة الأُنثويّة بدرجات متفاوتة، ويصحب كلّ ذلك علاج نفسي وهرموني.

وهؤلاء المرضى يشعرون بكراهية للجنس الذي ولدوا عليه، نتيجةً لعوامل مختلفة، وقد يعود أغلبها إلى فترات مبكِّرة في حياة الإنسان، وتربية غير سليمة، وهم لا يوجد أي لبس في تحديد جنسهم، سواء مظهريّاً أو غيره عند الولادة ( كحالات خنثى غير الكاملة ).

وكثير منهم يقوم بدوره كاملاً، ويتزوّج وينجب على حالته التي خلقه الله سبحانه وتعالى عليها، ثمّ ينتاب هؤلاء المرضى شعوراً يأخذ بالطغيان، وطالما كان مكبوتاً لرغبةٍ في التخلّي عن جنسه الطبيعي، هكذا قال بعض الأطبّاء.

أقول : ربّما يُدّعى أنّه في تغيير الجنس يبقى الجنس هو الجنس، وإنّما يتغيّر الشكل فقط.

وعلى كلٍّ، الكلام تارةً في حكمه التكليفي وأنّه جائز أو حرام، واُخرى في حكمه الوضعي، وما يترتّب على الفرد بعد العمليّة وتغيير الجنس.

أمّا الأوّل، فعمدة ما يحرِّم العمل المذكور هو لمس العورة والبدن والنظر إليهما، فإنّهما حرامان على الفاعل والمفعول، نعم إذا كان الطبيب

١١٧

وطالبة التغيير - أو الطبيبة وطالبه - زوجان وان عقد أحدهما على الآخر بالفعل للعمليّة المذكورة ففي جواز العمل بحث، لبطلان الزوجيّة بمجرّد خروج أحد الزوجين عن جنسه، فالعمليّة المذكورة إنّما تجوز لهما ما لم يبطل عقد الزواج وبعده تحرم ؛ لأنّهما أجنبيّان.

ولا مانع عنها مع الغضّ عن حرمة اللمس والنظر بعدما سبق الكلام حول قوله تعالى:( فَلَيُغيَرنّ خلق الله ) ، إلاّ إذا كثرت العمليات حتّى يقرب من الاختلال بالتوازن العام بين الجنسين.

وأمّا الثاني، فإن تمّ تغيير الجنس نفساً وعضواً بشكلٍ كامل، فلا إشكال في ترتّب الأحكام المتعلِّقة بالجنس الفعلي على الفرد المذكور، ويبطل زواجه السابق، ويجوز له الزواج بالجنس المخالِف بالفعل، وهكذا في سائر الأحكام، فإنّ الأحكام تابعة لموضوعاتها حدوثاً وبقاءً، ولا يجب حفظ الموضوعات لحفظ الأحكام إلاّ فيما دلّ الدليل الخاصّ عليه.

وأمّا إذا تغيّر أكثر الأعضاء، وبقي بعضها الآخر، أو تغيّر كلّ الأعضاء وبقيت الخواص النفسيّة، والتمايلات الجنسية السابقة، ففي ترتيب الأحكام المتعلّقة بالجنسيّة الجديدة عليه نظر، كما يشكل حينئذٍ ترتيب الأحكام المترتّبة على الجنسيّة السابقة عليه أيضاً.

وبالجملة: حيث لا ضابط دقيق لنا يفترق به المذكّر عن المؤنّت بصورةٍ واضحةٍ، فلا بُدّ من اليقين بصيرورة أحد، من أحد الجنسين، جنساً آخر، في ترتيب الأحكام عليه وفي فرض الشكّ لا بُدّ من الاحتياط، كما يحتاط في الخنثى المشكلة - إن ثبتت - ونفينا كونه جنساً ثالثاً، وملاك وجوب هذا الاحتياط هو العلم الإجمالي بكون الفرد ذكراً أو أُنثى على ما تقرّر في أُصول الفقه.

ولاحظ ما يأتي حول الخنثى في المسألة الثلاثين، فإنّه ينفعك في المقام.

١١٨

المسألة الرابعة عشرة

الإنجاب بلا زواج

يقول بعض الأطبّاء حول الاستنساخ والنسخ ( COLONING )

تمهيد:

١ - في نواة كلّ خليّةٍ إنسانيّةٍ ستّة وأربعون جسماً صبغيّاً، هي التي تحمل مجموع الصفات الحيويّة لكلّ فردٍ إنسانيّ.

٢ - كلّ خليّةٍ إنسانيّةٍ تنقسم، تعطي اثنتين على ذات الهيئة وعلى الستّة والأربعين جسماً صبغيّاً.. ويتوالى الانقسام إلى أجيال من الخلايا المثيلة.

٣ - يُستثنى من ذلك الخليّة المنويّة الناضجة.. وخليّة البويضة الناضجة.. ففي كلّ منهما ثلاثة وعشرون جسماً صبغيّاً فقط.. فهذا استثناء من القاعدة العامّة.. فإذا التقيا فالتحما كانت منهما خليّة البيضة.. أُولى مراحل الإنسان، وبها إذن، ستة وأربعون جسماً صبغيّاً...

٤ - وتشذّ ( البيضة ) كذلك عن سائر الخلايا، في أنّها إن شرعت في الانقسام لم تنتج أجيالاً من الخلايا المثيلة.. بل أجيالاً من الخلايا المختلفة، لا إلى تكوين بلايين من الخلايا المتشابهة، ولكن إلى التخلّق والنّماء لتكوين إنسانٍ جديد.

مثال توضيحي:

١- لو أخذنا خليّةً من جلد ضفدع - مثلاً - ووضعناها في البيئة الغذائيّة

١١٩

المناسبة فسيتوالى انقسامها لتعطي ملايين من خلايا الجلد.

٢- ولكن لو أخذنا خليّةً منويّةً وخليّةً بويضيّةً للضفدع والضفدعة قد دمجناهما، فإن الانقسامات لن تفضي إلى خلايا متشابهة، ولكن إلى ضفدع.

الجديد العلمي:

لو أخذنا خليّةً من جلد ضفدع وحصلنا منها على نواتها، وأخذنا خليّة بويضة ونزعنا منها نواتها ورميناها، ثمّ أودعنا نواة خليّة الجلد في سائل خليّة البويضة ؛ فإنّ الخليّة الجديدة ( نواة خليّة جلديّة في سائل خليّة بويضيّة ) تشرع في الانقسام، مفضية إلى ضفدع، هو صورة وراثيّة طبق الأصل من الضفدع الأصيل..

الإنجاز العلمي إذن:

١- إنجاب بغير تزاوج ذكرٍ وأُنثى.

٢- الحصول على نسخة طبق الأصل، وقابلة للتكرار بأي عدد من الضفدع الأصل.

القضيّة المطروحة:

تمّ ذلك في الضفدع.

من الناحية النظريّة ستتّسع دائرة التطبيق، فماذا لو أمكن ذلك في الإنسان ؟

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341