الفقه والمسائل الطبية

الفقه والمسائل الطبية16%

الفقه والمسائل الطبية مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 341

الفقه والمسائل الطبية
  • البداية
  • السابق
  • 341 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92446 / تحميل: 7845
الحجم الحجم الحجم
الفقه والمسائل الطبية

الفقه والمسائل الطبية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

والدماغ.

وبتعبيرٍ دقيقٍ: عندنا أنّها من آثار الروح بتوسّط المخّ.

وثبت علميّاً - أيضاً - أنّ للقلب حركة قبل تمام أربعة أشهر بكثير، وتُسمع دقات قلب الجنين بالآلات الحديثة الطبّيّة، فليس الحياة الإنسانيّة تدور مدار حركة القلب حدوثاً، ولا بعد في أن لا تدور مدارها في البقاء والاستدامة، فكما تبدأ حركة القلب قبل الحياة الإنسانيّة، يمكن بقاءها بعد نهايتها، خلافاً للأطبّاء المتقدِّمين.

وحينئذٍ هل يصح أنْ نذهب إلى قول الأطبّاء الجدد بأنّ موت جذع المخِّ هو علامة انقطاع الروح عن البدن ؟

وهذا يتوقّف على أمرين:

١ - إثبات انقطاع الروح عند موته نهائيّاً وكليّاً عن البدن، ولا يكفي ذهاب الوعي والحسّ وغيرهما، إذ لعلّه لفساد الآلة - وهو المخّ - دون انقطاع الروح، كذهاب البصر بفساد العين، فلا تبصر الروح لكن عدم إبصارها لا يكشف عن انقطاع علاقتها عن البدن، فاحتمال بقاء الروح واتّصاله ببعض البدن - ولو ضعيفاً وفي الجملة ولدقائق قصيرة - لا نافي له، والعلوم التجربية - ولو في المرحلة الراهنة - قاصرة عن نفي الاحتمال المذكور، كما أنّ العقل عاجز عنه - أيضاً - والدين ساكت عنه.

٢ - إثبات أنّ المخّ غير قابل للتعويض، ولا للإصلاح عند خرابه، بخلاف القلب، فإنّه قابلٌ للتعويض حتّى بقلبٍ بلاستيكي.

لكنّ عدم تيسّر تعويضه وإصلاحه، لعلّه لقصور الطبّ في دوره الحاضر، لا لعدم إمكان التعويض أو الإصلاح في نفسه، وما أدراك ما هو تطوّر الطبّ في مستقبلٍ بعيدٍ أو قريب(١) ؟

فحصول الموت وحدوثه

___________________

(١) ويمكن أن يُدفع هذا الإيراد بما سيجيء في الفصل الرابع، في جواب الاعتراض الرابع، فتأمّل.

١٤١

بسكون القلب وإن لم يدلّ عليه دليل، بل هو مرجوح لكنّه بموت جذع المخّ - أيضاً - لم يصل إلى حدّ اليقين، وإنْ كان راجحاً.

ولو سألتني عن الحقّ، ف أقول لك: إنّ لحظة بدء الحياة الإنسانيّة(١) ، ولحظة نهايتها لم تثبتا بدليلٍ قاطعٍ، فإنّ تعلّق الروح وانقطاعها غير محسوسَين، ولا مُدرَكين للعقل، ولا منصوصَين بنصٍّ قاطعٍ دينيّ.

ثمرة القولين:

ربّما يموت المخّ - ونعني به جذعه لا قشره - والقلب ينبض، وهذا على قسمين:

الأوّل: ينبض القلب تلقائيّاً.

الثاني: ينبض بآلةٍ صناعيّةٍ بحيث لولاها لسكن القلب بالمرّة.

لا يبعد الحكم على صاحب المخّ المذكور بالموت على الفرض الثاني، فإنّ قلبه كمخّه مات هو ميّت، وتحريك قلبه بآلة خارجيّة لا تؤثِّر في إعادة حياته أو إدامتها، وفي الفرض الأوّل، الحكم بموته مبنيٌّ على القولين المذكورين عند الأطبّاء قديماً وحديثاً.

وستعرف أنّ للميّت أحكاماً كثيرة يختلف ترتيبها في هذه الفاصلة(٢) ، فللبحث المذكور ثمرات كثيرة شرعيّة، أهمّها عند الأطبّاء: نزع

___________________

(١) تقدّم أنّ ما دلّ على تعلّق الروح بعد تمام أربعة أشهر بالجنين، غير خالٍ عن النقاش والخلل.

(٢) يقول طبيبٌ: عند توقّف الدورة الدمويّة، إذا كان ضغط الدم عند المريض طبيعيّاً، وهو في سكتةٍ قلبيّةٍ مفاجِئةٍ، فإمكانيّة أخذ عضوٍ لكي يُزرع لآخر لا تتجاوز وقتاً كبيراً من بين ١٥ إلى ٢٠ دقيقة. ( ص٥٧٢ الحياة الإنسانيّة بدايتها ونهايتها ).

ويقول طبيبٌ آخر:... ولكن الآن وبواسطة التطوّرات الطبّيّة والعلوم الحيويّة

=

١٤٢

القلب لزرعه في بدن غيره في هذه الفاصلة العابرة، إذ تأخيره ربّما يُفسد القلب فلا يصلح للزرع.

وإمّا الكِلية، فإن أوصى صاحبها بنزعها مطلقاً، ومن دون تحديدٍ بزمانٍ ما بعد الموت، أو صرّح به بالفعل، فيجوز نزعه في تلك الفاصلة، إذا لم يكن له خطر زائد على حياته القصيرة، وإمّا إن علّقه على موته، فحاله حال القلب في الجواز، وعدمه على القولين.

توضيح وتقييم:

أقول : لتوضيح محلّ البحث نذكر صوراً تخطر بالبال عاجلاً:

( الأُولى ): موت تمام المخّ، أي جذعه وقشرته وتوقّف القلب.

( الثانية ): موت تمام المخّ، وحركة القلب صناعيّةٌ بعد توقّفه.

( الثالثة ): موت تمام المخّ مع حركة القلب تلقائيّاً.

( الرابعة ): حركة القلب صناعيّة بعد توقّفه، ثمّ تجديد عمل المخّ بعد موته.

___________________

=

أمكن تغذية القلب والرئة والأعضاء الأُخرى، بوسائل صناعيّة لمدّة معيّنة أقصاها أسبوعان، ولو أنّ المخّ قد سبق وإن مات، وفي نظري أنّ الإنسان كما نعرفه أيضاً قد مات، وهذه التطوّرات - مع الأسف - خلقت اختلافاً في تحديد وقت الموت... هل هو وقوف القلب، كما في التعريف الطبّي القديم ؟

أو وقوف عمل المخّ، كما في التعريف الجديد، والذي يؤدّي إلى وقوف أعمال الأعضاء الأُخرى إذا لم نجد الوسائل الصناعيّة ؟

وقد يصل الفرق في وقت الموت إلى أُسبوعين بسبب اختلاف التعريف، انتهى.

أقول: فيه نظر يظهر ممّا ذكرنا في المتن آنفاً.

١٤٣

( الخامسة ): موت المخّ وتوقّف القلب مع حياة بعض أعضاء البدن.

( السادسة ): موت جذع قشرة المخّ وحياة جذع المخّ مع الصورة المتقدِّمة.

أقول : وفي الصورة الأُولى موت الفرد متحقّق عند جميع الأطبّاء القدامى والجدد.

وليكن في الثانية - أيضاً - كذلك عندهم، إذ لا أثر للتحريك الصناعي المذكور.

والثالثة: هي محلُّ الخلاف بين القدماء والمتأخِّرين من الأطبّاء، فعلى قول الأوّلين يُحكم بحياة الفرد، وعلى قول الآخرين بموته.

وفي الرابعة: لا مجوّز للحكم بموت الفرد، بل هو حيّ بحياة إنسانيّة.

وفي الخامسة: يحكمون بموته، فلاحظ أقسام الحياة في الفصل الرابع الآتي ذكره عن قريب.

وفي السادسة: احتمالان:

الأوّل: أنّ موت قشرة المخّ يستلزم بطلان الحياة الإنسانيّة، إن صحّ ما ادّعى بعض الأطبّاء من أنّ قشرة المخّ هي التي تميّز الإنسان عن الحيوان، بما رزقه الله من مَلَكَات إنسانيّة، وقال: إنّ جذع المخّ هو الحدّ الأدنى اللاّزم للحياة. ولا عبرة بالحياة غير الإنسانيّة، كما يأتي في الجواب عن الاعتراض السابع في الفصل الرابع.

الثاني: أنّ بقاء الحياة في جذع المخّ تكشف عن بقاء علقة الروح الإنسانيّة بالبدن، وفقدان الوعي وسائر المَلَكَات لفساد الآلة والعضو، فلا يكشف عن بطلان الحياة الإنسانيّة، ولا اقل من الشكّ في ذلك فيعامل معه معاملة الإنسان الحيّ استصحاباً.

وبعد، فإنّ تحديد انقطاع علاقة الروح بالبدن بالدقّة في الفروض المذكورة - سوى الأوّلَين - غير واضح تماماً، والله العالم.

١٤٤

( ٢ )

موضع المخّ(١) من وجود الإنسان

الخليّة وإن تمثّل حياةً إلاّ أنّ حياة الغالبيّة العظمى من خلايا جسد الإنسان، وكذلك أعضائه التي يحتويها هذا الجسد، لها حياتها المستقلّة عن حياة الإنسان كفرد ؛ بدليل أنّنا يمكن أنْ نأخذ بعض خلايا من جسم الإنسان لزراعتها ودراستها بالمعمل، ولا تفقد حياتها بخروجها من جسم الإنسان، ومن الأمثلة الأُخرى استئصال كلية حيّة من جسم إنسان لزراعتها في جسم إنسانٍ آخر، إنّها لا تفقد حياتها، ولا تكسب حياةً جديدة من الجسد المنقولة إليه، بل تحيا بحياتها الأُولى طالما توافرت لها إمكانيّة الغذاء المناسب.

فالقلب والرئتان والكبد والكلى يمكن استئصالها واستبدالها بأعضاء أُخرى إنسانيّة، أو حتّى بلاستيكية، مع استمراريّة الذات الإنسانيّة وعدم تغيّرها إلاّ المخّ.

قد نظنّ الآن أنّ النفس الإنسانيّة تكمن في مخّ الإنسان ؛ لأنّه مكان استقبال جميع الحواسّ من: سمعٍ وبصرٍ وشمٍّ وذوقٍ ولمسٍ، إنّه مكان الاستقبال الوحيد من العالم الخارجي، كما أنّه يحتوي على مخازن الذاكرة من قراءات وسمع وبصر وغيرها والخبرات السابقة ومكان التفكير والابتكار، وبه تمّ إرساء الطباع والعادات والمثل المكتَسبة والمميِّزة لكلّ إنسانٍ، ومكان تواجد الغرائز الموروثة، كما أنّه مصدر الأفعال المترتّبة على ما

___________________

(١) الدماغ يبدأ تكوينه بعد تلقيح البويضة بأسابيع، ويكتمل في الأُسبوع الثاني عشر. ص١٢٧ رؤية إسلاميّة لزراعة بعض الأعضاء البشريّة.

١٤٥

يستقبله من معلومات.

ولو نظرنا بتكبيرٍ مجهريٍّ داخل المخّ ؛ لوجدناه يتكوّن من ملايين الخلايا العصبيّة، التي تشبه البطّاريّات الكهربائيّة الصغيرة، يترجم فيها كلّ شيءٍ من: أحاسيس وأفكار ورغبات إلى ومضات كهربائيّة، تحملها أسلاكٌ دقيقة معزولة تنتهي إلى أطرافٍ دقيقةٍ تترجم هذه الومضات السابقة إلى طاقات كيميائيّة، تقوم بدورها بتنبيه خلايا أُخرى، وهكذا تستقبل الأحاسيس من سمعيّة وبصريّة، وخلافه وتنفّذ المهام من فكر وأفعال.

وهنا يجب أنْ نلاحظ أنّ جميع الأحاسيس الواردة للمخّ، وأيضاً جميع الإشارات الصادرة عنه لتنفيذ المهام، تصل منها للعلم إلى مكان معيّن للمخّ يكون باستمرار على علمٍ تامٍّ بمجريات الأُمور، وذلك هو جذع المخّ، وعلى الأدق: نسيج معيّن داخله يُسمّى النسيج الشبكي.

وهذا الجزء له تأثيرٌ كبيرٌ على أجزاء المخّ الأُخرى، وقد أثبتت البحوث الكثيرة أنّ هذا النسيج الشبكي هو المسؤول عن وَعي الإنسان(١) ، وأنّه إذا فقد الإنسان وعيه لسبب أو آخر فإنّ ذلك يحدث ؛ لأنّ هذا النسيج قد تعرض لضررٍ ما، وذلك كالإصابة في الحوادث، أو بالتأثير من السموم أو الأمراض.

ويدخل في ذلك التخدير أو تعاطي العقاقير من منوِّمةٍ ومهدِّئةٍ مهلوسةٍ، وهو المسؤول عن نوم الإنسان ويقظته... ويبدو لنا الآن أنّ هذا

___________________

(١) قيل: يمكن أنْ يتلف النصفان الكرويان ويستمرّ الإنسان في الحياة ؛ لأنّ جذع المخّ هو الذي ينظّم التنفّس، وبالتالي يستمرّ المريض أو المصاب في الحياة، وإنّما ذهاب النصفين الكرويين يعني: فقده للإحساس وللحركة وللفهم وللكلام وللسمع، ولكنّه كائنٌ حيّ بالحياة الجسديّة، ص٧٧ رؤية إسلاميّة لزراعة بعض الأعضاء البشريّة.

١٤٦

هو في الغالب مكمن النفس الإنسانيّة(١) .

وعند توقّف القلب عن العمل نهائيّاً لأيّ سببٍ من الأسباب، يتبعه فوراً فقدان الوعي وتوقّف التنفّس، وهما وظيفتان من وظائف المخّ الذي لا يتحمّل توقّف دورته الدمويّة إلاّ لثوان معدودة، ولو أنّ الخلايا تظلّ حيّةً لبضع دقائق، إلاّ أنّها تتوقّف في أثنائها عن العمل(٢) .

وأمّا العضلات والعِظام والجلد، فقد تستطيع الحياة لمدّة ساعات بعد توقّف القلب والدورة الدمويّة. وقد يمكن أحياناً أن يعود القلب للعمل، ويبدأ التنفّس الذاتي في العمل من جديد ( في الدقائق اليسيرة ) ويعود الإنسان إلى وعيه، ففي هذه الفترة الحرجة التي يُعتبر الإنسان فيها ميّتاً بكلّ المقاييس الإكلينيكيّة الطبيّة، ولكنّه بالفعل لا يكون ميّتاً ؛ لأنّ مخّه ومن ثمّ معظم أعضاء الجسم لا زالت حيّةً.

وقد يعود القلب والتنفّس للعمل بعد فترة الدقائق الأربع، بعددٍ من الثواني ولكنّ قشرة المخّ الحسّاسة قد تكون تلفت جزئيّاً أو كليّاً على حين تستمرّ أجزاء المخّ الأُخرى، ومنها جذع المخّ في العمل، وقد يحدث هذا التلف نفسه نتيجة هبوطٍ شديدٍ في ضغط الدم لفترةٍ طويلةِ حتّى بدون

___________________

(١) وسيأتي توضيح حول كيفيّة تعلّق الروح بالبدن عن قريب، إن شاء الله، ولا عبرة بتعابير مثل الكمون والمكمن وأمثالهما فإنّها غير دقيقة.

(٢) لكن نقلت وكالات الأنباء في الشهر السابع من ١٩٩٦ م: أنّ امرأةً صينيّة توقّف قلبها ٤٥ دقيقة إثر اتّصالها بالبرق، ثمّ رجع قلبها إلى الحركة، واحتيت وقال الأطبّاء: إنّه لم يُرَ لحدّ الآن مَن رجع إلى الحياة بعد توقّف قلبه وجهاز تنفّسه في هذا الوقت الطويل.

ولاحظ أوّل حاشية في الفصل الرابع جواباً لهذه المشكلة، فما ذكرته وكالات الأنباء إنّما يصير مشكلةً إذا علم الأطبّاء توقّف القلب، لا توقّفه عن النبض فقط.

١٤٧

توقّف القلب والتنفّس، وذلك لوصول الغذاء للمخّ بكمّيّات غير كافية في هذه المدّة، وقد يحدث ذلك نتيجة إصابة شديدة غير مميتة للمخّ، ولا علاج حينئذٍ، فخلايا المخّ التي تموت لا يمكن تعويضها.

وفي حالة فقدٍ كاملٍ للوعي يستمرّ هذا الإنسان في حياة جسديّة مدّة حياةٍ كاملة ؛ على هذا الوضع بالرعاية الطبيّة، ويتنفّس ذاتيّاً ؛ لأنّ جذع المخّ سليم، لكن مثل هذه الحياة لا يكون إلاّ داخل مستشفى، وهي بالتأكيد كارثة اقتصادية، مع انعدام الأمل في عودة المريض إلى وعيه، وقد شُوهد مريض كذلك استمرّت حياته ( ١٥ ) عاماً في أُوربا(١) .

وقد يموت المخّ أوّلاً فيؤدّي إلى وفاة الإنسان، حتّى إذا كانت بقيّة الأعضاء الأُخرى، بما في ذلك القلب سليمة، كما في بعض إصابات الرأس الشديدة في حوادث الطرق، أو السقوط من أماكن مرتفعة وغير ذلك، فيموت المخّ بالكامل، أو أساساً جذع المخّ، وطبيعي تبدأ سلسلة الموت في هذه الحالة بفقد الوعي، وتوقّف التنفّس وانقطاع الأُوكسجين عن الدم، إنّ الدورة الدمويّة التي ما تزال تعمل، ينقص فيها الأُوكسجين ويتراكم ثاني أوكسيد الكربون، وبالتدريج تموت بقيّة الأعضاء الأُخرى، ولا يعود المخّ بتزويد الجسم بالأُوكسجين بواسطة أجهزة التنفّس الصناعي، فإنّ خلايا

___________________

(١) إذا قلنا إنّه لسلامة جذع مخّه حيّ ومحكوم بالحياة، لكن لا يبعد أنْ نقول بعدم وجوب حفظه عن الموت ؛ لأنّ هذا الوجوب لم يدل عليه دليلٌ لفظيٌّ نتمسّك بإطلاقه، كما لا يخفى على الخبير المتعمّق في الفقه، ولا يشتبه عليك وجوب حفظ النفس المحترمة بحرمة قتله وبينهما بونٌ بعيدٌ، وعليه، فإذا لم يدفع المال لحفظه - والحال هذه - وقطع الطبيب الآلات الطبّيّة فمات نهائيّاً لا ترجع تبعة موته إلى أحد، فقد أماته الله سبحانه وتعالى، فلاحظ وتأمّل، ولاحظ ما ذكرنا في ج٣ من كتابنا حدود الشريعة، مادّة الحفظ ؛ تعلم أنّ وجوب الحفظ لا يشمل مثل المقام.

١٤٨

المخّ التالفة لا يمكن تعويضها.

والخلاصة: إنّ توقف القلب عن العمل لا يعني بالضرورة الوفاة ( فترة الدقائق الأربع ) كما أنّ استمرار القلب في العمل بعد موت المخّ لا يعني الحياة(١) .

وقال بعضهم: إنّ المخّ يحتمل توقّف القلب أقل من أربع دقائق، فإذا القلب يعود لعمله بعد ذلك بقي المخّ تالفاً، كما أنّ توقّف التنفّس يتبعه توقّف القلب بعد أقل من ذلك(٢) .

وخلاصة ذلك: أنّ موت الإنسان بموت مخّه، وأمّا تحديد وقت وفاة المخّ فهنا أكثر من طريقة له ولكنّ أكثرها دقةً وتحديداً هي أن يُوصَل أي مريض مصاب بإصابة شديدة بالمخّ بأجهزة تخطيط المخّ، أو أجهزة قياس عمل المخّ، أو أجهزة فحص عمل جذع المخّ، فإنّها دقيقة تقوم بتحديد المطلوب(٣) .

___________________

(١) انتخبنا ما في المتن ممّا ذُكر في ص٣٣٤ إلى ص٣٤٢ من الحياة الإنسانيّة بدايتها ونهايتها.

(٢) قيل: يخرج من المخّ عشرات الألياف العصبيّة ( الأعصاب ) من خلال ثقوب في الجمجمة والعمود الفقري، كما أنّ الكثير من الشرايين والأوردة تنقل إليه ومنه الدم اللاّزم لتغذيته، إن الجهاز العصبي المركزي، والمخّ بصفةٍ خاصّةٍ، لا يتحمّل تغييرات فيزيائيّة أو كيميائيّة في المحيط الذي يعيش فيه إلاّ في نطاق محدود جدّاً، فمثلاً:

التغيير في درجات الحرارة بالنسبة لأعضاء أُخرى كالجلد تتحمّل إلى عشر أو عشرين درجة مئويّة صعوداً أو هبوطاً من الدرجة العادية ( ٣٧ ) إلاّ أنّ المخّ لا يتحمّل انخفاضاً أكثر من درجتين وإلاّ ابتدأ عمله في التأثّر، وقد يغيب الإنسان عن وعيه فيما يشبه النوم، وهذا ما حدث لجيوش نابليون عند هجومها على روسيا في الشتاء القارس البرد، وسبب اندحاره وهزيمته. كما أنّ ازدياد درجة حرارة المخّ عن ثلاث درجات قد يسبّب أيضاً فقدان الوعي، وقد يُصاب الإنسان بما يُسمّى ضربة شمس، ص٥٧ وص٥٨ رؤية إسلاميّة لزراعة الأعضاء البشريّة.

(٣) أظنّ آراء الأطبّاء في ذلك مختلفة، وبعضهم لا يطمئن بتحديد المطلوب فلا بُدّ من البحث في ذلك، ولاحظ ما يأتي في ص١٥٥ تجد صدق ما قلنا.

١٤٩

( ٣ )

أيضاً المخّ والقلب

ولمّا كان قرار تشخيص الموت يتبعه إيقاف الأجهزة الصناعيّة، ووقف أجهزة التنفّس يتبعه توقّف القلب، فقد كان من الضروري تمحيص هذه القضيّة ( أي اعتبار موت جذع الدماغ موتاً للمريض ) بصورةٍ أُخرى، فأجريت دراسة استقصائيّة للحالات التي تمّ فيها تشخيص موت الدماغ، ولكنّ الأجهزة لم توقف لسبب من الأسباب، وقد زادت على سبعمئة حالة، وقد ماتت الحالات جميعاً رغم استمرار الأجهزة. هذا وقد توقف القلب فيها بعد ساعات أو أيّام من موت الدماغ، وكان متوسّط المدّة ثلاثة أيّام ونصف إلى أربعة أيّام ونصف يوم، وأقصى مدّة سُجّلت لاستمرار القلب في الدقّ هي أربعة عشر يوماً(١) ... ولم يعش أحد ( من هذه الحالات ٧٠٠)...(٢) .

القلب يمكنه أن يتوقّف عن العمل تماماً بسبب قطع الأُوكسجين عنه، أو قطع وصول الدم الذي يحمل الأُوكسجين إليه، إمّا تلقائيّاً بسبب المرض أو بواسطة الجرّاح أثناء عمليّات القلب المفتوح.

وإذا حدث ذلك وحرارة القلب طبيعيّة ( أي بدون تبريد ) فإنّ القلب يبقى حيّاً، أو قابلاً للحياة لمدّةٍ تتراوح بين ٢٠ إلى ٣٠ دقيقة بدون تلفٍ كبيرٍ، وإذا عاد الأُوكسجين إلى القلب خلال هذه المّدة ( بعودة الدورة الدمويّة

___________________

(١) يتّجه هنا سؤال وهو أنّ اختلاف المدّة من ساعات إلى أربعة عشر يوماً هل لا يكون دليلاً على عدم علّيّة مشخّصة محدّدة من موت جذع المخّ لموت الشخص، فلابُدّ هنا من الانتظار حتّى تشخيص الحلقة المفقودة. فتأمّل فيه.

(٢) ص ٣٥٧ الحياة الإنسانيّة بدايتها ونهايتها.

١٥٠

التاجيّة ) يعود القلب إلى العمل كما كان، وإذا زادت فترة قطع الأُوكسجين يزداد التلف تدريجاً حتّى إذا وصلت المدّة إلى ٩٠ - ١٠٠ دقيقة ( أو أقل ) يفقد القلب قابليّته للحياة.

وأمّا مع التبريد فيحتمل القلب قطع الأُوكسجين ساعات بدون تلف(١) وبالنسبة للمخّ فتوجد ظروف مشابِهة لما ذُكر عن القلب إلاّ أنّ المخّ يفقد قابليّته إذا انقطع عنه الأُوكسجين لمدّة دقائق معدودة ( ٣ - ٥ دقائق ) وحرارته طبيعيّة، ومع التبريد يمكن للمخّ أن يعود للعمل بعد عدّة ساعات من التوقّف إذا عادت إليه الدمويّة الحاملة للأُوكسجين(٢) .

موت القلب ليس موت الفرد:

يمكن ان يتوقّف القلب عن العمل تماماً بصفة موقتة اوبصفة دائمة وتستمر حياة صاحبه بجسده وذكره وعاطفته وحواسه وإدراكه وكل مقومات شخصيته مادامت هناك مضخة بديله تضخ الدم وتسيره عبراً للدورة الدموية، وهذه المضخة يمكن أنْ تكون قلباً عضوياً آخر من إنسان أو حيوان أو تكون آلية(٣) .

موت المخّ موت الفرد:

موت المخّ يؤدّي بالضرورة إلى موت صاحبه. نعم من الممكن أنْ يتوقف المخّ عن العمل جزئيّاً لسبب ما، ثمّ يعود إلى حالته الطبيعيّة ما لم

___________________

(١) ص ٣٨٧ نفس المصدر.

(٢) ص ٣٨٨ نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر، وقيل القلب يتوقّف أحياناً عن النبض، ويظهر كأنّه مات ولكنّه لم يمت، وله قابليّة الحياة. وهنا التفرقة بين سكون القلب والموت، ص٥٢٩ نفس المصدر.

وقيل إنّ القلب كأيّ عضو في الجسم محتاج إلى غذاء وهواء: يعني الأُوكسجين، فإذا توقّفت دورة الدم لأي سببٍ كان يتوقّف عن العمل، ففيه جهاز كهربائي يساعده أو ينظِّم نبضه، ص٥٣٥ نفس المصدر.

١٥١

يفقد الحياة أو القابليّة للحياة تماماً، وأمّا إذا فقد القابليّة للحياة، وانعدمت كلّ المؤشِّرات الكهربائيّة فيه، فلا يمكن إصلاحه بعد ذلك، ولا يمكن للإنسان الحياة بدونه، ولا يوجد للمخّ بديل.

( ٤ )

اعتراضات على هذا القول وأجوبتها

١ - كيف يُحكم بموت إنسانٍ بموت مخّه، وربّما قلبه ما زال ينبض ؟

أُجيب عنه: بأنّ حياة عضوٍ لا يتعارض مع موت صاحبه، فمثلاً الشعر يستمر في النموّ لمدّة ٢٤ ساعة أو أكثر بعد موت صاحبه ودفنه، وبدون أيّ دورةٍ دمويّةٍ جاريةٍ، والقلب العضوي يمكنه أن يستمرّ خارج الجسد منفصلاً عن صاحبه مدّةً، إذا وُفّر له الغذاء والحرارة المناسبة، وفي هذا الأثناء يكون صاحبه قد مات ودُفن، وكذلك كثير من أعضاء الجسد.

وجدير بالذكر هنا أنْ نعلم أنّ الحياة على أقسام:

فمنها الحياة الإنسانيّة الواعية.

ومنها الحياة الجسديّة، وهي الحياة أثناء النوم، وأثناء التخدير وتعاطي السموم في إصابات المخّ، وحالات الغيبوبة وحالات وفاة قشر المخّ، هذه الحياة موجودة وفيها روح(١) .

ومنها الحياة العضويّة، وهي تكون بعد وفاة جذع المخّ، ولا زالت بعض الأعضاء موجودة حيّة. طبعاً ذلك يستدعي وجود تنفّس صناعي.

___________________

(١) نعم الفرق بين القسمين في مجرّد الوعي ونحوه، وأمّا كيفيّة علاقة الروح الإنسانيّة بالجسد في كلٍّ من الحالتين فهي مجهولة عندنا، أو بالأدق: عندي !

١٥٢

ومنها الحياة النسيجيّة.

ومنها الحياة الخلويّة(١) .

فلابُدّ من عدم اشتباه بعضها ببعضٍ آخر.

٢ - ولو أنّه لا يوجد حاليّاً بديل كامل للمخّ فإنّه يوجد بديل لأحد وظائفه، وهو تحريك الجهاز التنفّسي عن طريق آلة التنفّس، ممّا يوفّر الأُوكسجين للقلب وبقيّة الجسد، فيمكن له الاحتفاظ بقابليّتهم للحياة ولو لفترة من الزمان، فلماذا لا تُستعمل آلة التنفّس لفترة غير محدودة ؟

وأُجيب عنه، أوّلاً: بعدم إمكان الحفاظ على هذه الحالة لفترات غير محدودة، إذ تتدهور الحالة تدريجاً حتّى يتوقّف القلب العضوي والأعضاء الأُخرى، بالرغم من كلّ الآلات المستعملة.

وثانياً: بأنّه في أثناء الإبقاء على حياة بعض الأعضاء، يكون هنا انعدام تامّ لحركة الإنسان، وفكره وعاطفته وحواسّه وإدراكه، وكلّ مقوِّمات شخصيّته.

وثالثاً: بأنّ حياة بعض الأعضاء لا تعني بالضرورة حياة صاحبه(٢) .

وقد ذكر بعض الباحثين مثالاً لعدم دلالة نبض القلب على الحياة: بإنسانٍ قُطع رأسه، تلقّفه الأطبّاء وحفظوا الجسد المفصول ؛ فبقي القلب الموصول بالأجهزة نابضاً، ففي هذه الحالة لا يمكن لأحدٍ أنْ يدّعي بقاءَ الروح في جسدٍ بلا رأس، مهما كانت خلاياه حيّةً(٣) .

٣ - إذا كان قياس الدماغ - أي كهرباء الدماغ - يكفي بالحكم بالموت فلماذا تحدد السلطات الصحيّة في المملكة المتّحدة عام ( ١٩٧٧ ) شروطاً

___________________

(١) ص٥٢٥ الحياة الإنسانيّة.

(٢) ص٣٩٠ وص٣٩١ الحياة الإنسانيّة.

(٣) ص٤٢٥ نفس المصدر.

١٥٣

فلا بُدّ من توافرها لتشخيص موت الدماغ ؟

منها على سبيل المثال:

أوّلاً: أنْ يكون المريض في حالة غيبوبة عميقة، وأن نستبعد أسباب الغيبوبَة القابلة للعلاج كليّاً أو جزئيّاً، مثل العقاقير المهدّئة أو المنوِّمة، أو الانخفاض الشديد في حرارة الجسم.

ثانياً: أنْ يكون المريض معتمداً على أجهزة التنفّس الصناعي لانعدام التنفس التلقائي.

ثالثاً: ألاّ يكون هناك شكّ في وجود تلفٍ في الدماغ غير قابلٍ للعلاج، مثل: إصابة بالرأس، أو نزيف تلقائيّ بالدّماغ، أو بعد عمليّة جراحيّة في المخّ ونحو ذلك.

رابعاً: أنْ يثبت الفحص السريري علامات موت جذع الدماغ، كاتّساع العينين اتساعاً ثابتاً لا يتأثّر بالضوء، وانعدام التأثّر الانعكاسي في منطقة الأعصاب القحفيّة(١) ، وهكذا.

خامساً: انعدام الاستجابة لمحاولات تنبيه التنفّس التلقائي(٢) .

وأجاب عنه بعض الأطبّاء: بأنّ وضع هذه الشروط لمجرّد التأكيد والاحتياط، لا لغير ذلك. لكنّ موضوع الاحتياط هو الاحتمال المنافي للعلم، إذ مع العلم لا معنى للاحتياط.

٤ - ليس من الإمكان ببعيد مجيء يومٍ يتمكّن العلم المتطور من إعادة النشاط الكهربائي للدماغ، أو نقل جذع الدماغ من بدنٍ إلى بدنٍ آخر(٣) .

___________________

(١) في المنجد: القِحف ج أقحاف وقحوف وقحفة: العظم الذي فوق الدماغ. ما انفلق من الجمجمة فانفصل. إناء من خشب مثل قحف الرأس كأنّه نصف قدح..

(٢) ص٣٥٥ نفس المصدر السابق.

(٣) إذا فرضنا حياة فردٍ بنقل مخّ فردٍ آخر كزيد، فإن وجدنا الفرد المذكور بأفكاره

=

١٥٤

أقول : لكنّنا نتكلّم الآن حسب الظروف الموجودة، فلابدّ أنْ نقول بموت الفرد بموت جذع مخّه، حتّى إذا جاء نَصْرُ العلم وفَتْح الطبّ ؛ فنقول بما اقتضاه الوقت.

٥ - الحكايات الكثيرة المتفرِّقة التي يتناقلها الناس من أنّ فلاناً مات ثمّ صار حيّاً قبل الدفن، أو بعد الدفن، ثمّ رجع إلى الأحياء، أو مات مرّةً أُخرى في قبره كما فهم ذلك بعد نبش قبره، وهذه الحكايات وإن لم نصدّق بجميعها لكن لا مجال لتكذيب كلّها، ففي هذه الموارد بالطبع كان القلب متوقّفاً طيلة تلك المدّة، والمريض لا وعي له ولا إدراك ولا حراك، وسواءٌ مات المخ أم لم يمت، فإنّ حياةً مثل هذا الفرد يبطل القول المذكور.

وأجاب عنه بعض الأطبّاء: بأنّ مردّ هذا في الغالب إلى خطأٍ في التشخيص، فلعلّهم تبيّنوا توقّف قلبه بحبس نبضه، أو حبس نبض شرايين الرقبة، أو الاستماع إلى صدره، وقد تعجز الحواسّ الطبيعيّة عن أنْ تذكر الاختلاجات الضعيفة، ولعلّهم إنْ رسم لهم رسّام القلب الكهربائي، كانوا يستنبطون أنّه حيّ..(١) .

٦ - نُقل عن جريدة الأهرام ( ٣٠/٩/١٩٨٤ ) خبرٌ وهو:

___________________

=

وعواطفه وجميع مشخّصاته السابقة، فهو ينقض القول السائد اليوم بأنّ موت الفرد بموت مخّه. وأمّا إنْ وجدناه بمشخصات زيد وذاكرته وأفكاره واتجاهاته فلا ينقضه ؛ لإمكان القول أو صحّته بأنّ هذا الفرد لم يحيى، بل الحي هو زيد ببدن ذلك الفرد، ومثل هذا الفرض سيوجب أسئلةً شرعيّةً وأخلاقيّةً واجتماعيّةً وروحيّةً، وأمره غامض جدّاً لا سيّما بالنسبة إلى الزوجة والأولاد والأقرباء.

وأظهر من هذا الفرض فرض زرع رأس أحدٍ في بدن آخر، إذا قدر الطبُّ عليه في دهر.

(١) ص٥٤٩ الحياة الإنسانيّة.

١٥٥

حالة وضع أثارت اهتمام العلماء في العالَم أجمع، تلك حالة السيّدة الفلنديّة انجاليتالو ٣٢ عاماً، التي وضعت طفلها الرابع وهي في غيبوبة تامّة منذ شهرين ونصف، وقد دخلت الأُمّ في هذه الغيبوبة إثر إصابتها بنزيفٍ في المخّ.

والغريب أنّ الأُمّ قد توفّيت بعد أنْ وضعت طفلها ماركو بيومين... فقد كانت الأُمّ تتنفّس صناعيّاً، وتتغذّى بالأنابيب، ويُنقل لها دمٌ مرّةً أُسبوعا، وذلك لمدّة عشرة أسابيع(١) .

وأُجيب عنه: بأنّ الأُمّ لم تكن حيّة وليس لها روح، وإنّما هي استُعملت كحاضنةٍ صناعيّةٍ للجنين الذي في جوفها.

٧ - إنّ تعطيل الحواسّ لا يستلزم فقد الحياة، وإلاّ لكان النائم والمجنون والمغشيّ عليه فاقدين للحياة. ألا ترى أنّ القرآن الكريم لم يحكم على أصحاب الكهف - مع الغيبوبة الطويلة ( ٣٠٩ أعوام ) بأنّهم أموات بل المستفاد من قوله تعالى:

( وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ) (٢) حياتهم، وكذا في قوله سبحانه:( لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ) (٣) قيل ذلك لطول شعورهم ونموّ أظافرهم ولحاهم، إلى غير ذلك ممّا يغيّر الملامح، ويخيف عند زيادته عن المألوف.

أقول : مرّ جواب هذا مجملاً في بعض المسائل المتقدِّمة ( بداية الحياة الإنسانيّة ).

ويقول بعض الأطباء: إنّ كلّ غيبوبة لا تدلّ على موت المخّ، ولا بدّ أن يستبعد الطبيب هنا الأسباب التي تؤدّي إلى غيبوبة قابلة للعلاج، كالمواد المخدِّرة والبرودة الشديدة في البلاد التي فيها بردٌ شديدٌ، وعندما لا يتأكّد

___________________

(١) ص٤٤٧ نفس المصدر.

(٢ و ٣) الكهف آية ١٨.

١٥٦

عندنا سبب الغيبة لا نشخِّص موت جذع الدماغ(١) .

وأوضحه بعض الاختصاصيّين بقوله: إنّ جذع المخّ نسمّيه المراحل الدنيا أو الأقل، وأمّا المراحل العليا أو المراكز العليا فهي مرحلة القشرة.

المراحل الدنيا لا تعني أهمّيّتها بالنسبة للحياة بالعكس من المراحل العليا - المنطقة العليا هي التي تميّز الإنسان عن الحيوان، بما رزقه الله تعالى من ملكات إنسانيّة - ولكنّ المراحل ( أو المنطقة) الدنيا هي الحدّ الأدنى اللاّزم للحياة هو جذع المخّ ؛ لذلك قيل المعتوه ليس ميّتاً ؛ لأنّه فقد الخاصّة العليا وهي قشرة المخّ، ولكنّه مازال يحتفظ بالحد الأدنى وهو جذع المخّ، هو فيصل التعريف بين الحياة والموت(٢) .

٨ - يقول طبيبٌ: كانت عندنا مريضة كان فيها كسر، عملنا لها عمليّة قلب مفتوح وعلى طول العمليّات توفّيت، عملنا لها عمليّة إنعاش، عملنا لها مرّتين، وبعدها صحت واستمرّت، وبعد العمليّة ما صحت وظلت فاقدةً الوعي لمدّة ثلاثة أشهر، وبعد ثلاثة أشهر والرئيس أقنعني بأنّ توقف كلّ حاجةٍ وتتركها تموت ؛ لأنّها انتهت، فأنا طرحت عليه وقلت له: إنّني سمعت أشياء تجريبيّة على الحيوانات أنّ بعضهم يعطيها جرعةً كبيرة من الكورتيزون وهي متوفّرة أصلاً، وما في ضررٍ نجرّب عليها، وفعلاً أُعطيت الجرعة العاديّة ثلاثين مرّة، وبعد ثلاث ساعات صحت، خرجت من المستشفى وذهبت إلى بيتها(٣) .

وأُجيب عنه: أنّه بطبيعة الحال لم يكن جذع المخّ قد مات.

___________________

(١) ص٥١٨ الحياة الإنسانيّة.

(٢) ص٥٤١ نفس المصدر.

(٣) ص٥١٨ نفس المصدر.

١٥٧

( ٥ )

شواهد على صحّة قول الأطبّاء الجدد

١ - حركة القلب توجد في الجنين قبل تعلّق الروح الإنسانيّة، فلا تتعلّق بالحياة الإنسانيّة في الابتداء والانتهاء، كما ذكرناه سابقاً أيضاً.

لا يُقال: المخّ أيضاً يتكامل في الأُسبوع الثاني عشر - كما سبق أيضاً - فقياساً على قولك، يُقال: إنّ عمل المخّ لا يدلّ على الحياة.

فإنّا نقول: مطلق العمل لا يدلّ على تحقّق الحياة الإنسانيّة، بل العمل الخاصّ وهو العمل الإرادي، وإدراك الكلّيّات والعواطف وسائر الملكات، ولو في الجملة وأنّى لك بإثباتها، فلاحظ.

٢ - من صفات الروح أو آثارها العواطف الإنسانيّة والإدراك، وحيث إنّهما تذهبان بذهاب المخّ فلم تبق الحياة الإنسانيّة فيكشف أنّ الروح تدور مدار المخّ، وإن احتمل ذهاب العواطف لفساد المحلّ، فلا يُحتمل ذلك في إدراك الكلّيّات التي يستقلّ به الروح.

٣ - الإدراكات الحسيّة من الحواس الخمس، كلّها تنشأ وترجع إلى المخّ دون القلب العضوي، بل نسبته إلى الإدراكات كنسبة اليد والرجل والأنف والبطن والعضد - مثلاً - إليها، كما هو واضح في مثل هذه الأعصار.

وربّما يمكن أنْ يتوهّم أحدٌ: بأنّ الإدراكات الحسيّة لمكان اتّصاف الحيوانات، أو معظمها بها أو بأكثرها لا تخصّ الروح الإنسانيّة، بل الروح الحيوانيّة.

وجوابه: أنّها في الإنسان ترجع إلى روحه الإنسانيّ، إذ لا تتعدّد أرواحه، وليس له روحان حيوانيّ وإنسانيّ.

١٥٨

٤ - لو كان الروح متعلِّقة بالقلب حدوثاً وبقاءً ؛ لذهبت بذهابه وتعويضه بقلب بلاستيكي، لكنّها باقيةٌ بتمام مشخّصاتها مع التعويض المذكور.

فهذه الأُمور إنْ لم تكن بتمامها دلائل على موت الفرد بموت مخّه، فلا أقل من كونها شواهد عليه.

( ٦ )

عجيبة

المخّ بما له من المكانة المعقّدة المهمّة التي تحيّر العقول، وهو جهازٌ لا نظير ولا مثيل له في الكون - ظاهراً - وقد قيل: لو أراد الإنسان أن يصنع مثله من الفِلزّ لما وسعته كرة الأرض !!! فسبحانَ من مبدعٍ وحكيمٍ وقديرٍ وعليمٍ وخالقٍ، وعنت الوجوه للحيّ القيّوم.

ولكن مع ذلك فقد أهمله القرآن المجيد، ولم يذكره مطلقاً - حسب فهمي القاصر - لا من حيث دلالته على صفات الله الكماليّة والجماليّة ( الثبوتيّة الذاتيّة والفعليّة ) ولا من حيث بيان أعظم سننه بعد الروح على الإنسان، ولا من حيث تعلّق الروح به. وهذا ممّا لا أفهم له وجهاً.

ما للتراب وللعلوم وإنّما

يسعى ليعلم أنّه لا يعلمُ

( ٧ )

علاقة الروح بالبدن

مقتضى الآيات القرآنيّة والأحاديث المعتبَرة والبراهين العقليّة - على

١٥٩

ما سبق بعضها في مسألة بداية الحياة الإنسانيّة - أنّ للإنسان روحاً ونفساً وبدناً، وهذا أمرٌ مقطوعٌ لا ريب فيه.

وتقدّم أنْ قلنا: إنّ الروح والنفس مفهومان منطبقان على مصداقٍ واحدٍ جزماً أو وجداناً.

والكلام هنا في بيان كيفيّة علاقة الروح بالبدن، وفيها احتمالات أو أقوال:

١ - علاقة الروح بالبدن علاقة الحال بالمحلّ، كما عن أهل السنّة ( الأشاعرة ) حيث قالوا: إنّ الإنسان مكوّن من جسد وروح تحلّ في هذا الجسد مادام صالحاً لاستقبال الروح(١) ، ونسمّيه بالعلاقة الحلوليّة كحلول الأمراض بالبدن، وكحلول جملة من الأعراض بالجسم.

٢ - علاقتها به كعلاقة العرض بموضوعه ( حسب المصطلح في الكلام والحكمة )، نسبه الرازي إلى المعتزلة ( الذين يتبعون العقل في المعارف بدل متابعة أبي الحسن الأشعري )، وأنهم قالوا: إنّ الحياة عرض قائم بالجسم، أي أنّ الروح عرض قائم بذلك الجسم، فجعلوا الروح غير منفصلة عن الجسم، كما هي منفصلة عنه على القول الأوّل(٢) .

لكن لا وثوق لنا بنقل الرازي، فلا يثبت هذا عن المعتزلة، ولم يمكنني - في هذا البلد البعيد عن العلم وأهله - الرجوع إلى كتبهم، والله العالم.

٣ - أو كعلاقة الراكب بالمركب ؟

٤ - أو كعلاقة المظروف بالظرف ؟

٥ - أو كعلاقة المَلِك بمملكته ورئيس الجمهوريّة ببلاده، فهي علاقة

___________________

(١ و ٢) ص٤٦٥ الحياة الإنسانيّة، نقلاً عن تفسير الرازي.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

وما ورد من الآيات الناهية عن الحكم بغير ما أنزل الله ووصف الحاكم بغير ما أنزل الله بالكفر والفسق والظلم(١) ومن المعلوم لزوم مكافحة الكفر والفسق والظلم وهو غير خفيّ على من له أدنى إلمام بالكتاب والسنّة.

كما أنّها مدفوعة بما صح عن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من الروايات الناهية عن التعاون مع الظالم وإعانته ومساعدته، منها ما ورد عن كعب بن عجرة عن النبيّ أنّه قال: « اسمعُوا سيكُونُ بعدي اُمراءُ فمن دخل عليهم فصدّقهُم بكذبهم وأعانهُم على ظُلمهم فليس منّي ولستُ منهُ وليس بوارد عليّ [ الحوض ] »(٢) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « ألا ومن علّق سوطاً بين يدي سُلطان جعل الله ذلك السّوط يوم القيامة ثُعباناً من النّار طولُهُ سبعون ذراعاً يُسلّطهُ الله عليه في نار جهنّم وبئس المصير »(٣) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال: « إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين أعوانُ الظلمة ومن لاق لهُم دواة، أو ربط لهُم كيساً، أو مدّ لهُم مدّة قلم، فاحشُرُوهُم معهُم »(٤) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « من خفّ لسُلطان جائر في حاجة كان قرينهُ في النّار »(٥) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما اقترب عبد من سُلطان جائر إلّا تباعد من الله »(٦) .

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « من أحبّ بقاء الظالمين فقد أحبّ أن يُعصي الله »(٧) .

__________________

(١) المائدة: ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

(٢) جامع الأصول ٤: ٧٥، نقلاً عن الترمذيّ والنسائيّ.

(٣) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به حديث ١٠.

(٤) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به، حديث ١١.

(٥) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به، حديث ١٤.

(٦) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠ حديث ١٢.

(٧) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٤، حديث ٥.

٣٢١

وعنهعليه‌السلام أنّه قال: « من سُوّد اسمهُ في ديوان الجبّارين حشرهُ الله يوم القيامة حيراناً »(١) .

وعنهعليه‌السلام أنّه قال: « من مشى إلى ظالم ليُعينهُ وهو يعلمُ أنّهُ ظالم فقد خرج عن الإسلام »(٢) .

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام أنّه قال: « ما أحبُّ أنّي عقدت لهم عقدةً أو وكيت لهم وكاء وأنّ لي ما بين لابتيها لا ولا مدّة بقلم، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يفرغ الله من الحساب »(٣) .

وغيرها من عشرات الأحاديث والروايات الواردة من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته المعصومين ممّا وردت في كتب الحديث، الناهية عن السكوت على الحاكم الجائر، والحاثّة على زجره ودفعه، والإنكار عليه بكل الوسائل الممكنة المتاحة ممّا يدلّ على أنّ الأحاديث التي تحثّ على السكوت عن الحاكم الظالم، والانصياع لحكمه والتسليم لظلمه والرضا بجوره ممّا أوعزت السلطات الحاكمة به في تلك العصور المظلمة، فلفّق البعض هذه الروايات والأحاديث ونسبوها إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو منها براء لمعارضتها الصريحة لمبادئ الكتاب والسّنة.

ولو لم يكن في المقام إلّا قول الإمام عليّعليه‌السلام في خطبته: « وما أخذ الله على العُلماء أن لا يُقارُّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم الخ »(٤) .

لكفى في وهن تلك الروايات المفتعلة على لسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وبما أنّ هذا البحث واضح لكلّ مسلم يحمل بين جنبيه الحريّة ويفكّر في العدل الإسلاميّ طوينا البحث عن بعض ما ورد في هذا المجال.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٤ حديث ٦.

(٢) وسائل الشيعة ١٢: ١٣١ حديث ١٥.

(٣) وسائل الشيعة ١٢: ١٢٩ حديث ٦.

(٤) نهج البلاغة: الخطبة ٣.

٣٢٢

٣

السلطة القضائيّة

دور القضاء والسلطة القضائيّة :

يحتلّ القضاء، وفصل الخصومات بين الناس دوراً عظيماً، ومكانة حسّاسة في أي مجتمع بشريّ، لأنّ عليه وعلى كيفيّته تتوقّف سلامة المجتمع، واستتباب الأمن، واستقرار العدل، وصيانة الحقوق والحريّات، والحرمات وبالتالي يقوم التوازن الاجتماعيّ.

إنّ القضاء مرتبط بالعدالة، فإن صلح شاعت العدالة وانتعشت، وأمن الناس على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، وصلح أمر الدولة، والناس جميعاً. وإن فسد القضاء اختفت العدالة وباختفائها تعم الفوضى وينتشر الفساد، ولا يأمن الناس على أنفسهم، فتضيع هيبة الدولة، ويتقلّص سلطانها، إنذاراً لها بالنزوال والاندحار.

إنّ القضاء يلعب دوراً كبيراً في تبديل الاختلاف إلى الوئام، وفي تحويل التنازع والتصارع إلى التوافق والتقارب الذي يحتاج إليه كلّ مجتمع إنسانيّ ينشد السعادة والطمأنينة والأمن.

٣٢٣

عوامل التنازع وأسبابه :

لم يزل المجتمع البشريّ ـ منذ تكوّنه وانضمام فرد إلى فرد آخر ـ تلازم حياته التشاجر والاختلاف والتنازع بين أفراده، وقد شهد بذلك التاريخ، وبرهنت عليه الوقائع المحسوسة، ثمّ إنّ هذا الاختلاف لا ينشأ ـ غالباً ـ إلّا من أمرين :

١. الحرص الشديد على جلب الأموال والمنافع والحقوق، الذي يلازم البعد عن المعنويّات والمثل الإنسانيّة، فإنّ حرص كلّ واحد من أفراد النوع الإنسانيّ على أن يجلب المنافع العاجلة العابرة لنفسه ينسيه الجوانب المعنويّة والمثل النبيلة وذلك بدوره يجرّ إلى التعدّي على مصالح الآخرين وحقوقهم ومنافعهم حيث لا إيمان يردع عن ذلك، ولا مكارم أخلاق تحدّ من تلك النزعة الجامحة.

٢. الاختلاف في تشخيص الحقّ، فربّما يتنازع فردان لا للحرص الشديد بل للاختلاف في تشخيص ( الحقّ ) فكلّ واحد منهما يعتقد ـ اعتقاداً جازماً ـ بأنّ الحقّ هو ما يراه دون غيره.

وربّما يبلغ الطرفان المختلفان المتنازعان ـ مع ذلك ـ أقصى درجات التقوى وحسن النية والفضيلة، ولكن جهلهما بالحقّ دفعهما إلى ذلك الاختلاف والتنازع، ولا ريب أنّ بقاء الاختلاف في المجتمع يشكّل خطراً كبيراً على أمنه واستقراره وسلامته ؛ إذ قد يؤدي إلى العدوان، وتأجّج نيران البغضاء والضغينة بين المتخاصمين المختلفين، وربما اُريقت ـ في هذا السبيل ـ دماء كثيرة. واُهدرت أموال طائلة، وضاعت أغراض شريفة ليس إلّا لاُمور حقيرة لا تستأهل كل تلك التبعات والعواقب. ومن أجل ذلك حثّ القرآن الكريم على سدّ باب الاختلاف وقطع دابره من الجذور وحثّ المسلمين على الإصلاح بين المتنازعين إذ قال:( وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ) ( الأنفال: ١ ).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام نقلاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يقول :

٣٢٤

« صلاحُ ذات البين أفضلُ من عامّة الصّلاة والصّيام »(١) .

بيد أنّ حلّ الاختلاف يتصوّر بوجوه هي :

إمّا بإخضاع القضيّة لسلاح القوّة، ومنطق الغلبة الذي عبّر عنه المثل السائر بقوله: ( الحقُ لمن غلب ) فيكون الغالب هو المحقّ ولكن هذا ممّا لا يقبله ذو وجدان سليم ولا يرضاه عقل ولا دين.

أو بإخضاع القضيّة لعامل الدعاية والتبليغ الكاذب، وإرغام الطرف الآخر على القبول بما يخالفه انخداعاً وتضليلاً، وهو كذلك أمر يرفضه الدين.

أو يترك الأمر لعامل الزمن ليتجلّى الحقّ بمرور الأيام وتوالي الشهور ومضي السنين والأعوام وهو أمر لا تحتمله الحياة الاجتماعيّة التي تتطلّب الحلول العاجلة لمشكلاتها والمعالجة السريعة لآلامها

أو يترك الأمر حتّى يتعب المتنازعان فيكفّا عن المطالبة، أو يخلّي أحدهما الآخر، ليبطل الحقّ، ويعود باطلاً، ويعود الباطل حقّاً. وهو أمر يرفضه الإسلام كذلك إذ يقول الإمام عليّعليه‌السلام : « الحقُّ القديم لا يبطله شيء ».

ولقد اتّخذ الإسلام طريقاً خامساً، وهو الذي ندبت إليه الشرائع السماويّة السابقة وتقتضيه سنّة الحياة وضرورات المجتمع ألا وهو حثّ المتنازعين على الرجوع إلى أهل الصلاح والتحاكم إليهم، والخضوع لقضائهم وحكمهم ليرتفع التنازع ويعود المتخاصمون اخوة متحابّين، ويتخلّص المجتمع من أخطار الاختلاف والتنازع. ولأجل مثل هذا الدور كانت السلطة القضائيّة الركن الثالث والأساسيّ من أركان الحكومات قديماً وحديثاً، وكان لها من الأهميّة والمكانة ما ليس لغيرها من أركان الحكومة.

ولأجل ذلك أيضاً كان للقضاء والسلطة القضائية مكانة مرموقة في النظام

__________________

(١) نهج البلاغة: ـ قسم الكتب ـ ٤٧.

٣٢٥

الإسلاميّ لم يسبق لها مثيل في العهود والأنظمة السابقة واللاحقة ؛ حيث سنّ له ولها اُصولاً وقواعد واُسساً وبرامج فريدة في نوعها، وعظيمة في محتوياتها.

فلقد وضع القرآن الكريما اُسس القضاء وشيّد الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إركانه وبنيانه وبين خلفاؤه المعصومون تفاصيله، وجزئياته، وحدوده وأحكامه.

القضاء والحكومة لله خاصّة

ولمّا كان القضاء ملازماً للتصرّف في أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم احتاج إلى ولاية حقيقيّة وحيث لم تكن الولاية الحقيقيّة إلّا لله تعالى خاصّة ؛ كان القضاء أحد الحقوق المختصة به سبحانه دون سواه، فلا ولاية لأحد على أحد في هذه الشؤون، ولهذا قال سبحانه:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) ( الأنعام: ٥٧ ).

وقال:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) ( يوسف: ٤٠ )(١) .

إلى غير ذلك من الآيات التي تحصر حقّ الحكومة ( الشاملة للقضاء وغيره ) بالله سبحانه وحده لانحصار الولاية الحقيقيّة فيه دون سواه.

وقد عهد الله سبحانه بممارسة هذا الحق إلى أنبيائه وأوصيائهم سواء أكانوا أوصياء بالاسم والشخص، أم بالرسم والوصف.

فالقضاة المنصوبون من ناحية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو أوصيائهم قضاة منصوبون بالاسم والشخص وأمّا الذين يتعاهدون القضاء ـ زمن عدم التمكّن من الأوصياء والأئمّة ـ قضاة منصوبون بالرسم والوصف. كما نرى ذلك من رواية مقبولة لعمر بن حنظلة حيث قال الصادق الإمام جعفر بن محمّدعليه‌السلام له: « من تحاكم إليهم(٢) في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطّاغُوت، وما يحكُمُ لهُ فإنّما يأخُذُ سُحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً لهُ ،

__________________

(١) ولم نذكر الآية المشابهة (٦٧) في تلك السورة لأنّها ناظرة إلى معنى تكوينيّ.

(٢) المراد قضاة الجور.

٣٢٦

لأنّهُ أخذهُ بحُكم الطّاغُوت وما أمر الله أن يُكفر به. قال الله تعالى:( يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ) ( النساء: ٦٠ ) ».

ولـمـّا قال: فكيف يصنعان ؟ قالعليه‌السلام : « ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثناً ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا كالرّادّ على الله وهو على حدّ الشّرك بالله الحديث »(١) .

وما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام نفسه برواية أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال أنّه قال: « إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه »(٢) .

هذا وقد كان طبيعياً أن يحكم هؤلاء القضاة العدول ويقضوا ويفصلوا في الخصومات وفق منهج الله تعالى وتعاليمه وأحكامه في مجال القضاء، لا بما تهواه أنفسهم أو ما يشاؤه المتخاصمون المتحاكمون.

ولذلك أنزل الله الشرائع والكتب والرسالات على الأنبياء وأمرهم أن يحكموا بين الناس بما فيها من الحقّ والقسط فقال تعالى:( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) ( الحديد: ٢٥ ).

وقال سبحانه:( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) ( المائدة: ٤٤ ).

وقال تعالى ـ وهو يوصي داود نبيّه ـ أن يحكم بالحق:( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ (٣) بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: باب ١١ من أبواب صفات القاضي / الحديث (١).

(٢) وسائل الشيعة ١٨: باب ١ من أبواب صفات القاضي / الحديث (٥) ويقرب منه ما نقل عنه في الباب ١١ / الحديث (٦).

(٣) المراد من الحكومة أعمّ من الولاية والقضاء.

٣٢٧

يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ ) ( ص: ٢٦ ).

كما أمر الله تعالى المقتفين أثر المسيح أن يحكموا بما في الانجيل إذ قال:( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ( المائدة: ٤٧ ).

وبيّن سبحانه أثر الحكم بما في التوراة والانجيل وثمرته بقوله:( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) ( المائدة: ٦٦ ).

وقد أمر الله سبحانه نبيّه الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بالقضاء بالقسط والعدل إذ قال:( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( المائدة: ٤٢ ).

وقال سبحانه:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) ( المائدة: ٤٨ ).

ولم يكتف سبحانه بذلك بل أمر الاُمّة الإسلاميّة ودعاها إلى أن تقضي بالحق والعدل والقسط إذ قال:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( النساء: ٥٨ ).

وأمرها بأن لا يحملها شنآن قوم على التخلّي عن العدل، والتقاعس عن إجرائه إذ قال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ إلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المائدة: ٨ ).

بل وأمر المسلمين باتّخاذ جانب العدل ليس في مجالات القضاء وحدها بل في كلّ مجالات الحياة، حتّى في النطق والكلام إذ قال:( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ) ( الانعام: ١٥٢ ).

وصفوة الكلام أنّ الآيات التي مرّت عليك تثبت ـ بجلاء ودون إبهام ـ أنّ

٣٢٨

القضاء حقّ خاصّ بالله سبحانه، وقد عهد به إلى الأنبياء، وأوصيائهم، ومن أقاموه لذلك المنصب، وجعل كتبه ورسالاته مناهج لهم، ليحكموا بما فيها، ويقضوا بين المتنازعين والمتخاصمين على ضوء تعاليمها وأحكامها.

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يمارس القضاء

ولقد عهد الله بالقضاء إلى النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما عهد إليه، كما عرفت ذلك من خلال الآيات التي مرّت عليك آنفاً، وقد تولّىصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه حلّ الخصومات والحكم بين الناس على ضوء ما أُنزل إليه من القرآن وأحكامه، بل وعيّن ـ في زمنه ـ رجالاً صالحين للقضاء وفصل الخصومات، قال الإمام عليّعليه‌السلام : « بعثني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اليمن قاضياً، فقُلتُ يا رسول الله: تُرسلُني وأنا حديثُ السّنّ ولا علم لي بالقضاء ؟

فقال: إنّ الله سيهدي قلبك ويُثبتُ لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلاتقضي حتّى تسمع من الآخر كما سمعت من الأوّل فإنّه أحرى أن يتبيّن لك القضاء.

قال: فما زلت قاضياً. ( أو ) ما شككت في قضاء بعد »(١) .

كما قد بعثصلى‌الله‌عليه‌وآله معاذاً إلى اليمن وقال له: « كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ »، قال: أقضي بكتاب الله الى آخر الحديث(٢) .

وبذلك نعلم أنّ ما كتبه بعض المتأخّرين من أنّه لم يعرف القضاء في العهد النبويّ ولا في عهد الخلفاء، بل هو شيء جديد أسّسه الأمويون في الشام، أمّا قبل ذلك فإنّ العرب كانت في خلافاتها ترجع إلى طريقة التحكيم(٣) ، فهو إمّا جهل بتاريخ الإسلام، أو افتراء واضح البطلان يقف عليه كلّ من له أقلّ إلمام بالكتاب والسنّة، وما

__________________

(١) جامع الاُصول ١: ٥٤٩، أخرجه أبو داود والترمذيّ.

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٥٥١

(٣) النظام السياسيّ: ١٢٩، نقلاً عن كتاب عبقريّة الإسلام في اُصول الحكم.

٣٢٩

ورد فيهما من الآيات والأحاديث في مختلف أبواب القضاء بحيث يصعب لنا نقل فهرستها، فضلاً عن ذكر نصوصها(١) .

ثمّ إنّ نظرة واحدة إلى القرآن الكريم تفنّد هذا الزعم الباطل فلاحظ الآيات ٤٠ إلى ٦٠ من سورة المائدة فهي في معرض ذكر الأحكام المتعلّقة بالقضاء والفصل في الخصومات وأحكام القصص والحدود.

كيف يحقّق القضاء أهدافه ؟

إنّ أهمّ أمر في القضاء والسلطة القضائيّة هو أن تحقّق هذه السلطة غرضها وهدفها الأساسيّ في إشاعة العدل وإقامة القسط في المجتمع، بحيث يحسّ كلّ فرد من أفراد المجتمع بالأمن على نفسه وماله وعرضه في ظلّ ما توفّره السلطة القضائيّة له من عدالة شاملة لا يشوبها ظلم ولا عدوان ولا يتخلّلها حيف ولا تجاوز.

إنّ وصول السلطة القضائيّة إلى هذا الهدف الأساسيّ يتحقّق بأربعة اُمور :

١. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء.

٢. استقلاله الماليّ والسياسيّ.

٣. رعايته لآداب القضاء.

٤. أن تكون لديه برامج حقوقيّة وجزائيّة عادلة للقضاء وفقها، وهي بأجمعها متوفّرة في النظام الإسلاميّ وإليك تفصيل ذلك :

١. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء

إنّ أهمّ عامل يمكّن السلطة القضائيّة من أداء دورها الخطير في المجتمع هو

__________________

(١) وقد جمع أحمد بن حنبل في مسنده قضايا النبيّ ٥: ٣٢٦، ونقل جملة منها الجزريّ في كتابه جامع الاُصول ١٠: ٥٦٥.

٣٣٠

صلاحيّة القاضي، وتوفّر الشروط المؤهّلة للقضاء فيه.

ولقد اشترط الإسلام في القاضي شروطاً وأوصافاً لم يسبق لها مثيل في تاريخ القضاء وهذه الصفات هي :

١. البلوغ.

٢. العقل.

٣. الإيمان.

٤. العدالة.

٥. طهارة المولد.

٦. العلم بالقانون.

٧. الذكورة.

٨. أن يكون ظابطاً سليم الذاكرة فلو غلب عليه النسيان لم يجز نصبه للقضاء(١) .

ولقد شدّد الإسلام على خطورة منصب القضاء، وجسامة مسؤوليّة القاضي ومقامه فقد ورد عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « القضاة ثلاثة: واحد في الجنّة واثنان في النّار

فأمّا الذّي في الجنّة فرجل عرف الحقّ وقضى به.

ورجل عرف الحقّ فجار في الحكم فهو في النّار.

ورجل قضى للنّاس على جهله فهو في النّار »(٢) .

ورفع إلى أبي عبد الله الإمام الصادقعليه‌السلام قوله: « القضاة أربعة، ثلاثة في النّار وواحد في الجنّة :

رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النّار.

__________________

(١) راجع شرائع الإسلام للمحقّق الحليّ كتاب القضاء في الصفات.

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٥٤٥ نقلاً عن أبي داود.

٣٣١

ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة »(١) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام عن من يتصدّى لمقام القضاء وليس له أهل: « ورجل قمش جهلاً، موضع في جهال الاُمّة، غار في أغباش الفتنة، عمّ بما في عقد الهدنة، قد سمّاه أشباه النّاس عالماً وليس به، بكر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر جلس بين النّاس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشواً رثّاً من رأيه ثمّ قطع به فهو من لبس الشُّبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ »(٢) .

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام مشيراً إلى حراجة موقف القاضي، وصعوبة إجراء الحق والعدل الذي هو هدف القضاء الإساسيّ: « الحقُّ أوسع الأشياء في التّواصف وأضيقها في التناصف »(٣) .

إنّ القضاء ليس شيئاً بسيطاً عادياً بل هو أمر مهمّ حتّى في أبسط الأشياء فقد روي أنّ صبيّين تحاكما إلى الإمام الحسن بن عليّعليه‌السلام في خطّ كتباه وحكّماه في ذلك ليحكم أي الخطّين أجود فبصر به عليّعليه‌السلام فقال: « يا بنيّ انظر كيف تحكم فإنّ هذا حكم، والله سائلك عنه يوم القيامة »(٤) .

وقد وقع نظير هذه القضية للإمام عليّعليه‌السلام نفسه فقد روى الإمام أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ألقى صبيان الكتاب ألواحهم بين يديه ليخيّر بينهم فقال: « أما إنّها حكومة والجور فيها كالجور في الحكم، أبلغوا معلّمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتصّ منه »(٥) .

__________________

(١ و ٥) وسائل الشيعة ١٨: ١١ و ٥٨٢.

(٢ و ٣) نهج البلاغة: الخطبة ١٧، ٢١٦.

(٤) مجمع البيان٣: ٦٤ في تفسير قوله:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ ) .

٣٣٢

ولذلك قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لسانُ القاضي بين جمرتين من نار حتّى يقضي بين الناس فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار »(١) .

كما لذلك أيضاً اشترط الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام على القاضي شُريح أن لا ينفذ قضاء حتّى يعرضه عليه قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « لـمّا ولّى أمير المؤمنينعليه‌السلام شريحاً القضاء اشترط عليه أن لا يُنفذ القضاء حتّى يعرضهُ عليه »(٢) .

ومن هنا أكد الإمام عليّعليه‌السلام على الأشتر واليه على مصر، في عهده المعروف، أن يختار من يريدهم لمنصب القضاء، اختياراً دقيقاً بقوله: « ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الاُمور، ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزّلّة ولا يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشّبهات، وآخذهم بالحجج وأقلّهم تبرُّماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشّف الاُمور، وأصرمهم عند اتّضاح الحكم، ممّن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، واُولئك قليل، ثمّ أكثر تعاهد قضائه »(٣) .

ولخطورة مقام القضاء لا يجوز إلّا للنبيّ أو وصيّه، كما قال الإمام عليّعليه‌السلام لشريح: « يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه ( ما جلسه ) إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ، أو شقيّ »(٤) .

وورد عن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام قوله: « اتّقوا الحُكومة ( أي القضاء ) إنّما هي للإمام العادل العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيٍّ ( كنبيّ ) أو وصيّ(٥) نبيّ »(٦) .

* * *

٢. إستقلال القاضي الماليّ والسياسيّ

إنّ القاضي بما أنّه يتحمّل مسؤوليّة كبيرة وخطيرة لا مشابه لها بين أقرانها من

__________________

(١ و ٢ و ٤) وسائل الشيعة ١٨: ١١، ٦، ٧.

(٣) نهج البلاغة: قسم الكتب ٥٣.

(٥) المراد بالوصيّ هو الأعم من الوصيّ المنصوص عليه بالاسم فيشمل المنصوص عليه بالوصف، أي الذي جمع صفات القاضي المعتبرة في الإسلام.

(٦) وسائل الشيعة ١٨: ٧.

٣٣٣

المسؤوليّات والمناصب الاُخرى، يجب أن يكون مستقلاًّ في عمله غاية الاستقلال، لكي لا يخضع لما يميل به عن العمل بمسؤوليّته ويقتضي ذلك أن يكون مستقلاًّ في اقتصاده عن الآخرين كيلا يقع فريسة الأطماع، ولقد أدرك الإسلام هذه الناحية الحسّاسة فأمر الحكومة الإسلاميّة بالإغداق على القاضي إغداقاً يقطع طمعه عمّا في أيدي الآخرين، يقول الإمام عليّعليه‌السلام في عهده للأشتر النخعيّ في هذا الصدد: « وافسح لهُ ( أي للقاضي ) في البذل ما يزيل علّته، وتقلُّ معه حاجته إلى الناس »(١) .

ولكنّ هذا الاستقلال لا يكفي إذا لم ينضمّ إليه استقلال القاضي من أي تأثير خارجيّ سياسيّ عليه، ومن أيّة تدخّلات صادرة عن السلطات الاُخرى في عمله القضائي فإنّ القاضي يجب أن يُترك وشأنه حتّى يستجلّي الحقّ بنفسه دون مؤثرات خارجيّة ولا تدخلات في عمله ولذلك قال الإمام عليّعليه‌السلام في عهده للأشتر النخعيّ، في هذا الصدد: « واعطه من المنزلة لديك ملا يطمعُ فيه غيرهُ من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال لهُ عندك فانظر في ذلك نظراً بليغاً »(٢) .

والمقصود هو أن يكون للقاضي موضعاً غير متأثّر بأحد ليقضي بالحقّ، ويفصل في الخصومات، ويصدر الأحكام غير متهيّب ولا متأثّر وهذا هو ما يصطلح عليه السياسيّون اليوم باستقلال السلطة القضائيّة، وتفكيكها عن بقية السلطات.

ولقد نبّه إلى هذا فقهاؤنا العظام استلهاماً ممّا لديهم من تعاليم الشريعة المقدّسة في هذا المجال، قال المحقّق النائينيّ ( المتوفّى عام ١٣٥٥ ه‍ ) :

( إنّ ولاية الحاكم ترجع إلى قسمين: الأوّل الاُمور السياسيّة، التي ترجع إلى نظم البلاد وانتظام اُمور العباد، والثاني الإفتاء والقضاء، وكان هذان المنصبان في عصر النبيّ والأميرعليه‌السلام بل في عصر الخلفاء الثلاثة لطائفتين وفي كل بلد أو صقع كان الوالي غير القاضي فصنف كان منصوباً لخصوص القضاء والإفتاء وصنف كان منصوباً لإجراء الحدود ونظم البلاد والنظر في مصالح المسلمين، نعم اتّفق إعطاء كلتا الوظيفتين

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم ٥٣.

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم ٥٣.

٣٣٤

لشخص واحد لأهليّته لهما إلّا أنّ الغالب اختلاف الوالي والقاضي )(١) .

ولقد أعطى الإمام عليّعليه‌السلام وهو إمام المسلمين على الإطلاق، والحاكم الأعلى للاُمّة الإسلاميّة مثلاً عمليّاً على هذا الاستقلال القضائيّ السياسيّ حيث مكّن القاضيّ ـ بفضل هذا السلوك الإسلاميّ ـ من محاكمة حاكم المسلمين وأحد رعاياه في محكمة واحدة وذلك في قضيّة اليهودي مع الإمام عليّعليه‌السلام :

فقد نقل المؤرّخون أنّهعليه‌السلام لـمّا وجد درعه عند يهودي من عامّة الناس فأقبل به إلى أحد القضاة وهو شريح ليخاصمه ويقاضيه، ولـمّا كان الرجلان أمام القاضي قال عليّ: « إنّها درعي ولم أبع ولم أهب ». فسأل القاضي الرجل اليهوديّ ما تقول ؟ فقال اليهوديّ: ما الدرع إلّا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب وهنا التفت القاضي شريح إلى عليّ يسأله: هل من بيّنة تشهد أنّ هذه الدرع لك ؟ فضحك عليّ وقال « مالي بيّنة » فقضى شريح بالدرع لليهوديّ، فأخذها ومشى وأمير المؤمنين ينظر إليه ! إلّا أنّ الرجل لم يخط خطوات قلائل حتّى عاد يقول :

إمّا أنا فأشهد أنّ هذا أحكام أنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلى قاض يقضي عليه ثمّ قال: الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين وقد كنت كاذباً فيما ادّعيت(٢) .

* * *

٣. رعاية آداب القضاء وكيفيّته

إنّ الإسلام لم يكتف بالتشديد على أهميّة القضاء، واعتبار صفات معيّنة في القاضي، بل سنّ للعمل القضائيّ آداباً وسنناً أكّد على القاضي الأخذ بها في قضائه ليسلم من شوائب الظلم والحيف، ويكون أقرب إلى الإنصاف والحقّ والعدل، وقد لخّص فقهاؤنا هذه الآداب التي ذكرتها الأحاديث المتواترة، في كتبهم الفقهيّة نشير إليها.

__________________

(١) راجع منية الطالب ١: ٣٢٥.

(٢) بحار الأنوار ٤١: ٥٦، عليّ وحقوق الإنسان: ٨٧، ٨٨ لجورج جرداق مع اختلاف يسير.

٣٣٥

قال المحقّق في شرائع الإسلام كتاب القضاء :

في الآداب [ أي آداب القضاء ] وهي قسمان مستحبّة ومكروهة، فالمستحبّة :

١. أن يطلب من أهل ولايته من يسأله عمّا يحتاج إليه في اُمور بلده.

٢. أن يسكن عند وصوله في وسط البلد لترد الخصوم عليّه وروداً متساوياً.

٣. أن يجلس للقضاء في موضع بارز مثل رحبة أو فضاء ليسهل الوصول إليه.

٤. أن يحضر من أهل العلم من يشهد حكمه فإن أخطأ نهوه لأنّ المصيب عندنا واحد ويخاوضهم [ أي يطرح عليهم القضايا ويتبادل معهم الرأي ] فيما يستبهم من المسائل النظريّة لتقع الفتوى مقرّرة، ولو أخطأ فأتلف لم يضمن وكان على بيت المال.

٥. وإذا تعدّى أحد الغريمين سنن الشرع عرّفه خطأه بالرفق.

والآداب المكروهة :

١. أن يتخذ حاجباً وقت القضاء.

٢. أن يقضي وهو غضبان.

٣. وكذا يكره مع كلّ وصف يساوي الغضب في شغل النفس كالجوع والعطش والغمّ والفرح والوجع، ومدافعة الأخبثين، وغلبة النعاس

٤. أن يستعمل الانقباض [ والتقطيب في الوجه ] المانع من الإعلان عن الحجّة، وكذا يكره إظهار اللين الذي لا يؤمن معه من جرأة الخصوم.

ثمّ ذكر مسائل من شأنها حصول الدقة في العمل القضائيّ كقوله :

إذا أفتقر الحاكم إلى مترجم لم يقبل إلّا شاهدان عدلان ولا يقتنع بالواحد عملاً بالمتّفق عليه.

وإذا اتخذ القاضي كاتباً وجب أن يكون بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً بصيراً ليؤمن انخداعه، وإن كان فقيهاً كان حسناً.

٣٣٦

ويكره للحاكم أن يعنّت الشهود إذا كانوا من ذوي البصائر والأديان القويمة ؛ مثل أن يفرق بينهم لأنّ في ذلك غضّاً منهم، ويستحب ذلك في وضع الريبة.

ولا يجوز للحاكم أن يتعتع الشاهد وهو أن يداخله في التلفّظ بالشهادة أو يتعقّبه بل يكفّ عنه حتّى ينهي ما عنده.

ويكره أن يضيف القاضي أحد الخصمين دون صاحبه، لأنّ ذلك يكسب الخصم الضيف شيئاً من القوة.

ثمّ قال عن الرشوة: الرشوة حرام على آخذها، ويأثم الدافع إن توصّل بها إلى الحكم له بالباطل، ولو كان إلى حقّ لم يأثم ويجب على المرتشي إعادة الرشوة إلى صاحبها ولو تلفت قبل وصولها إليه ضمنها له.

ثمّ ذكر المحقّق الحليّ اُموراً في وظائف القاضي فقال: في وظائف القاضي وهي سبع :

الاُولى: التسوية بين الخصمين في السلام والجلوس والنظر والكلام والإنصات والعدل في الحكم.

الثانية: لا يجوز أن يلقّن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه.

الثالثة: يكره أن يواجه بالخطاب أحدهما لما يتضمّن من إيحاش الآخر.

الرابعة: إذا ترافع الخصمان وكان الحكم واضحاً لزمه القضاء، ويستحبّ ترغيبهما في الصلح، فإن أبيا حكم بينهما وإن أشكل أخّر الحكم حتّى يتّضح ولا حدّ للتأخير إلّا الوضوح.

الخامسة: إذا ورد الخصوم [ في المحكمة ] مترتّبين بدأ بالأوّل فالأوّل فإن وردوا جميعاً قيل يقرع بينهم.

السادسة: إذا قطع المدّعى عليه دعوى المدّعي بدعوى، لم تسمع حتّى يجيب عن الدعوى وينهي الحكومة ثمّ يستأنف هو.

٣٣٧

السابعة: إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولى.

وهناك اُمور ذكرها على صعيد عمل القاضي جديرة بالمطالعة نترك ذكرها رعاية للإختصار.

وما ذكره هذا المحقّق وغيره من الفقهاء في آداب القضاء ووظائف القاضي ؛ خلاصة نصوص صريحة وردت في هذه المجالات عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وقد اكتفينا بنقل ما ذكره الفقهاء في كتبهم تاركين نقل النصوص رعاية للإيجاز لكنّنا تيمّناً نذكر بعض هذه الأحاديث :

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من ابتُلي بالقضاء فلا يقضي وهو غضبان »(١) .

وقال أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام لشريح: « لا تُشاور [ أو لا تسار ] أحداً في مجلسك، وإن غضبت فقم ولا تقضينّ وأنت غضبان »(٢) .

وقالعليه‌السلام : « من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة وفي النّظر وفي المجلس »(٣) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأوّل حتّى تسمع من الآخر فإنّك إذا فعلت ذلك تبيّن لك القضاء »(٤) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « الرشا في الحكم هو الكفر بالله »(٥) .

إلى غير ذلك من الأحاديث المتواترة على هذا الصعيد.

* * *

٤. وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة

إنّ الأمر الرابع الذي يمكّن السلطة القضائيّة من أداء دورها الحسّاس والخطير في المجتمع هو وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة للقضاء لكي يقضي القاضي

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: ١٥٦ ومثله في جامع الاُصول ١٠: ٥٤٩.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل ١٨: أبواب آداب القضاء.

٣٣٨

وفقها.

وقد وفّر الإسلام هذه البرامج والقوانين العادلة الصالحة للقاضي وذلك بالتعاليم التي زخر بها الكتاب والسنّة وسيرة الأئمّة الطاهرين، ودوّنها الفقهاء في كتبهم الفقهيّة المفصّلة بدقّة وعناية وتفصيل. فإنّ القاضي يجد في هذه المصادر والبرامج أدقّ الحقوق والحدود وأعدلها، ولو أخذ العالم في مجال القضاء بهذه البرامج والحقوق والحدود لعمّت العدالة كلّ أرجاء الأرض، ولساد السلام والأمن ولاختفى الظلم والجور والشر.

ولقد أكّد الإسلام على القضاة أن يقضوا على ضوء الكتاب والسنّة، وحرّم عليهم القضاء وفق أهوائهم وآرائهم الخاصّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى البرامج الكليّة في صعيد العمل القضائيّ.

وأمّا تمييز الحق عن الباطل والمحق عن المبطل والمظلوم عن الظالم ومن له الحقّ ومن عليه، فقد اعتمد الإسلام في تشخيصه وتمييزه على أوثق السبل وأكثر الوسائل اطمئناناً، وهو الاستشهاد بالبيّنات والأيمان فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما أقضي بينكُم بالبّينات والأيمان »(١) .

نعم إنّ الاعتماد على هذا الأصل في إثبات الحقّ لا يمنع عن الاعتماد على غيرهما ممّا يفيد للقاضي علماً عاديّاً، ولأجل ذلمك قال الفقهاء: ويجوز للقاضي العمل بعلمه.

قال صاحب شرائع الإسلام: « الإمامعليه‌السلام يقضي بعلمه مطلقاً، وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس وفي حقوق الله سبحانه على قولين أصحّهما القضاء »(٢) .

الشهادة والشهود

ولقد اشترط الإسلام في الشهود شروطاً من شأنها أن تمنعهم من شهادة الزور

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: أبواب كيفيّة الحكم، الإيمان جمع اليمين أي الحلف والقسم.

(٢) شرائع الإسلام في آداب القضاء.

٣٣٩

والإدلاء بما هو باطل وهذه هي الشروط :

١. البلوغ.

٢. كمال العقل.

٣. الإيمان.

٤. العدالة.

٥. إرتفاع التهمة فلا تقبل شهادة من يجرّ بشهادته نفعاً لنفسه.

وإليك نبذة عن الأحاديث في أهميّة وخطورة الشهادة وشروط الشاهد، فقد روي حول أهميّة الشهادة وخطورتها وعظيم مسؤوليّتها أحاديث تفوق الحصر وكلّها تشدّد على أمر الشهادة بالإجماع، ومن ذلك ما عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال :

« من كتم شهادةً، أو شهد بها ليهدر بها دم امرئ مسلم أو ليزوي بها مال امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مدّ البصر، وفي وجهه كدوح تعرفه الخلائق باسمه ونسبه.

ومن شهد شهادةً حقّ ليحيي بها حقّ امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نور مدّ البصر تعرفه الخلائق باسمه ونسبه »(١) .

ثمّ قال أبو جعفر الباقرعليه‌السلام : « ألا ترى أنّ الله عزّ وجلّ يقولُ:( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ) »(٢) .

وما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : « شاهد الزور لا تزولُ قدماهُ حتّى تجبُ لهُ النّارُ »(٣) .

وما روي عن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من شهد شهادة زُور على أحد من النّاس عُلّق بلسانه مع المنافقين في الدّرك الأسفل من النّار، ومن حبس عن أخيه المسلم شيئاً من

__________________

(١ و ٢ و ٣) وسائل الشيعة ١٨: أبواب الشهادات.

٣٤٠

341