الفقه والمسائل الطبية

الفقه والمسائل الطبية0%

الفقه والمسائل الطبية مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 341

الفقه والمسائل الطبية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد آصف المحسني
تصنيف: الصفحات: 341
المشاهدات: 89460
تحميل: 7098

توضيحات:

الفقه والمسائل الطبية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 341 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89460 / تحميل: 7098
الحجم الحجم الحجم
الفقه والمسائل الطبية

الفقه والمسائل الطبية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والدماغ.

وبتعبيرٍ دقيقٍ: عندنا أنّها من آثار الروح بتوسّط المخّ.

وثبت علميّاً - أيضاً - أنّ للقلب حركة قبل تمام أربعة أشهر بكثير، وتُسمع دقات قلب الجنين بالآلات الحديثة الطبّيّة، فليس الحياة الإنسانيّة تدور مدار حركة القلب حدوثاً، ولا بعد في أن لا تدور مدارها في البقاء والاستدامة، فكما تبدأ حركة القلب قبل الحياة الإنسانيّة، يمكن بقاءها بعد نهايتها، خلافاً للأطبّاء المتقدِّمين.

وحينئذٍ هل يصح أنْ نذهب إلى قول الأطبّاء الجدد بأنّ موت جذع المخِّ هو علامة انقطاع الروح عن البدن ؟

وهذا يتوقّف على أمرين:

١ - إثبات انقطاع الروح عند موته نهائيّاً وكليّاً عن البدن، ولا يكفي ذهاب الوعي والحسّ وغيرهما، إذ لعلّه لفساد الآلة - وهو المخّ - دون انقطاع الروح، كذهاب البصر بفساد العين، فلا تبصر الروح لكن عدم إبصارها لا يكشف عن انقطاع علاقتها عن البدن، فاحتمال بقاء الروح واتّصاله ببعض البدن - ولو ضعيفاً وفي الجملة ولدقائق قصيرة - لا نافي له، والعلوم التجربية - ولو في المرحلة الراهنة - قاصرة عن نفي الاحتمال المذكور، كما أنّ العقل عاجز عنه - أيضاً - والدين ساكت عنه.

٢ - إثبات أنّ المخّ غير قابل للتعويض، ولا للإصلاح عند خرابه، بخلاف القلب، فإنّه قابلٌ للتعويض حتّى بقلبٍ بلاستيكي.

لكنّ عدم تيسّر تعويضه وإصلاحه، لعلّه لقصور الطبّ في دوره الحاضر، لا لعدم إمكان التعويض أو الإصلاح في نفسه، وما أدراك ما هو تطوّر الطبّ في مستقبلٍ بعيدٍ أو قريب(١) ؟

فحصول الموت وحدوثه

___________________

(١) ويمكن أن يُدفع هذا الإيراد بما سيجيء في الفصل الرابع، في جواب الاعتراض الرابع، فتأمّل.

١٤١

بسكون القلب وإن لم يدلّ عليه دليل، بل هو مرجوح لكنّه بموت جذع المخّ - أيضاً - لم يصل إلى حدّ اليقين، وإنْ كان راجحاً.

ولو سألتني عن الحقّ، ف أقول لك: إنّ لحظة بدء الحياة الإنسانيّة(١) ، ولحظة نهايتها لم تثبتا بدليلٍ قاطعٍ، فإنّ تعلّق الروح وانقطاعها غير محسوسَين، ولا مُدرَكين للعقل، ولا منصوصَين بنصٍّ قاطعٍ دينيّ.

ثمرة القولين:

ربّما يموت المخّ - ونعني به جذعه لا قشره - والقلب ينبض، وهذا على قسمين:

الأوّل: ينبض القلب تلقائيّاً.

الثاني: ينبض بآلةٍ صناعيّةٍ بحيث لولاها لسكن القلب بالمرّة.

لا يبعد الحكم على صاحب المخّ المذكور بالموت على الفرض الثاني، فإنّ قلبه كمخّه مات هو ميّت، وتحريك قلبه بآلة خارجيّة لا تؤثِّر في إعادة حياته أو إدامتها، وفي الفرض الأوّل، الحكم بموته مبنيٌّ على القولين المذكورين عند الأطبّاء قديماً وحديثاً.

وستعرف أنّ للميّت أحكاماً كثيرة يختلف ترتيبها في هذه الفاصلة(٢) ، فللبحث المذكور ثمرات كثيرة شرعيّة، أهمّها عند الأطبّاء: نزع

___________________

(١) تقدّم أنّ ما دلّ على تعلّق الروح بعد تمام أربعة أشهر بالجنين، غير خالٍ عن النقاش والخلل.

(٢) يقول طبيبٌ: عند توقّف الدورة الدمويّة، إذا كان ضغط الدم عند المريض طبيعيّاً، وهو في سكتةٍ قلبيّةٍ مفاجِئةٍ، فإمكانيّة أخذ عضوٍ لكي يُزرع لآخر لا تتجاوز وقتاً كبيراً من بين ١٥ إلى ٢٠ دقيقة. ( ص٥٧٢ الحياة الإنسانيّة بدايتها ونهايتها ).

ويقول طبيبٌ آخر:... ولكن الآن وبواسطة التطوّرات الطبّيّة والعلوم الحيويّة

=

١٤٢

القلب لزرعه في بدن غيره في هذه الفاصلة العابرة، إذ تأخيره ربّما يُفسد القلب فلا يصلح للزرع.

وإمّا الكِلية، فإن أوصى صاحبها بنزعها مطلقاً، ومن دون تحديدٍ بزمانٍ ما بعد الموت، أو صرّح به بالفعل، فيجوز نزعه في تلك الفاصلة، إذا لم يكن له خطر زائد على حياته القصيرة، وإمّا إن علّقه على موته، فحاله حال القلب في الجواز، وعدمه على القولين.

توضيح وتقييم:

أقول : لتوضيح محلّ البحث نذكر صوراً تخطر بالبال عاجلاً:

( الأُولى ): موت تمام المخّ، أي جذعه وقشرته وتوقّف القلب.

( الثانية ): موت تمام المخّ، وحركة القلب صناعيّةٌ بعد توقّفه.

( الثالثة ): موت تمام المخّ مع حركة القلب تلقائيّاً.

( الرابعة ): حركة القلب صناعيّة بعد توقّفه، ثمّ تجديد عمل المخّ بعد موته.

___________________

=

أمكن تغذية القلب والرئة والأعضاء الأُخرى، بوسائل صناعيّة لمدّة معيّنة أقصاها أسبوعان، ولو أنّ المخّ قد سبق وإن مات، وفي نظري أنّ الإنسان كما نعرفه أيضاً قد مات، وهذه التطوّرات - مع الأسف - خلقت اختلافاً في تحديد وقت الموت... هل هو وقوف القلب، كما في التعريف الطبّي القديم ؟

أو وقوف عمل المخّ، كما في التعريف الجديد، والذي يؤدّي إلى وقوف أعمال الأعضاء الأُخرى إذا لم نجد الوسائل الصناعيّة ؟

وقد يصل الفرق في وقت الموت إلى أُسبوعين بسبب اختلاف التعريف، انتهى.

أقول: فيه نظر يظهر ممّا ذكرنا في المتن آنفاً.

١٤٣

( الخامسة ): موت المخّ وتوقّف القلب مع حياة بعض أعضاء البدن.

( السادسة ): موت جذع قشرة المخّ وحياة جذع المخّ مع الصورة المتقدِّمة.

أقول : وفي الصورة الأُولى موت الفرد متحقّق عند جميع الأطبّاء القدامى والجدد.

وليكن في الثانية - أيضاً - كذلك عندهم، إذ لا أثر للتحريك الصناعي المذكور.

والثالثة: هي محلُّ الخلاف بين القدماء والمتأخِّرين من الأطبّاء، فعلى قول الأوّلين يُحكم بحياة الفرد، وعلى قول الآخرين بموته.

وفي الرابعة: لا مجوّز للحكم بموت الفرد، بل هو حيّ بحياة إنسانيّة.

وفي الخامسة: يحكمون بموته، فلاحظ أقسام الحياة في الفصل الرابع الآتي ذكره عن قريب.

وفي السادسة: احتمالان:

الأوّل: أنّ موت قشرة المخّ يستلزم بطلان الحياة الإنسانيّة، إن صحّ ما ادّعى بعض الأطبّاء من أنّ قشرة المخّ هي التي تميّز الإنسان عن الحيوان، بما رزقه الله من مَلَكَات إنسانيّة، وقال: إنّ جذع المخّ هو الحدّ الأدنى اللاّزم للحياة. ولا عبرة بالحياة غير الإنسانيّة، كما يأتي في الجواب عن الاعتراض السابع في الفصل الرابع.

الثاني: أنّ بقاء الحياة في جذع المخّ تكشف عن بقاء علقة الروح الإنسانيّة بالبدن، وفقدان الوعي وسائر المَلَكَات لفساد الآلة والعضو، فلا يكشف عن بطلان الحياة الإنسانيّة، ولا اقل من الشكّ في ذلك فيعامل معه معاملة الإنسان الحيّ استصحاباً.

وبعد، فإنّ تحديد انقطاع علاقة الروح بالبدن بالدقّة في الفروض المذكورة - سوى الأوّلَين - غير واضح تماماً، والله العالم.

١٤٤

( ٢ )

موضع المخّ(١) من وجود الإنسان

الخليّة وإن تمثّل حياةً إلاّ أنّ حياة الغالبيّة العظمى من خلايا جسد الإنسان، وكذلك أعضائه التي يحتويها هذا الجسد، لها حياتها المستقلّة عن حياة الإنسان كفرد ؛ بدليل أنّنا يمكن أنْ نأخذ بعض خلايا من جسم الإنسان لزراعتها ودراستها بالمعمل، ولا تفقد حياتها بخروجها من جسم الإنسان، ومن الأمثلة الأُخرى استئصال كلية حيّة من جسم إنسان لزراعتها في جسم إنسانٍ آخر، إنّها لا تفقد حياتها، ولا تكسب حياةً جديدة من الجسد المنقولة إليه، بل تحيا بحياتها الأُولى طالما توافرت لها إمكانيّة الغذاء المناسب.

فالقلب والرئتان والكبد والكلى يمكن استئصالها واستبدالها بأعضاء أُخرى إنسانيّة، أو حتّى بلاستيكية، مع استمراريّة الذات الإنسانيّة وعدم تغيّرها إلاّ المخّ.

قد نظنّ الآن أنّ النفس الإنسانيّة تكمن في مخّ الإنسان ؛ لأنّه مكان استقبال جميع الحواسّ من: سمعٍ وبصرٍ وشمٍّ وذوقٍ ولمسٍ، إنّه مكان الاستقبال الوحيد من العالم الخارجي، كما أنّه يحتوي على مخازن الذاكرة من قراءات وسمع وبصر وغيرها والخبرات السابقة ومكان التفكير والابتكار، وبه تمّ إرساء الطباع والعادات والمثل المكتَسبة والمميِّزة لكلّ إنسانٍ، ومكان تواجد الغرائز الموروثة، كما أنّه مصدر الأفعال المترتّبة على ما

___________________

(١) الدماغ يبدأ تكوينه بعد تلقيح البويضة بأسابيع، ويكتمل في الأُسبوع الثاني عشر. ص١٢٧ رؤية إسلاميّة لزراعة بعض الأعضاء البشريّة.

١٤٥

يستقبله من معلومات.

ولو نظرنا بتكبيرٍ مجهريٍّ داخل المخّ ؛ لوجدناه يتكوّن من ملايين الخلايا العصبيّة، التي تشبه البطّاريّات الكهربائيّة الصغيرة، يترجم فيها كلّ شيءٍ من: أحاسيس وأفكار ورغبات إلى ومضات كهربائيّة، تحملها أسلاكٌ دقيقة معزولة تنتهي إلى أطرافٍ دقيقةٍ تترجم هذه الومضات السابقة إلى طاقات كيميائيّة، تقوم بدورها بتنبيه خلايا أُخرى، وهكذا تستقبل الأحاسيس من سمعيّة وبصريّة، وخلافه وتنفّذ المهام من فكر وأفعال.

وهنا يجب أنْ نلاحظ أنّ جميع الأحاسيس الواردة للمخّ، وأيضاً جميع الإشارات الصادرة عنه لتنفيذ المهام، تصل منها للعلم إلى مكان معيّن للمخّ يكون باستمرار على علمٍ تامٍّ بمجريات الأُمور، وذلك هو جذع المخّ، وعلى الأدق: نسيج معيّن داخله يُسمّى النسيج الشبكي.

وهذا الجزء له تأثيرٌ كبيرٌ على أجزاء المخّ الأُخرى، وقد أثبتت البحوث الكثيرة أنّ هذا النسيج الشبكي هو المسؤول عن وَعي الإنسان(١) ، وأنّه إذا فقد الإنسان وعيه لسبب أو آخر فإنّ ذلك يحدث ؛ لأنّ هذا النسيج قد تعرض لضررٍ ما، وذلك كالإصابة في الحوادث، أو بالتأثير من السموم أو الأمراض.

ويدخل في ذلك التخدير أو تعاطي العقاقير من منوِّمةٍ ومهدِّئةٍ مهلوسةٍ، وهو المسؤول عن نوم الإنسان ويقظته... ويبدو لنا الآن أنّ هذا

___________________

(١) قيل: يمكن أنْ يتلف النصفان الكرويان ويستمرّ الإنسان في الحياة ؛ لأنّ جذع المخّ هو الذي ينظّم التنفّس، وبالتالي يستمرّ المريض أو المصاب في الحياة، وإنّما ذهاب النصفين الكرويين يعني: فقده للإحساس وللحركة وللفهم وللكلام وللسمع، ولكنّه كائنٌ حيّ بالحياة الجسديّة، ص٧٧ رؤية إسلاميّة لزراعة بعض الأعضاء البشريّة.

١٤٦

هو في الغالب مكمن النفس الإنسانيّة(١) .

وعند توقّف القلب عن العمل نهائيّاً لأيّ سببٍ من الأسباب، يتبعه فوراً فقدان الوعي وتوقّف التنفّس، وهما وظيفتان من وظائف المخّ الذي لا يتحمّل توقّف دورته الدمويّة إلاّ لثوان معدودة، ولو أنّ الخلايا تظلّ حيّةً لبضع دقائق، إلاّ أنّها تتوقّف في أثنائها عن العمل(٢) .

وأمّا العضلات والعِظام والجلد، فقد تستطيع الحياة لمدّة ساعات بعد توقّف القلب والدورة الدمويّة. وقد يمكن أحياناً أن يعود القلب للعمل، ويبدأ التنفّس الذاتي في العمل من جديد ( في الدقائق اليسيرة ) ويعود الإنسان إلى وعيه، ففي هذه الفترة الحرجة التي يُعتبر الإنسان فيها ميّتاً بكلّ المقاييس الإكلينيكيّة الطبيّة، ولكنّه بالفعل لا يكون ميّتاً ؛ لأنّ مخّه ومن ثمّ معظم أعضاء الجسم لا زالت حيّةً.

وقد يعود القلب والتنفّس للعمل بعد فترة الدقائق الأربع، بعددٍ من الثواني ولكنّ قشرة المخّ الحسّاسة قد تكون تلفت جزئيّاً أو كليّاً على حين تستمرّ أجزاء المخّ الأُخرى، ومنها جذع المخّ في العمل، وقد يحدث هذا التلف نفسه نتيجة هبوطٍ شديدٍ في ضغط الدم لفترةٍ طويلةِ حتّى بدون

___________________

(١) وسيأتي توضيح حول كيفيّة تعلّق الروح بالبدن عن قريب، إن شاء الله، ولا عبرة بتعابير مثل الكمون والمكمن وأمثالهما فإنّها غير دقيقة.

(٢) لكن نقلت وكالات الأنباء في الشهر السابع من ١٩٩٦ م: أنّ امرأةً صينيّة توقّف قلبها ٤٥ دقيقة إثر اتّصالها بالبرق، ثمّ رجع قلبها إلى الحركة، واحتيت وقال الأطبّاء: إنّه لم يُرَ لحدّ الآن مَن رجع إلى الحياة بعد توقّف قلبه وجهاز تنفّسه في هذا الوقت الطويل.

ولاحظ أوّل حاشية في الفصل الرابع جواباً لهذه المشكلة، فما ذكرته وكالات الأنباء إنّما يصير مشكلةً إذا علم الأطبّاء توقّف القلب، لا توقّفه عن النبض فقط.

١٤٧

توقّف القلب والتنفّس، وذلك لوصول الغذاء للمخّ بكمّيّات غير كافية في هذه المدّة، وقد يحدث ذلك نتيجة إصابة شديدة غير مميتة للمخّ، ولا علاج حينئذٍ، فخلايا المخّ التي تموت لا يمكن تعويضها.

وفي حالة فقدٍ كاملٍ للوعي يستمرّ هذا الإنسان في حياة جسديّة مدّة حياةٍ كاملة ؛ على هذا الوضع بالرعاية الطبيّة، ويتنفّس ذاتيّاً ؛ لأنّ جذع المخّ سليم، لكن مثل هذه الحياة لا يكون إلاّ داخل مستشفى، وهي بالتأكيد كارثة اقتصادية، مع انعدام الأمل في عودة المريض إلى وعيه، وقد شُوهد مريض كذلك استمرّت حياته ( ١٥ ) عاماً في أُوربا(١) .

وقد يموت المخّ أوّلاً فيؤدّي إلى وفاة الإنسان، حتّى إذا كانت بقيّة الأعضاء الأُخرى، بما في ذلك القلب سليمة، كما في بعض إصابات الرأس الشديدة في حوادث الطرق، أو السقوط من أماكن مرتفعة وغير ذلك، فيموت المخّ بالكامل، أو أساساً جذع المخّ، وطبيعي تبدأ سلسلة الموت في هذه الحالة بفقد الوعي، وتوقّف التنفّس وانقطاع الأُوكسجين عن الدم، إنّ الدورة الدمويّة التي ما تزال تعمل، ينقص فيها الأُوكسجين ويتراكم ثاني أوكسيد الكربون، وبالتدريج تموت بقيّة الأعضاء الأُخرى، ولا يعود المخّ بتزويد الجسم بالأُوكسجين بواسطة أجهزة التنفّس الصناعي، فإنّ خلايا

___________________

(١) إذا قلنا إنّه لسلامة جذع مخّه حيّ ومحكوم بالحياة، لكن لا يبعد أنْ نقول بعدم وجوب حفظه عن الموت ؛ لأنّ هذا الوجوب لم يدل عليه دليلٌ لفظيٌّ نتمسّك بإطلاقه، كما لا يخفى على الخبير المتعمّق في الفقه، ولا يشتبه عليك وجوب حفظ النفس المحترمة بحرمة قتله وبينهما بونٌ بعيدٌ، وعليه، فإذا لم يدفع المال لحفظه - والحال هذه - وقطع الطبيب الآلات الطبّيّة فمات نهائيّاً لا ترجع تبعة موته إلى أحد، فقد أماته الله سبحانه وتعالى، فلاحظ وتأمّل، ولاحظ ما ذكرنا في ج٣ من كتابنا حدود الشريعة، مادّة الحفظ ؛ تعلم أنّ وجوب الحفظ لا يشمل مثل المقام.

١٤٨

المخّ التالفة لا يمكن تعويضها.

والخلاصة: إنّ توقف القلب عن العمل لا يعني بالضرورة الوفاة ( فترة الدقائق الأربع ) كما أنّ استمرار القلب في العمل بعد موت المخّ لا يعني الحياة(١) .

وقال بعضهم: إنّ المخّ يحتمل توقّف القلب أقل من أربع دقائق، فإذا القلب يعود لعمله بعد ذلك بقي المخّ تالفاً، كما أنّ توقّف التنفّس يتبعه توقّف القلب بعد أقل من ذلك(٢) .

وخلاصة ذلك: أنّ موت الإنسان بموت مخّه، وأمّا تحديد وقت وفاة المخّ فهنا أكثر من طريقة له ولكنّ أكثرها دقةً وتحديداً هي أن يُوصَل أي مريض مصاب بإصابة شديدة بالمخّ بأجهزة تخطيط المخّ، أو أجهزة قياس عمل المخّ، أو أجهزة فحص عمل جذع المخّ، فإنّها دقيقة تقوم بتحديد المطلوب(٣) .

___________________

(١) انتخبنا ما في المتن ممّا ذُكر في ص٣٣٤ إلى ص٣٤٢ من الحياة الإنسانيّة بدايتها ونهايتها.

(٢) قيل: يخرج من المخّ عشرات الألياف العصبيّة ( الأعصاب ) من خلال ثقوب في الجمجمة والعمود الفقري، كما أنّ الكثير من الشرايين والأوردة تنقل إليه ومنه الدم اللاّزم لتغذيته، إن الجهاز العصبي المركزي، والمخّ بصفةٍ خاصّةٍ، لا يتحمّل تغييرات فيزيائيّة أو كيميائيّة في المحيط الذي يعيش فيه إلاّ في نطاق محدود جدّاً، فمثلاً:

التغيير في درجات الحرارة بالنسبة لأعضاء أُخرى كالجلد تتحمّل إلى عشر أو عشرين درجة مئويّة صعوداً أو هبوطاً من الدرجة العادية ( ٣٧ ) إلاّ أنّ المخّ لا يتحمّل انخفاضاً أكثر من درجتين وإلاّ ابتدأ عمله في التأثّر، وقد يغيب الإنسان عن وعيه فيما يشبه النوم، وهذا ما حدث لجيوش نابليون عند هجومها على روسيا في الشتاء القارس البرد، وسبب اندحاره وهزيمته. كما أنّ ازدياد درجة حرارة المخّ عن ثلاث درجات قد يسبّب أيضاً فقدان الوعي، وقد يُصاب الإنسان بما يُسمّى ضربة شمس، ص٥٧ وص٥٨ رؤية إسلاميّة لزراعة الأعضاء البشريّة.

(٣) أظنّ آراء الأطبّاء في ذلك مختلفة، وبعضهم لا يطمئن بتحديد المطلوب فلا بُدّ من البحث في ذلك، ولاحظ ما يأتي في ص١٥٥ تجد صدق ما قلنا.

١٤٩

( ٣ )

أيضاً المخّ والقلب

ولمّا كان قرار تشخيص الموت يتبعه إيقاف الأجهزة الصناعيّة، ووقف أجهزة التنفّس يتبعه توقّف القلب، فقد كان من الضروري تمحيص هذه القضيّة ( أي اعتبار موت جذع الدماغ موتاً للمريض ) بصورةٍ أُخرى، فأجريت دراسة استقصائيّة للحالات التي تمّ فيها تشخيص موت الدماغ، ولكنّ الأجهزة لم توقف لسبب من الأسباب، وقد زادت على سبعمئة حالة، وقد ماتت الحالات جميعاً رغم استمرار الأجهزة. هذا وقد توقف القلب فيها بعد ساعات أو أيّام من موت الدماغ، وكان متوسّط المدّة ثلاثة أيّام ونصف إلى أربعة أيّام ونصف يوم، وأقصى مدّة سُجّلت لاستمرار القلب في الدقّ هي أربعة عشر يوماً(١) ... ولم يعش أحد ( من هذه الحالات ٧٠٠)...(٢) .

القلب يمكنه أن يتوقّف عن العمل تماماً بسبب قطع الأُوكسجين عنه، أو قطع وصول الدم الذي يحمل الأُوكسجين إليه، إمّا تلقائيّاً بسبب المرض أو بواسطة الجرّاح أثناء عمليّات القلب المفتوح.

وإذا حدث ذلك وحرارة القلب طبيعيّة ( أي بدون تبريد ) فإنّ القلب يبقى حيّاً، أو قابلاً للحياة لمدّةٍ تتراوح بين ٢٠ إلى ٣٠ دقيقة بدون تلفٍ كبيرٍ، وإذا عاد الأُوكسجين إلى القلب خلال هذه المّدة ( بعودة الدورة الدمويّة

___________________

(١) يتّجه هنا سؤال وهو أنّ اختلاف المدّة من ساعات إلى أربعة عشر يوماً هل لا يكون دليلاً على عدم علّيّة مشخّصة محدّدة من موت جذع المخّ لموت الشخص، فلابُدّ هنا من الانتظار حتّى تشخيص الحلقة المفقودة. فتأمّل فيه.

(٢) ص ٣٥٧ الحياة الإنسانيّة بدايتها ونهايتها.

١٥٠

التاجيّة ) يعود القلب إلى العمل كما كان، وإذا زادت فترة قطع الأُوكسجين يزداد التلف تدريجاً حتّى إذا وصلت المدّة إلى ٩٠ - ١٠٠ دقيقة ( أو أقل ) يفقد القلب قابليّته للحياة.

وأمّا مع التبريد فيحتمل القلب قطع الأُوكسجين ساعات بدون تلف(١) وبالنسبة للمخّ فتوجد ظروف مشابِهة لما ذُكر عن القلب إلاّ أنّ المخّ يفقد قابليّته إذا انقطع عنه الأُوكسجين لمدّة دقائق معدودة ( ٣ - ٥ دقائق ) وحرارته طبيعيّة، ومع التبريد يمكن للمخّ أن يعود للعمل بعد عدّة ساعات من التوقّف إذا عادت إليه الدمويّة الحاملة للأُوكسجين(٢) .

موت القلب ليس موت الفرد:

يمكن ان يتوقّف القلب عن العمل تماماً بصفة موقتة اوبصفة دائمة وتستمر حياة صاحبه بجسده وذكره وعاطفته وحواسه وإدراكه وكل مقومات شخصيته مادامت هناك مضخة بديله تضخ الدم وتسيره عبراً للدورة الدموية، وهذه المضخة يمكن أنْ تكون قلباً عضوياً آخر من إنسان أو حيوان أو تكون آلية(٣) .

موت المخّ موت الفرد:

موت المخّ يؤدّي بالضرورة إلى موت صاحبه. نعم من الممكن أنْ يتوقف المخّ عن العمل جزئيّاً لسبب ما، ثمّ يعود إلى حالته الطبيعيّة ما لم

___________________

(١) ص ٣٨٧ نفس المصدر.

(٢) ص ٣٨٨ نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر، وقيل القلب يتوقّف أحياناً عن النبض، ويظهر كأنّه مات ولكنّه لم يمت، وله قابليّة الحياة. وهنا التفرقة بين سكون القلب والموت، ص٥٢٩ نفس المصدر.

وقيل إنّ القلب كأيّ عضو في الجسم محتاج إلى غذاء وهواء: يعني الأُوكسجين، فإذا توقّفت دورة الدم لأي سببٍ كان يتوقّف عن العمل، ففيه جهاز كهربائي يساعده أو ينظِّم نبضه، ص٥٣٥ نفس المصدر.

١٥١

يفقد الحياة أو القابليّة للحياة تماماً، وأمّا إذا فقد القابليّة للحياة، وانعدمت كلّ المؤشِّرات الكهربائيّة فيه، فلا يمكن إصلاحه بعد ذلك، ولا يمكن للإنسان الحياة بدونه، ولا يوجد للمخّ بديل.

( ٤ )

اعتراضات على هذا القول وأجوبتها

١ - كيف يُحكم بموت إنسانٍ بموت مخّه، وربّما قلبه ما زال ينبض ؟

أُجيب عنه: بأنّ حياة عضوٍ لا يتعارض مع موت صاحبه، فمثلاً الشعر يستمر في النموّ لمدّة ٢٤ ساعة أو أكثر بعد موت صاحبه ودفنه، وبدون أيّ دورةٍ دمويّةٍ جاريةٍ، والقلب العضوي يمكنه أن يستمرّ خارج الجسد منفصلاً عن صاحبه مدّةً، إذا وُفّر له الغذاء والحرارة المناسبة، وفي هذا الأثناء يكون صاحبه قد مات ودُفن، وكذلك كثير من أعضاء الجسد.

وجدير بالذكر هنا أنْ نعلم أنّ الحياة على أقسام:

فمنها الحياة الإنسانيّة الواعية.

ومنها الحياة الجسديّة، وهي الحياة أثناء النوم، وأثناء التخدير وتعاطي السموم في إصابات المخّ، وحالات الغيبوبة وحالات وفاة قشر المخّ، هذه الحياة موجودة وفيها روح(١) .

ومنها الحياة العضويّة، وهي تكون بعد وفاة جذع المخّ، ولا زالت بعض الأعضاء موجودة حيّة. طبعاً ذلك يستدعي وجود تنفّس صناعي.

___________________

(١) نعم الفرق بين القسمين في مجرّد الوعي ونحوه، وأمّا كيفيّة علاقة الروح الإنسانيّة بالجسد في كلٍّ من الحالتين فهي مجهولة عندنا، أو بالأدق: عندي !

١٥٢

ومنها الحياة النسيجيّة.

ومنها الحياة الخلويّة(١) .

فلابُدّ من عدم اشتباه بعضها ببعضٍ آخر.

٢ - ولو أنّه لا يوجد حاليّاً بديل كامل للمخّ فإنّه يوجد بديل لأحد وظائفه، وهو تحريك الجهاز التنفّسي عن طريق آلة التنفّس، ممّا يوفّر الأُوكسجين للقلب وبقيّة الجسد، فيمكن له الاحتفاظ بقابليّتهم للحياة ولو لفترة من الزمان، فلماذا لا تُستعمل آلة التنفّس لفترة غير محدودة ؟

وأُجيب عنه، أوّلاً: بعدم إمكان الحفاظ على هذه الحالة لفترات غير محدودة، إذ تتدهور الحالة تدريجاً حتّى يتوقّف القلب العضوي والأعضاء الأُخرى، بالرغم من كلّ الآلات المستعملة.

وثانياً: بأنّه في أثناء الإبقاء على حياة بعض الأعضاء، يكون هنا انعدام تامّ لحركة الإنسان، وفكره وعاطفته وحواسّه وإدراكه، وكلّ مقوِّمات شخصيّته.

وثالثاً: بأنّ حياة بعض الأعضاء لا تعني بالضرورة حياة صاحبه(٢) .

وقد ذكر بعض الباحثين مثالاً لعدم دلالة نبض القلب على الحياة: بإنسانٍ قُطع رأسه، تلقّفه الأطبّاء وحفظوا الجسد المفصول ؛ فبقي القلب الموصول بالأجهزة نابضاً، ففي هذه الحالة لا يمكن لأحدٍ أنْ يدّعي بقاءَ الروح في جسدٍ بلا رأس، مهما كانت خلاياه حيّةً(٣) .

٣ - إذا كان قياس الدماغ - أي كهرباء الدماغ - يكفي بالحكم بالموت فلماذا تحدد السلطات الصحيّة في المملكة المتّحدة عام ( ١٩٧٧ ) شروطاً

___________________

(١) ص٥٢٥ الحياة الإنسانيّة.

(٢) ص٣٩٠ وص٣٩١ الحياة الإنسانيّة.

(٣) ص٤٢٥ نفس المصدر.

١٥٣

فلا بُدّ من توافرها لتشخيص موت الدماغ ؟

منها على سبيل المثال:

أوّلاً: أنْ يكون المريض في حالة غيبوبة عميقة، وأن نستبعد أسباب الغيبوبَة القابلة للعلاج كليّاً أو جزئيّاً، مثل العقاقير المهدّئة أو المنوِّمة، أو الانخفاض الشديد في حرارة الجسم.

ثانياً: أنْ يكون المريض معتمداً على أجهزة التنفّس الصناعي لانعدام التنفس التلقائي.

ثالثاً: ألاّ يكون هناك شكّ في وجود تلفٍ في الدماغ غير قابلٍ للعلاج، مثل: إصابة بالرأس، أو نزيف تلقائيّ بالدّماغ، أو بعد عمليّة جراحيّة في المخّ ونحو ذلك.

رابعاً: أنْ يثبت الفحص السريري علامات موت جذع الدماغ، كاتّساع العينين اتساعاً ثابتاً لا يتأثّر بالضوء، وانعدام التأثّر الانعكاسي في منطقة الأعصاب القحفيّة(١) ، وهكذا.

خامساً: انعدام الاستجابة لمحاولات تنبيه التنفّس التلقائي(٢) .

وأجاب عنه بعض الأطبّاء: بأنّ وضع هذه الشروط لمجرّد التأكيد والاحتياط، لا لغير ذلك. لكنّ موضوع الاحتياط هو الاحتمال المنافي للعلم، إذ مع العلم لا معنى للاحتياط.

٤ - ليس من الإمكان ببعيد مجيء يومٍ يتمكّن العلم المتطور من إعادة النشاط الكهربائي للدماغ، أو نقل جذع الدماغ من بدنٍ إلى بدنٍ آخر(٣) .

___________________

(١) في المنجد: القِحف ج أقحاف وقحوف وقحفة: العظم الذي فوق الدماغ. ما انفلق من الجمجمة فانفصل. إناء من خشب مثل قحف الرأس كأنّه نصف قدح..

(٢) ص٣٥٥ نفس المصدر السابق.

(٣) إذا فرضنا حياة فردٍ بنقل مخّ فردٍ آخر كزيد، فإن وجدنا الفرد المذكور بأفكاره

=

١٥٤

أقول : لكنّنا نتكلّم الآن حسب الظروف الموجودة، فلابدّ أنْ نقول بموت الفرد بموت جذع مخّه، حتّى إذا جاء نَصْرُ العلم وفَتْح الطبّ ؛ فنقول بما اقتضاه الوقت.

٥ - الحكايات الكثيرة المتفرِّقة التي يتناقلها الناس من أنّ فلاناً مات ثمّ صار حيّاً قبل الدفن، أو بعد الدفن، ثمّ رجع إلى الأحياء، أو مات مرّةً أُخرى في قبره كما فهم ذلك بعد نبش قبره، وهذه الحكايات وإن لم نصدّق بجميعها لكن لا مجال لتكذيب كلّها، ففي هذه الموارد بالطبع كان القلب متوقّفاً طيلة تلك المدّة، والمريض لا وعي له ولا إدراك ولا حراك، وسواءٌ مات المخ أم لم يمت، فإنّ حياةً مثل هذا الفرد يبطل القول المذكور.

وأجاب عنه بعض الأطبّاء: بأنّ مردّ هذا في الغالب إلى خطأٍ في التشخيص، فلعلّهم تبيّنوا توقّف قلبه بحبس نبضه، أو حبس نبض شرايين الرقبة، أو الاستماع إلى صدره، وقد تعجز الحواسّ الطبيعيّة عن أنْ تذكر الاختلاجات الضعيفة، ولعلّهم إنْ رسم لهم رسّام القلب الكهربائي، كانوا يستنبطون أنّه حيّ..(١) .

٦ - نُقل عن جريدة الأهرام ( ٣٠/٩/١٩٨٤ ) خبرٌ وهو:

___________________

=

وعواطفه وجميع مشخّصاته السابقة، فهو ينقض القول السائد اليوم بأنّ موت الفرد بموت مخّه. وأمّا إنْ وجدناه بمشخصات زيد وذاكرته وأفكاره واتجاهاته فلا ينقضه ؛ لإمكان القول أو صحّته بأنّ هذا الفرد لم يحيى، بل الحي هو زيد ببدن ذلك الفرد، ومثل هذا الفرض سيوجب أسئلةً شرعيّةً وأخلاقيّةً واجتماعيّةً وروحيّةً، وأمره غامض جدّاً لا سيّما بالنسبة إلى الزوجة والأولاد والأقرباء.

وأظهر من هذا الفرض فرض زرع رأس أحدٍ في بدن آخر، إذا قدر الطبُّ عليه في دهر.

(١) ص٥٤٩ الحياة الإنسانيّة.

١٥٥

حالة وضع أثارت اهتمام العلماء في العالَم أجمع، تلك حالة السيّدة الفلنديّة انجاليتالو ٣٢ عاماً، التي وضعت طفلها الرابع وهي في غيبوبة تامّة منذ شهرين ونصف، وقد دخلت الأُمّ في هذه الغيبوبة إثر إصابتها بنزيفٍ في المخّ.

والغريب أنّ الأُمّ قد توفّيت بعد أنْ وضعت طفلها ماركو بيومين... فقد كانت الأُمّ تتنفّس صناعيّاً، وتتغذّى بالأنابيب، ويُنقل لها دمٌ مرّةً أُسبوعا، وذلك لمدّة عشرة أسابيع(١) .

وأُجيب عنه: بأنّ الأُمّ لم تكن حيّة وليس لها روح، وإنّما هي استُعملت كحاضنةٍ صناعيّةٍ للجنين الذي في جوفها.

٧ - إنّ تعطيل الحواسّ لا يستلزم فقد الحياة، وإلاّ لكان النائم والمجنون والمغشيّ عليه فاقدين للحياة. ألا ترى أنّ القرآن الكريم لم يحكم على أصحاب الكهف - مع الغيبوبة الطويلة ( ٣٠٩ أعوام ) بأنّهم أموات بل المستفاد من قوله تعالى:

( وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ) (٢) حياتهم، وكذا في قوله سبحانه:( لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ) (٣) قيل ذلك لطول شعورهم ونموّ أظافرهم ولحاهم، إلى غير ذلك ممّا يغيّر الملامح، ويخيف عند زيادته عن المألوف.

أقول : مرّ جواب هذا مجملاً في بعض المسائل المتقدِّمة ( بداية الحياة الإنسانيّة ).

ويقول بعض الأطباء: إنّ كلّ غيبوبة لا تدلّ على موت المخّ، ولا بدّ أن يستبعد الطبيب هنا الأسباب التي تؤدّي إلى غيبوبة قابلة للعلاج، كالمواد المخدِّرة والبرودة الشديدة في البلاد التي فيها بردٌ شديدٌ، وعندما لا يتأكّد

___________________

(١) ص٤٤٧ نفس المصدر.

(٢ و ٣) الكهف آية ١٨.

١٥٦

عندنا سبب الغيبة لا نشخِّص موت جذع الدماغ(١) .

وأوضحه بعض الاختصاصيّين بقوله: إنّ جذع المخّ نسمّيه المراحل الدنيا أو الأقل، وأمّا المراحل العليا أو المراكز العليا فهي مرحلة القشرة.

المراحل الدنيا لا تعني أهمّيّتها بالنسبة للحياة بالعكس من المراحل العليا - المنطقة العليا هي التي تميّز الإنسان عن الحيوان، بما رزقه الله تعالى من ملكات إنسانيّة - ولكنّ المراحل ( أو المنطقة) الدنيا هي الحدّ الأدنى اللاّزم للحياة هو جذع المخّ ؛ لذلك قيل المعتوه ليس ميّتاً ؛ لأنّه فقد الخاصّة العليا وهي قشرة المخّ، ولكنّه مازال يحتفظ بالحد الأدنى وهو جذع المخّ، هو فيصل التعريف بين الحياة والموت(٢) .

٨ - يقول طبيبٌ: كانت عندنا مريضة كان فيها كسر، عملنا لها عمليّة قلب مفتوح وعلى طول العمليّات توفّيت، عملنا لها عمليّة إنعاش، عملنا لها مرّتين، وبعدها صحت واستمرّت، وبعد العمليّة ما صحت وظلت فاقدةً الوعي لمدّة ثلاثة أشهر، وبعد ثلاثة أشهر والرئيس أقنعني بأنّ توقف كلّ حاجةٍ وتتركها تموت ؛ لأنّها انتهت، فأنا طرحت عليه وقلت له: إنّني سمعت أشياء تجريبيّة على الحيوانات أنّ بعضهم يعطيها جرعةً كبيرة من الكورتيزون وهي متوفّرة أصلاً، وما في ضررٍ نجرّب عليها، وفعلاً أُعطيت الجرعة العاديّة ثلاثين مرّة، وبعد ثلاث ساعات صحت، خرجت من المستشفى وذهبت إلى بيتها(٣) .

وأُجيب عنه: أنّه بطبيعة الحال لم يكن جذع المخّ قد مات.

___________________

(١) ص٥١٨ الحياة الإنسانيّة.

(٢) ص٥٤١ نفس المصدر.

(٣) ص٥١٨ نفس المصدر.

١٥٧

( ٥ )

شواهد على صحّة قول الأطبّاء الجدد

١ - حركة القلب توجد في الجنين قبل تعلّق الروح الإنسانيّة، فلا تتعلّق بالحياة الإنسانيّة في الابتداء والانتهاء، كما ذكرناه سابقاً أيضاً.

لا يُقال: المخّ أيضاً يتكامل في الأُسبوع الثاني عشر - كما سبق أيضاً - فقياساً على قولك، يُقال: إنّ عمل المخّ لا يدلّ على الحياة.

فإنّا نقول: مطلق العمل لا يدلّ على تحقّق الحياة الإنسانيّة، بل العمل الخاصّ وهو العمل الإرادي، وإدراك الكلّيّات والعواطف وسائر الملكات، ولو في الجملة وأنّى لك بإثباتها، فلاحظ.

٢ - من صفات الروح أو آثارها العواطف الإنسانيّة والإدراك، وحيث إنّهما تذهبان بذهاب المخّ فلم تبق الحياة الإنسانيّة فيكشف أنّ الروح تدور مدار المخّ، وإن احتمل ذهاب العواطف لفساد المحلّ، فلا يُحتمل ذلك في إدراك الكلّيّات التي يستقلّ به الروح.

٣ - الإدراكات الحسيّة من الحواس الخمس، كلّها تنشأ وترجع إلى المخّ دون القلب العضوي، بل نسبته إلى الإدراكات كنسبة اليد والرجل والأنف والبطن والعضد - مثلاً - إليها، كما هو واضح في مثل هذه الأعصار.

وربّما يمكن أنْ يتوهّم أحدٌ: بأنّ الإدراكات الحسيّة لمكان اتّصاف الحيوانات، أو معظمها بها أو بأكثرها لا تخصّ الروح الإنسانيّة، بل الروح الحيوانيّة.

وجوابه: أنّها في الإنسان ترجع إلى روحه الإنسانيّ، إذ لا تتعدّد أرواحه، وليس له روحان حيوانيّ وإنسانيّ.

١٥٨

٤ - لو كان الروح متعلِّقة بالقلب حدوثاً وبقاءً ؛ لذهبت بذهابه وتعويضه بقلب بلاستيكي، لكنّها باقيةٌ بتمام مشخّصاتها مع التعويض المذكور.

فهذه الأُمور إنْ لم تكن بتمامها دلائل على موت الفرد بموت مخّه، فلا أقل من كونها شواهد عليه.

( ٦ )

عجيبة

المخّ بما له من المكانة المعقّدة المهمّة التي تحيّر العقول، وهو جهازٌ لا نظير ولا مثيل له في الكون - ظاهراً - وقد قيل: لو أراد الإنسان أن يصنع مثله من الفِلزّ لما وسعته كرة الأرض !!! فسبحانَ من مبدعٍ وحكيمٍ وقديرٍ وعليمٍ وخالقٍ، وعنت الوجوه للحيّ القيّوم.

ولكن مع ذلك فقد أهمله القرآن المجيد، ولم يذكره مطلقاً - حسب فهمي القاصر - لا من حيث دلالته على صفات الله الكماليّة والجماليّة ( الثبوتيّة الذاتيّة والفعليّة ) ولا من حيث بيان أعظم سننه بعد الروح على الإنسان، ولا من حيث تعلّق الروح به. وهذا ممّا لا أفهم له وجهاً.

ما للتراب وللعلوم وإنّما

يسعى ليعلم أنّه لا يعلمُ

( ٧ )

علاقة الروح بالبدن

مقتضى الآيات القرآنيّة والأحاديث المعتبَرة والبراهين العقليّة - على

١٥٩

ما سبق بعضها في مسألة بداية الحياة الإنسانيّة - أنّ للإنسان روحاً ونفساً وبدناً، وهذا أمرٌ مقطوعٌ لا ريب فيه.

وتقدّم أنْ قلنا: إنّ الروح والنفس مفهومان منطبقان على مصداقٍ واحدٍ جزماً أو وجداناً.

والكلام هنا في بيان كيفيّة علاقة الروح بالبدن، وفيها احتمالات أو أقوال:

١ - علاقة الروح بالبدن علاقة الحال بالمحلّ، كما عن أهل السنّة ( الأشاعرة ) حيث قالوا: إنّ الإنسان مكوّن من جسد وروح تحلّ في هذا الجسد مادام صالحاً لاستقبال الروح(١) ، ونسمّيه بالعلاقة الحلوليّة كحلول الأمراض بالبدن، وكحلول جملة من الأعراض بالجسم.

٢ - علاقتها به كعلاقة العرض بموضوعه ( حسب المصطلح في الكلام والحكمة )، نسبه الرازي إلى المعتزلة ( الذين يتبعون العقل في المعارف بدل متابعة أبي الحسن الأشعري )، وأنهم قالوا: إنّ الحياة عرض قائم بالجسم، أي أنّ الروح عرض قائم بذلك الجسم، فجعلوا الروح غير منفصلة عن الجسم، كما هي منفصلة عنه على القول الأوّل(٢) .

لكن لا وثوق لنا بنقل الرازي، فلا يثبت هذا عن المعتزلة، ولم يمكنني - في هذا البلد البعيد عن العلم وأهله - الرجوع إلى كتبهم، والله العالم.

٣ - أو كعلاقة الراكب بالمركب ؟

٤ - أو كعلاقة المظروف بالظرف ؟

٥ - أو كعلاقة المَلِك بمملكته ورئيس الجمهوريّة ببلاده، فهي علاقة

___________________

(١ و ٢) ص٤٦٥ الحياة الإنسانيّة، نقلاً عن تفسير الرازي.

١٦٠