الفقه والمسائل الطبية

الفقه والمسائل الطبية16%

الفقه والمسائل الطبية مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 341

الفقه والمسائل الطبية
  • البداية
  • السابق
  • 341 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92438 / تحميل: 7843
الحجم الحجم الحجم
الفقه والمسائل الطبية

الفقه والمسائل الطبية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً *وَحَدَائِقَ غُلْبًا *وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) ( عبس: ٢٧ ـ ٣١ )، ثمّ قال: ( هذا كله عرفناه فما الأبّ ؟ ) ثمّ رفع عصا كانت في يده فقال: ( هذا لعمر الله هو التكلّف فما عليك أن تدري ما الأبّ، اتبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه )(١) .

(ز): خمسةُ أشخاصٍ أُخذوا في الزنا

أحضر عمر بن الخطاب خمسة نفر أخذوا في زنا فأمر أن يقام على كلّ واحد منهم الحدّ وكان أمير المؤمنين حاضراً فقال: « يا عمر، ليس هذا حكمهم »، قال عمر: أقم أنت عليهم الحكم، فقدّم واحداً منهم فضرب عنقه، وقدم الثاني فرجمه حتّى مات وقدّم الثالث فضربه الحدّ، وقدّم الرابع فضربه نصف الحدّ، وقدّم الخامس فعزّره، فتحير الناس وتعّجب عمر فقال: يا أبا الحسن خمسة نفر في قصّة واحدة، أقمت عليهم خمس حكومات ( أي أحكام ) ليس فيها حكم يشبه الآخر ؟ قال :

« نعم أما الأوّل: فكان ذميّاً وخرج عن ذمّته فكان الحكم فيه السيف.

وأمّا الثاني: فرجل محصن قد زنا فرجمناه.

وأمّا الثالث: فغير محصن زنا فضربناه الحدّ.

وأمّا الرابع: فرجل عبد زنا فضربناه نصف الحدّ.

وأمّا الخامس: فمجنون مغلوب على عقله عزّرناه ».

فقال عمر: ( لا عشت في أمّة لست فيها يا أبا الحسن )(٢) .

هذه نماذج قليلة من الموارد التي لم يرد فيها نص صريح، وقد واجهت كبار الصحابة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعجزوا عن حلّ معضلاتها ممّا يدلّ بوضوح، على أنّه لو كان

__________________

(١) المستدرك للحاكم ٢: ٥١٤، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ١١: ٢٦٨، الكشّاف ٣: ٣١٤.

(٢) الكافي ٧: ٢٦٥.

١٢١

الصحابة مستوعبين لكلّ أحكام الشريعة وأبعادها، لأجابوا عليها دون تحيّر أو تردد. ولأصابوا فيما أجابوا. وهذا يدل بصراحة لا إبهام فيها، على أنّ الاُمّة كانت بحاجة شديدة إلى إمام عارف بأحكام الإسلام معرفةً كافيةً كاملةً وحامل لنفس الكفاءات والمؤهلات النفسيّة والفكريّة التي كان يتحلّى بها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ( فيما عدا مقام الوحي والنبوة )، إذ بهذه الصورة فحسب، كان من الممكن أن يلي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويخلفه في قيادة الاُمّة ويسد مسدّه، من حل معضلاتها، ومعالجة مشاكلها التشريعية والفكريّة المستجدّة، دون أن يحدث له ما حدث للصحابة من العجز والارتباك، ومن التحيّر والمفاجأة ـ كما عرفت ـ.

وإليك بقية الأوجه التي تدلّ على هذا الادّعاء المدعم بالدليل :

* * *

٢. الفراغ في مجال تفسير القرآن وشرح مقاصده

لم يكن القرآن الكريم حديثاً عاديّاً، وعلى نسق واحد، بل فيه: المحكم والمتشابه والعامّ، والخاصّ، والمطلق والمقيّد، والمنسوخ والناسخ، مما يجب على المسلمين أن يعرفوها جيداً ليتسنّى لهم أن يدركوا مقاصد الكتاب العزيز ومفاداته(١) .

ثمّ لـمّا كان هذا الكتاب الإلهيّ، جارياً في حديثه مجرى كلام العرب وسائراً على نهجهم في البلاغة وطرقها فإنّ الوقوف على معانيه ورموزه ولطائفه كان يتوقف على معرفة كاملة بكلامهم وبلاغتهم.

أضف إلى كل ذلك، أنّ القرآن إذ كان كتاباً إلهياً حاوياً لأدقّ المعارف وأرفعها

__________________

(١) ولقد أشار الإمام عليّعليه‌السلام إلى هذه الاُمور بقوله :

« خلّف ( أي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فيكم كتاب ربّكم، مبيّناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصّه وعامّه وعبره وأمثاله، ومرسله ومحدوده ومحكمه ومتشابهه، مفسّراً مجمله ومبيّناً غوامضه » نهج البلاغة: الخطبة رقم (١).

١٢٢

درجةً، ومنطوياً على علوم لم تكن مألوفةً في ذلك العصر، وعلى أبعاد عديدة(١) تخفى على العاديين من الناس، فإنّ الإطلاع على هذه الأبعاد والأوجه والحقائق كان يقتضي أن يتصدى لشرحها وتفسيرها وبيان مفاهيمها العالية جليلها ودقيقها: النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من يليه في العلم والكفاءة والمؤهلات الفكريّة صيانةً من الوقوع في الاتجاهات المتباينة، والتفاسير المتعارضة التي تؤول إلى المذاهب المتناقضة والمسالك المتناحرة ـ كما حدث ذلك في الاُمّة الإسلاميّة ـ مع الأسف.

ولو سأل سائل :

إنّ القرآن الكريم يصف نفسه بأنه كتاب مبين إذ يقول:( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) ( المائدة: ١٥ ).

كما يصف نفسه بأنّه نزل بلسان عربي مبين فيقول:( وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) ( النحل: ١٠٣ ).

ويقول في آية اخرى بأن الله سبحانه وتعالى يسّره للذكر حيث يقول مكرّراً:( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) ( القمر: ١٧، ٢٢، ٣٢، ٤٠ ).

ويصرّح في موضع آخر بأنّه سبحانه يسره بلسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( الدخان: ٥٨ ).

ومع ذلك كيف يحتاج إلى التفسير والتوضيح، وما التفسير إلّا رفع الستر وكشف القناع عنه ؟.

كيف يحتاج إلى مبيّن ومفسّر قد قال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه: « إنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ».

وقال الإمام عليّعليه‌السلام في شأنه: « كتاب الله تبصرون به وتنطقون به

__________________

(١) ولقد أشار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى هذا بقوله :

« له ظهر وبطن وظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره انيق وباطنه عميق له نجوم وعلى نجومه نجوم لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه » الكافي ( كتاب القرآن ) ٢: ٥٩٨ ـ ٥٩٩.

١٢٣

وتسمعون به وينطق بعضه ببعض »(١) .

لأجبنا: صحيح أنّ القرآن الكريم يصف نفسه بما ذكر، ولكنّه يصف نفسه أيضاً بأنّه نزل حتى يبيّنه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله للناس إذ يقول تعالى:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل: ٤٤ ).( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ) ( النحل: ٦٤ ).

فقد وصف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في هاتين الآيتين، بأنّه مبيّن لما في الكتاب لا قارئ فقط.

فكم من فرق بين القراءة والتبيين ؟.

بل يذكر القرآن الكريم بأنّ بيان القرآن عليه سبحانه، فهو يبيّن للرسول والرسول يبيّن للناس، كما يقول سبحانه:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثمّ إنّعَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة: ١٦ ـ ١٩ ).

إنّ وجود هاتين الطائفتين من الآيات في القرآن، يكشف لنا عن أنّ القرآن رغم وضوحه من حيث اللفظ والمعنى والظواهر، ورغم أنّه منزّه عن الشباهة بكتب الألغاز والأحاجي إذ أنّه كتاب تربية وتزكية وهداية عامّة، فإنّه يحتاج إلى ( مبيّن ) ومفسّر لعدّة أسباب :

أوّلاً: وجود المجملات في أحكام العبادات والمعاملات الواردة في آياته.

ثانياً: كون آياته ذات أبعاد وبطون متعددة.

ثالثاً : ، غياب القرائن الحاليّة التي كانت آياته محفوفة بها حين النزول، وكانت معلومةً للمخاطبين بها في ذلك الوقت.

كلّ هذه الاُمور توجب أن يراجع من يريد فهم الكتاب مصادر تشرح هذه الأمور، وإليك مفصل هذا القول فيما يأتي :

أوّلاً: إنّ القرآن كما ذكرنا ليس كتاباً عادياً، بل هو كتاب إلهيّ اُنزل للتربية

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٢٩ ( طبعة عبده ).

١٢٤

والتعليم ولهداية البشريّة وتهذيبها، وذلك يقتضي أن ينزل القرآن بألوان مختلفة من الخطاب تناسب ما تقتضيه طبيعة التربية والتعليم، ومن هنا نشأ في أسلوب القرآن: المطلق والمقيّد، والعام والخاصّ، والمنسوخ والناسخ، والمحكم والمتشابه، والمجمل والمبيّن كمفاهيم الصلاة والزكاة والحج والجهاد وغيرها فهي رغم كونها واضحة في أول نظرة ولكنّها مجملة من حيث الشروط والأجزاء والموانع والمبطلات والتفاصيل.

فكان لابدّ أن يتولّى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بيان مجمله ومطلقه ومقيده وما شابه ذلك، وقد فعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك بقدر ما تطلّبه ظرفه واقتضته حاجة المسلمين بيد أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكشف القناع عن جميع تفاصيل هذه الاُمور وجزئياتها قاطبة، لعدم الحاجة إلى ذلك، وتحيّناً للظروف المناسبة، وانتظاراً للحاجات والحالات المستجدّة. وإن كان قد أخبر عن اُصولها واُمهاتها أو معظمها، فتعيّن أن يخلّف النبيّ ـ من يماثله بالعلم والدراية بالوحي الإلهيّ المدوّن في الكتاب العزيز، ليسدّ مسدّه في بيان ما يتعلق بالكتاب من اُمور مستجدّة، ويكشف النقاب عن بقية الجزئيات والتفاصيل لتلك المجملات حسب الظروف والحاجات الجديدة والضرورات الطارئة، ممّا أودع النبيّ عنده من معارف الكتاب وعلومه، ويخرج إلى الاُمّة من تلكم المعارف شيئاً فشيئاً.

نعم، قال شيخ الطائفة الطوسيّرحمه‌الله في تفسير قوله سبحانه:( حم *وَالْكِتَابِ المُبِينِ ) ( الزخرف: ١ ـ ٢ والدخان: ١ ـ ٢ ).

( إنّما وصف بأنّه مبين، وهو بيان مبالغة في وصفه بأنّه بمنزلة الناطق بالحكم الذي فيه، من غير أن يحتاج إلى استخراج الحكم من مبيّن آخر، لأنّه يكون من البيان ما لا يقوم بنفسه دون مبيّن حتّى يظهر المعنى فيه )(١) .

ولكن الصحيح أنّ توصيف القرآن بكونه كتاباً مبيّناً، هو وضوح انتسابه إلى الله، بحيث لا يشك أحد في كونه كلام الله والآية نظير قوله سبحانه( ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ

__________________

(١) التبيان ٩: ٢٢٤ ( طبعة النجف الأشرف ).

١٢٥

فِيهِ ) ( البقرة: ٢ )، أي لا ريب أنّه منّزل من جانب الله سبحانه.

أضف إلى ذلك أنّ الجمع بين هذه الآية وقوله سبحانه:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل: ٤٤ ) وقوله سبحانه:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثمّ إنّعَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة: ١٦ ـ ١٩، ، يقضي، بأنّ المراد هو وضوح مفاهيمه الكليّة لا خصوصياته وجزئياته كما أوضحناه.

ثانياً: لـمّا كان القرآن كتاباً خالداً انزل ليكون دستور البشريّة مدى الدهور، ومعجزة الرسالة الإسلامية الخالدة، تطلّب ذلك أن يكون ذا أبعاد وبطون يكتشف منه كل جيل، ما يناسب عقله وفكره وتقدّمه وترقّيه في مدارج الكمال والصعود، وقد أشار الإمام عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام إلى هذا الأمر حيث قال عن القرآن وعلّة خلوده وغضاضته الدائمة: « إنّ الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة »(١) .

فكأنّ القرآن الكريم ـ في انطوائه على الحقائق العلميّة الزاخرة، وعدم إمكان التوصل إلى أعماقه ـ هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة الواسع الأطراف، الذي لا يزيد البحث فيه والكشف عن حقائقه وأسراره، إلّا معرفة أنّ الإنسان لا يزال في الخطوات الاولى من التوصّل إلى مكامنه الخفيّة وأغواره، فإنّ كتاب الله تعالى كذلك لا يتوصّل إلى جميع ما فيه من الحقائق والأسرار، لأنّه منزّل من عند الله الذي لا يضمّه أين ولا تحدّده نهاية، ولا تحصى أبعاد قدرته، ولا تعرف غاية عظمته.

إذن، فكون القرآن أمراً مبيّناً لا ينافي أن تكون له أبعاد متعدّدة، وأفاق كثيرة، يكون البعد الواحد منه واضحاً مبيّناً دون الأبعاد الاُخرى.

ولهذا، فإنّ الوقوف على البطون المتعددة بحاجة إلى ما روي من روايات وأخبارحول الآيات، وما ورد في السّنّة من النصوص المبيّنة والأحاديث الموضّحة ،

__________________

(١) البرهان في تفسير القرآن ١: ٢٨.

١٢٦

حتّي تكشف بعض البطون والأبعاد الخفيّة كما هو الحال في بعض أحاديث النبيّ وأهل بيته: وإن كان بعض هذه البطون تنكشف لنا بمرور الزمن وتكامل العقول ونضج العلوم.

وبتعبير آخر: إنّ فهم بعد واحد من أبعاد معاني الآية القرآنيّة، وإن كان ممكناً للجميع، غير أنّ وضوح بعد واحد ومعلوميّته لا تغني عن الإحاطة بالأبعاد والأوجه الاخرى لها.

إنّ فهم بعد واحد من أبعاد الآيات التالية :

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنبياء: ٢٢ ).

( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) ( المؤمنون: ٩١ ).

( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) ( النمل: ٨٢ ).

وكذا الآيات الواقعة في سورة الحديد، وما بدأ من السور بالتسبيحات.

أقول: إنّ فهم بعد واحد من أبعاد هذه الآيات وإن كان أمراً ميسّراً للجميع، ولكن لا يمكن لمن له أدنى إلمام بمفاهيم القرآن وأسلوب خطاباته أن يدّعي، أنّ جميع أبعاد هذه الآيات مفهومة للجميع بمجّرد الوقوف على اللغة العربيّة والاطّلاع على قواعدها.

كلاّ، فإنّ الوقوف على مغزى هذه الآيات وأبعادها وبطونها وآفاقها، يحتاج إلى جهود علميّة واطّلاع شامل ودقيق على السنّة المطهّرة، وما جاء فيها حول الآيات من توضيحات وبيانات.

وقد تمكّن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرفع النقاب عن جملة من هذه الأبعاد في حدود ما سمحت له الظروف، واستعدّت له النفوس المعاصرة، فكان لابدّ من وجود من يخلّفه

١٢٧

للقيام بهذه المهمة الخطيرة، فيما يأتي من الزمان، ولمن يأتي من الأفراد والجماعات.

ثالثاً: لقد نزل القرآن الكريم بالتدريج في مناسبات مختلفة كانت تستدعي نزول آيات من الوحي الإلهيّ المقدسّ ولذلك، فقد كان القرآن ـ في عصر تنزّله ـ محفوفاً بالقرائن التي كانت تبيّن مقاصده، وتعيّن على فهم أهدافه وغاياته.

ولهذا فإنّ القرآن وإن كان مبيّناً في حين نزوله بيد أنّ مرور الزمن، وبعد الناس عن عهد نزوله، وانفصال القرائن الحالية عن الآيات صيّر القرآن ذا وجوه وجعل آياته ذات احتمالات عديدة، لغياب علل النزول وأسبابه التي كانت قرائن حاليّة من شأنها أن توضّح مقاصد الكتاب وتفسر عن غاياته.

وهذا أمر يعرفه كلّ من له إلمام بالقرآن الكريم، وتاريخه، وعلومه.

ولأجل ذلك، يطلب الإمام عليّعليه‌السلام من ابن عباس عندما بعثه للمحاجّة مع الخوارج أن لا يحاججهم بالقرآن، لأنّه أصبح ذا وجوه إذ يقولعليه‌السلام : « لا تخاصمهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه تقول ويقولون. ولكن حاججهم بالسنّة فإنهم لم يجدوا عنها محيصاً »(١) .

وإليك نماذج من الاختلاف الموجود في هذه الآيات بين الاُمّة، ولا يمكن رفع هذا الاختلاف إلّا بإمام معصوم تعتمد عليه الاُمّة، وتعتبر قوله قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

١. قال سبحانه في آية الوضوء:( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ( المائدة: ٦ ).

وقد تضاربت الآراء في فهم هذه الآية، وصارت الاُمّة إلى قولين :

فمن عاطف لفظ( أَرْجُلَكُمْ ) على الرؤوس فيحكم على الأرجل بالمسح.

ومن عاطف له على الأيدي فيحكم على الأرجل بالغسل.

ومن المعلوم، أنّ إعراب القرآن الكريم إنّما حدث بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٧٧).

١٢٨

فأيّ الرأيين هو الصحيح ؟(١) .

٢. لقد حكم الله تعالى على السارق والسارقة بقطع الأيدي حيث قال:( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) ( المائدة: ٣٨ ).

وقد اختلفت الاُمّة في مقدار القطع وموضع اليد :

فمن قائل: إنّ القطع من اُصول الأصابع دون الكفّ وترك الإبهام، كما عليه الإماميّة وجماعة من السلف.

ومن قائل: إنّ القطع من الكوع، وهو المفصل بين الكفّ والذراع، كما عليه أبو حنيفة ومالك والشافعيّ.

ومن قائل: إنّ القطع من المنكب كما عليه الخوارج(٢) .

٣. أمر الله سبحانه الورثة بإعطاء السدس للكلالة في قوله سبحانه:( وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ) ( النساء: ١٢ ).

وفي الوقت نفسه يحكم سبحانه بأعطاء الكلالة النصف أو الثلثين كما قال:( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ) ( النساء: ١٧٦ ).

فما هو الحل وكيف الجمع بين هاتين الآيتين ؟

لا شكّ أنّه لم يكن ثمة إبهام في مورد هاتين الآيتين بل حدث الإبهام في ذلك فيما بعد.

ألا يدلّ هذا على ضرورة وجود الإمام، الذي يرفع الستار عن الوجه الحقّ بما

__________________

(١) وممّن أقرّ بالحقيقة وأنّ مدلولها يوافق مذهب الإماميّة، ابن حزم الظاهريّ في كتابه المحلّى، والفخر الرازيّ في تفسيره والحلبيّ في كتاب منية المتملّي في شرح غنية المصلّي فلاحظ المحلّى ٣: ٥٤، لاحظ المسألة (٢٠٠) فإنّه أدّى حقّ المقال فيها، ومفاتيح الغيب ١١: ١٦١ ( طبع دار الكتب العلمية ).

(٢) راجع الخلاف للطوسيّ ( كتاب السرقة ): ١٨٤.

١٢٩

عنده من علوم مستودعة.

ولهذا أيضاً عمد علماء الإسلام إلى تأليف كتاب حول شأن نزول الآيات، كالواحديّ وغيره، جمعوا فيها ما عثروا عليه من وقائع وأحاديث في هذا السبيل.

على أنّ بعض الآيات ما لم يضّم إليها، ما ورد حولها من شأن النزول لكانت غير واضحة المقصود، وإليك نماذج من ذلك :

١. قوله سبحانه:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( البقرة: ١٨٩ ).

فيقال، أي مناسبة بين السؤال عن الأهلّة والإجابة عنها بأنّها مواقيت للناس وبين قوله:( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا ) وعلى فرض وضوح المناسبة، ماذا يقصد القرآن من هذا الدستور( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) ؟ أليس هذا توضيحاً للواضح ؟ ولكن بالمراجعة إلى ما ورد حوله يظهر الجواب عن كلا السؤالين.

٢. قوله سبحانه:( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) ( النمل: ٨٢ ).

فما هذه الدابة التي تخرج من الأرض، وكيف تكلمهم ومع من تتكلم ؟.

٣. وقوله سبحانه:( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إلّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( التوبة: ١١٨ ).

إلى غير ذلك من هذه الآيات التي تتضح الحقيقة فيها بالمراجعة إلى ما حولها من الأحاديث الصحيحة.

هذا هو مجمل القول في علّة احتياج القرآن إلى مبيّن، وللوقوف على تفصيله لابدّ من بسط الكلام والتوسع في الحديث، وقد ألفّنا في ذلك رسالةً خاصّة.

١٣٠

إنّ إيقاف الاُمّة على مقاصد الكلام الإلهيّ، من دون زيادة أو نقصان، ومن دون تحريف أو تزييف، ومن دون جهل أو شطط يحتاج إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من يتحلى بمثل ما يتحلى به النبيّ من كفاءات علمية ومؤهلات فكريّة ويكون مضافاً إلى ذلك عيبةً لعلمه، وأميناً على سره، ومؤدّباً بتأديبه، وناشئاً على ضوء تربيته، حفاطاً على خطّ الرسالة من الشذوذ، وصيانةً للفكر الإسلاميّ من الانحراف، وصوناً للاُمّة من الوقوع في متاهات الحيرة والضلال والأخذ بالأهواء والأضاليل.

لقد كان من المتعيّن على الله بحكم الضرورة والعقل، وانطلاقاً من الاعتبارات المذكورة، أن يقرن كتابه بهاد يوضح خصوصياته، ويبيّن أبعاده، ويكشف عن معالمه، ليؤوب إليه المسلمون عند الحاجة، وترجع إليه الاُمّة عند الضرورة ويكون المرجع الصادق الأمين لمعرفة القرآن حتّى يتحقّق بذلك غرض الرسالة الإلهيّة، وهو الإرشاد والهداية، ودفع الاختلاف والغواية الناشئة من التفسيرات الشخصيّة العفويّة للقرآن الكريم.

إنّ ترك أمر الاُمّة وعدم نصب من يقدر ـ فيما يقدر ـ على هذه المهمّة القرآنيّة الخطيرة على ضوء ما استودع عنده النبيّ من معارف وعلوم إلهيّة قرآنيّة يؤدّي إلى اختلاف الاُمّة في الرأي والتفسير، وهو بدوره يؤدّي لا محالة إلى ظهور الفرق والمذاهب المختلفة الشاذّة كما يشهد بذلك تأريخ الاُمّة الإسلاميّة.

يقول منصور بن حازم، قلت لأبي عبد الله ( جعفر بن محمّد الصادق )عليه‌السلام :

إنّ الله أجلّ وأكرم من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون بالله.

قال: « صدقت ».

قلت: إنّ من عرف أنّ له ربّاً فينبغي له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضىً وسخطاً، وأنّه لا يعرف رضاه وسخطه إلّا بوحي أو رسول، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنّهم الحجّة، وأنّ لهم الطاعة المفترضة، وقلت للناس: تعلمون أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان هو الحجّة من الله على خلقه ؟ قالوا: بلى، قلت: فحين

١٣١

مضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من كان الحجّة على خلقه ؟ فقالوا: القرآن، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجّيء والقدريّ والزنديق الذي لا يؤمن به حتّى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّةً إلّا بقيّم، فما قال فيه من شيء كان حقاً، فقلت لهم: من قيّم القرآن ؟(١) فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم، وعمر يعلم، وحذيفة يعلم، قلت: كلّه ؟ قالوا: لا، فلم أجد أحداً يقال أنّه يعرف ذلك كلّه إلّا عليّاًعليه‌السلام وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: أنا أدري، فأشهد أنّ عليّاًعليه‌السلام كان قيّم القرآن، وكانت طاعته مفترضةً، وكان الحجّة على الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ ما قال في القرآن فهو حقّ.

فقال ( الإمام الصادق ): « رحمك الله »(٢) .

كما ورد شاميّ على الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام فقال له: « كلّم هذا الغلام »، يعني هشام بن الحكم، فقال: نعم، ثمّ دار بينهم حديث فقال الغلام للشاميّ: أقام ربّك للناس حجّةً ودليلاً كيلا يتشتتوا أو يختلفوا، يتألّفهم ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربّهم.

قال: فمن هو ؟

قال: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال هشام: فبعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قال: الكتاب والسنّة.

قال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنّة في رفع الاختلاف عنّا ؟

قال الشاميّ: نعم.

قال: فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياّك ؟

__________________

(١) أي من يقوم بأمر القرآن ويعرف ظاهره وباطنه ومجمله ومأوّله ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه بوحي إلهيّ أو بإلهام رباني، أو بتعلم نبويّ ( راجع مرآة العقول ).

(٢) الكافي ١: ١٦٨ ـ ١٦٩.

١٣٢

قال: فسكت الشاميّ.

فقال أبو عبد الله للشاميّ: « مالك لا تتكلم ؟ ».

قال الشاميّ: إن قلت: لم نختلف كذبت، وإن قلت: إنّ الكتاب والسنّة يرفعان عنّا الاختلاف أبطلت، لأنهّما يحتملان الوجوه، وإن قلت: قد اختلفنا وكلّ واحد منّا يدّعي الحقّ، فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنّة إلّا أنّ لي عليه هذه الحجّة(١) .

أجل، لابدّ من قائم بأمر القرآن وهاد للاُمّة إلى مقاصده وحقائقه، لكي لا تضلّ الاُمّة ولا تشذّ عن صراطه المستقيم.

وهذا الهادي الذي يجب أن يقرن الله به كتابه هو من عناه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله الذي تواتر نقله بين السنّة والشيعة.

فقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله وأهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض »(٢) .

وروي هكذا أيضاً: « إنّي قد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: الثّقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، إلّا وأنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض »(٣) .

فقد صرح النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بعدم افتراق الكتاب والعترة، وهذا دليل على علمهم بالكتاب علماً وافياً وعدم مخالفتهم له قولاً وعملاً.

كما أنّه جعلهما خليفتين بعده، وذلك يقتضي، وجوب التمسك بهم كالقرآن

__________________

(١) الكافي ١: ١٧٢.

(٢ و ٣) رواه أحمد بن حنبل في مسنده ٥: ١٨٢ و ١٨٩، والحاكم في مستدركه ٣: ١٠٩، ومسلم في صحيحه ٧: ١٢٢، والترمذيّ في سننه ٢: ٣٠٧، والدارميّ في سننه ٢: ٤٣٢، والنسائيّ في خصائصه: ٣٠، وابن سعد في طبقاته ٤: ٨، والجزريّ في اسد الغابة ٢: ١٢، وغيرها من كتب المسانيد والتفاسير والسير والتواريخ واللغة من الفريقين.

وقد أفرد دار التقريب رسالةً ذكر فيها مسانيد الحديث ومتونه ونشره عام ١٣٧٥ ه‍.

١٣٣

ولزوم اتّباعهم على الإطلاق لعلمهم بالكتاب وأسراره وبمصالح الاُمّة واحتياجاتها المتعلقة بالقرآن.

وهو من حيث المجموع، يدلّ على حاكميّة العترة النبويّة وسلطتهم وولايتهم على الناس بعد الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

* * *

٣. الفراغ في مجال تكميل الاُمّة روحياً

إنّ نظرةً دقيقةً إلى الكون، تهدينا إلى أنّ الله خلق كلّ شيء لهدف معيّن هو غاية كماله، وعلّته الغائيّة، وقد زوده بكلّ ما يبلّغه إلى ذلك الكمال، ويوصله إلى تلك الغاية المنشودة.

ولم يكن « الإنسان » بمستثنى من هذه القاعدة الكلية الكونيّة، فقد زوده الله تعالى ـ بعد أن أفاض عليه الوجود ـ بكل ما يوصله إلى كماله الماديّ

ولم يكن معقولاً أن يهمل الله تكامل الإنسان في الجانب المعنويّ، وهو الذي أراد له الكمال المادّيّ وهيّأ له أسبابه، وقيّض وسائله.

ولمّا كان تكامل الإنسان في الجانبين: المادّيّ والمعنويّ لا يمكن إلّا في ظلّ الهداية الإلهيّة خاصّةً، وكانت الهداية فرع الإحاطة بما في الشيء من إمكانات وخصوصيّات وأجهزة وحاجات، وليس أحد أعرف بالإنسان من خالقه فهو القادر على هدايته، وتوجيهه، نحو التكامل والصعود إلى كماله المطلوب.

من هنّا تطلّب الأمر إرسال الرسل إلى البشر ليضيئوا للبشريّة طريق الرقيّ والتقدّم، بالتزكية والتعليم والتربية، ويساعدوها على تجاوز العقبات والعراقيل، ليبلغوا بها إلى الكمال الذي أراده الله لها.

وقد قام انبياء الله ورسله الكرام ـ بكلّ ما في مقدورهم ووسعهم ـ بهداية البشريّة على مدار الزمن، وحقّقوا من النجاحات والنتائج العظيمة ما غيّر وجه التاريخ البشريّ ،

١٣٤

وكان منشأ الحضارات الإنسانيّة العظمى، ومنطلقاً للمدنيّات الخالدة.

لقد كان دور الأنبياء والرسل في تكميل البشريّة معنويّاً وروحيّاً، دوراً أساسيّاً وعظيماً، بحيث لولاه لبقيت البشريّة في ظلام دامس من التخلّفات الفكريّة والجاهليّات المقيتة.

ولقد كان هذا الدور منطقيّاً وطبيعيّاً، فالبشريّة بحكم ما تتنازعها من أهواء ومطامع، ويكتنفها من جهل بالحقّ والعدل، لا يمكنها بنفسها أن تشقّ طريقها نحو التكامل المنشود فكم من مرّة ابتعدت البشريّة عن العناية الربانيّة والهدايّة الإلهيّة، فسقطت في الحضيض، ونزلت إلى مستوى الطبيعة البهيميّة وعادت كالأنعام بل أضلّ.

ولقد أشار الإمام السجّاد زين العابدين عليّ بن الحسينعليه‌السلام إلى حاجة البشريّة إلى الهدايّة الإلهيّة، وأثر هذه الهداية في تكامل البشريّة سلباً وإيجاباً، إذ قال في دعائه الأوّل في الصحيفة السجاديّة: « الحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة لتصرّفوا في مننه فلم يحمدوه وتوسّعوا في رزقه فلم يشكروه، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانيّة إلى حدّ البهيميّة، فكانوا كما وصف في محكم كتابه( إِنْ هُمْ إلّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) »(١) .

ولقد كان إيصال هذه الهداية الإلهيّة التكميليّة الضروريّة إلى البشر غير ميسور إلّا عن طريق إرسال الرسل وبعث الأنبياء الأصفياء الهداة.

إنّ دراسةً سريعةً خاطفةً لحالة العالم الإنسانيّ، وخاصّة حالة المجتمع العربيّ الساكن في الجزيرة العربية قبيل الإسلام، وما كان يعاني منه الإنسان من تخلف وتأخّر وسقوط، وما تحقق له من تقدّم ورقيّ واعتلاء في جميع الأبعاد الأخلاقيّة والفكريّة والإنسانيّة بفضل الدعوة المحمديّة، والجهود التي بذلها صاحب هذه الدعوة المباركة ،

__________________

(١) الصحيفة السجادية: الدعاء الأوّل.

١٣٥

وبفضل ما قام به من عناية ورعاية وإراءة الطريق الصحيح، يكشف عن مدّعى تأثير الهداية الإلهيّة في تكامل المجتمع الإنسانيّ.

إنّ توقف تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ على إرسال الرسل، وهداية الأنبياء ورعايتهم، هو نفسه يستدعي، وجود الخلف المعصوم العارف بالدين، للنبيّ، ليواصل دفع المجتمع الإسلاميّ في طريق الكمال، ويحفظه من الانقلاب على الأعقاب، والتقهقر إلى الوراء، كيف لا، ووجود الإمام المعصوم العارف بأسرار الشريعة ومعارف الدين، ضمان لتكامل المجتمع، وخطوة كبيرة في سبيل إرتقائه الروحيّ والمعنويّ.

فهل يسوغ لله سبحانه أن يهمل هذا العامل البنّاء الهادي للبشريّة إلى ذروة الكمال ؟.

إنّ الله سبحانه جهّز الإنسان بأجهزة ضروريّة وغير ضروريّة، ليوصله إلى الكمال المطلوب حتّى أنّه تعالى قد زودّه بإنبات الشعر على أشفار عينيه وحاجبيه وتقعير الأخمص من القدمين، لكي تكون حياته لذيذة غير متعبة، فهل تكون حاجته إلى هذه الاُمور أشد من حاجته إلى الإمام المعصوم الذي يضمن كماله المعنوي ؟(١) .

وما أجمل ما قاله أئمة أهل البيت: في فلسفة وجود الإمام المعصوم المنصوب من جانب الله سبحانه، ومدى تأثيره في تكامل الاُمّة :

أ ـ يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام : « إنّ الأرض لا تخلو إلّا وفيها إمام كي ما إذا زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإذا نقصوا شيئاً أتمّه لهم »(٢) .

ب ـ روى أبو بصير عن الإمام الصادق [ جعفر بن محمّد ] والإمام الباقر [ محمّد بن عليّ ]عليهما‌السلام : « إنّ الله لم يدع الأرض بغير عالم ولولا ذلك لم يعرف الحقّ من الباطل »(٣) .

__________________

(١) هذا الاستدلال مأخوذ من كلام الشيخ الرئيس ابن سينا في إلهيّات الشفا وكتاب النجاة ( له أيضاً ): ٣٠٤.

(٢ و ٣) الكافي ١: ١٧٨.

١٣٦

ج ـ قال الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام في نهج البلاغة: « أللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مغموراً، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته »(١) .

وفي حوار طويل جرى بين هشام بن الحكم وهو شاب وبين عمرو بن عبيد العالم المعتزليّ البصريّ، أشار إلى الفائدة المعنويّة الكبرى لوجود الإمام المعصوم فقال هشام: أيّها العالم إنّي رجل غريب أتأذن لي في مسألة ؟

فقال: نعم.

فقال: ألك عين ؟

قال: نعم.

قال: فما تصنع بها ؟

فقال: أرى بها الألوان والأشخاص.

قال: فلك أنف ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: أشمّ به الرائحة.

قال: ألك فم ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: أذوق به الطعام.

قال: فلك اُذن ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

__________________

(١) نهج البلاغة: قصار الكلمات.

١٣٧

فقال: أسمع به.

قال: ألك قلب ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: اميّز به كلّما ورد على هذه الجوارح والحواس.

قال: أو ليس في هذه الجوارح غنىً عن القلب ؟

فقال: لا.

قال: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ؟

فقال: يا بنيّ إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو رأته، أو ذاقته، أو سمعته، ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشكّ.

قال هشام: فإنّما أقام الله القلب لشكّ الجوارح [ أي لضبطها ] ؟

قال: نعم.

قال: لا بدّ من القلب وإلاّ لم تستيقن الجوارح ؟

قال: نعم.

قال: يا أبا مروان، فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها ( إماماً ) يصحّح لها الصحيح ويتيّقن به ما شكّ فيه، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لايقيم لهم ( إماماً )يردون إليه شكّهم وحيرتهم ويقيم لك ( إماماً ) لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك ؟!

قال هشام: فسكت ولم يقل لي شيئاً(١) .

وغير خفي على القارئ النابه، أنّ لزوم الحاجة إلى الإمام المعصوم ليس بمعنى تعطيل أثر الكتاب والسنّة وإنكار قدرتهما على حلّ الكثير من المشكلات والاختلافات، بالنسبة إلى من يرجع إليهما بنيّة صادقة، وتجرّد عن الآراء المسبقة.

__________________

(١) الكافي ١: ١٧٠.

١٣٨

غير أنّ هناك مسائل واُموراً عويصةً ـ خصوصاً فيما يرجع إلى المبدأ والمعاد وإلى فهم كتاب الله وسنّة رسوله ـ فلا مناص للاُمّة من وجود إمام عارف معصوم يخلِّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقوم مقامه في تكميل المجتمع الإسلاميّ في جميع شؤونه.

وصفوة القول: أنّ تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ كما أنّه منوط ببعثة الأنبياء ووجود الرسل، فهو كذلك منوط بوجود الإمام المعصوم الذي يتسنى له بما اوتي من علم وعصمة وملكات عالية وكفاءات قياديّة أن يوصل هداية المجتمع الإسلاميّ إلى ذرى الكمال الروحيّ والارتقاء المعنويّ بلا تعثّر ولا إبطاء، ولا تقهقر ولا تراجع.

ومن المعلوم، أنّ الاُمّة لا تقدر على معرفة ذاك الإمام، إلّا بتنصيب من الله سبحانه وتعيينه.

٤. الفراغ في مجال الرد على الأسئلة والشبهات

لقد تعرض الإسلام منذ بزوغه لأعنف الحملات التشكيكية، وكان هدفاً لسهام الشبهات والتساؤلات العويصة والمريبة، التي كان يثيرها اعداء الإسلام والنبيّ والمسلمين من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين.

وقد قام الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته بردّ هذه الشبهات وتبديد تلك الشكوك وصدّ الحملات التشكيكيّة بحزم فريد، وتفوّق عليها بنجاح كبير مستعيناً بالوحي الإلهيّ.

وقد كانت هذه الشبهات تتراوح بين التشكيك في أصل وجود الله أو توحيده أو صدق الرسالة الإسلاميّة أو المعاد والحشر، وغيرها من الاُمور الاعتقاديّة وبعض الاُمور العمليّة.

ولا شكّ، أنّ هذه الحملات كانت تجد اذناً صاغيةً بين بعض المسلمين، وتوجب بعض التزعزع في مواقفهم إلّا أنّها كانت تتبدّد وينعدم أثرها بما كان يقوم به الرسول الأكرم المعلم من ردّ ودفع قاطع وحاسم.

١٣٩

نماذج من الأسئلة العويصة

عندما راجعت قريش يهود يثرب لمعرفة صدق ما يدّعيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم اليهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ، فإن لم يخبر بها فالرجل متقوِّل فروا فيه رأيكم :

١. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم ؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجب.

٢. وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه ؟

٣. وسلوه عن الروح ما هي ؟

فأقبلوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وطرحوا عليه الأسئلة المذكورة، فأخبرهم عن أجوبتها، وأخبرهم بأنّ الأوّل، هم أصحاب الكهف الذين ذكرهم القرآن في سورة الكهف، والثاني، هو ذو القرنين الذي ذكره الله في سورة الكهف أيضاً، وأمّا الثالث فقد أوكل علمه إلى الله بأمره حيث قال:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلاً ) ( الإسراء: ٨٥ )، وقد أخبر بكل ذلك بما أوحى الله تعالى إليه(١) .

كما قدم جماعة من كبار النصارى وعلمائهم إلى المدينة لمحاججة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فاستدلوا لاعتقادهم في المسيحعليه‌السلام بكونه ولداً لله، بأنّه لم يكن له أب يعلم وقد تكلّم في المهد، وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله، فأجابهم بما أوحى إليه الله سبحانه بأنّ أمر عيسى ليس أغرب من أمر آدم الذي لم يكن له لا أب ولا أمّ. فهو أعجب من عيسى الذي ولد من أمّ حيث قال الله في هذا الصدد:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( آل عمران: ٥٩ )(٢) .

وعن أمير المؤمنين عليٍّعليه‌السلام أنّه اجتمع يوماً عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أهل خمسة أديان: اليهود والنصارى والثنويّة والدهريّة ومشركو العرب.

ثمّ وجّه كلّ طائفة من هذه الطوائف أسئلة عويصة ومشكلة إلى النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١: ٣٠٠ و ٥٧٥.

(٢) سيرة ابن هشام ١: ٣٠٠ و ٥٧٥.

١٤٠

والدماغ.

وبتعبيرٍ دقيقٍ: عندنا أنّها من آثار الروح بتوسّط المخّ.

وثبت علميّاً - أيضاً - أنّ للقلب حركة قبل تمام أربعة أشهر بكثير، وتُسمع دقات قلب الجنين بالآلات الحديثة الطبّيّة، فليس الحياة الإنسانيّة تدور مدار حركة القلب حدوثاً، ولا بعد في أن لا تدور مدارها في البقاء والاستدامة، فكما تبدأ حركة القلب قبل الحياة الإنسانيّة، يمكن بقاءها بعد نهايتها، خلافاً للأطبّاء المتقدِّمين.

وحينئذٍ هل يصح أنْ نذهب إلى قول الأطبّاء الجدد بأنّ موت جذع المخِّ هو علامة انقطاع الروح عن البدن ؟

وهذا يتوقّف على أمرين:

١ - إثبات انقطاع الروح عند موته نهائيّاً وكليّاً عن البدن، ولا يكفي ذهاب الوعي والحسّ وغيرهما، إذ لعلّه لفساد الآلة - وهو المخّ - دون انقطاع الروح، كذهاب البصر بفساد العين، فلا تبصر الروح لكن عدم إبصارها لا يكشف عن انقطاع علاقتها عن البدن، فاحتمال بقاء الروح واتّصاله ببعض البدن - ولو ضعيفاً وفي الجملة ولدقائق قصيرة - لا نافي له، والعلوم التجربية - ولو في المرحلة الراهنة - قاصرة عن نفي الاحتمال المذكور، كما أنّ العقل عاجز عنه - أيضاً - والدين ساكت عنه.

٢ - إثبات أنّ المخّ غير قابل للتعويض، ولا للإصلاح عند خرابه، بخلاف القلب، فإنّه قابلٌ للتعويض حتّى بقلبٍ بلاستيكي.

لكنّ عدم تيسّر تعويضه وإصلاحه، لعلّه لقصور الطبّ في دوره الحاضر، لا لعدم إمكان التعويض أو الإصلاح في نفسه، وما أدراك ما هو تطوّر الطبّ في مستقبلٍ بعيدٍ أو قريب(١) ؟

فحصول الموت وحدوثه

___________________

(١) ويمكن أن يُدفع هذا الإيراد بما سيجيء في الفصل الرابع، في جواب الاعتراض الرابع، فتأمّل.

١٤١

بسكون القلب وإن لم يدلّ عليه دليل، بل هو مرجوح لكنّه بموت جذع المخّ - أيضاً - لم يصل إلى حدّ اليقين، وإنْ كان راجحاً.

ولو سألتني عن الحقّ، ف أقول لك: إنّ لحظة بدء الحياة الإنسانيّة(١) ، ولحظة نهايتها لم تثبتا بدليلٍ قاطعٍ، فإنّ تعلّق الروح وانقطاعها غير محسوسَين، ولا مُدرَكين للعقل، ولا منصوصَين بنصٍّ قاطعٍ دينيّ.

ثمرة القولين:

ربّما يموت المخّ - ونعني به جذعه لا قشره - والقلب ينبض، وهذا على قسمين:

الأوّل: ينبض القلب تلقائيّاً.

الثاني: ينبض بآلةٍ صناعيّةٍ بحيث لولاها لسكن القلب بالمرّة.

لا يبعد الحكم على صاحب المخّ المذكور بالموت على الفرض الثاني، فإنّ قلبه كمخّه مات هو ميّت، وتحريك قلبه بآلة خارجيّة لا تؤثِّر في إعادة حياته أو إدامتها، وفي الفرض الأوّل، الحكم بموته مبنيٌّ على القولين المذكورين عند الأطبّاء قديماً وحديثاً.

وستعرف أنّ للميّت أحكاماً كثيرة يختلف ترتيبها في هذه الفاصلة(٢) ، فللبحث المذكور ثمرات كثيرة شرعيّة، أهمّها عند الأطبّاء: نزع

___________________

(١) تقدّم أنّ ما دلّ على تعلّق الروح بعد تمام أربعة أشهر بالجنين، غير خالٍ عن النقاش والخلل.

(٢) يقول طبيبٌ: عند توقّف الدورة الدمويّة، إذا كان ضغط الدم عند المريض طبيعيّاً، وهو في سكتةٍ قلبيّةٍ مفاجِئةٍ، فإمكانيّة أخذ عضوٍ لكي يُزرع لآخر لا تتجاوز وقتاً كبيراً من بين ١٥ إلى ٢٠ دقيقة. ( ص٥٧٢ الحياة الإنسانيّة بدايتها ونهايتها ).

ويقول طبيبٌ آخر:... ولكن الآن وبواسطة التطوّرات الطبّيّة والعلوم الحيويّة

=

١٤٢

القلب لزرعه في بدن غيره في هذه الفاصلة العابرة، إذ تأخيره ربّما يُفسد القلب فلا يصلح للزرع.

وإمّا الكِلية، فإن أوصى صاحبها بنزعها مطلقاً، ومن دون تحديدٍ بزمانٍ ما بعد الموت، أو صرّح به بالفعل، فيجوز نزعه في تلك الفاصلة، إذا لم يكن له خطر زائد على حياته القصيرة، وإمّا إن علّقه على موته، فحاله حال القلب في الجواز، وعدمه على القولين.

توضيح وتقييم:

أقول : لتوضيح محلّ البحث نذكر صوراً تخطر بالبال عاجلاً:

( الأُولى ): موت تمام المخّ، أي جذعه وقشرته وتوقّف القلب.

( الثانية ): موت تمام المخّ، وحركة القلب صناعيّةٌ بعد توقّفه.

( الثالثة ): موت تمام المخّ مع حركة القلب تلقائيّاً.

( الرابعة ): حركة القلب صناعيّة بعد توقّفه، ثمّ تجديد عمل المخّ بعد موته.

___________________

=

أمكن تغذية القلب والرئة والأعضاء الأُخرى، بوسائل صناعيّة لمدّة معيّنة أقصاها أسبوعان، ولو أنّ المخّ قد سبق وإن مات، وفي نظري أنّ الإنسان كما نعرفه أيضاً قد مات، وهذه التطوّرات - مع الأسف - خلقت اختلافاً في تحديد وقت الموت... هل هو وقوف القلب، كما في التعريف الطبّي القديم ؟

أو وقوف عمل المخّ، كما في التعريف الجديد، والذي يؤدّي إلى وقوف أعمال الأعضاء الأُخرى إذا لم نجد الوسائل الصناعيّة ؟

وقد يصل الفرق في وقت الموت إلى أُسبوعين بسبب اختلاف التعريف، انتهى.

أقول: فيه نظر يظهر ممّا ذكرنا في المتن آنفاً.

١٤٣

( الخامسة ): موت المخّ وتوقّف القلب مع حياة بعض أعضاء البدن.

( السادسة ): موت جذع قشرة المخّ وحياة جذع المخّ مع الصورة المتقدِّمة.

أقول : وفي الصورة الأُولى موت الفرد متحقّق عند جميع الأطبّاء القدامى والجدد.

وليكن في الثانية - أيضاً - كذلك عندهم، إذ لا أثر للتحريك الصناعي المذكور.

والثالثة: هي محلُّ الخلاف بين القدماء والمتأخِّرين من الأطبّاء، فعلى قول الأوّلين يُحكم بحياة الفرد، وعلى قول الآخرين بموته.

وفي الرابعة: لا مجوّز للحكم بموت الفرد، بل هو حيّ بحياة إنسانيّة.

وفي الخامسة: يحكمون بموته، فلاحظ أقسام الحياة في الفصل الرابع الآتي ذكره عن قريب.

وفي السادسة: احتمالان:

الأوّل: أنّ موت قشرة المخّ يستلزم بطلان الحياة الإنسانيّة، إن صحّ ما ادّعى بعض الأطبّاء من أنّ قشرة المخّ هي التي تميّز الإنسان عن الحيوان، بما رزقه الله من مَلَكَات إنسانيّة، وقال: إنّ جذع المخّ هو الحدّ الأدنى اللاّزم للحياة. ولا عبرة بالحياة غير الإنسانيّة، كما يأتي في الجواب عن الاعتراض السابع في الفصل الرابع.

الثاني: أنّ بقاء الحياة في جذع المخّ تكشف عن بقاء علقة الروح الإنسانيّة بالبدن، وفقدان الوعي وسائر المَلَكَات لفساد الآلة والعضو، فلا يكشف عن بطلان الحياة الإنسانيّة، ولا اقل من الشكّ في ذلك فيعامل معه معاملة الإنسان الحيّ استصحاباً.

وبعد، فإنّ تحديد انقطاع علاقة الروح بالبدن بالدقّة في الفروض المذكورة - سوى الأوّلَين - غير واضح تماماً، والله العالم.

١٤٤

( ٢ )

موضع المخّ(١) من وجود الإنسان

الخليّة وإن تمثّل حياةً إلاّ أنّ حياة الغالبيّة العظمى من خلايا جسد الإنسان، وكذلك أعضائه التي يحتويها هذا الجسد، لها حياتها المستقلّة عن حياة الإنسان كفرد ؛ بدليل أنّنا يمكن أنْ نأخذ بعض خلايا من جسم الإنسان لزراعتها ودراستها بالمعمل، ولا تفقد حياتها بخروجها من جسم الإنسان، ومن الأمثلة الأُخرى استئصال كلية حيّة من جسم إنسان لزراعتها في جسم إنسانٍ آخر، إنّها لا تفقد حياتها، ولا تكسب حياةً جديدة من الجسد المنقولة إليه، بل تحيا بحياتها الأُولى طالما توافرت لها إمكانيّة الغذاء المناسب.

فالقلب والرئتان والكبد والكلى يمكن استئصالها واستبدالها بأعضاء أُخرى إنسانيّة، أو حتّى بلاستيكية، مع استمراريّة الذات الإنسانيّة وعدم تغيّرها إلاّ المخّ.

قد نظنّ الآن أنّ النفس الإنسانيّة تكمن في مخّ الإنسان ؛ لأنّه مكان استقبال جميع الحواسّ من: سمعٍ وبصرٍ وشمٍّ وذوقٍ ولمسٍ، إنّه مكان الاستقبال الوحيد من العالم الخارجي، كما أنّه يحتوي على مخازن الذاكرة من قراءات وسمع وبصر وغيرها والخبرات السابقة ومكان التفكير والابتكار، وبه تمّ إرساء الطباع والعادات والمثل المكتَسبة والمميِّزة لكلّ إنسانٍ، ومكان تواجد الغرائز الموروثة، كما أنّه مصدر الأفعال المترتّبة على ما

___________________

(١) الدماغ يبدأ تكوينه بعد تلقيح البويضة بأسابيع، ويكتمل في الأُسبوع الثاني عشر. ص١٢٧ رؤية إسلاميّة لزراعة بعض الأعضاء البشريّة.

١٤٥

يستقبله من معلومات.

ولو نظرنا بتكبيرٍ مجهريٍّ داخل المخّ ؛ لوجدناه يتكوّن من ملايين الخلايا العصبيّة، التي تشبه البطّاريّات الكهربائيّة الصغيرة، يترجم فيها كلّ شيءٍ من: أحاسيس وأفكار ورغبات إلى ومضات كهربائيّة، تحملها أسلاكٌ دقيقة معزولة تنتهي إلى أطرافٍ دقيقةٍ تترجم هذه الومضات السابقة إلى طاقات كيميائيّة، تقوم بدورها بتنبيه خلايا أُخرى، وهكذا تستقبل الأحاسيس من سمعيّة وبصريّة، وخلافه وتنفّذ المهام من فكر وأفعال.

وهنا يجب أنْ نلاحظ أنّ جميع الأحاسيس الواردة للمخّ، وأيضاً جميع الإشارات الصادرة عنه لتنفيذ المهام، تصل منها للعلم إلى مكان معيّن للمخّ يكون باستمرار على علمٍ تامٍّ بمجريات الأُمور، وذلك هو جذع المخّ، وعلى الأدق: نسيج معيّن داخله يُسمّى النسيج الشبكي.

وهذا الجزء له تأثيرٌ كبيرٌ على أجزاء المخّ الأُخرى، وقد أثبتت البحوث الكثيرة أنّ هذا النسيج الشبكي هو المسؤول عن وَعي الإنسان(١) ، وأنّه إذا فقد الإنسان وعيه لسبب أو آخر فإنّ ذلك يحدث ؛ لأنّ هذا النسيج قد تعرض لضررٍ ما، وذلك كالإصابة في الحوادث، أو بالتأثير من السموم أو الأمراض.

ويدخل في ذلك التخدير أو تعاطي العقاقير من منوِّمةٍ ومهدِّئةٍ مهلوسةٍ، وهو المسؤول عن نوم الإنسان ويقظته... ويبدو لنا الآن أنّ هذا

___________________

(١) قيل: يمكن أنْ يتلف النصفان الكرويان ويستمرّ الإنسان في الحياة ؛ لأنّ جذع المخّ هو الذي ينظّم التنفّس، وبالتالي يستمرّ المريض أو المصاب في الحياة، وإنّما ذهاب النصفين الكرويين يعني: فقده للإحساس وللحركة وللفهم وللكلام وللسمع، ولكنّه كائنٌ حيّ بالحياة الجسديّة، ص٧٧ رؤية إسلاميّة لزراعة بعض الأعضاء البشريّة.

١٤٦

هو في الغالب مكمن النفس الإنسانيّة(١) .

وعند توقّف القلب عن العمل نهائيّاً لأيّ سببٍ من الأسباب، يتبعه فوراً فقدان الوعي وتوقّف التنفّس، وهما وظيفتان من وظائف المخّ الذي لا يتحمّل توقّف دورته الدمويّة إلاّ لثوان معدودة، ولو أنّ الخلايا تظلّ حيّةً لبضع دقائق، إلاّ أنّها تتوقّف في أثنائها عن العمل(٢) .

وأمّا العضلات والعِظام والجلد، فقد تستطيع الحياة لمدّة ساعات بعد توقّف القلب والدورة الدمويّة. وقد يمكن أحياناً أن يعود القلب للعمل، ويبدأ التنفّس الذاتي في العمل من جديد ( في الدقائق اليسيرة ) ويعود الإنسان إلى وعيه، ففي هذه الفترة الحرجة التي يُعتبر الإنسان فيها ميّتاً بكلّ المقاييس الإكلينيكيّة الطبيّة، ولكنّه بالفعل لا يكون ميّتاً ؛ لأنّ مخّه ومن ثمّ معظم أعضاء الجسم لا زالت حيّةً.

وقد يعود القلب والتنفّس للعمل بعد فترة الدقائق الأربع، بعددٍ من الثواني ولكنّ قشرة المخّ الحسّاسة قد تكون تلفت جزئيّاً أو كليّاً على حين تستمرّ أجزاء المخّ الأُخرى، ومنها جذع المخّ في العمل، وقد يحدث هذا التلف نفسه نتيجة هبوطٍ شديدٍ في ضغط الدم لفترةٍ طويلةِ حتّى بدون

___________________

(١) وسيأتي توضيح حول كيفيّة تعلّق الروح بالبدن عن قريب، إن شاء الله، ولا عبرة بتعابير مثل الكمون والمكمن وأمثالهما فإنّها غير دقيقة.

(٢) لكن نقلت وكالات الأنباء في الشهر السابع من ١٩٩٦ م: أنّ امرأةً صينيّة توقّف قلبها ٤٥ دقيقة إثر اتّصالها بالبرق، ثمّ رجع قلبها إلى الحركة، واحتيت وقال الأطبّاء: إنّه لم يُرَ لحدّ الآن مَن رجع إلى الحياة بعد توقّف قلبه وجهاز تنفّسه في هذا الوقت الطويل.

ولاحظ أوّل حاشية في الفصل الرابع جواباً لهذه المشكلة، فما ذكرته وكالات الأنباء إنّما يصير مشكلةً إذا علم الأطبّاء توقّف القلب، لا توقّفه عن النبض فقط.

١٤٧

توقّف القلب والتنفّس، وذلك لوصول الغذاء للمخّ بكمّيّات غير كافية في هذه المدّة، وقد يحدث ذلك نتيجة إصابة شديدة غير مميتة للمخّ، ولا علاج حينئذٍ، فخلايا المخّ التي تموت لا يمكن تعويضها.

وفي حالة فقدٍ كاملٍ للوعي يستمرّ هذا الإنسان في حياة جسديّة مدّة حياةٍ كاملة ؛ على هذا الوضع بالرعاية الطبيّة، ويتنفّس ذاتيّاً ؛ لأنّ جذع المخّ سليم، لكن مثل هذه الحياة لا يكون إلاّ داخل مستشفى، وهي بالتأكيد كارثة اقتصادية، مع انعدام الأمل في عودة المريض إلى وعيه، وقد شُوهد مريض كذلك استمرّت حياته ( ١٥ ) عاماً في أُوربا(١) .

وقد يموت المخّ أوّلاً فيؤدّي إلى وفاة الإنسان، حتّى إذا كانت بقيّة الأعضاء الأُخرى، بما في ذلك القلب سليمة، كما في بعض إصابات الرأس الشديدة في حوادث الطرق، أو السقوط من أماكن مرتفعة وغير ذلك، فيموت المخّ بالكامل، أو أساساً جذع المخّ، وطبيعي تبدأ سلسلة الموت في هذه الحالة بفقد الوعي، وتوقّف التنفّس وانقطاع الأُوكسجين عن الدم، إنّ الدورة الدمويّة التي ما تزال تعمل، ينقص فيها الأُوكسجين ويتراكم ثاني أوكسيد الكربون، وبالتدريج تموت بقيّة الأعضاء الأُخرى، ولا يعود المخّ بتزويد الجسم بالأُوكسجين بواسطة أجهزة التنفّس الصناعي، فإنّ خلايا

___________________

(١) إذا قلنا إنّه لسلامة جذع مخّه حيّ ومحكوم بالحياة، لكن لا يبعد أنْ نقول بعدم وجوب حفظه عن الموت ؛ لأنّ هذا الوجوب لم يدل عليه دليلٌ لفظيٌّ نتمسّك بإطلاقه، كما لا يخفى على الخبير المتعمّق في الفقه، ولا يشتبه عليك وجوب حفظ النفس المحترمة بحرمة قتله وبينهما بونٌ بعيدٌ، وعليه، فإذا لم يدفع المال لحفظه - والحال هذه - وقطع الطبيب الآلات الطبّيّة فمات نهائيّاً لا ترجع تبعة موته إلى أحد، فقد أماته الله سبحانه وتعالى، فلاحظ وتأمّل، ولاحظ ما ذكرنا في ج٣ من كتابنا حدود الشريعة، مادّة الحفظ ؛ تعلم أنّ وجوب الحفظ لا يشمل مثل المقام.

١٤٨

المخّ التالفة لا يمكن تعويضها.

والخلاصة: إنّ توقف القلب عن العمل لا يعني بالضرورة الوفاة ( فترة الدقائق الأربع ) كما أنّ استمرار القلب في العمل بعد موت المخّ لا يعني الحياة(١) .

وقال بعضهم: إنّ المخّ يحتمل توقّف القلب أقل من أربع دقائق، فإذا القلب يعود لعمله بعد ذلك بقي المخّ تالفاً، كما أنّ توقّف التنفّس يتبعه توقّف القلب بعد أقل من ذلك(٢) .

وخلاصة ذلك: أنّ موت الإنسان بموت مخّه، وأمّا تحديد وقت وفاة المخّ فهنا أكثر من طريقة له ولكنّ أكثرها دقةً وتحديداً هي أن يُوصَل أي مريض مصاب بإصابة شديدة بالمخّ بأجهزة تخطيط المخّ، أو أجهزة قياس عمل المخّ، أو أجهزة فحص عمل جذع المخّ، فإنّها دقيقة تقوم بتحديد المطلوب(٣) .

___________________

(١) انتخبنا ما في المتن ممّا ذُكر في ص٣٣٤ إلى ص٣٤٢ من الحياة الإنسانيّة بدايتها ونهايتها.

(٢) قيل: يخرج من المخّ عشرات الألياف العصبيّة ( الأعصاب ) من خلال ثقوب في الجمجمة والعمود الفقري، كما أنّ الكثير من الشرايين والأوردة تنقل إليه ومنه الدم اللاّزم لتغذيته، إن الجهاز العصبي المركزي، والمخّ بصفةٍ خاصّةٍ، لا يتحمّل تغييرات فيزيائيّة أو كيميائيّة في المحيط الذي يعيش فيه إلاّ في نطاق محدود جدّاً، فمثلاً:

التغيير في درجات الحرارة بالنسبة لأعضاء أُخرى كالجلد تتحمّل إلى عشر أو عشرين درجة مئويّة صعوداً أو هبوطاً من الدرجة العادية ( ٣٧ ) إلاّ أنّ المخّ لا يتحمّل انخفاضاً أكثر من درجتين وإلاّ ابتدأ عمله في التأثّر، وقد يغيب الإنسان عن وعيه فيما يشبه النوم، وهذا ما حدث لجيوش نابليون عند هجومها على روسيا في الشتاء القارس البرد، وسبب اندحاره وهزيمته. كما أنّ ازدياد درجة حرارة المخّ عن ثلاث درجات قد يسبّب أيضاً فقدان الوعي، وقد يُصاب الإنسان بما يُسمّى ضربة شمس، ص٥٧ وص٥٨ رؤية إسلاميّة لزراعة الأعضاء البشريّة.

(٣) أظنّ آراء الأطبّاء في ذلك مختلفة، وبعضهم لا يطمئن بتحديد المطلوب فلا بُدّ من البحث في ذلك، ولاحظ ما يأتي في ص١٥٥ تجد صدق ما قلنا.

١٤٩

( ٣ )

أيضاً المخّ والقلب

ولمّا كان قرار تشخيص الموت يتبعه إيقاف الأجهزة الصناعيّة، ووقف أجهزة التنفّس يتبعه توقّف القلب، فقد كان من الضروري تمحيص هذه القضيّة ( أي اعتبار موت جذع الدماغ موتاً للمريض ) بصورةٍ أُخرى، فأجريت دراسة استقصائيّة للحالات التي تمّ فيها تشخيص موت الدماغ، ولكنّ الأجهزة لم توقف لسبب من الأسباب، وقد زادت على سبعمئة حالة، وقد ماتت الحالات جميعاً رغم استمرار الأجهزة. هذا وقد توقف القلب فيها بعد ساعات أو أيّام من موت الدماغ، وكان متوسّط المدّة ثلاثة أيّام ونصف إلى أربعة أيّام ونصف يوم، وأقصى مدّة سُجّلت لاستمرار القلب في الدقّ هي أربعة عشر يوماً(١) ... ولم يعش أحد ( من هذه الحالات ٧٠٠)...(٢) .

القلب يمكنه أن يتوقّف عن العمل تماماً بسبب قطع الأُوكسجين عنه، أو قطع وصول الدم الذي يحمل الأُوكسجين إليه، إمّا تلقائيّاً بسبب المرض أو بواسطة الجرّاح أثناء عمليّات القلب المفتوح.

وإذا حدث ذلك وحرارة القلب طبيعيّة ( أي بدون تبريد ) فإنّ القلب يبقى حيّاً، أو قابلاً للحياة لمدّةٍ تتراوح بين ٢٠ إلى ٣٠ دقيقة بدون تلفٍ كبيرٍ، وإذا عاد الأُوكسجين إلى القلب خلال هذه المّدة ( بعودة الدورة الدمويّة

___________________

(١) يتّجه هنا سؤال وهو أنّ اختلاف المدّة من ساعات إلى أربعة عشر يوماً هل لا يكون دليلاً على عدم علّيّة مشخّصة محدّدة من موت جذع المخّ لموت الشخص، فلابُدّ هنا من الانتظار حتّى تشخيص الحلقة المفقودة. فتأمّل فيه.

(٢) ص ٣٥٧ الحياة الإنسانيّة بدايتها ونهايتها.

١٥٠

التاجيّة ) يعود القلب إلى العمل كما كان، وإذا زادت فترة قطع الأُوكسجين يزداد التلف تدريجاً حتّى إذا وصلت المدّة إلى ٩٠ - ١٠٠ دقيقة ( أو أقل ) يفقد القلب قابليّته للحياة.

وأمّا مع التبريد فيحتمل القلب قطع الأُوكسجين ساعات بدون تلف(١) وبالنسبة للمخّ فتوجد ظروف مشابِهة لما ذُكر عن القلب إلاّ أنّ المخّ يفقد قابليّته إذا انقطع عنه الأُوكسجين لمدّة دقائق معدودة ( ٣ - ٥ دقائق ) وحرارته طبيعيّة، ومع التبريد يمكن للمخّ أن يعود للعمل بعد عدّة ساعات من التوقّف إذا عادت إليه الدمويّة الحاملة للأُوكسجين(٢) .

موت القلب ليس موت الفرد:

يمكن ان يتوقّف القلب عن العمل تماماً بصفة موقتة اوبصفة دائمة وتستمر حياة صاحبه بجسده وذكره وعاطفته وحواسه وإدراكه وكل مقومات شخصيته مادامت هناك مضخة بديله تضخ الدم وتسيره عبراً للدورة الدموية، وهذه المضخة يمكن أنْ تكون قلباً عضوياً آخر من إنسان أو حيوان أو تكون آلية(٣) .

موت المخّ موت الفرد:

موت المخّ يؤدّي بالضرورة إلى موت صاحبه. نعم من الممكن أنْ يتوقف المخّ عن العمل جزئيّاً لسبب ما، ثمّ يعود إلى حالته الطبيعيّة ما لم

___________________

(١) ص ٣٨٧ نفس المصدر.

(٢) ص ٣٨٨ نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر، وقيل القلب يتوقّف أحياناً عن النبض، ويظهر كأنّه مات ولكنّه لم يمت، وله قابليّة الحياة. وهنا التفرقة بين سكون القلب والموت، ص٥٢٩ نفس المصدر.

وقيل إنّ القلب كأيّ عضو في الجسم محتاج إلى غذاء وهواء: يعني الأُوكسجين، فإذا توقّفت دورة الدم لأي سببٍ كان يتوقّف عن العمل، ففيه جهاز كهربائي يساعده أو ينظِّم نبضه، ص٥٣٥ نفس المصدر.

١٥١

يفقد الحياة أو القابليّة للحياة تماماً، وأمّا إذا فقد القابليّة للحياة، وانعدمت كلّ المؤشِّرات الكهربائيّة فيه، فلا يمكن إصلاحه بعد ذلك، ولا يمكن للإنسان الحياة بدونه، ولا يوجد للمخّ بديل.

( ٤ )

اعتراضات على هذا القول وأجوبتها

١ - كيف يُحكم بموت إنسانٍ بموت مخّه، وربّما قلبه ما زال ينبض ؟

أُجيب عنه: بأنّ حياة عضوٍ لا يتعارض مع موت صاحبه، فمثلاً الشعر يستمر في النموّ لمدّة ٢٤ ساعة أو أكثر بعد موت صاحبه ودفنه، وبدون أيّ دورةٍ دمويّةٍ جاريةٍ، والقلب العضوي يمكنه أن يستمرّ خارج الجسد منفصلاً عن صاحبه مدّةً، إذا وُفّر له الغذاء والحرارة المناسبة، وفي هذا الأثناء يكون صاحبه قد مات ودُفن، وكذلك كثير من أعضاء الجسد.

وجدير بالذكر هنا أنْ نعلم أنّ الحياة على أقسام:

فمنها الحياة الإنسانيّة الواعية.

ومنها الحياة الجسديّة، وهي الحياة أثناء النوم، وأثناء التخدير وتعاطي السموم في إصابات المخّ، وحالات الغيبوبة وحالات وفاة قشر المخّ، هذه الحياة موجودة وفيها روح(١) .

ومنها الحياة العضويّة، وهي تكون بعد وفاة جذع المخّ، ولا زالت بعض الأعضاء موجودة حيّة. طبعاً ذلك يستدعي وجود تنفّس صناعي.

___________________

(١) نعم الفرق بين القسمين في مجرّد الوعي ونحوه، وأمّا كيفيّة علاقة الروح الإنسانيّة بالجسد في كلٍّ من الحالتين فهي مجهولة عندنا، أو بالأدق: عندي !

١٥٢

ومنها الحياة النسيجيّة.

ومنها الحياة الخلويّة(١) .

فلابُدّ من عدم اشتباه بعضها ببعضٍ آخر.

٢ - ولو أنّه لا يوجد حاليّاً بديل كامل للمخّ فإنّه يوجد بديل لأحد وظائفه، وهو تحريك الجهاز التنفّسي عن طريق آلة التنفّس، ممّا يوفّر الأُوكسجين للقلب وبقيّة الجسد، فيمكن له الاحتفاظ بقابليّتهم للحياة ولو لفترة من الزمان، فلماذا لا تُستعمل آلة التنفّس لفترة غير محدودة ؟

وأُجيب عنه، أوّلاً: بعدم إمكان الحفاظ على هذه الحالة لفترات غير محدودة، إذ تتدهور الحالة تدريجاً حتّى يتوقّف القلب العضوي والأعضاء الأُخرى، بالرغم من كلّ الآلات المستعملة.

وثانياً: بأنّه في أثناء الإبقاء على حياة بعض الأعضاء، يكون هنا انعدام تامّ لحركة الإنسان، وفكره وعاطفته وحواسّه وإدراكه، وكلّ مقوِّمات شخصيّته.

وثالثاً: بأنّ حياة بعض الأعضاء لا تعني بالضرورة حياة صاحبه(٢) .

وقد ذكر بعض الباحثين مثالاً لعدم دلالة نبض القلب على الحياة: بإنسانٍ قُطع رأسه، تلقّفه الأطبّاء وحفظوا الجسد المفصول ؛ فبقي القلب الموصول بالأجهزة نابضاً، ففي هذه الحالة لا يمكن لأحدٍ أنْ يدّعي بقاءَ الروح في جسدٍ بلا رأس، مهما كانت خلاياه حيّةً(٣) .

٣ - إذا كان قياس الدماغ - أي كهرباء الدماغ - يكفي بالحكم بالموت فلماذا تحدد السلطات الصحيّة في المملكة المتّحدة عام ( ١٩٧٧ ) شروطاً

___________________

(١) ص٥٢٥ الحياة الإنسانيّة.

(٢) ص٣٩٠ وص٣٩١ الحياة الإنسانيّة.

(٣) ص٤٢٥ نفس المصدر.

١٥٣

فلا بُدّ من توافرها لتشخيص موت الدماغ ؟

منها على سبيل المثال:

أوّلاً: أنْ يكون المريض في حالة غيبوبة عميقة، وأن نستبعد أسباب الغيبوبَة القابلة للعلاج كليّاً أو جزئيّاً، مثل العقاقير المهدّئة أو المنوِّمة، أو الانخفاض الشديد في حرارة الجسم.

ثانياً: أنْ يكون المريض معتمداً على أجهزة التنفّس الصناعي لانعدام التنفس التلقائي.

ثالثاً: ألاّ يكون هناك شكّ في وجود تلفٍ في الدماغ غير قابلٍ للعلاج، مثل: إصابة بالرأس، أو نزيف تلقائيّ بالدّماغ، أو بعد عمليّة جراحيّة في المخّ ونحو ذلك.

رابعاً: أنْ يثبت الفحص السريري علامات موت جذع الدماغ، كاتّساع العينين اتساعاً ثابتاً لا يتأثّر بالضوء، وانعدام التأثّر الانعكاسي في منطقة الأعصاب القحفيّة(١) ، وهكذا.

خامساً: انعدام الاستجابة لمحاولات تنبيه التنفّس التلقائي(٢) .

وأجاب عنه بعض الأطبّاء: بأنّ وضع هذه الشروط لمجرّد التأكيد والاحتياط، لا لغير ذلك. لكنّ موضوع الاحتياط هو الاحتمال المنافي للعلم، إذ مع العلم لا معنى للاحتياط.

٤ - ليس من الإمكان ببعيد مجيء يومٍ يتمكّن العلم المتطور من إعادة النشاط الكهربائي للدماغ، أو نقل جذع الدماغ من بدنٍ إلى بدنٍ آخر(٣) .

___________________

(١) في المنجد: القِحف ج أقحاف وقحوف وقحفة: العظم الذي فوق الدماغ. ما انفلق من الجمجمة فانفصل. إناء من خشب مثل قحف الرأس كأنّه نصف قدح..

(٢) ص٣٥٥ نفس المصدر السابق.

(٣) إذا فرضنا حياة فردٍ بنقل مخّ فردٍ آخر كزيد، فإن وجدنا الفرد المذكور بأفكاره

=

١٥٤

أقول : لكنّنا نتكلّم الآن حسب الظروف الموجودة، فلابدّ أنْ نقول بموت الفرد بموت جذع مخّه، حتّى إذا جاء نَصْرُ العلم وفَتْح الطبّ ؛ فنقول بما اقتضاه الوقت.

٥ - الحكايات الكثيرة المتفرِّقة التي يتناقلها الناس من أنّ فلاناً مات ثمّ صار حيّاً قبل الدفن، أو بعد الدفن، ثمّ رجع إلى الأحياء، أو مات مرّةً أُخرى في قبره كما فهم ذلك بعد نبش قبره، وهذه الحكايات وإن لم نصدّق بجميعها لكن لا مجال لتكذيب كلّها، ففي هذه الموارد بالطبع كان القلب متوقّفاً طيلة تلك المدّة، والمريض لا وعي له ولا إدراك ولا حراك، وسواءٌ مات المخ أم لم يمت، فإنّ حياةً مثل هذا الفرد يبطل القول المذكور.

وأجاب عنه بعض الأطبّاء: بأنّ مردّ هذا في الغالب إلى خطأٍ في التشخيص، فلعلّهم تبيّنوا توقّف قلبه بحبس نبضه، أو حبس نبض شرايين الرقبة، أو الاستماع إلى صدره، وقد تعجز الحواسّ الطبيعيّة عن أنْ تذكر الاختلاجات الضعيفة، ولعلّهم إنْ رسم لهم رسّام القلب الكهربائي، كانوا يستنبطون أنّه حيّ..(١) .

٦ - نُقل عن جريدة الأهرام ( ٣٠/٩/١٩٨٤ ) خبرٌ وهو:

___________________

=

وعواطفه وجميع مشخّصاته السابقة، فهو ينقض القول السائد اليوم بأنّ موت الفرد بموت مخّه. وأمّا إنْ وجدناه بمشخصات زيد وذاكرته وأفكاره واتجاهاته فلا ينقضه ؛ لإمكان القول أو صحّته بأنّ هذا الفرد لم يحيى، بل الحي هو زيد ببدن ذلك الفرد، ومثل هذا الفرض سيوجب أسئلةً شرعيّةً وأخلاقيّةً واجتماعيّةً وروحيّةً، وأمره غامض جدّاً لا سيّما بالنسبة إلى الزوجة والأولاد والأقرباء.

وأظهر من هذا الفرض فرض زرع رأس أحدٍ في بدن آخر، إذا قدر الطبُّ عليه في دهر.

(١) ص٥٤٩ الحياة الإنسانيّة.

١٥٥

حالة وضع أثارت اهتمام العلماء في العالَم أجمع، تلك حالة السيّدة الفلنديّة انجاليتالو ٣٢ عاماً، التي وضعت طفلها الرابع وهي في غيبوبة تامّة منذ شهرين ونصف، وقد دخلت الأُمّ في هذه الغيبوبة إثر إصابتها بنزيفٍ في المخّ.

والغريب أنّ الأُمّ قد توفّيت بعد أنْ وضعت طفلها ماركو بيومين... فقد كانت الأُمّ تتنفّس صناعيّاً، وتتغذّى بالأنابيب، ويُنقل لها دمٌ مرّةً أُسبوعا، وذلك لمدّة عشرة أسابيع(١) .

وأُجيب عنه: بأنّ الأُمّ لم تكن حيّة وليس لها روح، وإنّما هي استُعملت كحاضنةٍ صناعيّةٍ للجنين الذي في جوفها.

٧ - إنّ تعطيل الحواسّ لا يستلزم فقد الحياة، وإلاّ لكان النائم والمجنون والمغشيّ عليه فاقدين للحياة. ألا ترى أنّ القرآن الكريم لم يحكم على أصحاب الكهف - مع الغيبوبة الطويلة ( ٣٠٩ أعوام ) بأنّهم أموات بل المستفاد من قوله تعالى:

( وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ) (٢) حياتهم، وكذا في قوله سبحانه:( لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ) (٣) قيل ذلك لطول شعورهم ونموّ أظافرهم ولحاهم، إلى غير ذلك ممّا يغيّر الملامح، ويخيف عند زيادته عن المألوف.

أقول : مرّ جواب هذا مجملاً في بعض المسائل المتقدِّمة ( بداية الحياة الإنسانيّة ).

ويقول بعض الأطباء: إنّ كلّ غيبوبة لا تدلّ على موت المخّ، ولا بدّ أن يستبعد الطبيب هنا الأسباب التي تؤدّي إلى غيبوبة قابلة للعلاج، كالمواد المخدِّرة والبرودة الشديدة في البلاد التي فيها بردٌ شديدٌ، وعندما لا يتأكّد

___________________

(١) ص٤٤٧ نفس المصدر.

(٢ و ٣) الكهف آية ١٨.

١٥٦

عندنا سبب الغيبة لا نشخِّص موت جذع الدماغ(١) .

وأوضحه بعض الاختصاصيّين بقوله: إنّ جذع المخّ نسمّيه المراحل الدنيا أو الأقل، وأمّا المراحل العليا أو المراكز العليا فهي مرحلة القشرة.

المراحل الدنيا لا تعني أهمّيّتها بالنسبة للحياة بالعكس من المراحل العليا - المنطقة العليا هي التي تميّز الإنسان عن الحيوان، بما رزقه الله تعالى من ملكات إنسانيّة - ولكنّ المراحل ( أو المنطقة) الدنيا هي الحدّ الأدنى اللاّزم للحياة هو جذع المخّ ؛ لذلك قيل المعتوه ليس ميّتاً ؛ لأنّه فقد الخاصّة العليا وهي قشرة المخّ، ولكنّه مازال يحتفظ بالحد الأدنى وهو جذع المخّ، هو فيصل التعريف بين الحياة والموت(٢) .

٨ - يقول طبيبٌ: كانت عندنا مريضة كان فيها كسر، عملنا لها عمليّة قلب مفتوح وعلى طول العمليّات توفّيت، عملنا لها عمليّة إنعاش، عملنا لها مرّتين، وبعدها صحت واستمرّت، وبعد العمليّة ما صحت وظلت فاقدةً الوعي لمدّة ثلاثة أشهر، وبعد ثلاثة أشهر والرئيس أقنعني بأنّ توقف كلّ حاجةٍ وتتركها تموت ؛ لأنّها انتهت، فأنا طرحت عليه وقلت له: إنّني سمعت أشياء تجريبيّة على الحيوانات أنّ بعضهم يعطيها جرعةً كبيرة من الكورتيزون وهي متوفّرة أصلاً، وما في ضررٍ نجرّب عليها، وفعلاً أُعطيت الجرعة العاديّة ثلاثين مرّة، وبعد ثلاث ساعات صحت، خرجت من المستشفى وذهبت إلى بيتها(٣) .

وأُجيب عنه: أنّه بطبيعة الحال لم يكن جذع المخّ قد مات.

___________________

(١) ص٥١٨ الحياة الإنسانيّة.

(٢) ص٥٤١ نفس المصدر.

(٣) ص٥١٨ نفس المصدر.

١٥٧

( ٥ )

شواهد على صحّة قول الأطبّاء الجدد

١ - حركة القلب توجد في الجنين قبل تعلّق الروح الإنسانيّة، فلا تتعلّق بالحياة الإنسانيّة في الابتداء والانتهاء، كما ذكرناه سابقاً أيضاً.

لا يُقال: المخّ أيضاً يتكامل في الأُسبوع الثاني عشر - كما سبق أيضاً - فقياساً على قولك، يُقال: إنّ عمل المخّ لا يدلّ على الحياة.

فإنّا نقول: مطلق العمل لا يدلّ على تحقّق الحياة الإنسانيّة، بل العمل الخاصّ وهو العمل الإرادي، وإدراك الكلّيّات والعواطف وسائر الملكات، ولو في الجملة وأنّى لك بإثباتها، فلاحظ.

٢ - من صفات الروح أو آثارها العواطف الإنسانيّة والإدراك، وحيث إنّهما تذهبان بذهاب المخّ فلم تبق الحياة الإنسانيّة فيكشف أنّ الروح تدور مدار المخّ، وإن احتمل ذهاب العواطف لفساد المحلّ، فلا يُحتمل ذلك في إدراك الكلّيّات التي يستقلّ به الروح.

٣ - الإدراكات الحسيّة من الحواس الخمس، كلّها تنشأ وترجع إلى المخّ دون القلب العضوي، بل نسبته إلى الإدراكات كنسبة اليد والرجل والأنف والبطن والعضد - مثلاً - إليها، كما هو واضح في مثل هذه الأعصار.

وربّما يمكن أنْ يتوهّم أحدٌ: بأنّ الإدراكات الحسيّة لمكان اتّصاف الحيوانات، أو معظمها بها أو بأكثرها لا تخصّ الروح الإنسانيّة، بل الروح الحيوانيّة.

وجوابه: أنّها في الإنسان ترجع إلى روحه الإنسانيّ، إذ لا تتعدّد أرواحه، وليس له روحان حيوانيّ وإنسانيّ.

١٥٨

٤ - لو كان الروح متعلِّقة بالقلب حدوثاً وبقاءً ؛ لذهبت بذهابه وتعويضه بقلب بلاستيكي، لكنّها باقيةٌ بتمام مشخّصاتها مع التعويض المذكور.

فهذه الأُمور إنْ لم تكن بتمامها دلائل على موت الفرد بموت مخّه، فلا أقل من كونها شواهد عليه.

( ٦ )

عجيبة

المخّ بما له من المكانة المعقّدة المهمّة التي تحيّر العقول، وهو جهازٌ لا نظير ولا مثيل له في الكون - ظاهراً - وقد قيل: لو أراد الإنسان أن يصنع مثله من الفِلزّ لما وسعته كرة الأرض !!! فسبحانَ من مبدعٍ وحكيمٍ وقديرٍ وعليمٍ وخالقٍ، وعنت الوجوه للحيّ القيّوم.

ولكن مع ذلك فقد أهمله القرآن المجيد، ولم يذكره مطلقاً - حسب فهمي القاصر - لا من حيث دلالته على صفات الله الكماليّة والجماليّة ( الثبوتيّة الذاتيّة والفعليّة ) ولا من حيث بيان أعظم سننه بعد الروح على الإنسان، ولا من حيث تعلّق الروح به. وهذا ممّا لا أفهم له وجهاً.

ما للتراب وللعلوم وإنّما

يسعى ليعلم أنّه لا يعلمُ

( ٧ )

علاقة الروح بالبدن

مقتضى الآيات القرآنيّة والأحاديث المعتبَرة والبراهين العقليّة - على

١٥٩

ما سبق بعضها في مسألة بداية الحياة الإنسانيّة - أنّ للإنسان روحاً ونفساً وبدناً، وهذا أمرٌ مقطوعٌ لا ريب فيه.

وتقدّم أنْ قلنا: إنّ الروح والنفس مفهومان منطبقان على مصداقٍ واحدٍ جزماً أو وجداناً.

والكلام هنا في بيان كيفيّة علاقة الروح بالبدن، وفيها احتمالات أو أقوال:

١ - علاقة الروح بالبدن علاقة الحال بالمحلّ، كما عن أهل السنّة ( الأشاعرة ) حيث قالوا: إنّ الإنسان مكوّن من جسد وروح تحلّ في هذا الجسد مادام صالحاً لاستقبال الروح(١) ، ونسمّيه بالعلاقة الحلوليّة كحلول الأمراض بالبدن، وكحلول جملة من الأعراض بالجسم.

٢ - علاقتها به كعلاقة العرض بموضوعه ( حسب المصطلح في الكلام والحكمة )، نسبه الرازي إلى المعتزلة ( الذين يتبعون العقل في المعارف بدل متابعة أبي الحسن الأشعري )، وأنهم قالوا: إنّ الحياة عرض قائم بالجسم، أي أنّ الروح عرض قائم بذلك الجسم، فجعلوا الروح غير منفصلة عن الجسم، كما هي منفصلة عنه على القول الأوّل(٢) .

لكن لا وثوق لنا بنقل الرازي، فلا يثبت هذا عن المعتزلة، ولم يمكنني - في هذا البلد البعيد عن العلم وأهله - الرجوع إلى كتبهم، والله العالم.

٣ - أو كعلاقة الراكب بالمركب ؟

٤ - أو كعلاقة المظروف بالظرف ؟

٥ - أو كعلاقة المَلِك بمملكته ورئيس الجمهوريّة ببلاده، فهي علاقة

___________________

(١ و ٢) ص٤٦٥ الحياة الإنسانيّة، نقلاً عن تفسير الرازي.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341