الفقه والمسائل الطبية

الفقه والمسائل الطبية16%

الفقه والمسائل الطبية مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 341

الفقه والمسائل الطبية
  • البداية
  • السابق
  • 341 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92459 / تحميل: 7846
الحجم الحجم الحجم
الفقه والمسائل الطبية

الفقه والمسائل الطبية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

تدبيريّة.

لا يُستفاد من الآيات المتضمّنة لبيان نفس الإنسان شيء من تلك الخصوصيّات على ما أفهم - وفهمي قاصر - وكذا من قوله تعالى:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ) (١) ، بناءً على نظارته إلى الروح كما هو الأظهر - وقد مرّت الإشارة إليه في مسألة بداية الحياة الإنسانيّة.

نعم ما ورد في آدم وعيسىعليهما‌السلام ربّما يشير إلى موضوعنا هذا، كقوله سبحانه وتعالى:( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) ( السجدة ٩ ).

وقوله تعالى:( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) ( الحجر ٢٩ - ص٧٢ ).

وقوله تعالى:( وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا ) ( الأنبياء ٩١ ).

وقوله تعالى:( وَ مَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا ) (التحريم ١٢).

أقول : أولاً: أنّه لا فرق بين آدم وعيسىعليهما‌السلام وغيره من الآدميّين في كيفيّة نفخ الروح(٢) .

وثانياً: أنّ هذه الروح هي روح الإنسان لا شيء غيرها، وإضافتها إلى الله سبحانه كإضافة البيت والكتاب والأهل إليه ( بيت الله كتاب الله أهل الله )، وهي إضافة تشريفيّة فقط، وتؤكِّد هذا جملةٌ من الأحاديث:

ففي صحيح الأحول المروي في الكافي ( ج١ ص١٣٣ ) قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الروح التي في آدمعليه‌السلام قوله: ( فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي )، قال: ( هذه روح مخلوقة والروح في عيسى مخلوقة ).

___________________

(١) المؤمنون آية ١٤.

(٢) نعم مقتضى الآية الأخيرة أنّ نفخ الروح في الجنين من فرج أُمّه، ومقتضى بعض الروايات أنّه من فمها، والعمدة هي الآية الكريمة.

١٦١

وفي حسنة حمران ( نفس المصدر ): سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ:( وروح منه ) ، قال:

( هي روح الله مخلوقة خلقها الله في آدم وعيسى ).

وفي صحيح محمّد بن مسلم المروي عن معاني الأخبار، قال: سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ:

( ونفخت فيه من روحي ) ، قال: ( روح اختاره الله واصطفاه وخَلقه وأضافه إلى نفسه، وفضّله على جميع الأرواح، فنفخ منه في آدم ) ج١٤ ص١١ بحار الأنوار.

وثالثاً: أنّ الآيات والأحاديث لا تدلاّن على أنّ الله نفخ الروح في آدم وعيسى ؛ حتّى يُقال بمثله في جميع بني آدم فيصحّ القول الأوّل ونحوه، بل مدلولها أن الله نفخ من الروح فيهما، فالروح منفوخ منها لا منفوخة، وهذا يظهر بأدَنى تعمّقٍ في الآيات الكريمة.

وأنا أظنّ - والله العالم العاصم الهادي - أنّ المراد بالنفخ هو الإحياء، فمعنى الآيات على هذا: أنّ الله أحيى آدم وعيسى من الروح، فالروح مبدأ الحياة لا نفسها، والظاهر أنّ علاقة الروح بالبدن تدبيريّة، فليست بداخلة في البدن ولا راكبة ولا البدن ظرفها، وإذا قلنا بتجرّد الروح كما هو الظاهر، فلا بُدّ من اختيار هذا القول عقلاً.

فإنْ قال قائلٌ: فما تقول في قوله تعالى:( فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ) (١) الدال على دخول الروح في البدن ؟

فقد أُجيب عنه بأنّ بلوغ النفس الحلقوم كناية عن الإشراف التامّ للموت، فليس المراد حركة الروح من الأسفل إلى الحلقوم حركة مكانيّة، وكذا الكلام في قوله تعالى:( کَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ) (٢) .

___________________

(١) الواقعة آية ٣٦.

(٢) القيامة آية ٢٦.

١٦٢

والأظهر عندي : أنّه لا دليل على رجوع الضمير في قوله تعالى:( بَلَغَتِ ) إلى الروح، ويُحتمل قويّاً رجوعه إلى الحياة الإنسانيّة القائمة بجميع البدن والرأس الناشئة من الروح كما ذكرنا قبيل هذا، ومع هذا الاحتمال لا يبقى مستمسكٌ لمَن يظنّ أنّ الروح داخلة في البدن، وتخرج منه خروج جسم من جسم.

وأمّا قوله تعالى في حقّ مجاهدي غزوة الخندق:( وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ) (١) ، فلا تكون قرينة على أنّ الضمير في الآيتين المُشار إليهما - أيضاً - يرجع إلى القلوب، على أنّه - أيضاً - كناية جزماً، والله أعلم وهو الهادي.

( ٨ )

الروح مجرّدة أو جسم لطيف ؟

ذهب جمعٌ من المتكلّمين إلى أنّها جسم لطيف، وذهب جمعٌ من الحكماء إلى أنّها مجرّدة عن المادّة ولواحقها كالزمان والمكان، بل مال الحكيم السبزواريرحمه‌الله تبعاً لشهاب الدين السهروردي شيخ الإشراق إلى أنّها لا ماهيّة لها أيضاً(٢) ، وقبوله بل تصوّره مشكل.

فالروح على المشهور عند الحكماء جوهر مجرّد له نحو اتّصال وعلاقة بالبدن، وقد أُقيمت عليه دلائل عقليّة وعلميّة، ولا بأس بالاعتماد على مجموعها، ومَن شاء فليراجع إلى محالّها فان نقلها وتفصيلها لا تناسب هذا الكتاب، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق الأُمور وبواطن الأشياء.

___________________

(١) الأحزاب آية ١٠.

(٢) شرح المنظومة.

١٦٣

( ٩ )

القلب في القرآن

ذُكِرَتْ لفظتا القلب والقلوب في آيات كثيرة من القرآن، وأُسندت إليه في تلك الآيات أُمور كثيرة: كالإثم، والاطمئنان، والغفلة، والمرض، والختم، والهداية، والرعب، وعدم الفقه، والزيغ، والتقوى، والتعقل وعدمه، والعمى، والتقلّب، والاشمئزاز، والكظم، والقفل، وإنزال السكينة، وإنزال الوحي، وجعل الرأفة، والرحمة، والكسب، والأُلفة، والخير، والتعمد، والطهارة، وزينة الاِيمان، وعدم دخول الاِيمان، والطبع، والحسرة، والوجل، والريب، والغيظ، واللهو، والإخبات، وامتحان التقوى، والخشوع، وغير ذلك.

والقلب عضوٌ عضليٌّ أجوفٌ يستقبل الدم من الأوردة، ويدفعه في الشرايين في الجهة اليسرى من التجويف الصدري.

نعم، ذكر أهل اللّغة له معانٍ أُخرى: كالعقل واللُّبّ والفؤاد( عن مختار الصحاح ) ، ووسط الشيء ولبّه ومحضه وخالص الشيء وخياره( عن المعجم الوسيط ) ، ونفس الشيء وحقيقته(عن لسان العرب ) .

وفي المنجد : القلب...: العقل، قلب الجيش وسطه، قلب كلّ شيءٍ لبّه ومحضه، ويقال: رجل قلب، أي: خالص النسب.

فمعان القلب بعد معناه المعروف: هو العقل - واليه يرجع اللّبّ ظاهراً - وخالص الشيء ومحضه وخياره، ونفس الشيء وحقيقته، هذه المفاهيم الأخيرة يصحّ انطباقها على الروح، وعليه فالقلب هو العضو الخاص

١٦٤

المعروف والعقل والروح(١) .

وحيث إنّ الأُمور المنسوبة إليه في القرآن كلّها من صفات النفس والروح قطعاً، ونسبتها إلى القلب العضلي كنسبتها إلى سائر الأعضاء من اليد والرجل ونحوهما في البطلان، تعيّن حمل القلب على معنى الروح، وحينئذٍ فلا إشكال.

لكنّ تأويل آيات القرآن بهذه السهولة غير ميسّر، بل هو غير جائز ما لم يدعمه دليلٌ شرعيٌّ معتَبَر، إذا لم يثبت أنّ النفس أو الروح معنى حقيقي أو منصرف إليه لفظ القلب، كما هو كذلك عندنا، إذ المفهوم المتبادر ما يقصده الأطبّاء، فلاحظ.

على أنّ في تأويل القرآن - وهو السند الأصيل للإسلام والنبوّة الخاتميّة - مع الغضّ عن منعه الشرعي إشكالاً قويّاً ليس هنا موضع بيانه، والذي يمكن أنْ يركن إليه في فهم معنى القلب آيات نذكر بعضها.

١ - قوله سبحانه وتعالى:( فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (٢) ( الحجّ ٤٦ ).

٢ -( وَ لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِکُمْ وَ لِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِکُمْ ) ( آل عمران ١٥٤ ).

٣ -( مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) ( الأحزاب ٤ ).

٤ -( وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ) ( الأحزاب ١٠ ).

أقول : الآية الأُولى ظاهرة بل صريحة على أنّ المراد بالقلب الذي وُصف بالعمى هو العضو المعروف، ضرورة أنّ العقل والروح ليسا في

___________________

(١) وهل هو في المعنيين الأخيرين حقيقة لغوية، أو مجاز أخذوه من الاستعمالات الخاصّة فيه وجهان.

(٢) ومن عجيب التأويل فيه: حمل الصدر على الجمجمة، وحمل القلب على المخّ !!!

١٦٥

الصدر.

والآية الثانية كالنّصّ على تباين الصدر والقلب إن لم يحمل قوله تعالى:وليمحص ... على أنّه عطف بيان، كما هو الأظهر حسب القاعدة، وإلاّ لدلت على اتّحاد الصدر والقلب، وحينئذٍ لابُدّ من حملهما على معنى ثالث ضرورة تباين العضوان المادّيّان، وعلى كلٍّ لا يُستفاد منها المراد من القلب على فرض كون العطف لغير البيان.

والثالثة كالأُولى ظاهرة في إرادة العضو المشهور.

وأمّا الرابعة فتُحمل على المعنى الكنائي، كشدّة حال الصحابة الحاضرين في غزوة الأحزاب، سواء أُريد بالقلوب معناها المتبادر أو الأرواح.

فإن جعلنا الآيتين الأُولى والثالثة قرينتين عامّتين لجميع الموارد المستعملة فيها القلب فهو، وإلاّ فيبقى معناه مجهولاً في محدودة تفسير الآيات الكريمة، إلاّ أنّ يُدّعى تبادره إلى العضو المشهور، وأنّ الروح أو العقل معنى مجازي لا يُحمل عليه لفظ القلب إلاّ مع القرينة، فتأمّل.

وجعل بعض المفسّرين قوله تعالى:( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) ( البقرة ٢٢٥ )، من الشواهد على إرادة النفس والروح من القلب، فإنّ التعقّل والتفكّر، والحبّ والبغض، والخوف، وأمثال ذلك، وإنْ أمكن أنْ ينسبها أحد إلى القلب باعتقاد أنّه العضو المدرك في البدن على ما ربّما يعتقده العامّة، كما يُنسب السمع إلى الأُذن، والإبصار إلى العين، والذوق إلى اللسان، لكنّ الكسب والاكتساب ممّا لا يُنسب إلاّ إلى الإنسان ألبتّة(١) .

___________________

(١) ص٢٢٤ ج٢ تفسير الميزان، ولمؤلِّفهرحمه‌الله بيان في معنى القلب في القرآن، لم نر

=

١٦٦

أقول : الكسب المستتبع للمؤاخذة قد يكون بأعمال جوارحيّة، وقد يكون بأفعال أو صفات قلبيّة، كما يظهر ممّا ذكرناه في أوّل هذا البحث، فما ذكره هذا القائل لا يُعتمد عليه.

ثمّ إنّ المنقول عن ابن سينا: أنّه رجّح كون الإدراك للقلب بمعنى أنّ دخالة الدماغ فيه دخالة الآلة، فللقلب الإدراك، وللدماغ الوساطة(١) .

أقول : وضعفه ظاهر، وكم للفلاسفة تخرّصات بالغيب، وحدسيات باطلة، وتحكّمات بغير حقٍّ، فهمناها من العلم الحديث المبنيّ على الحسّ، نعم هو حقّ إنْ بدّلنا القلب بالروح.

والمقام عندي من المشكلات، ولا يهتدي فكري القاصر إلى فهم مراده تعالى من القلب، فادعوه متضرّعاً وراجياً، ربّ زدني علماً وما كنا لنهتدي لولا أنْ هديتنا.

ولُبّ التحيّر: أنّ نسبة الذوق، والشمّ، والسمع، والبصر، واللمس، إلى الأعضاء الخمسة ظاهرة ؛ لأنّها محالّ هذه الإدراكات، وإنْ لم تكن مدركاتها، ولكنّ نسبة الأُمور المتقدّمة في أوّل هذا البحث إلى القلب العضلي غير صحيحة، إلاّ إذا وجد بينه وبين الروح رابطة مصحّحة لنسبة أفعالها، وصفاتها إليه، وهذه الرابطة لم تثبتها العلوم التجريبيّة، ولا البراهين العقليّة لحد الآن، والعلم في تطورّه بعد، والله العالم.

نعم لا شكّ في وجود رابطة لائقة بين الروح والمخّ كرابطة المصوّر

___________________

=

فيه شيئاً مفيداً، ومن شاء فليراجعه. واعلم أنّ نسبة السمع إلى الأذن، والبصر إلى العين، والذوق إلى اللسان - مثلا - نسبة صحيحة، وإن كان المدرك هو الروح على ما هو الحقّ، لعلاقة شبه الحال والمحلّ، وأمّا نسبة الإدراك إلى القلب كنسبته إلى اليد - مثلاً - غير صحيحة، بعدما كشفت العلوم بطلان ما تزعمه العامّة من كون القلب مدركاً، فاهماً.

(١) تفسير الميزان ج ٢ ص ٢٢٥.

١٦٧

وجهاز التصوير، لكن حتّى اليوم إذا قلت لأحدٍ: حُبّك في مخّي، لربّما ضحك الناس، بخلاف ما لو قلت، حُبّك في قلبي ! لكنّ المتّبع هو العقل، أو العلم، دون حسبان العوام، وإنْ كان الحكم ببطلان حسبانهم في المقام لا يخلو عن زيادة جرأة.

فإن قلت: إنّ حسبان العوام ذلك نشأ من ظاهر القرآن المجيد، بعدما فسّر المفسِّرون آياته، أو ترجمها المترجمون، وذكرها المبلِّغون والمرشدون، فإذا أوجبنا تأويلها للقرينة الخارجيّة ؛ لا تبقى مشكلة في ردّ اعتقاد العوام بدرك القلب وفهمه.

قلت : أوّلاً إنّ المراد بالعوام ليس خصوص المسلمين، كما زعمت، بل مطلق الناس أو غالبهم، فإنّ نسبة العلم والفهم والحبّ والبغض وغير ذلك إلى القلب، موجودة مستعملة في لغات غير المسلمين، ممّن لم يسمعوا استعمالات القرآن المجيد، فكان معظم العقلاء من الآدميين اعتقدوا ذلك، وإلى هذا ينظر قولنا: إنّ ردّ حسبانهم في المقام لا يخلو عن زيادة جرأة.

وثانياً: إنّا لم نوجب تأويل الآيات القرآنيّة، بل منعنا منه وانتظرنا تطوّر العلم، حتّى يتوصّل إلى الحلقة المفقودة المتوسّطة بين الصفات النفسيّة، والقلب.

( ١٠ )

الصدر في القرآن

في القرآن آيات تدلّ على نسبة جملةٍ من الأُمور إلى الصدر:( بَل

١٦٨

هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) (١) ،( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ مَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) (٢) ،( يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) (٣) ،( إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ ) (٤) ،( وَ لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِکُمْ وَ لِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِکُمْ ) (٥) ،( مِمَّا يَکْبُرُ فِي صُدُورِکُمْ ) (٦) ،( حَاجَةً فِي صُدُورِکُمْ ) (٧) ،( وَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ) (٨) ،( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ) (٩) ، وغيرها.

وفي المنجد: الصدر ج الصدور: ما دون العنق إلى فضاء الجوف، وله معانٍ أُخر:

١- أعلى مقدم كل شيء.

٢- أوّل كل شيء كالنهار.

٣- الطائفة من الشيء.

٤- الوزير الأكبر.

ولاحظ مختار الصحاح، ولسان العرب، والمعجم الصحيح، وغيرها.

ولا يبعد إطلاقه على هذه المعاني بعناية معناه الأوّل، فيكون استعماله فيها مجازيّاً، فلاحظ.

والمتبادر من لفظ الصدر - ولو في مثل أعصارنا - هو المعنى الأوّل، إلاّ إذا قامت القرينة على غيره، ومن حسن الاتفاق أنّ أهل اللُّغة الفارسيّة - أيضاً - ينسبون إلى الصدر ( سينه ) بعض ما ينسبه إليه في العربيّة.

___________________

(١) العنكبوت آية ٤٩.

(٢) غافر آية ١١.

(٣) الناس آية ٥.

(٤) آل عمران آية ٢٩.

(٥) آل عمران آية ١٤٥.

(٦) الإسراء آية ٥١.

(٧) الغافر آية ٨٠.

(٨) الأعراف آية ٤٣.

(٩) الشرح آية ١.

١٦٩

وعلى كلٍّ، يجري فيه السؤال المذكور في القلب بتفاوتٍ ما، كما لا يخفى.

تتمة:

القرآن يسند بعض الصفات والافعال التابعة للادراك أو الدالة عليه إلى أشياء ثلاثة: النفس والقلب والصدر، وربما يسند شيء واحد كالاخفاء والحاجة والوسوسة إلى النفس والصدر، والاطمئنان إلى القلب والنفس، أليس هذا مشعراً بوحدة هذه الاشياء مصداقاً ولو في عدة من الآيات لا في جميعها؟ تأمل ثم اقض، فإنه أمر مهم في المقام ولا اعلم من ذكره.

( ١١ )

علامات الموت والحياة

يقول الشهيد الأوّلرحمه‌الله في مبحث احتضار اللمعة:... إلاّ مع الاشتباه فيصبر عليه ثلاثة أيّام.

ويقول: الشهيد الثانيرحمه‌الله في شرحها: إلاّ أنْ يعلم قبلها ( أي قبل ثلاثة أيّام ) لتغيّر وغيره من أمارات الموت، كانخساف صدغيه، وميل أنفه، وامتداد جلدة وجهه، وانخلاع كفّه من ذراعيه، واسترخاء قدميه، وتقلّص أُنثييه إلى فوق مع تدلي الجلدة، ونحو ذلك(١) .

وعن بعضهم أنّ علامته: زوال النور من بياض العين وسوادها، وذهاب التنفس وزوال النبض، وعن جالينوس: الاستبراء بنبض عروق بين الأُنثيين، أو عروق يلي الحالب والذكر

___________________

(١) ص٢٤ وص٢٥ ج٤ جواهر الكلام.

١٧٠

بعد الغمز الشديد، أو عرق في باطن الإلية، أو تحت اللسان، أو في بطن المنخر.

أقول : وقد أحسن صاحب الجواهررحمه‌الله حيث قال بعد نقل تلك العلامات: إنّ المدار على العلم الذي تطمئنّ به النفس... فاحتمال إناطة الحكم بهذه العلامات وان لم تفده - أي العلم - في غاية الضعف ؛ لظهور الأخبار... في كون المدار على العلم ن كما صرّح به في الموثّق، وأنّ تعليق الحكم على التغيير إنّما هو لإفادته ذلك غالباً.

وعن المحقّقرحمه‌الله في المعتبر: ويجب التربّص مع الاشتباه، حتّى تظهر علامات الموت وحدّه العلم، وهو إجماع، وعن تذكرة العلاّمة: أنّه لا يجوز التعجيل مع الاشتباه، حتّى تظهر علامات الموت، ويتحقّق العلم به بالإجماع(١) .

أقول : فإنْ علم المكلّف به فهو، وإلاّ فلابُد من الرجوع إلى الاختصاصيّين ؛ حتّى يطمئنّ بقولهم بالموت.

وأمّا الأحاديث المتعلّقة بالمقام فإليك بعضها:

١ - موثّق عمّار عن الصادقعليه‌السلام المروي في الكافي وغيره: ( الغريق يُحبس حتّى يتغيّر، ويعلم أنّه قد مات ثمّ يُغسّل ويُكفّن ). وسَئل عن المصعوق ؟ قال: ( إذا صعق حبس يومين ثمّ يغسّل ويكفّن ).

٢ - صحيح هشام بن الحكم عنهعليه‌السلام : ( خمس ينتظر بهم إلاّ أن يتغيّروا: الغريق، المصعوق، والمبطون، والمهدوم، والمدخن ).

٣ - وفي حديث عن الكاظمعليه‌السلام في المصعوق والغريق: ( ينتظر به

___________________

(١) ص٢٥ نفس المصدر.

١٧١

ثلاثة أيّام إلاّ أنْ يتغيّر قبل ذلك )(١) .

ولا يبعد حمل الأخبار على حصول العلم بالموت، ولا شكّ أنّه أحوط.

وأمّا علامة الحياة، فالمذكور في الأحاديث الاستهلال والتحرّك، كصحيح ربعي، قال: سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول في سقط إذا سقط من ( في يب ) بطن أُمّه فتحرك تحرّكاً بيّناً: ( يرث ويورث فإنّه ربّما كان أخرس ). وقريب منه حديثه الآخر، وصحيح الفضيل، وموثّقة أبي بصير، وغيرها.

وفي رواية عمر بن يزيد:... فشهدت المرأة التي قبّلتها أنّه استهلّ وصاح حين وقع إلى الأرض، ثمّ مات، قال الصادقعليه‌السلام : ( على الإمام أن يجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام ).

وفي رواية ابن سنان عنهعليه‌السلام : ( لا يُصلّى على المنفوس - وهو المولود الذي لم يستهلّ، ولم يصح، ولم يورث من الديّة، ولا من غيرها. ( من والديه ولا من غيرهما في يب )، وإذا استهلّ فصلّ عليه وورّثه ). ص٣٥٠ وص٣٥١ ج ٢٤ جامع الأحاديث. ويدلّ عليه غيرها أيضاً.

أقول : وجدير بالذكر: أنّ هذه الأحاديث لم تذكر نبض القلب علامةً للحياة، فهل هو تلميح إلى عدم دلالته عليها ؟

(١٢)

لا يجب تحريك القلب على كلّ حال

إذا تحقّق جذع المخّ، وتوقّف عمله بكامله، وعلم بتوقّف القلب توقّفاً

___________________

(١) ص ٤٧٥ و٤٧٦ ج٢ الوسائل نسخة الكومبيوتر.

١٧٢

تامّاً فهو ميّت على قول جميع الأطبّاء، وعليه فلا يجب اتّصال الآلة الصناعيّة المحرّكة لقلبه به، إذ مع العلم في عدم تأثيرها في إعادة الحياة لا أثر لحركة القلب، وهذا واضح، بل مؤنة الاتصال في المستشفى نوع من الإسراف، بل ربّما تحرم جزماً، كما إذا كانت للميّت ورثة صغار، أو عليه دين للناس أو لله تعالى، وتركته على فرض صرفها في اتصال الآلة لا تفي بالدَّين المذكور.

وأمّا إذا مات قسمٌ من المخّ كقشرته، ففي وجوب وصول الآلة مع الإمكان وجهان: من كونه حيّاً في الجملة - ولو احتمالاً - فيستصحب حياته فيجب حفظها، ومن أنّ فوت القشرة فوت للمميّزات الإنسانية، كما قال بعض الأطبّاء، ولا تجب حفظ مطلق الحياة بل حياة الإنسان، فتأمّل.

وعلى كلٍّ، إنّ قتل النفس غير حفظها، وهما أمران متمايزان، والأوّل حرام عقلاً وشرعاً - كتاباً وسنّةً وإجماعاً - وأمّا الثاني، فليس على وجوبه دليلٌ لفظيٌّ واضحٌ ؛ وقوله تعالى:( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) (١) ، يدلّ على الفضل دون اللزوم، وقد ذكرنا بحثه في الجزء الثالث من كتابنا حدود الشريعة في مادّة الحفظ، وأنّ الدليل عليه لُبّي، والمتيقّن هو وجوبه في غير هذا الفرض، والمقام محتاج إلى مزيد تأمّل.

( ١٣ )

الأحكام الفقهيّة للموت

١ - انتقال الأموال إلى الورثة.

___________________

(١) المائدة آية ٣٢.

١٧٣

٢ - عدم استحقاق من مات قبله من الورثة.

٣ - الجناية على الميّت تختلف حكماً عن الجناية على الحيّ، فقطع رأس الحيّ يوجب القصاص دون رأس الميّت.

٤ - صحّة قضاء صلاته وصومه ووجوبهما على الولّي، وعدمهما في حياته.

٥ - وجوب العمل بوصاياه.

٦ - انتقال ما وُصّي به إلى الموصى له.

٧ - استقلال البنت في تزويجه إذا لم يكن لها جدٌّ عن أبيها.

٨ - وجوب تجهيزه.

٩ - عدم وجوب نفقة مَن تجب عليه نفقته بعد الموت.

١٠ - بطلان إذنه وتوكيله على ما فُصّل في الفقه.

١١ - حلول ديونه.

١٢ - وجوب أداء ديونه على الورثة.

١٣ - بدء العدّة على نسائه.

١٤ - جواز نكاح الخامسة بعد موت الزوجة، أو نكاح أُختها.

١٥ - لزوم أداء ديونه وحقوق الله على الورثة.

١٦ - صحّة تولية خليفة، أو تنصيب قاضٍ بدلاً عن الميّت.

١٧ - صيرورة بعض الورثة غنيّاً.

١٨ - عزل الولاة بناءً على ترتّبه على موت الإمام.

١٩ حرمة التصرّف في أمواله إذا كان الوارث صغيراً أو غير راضٍ به.

٢٠ - عدم إرثه من مورّثه إذا مات قبله.

٢١ - وجوب الغسل بمسّه في الجملة.

١٧٤

ولعلّ المتتبّع يجد جملةً أُخرى من هذه الأحكام.

فالبحث في تعيين الموت، وأنّه بموت جذع المخّ أو توقّف القلب ذو ثمراتٍ كبيرةٍ كثيرةٍ - كما عرفت - ومن أهمّها عند الأطبّاء: جواز قطع أعضائه - خصوصاً قلبه - إذ التأخير ولو يسيراً ربّما أفسده، ولم يصلح لزرعه في بدن المحتاج، كما قالوا، وستعرف حكمه في المسألة الآتية إنْ شاء الله تعالى.

واعلم أنّ الله سبحانه وفّقنا بعد تأليف هذا الكتاب، لتأليف كتابٍ آخر حول ما يتعلّق بالروح باسم ( روح از نظر دين وعقل وعلم روحي جديد ) وذكرنا فيه المباحث بتفصيل أكثر ممّا ذكرنا في هذه المسألة، وسوف يُطبع إن شاء الله في القريب العاجل، ومَن شاء مزيد التفصيل حول الروح، فعليه بمطالعة ذلك الكتاب

١٧٥

المسألة العشرون

حكم قطع أعضاء الميِّت

( الجهة الأُولى ) : في نقل الأحاديث المتعلِّقة بالموضوع.

١ - صحيح جميل، عن غير واحدٍ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه قال:

( قطع رأس الميّت أشدّ من قطع رأس الحي ).

٢ - صحيح مسمع كردين، قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن رجل كسر عظم ميّت ؟

فقال: ( حرمته ميّتاً أعظم من حرمته وهو حيّ ).

٣ - صحيح صفوان ( عن رجالهم صا ) قال: قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :

( أبى الله أنْ يظنّ بالمؤمن إلاّ خيراً، وكسرك عظامه حيّاً وميتاً سواء )(١) .

٤ - صحيح ابن سنان عن الصادقعليه‌السلام في رجلٍ قطع رأس الميت ؟

قال: ( عليه الديّة ؛ لأنّ حرمته ميّتاً كحرمته وهو حيّ )(٢) .

( الجهة الثانية ) : مقتضى إطلاق هذه الأحاديث حرمة قطع أعضاء الميّت مطلقاً، سواء كان عن قصد سوءٍ وعداوةٍ، أو عن عبثٍ أو لأغراض إنسانيّة مهمّة، كما هو المتداول اليوم عند الأطباء، وقد أفتى بذلك جمعٌ من الفقهاء(٣) .

___________________

(١) ص٤٨٩ إلى ص٤٩٧ ج٢٦ جامع الأحاديث.

(٢) ص٢٤٨ ج١٩ الوسائل، هذه الأحاديث تدلّ على أنّ توهين المؤمن الحي والميّت حرام، ويحرم على المؤمن توهين نفسه أيضاً بالملاك، والظاهر أنّ الموضوع في الأحاديث مطلق المسلم، وإن لم يكن مؤمناً.

(٣) لاحظ كتب أهل الفتوى المسمّاة ب-: توضيح المسائل.

١٧٦

نعم إذا توقّف حياة مسلم على قطع عضوٍ من الميّت بالفعل أجازه بعضهم لتقديم وجوب حفظها على حرمة قطع عضو الميّت، فإنّه أهمّ منها.

يقول سيّدنا الأُستاذ الخوئي ( قدّس الله سرّه ): لا يجوز قطع عضو من أعضاء بدن المسلم الميّت كالعين أو العضو الآخر للزرع في بدن الحي، وإنّما يجوز ذلك فيما إذا توقّف حياة الحي عليه، وحينئذٍ يجوز، ولكن تجب الديّة على القاطع، وفي الصورتين لا بأس بزرعه في بدن الحي، وبعد الزرع يُعدّ جزأً من بدن الحي، فيترتّب عليه أحكام الحي.

وقال أيضاً: يجوز قطع عضو من بدن الكافر الميّت، أو مَن شُكّ في إسلامه لزرعه في بدن المسلم الحي، وبعد الزرع يُعدّ جزءاً من بدنه فيجري عليه حكمه، وكذا إذا زرع عضواً من الحيوان نجس العين، فيكون بعد الزرع ظاهراً.

أقول : في صيرورة الجزء النجس بعد الزرع طاهراً بتبع البدن عندي إشكال، وبقيّة كلامهرحمه‌الله صحيح، فافهم.

ويمكن أنْ يُقال: إنّ هذه الأحاديث لا تُثبت حكماً جديداً للميّت، سوى ما ثبت في حقّ الحي، فإذا قلنا بجواز إهداء المؤمن كليته مثلاً لأخيه المؤمن(١) ، ولا ضرر له، ولا هو هتك لحرمته عرفاً، فأيّ مانعٍ من جواز أخذها منه بعد موته بوصيّةٍ منه ؟

لا لحفظ الحياة فقط بل لدفع الحرج عنه، ولعلّه لأجل ما ذكرنا ذهب السيّدان الأستاذان العَلَمان الحكيم والخوئي - رضوان الله تعالى عليهما - إلى الجواز في فرض الوصيّة(٢) .

___________________

(١) للمؤلِّف الفقير كلية واحدة مأخوذة من أخيه الحاج محمّد عارف، جزاه الله خير الجزاء، وأطال عمره، وقد فسدت كليتاي، فأجرى طبيبٌ في لندن عمليّةً ناجحةً قبل سنوات.

(٢) لاحظ منهاج الصالحين، وتوضيح المسائل ص ٥٦٠.

١٧٧

وهذا هو الأظهر إنْ شاء الله تعالى - سواء كانت الوصيّة تبرعيّة أو بأخذ عوض - خلافاً لما ذكرناه في الجزء الأوّل والثاني من كتابناحدود الشريعة قبل سنوات، وأمّا في غير الوصيّة ففيه إشكال أو منع(١) ، بل ربّما يشكل القطع في فرض توقّف حياة أحدٍ بالفعل عليه ؛ لأنّ وجوب حفظ نفس محترمة، بهذا النحو لم يثبت في حقّ الأحياء، حتّى يجوز أو يجب في المقام، فتأمّل، والله العالم.

ولكن غير واحدٍ من فقهائنا المعاصرين أجازوا قطع أعضاء الميّت، عند حفظ النفس المحترمة عن الهلاك(٢) .

وأمّا جواز القطع بإذن أولياء الميّت في فرض عدم وصيّته به ففيه نظر، أو منع لعدم شمول ولايتهم لمثل ذلك فلا عبرة بإذنهم.

فإن قلت: مقتضى انصراف الأحاديث المتقدّمة هو عدم حرمة القطع، على القاطعين إن صحّت الوصيّة لا جواز الوصيّة أي صحّتها.

قلت : إنّ سلطة الإنسان على ماله وبدنه ثابتة ببناء العقلاء، وإنّما منعنا جواز قطع بعض الأعضاء وتردّدنا في جواز قطع بعض الأعضاء الأُخر في حال الحياة، لدليلٍ خارجيٍّ مفقودٍ في حال الموت، فإنّه فرق كثير بين الحالتين، ولا موضوع للضّرر بعد الموت، فلاحظ وتدبّر، وسيأتي ما يتعلّق به في المسألة الخامسة والعشرين.

وعلى كلٍّ، صرّح السيّد الأُستاذ الخوئيقدس‌سره بعدم وجوب الديّة على مَن قطع عضو الميّت بوصيّة منه(٣) .

___________________

(١) إن كثيراً من الناس يحتاجون إلى زرع القرنية، وإعطائهم النور، فلو جاز قطعه بلا وصيّة لاستفاد منها المحتاجون.

(٢) لاحظ فتاويهم في كتبهم الفتوائيّة.

(٣) توضيح المسائل ص ٥٦٠.

١٧٨

( الجهة الثالثة ) : إذا كان العضو المطلوب قطعه من الداخل: كالكلية، والقلب، والرئة، والكبد - مثلاً - جاز قطعه قبل غسل الميّت وبعده، وإذا كان من الظاهر: كاليد - مثلاً - فلابُدّ من أخذه ونزعه بعد الغسل، جمعاً بين الحكمين، إلاّ إذا كان تأخير قطعه إلى ما بعد الغسل مفسداً لزرعه في الحيّ، فإنْ كان لحفظ حياته فلا شكّ في وجوبه، فضلاً عن جوازه:( وَ مَنْ أَحْيَاهَا فَکَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) (١) .

وإن كان لدفع مشقّةٍ وحرجٍ فلا يبعد الجواز، إن شاء الله، فيغسل بعد الزرع، إنْ قيل بوجوب غسل المبان من الميّت.

( الجهة الرابعة ) : هل يجب على القاطع أو الآمر في فرض جواز القطع أو وجوبه الديّة ؟

فيه احتمالات: الوجوب مطلقاً، عدمه مطلقاً بناءً على عدم اعتبار الوصيّة في جواز القطع أو وجوبه، وجوبها في فرض عدم الوصيّة وعدمها في فرض الوصيّة. ولعلّ الأخير أوجه، فلاحظ وتأمّل.

( الجهة الخامسة ) : هل يجوز قطع أعضاء الميّت للتشريح، وتعليم طلاب كليّة الطبّ بناءً على وجوب تعلّم الطبّ، بل وتعليمه وجوباً كفائيّاً ؟

لا شكّ في جوازه من ميّت غير مسلم، وهو يوجد في أكثر بلاد المسلمين اليوم أو في جميعها، ويلحق به من شُكّ في إسلامه، وإن فُرض عدم تيسّره في بلدٍ فيمكن استيراده من بلدٍ آخر، فلا ملزم لإطالة البحث، ومع وجود جثّة غير مسلمٍ لا إشكال في حرمة قطع أعضاء المسلم الميّت(٢) .

___________________

(١) المائدة ٣٢.

(٢) وفي جوازه مع وصيّة الميّت وجه بالجواز في بعض الأعضاء، وأمّا في جميعها بحيث استلزمت ترك الدفن الواجب، أو النبش المحرّم، ففيه نظر.

١٧٩

( الجهة السادسة ) : يجب غسل مسّ الميّت على مَن مسّه بشروطه، لأيّ غرضٍ طبّيٍّ أو عاطفيٍّ، وفي وجوبه بمسّ قطعةٍ مبانةٍ منه تفصيل، بل خلاف.

وإذا شكّ الماسُّ في أنّ الميّت الممسوس قد غُسِّل سابقاً حتّى لا يجب الغسل بمسّه أم لم يُغسّل، فيجب الغسل بمسه، فإن جاؤا به من مقابر المسلمين، يُبنى على أنّه قد غُسّل، وإلاّ ففيه نظر، ولعلّ الأظهر وجوب الغسل بمسّه، نعم إذا مسّه مع سترٍ بلاستيكي أو غيره، لم يجب الغسل بلا شكّ.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

الموت والشهادة. بل إنّهم يستلهمون من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام) «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه»(١) ويستقبلون الموت في سبيل الهدف برحابة صدر. ولهذا فإنّ أمير المؤمنين حينما تلقّى الضربة السامّة من اللعين الخاسر «عبد الرحمن بن ملجم» لم يقل سوى «فزت وربّ الكعبة».

خلاصة القول : فإنّ الإيمان بالمعاد يجعل من الإنسان الخائف الضائع ، إنسانا شجاعا شهما هادفا ، تمتلئ حياته بالحماسة والتضحية والصدق والتقوى.

٣ ـ الدلائل العقليّة على المعاد :

فضلا عن الدلائل النقلية الكثيرة على المعاد سواء الواردة في القرآن المجيد ، والتي تشمل مئات الآيات بهذا الخصوص ، فإنّ هناك أدلّة عقليّة واضحة أيضا على هذه المسألة ، والتي نحاول ذكرها هنا بشكل مختصر :

أ ـ برهان الحكمة :

إذا نظرنا إلى هذا العالم بدون العالم الآخر ، فسيكون فارغا وبلا معنى تماما ، كما لو افترضنا بوجود الحياة في الأطوار الجنينية بدون الحياة في هذه الدنيا.

فلو كان قانون الخلق يقضي بأنّ جميع المواليد الجدد يختنقون بمجرّد نزولهم من بطون امّهاتهم ويموتون ، فإنّ الدور الجنيني سيكون بلا معنى؟ كذلك لو كانت الحياة في هذا العالم مبتورة عن الحياة في العالم الآخر ، فسنواجه نفس الاضطراب والحيرة ، فما ضرورة أن نعيش سبعين عاما أو أكثر أو أقل في هذه الدنيا وسط كلّ هذه المشكلات؟ فنبدأ الحياة ونحن لا نملك تجربة معيّنة ، وحين بلوغ تلك المرتبة يهجم الموت وينتهي العمر نسعى مدّة لتحصيل العلم والمعرفة ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٥ صفحة ٥٢.

٢٦١

وحينما نبلغ درجة منه بعد اشتعال الرأس شيبا يستقبلنا الموت.

ثمّ لأجل ماذا نعيش؟ الأكل واللبس والنوم والاستيقاظ المتكرّر يوميا ، واستمرار هذا البرنامج المتعب لعشرات السنين ، لماذا؟

فهل حقّا إنّ هذه السماء المترامية الأطراف وهذه الأرض الواسعة ، وكلّ هذه المقدّمات والمؤخّرات وكلّ هؤلاء الأساتذة والمعلّمين والمربّين وكلّ هذه المكتبات الضخمة وكلّ هذه الأمور الدقيقة والأعمال التي تداخلت في خلقنا وخلق باقي الموجودات ، كلّ ذلك لمجرّد الأكل والشرب واللبس والحياة المادية هذه؟

هنا يعترف الذين لا يعتقدون بالمعاد بتفاهة هذه الحياة ، ويقدم بعضهم على الانتحار للتخلّص من هذه الحياة الخاوية ، بل قد يفتخر به.

وكيف يمكن لمن يؤمن بالله وبحكمته المتعالية أن يعتبر هذه الحياة الدنيا وحدها بدون ارتباطها بحياة اخرى ذات قيمة وذات شأن؟

يقول تعالى :( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ) (١) . أيّ أنّه لو لم يكن رجوع بعد هذه الدنيا إلى الله ، فإنّ الحياة في هذه الدنيا ليست سوى عبث في عبث.

نعم فإنّ الحياة في هذه الدنيا تجد معناها ويكون لها مفهوما ينسجم مع حكمة الله سبحانه وتعالى عند ما تعتبر هذه : «الدنيا مزرعة للآخرة» و «الدنيا قنطرة» ومكان تعلّم ، وجامعة للاستعداد للعالم الآخر ومتجر لذلك العالم ، تماما كما يقول أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) في كلماته العميقة المعنى «إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار عاقبة لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزوّد منها ، ودار موعظة لمن اتّعظ بها ، مسجد أحبّاء الله ، ومصلّى ملائكة الله ، ومهبط وحي الله ،

__________________

(١) المؤمنون ، ١١٥.

٢٦٢

ومتجر أولياء الله»(١) .

خلاصة القول ، إنّ الفحص والمطالعة في وضع هذا العالم يؤدّي إلى الاعتقاد بعالم آخر وراء هذا العالم( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ ) (٢) .

ب ـ برهان العدالة :

التدقيق في نظام الوجود وقوانين الخلق ، يستنتج منه أنّ كلّ شيء منها محسوب بدقّة متناهية. ففي مؤسسة البدن البشري ، يحكم نظام عادل دقيق ، بحيث أنّه لو تعرّض لأدنى تغيير أو عارض ما لأدّى إلى إصابته بالمرض أو حتّى الموت ، حركات القلب ، دوران الدم ، أجفان العين ، وكلّ جزء من خلايا الجسم البشري مشمول بهذا النظام الدقيق ، الذي يحكم العالم بأسره «وبالعدل قامت السموات والأرض»(٣) فهل يستطيع الإنسان أن يكون وحده النغمة النشاز في هذا العالم الواسع؟!

صحيح أنّ الله سبحانه وتعالى أعطى للإنسان بعض الحرية في الإرادة والإختيار لكي يمتحنه ولكي يتكامل في ظلّ تلك الحرية ويطوي مسير تكامله بنفسه ، ولكن إذا أساء الإنسان الاستفادة من تلك الحرية فما ذا سيكون؟!

ولو أنّ الظالمين الضالّين المضلّين بسوء استفادتهم من هذه الموهبة الإلهية استمرّوا على مسيرهم الخاطئ فما ذا يقتضي العدل الإلهي؟! وصحيح أنّ بعضا من المسيئين يعاقبون في هذه الدنيا ويلقون مصير أعمالهم ـ على الأقل قسم منهم ـ ولكن المسلّم أنّ جميعهم لا ينال جميع ما يستحقّ. كما أنّ جميع المحسنين الأطياب لا يتلقّون جزاء أعمالهم الطيّبة في الدنيا ، فهل من

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار كلمة ١٣١.

(٢) الواقعة ، ٦٢.

(٣) تفسير الصافي ، المجلّد الخامس ، صفحة ١٠٧.

٢٦٣

الممكن أن تكون كلا المجموعتين في كفّة عدالة الله سواء؟!

ويقول القرآن الكريم :( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .(١) وفي موضع آخر يقول تعالى :( أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) .(٢)

على كلّ حال ، فلا شكّ في تفاوت الناس وإطاعة أوامر الله سبحانه وتعالى ، كما أنّ محاكم «القصاص والثواب الدنيوية» و «محكمة الوجدان» و «الآثار الوضعية للذنوب» كلّ ذلك لا يكفي لإقرار العدالة على ما يبدو ، وعليه يجب القبول بأنّه لأجل إجراء العدالة الإلهية يلزم وجود محكمة عدل عامّة تراعي بدقّة الخير أو الشرّ في حساباتها ، وإلّا فإنّ أصل العدالة لا يمكن تأمينه أبدا.

وبناء على ما تقدّم يجب الإقرار بأنّ قبول العدل الإلهي مساو بالضرورة لوجود المعاد والقيامة ، القرآن الكريم يقول :( وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) .(٣)

ويقول :( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .(٤)

ج ـ برهان الهدف :

على خلاف ما يتوهّمه المادّيون ، فإنّ الإلهيين يرون أنّ هناك هدفا من خلق الإنسان ، والذي يعبّر عنه الفلاسفة بـ «التكامل» وفي لسان القرآن والحديث فهو «القرب إلى الله» أو «العبادة»( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) .(٥)

فهل يمكن تحقيق هذا الهدف إذا كان الموت نهاية لكلّ شيء؟!

__________________

(١) القلم ، ٣٥ و ٣٦.

(٢) ص ، ٢٨.

(٣) الأنبياء ، ٤٧.

(٤) يونس ، ٥٤.

(٥) الذاريات ، ٥٦.

٢٦٤

يجب أن يكون عالم بعد هذا العالم ويستمرّ فيه سير الإنسان التكاملي ، وهناك يحصد ما زرع في هذا العالم ، وكما قلنا في موضع آخر فإنّه في ذلك العالم الآخر يستمرّ سير الإنسان التكاملي ليبلغ هدفه النهائي.

الخلاصة : أنّ تحقيق الهدف من الخلق لا يمكن بدون الإعتقاد بالمعاد ، وإذا قطعنا الارتباط بين هذا العالم وعالم ما بعد الموت ، فكلّ شيء سيتحوّل إلى ألغاز ، وسوف نفقد الجواب على الكثير من التساؤلات.

د ـ برهان نفي الاختلاف :

لا شكّ أنّنا جميعا نتعذّب كثيرا من الاختلافات بين المذاهب والعقائد في هذا العالم ، وكلّنا نتمنّى أن تحلّ هذه الاختلافات ، في حين أنّ جميع القرائن تدلّل على أنّ هذه الاختلافات هي من طبيعة الحياة. ويستفاد من عدّة دلائل بأنّه حتّى بعد قيام المهديعليه‌السلام ـ وهو المقيم لحكومة العدل العالمية والمزيل لكثير من الاختلافات ـ ستبقى بعض الاختلافات العقائدية بلا حلّ تامّ ، وكما يقول القرآن الكريم فإنّ اليهود والنصارى سيبقون على اختلافاتهم إلى قيام القيامة :( فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ) .(١)

ولكن الله سبحانه وتعالى الذي يقود كلّ شيء باتّجاه الوحدة سينهي تلك الاختلافات حتما ، ولوجود الحجب الكثيفة لعالم المادّة في الدنيا فإنّه لا يمكن حلّ هذا الأمر بشكل كامل فيها ، ونعلم أنّ العالم الآخر هو عالم الظهور والانكشاف ، إذن فنهاية هذه المسألة ستكون نهاية عملية ، وستكون الحقائق جلية واضحة إلى درجة أنّ الاختلافات العقائدية ستحلّ بشكل نهائي تامّ.

الجميل أنّه تمّ التأكيد في آيات متعدّدة من القرآن الكريم على هذه المسألة ، يقول تعالى في الآية (١١٣) من سورة البقرة :( فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما

__________________

(١) المائدة ، ١٤.

٢٦٥

كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) وفي الآيات (٣٨) و (٣٩) من سورة النحل يقول تعالى :( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ ) .

٤ ـ القرآن ومسألة المعاد :

تعتبر مسألة المعاد المسألة الثانية بعد مسألة التوحيد والتي تعتبر المسألة الأساس في تعليمات الأنبياء بخصائصها وآثارها التربوية ، لذا ففي بحوث القرآن الكريم نجد أنّ أكثر الآيات اختصّت ببحث مسألة المعاد ، بعد الكثرة الكاثرة التي اختصّت ببحث مسألة التوحيد.

والمباحث القرآنية حول المعاد تارة تكون بشكل استدلالات منطقية ، واخرى بشكل بحوث خطابية وتلقينية شديدة الوقع بحيث أنّ سماعها في بعض الأحيان يؤدّي إلى قشعريرة شديدة في البدن بأسره. والكلام الصادق ـ كالاستدلالات المنطقية ـ ينفذ إلى أعماق الروح الإنسانية.

في القسم الأوّل ، أي الاستدلالات المنطقية ، فإنّ القرآن الكريم يؤكّد كثيرا على موضوع إمكانية المعاد ، إذ أنّ منكري المعاد غالبا ما يتوهّمون استحالته ، ويعتقدون بعدم إمكانية المعاد بصورة معاد جسماني يستلزم عودة الأجسام المهترئة والتراب إلى الحياة مرّة اخرى.

ففي هذا القسم ، يلج القرآن الكريم طرقا متنوعة ومتفاوتة تلتقي كلّها في نقطة واحدة ، وهي مسألة «الإمكان العقلي للمعاد».

فتارة يجسّد للإنسان النشأة الاولى ، وبعبارة وجيزة ومعبّرة واضحة تقول الآية :( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) .(١)

__________________

(١) الأعراف ، ٢٩.

٢٦٦

وتارة يجسّد حياة وموت النبات ، وبعثه الذي نراه بامّ أعيننا كلّ عام ، وفي الختام يقول إنّ بعثكم تماما كالنبات :( وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ ) .(١)

وفي موضع آخر يقول تعالى :( وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ ) .(٢)

وحينا يطرح مسألة قدرة الله سبحانه وتعالى على خلق السموات والأرض فيقول :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .(٣)

وحينا آخر يعرض عملية انبعاث الطاقة واشتعال الشجر الأخضر كنموذج على قدرته ، وجعل النار في قلب الماء فيقول :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً ) .(٤)

وتارة يجسّد أمام ناظري الإنسان الحياة الجنينية فيقول :( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) .(٥)

وأخيرا فإنّ القرآن تارة يدلّل على البعث بالنوم الطويل ـ النوم الذي هو قرين الموت وأخوه ، بل إنّه الموت بعينه من بعض الجوانب ـ كنوم أصحاب الكهف الذي استمر ثلاثمائة وتسع سنين ، وبعد تفصيل جميل حول النوم واليقظة يقول :

__________________

(١) سورة ق ، ٩ ـ ١١.

(٢) فاطر ، ٩.

(٣) الأحقاف ، ٣٣.

(٤) سورة يس ، ٨٠.

(٥) الحجّ ، ٥.

٢٦٧

( وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها ) .(١)

تلك هي الأساليب الستّة المختلفة التي طرحتها آيات القرآن الكريم لبيان إمكانية المعاد. علاوة على قصّة إبراهيم عليه‌السلام والطيور الأربعة (البقرة ـ ٢٦٠) وقصّة عزير (البقرة ـ ٢٥٩) وقصّة الشهادة من بني إسرائيل (البقرة ـ ٧٣) ، والتي تشكّل كلّ واحدة منها نموذجا تأريخيا على هذه المسألة وهي من الشواهد والدلائل الاخرى التي ذكرها القرآن بهذا الخصوص.

خلاصة القول ، إنّ ما يعرضه القرآن الكريم عن المعاد ومظاهره المختلفة ومعلوماته ونتائجه ، والدلائل الرفيعة التي يطرحها بهذا الخصوص ، حيّة ومقنعة بحيث أنّ أيّ إنسان إذا كان لديه ذرّة من الوجدان فإنّه يتأثّر بعمق ما يطرحه القرآن الكريم.

وعلى قول البعض : فإنّ ألفا ومائتي آية من القرآن الكريم تبحث في مسألة المعاد ، لو جمعت وفسّرت لأصبحت وحدها كتابا ضخما.

٥ ـ المعاد الجسماني :

المقصود من المعاد الجسماني ليس إعادة الجسم وحده في العالم الآخر ، بل إنّ الهدف هو بعث الروح والجسم معا ، وبتعبير آخر فإنّ عودة الروح أمر مسلّم به ، والحديث حول عودة الجسم.

جمع من الفلاسفة القدماء كانوا يعتقدون بالمعاد الروحي فقط ، وينظرون إلى الجسد على أنّه مركّب ، يكون مع الإنسان في هذه الدنيا فقط ، وبعد الموت يصبح الإنسان غير محتاج إليه فينزل الجسد ويندفع نحو عالم الأرواح.

ولكن العلماء المسلمين الكبار يعتقدون بأنّ المعاد يشمل الروح والجسم ، وهنا لا يقيّد البعض بعودة الجسم السابق ، ويقولون بأنّ الله قيّض للروح جسدا ، ولكن

__________________

(١) الكهف ، ٢١.

٢٦٨

شخصيّة الإنسان بروحه فإنّ هذا الجسد يعدّ جسده.

في حال أنّ المحقّقين يعتقدون بأنّ هذا الجسد الذي يصبح ترابا ويتلاشى ، يتلبّس بالحياة مرّة اخرى بأمر الله الذي يجمعه ويكسوه بالحياة ، هذه العقيدة نابعة من متون الآيات القرآنية الكريمة.

إنّ الشواهد على المعاد الجسماني في الآيات القرآنية الكريمة كثيرة جدّا ، بحيث يمكن القول قطعا بأنّ الذين يعتقدون باقتصار المعاد على المعاد الروحي فقط لا يملكون أدنى اطّلاع على الآيات العديدة التي تبحث في موضوع المعاد ، وإلّا فإنّ جسمانية المعاد واضحة في الآيات القرآنية إلى درجة تنفي أدنى شكّ في هذه المسألة.

فهذه الآيات التي قرأناها في آخر سورة يس ، توضّح هذه الحقيقة حيث حينما تساءل الإنسان :( قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) أجابه القرآن بصراحة ووضوح :( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) .

إنّ كلّ تعجّب المشركين والمخالفين لمسألة المعاد هو هذه القضيّة ، وهي كيف يمكن إحياؤنا بعد الموت وبعد أن نصبح ترابا متناثرا وضائعا في هذه الأرض؟( وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .(١)

إنّهم يقولون :( أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ) (٢) . وتعجّبوا من هذه المسألة إلى درجة أنّهم اعتبروا إظهارها دليلا على الجنون أو الكذب على الله( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .(٣)

لهذا السبب فإنّ استدلالات القرآن الكريم حول إمكانية المعاد عموما تدور

__________________

(١) السجدة ، ١٠.

(٢) المؤمنون ، ٣٥.

(٣) سورة سبأ ، ٧.

٢٦٩

حول هذا المحور وهو «المعاد الجسماني» وما عرضناه في الفصل السابق في ستّة طرق كانت دليلا وشاهدا على هذا الادّعاء.

علاوة على أنّ القرآن الكريم يذكر مرارا وتكرارا بأنّكم ستخرجون يوم القيامة من قبوركم والقبور مرتبطة بالمعاد الجسماني.

والأوصاف التي يذكرها القرآن الكريم عن المواهب المادية والمعنوية للجنّة ، كلّها تدلّل على أنّ المعاد معاد جسمي ومعاد روحي أيضا ، وإلّا فلا معنى للحور والقصور وأنواع الأغذية والنعيم في الجنّة إلى جنب المواهب المعنوية.

على كلّ حال ، فلا يمكن أن يكون الإنسان على جانب يسير من المنطق والثقافة القرآنية وينكر المعاد الجسماني. وبتعبير آخر : فإنّ إنكار المعاد الجسماني بنظر القرآن الكريم مساو لإنكار أصل المعاد.

علاوة على هذه الأدلّة النقلية ، فإنّ هناك أدلّة عقلية بهذا الخصوص لو أردنا إيرادها لاتّسع البحث كثيرا ، لا شكّ أنّ الإعتقاد بالمعاد الجسماني سيثير أسئلة وإشكالات كثيرة ، منها شبهة الآكل والمأكول والتي ردّ عليها العلماء الإسلاميون والتي أوردنا تفصيلا عنها بشكل مختصر في المجلّد الثاني عند تفسير الآية (٢٦٠) من سورة البقرة.

٦ ـ الجنّة والنار

الكثيرون يتوهّمون بأنّ عالم ما بعد الموت يشبه هذا العالم تماما ولكنّه بشكل أكمل وأجمل ، غير أنّ لدينا قرائن عديدة تدلّل على الفروق الكبيرة بين العالمين من حيث الكيفية والكميّة ، لو أردنا تشبيهها بالفروق بين العالم الجنيني وهذه الدنيا لظلّت المقايسة أيضا غير كاملة.

فوفقا لصريح الروايات الواردة في هذا الشأن فإنّ في عالم ما بعد الموت ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على فكر بشر ، القرآن الكريم يقول :( فَلا تَعْلَمُ

٢٧٠

نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) .(١)

الأنظمة الحاكمة في ذلك العالم أيضا تتفاوت تماما مع الأنظمة في هذا العالم ، ففي حين يستفاد في هذا العالم من أفراد يسمّون «الشهود» في المحاكمات ، نرى أنّ هناك تشهد الأيدي والأرجل وحتّى الجلد( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .(٢) ( وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) (٣) .

على كلّ حال ، فما قيل عن العالم الآخر لا يرسم أمامنا سوى صورة باهتة ، وعادة فإنّ اللغة التي نتحدّث بها والثقافة التي لدينا غير قادرة جميعها على الوصف الحقيقي لما هو موجود هناك ، ولكن لا يترك الميسور بالمعسور. فالمقدار المتيقّن هو أنّ الجنّة هي مركز كلّ النعم والمواهب الإلهية سواء المادية أو المعنوية ، وجهنّم هي مركز لكلّ أنواع العذاب الأليم المادّي والمعنوي أيضا.

أمّا بخصوص تفصيل ذلك فإنّ القرآن الكريم أورد جزئيات نحن نؤمن بها ، ولكن تفصيلها بدقّة غير ممكن بدون الرؤية والمعاينة. ولنا بحث حول هذا الخصوص في تفسير الآية (٣٣) من سورة آل عمران.

إلهي : آمنّا في الفزع الأكبر.

إلهي : لا تحاسبنا بعدلك ولكن حاسبنا بلطفك وعدلك ، فليس لدينا من الأعمال ما يوجب رضاك.

اللهم افعل بنا ما يرضيك عنّا ويجعلنا من الناجين آمين ربّ العالمين.

* * *

نهاية سورة يس

__________________

(١) السجدة ، ١٧.

(٢) سورة يس ـ ٦٥.

(٣) سورة فصلت ، ٢١.

٢٧١
٢٧٢

سورة

الصّافات

مكيّة

وعدد آياتها مائة واثنان وثمانون آية

٢٧٣
٢٧٤

سورة الصّافات

محتوى سورة الصّافات :

هذه السورة بحكم كونها من السور المكيّة ، فإنّها تمتلك كافّة خصائص السور المكيّة ، فهي تسلّط الأضواء على اصول المعارف والعقائد الإسلامية الخاصّة بالمبدأ والمعاد. وتتوعّد المشركين بأشدّ العقاب وذلك من خلال العبارات الحازمة والآيات القصيرة العنيفة الوقع ، وتوضّح ـ بالأدلّة القاطعة ـ بطلان عقائدهم.

بصورة عامّة يمكن تلخيص محتوى سورة الصافات في خمسة أقسام :

القسم الأوّل : يبحث حول مجاميع من ملائكة الرحمن ، ومجموعة من الشياطين المتمردين ومصيرهم.

القسم الثّاني : يتحدّث عن الكافرين ، وإنكارهم للنبوّة والمعاد ، والعقاب الذي ينتظرهم يوم القيامة ، كما يستعرض الحوار الذي يدور بينهم في ذلك اليوم ، ويحملهم جميعا الذنب ، والعذاب الإلهي الذي سيشملهم ، كما يشرح هذا القسم جوانب من النعم الموجودة في الجنّة إضافة إلى ملذّاتها وجمالها وسرور أهلها.

القسم الثّالث : يشرح بصورة مختصرة تأريخ الأنبياء أمثال (نوح) و (إبراهيم) و (إسحاق) و (موسى) و (هارون) و (إلياس) و (لوط) و (يونس) وبصورة ذات تأثير قوي ، كما يتحدّث هذا القسم بشكل مفصّل عن إبراهيم محطّم الأصنام وعن جوانب مختلفة من حياته ، والهدف الرئيسي من وراء سرد قصص الأنبياء ـ مع ذكر بعض الشواهد العينية من تأريخهم ـ هو تجسيد حوادث تلك القصص

٢٧٥

وتصويرها بشكل محسوس وملموس.

القسم الرّابع : يعالج صورة معيّنة من صور الشرك والذي يمكن اعتباره من أسوأ صور الشرك ، وهو الإعتقاد بوجود رابطة القرابة بين الله سبحانه وتعالى والجنّ والملائكة ، ويبيّن بطلان مثل هذه العقائد التافهة بعبارات قصيرة.

أمّا القسم الخامس والأخير : فيتناول في عدّة آيات قصار انتصار جيوش الحقّ على جيوش الكفر والشرك والنفاق ، وابتلاءهم ـ أي الكافرين والمشركين والمنافقين ـ بالعذاب الإلهي ، وتنزّه آيات هذا القسم الله سبحانه وتعالى وتقدّسه عن الأشياء التي نسبها المشركون إليه ، ثمّ تنتهي السورة بالحمد والثناء على الباريعزوجل .

فضيلة تلاوة سورة الصافات :

في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، جاء فيه : «من قرأ سورة الصافات اعطي من الأجر عشر حسنات ، بعدد كلّ جنّ وشيطان ، وتباعدت عنه مردة الشياطين ، وبرىء من الشرك ، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنّه كان مؤمنا بالمرسلين»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام جاء فيه : «من قرأ سورة الصافات في كلّ جمعة لم يزل محفوظا من كلّ آفة ، مدفوعا عنه كلّ بليّة في حياته الدنيا ، مرزوقا في الدنيا بأوسع ما يكون من الرزق ، ولم يصبه الله في ماله ولا ولده ولا بدنه بسوء من شيطان رجيم ، ولا جبّار عنيد ، وإن مات في يومه أو ليلته بعثه الله شهيدا ، وأماته شهيدا ، وأدخله الجنّة مع الشهداء في درجة من الجنّة»(٢) .

الثواب العظيم الذي يناله من يتلو سورة الصافات ، جاء نتيجة لما تحويه هذه

__________________

(١) مجمع البيان ، أوّل تفسير سورة الصافات.

(٢) تفسير مجمع البيان أوّل تفسير سورة الصافات ـ لقد ورد هذا الحديث في تفسير البرهان نقلا عن الشيخ الصدوق ، رحمة الله مع اختلاف بسيط.

٢٧٦

السورة المباركة ، فنحن ندرك أنّ الهدف من التلاوة هو التفكّر ، ومن ثمّ الإعتقاد ، ومن بعد العمل. ومن دون شكّ فإنّ الذي يتلو هذه السورة بتلك الصورة ، سيحفظ من شرّ الشياطين ، ويتطهّر من الشرك ، ويمتلك الإعتقاد الصحيح القوي ، ويمارس أعمالا صالحة ، ويتّعظ من القصص الواقعية للأنبياء والأقوام الماضية ، وإنّه سيحشر مع الشهداء.

وممّا يذكر فإنّ تسمية هذه السورة بالصافات جاءت نسبة إلى الآية الاولى فيها.

* * *

٢٧٧

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) )

التّفسير

الملائكة المستعدّة لتنفيذ المهام :

هذه السورة هي أوّل سورة في القرآن الكريم تبدأ بالقسم ، القسم المليء بالمعاني والمثير للتفكّر ، القسم الذي يجوب بفكر الإنسان في جوانب مختلفة من هذا العالم ، ويجعله متهيّئا لتقبّل الحقائق.

من المسلّم به أنّ الله تبارك وتعالى هو أصدق الصادقين ، وليس بحاجة إلى القسم ، إضافة إلى أنّ قسمه إن كان للمؤمنين ، فإنّهم مؤمنون به من دون قسم ، وإن كان للناكرين ، فإنّ أولئك لا يعتقدون بالقسم الإلهي.

ونلفت الانتباه إلى نقطتين لحلّ مشكلة القسم في كلّ آيات القرآن التي سنتناولها من الآن فما بعد.

الاولى : أنّ القسم يأتي دائما بالنسبة إلى امور مهمّة وذات قيمة ، ولذلك فإنّ

٢٧٨

أقسام القرآن تشير إلى عظمة وأهميّة الأشياء المقسم بها. وهذا الأمر يدعو إلى التفكّر أكثر بالشيء المقسم به ، التفكّر الذي يكشف للإنسان عن حقائق جديدة.

الثانية : أنّ القسم يأتي للتأكيد ، وللدلالة على أنّ الأمور التي يقسم من أجلها هي امور جديّة ومؤكّدة.

وعلاوة على ذلك أنّ المتحدّث لو تحدّث بصورة حازمة ومؤكّدة ، فإنّ تأثير كلامه من الناحية النفسية سيكون أوقع على قلب المستمع ، كما أنّه يقوّي المؤمنين ويضعّف الكافرين.

على كلّ حال ، فإنّ بداية هذه السورة تذكر أسماء ثلاثة طوائف أقسم بها الله تعالى(١) .

الأولى :( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ) .

الثانية :( فَالزَّاجِراتِ زَجْراً ) .

الثالثة :( فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ) .

فمن هي تلك الطوائف الثلاث؟ وعلى من أطلقت تلك الصفات؟ وما الهدف النهائي منها؟

المفسّرون قالوا الكثير بهذا الشأن ، إلّا أنّ المعروف والمشهور هو أنّ هذه الصفات تخصّ طوائف من الملائكة

طوائف اصطفّت في عالم الوجود بصفوف منظمة ، وهي مستعدّة لتنفيذ الأمر الإلهي.

وطوائف من الملائكة تزجر بني آدم عن ارتكاب المعاصي والذنوب ، وتحبط وساوس الشياطين في قلوبهم. أو الملائكة الموكّلة بتسيير السحاب في السماء وسوقها نحو الأرض اليابسة لإحيائها.

وأخيرا طوائف من الملائكة تتلو آيات الكتب السماوية حين نزول الوحي

__________________

(١) هذه العبارات الثلاث من جهة هي ثلاثة أقسام ، ومن جهة اخرى هي قسم واحد له ثلاث صفات.

٢٧٩

على الرسل(١) .

وممّا يلفت النظر أنّ «الصافات» هي جمع كلمة «صافّة» وهي بدورها تحمل صفة الجمع أيضا ، وتشير إلى مجموعة مصطفّة ، إذن فـ «الصافات» تعني الصفوف المتعدّدة(٢) .

وأمّا كلمة «الزاجرات» فإنّها مأخوذة من (الزجر) ويعني الصرف عن الشيء بالتخويف والصراخ ، وبمعنى أوسع فإنّها تشمل كلّ منع وطرد وزجر للآخرين.

إذن فالزاجرات تعني مجاميع مهمّتها نهي وصرف وزجر الآخرين.

و «التاليات» من (التلاوة) وهي جمع كلمة (تال) وتعني طوائف مهمّتها تلاوة شيء ما(٣) .

ونظرا لكثرة واتّساع مفاهيم هذه الألفاظ ، فليس من العجب أن يطرح المفسّرون تفاسير مختلفة لها دون أن يناقض بعضها الآخر ، بل من الممكن أيضا أن تجتمع لتوضيح مفهوم هذه الآيات ، فمثلا المقصود من كلمة «الصافات» هو صفوف الملائكة المستعدّة لتنفيذ الأوامر الإلهيّة ، في عالم الخلق ، أو الملائكة النازلون بالوحي إلى الأنبياء في عالم التشريع ، وكذلك صفوف المقاتلين

__________________

(١) بالطبع وردت احتمالات اخرى في تفسير الآيات المذكورة أعلاه ، «منها» ما يشير إلى صفوف جند الإسلام في ساحات الجهاد ، الذين يصرخون بالأعداء ويزجرونهم عن الاعتداء على حرمة الإسلام والقرآن ، والذين يتلون كتاب الله دائما ومن دون أي انقطاع ، وينوّرون قلوبهم وأرواحهم بنور تلاوته ، ومنها : أنّ بعض هذه الأوصاف الثلاثة هو إشارة إلى ملائكة اصطفّت بصفوف منظمة ، والقسم الآخر يشير إلى آيات القرآن التي تنهى الناس عن ارتكاب القبائح ، والقسم الثالث يشير إلى المؤمنين الذين يتلون القرآن في أوقات الصلاة وفي غيرها من الأوقات. ويستبعد الفصل بين هذه الأوصاف ، لأنّها معطوفة على بعضها البعض بحرف (الفاء) ، وهذا يوضّح أنّها أوصاف لطائفة واحدة. وقد ذكر العلّامة «الطباطبائي» في تفسيره الميزان هذا الاحتمال ، في أنّ الأوصاف الثلاثة هي تطلق على ملائكة مكلّفة بتبليغ الوحي الإلهي ، والاصطفاف في طريق الوحي لتوديعه ، وزجر الشياطين التي تقف في طريقه ، وفي النهاية تلاوة آيات الله على الأنبياء.

(٢) ولا ضير في التعبير عن الملائكة بلفظ الإناث «الصافات والزاجرات والتاليات» لأنّ موصوفها الجماعة ، وهي مؤنّث لفظي.

(٣) ممّا يذكر أنّ بعض اللغويين قالوا بأنّ جمع كلمة (تال) هو (تاليات) وجمع (تالية) (توال).

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341