الفقه والمسائل الطبية

الفقه والمسائل الطبية0%

الفقه والمسائل الطبية مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 341

الفقه والمسائل الطبية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد آصف المحسني
تصنيف: الصفحات: 341
المشاهدات: 89461
تحميل: 7098

توضيحات:

الفقه والمسائل الطبية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 341 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89461 / تحميل: 7098
الحجم الحجم الحجم
الفقه والمسائل الطبية

الفقه والمسائل الطبية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بل ظاهر المشهور ضمانه وإن لم يتجاوز عن الحدّ المأذون فيه، ولكنّه مشكل، فلو مات الولد بسبب الختان، مع كون الختّان حاذقاً من غير أنْ يتعدّى عن محلّ القطع، بأنْ كان أصل الختان مُضرّاً به، في ضمانه إشكال(١) .

أقول : لم يظهر لي فرق بين المقام وبين الطبيب المباشر للعلاج إذا أفسده، حيث أفتى صاحب العروة والسيّد الخوئي هناك بضمانه مطلقاً، وفي المقام قيّد الضمان بتجاوز الحدّ المأذون(٢) ؟.

وعلّق السيّد الأُستاذ الخوئيرحمه‌الله على قوله ( لكنّه مشكل ): بل الأقوى عدم الضمان(٣) .

أقول : ولعلّه لعدم صدق إفساد الطبيب حينئذٍ(٤) .

ثمّ قال السيّد الخوئيرحمه‌الله : ومع ذلك، الظاهر هو الضمان في مسألة الختان، إلاّ إذا كان المقتول به هو الذي سلّم نفسه له مع استجماعه شرائط التكليف(٥) .

وذكر في كتابه توضيح المسائل: إنْ مات الطفل بالختان ؛ يضمن الطبيب، تجاوز الحدّ المعمول به في ختانه أم لم يتجاوز، وإن تضرّر به الطفل، فإنْ قطع أكثر من المعمول به يضمن، وإلاّ ففي ضمانه إشكال، والأحوط الرجوع إلى الصلح. ( كتاب الإجارة، المسألة ٢٢١٢ ).

وقال بعض أهل العصر في منهاج الصالحين: الختّان إنْ قصّر أو أخطأ

___________________

(١) العروة الوثقى ج ٢ ص ٣٩٣ - ٣٨٤.

(٢) نعم مفهوم كلام السيّد الأُستاذ الخوئي في منهاج الصالحين ( ١٠١ ج٢ الطبعة الثامنة ) عدم الفرق بينهما في قيد التجاوز عن الحدّ وعدمه، في الضمان وعدمه فلاحظ.

(٣) العروة الوثقى ج٢ / ٣٩٤.

(٤) فيجري في حقّ الطبيب في المسألة الرابعة أيضاً بلا فرق.

(٥) نفس المصدر.

٢١

في عمله كأن تجاوز عن الحدّ المتعارف، فتضرّر أو مات الطفل كان ضامناً، وإنْ تضرّر أو مات بأصل الختان لم يكن عليه ضمان، إذا لم يعهد إليه إلاّ إجراء عمليّة الختان دون تشخيص ما إذا كان الطفل يتضررّ بها أم لا، ولم يكن يعلم بتضرّره مسبقاً.

أقول : في غير ما أنجز الأمر إلى القتل، المدار في الضمان هو صدق الإفساد، فإذا لم يصدق فلا موجب للضمان، فالأرجح عدم الضمان إذا كان حاذقاً ولم يتجاوز الحدّ المأذون طبّاً، وفي القتل يرجع إلى إطلاق ما دلّ على لزوم الديّة على مَن قتل خطأً أو شبه عمد، نعم، إذا لم يستند القتل إلى الطبيب لا وجه لضمانه ؛ وما ذكره بعض أهل العصر، كما نقلناه عنه آنفاً، لا يخلو من وجه، والله العالم.

وكلّ ما ذكرنا في هذا الأمر جارٍ في الأمر الرابع فتأمّل.

( السادس ) : إذا قال الطبيب من غير مباشرة: لو كنت مريضاً بمثل هذا المرض لشربت الدواء الفلاني، فلا ضمان عليه لعدم موجبه. وإن قال: الدواء الفلاني نافع للمرض الفلاني، ففي العروة: فلا ينبغي الإشكال في عدم ضمانه(١) .

أقول : وقاعدة الغرور تشمل المقام، وإذا كان أجيراً يشمله قولهعليه‌السلام : ( كلّ عاملٍ أعطيته أجراً على أنْ يصلح فأفسد فهو ضامن )(٢) ، إلاّ أنْ يدّعي انصراف الحديث إلى فرض المباشرة، مع أنّه كسابقه ظاهراً.

وفي الجواهر ( ص٤٩ ج٤٣ ): أمّا إذا قال ( الطبيب ): أظنّ أنّ هذا الدواء نافع لهذا الداء، أو لو كنت أنا لفعلت كذا، ممّا لم تكن فيه مباشرة

___________________

(١) العروة الوثقى ٢: ٣٩٤.

(٢) المصدر.

٢٢

منه وإنّ فعل المريض العاقل المختار، أو وليّه ذلك اعتماداً على القول المزبور فإنّ المتّجه فيه عدم الضمان ؛ للأصل وغيره، كما أنّ المتّجه عدم شيءٍ عليه حيث لم يعلم الحال ؛ لاحتمال الموت بغير العلاج.

أقول : ما ذكر صاحب الجواهر من فرض أخذ الظنّ في كلام الطبيب، أوضح في نفي الضمان عنه من فرض صاحب العروة ( قدس‌ سره ما ).

وأمّا إن كان الطبيب آمراً، ففي العروة: ففي ضمانه إشكال، الاّ أن يكون سبباً وكان أقوى من المباشر، وأشكل منه إذا كان واصفاً للدواء من دون أن يكون آمراً، كأنْ يقول: دوائك كذا و كذا، بل الأقوى فيه عدم الضمان(١) .

أقول : وتبعه عليه سيّدنا الأُستاذ الخوئيقدس‌سره .

وقال بعض أهل العصر في منهاج الصالحين: لو عالج الطبيب المريض مباشرةً، أو وصف له الدواء حسب ما يراه، فاستعمله المريض وتضرّر أو مات، كان ضمانه عليه وإن لم يكن مقصّراً.

أقول : فلاحظ وتأمّل.

( السابع ) : يحرم للصيدليّات إيتاء الأدوية المخالِفة لنظر الأطباء وكتابتهم، كما يحرم إيتاء الأدوية التي مضى وقتها وهي غير نافعة للمرض.

وإذا علم البائع أنّ الطبيب خان المريض أو اشتبه، وأنّ هذا الدواء مهلك أو قاتل له إن استعمله ؛ يجب عليه إعلام المريض بالحال، ويحسن الإعلام إذا كان الضرر جزئيّاً أو كانّ الدواء غير مفيدٍ له، فإنّ الله سبحانه يقول:

( إنَّ الله يأمُرُ بِاْلعَدْلِ وَالإحْسَان ) (٢) . ويقول:( وتَعَاونُوا عَلَى البِرِّ وَالتَقّوَى ) (٣) .

___________________

(١) العروة الوثقى ٢: ٣٩٤.

(٢) النمل آية ٩٠.

(٣) المائدة آية ٢.

٢٣

خاتمة

قال صاحب الجواهر بعد ذكر روايات أكثرها ضعاف سنداً، وليست بحجّة:

ولا يخفى عليك ما في هذه النصوص من الفوائد، منها... وجوب العلاج لمن كان له بصيرة فيه، ومنها عدم اعتبار الاجتهاد في علم الطبّ، بل يكفي للمداوي المداوى بالتجربيّات العاديّة ونحوها ممّا جرت السيرة والطريقة به، وخصوصاً للعجائز والأطفال(١) .

أقول : هذا بالنسبة إلى التداوي بالعقاقير غير المضرّة لا بأس به، وأمّا التداوي بالأدوية الكيمياويّة المضرّة أو القاتلة كما هي المتداولة اليوم، فلا يجوز لغير الاختصاصي الحاذق الخبير ضرورة حرمة الإضرار بالناس وهلاكهم، وهذا ظاهر، فليتّق الله مَن يسمّون أنفسهم بالأطباء، ويقتلون الناس أو ينقصونهم(٢) ، كما أنّه فليتّق الله مَن يسمّون أنفسهم بالعلماء والفقهاء، ويضلّون المؤمنين عن سبيل الله، وكأنّ الفتوى في عصرنا صارت مباحاً مطلقاً للجميع.

___________________

(١) جواهر الكلام ٤٣ / ٥٠.

(٢) قال بعض الشعراء :

ملكالموت رفت پيش خدا

گفت سبحان ربي الأعلى

داكترى است در فلان كوچه

منيكى مى كشم واو صدتا

يابفرما كه جان او گيرم

يا مرا كار ديگرى فرما

٢٤

المسألة الرابعة

أحكام المسّ والنظر

يجوز لكلٍّ من الجنسين النظر إلى بدن مماثله ومسّه من دون شهوة وريبة، إلاّ العورتين فيحرم النظر إليهما ومسّهما، وإنْ لم يكن عن تلذذ(١) .

يحرم على الرجل النظر إلى المرأة - سوى وجهها وكفّيها - بتفصيلٍ مذكورٍ في الكتب المبسوطة الفقهيّة(٢) ، كما يحرم على المرأة النظر إلى الرجل - أيضاً - بتفصيلٍ مقرّرٍ في محلّه.

ويحرم على كلّ من الجنسين مسّ بدن الآخر وإنْ لم يكن عن تلذّذ، بل كان الماسّ أو الممسوس عجوزاً.

ولا ملازمة بين جواز النظر والمسّ، فكم من امرأةٍ جاز النظر إليها ويحرم مسّها، وإنْ شئت فقل: إنّ حرمة مسّ غير المحارم لم يطرأ عليها استثناء أصلاً، كما طرأ على حرمة النظر إلى غير المحارم.

فكلّ عمليّة طبيّة جراحيّة أو غير جراحيّة أو غير طبيّة إذا استلزمت النظر المحرّم أو المسّ المحرّم، لا تجوز، لا سيّما النظر إلى العورة أو مسّها، فإنّ الحرمة فيه آكد.

فجواز مباشرة الطبيب أو الطبيبة للعلاج، وجواز تداوي المريض أو المريضة إذا اشتملتا على النظر والمسّ المحرّمين موقوف على توفّر شروط

___________________

(١) يظهر من بعض الروايات جواز النظر إلى عورة مَن ليس بمسلم وأنّها كعورة حمار، وأفتى به بعض المحدثين، لاحظ بحثه في كتابنا: حدود الشريعة، ج٢ مادّة النظر...

(٢) لا حظ كتابنا: حدود الشريعة، ج٢ مادّة النظر.

٢٥

ثلاثة:

١ - استلزام المرض مشقةً وحرجاً للمريض. وحرج المريض يكفي لجواز العمليّة المذكورة له، وللطبيب - كما سبق - دليله في المسألة الثانية، فليس كلّ مرضٍ جزئي، أو غرضٍ تجمّلي يجوز التدخّل للطبيب والتمكين للمريض أو المُراجِع، فكما يحرم النظر والمسّ على الطبيب يحرم الكشف والتمكين على المريض والمُراجِع، ومنه يظهر أنّ مجرّد جواز منع الحمل من دون تحقّق حرج وضرر لا يزيل حرمة النظر والمسّ على الطبيب ومُراجِعه.

٢ - لا يحلّ مسّ العورة مطلقاً، ولا مسّ بدن الجنس المُخالِف إذا كانت الحاجة ترتفع بلبس الساتر، من أيّ نوعٍ كان ممّا يمنع عن التماس المباشر.

٣ - إذا أمكن التداوي والعلاج عند المماثل لا يجوز الرجوع إلى المخالِف، حتّى من جهة النظر الى العورة أو مسّها مع حرمتها على المماثل والمخالِف ؛ وذلك فإنّ حرمتهما على المخالف أشدّ وآكد.

وقيل بتقديم المحارم على غيرهم مع عدم إمكان المماثل، إذا أمكن، والله العالم.

ثمّ إنّه إذا حرمت العملية تبطل الإجارة، فلا يملك الطبيب الأُجرة، فيحرم عليه أخذها إلاّ إذا وهبها له المريض أو المريضة أو المُراجِع بقطع النظر عن بطلان الإجارة، والله أعلم.

وسيأتي في المسألة الثانية والعشرين، والثالثة والعشرين، ما يتعلّق بالمس والنظر، وإفشاء السرّ وغيره، إنْ شاء الله تعالى.

فروع فقهيّة:

١ - عورة الأُنثى عبارة عن فرجها وحلقة دبرها، وعورة الذكر عبارة

٢٦

عن حلقة دبره وآلته التناسليّة لا غيرها، وعورة الطفل غير المميّز لا بأس بمسّها والنظر إليها، لضرورة أو غير ضرورة.

٢ - ما اشتهر بين بعض العوام مِن أنّ الطبيب محرم للمريض كلام باطل لا أصل له، والطبيب كغيره في حرمة النظر والمسّ، كما أنّ المريض كغيره يجب عليه أنْ يحفظ نفسه عن نظر الطبيب ومسّه، وإنّما يجوز النظر والمسّ بمقدار الضرورة، على ما عرفت.

٣ - إذا ترتفع الضرورة بالنظر أو المسّ في دقيقتين، تحرم زيادة النظر والمس ولو بمقدار ثانية، كما إذا ارتفعت الضرورة بمسّ ثلاث سنتمترات، أو النظر إليها يحرم مسّ الزائد أو النظر إليه.

٤ - ما ذكرنا في حقّ الأطبّاء والمرضى، يجري في حقّ المضمّدين والمضمّدات أيضاً، ولا يجوز للمريض أو المريضة قبول الجنس المخالِف للتضميد إذا استلزم النظر أو المس المحرّم، إلاّ مع توفّر الشروط، وإذا أمكن في المستشفيات الشخصيّة اشتراط المضمّد المماثِل وجب ذلك على المريض.

٥ - يحرم على مساعِدات الأطبّاء مسّ أيديهنّ لأبدانهم، وإن استلزمته المقرّرات الإداريّة، والرسوم الحكوميّة.

٢٧

المسألة الخامسة

بِدءُ الحياة الإنسانيّة

السؤال المقصود بالإجابة هنا هو أنّه متى تبدأ الحياة الإنسانيّة ؟

وستعلم في الأبحاث الآتية أنّ مطلق الحياة ثابتة في مني الرجل والمرأة، وبعد التحامهما وصيرورتهما خليّة، ثمّ إلى كتلة خلايا، ثمّ إلى حوصلة عالقة بالرحم، ثمّ منغرسة فيه والروح لم تُنفخ بعد في جنينٍ ميّت.

وإليك عدّةٌ من الآراء في المقام:

( القول الأوّل ) : المشهور في ألسنة المسلمين وأذهانهم: أنّ الحياة الإنسانيّة تبدأ بنفخ الروح في الجنين، والمشهور عند أهل النظر منهم: أنّه بعد أربعة أشهرٍ من الحمل.

واعترضه بعض الأطبّاء الماهرين المتديّنين بأنّ علم الطب لا يرى لاستقبال الروح أثر، وقال: مسألة: إنّ الجنين آنذاك يكتسب الإدراك، أو الخيال، أو تبدو عليه أمارات الرضاء والغضب، هي للأسف الشديد من باب الفولكلور أو من باب التحمّس لوجهة نظر معيّنة، ومحاولة تأييدها علميّاً بغير سندٍ علمي(١) .

أقول : اعتراضه متين لكنّه مقلوب عليه، فكما لا يصل الطبيب إلى أثرٍ للروح بعد أربعة أشهرٍ من الحمل، كذا لا يصل إلى نفيه أيضاً، فلا يحقّ له إنكاره أيضاً.

والخلط بين حدود العلوم التجريبيّة والفلسفة أو الدين أوجب

___________________

(١) ص ٥٧، الحياة الإنسانيّة بدايتها ونهايتها.

٢٨

زلّة جماعات كثيرة من المادّيين فضّلوا وأضّلوا، وتوضيح المقام محتاج إلى بسطٍ في الكلام، لكنّه لا يناسب هذا الكتاب.

( القول الثاني ) : لحظة التحام الحيوان المنوي بالبويضة هي بداية الحياة الإنسانيّة، اختاره بعض الأطبّاء المُشار إليه آنفاً، واستدلّ عليه بتحقّق كائن في هذا الدور تنطبق عليه جميع الشروط التالية:

١ - أنْ تكون له بداية واضحة معروفة.

٢ - أنْ يكون قادراً على النموّ ما لم يحرم أسبابه.

٣ - أنْ يُفضي نموّه إلى الإنسان جنيناً ووليداً وطفلاً وصبيّاً وشابّاً وشيخاً وكهلاً، إنْ نسأ الله له في الأجل.

٤ - أنّ ما سبقه من دور لا يمكن أنْ ينمو فيُفضي إلى إنسان.

٥ - أنْ تكتمل له الحصيلة الإرثيّة لجنس الإنسان عامّةً، وكذلك له هو فرداً بذاته، مختلفاً عن غيره من الأفراد منذ بدء الخليقة وحتّى قيام الساعة.

وقال: هذه الشروط الخمسة تتوفّر جميعاً في البويضة ( البيضة ) الملقّحة، وهي لا تتوفّر في غيرها، ولا تنطبق على ما قبلها ولا ما بعدها.

واستشهد عليه - أيضاً - بتأجيل عقوبة الإعدام شرعاً إنْ كان المحكوم عليها حاملاً دون تقييد الحمل بزمانٍ خاص، كما استشهد بقوله تعالى:( وإذْ أنْتُم أجِنَّةٌ في بُطُونِ أُمّهاتكم ) (١) ، قال مَن هؤلاء الأجنّة ؟

أنتم وأنا الإنسان(٢) وأنكر أن تكون حياة الجنين قبل تمام أربعة أشهر نباتيّة أو حيوانيّة، فإنّ النبات - تعريفاً - ليس له جهاز حركيّ فعّال، ولا جهاز عصبي، وأُسلوبه الغذائي مختلف، وهو يقتات على الضوء ويستهلك ثاني

___________________

(١) النجم آية ٣٢.

(٢) ص ٣٠٣، الحياة الإنسانيّة بدايتها ونهايتها.

٢٩

أُوكسيد الكربون ويفرز الأوكسجين

وأحجم أنْ يصفها بأنّها حياة حيوانيّة، وقد يسعد جماعة داروين أنْ نقرّر أنّ جنين الإنسان بدور حيواني !!!(١) .

أقول : الشرائط الخمسة لا تثبت أنّ حياة البيضة الملقّحة حياة إنسانيّة ؛ لعدم الملازمة بينهما عرفاً وطباً وعقلاً وشرعاً، فهي ليست شروطاً للحياة الإنسانيّة، حتّى تترتّب عليها ترتب المعلول على علّتها، وتأجيل إعدام الحامل إنّما هو لأجل أنّ حملها في مصيره إلى الإنسانيّة لا أنّه إنسان بالفعل حتّى في شهره الأوّل، وهذا الاشتباه قد صدر من غير واحدٍ من أعضاء الندوة، كما يظهر من مطالعة الكتاب ( أي كتاب بداية الحياة الإنسانيّة ونهايتها ) وغيرها، نعم حرمة الإجهاض، ولزوم تأخير إعدام الحامل، وحكم الخروج عن العدّة وأمثالها، أحكام شرعيّة تتّبع موضوعاتها، ولا معنى للتلاعب بعناوينها.

والاستدلال بقوله تعالى:( وإذْ أنْتُم أجِنَّةٌ في بُطُونِ أُمهاتكم ) (٢) ضعيف، إذْ لا شك في أنّ المراد به: أنَّكم كنتم أجنّة، أو ما يؤدّي معناه، ولا يُراد به أنَّكم الآن أجنّة !! كما أنّ الإنسان كان تراباً ولم يكن بإنسان.

على أنّ لازم هذا القول أنْ يكون نهاية الحياة الإنسانيّة بموت خلاياه

___________________

(١) ادّعى بعض الباحثين: أنّ ١٢٥ مليون خليّة تموت في جسم الإنسان كلّ دقيقة، وتحلّ محلّها خلايا جديدة... وتتساقط الخلايا من الجسم كما تتساقط أوراق الشجر الميّتة من أشجارها، وأنّ الذرّات التي تكوّن جسم أيّ إنسان منّا غير موقوفة عليه... فهي تأتي من مصادر شتّى... وبعد أن تغادر الجسم تذهب إلى مصادر شتّى. فجسم الإنسان يموت ويحيى، ثمّ يموت ويحيى في الحياة الدنيا، والإنسان نفسه حيّ يُرزق... إذن فَسِرُّ الحياة غير معلّقٍ بموت الجسم أو حياته. ص ٣٦٥، نفس المصدر.

(٢) النجم آية ٣٢.

٣٠

لا بموت المخّ، كما ذهب إليه أطبّاء الأعصار الأخيرة.

ثمّ المفهوم من الآية الخامسة في سورة الحجّ بطلان هذا القول، فإنّ مدلولها أنّ الإنسان خُلِق ونشأ من النُطفة والعلقة والمُضغة، لا أنّه عينها. على هذا القائل إشكال آخر تعرّض له، ولم يقدر على حلّه ودفعه، فلاحِظ.

( القول الثالث ) : أنّ الحياة على أقسام:

١ - الحياة الخليّة، وهي حياة البويضة المخصبة.

٢ - الحياة النسيجيّة، وهي انقسام الخليّة المتكررة وانغراسها في جدار الرحم واستمرار نموّها.

٣ - الحياة الإنسانيّة في الأُسبوع الثاني عشر من وقت تخصيب البويضة، الذي أصبح فيه للجنين كيان أو وجود، فهو يقفز ويلعب وينام ويصحو ويحس ويفزّع، كلّ ذلك تزامناً مع اكتمال تكوين المخّ، وبداية قيامه بوظائفه من ظهور محركّات التنفّس، وإشارات المخّ الكهربائيّة الدالّة على نشاط وعمل قشرة المخّ والنصفين الكرويين، وهذه المرحلة تقف كعلامة هامّة على طريق نموّ وتطوّر الجنين، كما أنّ هذه العلامات والظواهر التي تحدث، هي عكس العلامات التي تُوصف في مرحلة وفاة المخّ عند موت الإنسان. ومن هنا يمكننا أنْ نصفها بمرحلة ميلاد المخّ، أو بداية الحياة الإنسانيّة.

وفي نهاية هذا الأُسبوع: يكون الجنين قد بلغ تسع سنتيمترات طولاً، و٤٥ جراماً وزناً.

ومن السهل التعرّف على هذه المرحلة وتحديدها على وجه الدقّة بالفحص بجهاز السونار، لبيان الحركات التنفّسية وأنشطة الجنين المختلفة(١) .

___________________

(١) ص ٦٩ نفس المصدر.

٣١

ويزيد هذا القائل: وفي أثناء الأُسبوع الثاني عشر تظهر على الجنين خمسة مظاهر جديدة وهامّة، كلّها تشير إلى اكتمال تكوين مخّ الجنين، وبداية ظهور الكيان الإنساني في الجنين، ويبدو ذلك من:

١ - تتصور ّحركات الجنين حركات مركّبة متوافقة، لا انقباضات تشنّجيّة مثل: ثني الظهر، ورفع الرأس، والالتفات بالوجه إلى الجانبين، وكذلك حركات مركّبة للفم والشفتين واللسان والفكّين شبه حركات الرضاعة.

٢ - ظهور الحركات التنفّسيّة، وليس المقصود هنا أنّ الجنين يتنفّس الهواء، فالرئتان لا تعملان في فترة الحمل، إلاّ أنّ هذه الحركات التنفّسيّة تؤدّي إلى التنفّس بعد الولادة.

٣ - مرور الجنين في هذه المرحلة بفترات متتابعة ومنتظمة من النشاط والحركة،بعضها فترات روحة وسكون، وقد تكون فترات يقظة ونوم.

٤ - بدء عمل ونشاط قشرة المخّ كما سبق ذكره.

٥ - بداية ظهور حركات بناء على تنبيهات من الخارج. وهذا يعني: أنّ مراكز عليا في المخّ قد تدخلّت(١) في حدوث هذه الحركة ؛ وذلك بناءً على انفعالات حسّيّة في مخّ الجنين، أدرك بها حدوث شيءٍ غير مألوف، ويُستنتج من هذا وجود الحسّ، كذلك الوعي بالمحيط الذي يوجد فيه الجنين(٢) .

___________________

(١) ص ٦٧ و ص٦٨ نفس المصدر، وقال في محلٍ آخر: وكذلك التفاعل معه بالحركة الذاتيّة النابعة من إرادته. ص ٦٥، نفس المصدر.

(٢) وقال في محلٍ آخر ( ص٢١٠، نفس المصدر ): رأي علمي جديد يعتمد على اعتبار اكتمال تكوين المخّ... ولا اقصد هنا بالطبع اكتمال نضوج المخّ ، أقول:

=

٣٢

أقول : صحّ ما ذكره أولا، فهو لا يدلّ على مدّعاه ؛ لأنّ الحسّ والحركة الإراديّة تجامعان الحياة الحيوانية، وتنفيان الحياة النباتية فقط، ولا تتطلّبان الحياة الإنسانيّة بخصوصها حتّى يقال: إنّ مخّه يدرك الكليّات أو يحاول أنْ يثبت ملزوم إدراك الكليّات، وهو تعلّق الروح الإنسانيّة بالجنين، فهذا القائل لم يقدر على إثبات مدّعاه، هذا إذا فرضنا وجود نفس حيوانية في الإنسان، منحازة عن الروح الإنسانيّة، وكانت هي المصدر للحسّ والحركة الإراديّة، وأمّا إذا لم يكن الأمر كذلك وأنّ الحسّ والحركة الإراديّة، وإن كانا في الحيوانات مستندين الى النفس الحيوانية، لكنّهما في الإنسان مستندان إلى النفس الناطقة الإنسانيّة فقط، ولا روح حيوانية مستقلّة في الإنسان، فَصِحّة هذا القول يثبت مدعى قائله لا محالة، فلا بُدّ من بلوغ ما ادّعاه إلى درجة القطع، فإنّه بالفعل مشكوك.

والمظنون أنّ ما تقدّم من إيراد بعض الأطباء على القول الأوّل ناظر الى ادّعاء هذا القائل، حيث وصفه بأنّه من باب الفلكلور، أو من باب التحمّس لوجهة نظر معيّنة، ومحاولة تأييدها علميّاً بغير سندٍ علمي.

( القول الرابع ) : إنّ بدء الحياة الإنسانيّة ليس لحظة الالتحام بل وقت العلوق، إذ ليست كلّ بويضة ( بييضة ) ملقّحة هي لا بدّ أنْ تنغرس في الرحم، يمكن أن يتسبّب اللولب لتصريفها ؛ لأنّه لا تبدأ الحياة فعلاً إلاّ حين تصبح ملتصقة بالأُم وبالرحم، أي: إذا انغرست في الرحم، وهو ما عبّر عنه بعض الأطبّاء بالاندغام، مأخوذاً من كلمة العلوق(١) .

___________________

=

اكتمال تكوين المخّ في الأُسبوع الثاني عشر محتاج إلى آراء حسيّة للأطبّاء، فلا بُدّ من الفحص والرجوع.

(١) ص ٣٢٤، نفس المصدر.

٣٣

( القول الخامس ) : إنّه تستغرق رحلة الإنسان من خليّة واحدة إلى ١٦ خليّة في المعمل حوالي ٤ - ٥ أيّام ( ومن خليّة إلى ٦ بلايين خليّة - فترة الحمل - حوالي ٢٨٣ يوماً ).

ولقد اصطلح طبياً ( علميّاً ) على أنّ تسمّى مرحلة نموّ الإنسان داخل الرحم منذ أنْ تأخذ الخليّة الملحقة في الانقسام إلى الثمانية ( ٨ ) أسابيع الأُولى من الحياة بالجنين، ويسمّى الجنين في الفترة الباقية من الحمل بالمولود !

والسبب في هذه التسمية هو: أنّ الجنين في مرحلة نموّه داخل الرحم يمرّ بمرحلتين هامّتين من التكوين:

الأُولى والتي تمتدّ ثمانية أسابيع، يكون الجنين فيها في حالة تكوين وتشكيل ونمو مضطرد في الخلايا.. والناظر اليه في تلك المرحلة يجد كتلةً من الخلايا التجاويفيّة والقنوات.. ( على شكل علقة ثمّ مُضغة ) ليس لها سمة الإنسان السوي، وأهمّ ما يميّز هذه المرحلة من الناحية التشريحيّة هو ظهور ( الميزاب العصبي ) وهو بداية تكوين الجهاز العصبي ( الحسّي ) عند الجنين، وبعد هذه المرحلة يأخذ الجنين داخل الرحم مظهراً آخر في النموّ، ويمكن للناظر إليه ( أي بعد مرحلة الثمانية الأسابيع الأُولى ) أنْ يميّز شكل إنسانٍ آخذٍ في النموّ... وقد وصف ذلك في آية الخلق والتطوّر داخل الرحم:...( ثُمَّ أنْشَأنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أحْسَنُ الخَالِقِين ) .

إذا يمكن القول بأنّ الجنين هو إنسان في الأسابيع ٦ - ٨، ومنها ما هو حياته داخل الرحم، أو في أنبوبة اختبار في محمل طفل الأنابيب(١) .

___________________

(١) ص ٤٤١، الرؤية الإسلاميّة لبعض الممارسات الطبّيّة.

٣٤

أقول : هذه الأقوال الأربعة لعلماء الطب الذي هو في حال تطوّره وطريق تكامله، وقد عرفت أنّها ضعيفة غير قابلة للاعتماد، وقبل الانتقال إلى القول الحق لا بُدّ من بيان أمرٍ هامٍّ يجب الالتفات إليه، ومراعاته في كلّ باب، وهو أنّ ما ذكره أهل الطب وساير العلوم التجربيّة على أقسام:

منها : ما ثبت بالحسّ والتجربة، بحيث لا يقبل الترديد، وهذا ممّا لا شكّ في قبوله بحكم العقل والفطرة، فإنْ وُجد في القرآن المجيد، أو الأحاديث المعتبرة ما يخالفه بظاهره ؛ وجب ردّ علم هذا الظاهر من الكتاب والسنّة إلى الله سبحانه وتعالى، ولا معنى للتعبّد به على خلاف الحسّ، كما بُيّن ذلك في علم الكلام بأوضح برهان.

ومنها : ما هو است-نباطات وآراء ظنّيّة من هؤلاء العلماء الاختصاصيّين، ولا عبرة بها، كما لا قيمة بآراء الفقهاء والأُصوليّين والمجتهدين من علماء الدين، بل وآراء الصحابة العدول والسلف الصالح ( رض ) في مقابل الأدلّة الشرعيّة من ظواهر الكتاب والسنّة، ولا يجوز لنا تقليدهم بحال، فإنّ قداسة أحدٍ، أمرٌ، وتقليده أمرٌ آخرٍ، ولا ملازمة بينهما.

ومنها : ما هو مبنيٌّ على الإحصائيّات المحدودة محلاًّ ووقتاً، وهذا أيضاً لا اعتبار به، فليس كلّ ما ذُكر أو بُني عليه في العلوم أمراً حسّيّاً وحقيقة واقعيّة يجب قبوله، كما ربّما يتخيّل مَن لا فهم له، كما أنّه لا يجوز ردّ ما ثبت بطريقٍ حسّيٍّ أو قطعيٍّ: كالحسّ لأجل فتوى سلف، أو حديث ضعيف بل معتبر، فإنّ الأحاديث كظواهر الكتاب ظنّيّة، والظنّ يضمحلّ عند العلم بخلافه، اللّهم إلاّ عند من لا عقل له.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ البحث هنا عن عدّه أُمورٍ تناسب المقام على نحو الاختصار:

٣٥

١ - أقسام الحياة وحقيقتها، ومعنى حياة الجنين في أدواره وأطواره.

٢ - الفوارق الرئيسيّة بين الحيوان والإنسان عند الفلاسفة.

٣ - تركّب الإنسان من البدن والنفس.

٤ - الروح والنفس تتحّدان أو تتعدّدان.

٥ - متى تبدأ الحياة الإنسانيّة.

فأقول مستعيناً بالله تعالى، ومتوكّلاً عليه في إصابة الحق:

( البحث الأوّل ) : من الخير والحقّ أنْ نعترف صريحاً بأنّه لا علم بحقيقة الحياة، كما لا علم لنا بحقيقة منبعها، وهو الروح، وإنّما نعرف الحياة بآثارها المذكورة في البيولوجيا، من التغذية والتنمية والتنفّس وتوليد المثل والحسّ والحركة ونحوها.

ومن المشهور بل المحسوس أنّ الحياة ثلاثة أقسام: نباتيّة وحيوانيّة وإنسانيّة، فإنْ دلّ دليل عقلي أو علمي على انحصار الحياة بهذه الأقسام ؛ فنقول: إنّ حياة الجنين ما لم يكن له حس وحركة إراديّة حياة نباتيّة(١) ، وحينما وُجد له الحسّ والحركة الإراديّة فحياته حيوانيّة(٢) ، ولا محذور فيه، ولا تعلّق لهذا القول بقول داروين وأصحابه بوجه، ولا تتحقّق الحياة الإنسانيّة دون تعلّق الروح الإنسانيّة به، كما ستعرف.

وإنْ لم يدلّ دليل عليه فلا مانع من جعل حياة الخلايا المذكورة المسمّاة بالجنين قسماً رابعاً.

والإنسان في سيره العلمي ربّما يصل إلى أقسامٍ أُخر من الحياة، وهذا هو الأظهر، إذْ لنا أنْ نقول: بأنّ حياته تعالى، وحياة الملائكة: نوعان آخران

___________________

(١) وإن ثبت أنّ حياة كلّ خليّة حياة حيوانيّة، فتأمّل.

(٢) ذكرنا ما يتعلّق بالمقام في آخر القول الثالث عن قريب، فلا تغفل منه.

٣٦

من الحياة.

( البحث الثاني ) : ذكر بعض الحكماء المتعمّقين أُموراً من خواصّ الإنسان:

١ - النطق والبيان(١) .

٢ - استنباط الصنائع العمليّة الغريبة. وأمّا ما يصدر من الحيوانات سيّما من النحل في بناء البيوت المسدّسة، فهو ليس من تدبير نفسها الشخصيّة الجزئيّة عن استنباط وإلاّ لم يكن على وتيرةٍ واحدةٍ، بل صدورها عن إلهامٍ وتسخيرٍ من مدبّرات أمرها !

٣ - الحالة الانفعاليّة المسمّاة بالتعجّب وما يتبعه من الضحك التابعة لإدراكه للأشياء النادرة، ويتبع إدراكه للأشياء المؤذيّة انفعال يسمّى الضجرة ويتبعه البكاء.

٤ - أنّ المشاركة المصلحيّة تقتضي المنع من بعض الأفعال، والحثّ على بعضها الآخر، ثمّ إنّ الإنسان يعتقد ذلك من حين صغره، ويستمرّ نشوؤه عليه، فحينئذٍ يتأكّد فيه اعتقاد وجوب الامتناع من أحدهما والإقدام على الآخر، فيسمّى الأوّل قبيحاً والثاني حسناً جميلاً.

وأمّا مثل أنّ الأسد المعلَّم لا يأكل صاحبه، والفرس العتيق النجيب لا يسافح أُمّه، فليس ذلك من جهة اعتقاد في النفس بل لهيئةٍ نفسانيّةٍ أُخرى.

٥ - الخجالة، فإنّها حالة انفعاليّة تحصل عند إدراكه بأنّ الغير اطّلع على أنّه ارتكب قبيحاً.

___________________

(١) الصغار والخرس لا يتكلّمون. والقرآن يُخبر عن نطق الهدهد والنملة، والعلم الحديث - أيضاً - ربّما يبحث عن نطق بعض الحيوانات، كما أشرنا في كتابنا مقالات.

وفي المقام بحث.

٣٧

٦ -٧ - الخوف والرجاء، فإنّ الإنسان إذا ظنّ أنّ أمراً يحدث في المستقبل يضرّه فيعرض له الخوف، أو ينفعه فيعرض له الرجاء، وأمّا سائر الحيوانات فإنّهما يحصلان لها بالفعل لا لأجل الظن بحدوث موجبيهما في المستقبل، كنقل النمل البُرّ بالسرعة إلى حُجَرِها منذرةً بالمطر، فإنّها إمّا أن يتخيّل أنّ هناك مؤذٍ يكون، أو مطر ينزل...

وبالجملة : إنّ الأفعال الحُكميّة والعقليّة إنّما تصدر من الإنسان من جهة نفسه الشخصيّة، ومن سائر الحيوانات من جهة عقلها النوعيّة تدبيراً كليّاً.

٨ - ما يتّصل بما ذكر من أنّ الإنسان له أنْ يروي في أُمور مستقبلة، هل ينبغي أنْ يفعلها أو لا ينبغي ؟

فحينئذٍ يفعل وقت ما حكمت به رؤيته وتدبيره أنْ يفعله، ولا يفعل هذا وقتاً آخر، بحسب ما يقتضي رؤيته ألاّ يفعله، ما كان يصح أن يفعله في الوقت الأوّل، وكذا العكس، وأمّا الحيوانات الأخرى فليس لها ذلك، وإنّما لها من الإعدادات ما يكون على ضربٍ واحدٍ مطبوعٍ فيها، وافقت عاقبتها أو خالفت.

٩ - تذكّر أُمورٍ غابت عن ذهن الإنسان، والحيوانات الأُخرى لا تقدر على مثله.

١٠ - أخصّ خواصّ الإنسان: تصوّر المعاني الكلّيّة المجرّدة عن المادّة، والاهتداء إلى التصديقات والتصوّرات المجهولة، وأخصّ من هذا: اتصال النفوس الإنسانيّة بالعالم الإلهي، بحيث تفنى عن ذاتها وتبقى ببقائه، وحينئذٍ يكون الحقّ سمعه وبصره ورجله ويده، وهناك التخلّق بأخلاق الله تعالى(١) .

___________________

(١) لا حظ ص ٧٨ إلى ص٨٢ ج٩ من أسفار الشيرازي.

٣٨

أقول : لم يكن للقدماء من الفلاسفة وغيرهم علم تجريبي دقيق، بخصوصيّات الحيوانات، وإنّما يعرفون منها أُموراً كلّيّةً عامّةً لا غير، فلا اعتماد بآرائهم في جميع الموضوعات التي لا تعرف بمجرّد العقل، ولذا أخطأوا خطأً كثيراً في الأجسام العلويّة والأفلاك والنجوم، وأصبح اليوم معرفة الشباب المتعلّمين بالسماويّات أكثر من معرفة: الفارابي وابن سينا والسهروردي وصدر الدين الشيرازي وسائر مشاهير الفلسفة، ولعلّه لا لوم على أحدٍ إذا ادّعى أنّه لا معرفة صحيحة لهؤلاء الحدْسيّين من الفلاسفة بالسماء وكواكبها ونجومها، وما يتعلّق بها أصلاً !!!

وعلّة الاشتباه أنّهم غلطوا في تمييزهم بين حدود الفلسفة والعلوم، فحاولوا إثبات ما يحتاج إثباته إلى الحسّ والتجربة بالعقل المجرّد، وظنّوا أنّ لهم الصلاحيّة في جميع أقسام العلوم ؛ كما أنّ المادّيّين اليوم مشوا على عكس ذلك، فإذا لم يجدوا شيئاً في حقلهم العلمي نفوه مطلقاً تخيّلاً منهم أنّه لا حقائق خارج الحسّ. والحق أنّ للحسّ مداراً خاصّاً وللعقل مركزاً خاصّاً، ولا بُدّ من مراعاة ذلك حتّى لا يضلّ الباحث، ولا يطمث معالم الحق، وتفصيل البحث في محلّه.

وعلى كلٍّ، مجموع هذه الخواص يكفي لتمييز الإنسان عن الحيوان، ولا نستطيع أنْ ندّعي أنّ شيئاً من تلك الخواص لا يوجد في الحيوانات، بل البحوث الحديثة تثبت خلاف ذلك، وربّما تثبت التجربة العلميّة في المستقبل حقائق أهمّ، وأكثر، وأعجب للحيوانات ممّا اكتشفته لحدّ الآن.

والذي أراه مميِّزاً جوهريّاً بين الإنسان والحيوان - بعد اشتراكهما في الإحساس والحركة الإراديّة وجملة من الأُمور الأُخر - هو تعلّق الروح بالإنسان المستتبع لقدرته على الإدراكات الكلّيّة الكثيرة، التي أوجبت تحوّل حياة الإنسان من المرحلة الابتدائية المظلمة الشبيهة بحياة الحيوانات إلى

٣٩

هذه المرحلة، ثمّ في المستقبل إلى المراحل التي لا تقع في ذهننا اليوم، ومن المحسوس عجز الحيوانات عن هذا التحوّل.

( البحث الثالث ) في حقيقة الإنسان:

إنّ الإنسان له بدن مادّي محسوس، وله نفس إنسانيّة سوى البدن، والكلام فيه تارةً من جهة العقل، وأُخرى من جهة دلالة القرآن، وثالثة من جهة العلم.

ونحن نذكر في الجهة الأُولى، كلام بعض المفسِّرين من أهل المعقول، وإنْ كان لنا نقاش أو إيراد على بعض كلامه، ثمّ إنّ بحثه وإن كان في تجرّد النفس لكنّه يفي بالمقام، قال:

هل النفس مجرّدة عن المادة ؟

( ونعني بالنفس: ما يُحكى عنه كلّ واحدٍ منّا بقوله: أنا ؛ وبتجرّدها عدم كونها أمراً ماديّاً ذا انقسام وزمان ومكان ).

إنّا لا نشكّ في أنّا نجد من أنفسنا مشاهدة معنى نحكي عنه: ب-: أنا، ولا نشكّ أنّ كلّ إنسانٍ هو مثلنا في هذه المشاهدة التي لا نغفل عنه حيناً من أحيان حياتنا وشعورنا، وليس هو شيئاً من أعضائنا وأجزاء بدننا التي نشعر بها بالحسّ، أو بنحوٍ من الاستدلال، كأعضائنا الظاهرة المحسوسة بالحواسّ الظاهرة من البصر واللمس ونحو ذلك، وأعضائنا الباطنة التي عرفناها بالحسّ والتجربة، فإنّا ربّما نغفل عن كلّ واحدٍ منها، وعن كلّ مجموعٍ منها، حتّى عن مجموعها التام الذي نسمّيه بالبدن، ولا نغفل قطّ عن المشهود الذي نعبِّر عنه: ب-: أنا، فهو غير البدن وغير أجزائه.

وأيضاً : لو كان هو البدن، أو شيئاً من أعضائه أو أجزائه أو خاصّةٍ من الخواص الموجودة فيها - وهي جميعاً مادّيّة، ومن حكم المادّة التغيّر

٤٠