الفقه والمسائل الطبية

الفقه والمسائل الطبية16%

الفقه والمسائل الطبية مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 341

الفقه والمسائل الطبية
  • البداية
  • السابق
  • 341 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92462 / تحميل: 7846
الحجم الحجم الحجم
الفقه والمسائل الطبية

الفقه والمسائل الطبية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

٢ - منذ عدّة سنوات ابتدأت فكرة زراعة أنسجةٍ وخلايا داخل المخّ، في بحوث أكاديميّة مختلفة، على حيوانات المعامل من فئران وغيرها ؛ وذلك لتجربة تأثير عقاقير مختلفة عليها، وكذلك لدراسة تصرّف هذه الخلايا في الظروف البيئيّة المختلفة، كما في مجال دراسة الأورام السرطانيّة سلوكيّاً وعلاجيّاً.

وحيث إنّ زراعة المخّ غير ممكنة، فماذا عن زراعة خلايا أو أنسجة سليمة في مكان آخر تالفة، فيما يشبه عمليّات الترقيع في الجلد مثلاً ؟

إنّ نجاح مثل هذه الزراعة العلاجيّة في حيوانات التجارب، قد تكون مرحلة توطئة لتطبيقها على الإنسان.

ولقد تمّ ذلك بالفعل، وكان لبلاد مثل: السويد والمكسيك قصب السبق في هذا المجال، وصدر عن مراكز أبحاثهم المئات من التقارير والبحوث، بل والأكثر من ذلك: أنّه قد تمّت بالفعل بعض التطبيقات على الإنسان.

ومن هذا الكمّ الكبير للبحوث والتجارب، التي صدرت حتّى الآن، من عددٍ كبيرٍ من الدول في أوروبّا الشرقيّة والغربيّة، والولايات المتّحدة الأمريكيّة، وأمريكا الجنوبيّة، يمكننا أن نتبيّن أن هذه الأبحاث قد تشعّبت وتعدّدت اتجاهاتها، وبالتالي الأغراض التي تهدف إليها، وبصفةٍ عامّةٍ يمكننا الآن أن نقوم بتقسيمها إلى قسمين رئيسين:

أوّلاً : أبحاث تهدف إلى توفير هرمونات معيّنة داخل المخّ، وذلك لتعويض نقصٍ بها ممّا يُعتقد أنّه السبب في ظهور عوارض، أو أمراض عصبيّة، وهي ما يُسمّى بالهرمونات العصبيّة ( Neurotransmitters ) مثل الدوبامين، والكولين، والكاتيكولامين، والهدف من الزراعة هو توفيرها

٢٨١

بصفةٍ مستمرّةٍ من إفراز هذه الأنسجة.

ثانياً : أبحاث تهدف إلى تعويض عن أنسجة تلفت لأسباب مختلفة، كالإصابات في الحوادث، أو نتيجة الالتهابات، أو أمراض الشرايين، وكلّ ما ينتهي إلى تليّفٍ يؤدّي إلى توقّف تنبيهات الحسّ والحركة داخل الجهاز العصبي المركزي، والغرض من الزراعة هنا، هو: محاولة إعادة سريان هذه التنبيهات عن طريق قنوات الاتّصال الجديدة، والتي ستنشأ من هذه الخلايا عبر الأنسجة التالفة المتليّفة، وقد أظهرت التجارب أنّ النتائج تختلف كثيراً اعتماداً على عوامل عدّة، منها نوعيّات الأنسجة المستخدمة في الزراعة، مصادرها، أُسلوب نقلها وأماكن زراعتها بالمخّ، كما تعتمد - أيضاً - على عمر الخلايا المستخدمة وبالتّالي مرحلة نضجها.

زراعة الأنسجة بغرض توفير الهرمونات العصبيّة

١ - ( ربّما كان هذا أوّل الأهداف التي قُصدت من الزراعة، وبالذات لعلاج مرض باركنسون أو الشلل الرعّاش )(١) .

أقول : الغرض من زراعة الخلايا والأنسجة داخل المخّ، أُمورٌ منها: ماعرفته، ومنها: تحسين مظاهر شيخوخة المخّ، ومنها: علاج ضعف الذاكرة، ومنها شفاء مرض السكّر الكاذب، ومنها إعادة دورة الطمث والتبويض مرّةً أُخرى، ومنها احتمال علاج أمراض عصبيّة مستعصية، لا يوجد لها علاج حتّى الآن.

يقول طبيبٌ في هذا المقام: ثمّ هناك تساؤل آخر بل إنّه حلم البشريّة

___________________

(١) ص٦١ وص٦٢ نفس المصدر.

٢٨٢

الأزلي الذي طالما داعب خيالها من مئات الأجيال، وهو هل لهذه الجراحات المقدرة، الصحّة والشباب ؛ فتعالج المخّ الذي هرم والجسم الذي وهن ؟!

وهل يمكن للمرأة العجوز أن تعود إلى نضارتها، وإلى إنجاب الأولاد من جديد ؟

أقول : إذا حصلت للطّبّ هذه المقدرة، بحيث يصبح قادراً على ما ذكرناه هنا على غيره، لكان كلّ تلك الأعمال جائزة شرعاً لا مانع منها، وقد تقدّم في مسألة رفع الموت عن الإنسان جواب بعض الأسئلة المتعلِّقة بالمقام أيضاً، نعم لابُدّ من التوجّه الشديد إلى عدّة أُمور:

١ - لزوم اعتبار الخبرة الكافية للمتصدّي، فإنّ جهاز المخّ معقّد فوق ما يُتصوّر، فلابُدّ من إدامة التجربة العلميّة على مخّ الحيوانات أو غيرها، حتّى حصول اليقين بالنتائج ؛ لئلاّ يضرّ الإنسان بتلفٍ في مخّه.

٢ - عدم جواز إجهاض الجنين لزراعة خلاياه في مخّ المريض ؛ فإنّ إجهاضه حرامٌ كما مرّ، نعم فيما استثنى الإجهاض من الحرمة - سواء جاز أو وجب - لا مانع منها إذا لم تحلّه الحياة، أو زالت حياته، وذلك مع مراعاة ما يتعلّق بالجنين من التجهيز، حسب ما فُصّل في الفقه.

٣ - عدم سلب اختيار الإنسان وإرادته، فإنّا نعلم بعدم رضا الشارع بذلك، والحقّ: أنّ تكليف الإنسان بالشريعة واستحقاقه الثواب والعقاب، كليهما موقوفان على اختيار الإنسان وإرادته.

وقد يتخيّل أنّ كلّ نشاطٍ اختياريٍّ يقوم به الإنسان، هو أثرٌ من آثار الروح بواسطة البدن، والبدن جنديٌّ مطيعٌ للروح، وليس الفكر والشعور والإرادة ناشئة عن الدماغ، نتيجة تفاعلات كيميائيّة وفيزيائيّة، كما يتوهّمها المادّيّون، فيمكن أن يبقى إرادة الإنسان وإن تصرّفوا في مخّه، ولكنّه تخيّلٌ خاطئ، فإنّ الأمر وإن كان كذلك، إلاّ أنّ له تأثيراً كبيراً في أعمال الروح

٢٨٣

وتفكره، فيمكن سلب إرادة الروح بالتصرّف في بعض مواضع المخّ، وان لم يكن معلوماً قطعيّاً.

وأمّا عمليّة المخّ لتغيير الفكر، وبالتّالي لتغيير السلوك، ولو في حدود اختيار الفاعل وإرادته فهي على قسمين:

الأُولى : التغيير إلى الشرّ والفساد، وهذا لا يجوز ؛ لأنّه تعاون على الإثم والعدوان.

الثاني : التغيير إلى الخير والصلاح، وهو يجوز.

وهنا يتوجّه سؤالٌ صعبٌ، وهو أنّه ما هو المعيار للخير والصلاح ؟ وما هو المناط للشرّ والفساد ؟

وجوابه يختلف باختلاف الأديان، بل المذاهب، والحضارات، والأقوام، ولا ضابط له.

لا يُقال: مع تشخيص الخير والصلاح - من نظر الفقه - تدخل عمليّة تغيير الفكر والصفات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي حسنة بل واجبة.

فإنّه يُقال: الأمر والنهي المذكوران تشريعيّان لا تكوينيّان، وبعبارةٍ أُخرى: أنّهما لإحداث الداعي في نفس المكلَّف لإتيان المعروف وترك المنكر، ولا يجب على المكلَّف، من باب الأمر بالمعروف، إيجاد العمل بالقوّة بتوسّط المتخلّف وتارك الواجب، ولا يجب أخذ الدارجة من يد السارق، ولا وضع اليد على فم مَن يغتاب، أو يسب، أو يفتري، أو يُغنّي، ونحو ذلك، وإنْ شئت فقل:

إنّ الأمر والنهي المذكورين غير الدفع والردع، وهذا واضح.

نعم فيما علم من مذاق الشرع ذلك ؛ جاز أو وجب الدفع كما في الزنا واللواط والقتل، مثلاً.

والمقام من قبيل الدفع، ولا يدخل في باب الإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٢٨٤

المسألة الرابعة والثلاثون

نزع عضوٍ من ناقص الخِلْقة

لا يجوز انتزاع عضو من مولود ناقص الخِلْقة ظاهراً أو باطناً، كالوليد عديم الدماغ، ويُراد بعديم الدماغ: الذي يُولد وليس له قبو رأس وليس له فصّان مخّيّان، وإنّما له جذع مخّ يقوم على الوظائف الحيويّة الأساسيّة: من دورةٍ دمويّةٍ، وتنفّس بعد الانفصال حيّاً بالميلاد، ولكنّها حياة محدودة موقوتة، ثمّ يموت بعد ساعات أو أيّام أو أسابيع.

وذلك أنّه إنسانٌ حيٌّ ؛ فلا يجوز قتله، ولا الإضرار به بوجهٍ حتّى لوالديه، فضلاً عن غيرهما، ولا فرق في عدم الجواز بين قصر العمر وطوله جزماً.

ومن الأطبّاء مَن يدعو لجعل غياب المخّ مساوياً لموت المخّ، حتّى وإن كانت منطقة الجذع حيّة، ولكن قام الاعتراض على ذلك ؛ لأنّ أخذ عضوٍ حيويٍّ من إنسانٍ حيٍّ يُعتبر قتلاً، وزاد الأمر تعقيداً أنّ التشريح الدقيق أثبت وجود بقايا نسيج مخّي متلبّسة بجذع المخّ، وأنّ جذع المخّ في بعض الأحيان يكتسب القدرة على القيام ببعض وظائف المخّ النائب(١) .

وقد يُقال: إنّ تشخيص حالة اللاّدماغيّة يمكن التوصّل إليه بصورة مؤكّدة بمجرّد النظر إلى رأس المولود، وبناءً على المعايير، كعدم وجود جزءٍ كبيرٍ من الجمجمة، وكعدم وجود فروة رأسٍ في منطقة الجزء الغائب من الجمجمة، وكوجود أنسجة ليفيّة نازفة مكشوفة، وكعدم وجود نصفي كرتي

___________________

(١) ص١٧٨ وص١٧٩، رؤية إسلاميّة لزراعة بعض الأعضاء البشريّة.

٢٨٥

الدماغ(١) .

لكن قال بعضهم: إنّه تبيّن أنّ تشخيص موت المخّ في الوليد عديم الدماغ من الصعوبة بمكان...(٢) .

___________________

(١) ص٢٠٢ نفس المصدر.

(٢) ص١٧٩ نفس المصدر.

٢٨٦

المسألة الخامسة والثلاثون

هل هو شخص سابق أو جديد ؟

إذا قدّر الطبّ أنْ يحتفظ جسد المريض بالتبريد قبل موته قليلاً، أو بعد موت الدماغ بدقائق، فيحفظه خمسين أو مئة سنة مثلاً، ثمّ أعاده إلى وضعه الذي كان عليه قبل التبريد، وأزال مرضه السابق فصار حيّاً سليماً(١) ، فهل هو إنسان جديد أو إنسان سابق ؟

وهنا سؤال ثانٍ، وهو أنّ مثل هذا التبريد ما هو حكمه شرعاً ؟

أمّا جواب السؤال الأوّل، فالواقع أنّ حقيقة الإنسانيّة ليست بهذا الهيكل المحسوس، وإنْ كان له دخل في أفعال الروح وتصوّراتها وأفكارها إلى حد، وإنّما قوامها بروحها الناطقة، فإن كان هذا الحيّ بالفعل من حيث عقائده وعلومه وذاكراته مثل ما كان في الحياة السابقة فهو ذاك الإنسان السابق، ويترتّب عليه جميع أحكامه الشرعيّة، وما يتعلّق بروابطه الاجتماعية والحقوقية والأخلاقية، وإن لم يكن مثل السابق، فيمكن أن يُقال بأنّه شخص جديد.

هذا هو التصوّر الابتدائي في هذا المقام لكنّ الأمر لا يخلو عن صعوبة، وذلك أوّلاً، مَن يعلم أنّ روحه - في الحياة الثانية - جديدة بعد إمكان زوال ذاكرته، وتغيّر معلوماته، وعروض النسيان عليه، كما يقول بعض

___________________

(١) كما أمكن ذلك في حقّ البييضة الملقّحة، على ما مرّ في بعض المباحث السابقة، فيمكن غرسها في رحم المرأة بعد خمسين سنة من الانجماد مثلاً.

٢٨٧

العلماء بمثله في موضوع عالم الذرّ والميثاق، بل وكلّ مَن يقول بتقديم خَلْق الروح على البدن، يلتزم بنسيان الروح مشاهداته في تلك المرحلة قبل الولادة، ومن الممكن نسيان ذكره، وتغيّر ملكاته بعد التبريد أو بعد الحياة المجدّدة.

وثانياً : أنّه لا شاهد من التاريخ والتجربة على توارد روحين على بدنٍ واحدٍ متعاقباً.

وعلى كلٍّ، فمع الشكّ في الوحدة والتعدّد يجري استصحاب بقاء الشخصيّة، وعدم تعلّق روح آخر به وبقاء تعلّق الروح السابقة بالنسبة إلى الأحكام الشرعيّة.

هذا كلّه بناءً على أنّ التبريد المذكور يوجب موته، وعليه يُبطل زوجيّته لزوجتها بالموت - كما سبق بحثه - وفي لزوم ردّ ما أخذه الورثة إليه بحث.

وأمّا إذا كان الشخ-ص في حال تبريده حيّاً بنوعٍ من الحياة، فالفرد المذكور هو الفرد السابق بعينه، وحال تبريده كحال نومه.

وهل يجب عليه قضاء صلواته وصيامه ؟ فيه وجهان.

وأمّا جواب السؤال الثاني وحكم هذا التحفّظ فأقول :

الظاهر عدم وجوبه لعدم دليل على وجوب حفظ النفس بهذا النحو، فهو أمرٌ جائز بناءً على بقاء حياته، وأمّا بناءً على موته فلا يبعد تحريمه، فتأمّل ثمّ إذ قبل التبريد حراماً - أي ثبت أنّ التبريد حالة موت، وانقطاع روح عنه فهو محكوم بالموت، فإنّ شكّ الورثة في عودة حياته ؛ فيجوز لهم تقسيم ماله، ويجوز لزوجته الزواج بعد عدّة الوفاة، ولزوجها نكاح أُختها مثلاً، وكذا يجب العمل ببقيّة أحكام الموت، كقضاء عباداته، وقضاء ديونه، والعمل بوصاياه، وإن علموا بعودة حياته - ولو بحسب التجربة - فالحكم بموته لا يخلو عن إشكالٍ بل منع، والله اعلم.

٢٨٨

المسألة السادسة والثلاثون

توضيح حول مرض الإيدز

وفيه مطالب اثنا عشر:

( الأوّل ) : أصبحت عدوى الأمراض الجنسيّة عامّةً، منتشرة في العالم على نطاقٍ واسعٍ، إذ تصاب الآن في كلّ عامٍ أكثر من مئتين وخمسين مليون حالة جديدة، وأمّا عدوى الإيدز وحده فقد أصابت خلال السنوات القليلة الماضية عدداً يقارب أربعة عشر مليوناً من البشر، وينتظر أنْ يرتفع هذا العدد بحلول سنة ألفين إلى أربعين مليوناً أو يزيد(١) ،( لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ) (٢) .

وأهمّ طرق العدوى بفيروس الإيدز هو ما يأتي:

١ - الاتّصال الجنسي الذي يكون أحد طرفيه مصاباً بالعدوى، سواء بين أفراد الجنس الواحد أو الجنسين، هذا الطريق يمثّل أكثر من ٩٠% من حالات العدوى، وهناك ممارسات جنسيّة معيّنة تزيد من خطر انتقال العدوى، مثل تعدّد القرناء الجنسيّين، واللواط، والمخالطة الجنسيّة للبغايا، وكذلك وجود أمراض تناسليّة أُخرى(٣) .

وقيل: إنّه إذا جامع الرجل المريض بالايدز زوجته فاحتمال الإصابة نصف في المئة: لكن قيل: إنّ معنى ذلك إذا كان الرجل في شبابه قويّاً

___________________

(١) ص٤٢ رؤية إسلاميّة للمشاكل الاجتماعيّة لمرض الإيدز.

(٢) الروم آية ٤.

(٣) ص٦١ نفس المصدر.

٢٨٩

يجامع في الأُسبوع مرّتين، وثماني مرّات في الشهر، و٩٦ مرّةً في السنة ؛ كان احتمال الإصابة أكثر من ٤٠ أو من ٥٠% في السنة الواحدة، فتصبح النسبة ضخمة(١) .

٢ - الحقن بمحاقن ملوّثة بفيروسات المرض، كما يحدث عند اشتراك مدمني المخدّرات في حقن أنفسهم بمحاقن وإبر ملوّثة.

٣ - الدم ومشتقاته، سواء بنقل الدم العلاجي، أو باستخدام الإبر والمحاقن الملوّثة بالفيروس.

٤ - انتقال العدوى من الأُمّ للجنين: دلّ استعمال أحدث طريقة لكشف جزئيّات الفيروس، على أنّ نسبة إصابة الجنين - وهو في داخل الرحم - بالعدوى هي نسبة ضئيلة لا تتجاوز عشرة بالمئة، وتحدث معظم حالات العدوى للجنين في أثناء الولادة من جرّاء تلوّث الجنين بالمفرزات التناسليّة المعدية بمعدل ثلاثين بالمائة، ولا تنتقل العدوى من الأُمّ إلى الجنين في ستّين بالمئة من الحالات(٢) .

وقال بعض الأطبّاء: إنّ الدورة الدمويّة للأُمّ والجنين لا اتّصال بينهما، والدورة الدمويّة للجنين مستقلّة تماماً عن الدورة الدمويّة للأُمّ، لكنّ بعض العوامل المرضيّة قد تخترق المشيمة، ولكن هذا لم يثبت فيما يتعلّق بالنسبة للايدز(٣) .

( الثاني ) : كلمة الإيدز مركبة في الأحرف الأُولى بالانجليزية لاسم مرضٍ خطيرٍ يُدعى:(متلازمة العوز المناعي المُكْتَسب ) وهو متلازمة أي

___________________

(١) ص٥٣٥ نفس المصدر.

(٢) ص٦٢ نفس المصدر.

(٣) ص٣٢٨ نفس المصدر.

٢٩٠

مجموعة من الأعراض المرضيّة تتلازم وتتزامن، وهو مكتسب لأنّ الإنسان يكتسبه اكتساباً بالعدوى.

ولمّا كان الجهاز المناعي في هذا المرض يتمّ تدميره تدميراً كبيراً، فإنّ الإنسان يُصاب بعوزٍ مناعيٍّ - أي نقص شديد في عناصر المناعة - ينجم عنه عجز الإنسان عن مجابهة سائر أنواع الجراثيم، بما في ذلك تلك الجراثيم التي ليس من عادتها أن تحدث المرض في الإنسان، ولكنّها تنتهز فرصة العوز المناعي لتحدثه، ولذلك تُدعى الجراثيم الانتهازية.

ومرض الإيدز هذا يسبّبه فيروس، وهو كائن دقيق لا يُرى إلاّ بالمجهر الالكتروني، يُطلق عليه اسم ( فيروس العوز المناعي البشري ) وهو ينتقل من الإنسان إلى الإنسان بواسطة سوائل البدن التي تحتوي عليه ( المني وسوائل عنق الرحم وسائل المهبل والدم )(١) .

( الثالث ) : العدوى نزول الجرثوم بساحة البدن، أي دخوله إليه وتكاثره فيه، وليس تعني العدوى حتماً حدوث المرض ؛ لأنّ الله سبحانه قد زوّد الإنسان بجهاز مناعي، يتولّى مسؤوليّة الدفاع عن البدن ضدّ كلّ عدوى تسومه، ويقوم الجهاز المناعي بواسطة أصناف متعدّدة من الخلايا، منها ما يهاجم الجرثوم بذاته فيلتهمه أو يقتله، ومنها ما يهاجم الجرثوم بمفرزاته ( التي نسمّيها الأجسام المضادّة أو الأضداد )، ومنها ما يساعد الأصناف الأُخرى من الخلايا في الهجوم، فيقوم بدور المؤازر والمساعف، ومن أجل ذلك إذا حدثت العدوى فيمكن أن تتطوّر الأُمور في أحد اتجاهات أربعة:

___________________

(١) ص٦٠ وص٦١ نفس المصدر.

٢٩١

أوّلها : أنْ تتغلب وسائل المقاومة في البدن على الجرثوم وتقضي عليه، فلا تظهر أعراض المرض.

وثانيها : أنْ يتغلّب الجرثوم ابتداء على وسائل دفاع البدن فيحدث مرض عدوائي ( أي ناجم عن العدوى ) قد تكون مدته قصيرة وقد تطول، وفي النهاية إما يتغلب الجسم فيحدث الشفاء، أو يتغلب الجرثوم فتحدث الوفاة.

وثالثها : أنّ تقوم وسائل المناعة بتعويق الجرثوم المعتدي، وتضيّق عليه الخناق، ولكنّه يبقى حيّاً متربصاً، ينتهز الفرصة للانقضاض.

ورابعها : أنْ تصل الحرب بين وسائل الدفاع وبين الجرثوم إلى مرحلة هدنةٍ مسلّحةٍ، لا يقضي فيها الجسم على الجرثوم ولا يؤذي الجرثوم الجسم، ولكنّ الشخص يمكن أنْ ينقل الجرثوم إلى جسمٍ آخر ؛ فيسبب فيه العدوى، وربّما المرض، ويسمّى الشخص في هذه الحالة بحامل الجرثوم.

( الرابع ) : بعد أنْ تتمّ العدوى بهذا الفيروس، فإنّه يختفي بسرعة داخل بعض الخلايا، ويأخذ في التكاثر تدريجاً وفي تدمير هذه الخلايا.

وتمرّ العدوى في الجسم بمراحل من أهمّها مرحلة الكمون، يهاجم خلايا الجهاز المناعي ممّا يؤدّي إلى تناقص عددها شيئاً فشيئاً، حتّى تصل إلى المستوى الحرجي، الذي لا يستطيع معه الشخص المصاب مقاومة جراثيم الأمراض، أو الخلايا الضارة مثل الخلايا السرطانيّة، فيحدث ما هو معروف بمرض الإيدز ( أي الاتّصاف بأعراض وعلامات مرضيّة ظاهرة، ترافقها أمراض الجراثيم الانتهازيّة والأورام الخبيثة )(١) ، والغالب أنّ

___________________

(١) ص٦٣ نفس المصدر، في فترة ما بعد عام ١٩٨٣م عرف أن للمرض فيروساً وأعراضاً منها ارتفاع في درجة الحرارة، هزال، وفقدان للشهيّة والوزن، تضخّم في

=

٢٩٢

المريض الذي يصل إلى هذه المرحلة يموت خلال فترة قصيرة، قد تكون أشهراً قليلة ولا تتعدّى السنتين.

وتكون مرحلة الكمون - أي ما بين العدوى وبين ظهور الأمراض المميّزة للمرض - قصيرة نسبيّاً في الأطفال ( أقل من سنتين ) وتتراوح في البالغين ما بين ٧ - ١٠ سنوات، وتقصر هذه المدّة بحدوث أمراض أُخرى مصاحبة أو سوء التغذية، أو الحمل في المرأة، ولذلك فإنّ متوسّطها في أفريقيا خمس سنين لما فيها من سوء التغذية والملاريا، مثلاً في حين يكون متوسطها في أمريكا عشر سنين بفضل التغذية الجيدة، والعلاج المناسب للأمراض المرافقة، ويكون الشخص معدياً طوال هذه المدّة(١) .

( الخامس ) : لا توجد شواهد بيّنة على انتقال العدوى من طريق الحشرات، أو الطعام، أو الشراب، أو المراحيض، أو المسابح ( حمامات السباحة ) أو المقاعد، أو أدوات الطعام المشتركة، أو حتى الملابس المستعملة، وقد ذكرت حالات معدودة في العالم كله، يعتقد فيها أنّ العدوى فيها انتقلت من طريق لبن الأُم، ويُظنّ ظنّاً أنّ المص الذي يمارسه الرضيع مع ما يرافقه من ضغط شديد على الغشاء المخاطي الرقيق في فمه قد يؤدّي إلى انتقال العدوى إذا كانت حلمة الثدي متشقّقة دامية، لكنّ الاحتمال ضئيل جدّاً(٢) ، وقيل: إنّ الطعام والشراب الملوّث، والمستقذَر، لا يبعد أنْ يكون سبباً لهذه المرض(٣) .

___________________

=

الغدد الليمفاويّة ( السهال ) ضعف في البنية، سهولة الإصابة بأمراض أُخرى نتيجة للميكروبات الانتهازيّة.

(١) ص٥٩ وص٦٠ وص٦٣ رؤية إسلاميّة للمشاكل الاجتماعيّة لمرض الإيدز.

(٢) ص٦٢ نفس المصدر.

(٣) ص٥٠٨ نفس المصدر.

٢٩٣

( السادس ) : مدّة العزل هي طوال الحقبة التي يكون الشخص فيها معدياً، وهي محدودة في معظم الأمراض، أمّا في الإيدز فهي العمر كلّه(١) .

( السابع ) : إنّ نسبة الإصابة حتّى تتطوّر إلى مرض، خلال خمس سنوات من العدوى تتراوح ما بين: ٢٥ إلى ٣٠% من المصابين يصبحون في حالات مرضيّة، وخلال عشر سنوات ما بين: ٥٠ إلى ٦٠% يصابون بالمرض، وكلّما طالت المدّة ارتفعت نسبة التحوّل من حامل الجراثيم إلى مريض، خلال ١٤ سنة يمكن لحوالي ٩٥% من الناس الذين أُصيبوا أنْ يتحوّلوا إلى حالات مرضيّة.

( الثامن ) : وأمّا نقل الأعضاء، ففي نقل القرنيّة ثبت أنّها تنقل العدوى، كذلك نقل السعار في إحدى الحالات، وكذلك نقل الكلى في حالات كثيرة، والآن قلّت احتمالات العدوى بهذه الطريقة ؛ لأنّه يتمّ الفحص قبل نقلها.

وأمّا التشريط والحلاقة والحجامة، فيمكن نقل العدوى بشرط أن يستخدم نفس الموسى، وعليه الدم موجود، ويتمّ الحلق لشخصٍ آخر قبل أن يجف هذا الدم، فهذا محتمل معه نقل العدوى(٢) .

( التاسع ) : استقرّت كلمة العقلاء من الغربيّين على أنّ هذا المخلوق المدمِّر للحياة، إنّما نشأ أوّل ما نشأ، ثمّ ترعرع في أحشاء الشواذّ والبغايا ودمائهم، وأنّه أطلّ رأسه أوّل ما ظهر من مستنقع الإباحة التي تسود العالم الغربي، حتّى أطلقوا عليه طاعون الشواذّ، ولم ينشأ عن القرود، ولا من المصانع الحربيّة، ولا من افريقية.

___________________

(١) ص٦٥ نفس المصدر.

(٢) ص١٠٧ نفس المصدر.

٢٩٤

هذا بالنسبة للعوامل الرئيسيّة التي أدّت إلى ولادة هذا المرض، وأمّا بالنسبة إلى طرق انتشاره، واحتلاله لمواقع جديدة من أجساد بني البشر، فإنّ أخطر قنواته هي الممارسات الجنسيّة الشاذّة والإدمان على المخدّرات والبغاء، وأما نقل الدم والتبرّع بالأعضاء، والحمل وغيرها لا تشكل في فاعليّتها سوى نسبة ضئيلة، وهي قنوات يمكن الاحتياط لها بالمراقبة والضبط(١) .

( العاشر ) : فيروس الإيدز لا ينتقل بسهولة كالأمراض المعدية الأُخرى مثل: الملاريا، والتيفوئيد، والكوليرا، والحمّى الشوكيّة، والسلّ ( التدرن )، والتهاب الكبد الفيروسي، وغير ذلك من الأمراض الجلديّة الأخرى.

( الحادي عشر ) : فيروس الإيدز لا يدخل جميع خلايا الجسم، ولكن ما يُصاب من الخلايا يسرع إليه الوصف، فلا يمكن استخراج الفيروس منه إلاّ بموت هذه الخليّة، لكن من فضل الله أنّ خلايا المناعة الأُخرى مثل الخلايا الطبيعيّة القاتلة، والخلايا الآكلة الكبيرة منها ممّا لم تُصب بالفيروس، وهذه الخلايا إذا أُعيدت إلى حالتها الصحيحة يمكن أنْ تقتل الخلايا الملوّثة بالفيروس، إذا ما وصلت إلى حالتها الطبيعيّة. وهذا ما نجد مبشّراته الآن لذلك التوازن(٢) .

( الثاني عشر ) : نقص المناعة الذي يُصاحب مرض الإيدز، يرشّح المريض لعدّة مصائب مهلكة ؛ لعدم القدرة على المقاومة.

ولتوضيح ذلك أقول مختصراً: إنّ الجراثيم أربعة:

١ - فيروسات، وهذه يسهّلها الإيدز بجميع أنواعها وأمراضها

___________________

(١) ص٤٧٤ نفس المصدر.

(٢) ص٥٢٢ نفس المصدر.

٢٩٥

ومخاطرها ما تُعرِّض المريض لاستقبالها، وهو في الحقيقة كذلك.

٢ - فطريّات، وهذه يساعد الإيدز على انتشارها ببعض الطفيليّات.

٣ - ونوع واحد من البكتريا وهي جرثومة السلّ، وهي تعتمد في انتشارها على الخليّة اللمفاويّة، التي يدمّرها ميكروب الإيدز لدرجة أنّ سلّ الطيور الذي لا يجرؤ على إصابة الإنسان السليم، يستطيع أنْ يصيب مريض الإيدز، وهناك حلف بيلوجي بين جرثومة السلّ وجرثومة الإيدز(١) .

نعم إنّ لمرض الإيدز خطورة كبيرة على الجهاز العصبي الذي هو مكوّن من حوالي ١٠٠ مليون خليّة، هذه الخلايا إذا دخل إليها المرض فإنّه يصيب القشرة السطحيّة للمخّ وتتليّف، ويوماً بعد يوم يتكوّن مثل الحمص من الخلايا التي تموت وتتجمّع، ثمّ يصيب الخلايا ( البيزل جانجلي ) ومعناه ( خلايا في قراع المخّ ) ثمّ يبدأ فيصيب الخلايا الأُخرى المختلفة في المخّ.....

خاتمة مؤسفة

نشرت مجلّة ( زد ماغازين ) حول الإيدز ودعارة الأطفال، والأسواق الحرّة في مملكة تايلند...: وازدادت صناعة الجنس في تايلند بعد إبرام معاهدة في العام ١٩٦٧م، والتي كانت تقضي بالسماح للجنود الأمريكيّين بالإتيان إلى تايلند من فيتنام لأجل الراحة والاستجمام، وبحلول عام ١٩٧٤م وصلت أماكن اللّهو والدعارة إلى أكثر من عشرين ألف مكان، فيما رصدت دراسة دوائر الشرطة أكثر من ٤٠٠ ألف مومس وعاهرة في ذلك

___________________

(١) ص٤٤٩ المصدر.

٢٩٦

العام بالذات... وفي يونيو ١٩٨٩ وجد باحثون بأنّ نسبة ٣،١٧% من المومسات... يحملن فيروس الإيدز الايجابي، وبحلول ديسمبر لعام ١٩٨٩ قفزت إلى أكثر من ٤،٢٠%، وفي العام ١٩٩٠ قُدّرت نسبة الأطفال العاملين في صناعة الدعارة الذين أُصيبوا بفيروس الإيدز الايجابي على صعيد البلاد كلّها بحوالي ٦٠%، وفي العام الجاري ( ١٩٩٣ ) بلغ عدد المصابين بالايدز حوالي ٦٠٠ ألف مصاب، ويزداد عدد المصابين بالايدز حوالي ١٢٠٠ شخص تايلندي في اليوم الواحد.

وفي العام ١٩٩٣ يولد ٣٠٠٠ طفل مصاب بمرض الإيدز... وتقدّر منظمة الصحّة العالميّة أنّه بحلول عام ١٩٩٧ فإنّ عدد الأشخاص المتوقّع أن يموتوا بمرض الإيدز يتراوح ما بين ١٢٥٠٠ و١٥٠٠٠٠ شخصاً(١) .

أقول : وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون.

ثمّ إنّ المستفاد من هذا وممّا مرّ في المطلب التاسع وغيره(٢) أنّ سبب فيروس الإيدز هو اللواط، ومباشرة البغايا مع تعدّد القرناء، والمستفاد من غيرها أنّهما سبب الانتقال دون سبب الوجود، وعلى هذا فلم يذكر سبب وجود هذا الفيروس في كلام الأطبّاء، وكأنّه لعدم علمهم به حتّى الآن.

___________________

(١) ص٢٨١ نفس المصدر.

(٢) ص١٨١ المصدر.

٢٩٧

المسألة السابعة والثلاثون

الأحكام الفقهيّة المتعلِّقة بمريض الإيدز وبكلّ مرضٍ مُعْدٍ

١ - يحرم على المريض بالايدز - وبكلّ مرضٍ معدٍ كجملة ما أسميناها في المطلب العاشر من المسألة السابقة - نقل مرضه إلى غيره من المسلمين، وأهل الذمّة والمعاهدين ؛ لحرمة الإضرار بهم جزماً، ويعاقَب المخالِف المتعمّد بما يراه الحاكم الشرعي صلاحاً، ويمكن تحريم نقل الجرثومة إلى الغير، وإن لم تكن بالفعل مرضاً له.

وعلى كلٍّ، الإضرار حرامٌ بأيّ وجهٍ اتفق حتّى بمثل السحر ونحوه، بل العقل يقبِّح حرمة الإضرار بالجِنّ والحيوان، وكل ما يحسّ الألم، وبمقتضى قاعدة الملازمة يمكن أنْ نقول بحرمة ذلك شرعاً، وكذا بإطلاق قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( لا ضرر ولا ضرار ) فيحرم الإضرار مطلقاً، إلاّ فيما دلّ الدليل الشرعي على الجواز كذبح الحيوان واستثماره.

٢ - إذا نقل المريض فيروس الإيدز - أو أيّ مرضٍ معدٍ آخر - إلى غيره فمات به ذلك الغير ولو بعد مدّة، وثبت علميّاً استناد موته إلى نقل العدوى، فإن كان الناقل متعمّداً، جاز لولّي الميّت قصاص الناقل، إذا كان المرض مهلكاً، وإذا كان الناقل جاهلاً أو غافلاً يجب عليه الديّة، على ما تقرّر في كتاب الديّات.

٣ - يستحقّ المنتقل إليه أخذ الغرامة عن الناقل، وحيث إنّه لا ديّة مذكورة له ففيه الأرش، وتكميل البحث فيه بذكر فصول ثلاثة:

٢٩٨

( الأوّل ) : في أصل لزوم الأرش في غير ما ورد فيه الديّة:

قال صاحب الجواهررضي‌الله‌عنه في بحث ديّات الأعضاء(١) في شرح قول ماتنه: ( كلّ ما لا تقدير فيه ففيه الأرش ): المسمّى بالحكومة، وفيه يكون العبد أصلاً للحرّ كما هو - أي الحرّ - أصل له ( أي للعبد ) فيما فيه مقدّر بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه، مضافاً إلى إمكان استفادته من النصوص بالخصوص، فضلاً عن استفادة عدم بطلان الجناية، وكونها هدراً حتّى أرش الخدش من الكتاب والسنّة، فليس مع عدم تقديره إلاّ الحكومة، وإلاّ كانت جنايةً لا استيفاءً لها ولا قصاص ولا ديّة، وهو منافٍ لما يمكن القطع به من الأدلّة كتاباً وسنةً وإجماعاً.

أقول : فليكن حكم الأرش مقطوعاً بما ذكره، وببناء العقلاء عليه، وما ورد من عدم سقوط حقّ مسلم(٢) ، وما في أحاديث الجامعة المذخورة عند الأئمّةعليهم‌السلام من ثبوت الأرش حتّى على الخدش والغمز.

( الثاني ) في كيفيّة الأرش:

في الشرائع والجواهر: كلّ موضعٍ قلنا فيه الأرش، أو الحكومة، فهما واحد اصطلاحاً، والمعنى أنّه يقوّم المجروح صحيحاً لو كان مملوكاً تارةً، ويقوّم مع الجناية أُخرى، ويُنسب إلى القيمة الأُولى، ويُعرف التفاوت بينهما، ويُؤخذ من الديّة للنفس لا للعضو بحسابه، أي التفاوت بين القسمين...

وكيف كان، فهذا في الحرّ الذي يكون العبد أصلاً له، في هذا الحال ضرورة توقّف معرفة الفائت على ذلك، بعد عدم التقدير من الشارع له ،

___________________

(١) ص١٦٨ ج٤٣.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٣٠٢، والتهذيب ج ١٠ ص ٢٣٢، والفقيه ج ٤ ص ١١٤ نسخة الكومبيوتر.

٢٩٩

والفرض كون الجملة مضمونة بالديّة فتُضمن الأجزاء منها، فيستكشف بذلك كما يستكشف تفاوت المعيب والصحيح، ثمّ يرجع بعد إلى ثمن الذي ضمن به المبيع، فكذلك هنا، وهو واضح(١) .

( الثالث ) : ما يمكن أن يُقال في المقام وبالله الاعتصام:

لا يبعد أنْ يلزم الجاني بدفع جميع ما يحتاج المريض إلى صرفه في علاجه من ثمن الأدوية وأجر الأطباء وما يصرف في مقدّمات التداوي، حتّى أجرة السيّارة، وكذا ما يفوت على المريض من منافعه اليوميّة لأجل المرض، وهذا هو طريق العقلاء في أخذ الغرامة من المعتدي، ولاحِظ الفصل الثالث من كتاب إجارة العروة الوثقى ( المسألة الثالثة )، ولا يحصل لنا علم من إجماع الجواهر، فلا يكون حجّة لنا.

على انّه لا سبيل لنا في مثل هذه الأعصار إلى قيمة العبد، ولا وجود له في بلادنا(٢) .

ولا أدري رأي أهل الاستنباط - أيّدهم الله - في هذا العصر، غير أنّ ما ذكرنا هو الأرجح.

وأمّا في الأمراض التي لا علاج لها، فتعيين أرشها موكول إلى نظر الحاكم بمشورة أهل الخبرة، منهم الأطبّاء، مضافاً إلى غرامة منافع المريض اليوميّة الفائتة لأجل المرض عليه.

ويمكن أنْ نقول في نقل فيروس الإيدز: إنّه يهدم مناعة البدن وهي واحدة، فإتلافها يوجب الديّة كاملةً. لكن قيل: إنّ هذه القاعدة في خصوص الأعضاء دون المنافع، ففي صحيح هشام بن سالم، المرويّ في

___________________

(١) لاحظ ج ٤٣ من الجواهر.

(٢) بل المسلمون اليوم أُسراء بيد الكفّار في العالم، وثلّة منهم يسعون لفكاك رقابهم منهم.

٣٠٠

بكاءً، كما في سورة الدخان(1) ، روى الفريقان تحقّق هذا الأمر في شهادة الحسين (عليه السلام)، مثل: ابن عساكر في تاريخه في ترجمة سيّد الشهداء (عليه السلام)، حيث ذكرَ جملة من الروايات المُسندة في ذلك عن مشاهدة الدم تحت الأحجار وفوق الحيطان وغير ذلك.

أوجهُ الاعتراض على ظاهرة البكاء والجواب عليها

نذكر بعد ذلك ما يُثار حول ظاهرة البكاء من انتقادات وإشكالات ونتعرّض للجواب عنها بالتفصيل تباعاً، فهناك عدّة نظريات وآراء مخالفة لظاهرة البكاء تعتمد على وجوه عديدة.

الوجه الأوّل: أنّ أدلة وروايات البكاء تشتمل على مضامين لا يقبلها العقل، مثل:(إنّ مَن بكى ودَمعت عيناه بقدر جَناح ذُبابة، غُفر له كلّ ذنوبه) فهذه الروايات - بتعبيرهم - مضمونها إسرائيلي، شبيه لمـَا لدى النصارى من أنّ المسيح قُتل لتُغفر ذنوب أمّته، فهذه الروايات فيها ما يشابه هذا المضمون، أنّ الحسين (عليه السلام) قُتل ليُكفّر عن ذنوب شيعته إلى يوم القيامة، فهي - بزعم هؤلاء - إغراء بالذنوب وإغراء للمعاصي، فلا يمكن العمل بهذه الروايات؛ لأنّ فيها نفس الإغراء الموجود في الفكرة المسيحيّة واليهوديّة، فحينئذٍ مضمون هذه الروايات لا يقبلها العقل ولا يصدّقها، وهو مضمون دخيل كما عبّروا، وهذا الوجه - في الحقيقة - يتألّف من أمرين:

____________________

(1) الدخان: 29.

٣٠١

الأول: ضعفُ سند هذه الروايات.

الثاني: ضعفُ المضمون؛ لاشتماله على هذا الإغراء الباطل.

الجواب: أمّا ضعفُ السند، فقد ذكرنا سابقاً أنّ كتاب بحار الأنوار يتضمّن باب ثواب البكاء على الحسين (عليه السلام)، ويحتوي على خمسين رواية في فضل واستحباب البكاء، وهذه الروايات الخمسون، ممّا جَمعها صاحب البحار هي غير الروايات العشرين التي جَمعها صاحب الوسائل وغير الروايات المتناثرة التي تربو على العشرات في الأبواب الأخرى، فكيف نردّ هذه الروايات؟ وبأيّ ميزان دِرائيّ ورجالي نُشكّك بها؟ فالقول بضعف السند لهذه الروايات ناتج من ضعف الانتباه أو ضعف الحيطة العلميّة؛ لأنّه بأدنى تصفّح في المصادر المعتبرة الحديثيّة تحصل القناعة واليقين بوجود أسانيد كثيرة جدّاً، منها: الصحيح، والموثّق، والمُعتبر، فضلاً عن كونها تصل إلى حدّ الاستفاضة بل التواتر.

وأمّا المضمون، فقد طعنَ عليه غير واحد، حيث قالوا: إنّ ذِكر الثواب في البكاء على الحسين (عليه السلام)، فيه إغراء للناس لارتكاب الذنوب والاتّكاء على البكاء، ويستشهدون على ذلك: بكون كثير من العوامّ يرتكبون المعاصي ويشاركون في نفس الوقت مشاركة فعّالة في الشعائر الحسينيّة ويخدمون ويحضرون المجالس ويبكون، واتّكالاً على هذه المشاركة وتذرّعاً بهذا البكاء فإنّهم يرتكبون ما يروق لهم من المعاصي، فبالتالي يصبح مضمون هذه الشعائر باطلاً.

الجواب عن هذا الإشكال: إنّ مثل هذا المضمون موجود في موارد عديدة في الشريعة، وهي موارد مسلّمة، مثلاً:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ

٣٠٢

سَيِّئَاتِكُمْ ) (1) ، فهل هذا إغراء بالصغائر، أو:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) (2) ، هل هذا إغراء بكلّ المعاصي غير الشِّرك؟!

يُضاف إلى ذلك، روايات عديدة أخرى وردت من طرق العامّة والخاصّة في ثواب البكاء من خشية الله، منها:

عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(مَن خرجَ من عينيه مثل الذُباب من الدمع من خشية الله، آمنهُ الله يوم الفزع الأكبر) (3) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(مَن بكى على ذنبه حتّى تسيل دموعه على لحيته، حرّم الله ديباجة وجهه على النار) (4) فهل هذا إغراء لارتكاب المعاصي والذنوب؟! وكذلك ورد في ثواب الحجّ والصلاة المفترضة والصوم وغيرها من الثواب العظيم، وغفران الذنوب، بل يمكن الردّ على الإشكال في هذه الموارد بوجوه عديدة:

أوّلاً: الترغيب في نفس العمل، لا أنّه إغراء بالمنافرات والمضادّات.

ثانياً: فتح باب التوبة وعدم اليأس.

ثالثاً: إنّ البكاء من خشية الله؛ إنّما يكون من باب المقتضي للتكفير عن الصغائر أو لغفران الذنب، وليس من باب العلّة التامّة، أي أنّ هناك أموراً وشرائط أخرى لابدّ من توفّرها مع المقتضي، من قبيل: عدم الإصرار على الصغائر، والعزم والتصميم على الإقلاع عن المعصية وغير ذلك، فإذا تمّت جميع هذه المقدّمات

____________________

(1) النساء: 31.

(2) النساء: 48.

(3) روضة الواعظين (الفتال النيسابوري): 452.

(4) المصدر السابق.

٣٠٣

وتوفّر المقتضي فتحصل العلّة التامّة للتكفير أو للمغفرة، لذلك نقول: إنّ هذه الأمور هي من باب المقتضي وليست من باب العلّة التامّة.

ورابعاً: في آية( إِنْ تَجْتَنِبُوا... ) المقصود تكفير الذنوب السابقة وليس الآتية في المستقبل، والذي يرتكب الذنوب في المستقبل قد لا يوفّق إلى مثل هذا التكفير والغفران، وهذا نظير ما وردَ في باب الحج: أنّ مَن حجّ يقال له بعد رجوعه استأنفَ العمل(1)، أو أنّه يرجع كما ولدتهُ أمّه، ويُغفر لمَا سبقَ من ذنوبه، فهذا ليس إغراءً بالجهل وبالذنوب، بل المقصود: أنّ هذه مقتضيات، لا أنّها تُحدّد المصير النهائي والعاقبة النهائيّة.

وقد ورد في مضمون بعض الروايات: مَن مات على الولاية، يَشفع ويُشفّع(2)، لكن مَن يضمن أنّه يموت على الولاية إذا كان يرتكب الذنوب والكبائر، فليست ولاية أهل البيت مُغرية للوقوع في الذنوب والمعاصي.

إذ إنّ ارتكاب المعاصي يُسبّب فقدان أغلى جوهرة وأعظم حبل للنجاة، وهو العقيدة، ويؤدّي إلى ضياع الإيمان، حيث قال تعإلى:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ

____________________

(1) بحار الأنوار 99: 315 / 6؛ وكذلك في تفسير القمّي 1: 70؛ واللفظ للأخير: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:(إنّ العبد المؤمن حين يخرج من بيته حاجّاً، لا يخطو خطوة ولا تخطو به راحلته إلاّ كُتب له بها حسنة، ومُحيَ عنه سيّئة، ورُفع له بها درجة، فإذا وقفَ بعرفات فلو كانت له ذنوب عدد الثرى رجعَ كما ولدتهُ أُمّه، فقال له: استأنِف العمل..) .

(2) ورد في بحار الأنوار 8: 30 عدّة روايات بهذا المضمون منها: عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :(إنّي أشفعُ يوم القيامة فأُشفّع، ويشفع عليّ فيُشفّع، ويشفع أهل بيتي فيُشفّعون، وإنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفَع في أربعين من إخوانه كلّ قد استوجبوا النار) .

٣٠٤

أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) (1) ، حيث إنّ مجموع الدين يُعتبر كتلة واحدة، ولا ننظر إلى الدين من جهة دون أخرى، وإذا كان تمام الأدلّة الدينيّة يشير إلى أنّ ارتكاب المعاصي والإصرار عليها يؤدّي إلى فقدان الإيمان والمآل إلى سوء العاقبة - والعياذ بالله - فليس فيها جانب إغراء، بل فيها إشارة إلى جهة معيّنة، وهي: أنّها تُخلّص الإنسان وتنقذه من حضيض المعاصي والرذائل، وتعرج به إلى سموّ الفضائل وجادّة الصواب والصراط المستقيم.

فإنّ التفاعل العاطفي مع أحداث عاشوراء ليس يُنفّر من أعداء أهل البيت (عليهم السلام) فقط، بل هو أيضاً ينفّر من السلوكيّات المنحرفة المبتلى بها، وتتولّد في أعماق الشخص المتأثّر حالة تأنيب الضمير لذلك، فهو يُجسّد في نفسه الصراع والجهاد، فإذا عَرضت له أشكال من المعصية كأنّما يتحرّك عنده هاجس الحرارة الحسينيّة، وينشأ في روحه جانب تأنيب الضمير، فهذا نوع من الانجذاب القلبي والعزم الإرادي نحو الصراط المستقيم.

وليس مفاد الروايات: أنّ مَن بكى على الحسين فلهُ الضمان في حسن العاقبة، وله النتيجة النهائيّة في الصلاح والفلاح، ليس مفادها ذلك؛ إنّما مفاد الروايات: مَن بكى على الحسين غُفرت له ذنوبه، مثل أثر فريضة الحجّ، وغفران الذنوب مشروط - كما يقال - بالموافاة، والموافاة: اصطلاح كلامي وروائي، أي أن يوافي الإنسان خاتمة أجره بحُسن العاقبة، وإلاّ فمعَ سوء العاقبة - والعياذ بالله - ترجع عليه السيئات وتُحبط الحسنات ولا تُكتب له.

____________________

(1) الروم: 10.

٣٠٥

فليس في منطق هذه الروايات إغراء بالمعاصي، وليست هي كعقيدة النصارى بأنّ المسيح قد قُتل ليُغفر للنصارى جميعاً، حتّى وإن عملوا المعاصي والكبائر وأنواع الظلم والعدوان، ولا كعقيدة اليهود الذين قالوا إنّ عزيراً أو غيره له هذه القابليّة على محو المعاصي والكبائر عن قومه.

وإلاّ لأُشكلَ علينا أنّ قرآننا توجد فيه إسرائيليّات، فمنطق الآية:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ...) يختلف عن ذاك المنطق الذي ينادي به النصارى، أولئك يقولون: نعمل ما نشاء والعاقبة ستُختم لنا بالحسنى، فأين هذا عن المعنى الذي نحن بصدده؟

مضمون أن يُغفر له ولو كان كزبد البحر، مخالفٌ غير ذلك المعنى أصلاً، بل فيه نوع من إدانة المذنبين، إضافةً إلى فتح باب الأمل وعدم القنوط وعدم اليأس، بل الأمل بروح الله أن ينجذب الإنسان إلى الصراط المستقيم وجانب الطاعات، ولا يقع في طريق المعاصي ويتخبّط في الذنوب.

الوجهُ الثاني: سلّمنا بكون هذه الروايات المشتملة على البكاء تامّة سنداً ومتناً ومضموناً، لكن مضمونها غير أبدي، وليس بدائم، مضمونها هو الحثّ على البكاء في فترة الأئمّة (عليهم السلام)، وهي فترة وحقبة التقيّة، حيث كان الأسلوب الوحيد لإبراز المعارضة والاستنكار للظلم وإبراز التضامن مع أهل البيت (عليهم السلام) هو البكاء، أمّا في يومنا هذا، فالشيعة - ولله الحمد - يعيشون في جوّ من الحريّة النسبيّة، فليست هذه الوسيلة صحيحة.

كان الهدف من تشريع هذه الوسيلة والحثّ عليها هو: حصول غرض معيّن، وهو إبراز التضامن مع أهل البيت (عليهم السلام)، أو التولّي لأهل البيت، وإظهار الاستنكار

٣٠٦

والتبرّي من أعدائهم والمعارضة لخطّهم، باعتبار أنّ الظرف كان ظرف تقيّة، كانت الأفواه مكمّمة، وكانت النفوس في معرض الخطر من الظالم، فقد يكون البكاء هو الأسلوب الوحيد آنذاك، أمّا في أيّامنا هذه - وقد زال الخوف - فهذا ليس بالأسلوب الصحيح.

أمّا الآن فقد انتفت الغاية منها، فتكون أشبه بالقضيّة الخارجيّة الظرفيّة، لا القضيّة الحقيقيّة العامّة الدائمة.

الجواب: فنقول: أمّا كونه أحد الغايات للبكاء فتام، لكن ليس هو تمام غاية البكاء، بل هو أحد الغايات والسُبل لإظهار الظلامة، هذا أوّلاً، وثانياً: ما الموجب لكون هذه الغاية غير قابلة للتحقّق، بل هي مستمرة قابلة للتحقّق؛ لأنّ البكاء نوع من السلوك التربوي لإثارة وجدان أبناء الفِرق الأخرى من المسلمين ومن غير المسلمين، وإلاّ لو حاولت - إظهار النفرة لظالمي أهل البيت والتبرّي من أعداء الدين الذين قادوا التحريف والانحراف في الأمّة الإسلاميّة - بمجرد كلمات فكريّة أو إدراكيّة يكون الأسلوب غير ناجح وغير نافع، وقد يُسبِّب ردّة فعل سلبيّة عندهم، أمّا أسلوب العاطفة الصادقة فهو أكثر إثارة، وأنجح علاجاً لهداية الآخرين، لمَا مرّ من أنّ الطبيعة الإنسانيّة مركّبة من نَمطين جِبلييّن: نَظري إدراكي، وعَملي انفعالي.

والغاية ليست منحصرة في ذلك، بل هناك عِلل كثيرة - كما سنقرأ من الروايات في ختام بحث البكاء - وحصر علّة البكاء بهذه العلّة غير صحيح.

اعتراض: أمّا ما يقال: بأنّ الحسين (عليه السلام) قد منعَ الفواطم أو العقائل من شقّ الجيوب، وخَمش الوجوه، ونهاهنّ عن البكاء، فهذا النهي في الواقع مُغيّى

٣٠٧

ومُعلّل، عندما أخبرَ الحسين (عليه السلام) زينب العقيلة (عليها السلام) بأنّه راحل عن قريب، لطمَت وجهها وصاحت وبكت، فقال لها الحسين (عليه السلام):(مَهلاً لا تُشمِتي القوم بنا) (1) .

حذّرها شماتة الأعداء قبل انتهاء الحرب وقبل حلول الفادحة والمصيبة العظمى؛ لأنّه يُسبّب نوعاً من الضعف النفسي في معسكر الحسين (عليه السلام)، أمّا إخماد الجزع بعد شهادته (عليه السلام)، أو إخماد الوَلولة وكَبت شِدّة الحُزن فهي نوع من إخماد وإسكات لصوت نهضة الحسين (عليه السلام)، وحدٌّ من وصول ظلامته إلى أسماع العالَم بأسره، وكلّ مستقرئ يرى أنّ الذي أوصلَ صوت الحسين (عليه السلام) إلى العالَم، وأنجحَ نهضته إلى اليوم وإلى يوم القيامة هم السبايا ومواقف العقيلة (عليها السلام) وخطبها، وخُطب السجّاد (عليه السلام) في المواضع المختلفة من مشاهد السبي لأهل البيت (عليهم السلام)(2) .

والسرّ واضح؛ لأنّه حينما تكون حالة هياج وحالة احتراق للخيام وتشرّد وهيام الأطفال واليتامى، فالظرف هنا ليس ظرف جزع ولا ظرف إظهار الندبة، بل هو ظرف حزم الأمور وقوّة الجَنان، ومحاولة الإبقاء على البقيّة الباقية من أهل البيت (عليهم السلام).

____________________

(1) اللهوف في قتلى الطفوف (السيّد ابن طاووس): 55؛ بحار الأنوار 44: 391 / 2.

(2) وهناك نهي آخر عن الحسين لسكينة بالخصوص مُغيّى أيضاً بقتله، كما يظهر من الأبيات المنسوبة له (عليه السلام) حين توديع ابنته سكينة:

سيطولُ بعدي يا سُكينة فاعلَمي منكِ البكاء إذا الحِمام دَهاني

لا تُحرقي قلبي بدمعك حسرةً مادام مني الروح في جثماني

وإذا قُتلتُ فأنتِ أولى بالذي تأتينهُ يا خيرة النِسوان

مناقب آل أبي طالب (ابن شهر آشوب) 3: 257.

٣٠٨

الجواب: ليس من المعقول أن تبدو في الإنسان ظاهرة عاطفيّة انفعاليّة من دون أن تكون وليدة لإدراك معيّن، ولا ناشئة عن فهم معلومة ما.

وأصلاً؛ فإنّ التفكيك بين الانفعال والتأثّر العاطفي من جهة، وبين الإحساس والإدراك لأمرٍ ما من جهةٍ أخرى غير ممكن، بل البكاء - كما بيّنا فيما سبق موضوعاً وحكماً، سواءً بالحكم العقلي أو النقلي - هو نوع من الإخبات للمعلومة الحقيقيّة، وشدّة التأثّر بها، وشدّة الإذعان والمتابعة لها، فلو أنّ الإنسان ذكرَ معلومة من المعلومات الحقيقيّة المؤلمة ولم يتأثّر بها، فهذا يعني أنّه لم يشتدّ إذعانه لها، ولم يُرتّب عليها آثار المعلومة الحقيقيّة، بخلاف ما لو تأثّر بها بأيّ نوع من التأثّر، فهذا يدلّ على شدّة إيقانه بتلك الحقيقة.

ومن غير الممكن أن توجد ظاهر البكاء في الجناح العملي في النفس وكفعل نفساني، من دون أن يكون هناك إدراك ما، فكيف إذا كان إدراك حرمان ذروة التكامل في المعصوم، وشدّة الحسرة على فقدان تلك الكمالات البشريّة، ومن ثَمّ شدّة التلهّف للاقتداء والانجذاب إلى ذلك الكمال والمثل الأعلى، فسوف يتأثّر الإنسان بشدّة وينفعل بدرجة عالية، هذا أدنى ما يمكن أن يتصوّر.

وهذا التفاعل: إنّما هو انجذاب النفس إلى الكمالات الموجودة المطويّة في شخصيّة المعصوم؛ وإنّما التأثّر به والقرب منه يُعدّ من أسمى الفضائل، ويُعتبر نفرة عن الرذائل.

فالفضائل كلّها مجتمعة في الذات المطهّرة لسيّد الشهداء (عليه السلام)، والبراءة من أعدائه ومناوئيه تُعتبر نفرة من الرذائل والآثام المجتمعة في أعداء أهل البيت (عليهم السلام).

٣٠٩

وهذه أقلّ حصيلة يمكن أن تُتصوّر في البكاء، حيث إنّ أدنى مرتبة من مراتب مجلس الرثاء والتعزية هي نفس هذا المقدار أيضاً، وهو في الواقع أمر عظيم ينبغي عدم الاستهانة به، حيث يولِّد الانجذاب نحو الفضائل، والنفرة والارتداع عن الرذائل، وهل المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير هذا؟ وهل الغاية في نشر الدين وتبليغ الرسالة إلاّ انتشال الفرد من مستنقع الرذائل والصعود به إلى سموّ الفضائل.

هذا أدنى حصيلة عمليّة تنشأ من البكاء، فهو نوع من المجاوبة والتفاعل لا الجمود والخمول، ولا الحياديّة السلبيّة.

فربّما يواجه الإنسان فضيلةً وتُعرض عليه رذيلةً، فيظلّ مرتاباً متردّداً، ومتربّصاً في نفسه لا يحسم الموقف:( وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ ) (1) ، فيضلّ يعيش فترة حياديّة مع نفسه، لا هو ينجذب للفضائل، ولا يتأثّر بالرذائل، يعني تسيطر على نفسه حالة تربّص، وهذه حالة التربّص قد ذمّها القرآن الكريم، وهي مرغوب عنها في علم الأخلاق وعلم السير والسلوك؛ لأنّ نفس التوقّف هو تسافل ودركات، أمّا الانجذاب نحو الفضائل فيُعتبر نوعاً من التفاعل السليم.

فالبكاء يعني التأثّر والانجذاب والإقرار والإذعان، وبالتالي التبعيّة.

بخلاف ما لو لم يبكِ الإنسان ولم يتفاعل، بل يكون موقفه التفرّج والحياديّة، وشتّان بين الحالتين!

أضف إلى ذلك: أنّ في البكاء نوعاً من التولّي، حيث إنّ البكاء يدلّ على

____________________

(1) الحديد: 14.

٣١٠

فإذاً، ظرف المرحلة بخصوصها هي جنبة ضبط وتدبير وحزم، وليس من الصحيح إظهار المآتم والعزاء في ذلك الظرف، فمن ثَمّ فإنّ أمره (عليه السلام) مختصّ بذلك الظرف، وهو نوع من التدبير والحكمة منه (عليه السلام)، ولابدّ من لمّ الشَمل وجمع الشِتات للأرامل واليتامى، وإنّ ذلك الظرف ليس ظرف بكاء ورثاء ولا محل لإظهار المصيبة.

خلاصة القول: في مقام الإجابة على الانتقادات والاعتراضات السابقة: أنّ ما ذُكر في العلوم التخصصيّة في حقيقة البكاء من جهة البحث الموضوعي، هو أنّ هناك شرطان لرجحان البكاء هما: أن يكون البكاء وليداً لمعلومة ولإدراك حقيقي، وأن يكون لغاية حقيقيّة وهادفة إيجابيّة، فيكون من سنخ الانفعالات الكماليّة الممدوحة للنفس بلا ريب، وهو كذلك ممدوح في لغة القرآن ولغة النصوص الشرعيّة، وخَلصنا إلى أنّ البكاء هو نوع من التفاعل الجدّي والفعلي مع الحقيقة.

وبعبارةٍ أخرى: أنّ إعطاء السامع، أو القارئ، أو المُشاهد، أو المُوالي فكرة إدراكيّة بحتة غير مثمر بمفرده، وإنّ البكاء بمنزلة إمضاء مُحرّك للسير على تلك الفكرة، أو ما يعبّر عنه: بحصول إرادة جدّيّة عازمة فعليّة للمعنى.

فالبكاء إذا ولّدَ حضور الفكرة، العِبرة إذا تعقّبت العَبرة حينئذٍ يكون نوع من التفاعل الشديد والإيمان الأكيد بالفكرة والعِبرة.

ويُعتبر ذلك نوعاً من التسجيل المؤكَّد لتفاعل الباكي وإيمانه واختياره لمسيرة تلك العِبرة.

الوجهُ الثالث: الذي يُذكر للنقض على البكاء: أن لو سلّمنا أنّنا قَبلنا بأمر البكاء في الجملة، ولكنّ استمرار البكاء على نحو سنوي، أو راتب شهري، أو

٣١١

أسبوعي بشكلٍ دائم يولِّد حالة وانطباعاً عن الشيعة والموالين لأهل البيت (عليهم السلام)، بأنّ هؤلاء أصحاب أحقاد وضغون، وإنّهم يحملون العُقد، واستمرارهم بالبكاء واجترارهم له يدلّ على أنّهم عَديمي الأمل فهذه ظاهرة سلبيّة انهزاميّة تكشف عن عُقد روحيّة، وكبت نفسي دَفين، فبدل أن يَقدموا على أعمال وبرامج ومراحل لبناء مذهبهم ولبناء أنفسهم ليخرجوا من حالة المظلوميّة إلى حالة قيادة أنفسهم والغلبة على مَن ظلمهم، فإنّهم يبقون على حالة الانتكاس والتراجع، وهذه الحالة يمكن أن نسمّيها الحالة الروحيّة الشاذّة، هي حالة توجِد خَللاً في الاتّزان الروحي (كما في علم النفس وعلم الاجتماع)، فالبكاء حيث إنّه في علم النفس ليس بحالة اتّزان روحي؛ وإنّما حالة اختلال فكري لا نستطيع معهما أن نهتدي السبيل، بل نحن عديمو الأمل، لدينا حالة كبت، وهذه الأوصاف هي أوصاف مَرضيّة وليست أوصاف روحيّة سليمة.

فحينئذٍ يكون الإبقاء على مثل هذه الظاهرة إبقاءً على حالة مرضيّة بإجماع العلوم الإنسانيّة التجريبيّة الحديثة، ولمّا كانت هذه الظاهرة المرضيّة تتشعّب إلى أمراض روحيّة أو فكريّة أو نفسيّة عديدة، فمن اللازم الابتعاد عنها ونبذها جانباً.

فملخّص الاعتراض في هذا الوجه الثالث: هو كون البكاء عبارة عن مجموعة من العُقد النفسيّة، وهو يوجِب انعكاس حالة مرضيّة روحيّة لأفراد المذهب وأبناء الطائفة.

الجواب: فنقول: على ضوء ما ذكرنا سابقاً من كلمات علماء النفس

٣١٢

والاجتماع والفلسفة: بأنّ الفطرة الإنسانيّة السليمة التي هي باقية على حالها لابدّ لها من التأثّر والتفاعل، أمّا التي لا تتأثّر بالأمور المحرِّكة للعاطفة تكون ممسوخة، إذ فيها جناح واحد فقط وهو جناح الإدراك، أمّا جناح العمل فإنّه مُنعدم فيها، كما هو الفرق بين المجتمعات الغربيّة والمجتمعات الشرقيّة.

فعلى عكس زعم المُعترض، تكون هذه حالة صحيحة وسليمة وليست حالة مرضيّة، ولا حالة عُقد، بل ذكرنا أنّ العُقد إنّما تجتمع فيمن لا يكون له متنفّس للانفعال، يعني أنّ الذي لا ينفعل، والذي لا يظهر انفعاله إزاء المعلومات الحقيقيّة التي تصيبه والذي يكبت ردود الفعل الطبيعيّة للحوادث سوف تتكدّس عنده الصدَمات إلى أن تصبح عُقد وتناقضات، وإلى أن تنفجر يوماً ما، وربّما تظهر لديه حالات شاذّة من قبيل: سوء الظن بالآخرين، أو اتّخاذ موقف العَداء لجميع مَن حوله.

والشخصيّات المعروفة في المجتمعات البشريّة - بعد استقراء أحوالهم وأطوارهم - نجدها تتمتّع بهذه الصفة الأساسيّة في النفس، فالذي لا يُبدي العواطف الإنسانيّة الصادقة، ولا تظهر أشكالها عليه، سوف يجتمع في خفايا نفسه ركام من الحقد وأكوام من العُقد، حيث إنّ الإنسان لا يخلو من جانب العاطفة، والاستجابة للعاطفة أمرٌ ثابت ناشئ ومتولّد عن الظاهرة العمليّة والوجدانيّة والضميريّة من الإدراك الحقيقي.

فإذا لم تحصل هذه الاستجابة فلابدّ من وجود اختلال في توازن الإنسان.

لذلك نجد أنّ المنطق القرآني والإرشادات من السنّة النبويّة الشريفة والسيرة العلويّة الكريمة، كلّها تُقرّر هذه الموازنة والتعادل بين جميع قوى النفس دون أن

٣١٣

يتمّ ترجيح جانبٍ للنفس دون جانب آخر.

فإذاً، المنطق المتعادل والمتوازن هو كون نفس الإنسان في حالة من التجاذب والتأثير والتأثّر بين أجنحتها المختلفة.

الوجهُ الرابع: أنّ البكاء ظاهرة تُنافي الصبر المرغوب فيه، ولا تنسجم مع الاستعانة بالله عزّ وجل، كما في سورة البقرة( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (1) فالبكاء منافٍ للصبر والتحمّل ومُناقض للاستعانة بالله سبحانه.

الجواب: أمّا الجواب لمَا قيل من وجوب الصبر والتحمّل عند نزول المصيبة كما في الآية الشريفة:( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ( 156 ) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (2) .

فنقول: كيف يتّفق هذا مع بكاء يعقوب على يوسف حتّى ابيضّت عيناه، هل هذا خلاف الصبر؟ أو بكاء السجّاد على أبيه سيّد الشهداء (عليه السلام) والأوامر التي بَلغت حدّ التواتر، الواردة في ثواب البكاء على الحسين (عليه السلام) إلى ظهور المهدي (عجّل الله فرجه) بل في بعضها إلى يوم القيامة.

فهل يتنافى ذلك كلّه مع الصبر؟ كلاّ.

وقد وردَ عن الصادق (عليه السلام):(إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جَزع ما خلا البكاء على الحسين بن عليّ (عليه السلام)؛ فإنّه فيه مأجور) (3) ، هذا ليس استثناءً

____________________

(1) البقرة: 156 - 157.

(2) البقرة: 156 - 157.

(3) بحار الأنوار 44: 291 / 32. راجع روايات الجزع ص: 312 من هذا الكتاب.

٣١٤

متّصلاً، بل هو استثناء منقطع؛ لأنّ الجزع نوع اعتراض على تقدير الله ويُعتبر حالة من الانهيار والتذمّر والانكسار، أمّا في الجزع على الحسين فليس اعتراضاً على قضاء الله وقدره، بل هو - بالعكس - نوع من الاعتراض على ما فعله أعداء الله، ولا يُعدّ انهياراً أو انكساراً، بل هو ذروة الإرادة للتخلّق والاتّصاف بالفضائل، وشَحذ الهِمم للانتقام من الظالمين، والاستعداد لنصرة أئمّة الدين والتهيئة لظهور الإمام الحجّة المنتظر (عجّل الله فرجه).

فقد يقال: أليس الحالة التي يندب إليها الشرع والقرآن عند المصيبة هي الصبر وقول:( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) ، فلا موضع للبكاء، بل البكاء يخالف الخُلق القرآني والتوصية الشرعيّة في ذلك، ونرى أنّ القرآن حين يستعرض لنا بأنّ الصبر هو الموقف الإيجابي عند البلاء والمصيبة، وفي نفس الوقت يستعرض لنا القرآن أمثولة نموذجيّة وهي: نبيّ الله يعقوب، يستعرض فعله بمديح وثناء لا انتقاصَ فيه، مضافاً إلى ما وردَ عن الصادق (عليه السلام).

ينحلّ هذا التضاد البدوي بأدنى تأمّل؛ وذلك بالبحث عن سبب كراهة الجزع، أو عن سبب إيجابيّة الصبر في المصائب، باعتبار أنّ الجزع مردّه إلى كراهة قضاء الله وقدره، ومآله إلى الانهيار أو الانكسار مثلاً، ولا ريبَ هذا أمر سلبيّ وغير إيجابي؛ لأنّه من الضعف وعدم الصمود والطيش، وعدم رباطة الجأش، وعدم الرضا بقضاء الله سبحانه وتعإلى وقدره، أو مردّه إلى الاعتراض على الله - والعياذ بالله - أو كراهة ما قضى الله سبحانه، ولذلك لو كان الصبر في موضع آخر لمَا كان الصبر ممدوحاً، مثلاً: صبر المسلمين مقابل كيد الكافرين ليس موضع صبر؛ لأنّ اللازم عليهم الردّ وحفظ عزّتهم لو كان لهم عدد وعدّة ومع

٣١٥

توفّر الشروط الموضوعيّة للقتال، كما في تعبير الآيات القرآنية مثل:( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) (1) .

فالصبر ثمّة ليس في محلّه، ومثله تعبير أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة:(رَوّوا السيوف من الدماء، تَرووا من الماء) (2) ، و(ما غُزي قومٌ في عُقر دارهم إلاّ ذلّوا) (3) ، فيتبيّن أنّ الصبر ليس راجحاً في كلّ مورد، بل الصبر بلحاظ ظرفه وجهته يكون ممدوحاً أو حسناً، وإلاّ قد يكون خلاف ذلك، فمن ثَمّ قد يكون إيجابيّاً و سلبيّاً فلابدّ أن يُقسّم الصبر إلى: مذموم، ومحمود.

ومثلُ ما في قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي (عليه السلام):(أبشِر فإنّ الشهادة من وراءك، فكيف صبرك إذاً، فقلتُ: يا رسول الله، ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر..) (4) .

أي هذا موضع إبراز الشكر لله، لا موضع السكوت والتحمّل والصبر، نعم، هو مقابل اصطدام البليّة يكون صبراً، أمّا في مقابل تقدير الله، ليس عليك فقط أن تصبر، بل عليك الشكر والرضا بقضائه وقدره.

فالصبر درجة، أمّا الشكر لله سبحانه والرضا بقضائه وقدره فهو أرقى وأسمى.

الصبر وتحمّل المصيبة يمثّل درجة، أمّا الإحساس بعذوبة تقديره سبحانه

____________________

(1) البقرة: 193.

(2) نهج البلاغة 3: 244.

(3) نهج البلاغة 2: 74.

(4) شرح نهج البلاغة 9: 305.

٣١٦

وبحلاوة قضائه فيجسّد درجة أرقى، فتكون مورداً للرضا وللشكر، وهذه الحالة لا تُنافي الصبر بل تزيد عليه فضيلة، كذلك في موارد التشوّق إلى ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث وردَ على لسان الأئمّة (عليهم السلام) أنّهم يَعدّون خسران وفقدان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مصيبة عُظمى، وتعبيرهم (عليهم السلام):(لم يُصب أحد فيما يُصاب، كما يُصاب بفقد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يوم القيامة، فهي أعظم مصيبة) .

إذا كان الصبر معناه الحمد لله سبحانه على قضائه وقدره، فهذا صحيح وفي محلّه، لكن ليس معنى ذلك استلزامه عدم إبراز الأحاسيس، وعدم حصول التشوّق والعاطفة الصادقة التي هي وليدة الانجذاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل ههنا عدم إظهار ذلك غير محمود، الإظهار هو نوع من الفضيلة زائدة على الصبر، لا أنّ هذا الإظهار ينافي الصبر.

وفي مصحّحة معاوية بن وهب:(كلّ الجَزع والبكاء مكروه ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين (عليه السلام)) (1) .

وفي رواية علي بن أبي حمزة:(إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جَزع، ما خلا البكاء على الحسين بن عليّ (عليه السلام) فإنّه فيه مأجور) (2) .

وفي صحيح معاوية بن وهب الآخر، المروي بعدّة طُرق عن أبي عبد الله (عليه السلام):(وارحَم تلك الأعين التي جَرت دموعها رحمةً لنا، وارحَم تلك

____________________

(1) وسائل الشيعة 14: 505 أبواب المزار - باب 66 استحباب البكاء لقتل الحسين وما أصاب أهل البيت (عليهم السلام).

(2) وسائل الشيعة 14: 507 أبواب المزار باب 66، ح13.

٣١٧

القلوب التي جَزعت واحترَقت لنا، وارحَم الصرخة التي كانت لنا) (1) .

الجَزع: بمعنى الانكسار، ولكنّه هنا ليس انكساراً، وليس بجزع بحقيقته، نعم، جزع من ظلم الأعداء وجزع من رذائل الأداء، وهذا جزع محمود وليس جزعاً مذموماً، باعتبار أنّه نوع من التشوّق الشديد لسيّد الشهداء (عليه السلام)، كما رواه الشيخ في أماليه بسنده عن عائشة، قالت: لمّا مات إبراهيم بكى النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى جَرت دموعه على لحيته، فقيل: يا رسول الله، تنهى عن البكاء وأنت تبكي؟!

فقال:(ليس هذا بكاء؛ وإنّما هذه رحمة، ومَن لا يَرحم لا يُرحم) (2) .

والسرّ في ذلك: هو أنّ أيّ فضيلة من الفضائل التي هي مربوطة بالخلق الإلهي، أو بالآداب الإلهيّة، أو بكلمات الله، كنماذج مجسّمة في المعصومين (عليهم السلام)، فعدم التفاعل الشديد معها ومع هذا الخلق ومع تلك الآداب، يُعتبر أمراً غير محمود بل مذموماً، فلابدّ من الانجذاب والتولّي والمتابعة والمودّة لهم، وهذا التشوّق ليس بالمذموم بل محمود وحسن، ليس هو من الجزع المذموم، والتشكّي ليس فيه اعتراض على الله، بل هو اعتراض واستنكار على الظلم والظالمين ونبذ للرذيلة وأصحابها، كما في جواب العقيلة (عليها السلام) حينما دخلت في الكوفة إلى مجلس عبيد الله بن زياد، وتوجّه إليها وقال: كيف رأيتِ صُنعَ الله بكِ وبأهل بيتكِ، قالت: (ما رأيتُ إلاّ جميلاً)(3) .

في حين أنّها تُبدي استنكارها من عُظم الفجيعة، وقد أحاطتها هالة من

____________________

(1) وسائل الشيعة 14: 412 أبواب المزار باب 37، ح7.

(2) وسائل الشيعة 3: 282 أبواب الدفن باب 88، ح 8.

(3) بحار الأنوار: 45: 116.

٣١٨

الحُزن والأسى.

الوجهُ الخامس: أنّ التمادي في الشعائر الحسينيّة، وفي البكاء يسبِّب طغيان حالة الانفعال والعاطفة على حالة التعقّل والتدبّر والتريّث والاقتباس من المُعطيات السامية لنهضته (عليه الصلاة والسلام)، والحالة العاطفيّة ليست حالة عقلائيّة، بل هي حالة هيجان واضطراب نفسي، وهذا خلاف ما هو الغاية والغرض من الشعائر الحسينيّة، حيث إنّ الغاية والغرض والهدف منها هو: الاتّعاظ والاعتبار من المواقف النبيلة في نهضته (عليه السلام)، والاقتباس من أنوار سيرته، وليس حصول حالة هيجان عاطفي وحماسي فقط من دون تدبّر ورَويّة.

فإذاً، سوف تطغى الحالة العاطفيّة على الحالة العقلائيّة، والحال أنّ المطلوب من الشعائر: هو التذكير بالمعاني الدينيّة والمبادئ الدينيّة، وأخذ العِبر والعِظات التي ضحّى سيّد الشهداء (عليه السلام) من أجلها، وحالة البكاء والهيجان خلاف ذلك، فبدلَ استلهام الدروس والعِبر تُستبدل بحالة عاطفيّة!

وربّما ترجع هذه الإشكالات بعضها إلى البعض الآخر، وإن اختلفت عناوينها.

وبعبارةٍ أخرى: أنّ التمادي في البكاء يُسبّب طغيان حالة الانفعال والعاطفة على حالة التعقّل والتدبّر، فالبكاء ليس فيه تفاعل إيجابي مع أغراض وغايات الشعائر الحسينيّة، وإنّه نوع من إخلاء الشعائر الحسينيّة عن محتواها وتفريغها عن مضمونها.

فالبكاء: صِرف تأثّر عاطفي من دون إدراك مضامين النهضة الحسينيّة، أو من دون إدراك أغراض وغايات وأهداف النهضة الحسينيّة.

٣١٩

الحبّ، وهل التولّي إلاّ الحبّ؟ وهل هناك مصداق للحبّ أوضح وأصدق من البكاء على مصابهم؟ والحُزن لحزنهم؟ والنفرة من أعدائهم؟ وبعبارةٍ أخرى: لو لم يكن للبكاء إلاّ هذا القدر من الفائدة لكفى، فهو نوع من المحافظة على جذور وأسس رُكني العقيدة المقدّسة الشريفة، ألا وهما التولّي لأولياء الله سبحانه والتبرّي من أعدائه وأعدائهم.

نعم، لابدّ فيه من إعطاء حقّ جانب الإدراك، مثل: لابُدّية إعطاء جانب العاطفة حقّها، دون أن يطغى أحد الجانبين على الآخر، كما يظهر من الروايات أنّ هناك دعوة إلى البكاء، كذلك هناك ورايات للتدبّر والتأسي بأفعالهم (عليهم السلام) والاقتداء بسيرتهم:(... ألا وإنّ لكلّ مأمومٍ إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه...) (1) ، هذا ضمن مضامين متواترة من الآيات والروايات، التي لا يتمّ الاقتداء والتأسّي إلاّ بعد استخلاص العِبر وتحليلها والتدبّر بها.

ومع ذلك، فإنّ البكاء بأيّ درجة كان وبأيّ شكل حصل - سواء في نثر، أو شعر، أو خطابة - لا يمكن فرضه إلاّ مع فرض تقارنه مع معلومة معيّنة ينطوي ضمنها، فهو يمتزج بنحو الإجمال مع تلك الحقائق الإدراكيّة، ولا يمكن فرض البكاء من دون حصول العِظة والعِبرة ولو بنحو الإجمال؛ لأنّنا نفرض أنّ الحالة العاطفيّة هي دوماً معلولة لجانب إدراكي.

الوجهُ السادس: البكاء في الواقع يُستخدم كسلاح ضدّ النفس، والحال أنّ ما يمتلكه الإنسان من طاقة مملوءة ومخزونة يجب أن يوجّهها ضدّ العدو، أو يوظّفها في الإثارة نحو السلوك العملي والبرنامج التطبيقي، بينما هذه الشحنة التي امتلأ

____________________

(1) شرح نهج البلاغة 16: 205.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341