أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان0%

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 595

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: الاجتهاد
تصنيف: الصفحات: 595
المشاهدات: 150017
تحميل: 11574

توضيحات:

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 595 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 150017 / تحميل: 11574
الحجم الحجم الحجم
أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

أشهد أن عليا ولي الله في الأذان

مؤلف:
الناشر: الاجتهاد
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

 يرد ذلك في الأخبار المعتبرة فيما نعلم... إلى آخر كلامهرحمه‌الله (١) .

نعم، وردت الأخبار في تفويض الأحكام إلى النبيّ والأئمّة. ولهذا مبحث مفصل مذكورٌ في مظانّه.

إنّ فكرة الغلوّ لم تكن وليدة العصور المتأخّرة، بل هي قديمة بقدم تاريخ الإنسان.

فالناس لما أُرسل إليهم الرُّسل كانوا يتصوّرون لزوم كونهم ملائكة وأنّهم ليسوا من أصناف البشر، والله سبحانه يؤكّد في كتابه مراراً بأنّ المرسلين هم أُناس يأكلون و يمشون في الأسواق، وهم بشر كغيرهم من الناس وليس لهم الخلد، فقال سبحانه:( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً ) (٢) .

وقال تعالى:( وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ) (٣) .

وقوله تعالى: ( ما المَسِيحُ ابنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولُ اللهِ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ) (٤) .

وقوله تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ) (٥) .

وقول نبي الله أَيَّوب كما حكاه القرآن:( وأَيُّوب إِذْ نَادَى رَبَّهُ إِنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (٦) .

وقوله تعالى:( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ

____________________

(١) بحار الأنوار ٢٥: ٣٤٧.

(٢) الإسراء: ٩٤ - ٩٥.

(٣) الأنعام: ٩.

(٤) المائدة: ٧٥.

(٥) الفرقان: ٢٠.

(٦) الأنبياء: ٨٣.

٤١

الْمَوْتِ ) (١) .

وقوله تعالى مخبراً عن رسول الله: ( أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ ) (٢) ، إلى غيرها من الآيات.

بلى، إنّ اليهود والنصارى فرَّطوا وأفرطوا في هذه الروح الإنسانية، حيث فَرّط اليهود في عيسى حتّى قذفوا مريم، وأفرطوا فقالوا: عزير بن الله(٣) ، والنصارى غلوا في عيسى حتى جعلوه ربّاً(٤) .

وعليه فالناس كانوا على ثلاث طوائف:

١ - طائفة تستبعد أن يكون للإنسان (= النبي) القدرة على الارتباط بعالم الغيب، كما جاء على لسان قوم شعيبعليه‌السلام حيث قالوا له:( وَمَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ) (٥) .

٢ - طائفة كانت تُأَلِّه الأَنبياء، إذ قال سبحانه:( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) (٦) ، وقال تعالى:( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَة وَمَا مِن إِلهِ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَلَئِن لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لََيمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (٧) .

٣ - طائفة ثالثة وهم المؤمنون الذين انتهجوا منهج الأنبياء القائلين: (  قل إنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ إِنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيُموا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ

____________________

(١) الأنبياء: ٣٤، ٣٥.

(٢) آل عمران: ١٤٤.

(٣) قال سبحانه في سورة التوبة: ٣٠( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ) .

(٤) قال سبحانه في سورة المائدة( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْ يَمَ ) . وقال سبحانه في سورة النساء: ١٧٢( لن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) .

(٥) الشعراء: ١٨٦.

(٦) المائدة: ١٧، ٧٢.

(٧) المائدة: ٧٣.

٤٢

لِلْمُشْرِكينَ ) (١) ، وقوله تعالى:( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبِ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِن أَتَّبِعُ إلاّ ما يُوحَى إليَّ ) (٢) .

والإمامُ عليُّ أوضح حال المجتمع الإسلامي في عهده ثمّ من بعده، وأنّه لا يخرج عن هذه الاتّجاهات الثلاثة:

١ - من يقصّر في دين الله.

٢ - من يغالي في دين الله.

٣ - من ينتهج المنهج الصحيح و يتّخذ الطريقة الوسطى.

فقالعليه‌السلام : دين الله بين المقصّر والغالي، فعليكم بالنمرقة الوسطى، فبها يلحق المقصّر، و يرجع إليها الغالي(٣) .

وفي نص آخر عنهعليه‌السلام : عليكم بالنمرقة الوسطى، فإليها يرجع الغالي، وبها يلحق التالي(٤) .

وأَوْف ولا تَسْتَوفِ حَقَّكَ كُلَّهُ

وصافِحْ فَلَم يَسْتَوفِ قَطُّ كَرِيمُ

ولا تَغْلُ في شيء من الأَمرِ واقْتَصِدْ

كِلا طَرَفي قَصْدِ الأُمُورِ ذَمِيمُ(٥)

وعن الإمام السجادعليه‌السلام : وذهب آخرون إلى التّقصير في أمرنا واحتجّوا بمتشابه القرآن، فتأوّلوه بآرائهم واتّهموا مأثور الخبر ممّا استحسنوا(٦) .

ومما لا شكّ فيه هو أنّ التقصير كان عنواناً للعامّة في الأعمّ الأغلب، ثم أُطلِقَ

____________________

(١) الكهف: ١١٠.

(٢) الأنعام: ٥٠.

(٣) انظر الغدير ٧: ٧٠ عن ربيع الأبرار للزمخشري، باب الدين وما يتعلق به من ذكر الصلاة والصوم والحج...

(٤) جمهرة الأمثال للعسكري ١: ٢٠ والصفحة ٤١٩، المثل رقم ٧٠٠، دار الفكر، ط ٢.

(٥) عن تفسير القرطبي ٦: ٢١، والشعر للخطابي ذكره في كتابه العزلة: ٩٩. باختلاف إذ قال:

تسامح ولا تستوف حقك كُلَّهُ

وابْقَ فلم يستوفِ قطُّ كريم

 (٦) كشف الغمة ٢: ٣١١. وعنه في بحار الأنوار ٢٧: ١٩٣ / ح ٥٢.

٤٣

 

 على بعض الخاصّة بدعوى أنّهم لا يدركون مقامات الأئمّة.

والغلوّ هو فيمن يرفع النبي والإمام عن مستواهما الإنساني ويدّعي الربوبية والخلق والرزق لهما.

والطريقة الوسطى هي اتّباع منهج التشيّع المحمدي العلويّ الأصيل.

والباحث في كتب الرجال يقف على أسماء عدد غير قليل ممن عاصروا الأئمة وصفوا بالغلوّ والتفويض، فقد ذكر الشيخ الطوسي في رجاله أسماء بعض معاصري الأئمّة الموصوفين بالغلوّ.

فذكررحمه‌الله في أصحاب السجادعليه‌السلام : فرات بن الأحنف العبدي، يرمى بالغلوّ والتفريط في القول(١) .

وفي أصحاب الكاظمعليه‌السلام : ذكر محمد بن سليمان البصري الديلمي، قائلاً: له كتاب، يرمى بالغلوّ(٢) .

وفي أصحاب الرضاعليه‌السلام ذكر: طاهر بن حاتم، وعمر بن فرات، ومحمد بن جمهور العميّ، ومحمد بن الفضيل الأزدي الصيرفي، ومحمد بن صدقة، ورماهم بالغلوّ(٣) .

وفي أصحاب الجوادعليه‌السلام : ذكر الحسن بن علي بن أبي عثمان السجادة مع وصفه له بالغلوّ له، كما ذكره في أصحاب الإمام الهاديعليه‌السلام بنفس الوصف(٤) .

كما ذكر في أصحاب الإمام الهاديعليه‌السلام : أحمد بن هلال العبرتائي، و إسحاق

____________________

(١) رجال الشيخ: ١١٩ / ت ١٢٠٦، وقال الغضائري: غال كذاب، يروي عن الإمام السجاد والباقر والصادقعليهم‌السلام ، رجال بن داود: ٢٦٦ / ت ٢٩٠.

(٢) رجال الشيخ: ٣٤٣ / ت ٥١٠٩.

(٣) راجع رجال الشيخ: ٣٥٩ / ت ٥٣١٤ الطاهر بن حاتم، والصفحة ٣٦٢ / ٥٣٦٣ لعمر بن فرات، والصفحة ٣٦٤ / ت ٥٤٠٤ لمحمد بن جمهور القمي، والصفحة ٣٦٥ / ت ٥٤٢٣ لمحمد بن فضيل الأزدي، والصفحة ٣٦٦ / ت ٥٤٤٨ لمحمد بن صدقة.

(٤) رجال الشيخ: ٣٧٥ / ت ٥٥٤٨، والصفحة ٣٨٥ / ت ٥٦٧٥.

٤٤

بن محمد البصري، والحسين بن عبيد الله القمي، والحسن بن بابا القمي، وعلي بن يحيى الدّهان، وفارس بن حاتم القزويني، وعروة بن يحيى الدهقان، والقاسم الشعراني اليقطيني، ومحمد بن عبد الله بن مهران الكرخي، وأبا عبد الله المغازي(١) .

وممن عدّهم الشيخ من الغلاة في أصحاب العسكريعليه‌السلام : محمد بن موسى السريعي(٢) ، ومحمد بن الحسن بن شمون، وغيرهما(٣) .

فهنا نتساءل: كيف يمكن تصوّر هكذا حالة في أصحاب الأئمّة ومعاصريهم(٤) ، أو بين الفقهاء والمحدّثين ممن لهم علاقة بهمعليهم‌السلام ، مع وقوف الكلّ على منهج الأئمّة وذمّهم للغلاة والمفوّضة(٥) .

وهل أنّ هذه التهم المتراشقة بين الأطراف هي عناوين حقيقية وواقعية، أم أنّها تصوّرات واحتمالات أُطلقت من هذا الطرف ضدّ ذاك حرصاً على المذهب وتحاشياً من دخول الأجنبيّ؟

الحقيقة هي أنّا رأينا حين البحث أنّ بعض تلك العناوين واقعية، كما هي في أبي الخطاب وبنان بن سمعان وآخرين، وأُخرى لم تكن كذلك، لرجوع القائلين بها عن قولهم أو لأنّ التحقيق العلمي أثبت خلاف المنسوب إليهم، كما في أحمد بن محمد بن خالد البرقي وأمثاله.

وعليه فالغلوّ هو عنوان مشكَّكٌ يطلق تارة على مدّعي الربوبية لأشخاص

____________________

(١) رجال الشيخ: ٣٨٤ - ٣٩٣.

(٢) وفي بعض النسخ: (الشريعي).

(٣) رجال الشيخ: ٤٠٢ / ت ٥٩٠١، لمحمد بن موسى السريعي، و ٥٩٠٣، لمحمد بن الحسن بن شمون.

(٤) سنتعرض بعد قليل في: (منهج القميين والبغداديين) من صفحة ١٠٥ - ١٤٨ نماذج من هذا فانتظر.

(٥) انظر مثلاً مقباس الهداية للمامقاني ٢: ٤٠٣ - ٤١٦.

٤٥

بالخصوص حقيقةً، وقد تكون تهمةً، إذ إنّ الأمر ليس كذلك؛ لأنّ الله قد منح لبعض من اصطفاهم من عباده أشياءً خاصة من قبيل إحياء الموتى بإذن الله و إبراء الأكمه بإذنه، ومن هنا بَدَأَ الصراع بين الاتجاهات الثلاثة عقائدياً:

فمنهم من يرى كذبها؛ لعدم تحمّل عقولهم لها.

ومنهم من يرى أنّهم آلهة أو مفوَّضين من قبل الله سبحانه وتعالى حقّاً، وكثير من هؤلاء التبس عليهم الأمر أوّلاً ثمّ رجعوا عما كان يقولون به لمّا اتّضح لهم وجه الأمر.

ومنهم من لا يرى سوى أنّهم عبيدٌ اصطفاهم الله سبحانه وتعالى لطهارة أصلهم، يقدرون على ما لا يقدر عليه عامة البشر، بإذن الله لا غير، ولو شاء الله لسلبهم هذه القدرة بطرفة عين..

قال الشيخ المفيد: إنّ الأئمّة من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله قد كانوا يعرفون ضمائر بعض العباد و يعرفون ما يكون قبل كونه، وليس ذلك بواجب في صفاتهم ولا شرطاً في إمامتهم، و إنّما أكرمهم الله تعالى به وأعلمهم إيّاه للّطف في طاعتهم والتّمسّك بإمامتهم، وليس ذلك بواجب عقلاً، ولكنّه وجب لهم من جهة السّماع. فأمّا إطلاق القول عليهم بأنّهم يعلمون الغيب فهو مُنْكَرٌ بيّنُ الفساد؛ لأنّ الوصف بذلك إنّما يستحقّه من عَلِمَ الأشياء بنفسه لا بعلم مستفاد، وهذا لا يكون إلاّ الله عزّ وجلّ، وعلى قولي هذا جماعة أهل الإمامة إلاّ من شذّ عنهم من المفوّضة ومن انتمى إليهم من الغلاة(١) .

وعليه فإنّ الاختلاف الملحوظ بين العلماء يرجع إلى فهمهم لطائفة من الروايات يتمسّك بها كلّ واحد في ما يريد الوصول إليه وما يعتقد أنه المراد الصحيح من تلك الروايات(٢) ، وليس رميُ بعض لبعض للعداوة أو للجُزاف كما

____________________

(١) أوائل المقالات: ٦٧ المطبوع ضمن مجموعة الشيخ المفيد ج ٤.

(٢) انظر على سبيل المثال ما جاء في علم الإمام في الكافي ١: ٢٣٩، ٢٥٥، ٢٢٣، ٢٢٨، ٢٢١، ٢٤٠، ٢٤١، ٢٥٦، ٢٥٨، ٢٥٣، ٢٧٤، ٢٩٤، ٢٩٧.

٤٦

قد يتصوّره البعض، على أنّنا في الوقت نفسه لا ننكر تسرّع البعض في إطلاق الأحكام على الآخرين قبل التروّي والتّأنيّ.

وبذلك يكون سلاح التفويض والتقصير ذا حَدَّين يستخدم من كلّ جانب للإطاحة بالآخر، وكلا الطرفين يستخدمه حرصاً على الإسلام ومتبنّياته العقائدية. فنحن لو تناسينا الاتّجاهين المقصِّر والغالي الواقعيَّين، فإنّ النَّمرقة الوسطى (الاتّجاه الثالث) كان خائفاً من دخول أفكار هذين الاتّجاهين ضمن كلام محدّثيهم ورواتهم.

فالبغداديون المتَّهمون بالغلوّ ليسوا بغلاة ولا مقصِّرة، كما أنّ الشيعة القميّين ليسوا كذلك أيضاً؛ لكن مع ذلك نرى صراعاً بين المدرستين البغدادية والقمّيّة، واتّهامَ كُلِّ واحد منهما للآخر بالتفويض والتقصير، مع اعتقادهما سويّةً بأنّ الأئمّة (سلام الله عليهم) بشرٌ معصومون لا قدرة لهم على شيء إلاّ ما أعطاهم الله على نحو الاصطفاء والاجتباء، على منوال المسيح عيسى بن مريم (سلام الله عليه) الذي كان يحيي الموتى و يُبرئُ الأكمَه بإذنه تعالى. ولا يمكن احتمال شيء في هذا الصراع سوى الخوف على المذهب من قِبَل كِلا المدرستين.

فالمدرسة القميّة تشدّدت في بعض الأفكار، وعلى بعض الرواة، خوفَ الوقوع في مهلكة التفويض والغلوّ، والمدرسة البغدادية أرادت تحرير العقيدة من ذاك التشديد، خوفَ الوقوع في زنزانة التقصير والتفريط بمقامات الأئمّة (سلام الله عليهم).

ولو تأمّلت في روايات وأقوال الطرفين لصدّقتنا في مدّعانا، لأنّك قد ترى ما يستشم منه الغلوّ في مرويّات القميين المتهجّمين على الغلاة لأنّ الأصول المعرفية التي رواها القميون فيها الكثير من المعارف التي لا يتحمّلها بعض البشر، فمثلاً روى ابن قولويه والكليني وغيرهما في إحدى زيارات الإمام الحسينعليه‌السلام ، ما قد يتخيّل منه الغلوّ كقوله: (إرادة الربّ في مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من

٤٧

بيوتكم )(١) .

ونحوها الزيارة الجامعة الكبيرة التي فيها جميع مقامات الأئمّة وصفاتهم وكمالاتهم والتي لم يروها إلاّ القميّون، والشيخ الطوسي رواها عن الصدوقرحمهما‌الله (٢) ، والصدوق رواها معتقِداً بصحّة جميع فصولها، لأنّه كان قد قال في أوّلالفقيه : (لم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أُفتي به وأحكم بصحّته، وأعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربي).

فعدم رواية الصدوق(٣) المقطع السابق في زيارة الإمام الحسين وبشهادة كثرة رواياته في مقامات الأئمّة العظيمة لا يعني أنّه كان من المقصّرة والآخرون من الغلاة، بل يروي أو لا يروي لصحة تلك الروايات عنده أو ضعفها.

إذن، ماذا تعني روايتهم لهذا المقطع مع ما عرف عنهم من وقوفهم أمام الغلاة والمفوِّضة؟ وعلى أيّ شيء يدل ذلك؟ وكذا الحال بالنسبة إلى المتّهمين بالتفويض، فتراهم يروون أحاديث قد تكون ذريعةً لرميهم بالتقصير كذلك.

إنّ تشدّد القُميّين لا يعني اتّهام جميع البغداديين بالغلوّ والتفويض، وكذا الحال بالنسبة إلى القميين حيث لا يعني أنّهم كانوا مقصّرين حقاً، بل إنّ مواقفهم نبعت من حرصهم العميق على العقيدة. وقد أَخرج أحمدُ بن محمد بن عيسى الأشعري بالفعل، البرقيَّ وسهلَ بن زياد الآدميَّ وغيرهما من قم، وهو يشير إلى وجود عقائد يمكن للمتشدّد تصنيفها ضمن الغلوّ في قم، و إن لم تكن كذلك في واقع الحال، وكذا الحال بالنسبة إلى بغداد، فقد يكون فيها عقائد يمكن تصنيفها

____________________

(١) انظر كامل الزيارات لابن قولويه: ٣٦٦ / الباب ٧٩ / ح ٦١٨، والكافي ٤: ٥٧٧ / ح ١، من باب زيارة قبر أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، وعنه في التهذيب ٦: ٥٥/ ح ١٣١.

(٢) تهذيب الأحكام ٦: ٩٥/ الباب ٤٦/ ح ١٧٧، وانظر رواية الصدوق في من لا يحضره الفقه ٢: ٦٠٩/ ح ٢١٣.

(٣) الفقيه ٢: ٢٩٦.

٤٨

في إطار التقصير، مع أنّها ليست كذلك في واقع الأمر، وهذا ما سنوضّحه بعد قليل تحت العنوان الثاني من بحوثنا التمهيدية:(منهج البغداديين والقُمِّيين في الرجال والعقائد).

وهو يؤكد لنا أنّ علماء الشيعة الإمامية سواء كانوا في قمّ أو بغداد أو الريّ أو خراسان أو غيرها قد حافظوا على تراث أهل البيت وجَدُّوا في إيصاله إلى الأجيال اللاّحقة مع كامل الحيطة والحذر من إدراج الدخيل والمزوّر ضمن الأحاديث، وتمحيصها من الزائف واللصيق، كي تكون رواياتنا بعيدة عن الغلوّ والتقصير.

هل الغلو من عقائد الشيعة أم...

وبعد كلّ هذا نرجع إلى موضوع الشهادة الثالثة، لكي نرى هل أنّه يرتبط بهذا النحو من التفكير، أم ذاك؟ وذلك بعد بيان جملة من المسائل حول الغلو والتفويض.

فمن الثابت المعلوم أنّ الإمام علياًعليه‌السلام رجل اتّفق عليه الجميع، فالعامّة لا تشكّ في لياقته للإمامة وكونه من الخلفاء الراشدين، والشيعة الإمامية تعتبره وصيّ رسول ربّ العالمين وخليفته بلا فصل. فقد ولد الإمام علي في الكعبة(١) ، واستشهد في محراب العبادة(٢) ، وهو المطهر الذي سكن مسجد رسول الله(٣) ، وهو الصدّيق الذي آمن بالله وآدم بين الروح والجسد(٤) ، وهو الذي لم يسجد

____________________

(١) مستدرك الحاكم ٣: ٥٥٠ / ح ٦٠٤٤، مروج الذهب ٢: ٣٤٩، السيرة الحلبية ٣: ٤٩٨، خصائص الأئمة: ٣٩، نهج الإيمان: ٦٦٠ / الفصل ٤٧.

(٢) طبقات ابن سعد ٣:٣٣، مشاهير علماء الأمصار:٦، المعجم الكبير ١:٩٧ / ح ١٦٨.

(٣) مسند أحمد ١: ١٧٥ / ح ١٥١١، تاريخ دمشق ٤٢: ٢٣٨ / ١٦٥، القول المسدد: ١٨، ذخائر العقبى: ٧٦، مناقب بن شهرآشوب ٢: ٣٧، العمدة: ١٨٠.

(٤) الأمالي للمفيد: ٦ / المجلس الأول / ح ٣، الأمالي للطوسي: ٦٢٦ / ح ١٢٩٢، بحار

٤٩

لصنم قط(١) ، وهو أولّ القوم إسلاماً(٢) ، وأسبقهم إيماناً(٣) ، لم يسبقه إلى الصلاة إلاّ رسول الله(٤) ، وهو أخو الرسول(٥) بل نفسه(٦) ، وزوج البتول(٧) ، وأبو السبطين الحسن والحسين، وهو الذي بذل مهجته في نصرة دين الله وحماية رسول رب العالمين(٨) ، ونام على فراشهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٩) واقياً له بنفسه، وكان صاحب

____________________

الأنوار ٣٩: ٢٤٠، وانظر نهج البلاغة ١: ٨١ الخطبة ٣٧، و ١: ١١٩ الخطبة ٧١.

(١) تاريخ إربل ١: ١٠١، إيضاح الفوائد ١: ٦، بحار الأنوار ٤٢: ٢٨٣، فتح المغيث ٢:١٨٤.

(٢) مسند أحمد ١: ٣٠٠ / ح ٣٠٦٢، ٤: ٣٦٨ / ح ١٩٣٠٠، مسند البزار ٩: ٣٢٢ / ح ٣٨٧٢، الأوائل للطبراني: ٧٨ / باب أول من أسلم علي بن أبي طالب / ح ٥١ و ٥٣، الأوائل لابن أبي عاصم: ٧٩ / ح ٧٠ و ٧٤ و ١٠٧، طبقات ابن سعد ٣: ٢١.

(٣) المعجم الكبير ١: ٩٥ / ح ١٦٣، ٦: ٢٦٩ / ح ٦١٨٤، مسند البزار ٩: ٣٤٢ / ح ٣٨٩٨، مجمع الزوائد ٩: ١٠٢، عن الطبراني ورجاله رجال الصحيح، الاستيعاب ٣: ١٠٩١، ١٠٩٥، ٤: ١٨٢٠.

(٤) نهج البلاغة ٢: ١٣ / الخطبة ١٣١، الطبقات الكبرى ٣: ٢١، مسند أحمد ٤: ٣٦٨، سنن الترمذي ٥: ٣٠٥، المستدرك على الصحيحين ٣: ٥٠٠، قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، مجمع الزوائد ٩: ١٠٣، قال: رجاله رجال الصحيح عدا حبة العرني وقد وثّقَاه، مصنف بن أبي شيبة ٨: ٤٣، سنن ابن ماجه ١: ٤٤ / ح ١٢٠.

(٥) سنن الترمذي ٥: ٦٣٦ / ح ٣٧٢٠، مسند أبي يعلي ١: ٤٣٧ / ح ٤٤٥، ١: ٤٠١ / ح ٥٢٨، ٤: ٢٦٦ / ح ٢٣٧٩، مسند أحمد ١: ٢٣٠ / ح ٢٠٤٠، معجم الشيوخ ١٤٤ / ح ٩٧، المستدرك على الصحيحين ٣: ١٥ / ح ٤٢٨٨، المعجم الكبير ١٢: ٤٢٠ / ح ١٣٥٤٩ الإصابة ٤: ٥٦٥، تاريخ بغداد ٧: ٣٨٧.

(٦) تفسير السمعاني ١: ٣٢٧، تفسير ابن كثير ١: ٣٧٢، تفسير البغوي ١: ٣١٠، المستدرك على الصحيحين ٣: ١٦٣ / ح ٤٧١٩، قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

(٧) سنن أبي داود ٢: ٢٤٠، سنن النسائي ٦: ١٢٩، ١٣٠، مسند أحمد ١: ٨٠، مسند البزار ٢: ١١٠، تاريخ دمشق ٤٢: ١٢٤، البداية والنّهاية ٧: ٣٤٢.

(٨) اُنظر كلام أمير المؤمنينعليه‌السلام في نهج البلاغة ١: ١٠٥، الخطبة ٥٦، و ١: ٢٠٠، الخطبة ١٠٤ وما ذكره ابن أعثم في كتاب صفين: ٣١٥، ٥٢٠، انظر تاريخ الطبري ٢: ٦٥، الأغاني ١٥: ١٨٧.

(٩) تفسير الطبري ٩: ٢٢٨، الدر المنثور ٤: ٥١، ٥٣، المصنف عبد الرزاق ٥: ٣٨٩، المعجم

٥٠

رايته في الحروب(١) وصاحب عَلَمِهِ(٢) ، وأحبّ الخلق إليه(٣) ، وأمينه(٤) ، ووزيره(٥) ، ووصيه(٦) ، والمؤدّي عنه دينه(٧) ، والمؤمن الذي لم ينقلب على عقبيه(٨) ، والمنتظِر الذي لم يبدّل تبديلاً(٩) .

____________________

الكبير ١١: ٤٠٧.

(١) انظر تاريخ الطبري ٢: ٢٠، و ٢: ٥٠، و ٢: ١١٣، تاريخ خليفة: ٦٧.

(٢) انظر المعجم الكبير ١١: ٦٥ / ح ١١٠٦١، المستدرك على الصحيحين ٣: ١٣٧، ١٣٨، التفسير الكبير ٣: ١٣٧، ١٣٨، ٨: ٢٠، شرح المقاصد ٢: ٣٠٠، ينابيع المودة ١: ١٣٧، ٢٠٥٢، ٢٢٠، ٢٢٢، وغيره.

(٣) انظر سنن الترمذي ٥: ٦٣٦ / ح ٣٧٢١، المعجم الكبير ١: ٢٥٣ / ح ٧٣٠، و ٧: ٨٢ / ح ٦٤٣٧، و ١٠: ٢٨٢ / ح ١٠٦٦٧، سنن النسائي الكبرى ٥: ١٠٧ / ح ٨٣٩٨، المستدرك على الصحيحين ٣: ١٤١ / ح ٤٦٥٠، و ٣: ١٤٢ / ح ٤٦٥١، علل الشرائع ١: ٦١، الفصول المختارة: ٩٦، كنز الفوائد: ٢٢٨، الأمالي للطوسي: ٢٥٣، و ٣٣٣، و ٥٥٨، الاحتجاج للطبرسي ١: ١٧٣، و ١٧٤ و ١٩٠.

(٤) مسند البزار ٣: ١٠٥ / ح ٨٩١، السنة لابن أبي عاصم ٢: ٥٩٩ / ح ١٣٣٠، المطالب العالية ٨: ٣٨٤ / ح ١٦٨٥، مجمع الزوائد ٩: ١٥٦، خصائص علي للنسائي ١: ٩٠ / ح ٧٣.

(٥) السنن الكبرى للنسائي ٥: ١٢٦ / ح ٨٤٥١، المعجم الكبير ١٢: ٣٢١، الذيل على جزء بقي بن مخلد: ١٢٦، عيون أخبار الرضا ١: ١٦ / ح ٣٠، وسائل الشيعة ٢٧: ١٨٦ / ح ٣٣٥٦٠، شرح الأخبار ١: ١٢١ / ح ٤٨.

(٦) بصائر الدرجات: ١٨٦ / ح ١٩، علل الشرائع ١: ١٧٠ / ح ١، ٢، كنز الفوائد: ١٨٥، أمالي الطوسي: ٥٨ / ح ٨٣، المعجم الكبير ٣: ٥٧ / ح ٢٦٧٥، شرح النهج ١٣: ٢١١، تاريخ الطبري ٢: ٦٣، جواهر المطالب ١: ٨٠.

(٧) عيون أخبار الرضا ١: ١٣/ح ٢٣، الخصال: ٤١٥/ح ٥، أمالي الصدوق: ٢٥٠ / ح ٢٧٥، كفاية الأثر: ١٢١، كتاب السنة لابن أبي عاصم:٥٥١ / ح ١١٨٩، السنن الكبرى للنسائي ٥: ١٠٧ / ح ٨٣٩٧، ٥: ١٣٤ / ح ٨٤٧٩، وخصائصه: ١٠١، تاريخ دمشق ٤٢: ٤٩.

(٨) المعجم الكبير ١: ١٠٧ / ح ١٧٦، مجمع الزوائد ٩: ١٣٤، سنن النسائي الكبرى ٥: ١٢٥ / ح ٨٤٥٠، المستدرك على الصحيحين ٣: ١٣٦ / ح ٤٦٣٥، مناقب الكوفي ١: ٣٣٩ / ح ٢٦٥، العمدة: ٤٤٤ / ح ٩٢٧.

(٩) الخصال: ٣٧٦، الاختصاص: ١٧٤، بحار الأنوار ٣١: ٣٤٩، و ٣٥: ٤٥٠، و ٣٨: ١٧٨، و ٦٤: ١٩٠، ينابيع المودة ١: ٢٨٥.

٥١

إن شخصاً كعلي بن أبي طالب اختصّه الله بأُمور لا تكون عند الآخرين لحريٌ أن يقع محطاً للإفراط والتفريط، حتّى قال هو عن نفسه: يهلك فيّ اثنان ولا ذنب لي: محبّ مفرط ومبغض مفرّط، و إنّا لنبرأ إلى الله عزّوجلّ ممن يغلو فينا، فيرفعنا فوق حدّنا، كبراءة عيسى ابن مريم من النصارى، قال تعالى:( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (١) .

بلى، قد وصل الأمر بالبعض أن يرفع علياًعليه‌السلام إلى حدّ الربوبية، وبالبعض الآخر أن ينكر فضائله التي هي أظهر من الشمس وضوحاً عند الجميع بغضاً وعناداً(٢) .

ولا يمكن تصوّر وجود حالة (مبغض مفرّط) بين الأصحاب من الشيعة؛ نعم، رُبَّ غلوّ وتفويض قد سرى عند البعض منهم نتيجة لظروف مُعَيَّنة وملابسات خاصَّة، واللافتُ هنا هو أنَّ المخالفين يعمّمون هذا الطعن إلى جميع الشيعة، مع أنّا لو تحرَّينا الأَمرَ بدقَّة وتجرُّد لرأينا فقهاءنا قاطبة يقولون بنجاسة الغلاة(٣) ،

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ١: ٢١٧ وعنه في بحار الأنوار ٢٥: ١٣٥ / ح ٦، وانظر نهج البلاغة ٢: ٨ / الخطبة ١٢٧، الغارات ٢: ٥٨٩، شرح الأخبار ٢: ٤٠٥ / ح ٧٤٨. والآيات من سورة المائدة آية ١١٦ - ١١٧.

(٢) انظر قول الشافعي في حلية الأبرار ٢: ١٣٦، إذ قيل له: ما تقول في علي؟ فقال: وماذا أقول في رجل أخفت أولياؤه فضائله خوفاً، وأخفت أعداؤه فضائله حسداً، وشاع من بين ذين ما ملأ الخافقين !!

(٣) منتهى المطلب ١: ١٤٨ / البحث الرابع من المقصد الأول من كتاب الطهارة، تذكرة الفقهاء

٥٢

وعدم جواز التزاوج معهم(١) ، وعدم حلّية ذبائحهم(٢) ، وعدم جواز تغسيلهم(٣) والصلاة عليهم(٤) ، وعدم جواز توريثهم(٥) . وقال العلاّمة الحلي بخروجهم عن الإسلام وإن أقرّوا بالشهادتين(٦) .

والعجيب أنّ الآخرين يتهموننا بالغلو في حين لا ندري ما رأيهم بقول عمر بن الخطّاب المعصوم عند ابن العربي(٧) بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنَّ رجالاً من المنافقين يزعمون أنَّ رسول الله توفّي. وإنَّ رسول الله ما مات ! ولكنّه ذهب إلى ربِّه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثمَّ رجع بعد أن قيل: مات. والله، ليرجعنَّ رسول الله فليقطعنَّ أيدي رجال وأرجلهم، يزعمون أنَّ رسول الله مات)(٨) ؟

وفي آخر: (من قال: إنّه مات، علوت رأسه بسيفي، و إنّما ارتفع إلى

____________________

١: ٦٨، شرائع الإسلام ١: ١٢، ١٣، والرسائل التسع: ٢٧٧، الذكرى للشهيد الأول ١: ١٠٩، العارض الثامن من الفصل الأول من باب الطهارة، الرسائل العشر لابن فهد الحلي: ١٤٦ في النجاسات وأحكامها، جامع المقاصد ١: ١٦٠، مسالك الإفهام ١: ٢٣.

(١) كشف اللثام ٢: ١٩.

(٢) قواعد الأحكام، العلاّمة الحلي ٣: ٣١٨.

(٣) قواعد الأحكام ١: ٢٢٣، شرائع الإسلام ١: ٣٠.

(٤) تذكرة الفقهاء ٢: ٢٥.

(٥) قواعد الأحكام ٣: ٣٤٤، تحرير الأحكام ٢: ١٧١.

(٦) منتهى المطلب ١: ١٥٢.

(٧) الفتوحات المكّية ١: ٢٠٠. الباب الثلاثون (في معرفة الطبقة الأولى والثانية من الأقطاب)... إلخ.

(٨) تاريخ الطبريّ ٢: ٢٣٢، سيرة ابن هشام ٦: ٧٥، الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله ٢: ٤٣٣، السيرة الحلبية ٣: ٤٧٥، وفي صحيح البخاريّ ٣: ١٣٤١ / ح ٣٤٦٧ / الباب الخامس، قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لو كنت متخذاً خليلاً، عن عائشة قالت: فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله، قالت: وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلاّ ذاك وليبعثنّه الله فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم.

٥٣

السماء)(١) .

قال شاعر النيل حافظ إبراهيم:

تَصيحُ مَن قالَ نَفسُ المُصطَفى قُبِضَت

عَلَوتُ هامَتَهُ بِالسَيفِ أَبريها (٢)

وقال إمام الحرمين في كتابه(الشامل) كما في(جامع كرامات الأولياء) للنبهاني: إن الأرض زلزلت في زمن عمررضي‌الله‌عنه فحمد الله وأثنى عليه، والأرض ترجف وترتجّ، ثمّ ضربها بالدرّة وقال: قَرِّي، ألم أعدل عليك؟ فاستقرّت من وقتها.

قال: وكان عمررضي‌الله‌عنه أمير المؤمنين على الحقيقة في الظاهر والباطن، وخليفة الله على أرضه، فهو يعزّر الأرض ويُؤَدِّبُها بما يصدر منها، كما يعزّر ساكنيها على خطأتهم(٣) .

____________________

(١) تاريخ أبي الفداء ١: ٢١٩، الغدير ٧: ٧٤، وانظر تاريخ الطبري ٢: ٢٣٣ وفيه كان عمر يتوعد الناس بالقتل.

(٢) من أبيات القصيدة العمرية لحافظ إبراهيم. انظر ديوانه ١: ٨١.

(٣) جامع كرامات الأولياء: ١٥٦ - ١٥٨، المكتبة الشعبية بيروت، ط ١٩٧٤ م. وفي التفسير الكبير ٢١: ٧٤ - ٧٥ في تفسير قوله تعالى:( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ ) : روى أن نيل مصر كان في الجاهلية يقف في كلّ سنة مرة واحدة، وكان لا يجري حتى يُلقَى فيه جارية واحدة حسناء، فلما جاء الإسلام كتب عمرو بن العاص بهذه الواقعة إلى عمر، فكتب عمر على خرقة: أيّها النيل إن كنت تجري بأمر الله فاجر، وإِن كنت تجري بأمرك فلا حاجة بنا إليك، فألقيت تلك الخرقة في النيل فجرى ولم يقف بعد ذلك.

الثالث: وقعت الزلزلة في المدينة فضرب عمر الدرة على الأرض وقال: اسكني بإذن الله، فسكنت وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك. وقد كان الفخر الرازي قد ذكر قبل ذلك: أن عمر بن الخطاب بعث جيشاً وأمّر عليهم رجلاً يدعى سارية بن الحصين، فبينما عمر يوم الجمعة يخطب جعل يصيح في خطبته وهو على المنبر: يا سارية، الجبلَ، الجبلَ، فوصل الصوت إلى سارية وهو في المعركة، فأسند ظهره بالجبل فهزم الله الكفار ببركة ذلك الصوت. وله حكايات أخرى للصحابة من أحب فليراجعها في تفسيره عند ذيل هذه الآية.

٥٤

هذا هو الغلو، فذاك غلو في النبيّ من عمر، وهذا غلو في عمر من أتباعه، لأنّ الزلازل تحكمها قوانين الطبيعة طبقاً لتدبير الله، ولو كانت الأرض قد تأدّبت بتعزير عمر لما حدث زلزال بعد عمر !

بلى، إنّه غلوّ وتشدّد من عمر حتّى تجاوز حدِّ التنزيل في صريح قوله تعالى: ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) (١) . وقوله: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ... ) (٢) ، وبعد سماع عمر لصريح الآية المباركة، قال: (فلكأنّي لم أقرأها إلاّ يومئذٍ)(٣) !

ونحوه ما حكاه العبيدي المالكي فيعمدة التحقيق ص ١٣٤: عن الشيخ زين العابدين البكري أنّه لمّا قُرِئَتْ عليه قصيدة جدِّه محمّد البكري ومنها:

لئن كان مدح الأوَّلين صحائفاً

فإنَّا لآيات الكتابِ فواتحُ

قال المراد: بأوَّل الكتاب: ( الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ) فالألف أبو بكر، واللام الله، والميم محمّد(٤) .

وفيالسيرة الحلبية: روي أنّ أبا بكررضي‌الله‌عنه لمّا حضرته الوفاة قال لمن حضره إذا أنا مت وفرغتم من جهازي فاحملوني حتى تقفوا بباب البيت الذي فيه قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقفوا بالباب وقولوا: السلام عليك يا رسول الله، هذا أبو بكر يستأذن، فإن أذن لكم بأن فتح الباب وكان الباب مغلقاً بقفل فادخلوني وادفنوني، و إن لم يفتح الباب فاخرجوني إلى البقيع وادفنوني به. فلمّا وقفوا على الباب وقالوا ما ذكر، سقط القفل وانفتح الباب وسمع هاتف من داخل البيت: اَدْخِلُوا الحبيبَ إلى

____________________

(١) الزمر: ٣٠.

(٢) آل عمران: ١٤٤.

(٣) سنن ابن ماجه ١: ٥٢٠ / ح ١٦٢٧، تفسير القرطبي ٤: ٢٢٣، السيرة الحلبية ٣: ٤٧٤.

(٤) الغدير للأميني ٨: ٤٩، ط ٣، دار الكتاب العربي بيروت.

٥٥

 الحبيب، فإنّ الحبيب إلى الحبيب مشتاق(١) .

إنّ ما حكي من موافقات الوحي لعمر، كلّها حطّ لمقام النبوة على حساب رفع مقام عمر، و إنّها أعلى مصاديق الغلوّ في الصحابة، ففي تلك الروايات ترى عمر أكثر غَيرةً على العِرْضِ من النبي(٢) ، وتراه أعرف بحكم الصلاة على المنافق من رسول الله(٣) ، إلى غيرها من الموافقات المغالية الأخرى.

وفي قبال نظرة عمر المغالية في النبي نرى مواقِفَ للأئمّة الأطهارعليهم‌السلام وأصحابهم تخالف مثل هذه التوجّهات التي لا تمتّ إلى روح وجوهر الشريعة بشيء، وقد سجّلت الكتب أمثال هذه المواقف المتعلّقة في أبواب الفقه في مسائل النواصب الغلاة، إضافةً إلى أنّ لأهل البيت روايات أُخرى بَيِّنة للردّ عليهما مذكورة ضمن مسائل الفقه والأحكام الشرعيّة الأُخرى.

والذي يهمّنا الآن هو: أنّا لا نقول إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رُفِعَ إلى السماء، بل نقول جازمين: إنّه مات كما جزم به القرآن الكريم، وقد حكت الرواية الآتية تفاصيل مفردات هذا المعنى بكلِّ بيان ووضوح:

لمَّا هَمَّ عليٌّ بغسل النبيّ سمعنا صوتاً في البيت: إنّ نبيَّكم طاهرٌ مُطَهَّرٌ، فقال عليُّ: غَسّلُوه... والله إنّه أمرني بغسله وكفنه وذلك سُنَّة، قال: ثمّ نادى مناد آخر: يا علي ! استر عورة نبيك ولا تنزع القميص(٤) .

فمن الطبيعي جدّاً أن يغسّل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ التغسيل من الأحكام الشرعية

____________________

(١) السيرة الحلبية ٣: ٤٩٣، التفسير الكبير ٢١: ٧٤ في قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكَهْفِ ) ، والرواية كذلك في تاريخ دمشق ٣٠: ٤٣٦، والخصائص الكبرى ٢: ٤٩٢، وكنز العمال ١٢: ٢٤١، إلاّ أنّها في المصادر الثلاثة الأخيرة روايات منكرة وغريبة.

(٢) تاريخ الخلفاء: ١٢٢، ١١٦، فضائل الصحابة لأحمد: ١١.

(٣) تاريخ الخلفاء: ١٢٢ - ٤.

(٤) التهذيب ١: ٤٦٨ / ح ١٥٣٥، وسائل الشيعة ٢: ٤٧٧ / ح ٢٦٩١، مناقب بن شهرآشوب ٢: ٨٨، وانظر سنن أبي داود ٣: ١٩٦ / ح ٣١٤١، وسنن ابن ماجة ١: ٤٧١ / ح ١٤٦٦.

٥٦

الجارية على جميع المكلّفين المسلمين على حدّ سواء ولا يستثنى منه نبي أو وصي، ولو رجعت إلى كتب علمائنا في العقائد لرأيتهم يخالفون من أخذ بقول بعض شيوخ الأخبارية والشيخية من القول بطهارة دم الإمام(١) ، وذلك لاعتقادنا بجريان الأحكام على الجميع من غير استثناء؛ إذ إنّ إطلاق نجاسة الدم تشمل دم المعصوم وغيره، وقد كانواعليهم‌السلام يعملون بهذا الحكم و يرفعون الدم عن أجسامهم وملابسهم.

وقد سئل جدّي لأمّي الشيخ محمد علي الكرمانشاهي ابن الوحيد البهبهاني في كتابه(مقامع الفضل) فأفتى بعدم الطهارة(٢) ، وادّعى عليه الشهرة من الخاصّة والعامّة.

ومثل الغلوّ، القول بالتفويض، فإنّه لم يكن مختصّاً بالشيعة، فهناك طوائف من العامة تقول بذلك، ففي كتاب(التنبيه والردّ على أهل الأهواء والبدع) قال: ومن القدرية صِنْفٌ يقال لهم المفوّضة زعموا أنّهم يقدرون على الخير كلّه بالتفويض

____________________

(١) ذهب بعض العامة كالشافعي وبعض الحنفية والمالكية وبعض الخاصة كالفاضل الدربندي في(إسرار الشهادة) إلى طهارة دم المعصوم، مستدلين بآية التطهير، وما روى عن أبي طيبة الحجام من أنه شرب دم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال لهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما حملك على ذلك؟

قال: أتبرك به.

قال:أخذت أماناً من الأوجاع والأسقام والفقر والفاقة ولا تمسَّك النار .

وغيرها من الروايات الدالة على فضيلة التبرك بدم النبي والإمام. انظر تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (في الفقه الحنفي) ٤: ٥١، والموافقات في أصول الفقه (الفقه المالكي) ٤: ٦٨ الإقناع للشربيني (فقه شافعي) ١: ٨٩.

فالمسالة خلافية عند المسلمين ولا أثر عملي لها اليوم في عصر غيبة الإمام المهدي (سلام الله عليه). وإذا أردت المزيد يمكنك مراجعة كتاب اللمعة البيضاء: ٨٤، للمولى محمد علي بن أحمد القراجة داغي التبريزي الأنصاري، حيث جمع فيه آراء العلماء وفتاواهم في هذه المسألة، نترك الكلام عنها مكتفين بهذا التعليق.

(٢) مقامع الفضل ١: ٢٨٣، مسألة رقم ٢٧٥.

٥٧

الذي يذكرون دون توفيق الله وهداه، تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً(١) .

فإذن الغلوّ والتفويض هما موجودان عند الآخرين كما هما موجودان عندنا، فاتّهام طرف دون آخر تجاوزٌ على المقاييس العلمية، وكيل بمكيالين، ونظر إلى الأمور بنظرة أحادية ضيّقة غير موضوعية.

إنّ وجود مجموعة أو شخصيّات مغالية داخل مذهب معيّن لا يجيز لنا اتّهام الجميع بالتطرّف والغلوّ، لأنّ التطرّف والغلوّ يصيبان الأفراد والجماعات معاً، ولا يختصان بطائفة دون أخرى أو مذهب ودين دون آخر، والغلو مرفوض من قبل المسلمين الواعين، وكان الأئمة من أهل البيت هم الأوائل من المسلمين الذين رفضوا فكرة الغلوّ، فجاء عن ابن خلدون الناصبي قوله: وقد كفانا مئُونة هؤلاء الغلاة أئمّة الشيعة فإنّهم لا يقولون بها و يبطلون احتجاجاتهم عليها(٢) .

وإليك الآن بعض الروايات عن أهل البيت، لتعرف موقفهم من الغلاة والمفوّضة وتأكيدهم على نفي الغلوّ عن أنفسهم وأنّهم ليسوا بآلهةٍ ولا أنبياء(٣) ، وليس بيدهم الخلق والرزق، ولا يعلمون الغيب على نحو الاستقلال، وهم بشر يأكلون و يشربون و يحتاجون في أُمورهم إلى الآخرين:

____________________

(١) التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ١: ١٧٤.

(٢) مقدمة ابن خلدون: ١٩٩.

(٣) قال الصادق:من قال إنّا أنبياء فعليه لعنة الله، ومن شكّ في ذلك فعليه لعنة الله، رجال الكشي ٢: ٥٩٠، الرقم ٥٤٠، وعنه في بحار الأنوار ٢٥: ٢٩٦، الرقم ٥٧. وفي آخر قال الصادق:يا أبا محمد، ابرأ ممن يزعم أنّا أرباب، قلت: برئ الله منه، فقال:ابرأ ممن زعم أنّا أنبياء ، قلت: برئ الله منه، رجال الكشي ٢: ٥٨٧، الرقم ٥٢٩، وعنه في بحار الأنوار ٢٥: ٢٩٧، الرقم ٦٠.

وفي خبر ثالث عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: السلام عليك يا ربي، فقال: ما لك لعنك الله!، ربّي وربك اللهُ. أما والله لكنت ما علمتك لجباناً في الحرب، لئيماً في السلم. رجال الكشي ٢: ٥٨٩، الرقم ٥٣٤، وعنه في بحار الأنوار ٢٥: ٢٩٧، الرقم ٦١.

٥٨

فعن مالك الجهني، قال: كنّا بالمدينة حين أُجلِيَتِ [ أُجلبت ] الشيعة، وصاروا فرقاً، فتنحَّينا عن المدينة ناحيةً، ثمّ خلونا فجعلنا نذكر فضائلهم وما قالت الشيعة، إلى أن خطر ببالنا الربوبية، فما شعرنا بشيء، إذا نحن بأبي عبد اللهعليه‌السلام واقف على حمار، فلم ندر من أين جاء، فقال: يا مالك و يا خالد متى أحدثتما الكلام في الربوبية؟

فقلنا: ما خطر ببالنا إلاّ الساعة.

فقال: أعْلَما أنّ لنا ربّاً يكلأُنا باللّيل والنهارِ نعبده. يا مالك و يا خالد، قولوا فينا ما شئتم واجعلونا مخلوقين، فكرَّرها علينا مراراً وهو واقف على حماره(١) .

وعن خالد بن نجيح الجوّار، قال: دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام وعنده خلق، فقنّعت رأسي وجلست في ناحية وقلت في نفسي: وَيْحَكُمْ ما أغفلكم؟ عند من تَكَلَّمُون، عند رب العالمين؟

قال: فناداني: ويحك يا خالد، إنيّ والله عبدٌ مخلوق، لي ربٌّ أعبده، إن لم أعبده واللهِ عذّبني بالنار.

فقلت: لا والله لا أقول فيك أبداً إلاّ قولك في نفسك(٢) .

وعن إسماعيل بن عبد العزيز، قال: قال أبو عبد الله: يا إسماعيل، لا ترفع البناء فوق طاقته فينهدم، اجعلونا مخلوقين وقولوا فينا ما شئتم، فلن تبلغوا.

فقال إسماعيل: وكنت أقول: إنّه.... وأقول، وأقول(٣) .

وعن سليمان بن خالد، قال: كنت عند أبي عبد الله [ الصادق ] وهو يكتب كتباً إلى بغداد، وأنا أُريد أن أُودّعه، فقال: تجيء إلى بغداد؟ قلت: بلى.

____________________

(١) كشف الغمة ٢: ٤١٥ وعنه في بحار الأنوار ٢٥: ٢٨٩ / ح ٤٥، وانظر بحار الأنوار ٤٧: ١٤٨.

(٢) بصائر الدرجات: ٢٦١ / ح ٢٥، وعنه في بحار الأنوار ٤٧: ٣٤١ / ح ٢٥.

(٣) بصائر الدرجات:٢٥٦ / ح ٥، وعنه في بحار الأنوار ٢٥: ٢٧٩ / ح ٢٢.

٥٩

قال: تعين مولاي هذا بدفع كتبه، ففكرّت وأنا في صحن الدار أمشي، فقلت: هذا حجة الله على خلقه، يكتب إلى أبي أيّوب الجزري، وفلان، وفلان يسألهم حوائجه !! فلمّا صرنا إلى باب الدار صاح بي: يا سليمان، ارجِعْ أنت وحدك، فرجعت، فقال: كتبت إليهم لأخبرهم أنّي عبدٌ ولي إليهم حاجة(١) .

وفيكشف الغمة : عن أيوب، قال: قال فتح بن يزيد الجرجاني: ضمّني وأبا الحسن [ الهاديعليه‌السلام ] الطريقُ منصرَفين من مكّة إلى خراسان، وهو صائر إلى العراق والحديث طويل نقتطف منه بعض إخبارات الإمام لفتح عمّا يختلج في صدره فقالعليه‌السلام :... وأمّا الذي اختلج في صدرك فإن شاءَ العالمُ أنباك: إنّ الله لم يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول، فكُلُّ ما كان عند الرسولِ كان عند العالم، وكلُّ ما اطلَّع عليه الرسولُ فقد أطْلَعَ أوصياءَهُ عليه، لئلاّ تخلو أرضه من حُجّة، يكون معه علم يدلُّ على صدق مقالته، وجواز عدالته.

يا فتح، عسى الشيطان أراد اللبس عليك، فأوهمك في بعض ما أودعتك، وشكّك في بعض ما أنبأتك حتى أراد إزالتك عن طريق الله وصراطه المستقيم... معاذ الله، إنّهم مخلوقون مربوبون لله؛ مطيعون، داخرون راغبون، فإذا جاءك الشيطان من قِبَلِ ما جاءك فاقمعه بما أنباتك به.

فقلت له: جعلت فداك فرّجت عني، وكشفت ما لبّس الملعونُ عَلَيَّ بشرحك، فقد كان أوقع في خَلَدي أنّكم أرباب.

قال: فسجد أبو الحسن وهو يقول في سجوده: راغماً لك يا خالقي داخراً خاضعاً.

قال: فلم يزل كذلك حتى ذهب ليلي.

ثم قال: يا فتح، كدتَ أن تَهْلِكَ وتُهْلِكَ، وما ضرَّ عيسىعليه‌السلام إذا هلك من هلك، فاذهب إذا شئت رحمك الله.

____________________

(١) الخرائج والجرائح ٣: ٦٣٩ / ح ٤٤ وعنه في بحار الأنوار ٤٧: ١٠٧ / ح ١٣٧ والمتن منه.

٦٠