الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء ١

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية15%

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 361

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 361 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 214008 / تحميل: 8507
الحجم الحجم الحجم
الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

وهذا ما أقرّ به الألباني أيضاً في سلسلة الأحاديث الصحيحة ، حيث قال : ( فماذا عسى أن يفعل المهدي لو خرج اليوم ، فوجد المسلمين شيعاً وأحزاباً ، وعلمائهم ـ إلاّ القليل منهم ـ اتخذهم الناس رؤوساً ! ، لما استطاع أن يقيم دولة الإسلام إلاّ بعد أن يوحّد كلمتهم ، ويجمعهم في صف واحد ، وتحت راية واحدة ، وهذا بلا شك يحتاج إلى زمن مديد ، الله أعلم به )(١) .

هوية الغيبة

إنّ غيبة الإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) تعني خفاء عنوانه غالباً ، وليس اختفاء شخصه عن الأنظار ، وإن كان خفاء المعنون قد يتحقق أيضاً في بعض الأحيان ، كما أشارت إلى ذلك بعض الروايات على ما سيأتي لاحقاً ، ولكي يتضح هذا المعنى يتعيّن التذكير بأنّ الإمامة لطف من الله تعالى ، ولو لا خليفة الله في الأرض لساخت بأهلها .

دوام الإمامة واستمرارها لطف إلهي

لا شك أنّ النبوّة وبعثة الأنبياء من أعظم الألطاف الإلهية في حق البشرية ؛ وذلك من أجل إيصالها إلى كمالها اللائق بها ، وإلى مصالحها والأهداف التي خُلقت من أجلها ، والتي لا يمكن لعقول البشر القاصرة أن تدركها أو تقف على كنهها ، فالنبوّة جاءت في ضمن سياق هداية الله عزّ وجلّ للبشر وتوجيههم الوجهة التي خُلقوا من أجلها .

ومن أعظم تلك الألطاف الإلهية بعثة نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرسالة الخاتمة والدين الإسلامي ، ليظهره على الدين كلّه ، ولو كره المشركون .

وممّا لا ينبغي الشك فيه أيضاً أنّ الإمامة ، وقيادة الأمّة ـ في الجوانب الفكرية والدينية والسياسية ـ بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استمرار لذلك اللطف الإلهي ، وإتمام لتلك النعمة ؛ وذلك من أجل الإبقاء والحفاظ على روح الإسلام ومعالمه ، وضمان استمرارها ورشدها ونموّها إلى قيام الساعة .

ـــــــــــــ

(١) سلسلة الأحاديث الصحيحة ، الألباني : ج ٤ ص ٤٢ .

١٤١

فاستمرار وجود الإمام في كل زمان لطف من الله تعالى من أجل حفظ الدين وصلاحه ورفعته وعِزّته ، وكذلك لأجل الحفاظ على كرامة الأمة الإسلامية ، والإبقاء على هويتها وكيانها ، فهو أمان للأمّة من الهلاك والضلال والغواية ، بل هو أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب ذهب أهل الأرض ، ولولاه لساحت الأرض وماجت بأهلها ، وقد أكّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تلك الحقيقة الخطيرة والمحورية في حياة الأمة عندما قال :( أهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض ) (١) ، وقد أمرنا بالتمسّك بهم في حديث الثقلين ، وأنبأ عن عدم افتراقهم عن القرآن الكريم ، حتى يردا عليه الحوض ، ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ) (٢) .

ـــــــــــــ

(١) شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : ج ١ ص ٤٢٦ ؛ ذخائر العقبى ، محب الدين الطبري : ص ١٧ ؛ وانظر المستدرك ، الحاكم : ج ٣ ص ٤٥٧ ج ٢ ص ٤٨٨ ، حيث قال في ذيل الحديث : ( صحيح الإسناد ولم يخرجاه ) .

(٢) صحيح مسلم ، مسلم : ج ٧ ص ١٢٣ ؛ مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ٤ ص ٣٦٧ ؛ سنن الدارمي ، الدارمي : ج ٢ ص ٤٣٢ ؛ سنن البيهقي ، البيهقي : ج ٢ ص ١٤٨ ؛ وغيرها من المصادر .

١٤٢

لو لا الحجّة لساخت الأرض بأهلها

إذن فالحجّة باقية ومستمرّة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يوم القيامة ، ولو لا تلك الحجّة التي نصبها من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بأمر من الله عزّ وجلّ ـ لساخت الأرض بأهلها ، وقد تواتر هذا المضمون عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ألسنة مختلفة من الروايات ، منها قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( النجوم أمان لأهل السماء ، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي أتى أهل الأرض ما يوعدون ) (١) .

مضافاً إلى تأكيد أهل البيتعليهم‌السلام على هذه الحقيقة ، كقول أمير المؤمنين عليعليه‌السلام :( اللّهمّ وإنّك لا تخلي الأرض من قائم بحجّة ؛ إمّا ظاهر مشهور ، أو خائف مغمور ، لئلاّ تبطل حجج الله ، وبيّناته ) (٢) .

وكذا ما أخرجه القندوزي الحنفي ، عن الحموي المصري في كتابه ( فرائد السمطين ) عن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام ، عن جدّه علي بن الحسينعليه‌السلام قال :( نحن أئمّة المسلمين ، وحجج الله على العالمين ، وقادة الغرّ المحجّلين ، ونحن أمان لأهل الأرض ، كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء ، وبنا يمسك السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه ، وبنا ينزّل الله الغيث ، وتنشر الرحمة ، وتخرج بركات الأرض ، ولولا ما على الأرض منّا لساخت بأهلها .

ـــــــــــــ

(١) المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٢ ص ٤٤٨ ، قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ؛ شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ١ ص ٤٢٦ ؛ تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ٤٠ ص ٢٠ ؛ وانظر الجامع الصغير ، السيوطي : ج ٢ : ص ٦٨٠ ، وانظر فيض القدير ، المناوي : ج ٦ ص ٣٨٧ ؛ وقال المناوي : ( لكن تعدّد طرقه ربّما يصيّره حسناً ) ؛ النزاع والتخاصم ، المقريزي ص ١٣٢ ، مع اختلاف في اللفظ .

(٢) تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ٥٠ ص ٢٥٥ ، تاريخ اليعقوبي ، اليعقوبي : ج ٢ ص ٢٠٦ ؛ وقريب منه في تذكرة الحفّاظ ، الذهبي : ج ١ ص ١٢ ، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر ، الحلواني : ص ٥٧ ، كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٠ ص ٢٦٣ ، ( أخرجها عن ابن الأنباري في المصاحف ، والمرهبي في العلم ونصر في الحجّة ) ، المعيار والموازنة ، أبو جعفر الإسكافي : ص ٨١ ، مناقب أمير المؤمنين : محمد بن سليمان القاضي : ج ٢ ص ٢٧٥ ، دستور معالم الحكم : ابن سلامة : ص ٨٤ ، وقريب منه في ينابيع المودّة : القندوزي الحنفي : ج ١ ص ٧٥ .

١٤٣

ثم قال :ولم تخل الأرض منذ خلق الله الأرض من حجّة فيها ؛ إمّا ظاهر مشهور ، أو غائب مستور ، ولا تخلو الأرض إلى أن تقوم الساعة من حجة فيها ، ولو لا ذلك لم يعبد الله ) (١) .

قال سليمان الأعمش : فقلت ، لجعفر الصادقعليه‌السلام : فكيف ينتفع الناس بالحجّة الغائب المستور ؟ قال :( كما ينتفعون بالشمس إذا سترها سحاب ) (٢) ، فنجد أنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام يشير بقوله هذا إلى ما ذكره جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بقوله :( في كل خلوف من أُمّتي عدول من أهل بيتي ، ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، ألا وإنّ أئمّتكم وفدكم إلى الله عزّ وجلّ ، فانظروا بمَن توفدون ) (٣) ، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتقدم :( أهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض ) (٤) وأولئك العدول من أهل بيته ـ الذين هم أمان لأهل الأرض ـ هم الاثنا عشر خليفة الذين نصبهم خلفاء من بعده ، وجعلهم قيّمين على هذا الدين ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ـــــــــــــ

(١) ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ١ ص ٧٥ وج ٣ ص ٣٦٠ ـ ٣٦١ .

(٢) المصدر نفسه : ج ١ ص ٧٦ ج ٣ ص ٣٦١ .

(٣) الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي ، باب الأمان ببقائهم : ص ٣٥٢ ؛ ذخائر العقبى ، محب الدين الطبري : ص ١٧ ؛ ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ٢ ص ١١٤ .

(٤) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم : ج ٢ ص ٤٤٨ ؛ قال فيه : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ؛ شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ١ ص ٤٢٦ ، ذخائر العقبى ، الطبري : ص ١٧ ، ونحوه النزاع والتخاصم ، المقريزي : ص ١٣٢ .

١٤٤

في حقّهم :( إذا هلكوا ماجت الأرض بأهلها ) (١) .

إذن ، لابد في كل زمان من إمام عادل ، معصوم ، لا يفترق عن القرآن ، من أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يكون أماناً لأهل الأرض ، به تتحقق عزّة الإسلام وصلاح الأمّة .

الغيبة لطف إلهي

أمّا في زماننا هذا ، فإنّ الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) من أهل البيت هو خليفة الله في أرضه ، كما هو واضح من الروايات المستفيضة عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، منها قوله : ( فإنّ فيها خليفة الله المهدي )(٢) ؛ ولذا نجد المناوي في كتابه ( فيض القدير ) في ذيل هذه الرواية يشير إلى أنّ الإمام المهدي هو الإنسان الكامل ، وهو خليفة الله في أرضه ، حيث قال : ( فإن قلت ما حكمة إضافته إلى الله ، وهلاّ قال الخليفة ؟ قلت : هو إشارة إلى أنّه إنسان كامل قد تجلّى عن الرذائل ، وتحلّى بالفضائل ، ومحل الاجتهاد والفتوّة ، بحيث لم يفته إلاّ مقام النبوّة )(٣) .

إلاّ أنّ الأمر المهم الذي ينبغي الالتفات إليه ، هو أنّهعليه‌السلام غائب مستور ، إذ إنّ الإمام المهديعليه‌السلام يمتاز عن بقيّة آبائهعليهم‌السلام بخصوصية إضافية ، وهي أنّ الإرادة الإلهية شاءت أن يقام العدل في هذه الأرض على يده المباركة ، وشاءت أيضاً أن لا يكون قيام العدل إلاّ في ضمن الشروط الطبيعية ، لا بالطريق الإعجازي ـ كما تقدّم ـ وحيث إنّ شرائط الظهور وإقامة العدل ـ من طرقها الطبيعية التي أرادها الله تعالى لها ـ غير متوفّرة إلى يومنا الحاضر ، فلا بد من استمرار الغيبة ، والخفاء حتى توفّر شرائط الظهور ويأذن الله عزّ وجلّ بالظهور ، هذا من جهة .

ـــــــــــــ

(١) كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٢ ص ٣٤ ، المعجم الكبير : الطبراني : ج ٢ ص ١٩٦ ( بألفاظ أخرى ) .

(٢) مسند أحمد ، أحمد بن حنبل ، ج ٥ ص ٢٧٧ ، ونحوه في المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٤ ص ٤٦٤ ؛ الجامع الصغير ، السيوطي : ج ١ ص ١٠٠ ح ٦٤٨ .

(٣) فيض القدير شرح الجامع الصغير ، المناوي : ج ١ ص ٤٦٦ ح ٦٤٨ .

١٤٥

ومن جهة أخرى إنّ وجود الإمام المهديعليه‌السلام ظاهراً بين الناس يجعله عرضة للقتل ـ كما سيأتي ـ ومن هنا كانت الغيبة للإمام ، وحفظه من كيد الأعداء ، لطفاً من الله تعالى بعباده ، من أجل تحقيق الهدف الإلهي وثمرة الأديان بإقامة العدل والقسط في الأرض ، كما قال الله تعالى :( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ ) (١) .

وممّا تقدّم يتبين أنّ غيبة الإمام والحجّة (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) إنّما هي حالة استثنائية في حياة البشرية ، وبالخصوص في حياة الأُمّة الإسلامية ـ لأنّ الحالة الطبيعية هي وجوده بين أشياعه وأتباعه يتعاطى معهم بشكل معلن ومباشر ـ وذلك من أجل الحفاظ عليه ، وادّخاره لذلك اليوم الموعود .

حقيقة الغيبة : خفاء الهوية والعنوان لإخفاء الشخصية

لا شك أنّ الحالات الاستثنائية يقتصر فيها على ما ترتفع به الضرورة ، وحيث إنّ الضرورة هي احتجابهعليه‌السلام عن الناس ، بما يوجب نجاته والمحافظة عليه من براثن الظلم والعدوان ، فمقدار الغيبة حينئذ يقتصر فيه على خفاء العنوان ، واستتار الهوية ليس أكثر ، وإن كانت الضرورة قد تقتضي خفاء المعنون أيضاً على ما أشارت إليه بعض الروايات ؛ لأنّ هذا المقدار من الغيبة كافٍ لرفع حالة الاستثناء ، فهو (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) موجود بشخصه الكريم في وسط الناس ، وليست غيبته باختفاء جسمه عن الأنظار ، كاختفاء الجن ، أو الملائكة أو غير ذلك ، بل إنّ الناس يرون الإمام المهديعليه‌السلام بشخصه المبارك ، ولكن من دون أن يكونوا عارفين له أو ملتفتين إلى حقيقته وشخصه وهويته ، وهذا ما نصّت عليه جملة من الروايات :

ـــــــــــــ

(١) الحديد : ٢٥ .

١٤٦

منها : ما ورد عن الإمام عليعليه‌السلام ، حيث قال :( إذا غاب المتغيّب من ولدي عن عيون الناس ، وماج الناس بفقده ، أو بقتله ، أو بموته ، اطلعت الفتنة ، ونزلت البليّة فو ربّ عليّ إنّ حجّتها عليها قائمة ، ماشية في طرقها ، داخلة في دورها وقصورها ، جوّالة في شرق هذه الأرض وغربها ، تسمع الكلام ، وتسلّم على الجماعة ، ترى ولا تُرى ، إلى الوقت والوعد ، ونداء المنادي من السماء ، ألا ذلك يوم فيه سرور ولد عليّ وشيعته ) (١) وهذه الرواية أكّدت على خفاء العنوان كما هو واضح وإن أشارت في الأثناء إلى خفاء العنوان والمعنون معاً أيضاً في بعض الأحيان .

ومنها : ما جاء عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، حيث قال: ( فما تنكر هذه الأمّة أن يكون الله يفعل بحجّته ما فعل بيوسف ، وأن يكون صاحبكم المظلوم ، المجحود حقّه ، صاحب الأمر يتردّد بينهم ، ويمشي في أسواقهم ، ويطأ فرشهم ، ولا يعرفونه ، حتى يأذن الله له أن يعرفهم نفسه ، كما أذن ليوسف ، حين قال له إخوته :( أَءِنّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ ) (٢) ،(٣) .

ـــــــــــــ

(١) الغيبة : محمد بن إبراهيم النعماني : ص ١٤٣ .

(٢) يوسف : ٩٠ .

(٣) الغيبة ، النعماني : ص ١٦٤ .

١٤٧

ومنها : ما جاء أيضاً عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، قال :( في القائم سنّة من موسى ، وسنّة من يوسف ، وسنّة من عيسى ، وسنّة من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمّا سنّة يوسف فإنّ إخوته كانوا يبايعونه ، ويخاطبونه ، ولا يعرفونه ) (١) .

وفي رواية أخرى :( وسنّة من يوسف بالستر ، يجعل الله سبحانه بينه وبين الخلق حجاباً يرونه ، ولا يعرفونه ) (٢) .

ومنها : ما ورد كذلك عن أبي عبد اللهعليه‌السلام :( يفقد الناس إمامهم ، وإنّه يشهد الموسم ، فيراهم ولا يرونه ) (٣) والمراد من عدم الرؤية عدم معرفته (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) بشخصه وعنوانه ، بقرينة ما يأتي وما تقدّم من الروايات .

ومنها : قول محمد بن عثمان العمري ، وهو أحد سفراء ووكلاء الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) في غيبته الصغرى : ( والله إنّ صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنة ، يرى الناس ويعرفهم ، ويرونه ولا يعرفونه )(٤) .

ما الفائدة من الإمام الغائب ؟

بعد الوقوف على حقيقة وهوية الغيبة ، وأنّها ليست إلاّ استتار العنوان فقط وإن كان استتار المعنون قد يحصل أيضاً كما أشارت إلى ذلك بعض الروايات ، وهو ما يقع لأجل تقدير بعض الظروف والضرورات المقتضية لذلك ، يتضح أنّ الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) حاضر بوجوده المبارك بين

ـــــــــــــ

(١) كمال الدين ، الصدوق : ص ٢٨ .

(٢) المصدر نفسه : ص ٣٥١ ؛ الخرائج والجرائح ، قطب الدين الراوندي : ج ٢ ص ٩٣٧ .

(٣) أصول الكافي ، الكليني : ج ١ ص ٣٣٨ .

(٤) مَن لا يحضره الفقيه ، الصدوق : ج ٢ ص ٥٢٠ ؛ كمال الدين وتمام النعمة ، الصدوق : ص ٤٤٠ ؛ الغيبة ، الطوسي : ص ٣٦٤ .

١٤٨

الناس ، ولكن ـ بعد أن أثبتنا ضرورة وجوده (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ـ قد لا يمكننا أن نشعر أو نحيط بفوائد وجوده المبارك ، كما أشار إلى ذلك الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما سأله جابر بن عبد الله الأنصاري عن فائدة الإمام في غيبته ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( والذي بعثني بالحق إنّهم ليستضيئون بنوره ، وينتفعون بولايته في غيبته ، كانتفاع الناس بالشمس وإن علاها سحاب ) (١) .

ويمكن الإشارة في هذا المجال إلى بعض وجوه الانتفاع منه (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) في غيبته ، وما يقوم به من أعمال وأدوار ، نذكرها على سبيل الإجمال والاختصار :

إدارة الإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) في زمن الغيبة

قد تقدّم آنفاً ضرورة وجود الحجّة من أهل البيتعليهم‌السلام ، واستمراره إلى قيام الساعة ، ولولاه لساخت الأرض بأهلها ، ونضيف إلى ذلك القول : بأنّ الإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) يمارس أدواره التي لا تتقاطع مع غيبته ، فهوعليهم‌السلام يمارس دوره الاجتماعي والسياسي بالمباشرة ، أو بتوسّط مجموعة من رجال الغيب الذين يُصطلح عليهم بالأبدال ، والسيّاح الذين يديرون حكومته الخفيّة ، ويتصرفون في مقادير الأُمّة ، بل البشرية جمعاء ، من أجل درئها عن الانحراف ، وحفظها عن الزيغ والضلال ، والوقوع في الهاوية ، وهذا ما تشير إليه الروايات الواردة من طرق الفريقين :

١ – قال السيوطي في ( الدرّ المنثور ) : ( وأخرج الطبراني في الأوسط بسند حسن ، عن أنس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لن تخلو الأرض من أربعين رجلاً ، مثل خليل الرحمان ، فبهم تسقون وبهم تنصرون ، ما مات منهم أحد إلاّ أبدل الله مكانه آخر ) .

ـــــــــــــ

(١) كشف الغمّة ، الإربلي : ج ٢ ص ٣١٥ ؛ ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : ج ٣ ص ٢٣٩ .

١٤٩

وأخرج الطبراني في الكبير عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله (ص) :الأبدال في أُمّتي ثلاثون ، بهم تقوم الأرض ، وبهم تُمطرون وبهم تُنصرون .

وأخرج أحمد في ( الزهد ) والخلال في ( كرامات الأولياء ) بسند صحيح عن ابن عباس قال : ما خلت الأرض من بعد نوح من سبعة يدفع الله بهم عن أهل الأرض ...

وأخرج ابن جرير عن شهر بن حوشب قال : لم تبق الأرض إلاّ وفيها أربعة عشر ، يدفع الله بهم عن أهل الأرض ، ويخرج بركتها إلاّ زمن إبراهيم فإنّه كان وحده .

وأخرج أحمد في الزهد عن كعب قال : لم يزل بعد نوح في الأرض أربعة عشر يدفع الله بهم العذاب .

وأخرج الخلال في كرامات الأولياء عن زاذان قال : ما خلت الأرض بعد نوح من اثني عشر فصاعداً يدفع الله بهم عن أهل الأرض(١) .

٢ ـ ما أخرجه الهيثمي ، عن عبادة بن الصامت ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال :( الأبدال في هذه الأمة ثلاثون ، مثل خليل الرحمان عزّ وجلّ ، كلّما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجل ) (٢) ، قال الهيثمي : رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح ، غير عبد الواحد بن قيس ، وقد وثّقه العجلي ، وأبو زرعة(٣) .

ـــــــــــــ

(١) الدر المنثور ، السيوطي : ج ١ ص ٧٦٥ ـ ٧٦٦ .

(٢) مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ١٠ ص ٦٢ ؛ عون المعبود ، العظيم آبادي : ح ٧ ص ١٥١ ج ١١ ص ٢٥٣ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٢ ص ١٨٦ .

(٣) مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ١٠ ص ٦٢ .

١٥٠

٣ ـ وعن عبادة بن الصامت أيضاً ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( لا يزال في أُمّتي ثلاثون ، بهم تقوم الأرض ، وبهم تُمطرون ، وبهم تُنصرون ) (١) ، قال الهيثمي : رواه الطبراني في الأوسط ، وإسناده حسن(٢) ، وقد صحّحه العزيزي ، والمناوي ، في شرحيهما على الجامع الصغير للسيوطي(٣) .

وقال المناوي في فيض القدير : ( وهذه الأخبار وإن فُرض ضعفها جميعها ، لكن لا ينكر تقوي الحديث الضعيف بكثرة طرقه وتعدّد مخرّجيه ، إلاّ جاهل بالصناعة الحديثية ، أو معاند متعصّب ، والظن به ـ أي بابن تيمية ـ أنّه من قبيل الثاني )(٤) .

ثم إنّ أولئك الأبدال مستترون عن أعين الناس ، كما نصّ على ذلك الغزالي ، حيث قال : ( إنّما استتر الأبدال عن أعين الناس والجمهور ؛ لأنّهم لا يطيقون النظر إلى علماء الوقت ؛ لأنّهم جهّال بالله ، وهم عند أنفسهم ، وعند الجهلاء علماء )(٥) .

وبعض من الأبدال من أصحاب الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ، يخرجون معه حين يخرج ، كما أخرج ذلك نعيم بن حمّاد المروزي في ( كتاب الفتن ) عن عليّعليه‌السلام قال : ( إذا سمع العائذ الذي بمكّة بالخسف خرج مع اثني عشر ألفاً ، فيهم الأبدال )(٦) .

ـــــــــــــ

(١) مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ١٠ ص ٦٢ ـ ٦٣ ؛ عون المعبود ، العظيم آبادي : ج ٨ ص ١٥١ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير ، المناوي : ج ٣ ص ٢١٧ .

(٢) مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ١٠ ص ٦٢ ـ ٦٣ .

(٣) نقلاً عن عون المعبود : ج ٨ ص ١٥٢ .

(٤) فيض القدير ، المناوي : ج ٣ ص ٢٢٠ .

(٥) نقلاً عن فيض القدير : ج ٣ ص ٢٢٠ .

(٦) كتاب الفتن ، المروزي : ص ٢١٥ .

١٥١

إذن فهناك أوتاد وأبدال ، على درجة عالية من الإيمان والإخلاص والتضحية في سبيل الإسلام ، مستترون عن أعين الناس بخفاء عنوانهم الذي هم عليه ، يقومون بإنجاز أدوار مهمّة في الأمّة ، وقد ذكرت بعضها الروايات ـ كما تقدم ـ فلا غرابة حينئذٍ أن يستعين بهم الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) في إدارة حكومته المستترة أثناء غيبته ، لا سيّما وأنّ الروايات ذكرت أنّ بعضهم من أنصاره (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) عند ظهوره ، لإقامة دولة العدل والقسط .

ولا يخفى أنّ الإدارة الخفيّة أقوى وأشد تأثيراً في الواقع من الإدارة الظاهرة ، كما هو الحال في ما نشاهده اليوم من التحكّم بمقادير الأمور ، وإدارة العالم بواسطة أجهزة المخابرات التي تعمل خلف الكواليس ، وكذا ما في السياسات الماليّة الخفيّة ، كالبنك الدولي الذي بيده مقادير سياسة العالم الاقتصادية ، ولكن بصورة مبطّنة غير معلنة .

وجه التشابه بين الخضرعليه‌السلام والإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)

وقد ضرب الله تعالى مَثَلاً لنا في قصة الخضرعليه‌السلام مثلاً لما يقوم به الإمام المهديعليهم‌السلام ، حيث استعرض القرآن الكريم هذه القصة في وسط سورة الكهف ، هذا مع علمنا بأنّ القرآن الكريم لم يكن هدفه من طرح هذه القصة تسطير الحكايات الخياليّة التي لا واقع لها ـ والعياذ بالله ـ فالقرآن الكريم منزّه عن ذلك .

١٥٢

قصّة الخضر

قال تعالى :( فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلّمْنَاهُ مِن لّدُنّا عِلْماً * قَالَ لَهُ مُوسَى‏ هَلْ أَتّبِعُكَ عَلَى‏ أَن تُعَلّمَنِ مِمّا عُلّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى‏ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ) (١) .

فقد أمر الله عزّ وجلّ نبيّه موسىعليه‌السلام بالذهاب إلى الخضرعليه‌السلام المتخفّي المستتر ، حيث لم يكن أحد يعلم بمكانه إلاّ الله وموسى ، بعد أن أعلمه الله تعالى بمحلّ تواجده ؛ وذلك للتعلّم والأخذ منه ، والاطلاع على معالم الإدارة الإلهية الخفية ، التي تدار بعيداً عن أعين الناس ، فالخضرعليه‌السلام مع كونه متستراً ، كما نقل ذلك النووي عن الثعلبي ، قوله : ( الخضر نبيّ معمّر على جميع الأقوال ، محجوب عن الأبصار ، يعني عن أبصار أكثر الناس )(٢) .

فهوعليه‌السلام منتدب من الله تبارك وتعالى لإنجاز الأوامر الإلهيّة ، يعمل ضمن مجموعة خاصّة من البشر ، لا يعلمها أحد من عامة الناس ، وهم أوتاد الأرض وأبدالها كما تقدم ذكرهم ، وكما تصرّح بذلك الآية المباركة ، حيث جاء فيها قوله عزّ وجلّ :( عبداً مّن عبادنا ) .

ثم إنّ الخضرعليه‌السلام بنفسه قد صرّح لموسىعليه‌السلام بأنّ كل ما فعله لم يكن عن أمره ، وإنّما هو بأمر من الله تعالى ، حيث قال :( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عّلَيْهِ صَبْراً ) (٣) .

إذن هذه السورة المباركة تشير إلى وجود منظومة ومجموعة من البشر على وجه الأرض ، هم عباد الله ، اختصهم لنفسه ، يقومون بإنجاز المهامّ الإلهية الخطيرة والمحورية التي لها الأثر البالغ والمهم على مسار البشرية ،

ـــــــــــــ

(١) الكهف : ٦٥ ـ ٦٨ .

(٢) شرح صحيح مسلم ، النووي : ج ١٥ ص ١٣٦ .

(٣) الكهف : ٨٢ .

١٥٣

ولم يحظ موسىعليه‌السلام من ذلك ، إلاّ بعد عدّة وقائع ، استعرضها القرآن الكريم ، ولم يصبر على تلقّي المزيد من تلك الأدوار والمهام ؛ ولذا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( رحمة الله علينا ، وعلى موسى ، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب ) (١) .

فكان الخضرعليه‌السلام ، ومجموعة من عباد الله الصالحين يديرون هذا العالم بطور وطراز آخر ، على غير ما هو المألوف عندنا ، بحسب الأسباب الظاهرة والإدارة المعلنة ، وهذا ما صرّح به الكثير من المفسّرين ، كالمراغي في تفسيره تبعاً للفخر الرازي وغيره ، حيث قال : ( وأحكام هذا العالم مبنية على الأسباب الحقيقية الواقعة في نفس الأمر ، وهذه لا يطلع الله عليها إلاّ بعض خواصّ عباده )(٢) .

ثم إنّ السورة المباركة تستعرض في هذه القصّة ثلاث قضايا مهمّة وأساسية في الحياة البشرية مارسها الخضرعليه‌السلام .

الأُولى : وهي قضية سفينة المساكين التي خرقها الخضرعليه‌السلام حتى لا يغصبها الملك ، قال تعالى :( أَمّا السّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم ملِكٌ يَأْخُذُ كُلّ سَفِينَةٍ غَصْباً ) (٣) .

فلو صادرها الملك لأثّر ذلك سلباً على معيشة أولئك المساكين ، حيث كانت السفينة مصدر رزقهم ؛ لذا قال الفخر الرازي في تفسيره : ( إنّ تلك

ـــــــــــــ

(١) جامع البيان ، ابن جرير الطبري : ج ١٥ : ص ٣٥٦ ؛ السنن الكبرى ، النسائي : ج ٦ : ص ٣٩١ ؛ تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : ج ٦ ص ٣٩٧ ؛ تفسير القرآن العظيم : ابن كثير : ج ٣ ص ١٠٣ .

(٢) تفسير المراغي ، المراغي : ج ٦ ص ٦ ، وكذا انظر : تفسير الفخر الرازي : ج ١١ ص ١٦٠ .

(٣) الكهف : ٧٩ .

١٥٤

السفينة كانت لأقوام محتاجين ، متعيّشين بها في البحر ، والله تعالى سمّاهم مساكين )(١) .

وقال المراغي في تفسيره ، حكاية عن الخضرعليه‌السلام : ( أما فعلي ما فعلته بالسفينة ، فلأنّها كانت لقوم ضعفاء ، لا يقدرون على دفع الظلمة ، وكانوا يؤاجرونها ويكتسبون قوتهم منها وخلاصة ذلك : إنّ السفينة كانت لقوم مساكين عجزة ، يكتسبون بها ، فأردت بما فعلت إعانتهم على ما يخافون ، ويعجزون عن دفعه ، من غصب ملك قدّامهم ، من عادته غصب السفن الصالحة )(٢) .

الثانية : قصّة الغلام ، وأنّه لو بقي حيّاً لكان في ذلك مفسدة لوالديه ، في دينهما ودنياهما ، و( لو بقي كان فيه بوارهما ، واستئصالهما )(٣) ، بل قد جاء في روايات الفريقين : أنّ الله تعالى أبدل أبويه ـ رحمة بهما ـ بجارية ولدت سبعين نبيّاً ، فالسنّة الإلهية اقتضت أن لا يُرزقا تلك الجارية المباركة ، إلاّ بعد فقدانهم ذلك الغلام .

ولا يخفى ما في الدور الكبير لوجود سبعين نبياً في حياة البشر ، وهدايتهم ورقيّهم ، كما نصّت على ذلك بعض الروايات ، فقد أخرج ابن حجر ، عن تفسير ابن الكلبي : ( ولدت [ أم الغلام ] جارية ، ولدت عدّة أنبياء ، فهدى الله بهم أمماً ، وقيل : عدّة مَن جاء من ولدها من الأنبياء سبعون نبيّاً )(٤) .

الثالثة : قصة إصلاح الخضرعليه‌السلام للجدار ؛ لأنّه لو انهار ذلك الجدار لضاع

ـــــــــــــ

(١) تفسير الرازي ، الفخر الرازي : ج ١١ ص ١٦١ .

(٢) تفسير المراغي ، المراغي : ج ٦ ص ٧ .

(٣) الدر المنثور ، السيوطي : ج ٥ ص ٤٢٩ .

(٤) فتح الباري ، ابن حجر : ج ٨ ص ٣٢٠ ؛ ونحوه تفسير القرطبي : ج ١١ ص ٣٧ ؛ وانظر فتح القدير ، الشوكاني ، ج ٣ ص ٣٠٦ .

١٥٥

مال اليتيمين اللذين كان أبوهما صالحاً ، كما في قوله تعالى :( وَأَمّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِن رّبّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عّلَيْهِ صَبْراً ) (١) .

خصائص الحكم الإلهي

لا يخفى أنّ العبر والمعطيات التي ضمّنها الله تعالى في قصة الخضرعليه‌السلام كثيرة ومهمّة جدّاً ، ولكن نستعرض منها ما يتعلّق ببحثنا وموضوعنا ، وهي كالآتي :

١ ـ دوام الحاكمية الإلهية

إنّ حاكمية الله تعالى في الأرض لا تنقطع أبداً إلى يوم القيامة ، والذي يقوم بأداء وتنفيذ حكم الله في الأرض هو خليفته في أرضه ، فخليفة الله هو الواسطة المباشرة لإجراء حاكميته تعالى .

وقد جاء ذلك في قوله عزّوجلّ :( إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (٢) سواء كان ذلك الخليفة رسولاً أم نبيّاً أم وليّاً ووصيّاً من الأوصياء .

وقال تعالى أيضاً :( إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للهِ ) (٣) .

وقال عزّ وجلّ :( إِنّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنَا ) (٤) .

ـــــــــــــ

(١) الكهف : ٨٢ .

(٢) البقرة : ٣٠ .

(٣) يوسف : ٤٠ .

(٤) النور : ٥١ .

١٥٦

وقال تعالى :( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (١) .

فحاكمية الله تعالى ـ التي لا تقتصر على سلطته في التشريع فقط ، بل يداه مبسوطتان في كل المجالات القضائية والسياسية والاقتصادية ـ يجريها على أيدي خلفائه من الرسل والأنبياء والأولياء والأوصياء .

هذا وقد أرشدنا الله عزّ وجلّ في قرآنه الكريم إلى خلفائه الذين جعلهم أئمّة وقادة للبشرية جمعاء ، ابتداءً من آدمعليه‌السلام أبي البشر ، وأوّل خليفة لله على أرضه ، ومروراً بنوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسىعليهم‌السلام ، وانتهاء برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم الأنبياء ، وأوصيائهعليهم‌السلام الهداة المهديين ، حيث قال تبارك وتعالى :

( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (٢) .

( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (٣) .

( وَنُرِيدُ أَن نمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) (٤) .

( وَإِذِ ابْتَلَى‏ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (٥) .

ومن حصيلة هذه النصوص القرآنية وغيرها ممّا يشاركها في المضمون ؛ يتضح أنّ الله عزّ وجلّ قد جعل خلفاء له في الأرض ، ينفّذون حاكميته في الأرض ، ويمثّلون مظهراً وتجلياً لسلطنته على الخلق .

ـــــــــــــ

(١) النساء : ٥٩ .

(٢) السجدة : ٢٤ .

(٣) الأنبياء : ٧٣ .

(٤) القصص : ٥ .

(٥) البقرة : ١٢٤ .

١٥٧

٢ ـ شمولية الحاكمية الإلهية

ثم إنّ الحاكمية لله تعالى شاملة لكل المجالات ، ولجميع الأمور مهما كان حجمها ، وهذا ما نلمسه واضحاً من النصوص القرآنية ، حيث نجد أن الله تبارك وتعالى هو الحاكم في جميع الأمور ، وكان النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( يَا أَيّهَا النّبِيّ قُل لِمَن فِي أَيْدِيكُم مِنَ الأَسْرَى‏ إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرَاً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِر لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١) .

وقوله :( يَا أَيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) (٢) .

وقوله :( يَا أَيّهَا النّبِيّ حَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ) (٣) .

وقوله :( يَا أَيّهَا النّبِيّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنّ وَأُسَرّحْكُنّ سَرَاحاً جَمِيلاً ) (٤) .

وقوله :( يَا أَيّهَا النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللهُ لَكَ ) (٥) .

وقوله :( يَا أَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ

ـــــــــــــ

(١) الأنفال : ٧٠ .

(٢) التوبة : ٧٣ .

(٣) الأنفال : ٦٥ .

(٤) الأحزاب : ٢٨ .

(٥) التحريم : ١ .

١٥٨

وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (١) .

وقوله تعالى :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ ) (٢) .

وقوله تعالى :( فَمَنْ حَاجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (٣) .

وقوله تعالى :( وَإِن جَنَحُوا لِلسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكّلْ عَلَى اللهِ إِنّهُ هُوَ الْسّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٤) .

وغيرها من النصوص القرآنية الأخرى .

وقد خاطب الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القرآن الكريم بـ ( قل كذا ) و ( قل كذا ) في أكثر من ( ٣٥٠) مورداً ، وكانت الأوامر الإلهية تنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل صغيرة وكبيرة ، بدءاً من بيته وشؤونه الخاصة ، ومروراً بقضايا الحكومة والدولة وإدارة شؤون المسلمين ومسائل الحرب وقضايا الجهاد وغيرها ، فلا يُعقل أنّ هذه الحاكمية الحيّة والفعّالة من قِبل الله تعالى تجاه قضايا الإسلام والمسلمين والتي تجري وتُنفّذ عن طريق خليفته المعصوم عن الخطأ ، وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تنقطع بين ليلة وضحاها ، ويوكل الأمر إلى عامّة المسلمين ، الذين يجهلون أبسط المسائل الفقهية ، فضلاً عن غيرها من القضايا المهمّة في حياة المسلمين ، والبشرية بصورة عامة .

ـــــــــــــ

(١) المائدة : ٦٧ .

(٢) النحل : ٤٤ .

(٣) آل عمران : ٦١ .

(٤) الأنفال : ٦١ .

١٥٩

إذن لابد من وجود مَن ينفّذ حاكميته تعالى بعد رسوله الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك هو الخليفة الحقّ الذي يحمل مزايا الأنبياء والأوصياء والرسل ؛ ليكون قادراً على تحمل الأمانة ، وتنفيذ تلك الحاكمية بالنحو الذي أراده الله عزّ وجلّ ، منذ بدء الخلق إلى قيام الساعة ، وقد نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأمر من الله تعالى ذلك الخليفة من بعده ، وهم أهل بيته ، عليّ وبنوهعليهم‌السلام ، وهم الخلفاء الاثنا عشر ، كلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ، إذا ذهبوا ماجت الأرض بأهلها .

ثم إنّ هذا المعنى من الحاكمية المستمرة لله تعالى في الأرض يلتقي مع مقولة الخضر لموسىعليه‌السلام :( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) (١) ، أي أنّ هذه الأفعال التي قمت بها ليست بمحض إرادتي ، بل هي بأمر من الله تعالى ، وإجراء لحاكميته .

وعلى هذا الأساس نقول : إنّ خليفة الله في الأرض ، القائم بهذا الدور في هذا العصر ، هو الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ، فهو الذي يقوم بتنفيذ أوامر الله سبحانه وتعالى ، ولكن في الخفاء ، لأجل الحكمة والأسباب التي اقتضت ذلك ، إلى أن يأتي أمر الله سبحانه بالظهور ، وإقامة دولة العدل والقسط ، فيكون الحق معلناً ، والباطل ضامراً خاسئاً .

وقد جاء ذكر ذلك الدور الفاعل للإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) في عصر الغيبة في كثير من الروايات على لسانهعليه‌السلام ، منها قولهعليه‌السلام :( فإنّا نحيط علماً

ـــــــــــــ

(١) الكهف : ٨٢ .

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ثمّ يضيف :( وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) ،( وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ) .(١)

في الحقيقة أنّ هذه الأقسام الثلاثة مرتبطة بعضها بالآخر ومكملة للآخر ، وكذلك لأنّنا كما نعلم أنّ القمر يتجلى في الليل ، ويختفي نوره في النهار لتأثير الشمس عليه ، والليل وإن كان باعثا على الهدوء والظلام وعنده سرّ عشاق الليل ، ولكن الليل المظلم يكون جميلا عند ما يدبر ويتجه العالم نحو الصبح المضيء وآخر السحر ، وطلوع الصبح المنهي الليل المظلم أصفى وأجمل من كل شيء حيث يثير في الإنسان إلى النشاط ويجعله غارقا في النور الصفاء.

هذه الأقسام الثلاثة تتناسب ضمنيا مع نور الهداية (القرآن) واستدبار الظلمات (الشرك) وعبادة (الأصنام) وطلوع بياض الصباح (التوحيد) ، ثمّ ينتهي إلى تبيان ما أقسم من أجله فيقول تعالى :( إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) .(٢)

إنّ الضمير في (إنّها) إمّا يرجع إلى «سقر» ، وإمّا يرجع إلى الجنود ، أو إلى مجموعة الحوادث في يوم القيامة ، وأيّا كانت فإنّ عظمتها واضحة.

ثمّ يضيف تعالى :( نَذِيراً لِلْبَشَرِ ) .(٣)

لينذر الجميع ويحذرهم من العذاب الموحش الذي ينتظر الكفّار والمذنبين وأعداء الحق.

وفي النهاية يؤكّد مضيفا أنّ هذا العذاب لا يخص جماعة دون جماعة ، بل :( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) فهنيئا لمن يتقدم ، وتعسا وترحا لمن يتأخر.

واحتمل البعض كون التقدم إلى الجحيم والتأخر عنه ، وقيل هو تقدم النفس

__________________

(١) «أسفر» من مادة (سفر) على وزن (قفر) ويعني انجلاء الملابس وانكشاف الحجاب ، ولذا يقال للنساء المتبرجات (سافرات) وهذا التعبير يشمل تشبيها جميلا لطلوع الشمس.

(٢) «كبر» : جمع كبرى وهي كبيرة ، وقيل المراد بكون سقر إحدى الطبقات الكبيرة لجهنّم ، هذا المعنى لا يتفق مع ما أشرنا إليه من قبل وكذا مع الآيات.

(٣) «نذيرا» : حال للضمير في «أنّها» الذي يرجع إلى سقر ، وقيل هو تمييز ، ولكنه يصح فيما لو كان النذير مصدرا يأتي بمعنى (الإنذار) ، والمعنى الأوّل أوجه.

١٨١

الإنسانية وتكاملها أو تأخرها وانحطاطها ، والمعنى الأوّل والثّالث هما المناسبان ، دون الثّاني.

* * *

١٨٢

الآيات

( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) )

التّفسير

لم صرتم من أصحاب الجحيم؟

إكمالا للبحث الذي ورد حول النّار وأهلها في الآيات السابقة ، يضيف تعالى في هذه الآيات :( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) .

«رهينة» : من مادة (رهن) وهي وثيقة تعطى عادة مقابل القرض ، وكأن نفس الإنسان محبوسة حتى تؤدي وظائفها وتكاليفها ، فإن أدت ما عليها فكت وأطلقت ، وإلّا فهي باقية رهينة ومحبوسة دائما ، ونقل عن أهل اللغة أنّ أحد

١٨٣

معانيها الملازمة والمصاحبة(١) ، فيكون المعنى : الكلّ مقترنون بمعية أعمالهم سواء الصالحون أم المسيئون.

لذا يضيف مباشرة :( إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ ) .

إنّهم حطموا أغلال وسلاسل الحبس بشعاع الإيمان والعمل الصالح ويدخلون الجنّة بدون حساب.(٢)

وهناك أقوال كثيرة حول المقصود من أصحاب اليمين :

فقيل هم الذين يحملون كتبهم بيمينهم ، وقيل هم المؤمنون الذين لم يرتكبوا ذنبا أبدا ، وقيل هم الملائكة ، وقيل غير ذلك والمعنى الأوّل يطابق ظاهر الآيات القرآنية المختلفة ، وما له شواهد قرآنية ، فهم ذو وإيمان وعمل صالح ، وإذا كانت لهم ذنوب صغيرة فإنّها تمحى بالحسنات وذلك بحكم( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) (٣) .

فحينئذ تغطّي حسناتهم سيئاتهم أو يدخلون الجنّة بلا حساب ، وإذا وقفوا للحساب فسيخفف عليهم ذلك ويسهل ، كما جاء في سورة الإنشقاق آية (٧) :( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ) .

ونقل المفسّر المشهور «القرطبي» وهو من أهل السنة تفسير هذه الآية عن الإمام الباقرعليه‌السلام فقال : «نحن وشيعتنا أصحاب اليمين وكل من أبغضنا أهل البيت فهم مرتهنون».(٤)

وأورد هذا الحديث مفسّرون آخرون منهم صاحب مجمع البيان ونور

__________________

(١) لسان العرب مادة : رهن.

(٢) قال الشّيخ الطوسي في التبيان أن الاستثناء هنا هو منقطع وقال آخرون كصاحب (روح البيان) أنّه متصل ، وهذا الاختلاف يرتبط كما ذكرنا بالتفسيرات المختلفة لمعنى الرهينة ، وما يطابق ما اخترناه من التّفسير هو أن الاستثناء هنا منقطع وعلى التفسير الثّاني يكون متصلا.

(٣) سورة هود ، الآية ١١٤.

(٤) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٨٧٨.

١٨٤

الثقلين والبعض الآخر أورده تذييلا لهذه الآيات.

ثمّ يضيف مبيّنا جانبا من أصحاب اليمين والجماعة المقابلة لهم :

( فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ ) (١) ( عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) .

يستفاد من هذه الآيات أن الرابطة غير منقطعة بين أهل الجنان وأهل النّار ، فيمكنهم مشاهدة أحوال أهل النّار والتحدث معهم ، ولكن ماذا سيجيب المجرمون عن سؤال أصحاب اليمين؟ إنّهم يعترفون بأربع خطايا كبيرة كانوا قد ارتكبوها :

الاولى :( قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) .

لو كنّا مصلّين لذكّرتنا الصلاة بالله تعالى ، ونهتنا عن الفحشاء والمنكر ودعتنا إلى صراط الله المستقيم.

والأخرى :( وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ) .

وهذه الجملة وإن كانت تعطي معنى إطعام المحتاجين ، ولكن الظاهر أنه يراد بها المساعدة والإعانة الضرورية للمحتاجين عموما بما ترتفع بها حوائجهم كالمأكل والملبس والمسكن وغير ذلك.

وصرّح المفسّرون أنّ المراد بها الزكاة المفروضة ، لأنّ ترك الإنفاق المستحب لا يكون سببا في دخول النّار ، وهذه الآية تؤكّد مرّة أخرى على أنّ الزّكاة كانت قد فرضت بمكّة بصورة إجمالية ، وإن كان التشريع بجزئياتها وتعيين خصوصياتها وتمركزها في بيت المال كان في المدينة.

والثّالثة :( وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ) .

كنّا نؤيد ما يصدر ضدّ الحقّ في مجالس الباطل. نقوم بالترويج لها ، وكنّا معهم

__________________

(١) «يتساءلون» : وهو وإن كان من باب (تفاعل) الذي يأتي عادة في الأعمال المشتركة بين اثنين أو أكثر ، ولكنه فقد هذا المعنى هنا كما في بعض الموارد الأخرى ، ولمعنى يسألون ، وتنكير الجنات هو لتبيان عظمتها و (في جنات) خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هو في جنات.

١٨٥

أين ما كانوا ، وكيف ما كانوا ، وكنّا نصدق أقوالهم ، ونضفي الصحة على ما ينكرون ويكذبون ونلتذ باستهزائهم الحقّ.

«نخوض» : من مادة (خوض) على وزن (حوض) ، وتعني في الأصل الغور والحركة في الماء ، ويطلق على الدخول والتلوث بالأمور ، والقرآن غالبا ما يستعمل هذه اللفظة في الإشتغال بالباطل والغور فيه.

(الخوض في الباطل) له معان واسعة فهو يشمل الدخول في المجالس التي تتعرض فيها آيات الله للاستهزاء أو ما تروج فيها البدع ، أو المزاح الواقح ، أو التحدث عن المحارم المرتكبة بعنوان الافتخار والتلذذ بذكرها ، وكذلك المشاركة في مجالس الغيبة والاتهام واللهو واللعب وأمثال ذلك ، ولكن المعنى الذي انصرفت إليه الآية هو الخوض في مجالس الاستهزاء بالدين والمقدسات وتضعيفها وترويج الكفر والشرك.

وأخيرا يضيف :( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ) .

من الواضح أنّ إنكار المعاد ويوم الحساب والجزاء يزلزل جميع القيم الإلهية والأخلاقية ، ويشجع الإنسان على ارتكاب المحارم ، ويرفع كلّ مانع هذا الطريق ، خصوصا إذا استمر إلى آخر العمر ، على كل حال فإنّ ما يستفاد من هذه الآيات أنّ الكفار هم مكلّفون بفروع الدين ، كما هم مكلّفون بالأصول ، وكذلك تشير إلى أن الأركان الاربعة ، أي الصلاة والزّكاة وترك مجالس أهل الباطل ، والإيمان بالقيامة لها الأثر البالغ في تربية وهداية الإنسان ، وبهذا لا يمكن أن يكون الجحيم مكانا للمصلين الواقعيين ، والمؤتين الزّكاة ، والتاركين الباطل والمؤمنين بالقيامة.

بالطبع فإنّ الصلاة هي عبادة الله ، ولكنّها لا تنفع إذا لم يمتلك الإنسان الإيمان به تعالى ، ولهذا فإنّ أداءها رمز للإيمان والإعتقاد بالله والتسليم لأوامره ، ويمكن القول إنّ هذه الأمور الأربعة تبدأ بالتوحيد ينتهي بالمعاد ، وتحقق العلاقة والرابطة بين الإنسان والخالق ، وكذا بين المخلوقين أنفسهم.

١٨٦

والمشهور بين المفسّرين أنّ المراد من (اليقين) هنا هو الموت ، لأنّه يعتبر أمر يقيني للمؤمن والكافر ، وإذا شك الإنسان في شيء ما فلا يستطيع أن يشك بالموت ونقرأ أيضا في الآية (٩٩) من سورة الحجر :( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) .

ولكن ذهب البعض إلى أنّ اليقين هنا يعني المعرفة الحاصلة بعد موت الإنسان وهي التي تختص بمسائل البرزخ والقيامة ، وهذا ما يتفق نوعا ما مع التّفسير الأوّل.

وفي الآية الأخيرة محل البحث إشارة إلى العاقبة السيئة لهذه الجماعة فيقول تعالى :( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ) .

فلا تنفعهم شفاعة الأنبياء ورسل الله والائمّة ، ولا الملائكة والصديقين والشهداء والصالحين ، ولأنّها تحتاج إلى عوامل مساعدة وهؤلاء أبادوا كل هذه العوامل ، فالشفاعة كالماء الزلال الذي تسقى به النبتة الفتية ، وبديهي إذا ماتت النبتة الفتية ، لا يكن للماء الزلال أن يحييها ، وبعبارة أخرى كما قلنا في بحث الشفاعة ، فإنّ الشفاعة من (الشفع) وتعني ضم الشيء إلى آخر ، ومعنى هذا الحديث هو أنّ المشفّع له يكون قد قطع قسطا من الطريق وهو متأخر عن الركب في مآزق المسير ، فتضم إليه شفاعة الشافع لتعينه على قطع بقية الطريق(١) .

وهذه الآية تؤكّد مرّة أخرى مسألة الشفاعة وتنوع وتعدد الشفعاء عند الله ، وهي جواب قاطع لمن ينكر الشفاعة ، وكذلك توكّد على أنّ للشفاعة شروطا وأنّها لا تعني إعطاء الضوء الأخضر لارتكاب الذنوب ، بل هي عامل مساعد لتربية الإنسان وإيصاله على الأقل إلى مرحلة تكون له القابلية على التشفع ، بحيث لا تنقطع وشائج العلاقة بينه وبين الله تعالى والأولياء.

* * *

__________________

(١) التّفسير الأمثل ، المجلد الأوّل ، ذيل الآية (٤٨) من سورة البقرة.

١٨٧

ملاحظة :

شفعاء يوم القيامة :

نستفيد من هذه الآيات والآيات القرآنية الأخرى أنّ الشفعاء كثيرون في يوم القيامة (مع اختلاف دائرة شفاعتهم) ويستفاد من مجموع الرّوايات الكثيرة والمنقولة من الخاصّة والعامّة أنّ الشفعاء يشفعون للمذنبين لمن فيه مؤهلات الشفاعة :

١ ـ الشفيع الأوّل هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كما نقرأ في حديث حيث قال : «أنا أوّل شافع في الجنّة»(١) .

٢ ـ الأنبياء من شفعاء يوم القيامة ، كما ورد في حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «يشفع الأنبياء في كلّ من يشهد أن لا إله إلّا الله مخلصا فيخرجونهم منها»(٢) .

٣ ـ الملائكة من شفعاء يوم المحشر ، كما نقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «يؤذن للملائكة والنّبيين والشّهداء أن يشفعوا»(٣) .

٤ ، ٥ ـ الأئمّة المعصومين وشيعتهم كما قال في ذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث قال : «لنا شفاعة ولأهل مودتنا شفاعة»(٤)

٦ ، ٧ ـ العلماء والشّهداء كما ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «يشفع يوم القيامة الأنبياء ثمّ العلماء ثمّ الشّهداء»(٥) .

وورد في حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يشفع الشّهيد في سبعين إنسانا

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٢ ، ص ١٣٠.

(٢) مسند أحمد ، ج ٣ ، ص ١٢.

(٣) مسند أحمد ، ج ٥ ، ص ٤٣.

(٤) الخصال للصدوقرحمه‌الله ، ص ٦٢٤.

(٥) سنن ابن ماجة ، ج ٢ ، ص ١٤٤٣.

١٨٨

من أهل بيته»(١) .

وفي حديث آخر نقله المجلسي في بحار الأنوار : «إنّ شفاعتهم تقبل في سبعين ألف نفر»(٢) .

ولا منافاة بين الرّوايتين إذ أنّ عدد السبعين والسبعين ألف هي من أعداد الكثرة.

٨ ـ القرآن كذلك من الشفعاء في يوم القيامة كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «واعلموا أنّه (القرآن) شافع مشفع»(٣) .

٩ ـ من مات على الإسلام فقد ورد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا بلغ الرجل التسعين غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشفّع في أهله»(٤) .

١٠ ـ العبادة : كما جاء في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصّيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة»(٥) .

١١ ـ ورد في بعض الرّوايات أنّ العمل الصالح كأداء الأمانة يكون شافعا في يوم القيامة.(٦)

١٢ ـ والطريف هو ما يستفاد من بعض الرّوايات من أنّ الله تعالى أيضا يكون شافعا للمذنبين في يوم القيامة ، كما ورد في الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يشفع النّبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار بقيت شفاعتي»(٧) .

والرّوايات كثيرة في هذه الباب وما ذكرناه هو جانب منها.(٨)

__________________

(١) سنن أبي داود ، ج ٢ ، ص ١٥.

(٢) بحار الأنوار ، ج ١٠٠ ، ص ١٤.

(٣) نهج البلاغة الخطبة ، ١٧٦.

(٤) مسند أحمد ، ج ٢ ، ص ٨٩.

(٥) مسند أحمد ، ج ٢ ، ص ١٧٤.

(٦) مناقب ابن شهر آشوب ، ج ٢ ، ص ١٤.

(٧) صحيح البخاري ، ج ٩ ، ص ١٤٩.

(٨) للاستيضاح يمكن مراجعة كتاب مفاهيم القرآن ، ج ٤ ، ص ٢٨٨ ـ ٣١١.

١٨٩

ونكرر أنّ للشفاعة شروطا لا يمكن بدونها التشفع وهذا ما جاء في الآيات التي بحثناها والتي تشير بصراحة الى عدم تأثير شفاعة الشفعاء في المجرمين ، فالمهم أن تكون هناك قابلية للتشفع ، لأنّ فاعلية الفاعل لوحدها ليست كافية (أوردنا شرحا مفصلا في هذا الباب في المجلد الأوّل في بحث الشفاعة)

* * *

١٩٠

الآيات

( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣)كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦) )

التّفسير

يفرّون من الحق كما تفرّ الحمر من الأسد :

تتابع هذه الآيات ما ورد في الآيات السابقة من البحث حول مصير المجرمين وأهل النّار ، وتعكس أوضح تصوير في خوف هذه الجماعة المعاندة ورعبها من سماع حديث الحقّ والحقيقة.

فيقول الله تعالى أوّلا :( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) (١) لم يفرّون من دواء

__________________

(١) «ما» مبتدأ و (لهم) خبر و (معرضين) حال الضمير لهم (وعن التذكرة) جار ومجرور ومتعلق بالمعرضين ، وقيل تقديم (عن التذكرة) على (معرضين) دلالة على الحصر أي أنّهم أعرضوا عن التذكرة المفيدة فقط ، على كل حال فإنّ المراد من التذكرة هنا كلّ ما هو نافع ومفيد وعلى رأسها القرآن المجيد.

١٩١

القرآن الشافي؟ لم يطعنون في صدر الطبيب الحريص عليهم؟ حقّا إنّه مثير( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) .

«حمر» : جمع (حمار) والمراد هنا الحمار الوحشي ، بقرينة فرارهم من قبضة الأسد والصياد ، وبعبارة أخرى أنّ هذه الكلمة ذات مفهوم عام يشمل الحمار الوحشي والأهلي.

«قسورة» : من مادة (قسر) أي القهر والغلبة ، وهي أحد أسماء الأسد ، وقيل هو السهم ، وقيل الصيد ، ولكن المعنى الأوّل أنسب.

والمشهور أنّ الحمار الوحشي يخاف جدّا من الأسد ، حتى أنّه عند ما يسمع صوته يستولي عليه الرعب فيركض إلى كلّ الجهات كالمجنون ، خصوصا إذا ما حمل الأسد على فصيل منها ، فإنّها تتفرق في كل الجهات بحيث يعجب الناظر من رؤيتها.

وهذا الحيوان وحشي ويخاف من كل شيء ، فكيف به إذا رأى الأسد المفترس؟!

على كل حال فإنّ هذه الآية تعبير بالغ عن خوف المشركين وفرارهم من الآيات القرآنية المربية للروح ، فشبههم بالحمار الوحشي لأنّهم عديمو العقل والشعور ، وكذلك لتوحشّهم من كل شيء ، في حين أنّه ليس مقابلهم سوى التذكرة.

( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) (١) ، وذلك لتكبّرهم وغرورهم الفارغ بحيث يتوقعون من الله تعالى أن ينزل على كلّ واحد منهم كتابا.

وهذا نظير ما جاء في الآية (٩٣) من سورة الإسراء :( وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى

__________________

(١) «صحف» : جمع صحيفة ، وهي الورقة التي لها وجهان ، وتطلق كذلك على الرسالة والكتاب.

١٩٢

تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) .

وكذا في الآية (١٢٤) من سورة الأنعام حيث يقول :( قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) .

وعلى هذا فإنّ كلّا منهم يتنظر أن يكون نبيّا من اولي العزم! وينزل عليه كتابا خاصّا من الله بأسمائهم ، ومع كل هذا فليس هناك من ضمان في أن يؤمنوا بعد كل ذلك.

وجاء في بعض الرّوايات أنّ أبا جهل وجماعة من قريش قالوا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا نؤمن بك حتى تأتينا بصحف من السماء عليها فلان ابن فلان من ربّ العالمين ، ويأتي الأمر علنا باتباعك والإيمان بك.(١)

ولذا يضيف في الآية الأخرى :( كَلَّا ) ليس كما يقولون ويزعمون ، فإنّ طلب نزول مثل لهذا الكتاب وغيره هي من الحجج الواهية ، والحقيقة( بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) .

إذا كانوا يخافون الآخرة فما كانوا يتذرعون بكل هذه الذرائع ، ما كانوا ليكذبوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما كانوا ليستهزئوا بآيات الله تعالى ، ولا بعدد ملائكته ، ومن هنا يتّضح أثر الإيمان بالمعاد في التقوى والطهارة من المعاصي والذنوب الكبيرة ، والحقّ يقال إن الإيمان بعالم البعث والجزاء وعذاب القيامة يهب للإنسان شخصية جديدة يمكنه أن يغير إنسانا متكبرا ومغرورا وظالما إلى إنسان مؤمن متواضع ومتق عادل.

ثمّ يؤكّد القرآن على أنّ ما يفكرون به فيما يخصّ القرآن هو تفكّر خاطئ :( كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) .

إنّ القرآن الكريم قد أوضح الطريق ، ودعانا إلى التبصر فيه ، وأنار لنا السبيل

__________________

(١) تفسير القرطبي ، والمراغي ، وتفاسير اخرى.

١٩٣

ليرى الإنسان موضع أقدامه ، وفي الوقت نفسه لا يمكن ذلك إلّا بتوفيق من الله وبمشيئته تعالى ، وما يذكرون إلّا ما يشاء الله.

ولهذا الآية عدّة تفاسير :

إحداها : كما ذكرناه سابقا ، وهو أن الإنسان لا يمكنه الحصول على طريق الهداية إلّا بالتوسل بالله تعالى وطلب الموفقية منه.

وطبيعي أن هذا الإمداد والتوفيق الإلهي لا يتمّ إلّا بوجود أرضية مساعدة لنزوله.

والتّفسير الآخر : ما جاء في الآية السابقة :( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) يمكن أن يوجد وهما وأنّ كل شيء مرتبط بإرادة الإنسان نفسه ، وأنّ إرادته مستقلة في كل الأحوال ، وتقول هذه الآية رافعة بذلك هذا الاشتباه ، إنّ الإنسان مرتبط بالمشيئة الإلهية ، وإن هذه الآية مختارا حرّا وهذه المشيئة هي الحاكمة على كل هذا العالم الموجود ، وبعبارة اخرى : إنّ هذا الاختبار والحرية والمعطاة للإنسان في بمشيئته تعالى وإرادته ، ويمكن سلبها أنّى شاء.

وأمّا التّفسير الثّالث فإنّه يقول : إنّهم لا يمكنهم الإيمان إلّا أن يشاء الله ذلك ويجبرهم ، ونعلم أنّ الله لا يجبر أحدا على الإيمان أو الكفر ، والتّفسير الأوّل والثّاني أنسب وأفضل.

وفي النهاية يقول :( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) .

فهو أهل لأن يخافوا من عقابه وأن يتقوا في اتّخاذهم شريكا له تعالى شأنه ، وأن يأملوا مغفرته ، وفي الحقيقة ، أنّ هذه الآية إشارة إلى الخوف والرجاء والعذاب والمغفرة الإلهية ، وهي تعليل لما جاء في الآية السابقة ، لذا نقرأ

في حديث ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «قال الله : أنا أهل

١٩٤

أن اتقى ولا يشرك بي عبدي شيئا وأنا أهل إن لم يشرك بي شيئا أن ادخله الجنّة»(١) .

وبالرغم من أنّ المفسّرين ـ كما رأينا ـ قد أخذوا التقوى هنا بمعناها المفعولي ، وقالوا إنّ الله تعالى أهل لأن يتّقى من الشرك والمعصية ، ولكن هناك احتمالا آخر ، وهو أنّ تؤخذ بمعناها الفاعلي ، أي أن الله أهل للتقوى من كلّ أنواع الظلم والقبح ومن كل ما يخاف الحكمة ، وما عند العباد من التقوى هو قبس ضعيف من ما عند الله ، وإنّ كان التعبير بالتقوى بمعناه الفاعلي والذي يقصد به الله تعالى قليل الاستعمال ، على كل حال فإنّ الآية قد بدأت بالإنذار والتكليف ، وانتهت بالدعوة إلى التقوى والوعد بالمغفرة.

ونتعرض هنا بالدعاء إليه خاضعين متضرعين تعالى :

ربّنا! اجعلنا من أهل التقوى والمغفرة.

اللهم! إن لم تشملنا ألطافك فإنّنا لا نصل إلى مرادنا ، فامنن علينا بعنايتك.

اللهم! أعنّا على طريق مليء بالمنعطفات والهموم والمصائد الشيطانية الصعبة ، وأعنا على الشيطان المتهيئ لإغوائنا ، فبغير عونك لا يمكننا المسير في هذا الطريق.

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة المدّثّر

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٥.

١٩٥
١٩٦

سورة

القيامة

مكيّة

وعدد آياتها أربعون آية

١٩٧
١٩٨

«سورة القيامة»

محتوى السورة :

كما هو واضح من اسم السورة فإنّ مباحثها تدور حول مسائل ترتبط بالمعاد ويوم القيامة إلّا بعض الآيات التي تتحدث حول القرآن والمكذبين ، وأمّا الآيات المرتبطة بيوم القيامة فإنّها تجتمع في أربعة محاور :

١ ـ المسائل المرتبطة بأشراط الساعة.

٢ ـ المسائل المتعلقة بأحوال الصالحين والطالحين في ذلك اليوم.

٣ ـ المسائل المتعلقة باللحظات العسيرة للموت والانتقال إلى العالم الآخر.

٤ ـ الأبحاث المتعلقة بالهدف من خلق الإنسان ورابطة ذلك بمسألة المعاد.

فضيلة السورة :

في حديث روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة القيامة شهدت أنا وجبرائيل له يوم القيامة أنّه كا مؤمنا بيوم القيامة ، وجاء ووجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة»(١) .

ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام قال : «من أدمن قراءة( لا أُقْسِمُ ) وكان يعمل بها ، بعثها الله يوم القيامة معه في قبره ، في أحسن صورة

__________________

(١) مجمع البيان ، ١٠ ـ ، ص ٣٩٣.

١٩٩

تبشّره وتضحك في وجهه ، حتى يجوز الصراط والميزان»(١) .

والجدير بالملاحظة أنّ ما كنّا نستفيد منه في القرائن التي في فضائل تلاوة السور القرآنية قد صرّح بها الإمام هنا في هذه الرّواية حيث يقول : «من أدمن قراءة لا اقسم وكان يعمل بها» ولذا فإنّ كل ذلك هو مقدمة لتطبيق المضمون.

* * *

__________________

(١) المصدر السّابق.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361