الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء ١

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية15%

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 361

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 361 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 214099 / تحميل: 8508
الحجم الحجم الحجم
الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وأمّا التحيّة التي لم يحيّ بها الله ، ولم يكن قد سمح بها هي جملة : (أسام عليك).

ويحتمل أيضا أن تكون التحية المقصودة بالآية الكريمة هي تحيّة الجاهلية حيث كانوا يقولون : (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وذلك بدون أن يتوجّهوا بكلامهم إلى الله سبحانه ويطلبون منه السلامة والخير للطرف الآخر.

هذا الأمر مع أنّه كان سائدا في الجاهلية ، إلّا أنّ تحريمه غير ثابت ، وتفسير الآية أعلاه له بعيد.

ثمّ يضيف تعالى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا مثل هذه الذنوب العظيمة فقط بل كانوا مغرورين متعالين وكأنّهم سكارى فيقولعزوجل :( وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ ) وبهذه الصورة فإنّهم قد أثبتوا عدم إيمانهم بنبوّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك عدم إيمانهم بالإحاطة العلمية لله سبحانه.

وبجملة قصيرة يرد عليهم القرآن الكريم :( حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

والطبيعي أنّ هذا الكلام لا ينفي عذابهم الدنيوي ، بل يؤكّد القرآن على أنّه لو لم يكن لهؤلاء سوى عذاب جهنّم ، فإنّه سيكفيهم وسيرون جزاء كلّ أعمالهم دفعة واحدة في نار جهنّم.

ولأنّ النجوى قد تكون بين المؤمنين أحيانا وذلك للضرورة أو لبعض الميول ، لذا فإنّ الآية اللاحقة تخاطب المؤمنين ستكون مناجاتهم في مأمن من التلوّث بذنوب اليهود والمنافقين حيث يقول البارئعزوجل :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ، وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

يستفاد من هذا التعبير ـ بصورة واضحة ـ أنّ النجوى إذا كانت بين المؤمنين فيجب أن تكون بعيدة عن السوء وما يثير قلق الآخرين ، ولا بدّ أن يكون مسارها

١٢١

التواصي بالخير والحسنى ، وبهذه الصورة فلا مانع منها.

ولكن كلّما كانت النجوى بين أشخاص كاليهود والمنافقين الذين يهدفون إلى إيذاء المؤمنين ، فنفس هذا العمل حرام وقبيح ، فكيف الحال إذا كانت نجواهم شيطانية وتآمرية ، ولذلك فإنّ القرآن يحذّر منها أشدّ تحذير في آخر آية مورد للبحث ، حيث يقول تعالى :( إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ولكن يجب أن يعلموا أنّ الشيطان لا يستطيع إلحاق الضرر بأحد إلّا أن يأذن الله بذلك( وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) .

ذلك لأنّ كلّ مؤثّر في عالم الوجود يكون تأثيره بأمر الله حتّى إحراق النار وقطع السيف.

( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) إذ أنّهم ـ بالروح التوكّلية على الله ، وبالاعتماد عليه سبحانه ـ يستطيعون أن ينتصروا على جميع هذه المشاكل ، ويفسدوا خطط أتباع الشيطان ، ويفشلوا مؤامراته.

* * *

بحثان

١ ـ أنواع النجوى

لهذا العمل من الوجهة الفقهيّة الإسلامية أحكام مختلفة حسب اختلاف الظروف ، ويصنّف إلى خمسة حالات تبعا لطبيعة الأحكام الإسلامية في ذلك.

فتارة يكون هذا العمل «حراما» وفيما لو أدّى إلى أذى الآخرين أو هتك حرمتهم ـ كما أشير له في الآيات أعلاه ـ كالنجوى الشيطانية حيث هدفها إيذاء المؤمنين.

وقد تكون النجوى أحيانا (واجبة) وذلك في الموضوعات الواجبة السرّية ، حيث أنّ إفشاءها مضرّ ويسبّب الخطر والأذى ، وفي مثل هذه الحالة فإنّ عدم

١٢٢

العمل بالنجوى يستدعي إضاعة الحقوق وإلحاق خطر بالإسلام والمسلمين.

وتتصف النجوى في صورة اخرى بالاستحباب ، وذلك في الأوقات التي يتصدّى فيها الإنسان لأعمال الخير والبرّ والإحسان ، ولا يرغب بالإعلان عنها وإشاعتها وهكذا حكم الكراهة والإباحة.

وأساسا ، فإنّ كلّ حالة لا يوجد فيها هدف مهمّ فالنجوى عمل غير محمود ، ومخالف لآداب المجالس ، ويعتبر نوعا من اللامبالاة وعدم الاكتراث بالآخرين.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه»(١) .

كما نقرأ في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه قال : كنّا نتناوب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطرقه أمر أو يأمر بشيء فكثر أهل الثوب المحتسبون ليلة حتّى إذا كنّا نتحدّث فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الليل فقال : ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى»(٢) .

ويستفاد من روايات أخرى أنّ الشيطان ـ لإيذاء المؤمنين ـ يستخدم كلّ وسيلة ليس في موضوع النجوى فقط ، بل أحيانا في عالم النوم حيث يصوّر لهم مشاهد مؤلمة توجب الحزن والغمّ ، ولا بدّ للإنسان المؤمن في مثل هذه الحالات أن يلتجئ إلى الله ويتوكّل عليه ، ويبعد عن نفسه هذه الوساوس الشيطانية(٣) .

٢ ـ كيف تكون التحيّة الإلهيّة؟

من المتعارف عليه اجتماعيا في حالة الدخول إلى المجالس تبادل العبارات

__________________

(١) تفسير مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، والدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤ واصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٨٣ (باب المناجاة) حديث ١ ، ٢.

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤.

(٣) للاطلاع الأكثر على هذه الروايات يراجع تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، حديث ٣١ ، ٣٢.

١٢٣

التي تعبّر عن الودّ والاحترام بين الحاضرين ـ كلّ منهم للآخر ـ ويسمّى هذا بالتحيّة ، إلّا أنّ المستفاد من الآيات أعلاه أن يكون للتحيّة محتوى إلهي ، كما في بقيّة القواعد الخاصّة بآداب المعاشرة.

ففي التحيّة بالإضافة إلى الاحترام والإكرام لا بدّ أن تقرن بذكر الله في حالة اللقاء ، كما في (السّلام) الذي تطلب فيه من الله السلامة للطرف الآخر.

وقد ورد في تفسير علي بن إبراهيم ـ في نهاية الآيات مورد البحث ـ أنّ مجموعة من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما كانوا يقدمون عليه يحيّونه بقولهم (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وهذه تحية أهل الجاهلية فأنزل الله :( وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ ) فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد أبدلنا الله بخير تحيّة أهل الجنّة السّلام عليكم»(١) .

كما أنّ من خصوصيات السّلام في الإسلام أن يكون مقترنا بذكر الله تعالى ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ففي السّلام سلامة كلّ شيء أعمّ من الدين والإيمان والجسم والروح وليس منحصرا بالراحة والرفاه والهدوء(٢) .

(وحول حكم التحية والسّلام وآدابها كان لدينا بحث مفصّل في نهاية الآية (٨٦) في سورة النساء).

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، حديث ٣٠.

(٢) في كتاب «بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب» جاء بحث مفصّل حول تحيّة العرب في الجاهلية وتفسير عبارة (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) ، ج ٢ ، ص ١٩٢.

١٢٤

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ، والآلوسي في روح المعاني ، وجمع آخر من المفسّرين ، أنّ هذه الآية نزلت يوم الجمعة وكان رسول الله يومئذ في (الصفّة) وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر.

قد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول الله فقالوا : السّلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته. فردّ النبي عليهم ، ثمّ سلّموا على القوم بعد ذلك فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينظرون أن يوسّع لهم ، فعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يحملهم على القيام ، فشقّ ذلك على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر! قم يا فلان ، قم يا فلان ، فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام بين

١٢٥

يديه من المهاجرين والأنصار ـ أهل بدر ـ فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكراهة في وجوههم ، فقال المنافقون : ألستم تزعمون أنّ صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء! إنّ قوما أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه فبلغنا أنّ رسول الله قال : «رحم الله رجلا يفسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا ، فيفسح القوم لإخوانهم ونزلت هذه الآية(١) .

التفسير

احترام أهل السابقة والإيمان :

تعقيبا على الموضوع الذي جاء في الرّوايات السابقة حول ترك (النجوى) في المجالس ، يتحدّث القرآن عن أدب آخر من آداب المجالس حيث يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا ) (٢) ( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) .

«تفسّحوا» من مادّة (فسح) على وزن قفل بمعنى المكان الواسع ، وبناء على هذا ، فإنّ التفسّح بمعنى التوسّع ، وهذه واحدة من آداب المجالس ، فحين يدخل شخص إلى المجلس فإنّ المرجو من الحاضرين أن يجلسوا بصورة يفسحوا بها مجالا له ، كي لا يبقى في حيرة وخجل ، وهذا الأدب أحد عوامل تقوية أواصر المحبّة والودّ على عكس النجوى التي أشير إليها في الآيات السابقة ، والتي هي أحد عوامل التفرقة والشحناء ، وإثارة الحساسيات والعداوة.

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٥. ومجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، ونقل مفسّرون آخرون نفس النصّ باختلاف قليل كالفخر الرازي والقرطبي والسيوطي في الدرّ المنثور وفي ظلال القرآن أيضا في نهاية الآية مورد البحث.

(٢) إنّ اختلاف التعبيرين ـ تفسّحوا وافسحوا ـ عن الآخر وهو أنّ أحدهما من تفعّل ، والآخر من الثلاثي المجرّد ، ويمكن أن يكون الفرق أنّ الأوّل له صفة التكلّف ، والآخر خال من هذه الصفة ، يعني كما لو قال قائل : افسحوا للشخص الذي يقدم توّا ، فإنّ الجالسين بدون أن يشعروا بالتكلّف يتفسّحون ، (يرجى ملاحظة ذلك).

١٢٦

والشيء الملاحظ أنّ القرآن الكريم ، الذي هو بمثابة دستور لجميع المسلمين لم يهمل حتّى هذه المسائل الجزئية الأخلاقية في الحياة الاجتماعية للمسلمين ، بل أشار إليها بما يناسبها ضمن التعليمات الأساسية ، حتّى لا يظنّ المسلمون أنّه يكفيهم الالتزام بالمبادئ الكليّة.

جملة( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) فسّرها بعض المفسّرين بتوسّع المجالس في الجنّة ، وهو ثواب يعطيه الله تعالى للأشخاص الذين يراعون هذه الآداب في عالم الدنيا ، ويلتزمون بها ، وبلحاظ كون الآية مطلقة وليس فيها قيد أو شرط فإنّ لها مفهوما واسعا ، وتشمل كلّ سعة إلهيّة ، سواء كانت في الجنّة أو في الدنيا أو في الروح والفكر أو في العمر والحياة ، أو في المال والرزق ، ولا عجب من فضل الله تعالى أن يجازي على هذا العمل الصغير بمثل هذا الأجر الكبير ، لأنّ الأجر بقدر كرمه ولطفه لا بقدر أعمالنا.

وبما أنّ المجالس تكون مزدحمة أحيانا بحيث أنّه يتعذّر الدخول إلى المجلس في حالة عدم التفسّح أو القيام ، وإذا وجد مكان فإنّه غير متناسب مع مقام القادمين واستمرارا لهذا البحث يقول تعالى :( وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا ) (١) أي إذا قيل لكم قوموا فقوموا.

ولا ينبغي أن تضجروا أو تسأموا من الوقوف ، لأنّ القادمين أحيانا يكونون أحوج إلى الجلوس من الجالسين في المجلس ، وذلك لشدّة التعب أو الكهولة أو للاحترام الخاصّ لهم ، وأسباب اخرى.

وهنا يجب أن يؤثّر الحاضرون على أنفسهم ويتقيّدوا بهذا الأدب الإسلامي ، كما مرّ بنا في سبب نزول الآية ، حيث كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر المجموعة التي

__________________

(١) «انشزوا» من مادّة (نشز) على وزن (نصر) مأخوذة من معنى الأرض العالية ، لذلك استعمل بمعنى القيام ، و «المرأة الناشزة» تطلق على كلّ من تعتبر نفسها أعلى من أن تطيع أمر زوجها ، واستعمل هذا المصطلح أحيانا بمعنى الإحياء ، لأنّ هذا الأمر سبب للقيام من القبور.

١٢٧

كانت جالسة بالقرب منه بالتفسّح للقادمين الجدد لأنّهم كانوا من مجاهدي بدر ، وأفضل من الآخرين من ناحية العلم والفضيلة.

كما فسّر بعض المفسّرين (انشزوا) بمعناها المطلق وبمفهوم أوسع ، حيث تشمل أيضا القيام للجهاد والصلاة وأعمال الخير الاخرى ، إلّا أنّه من خلال التمعن والتدقيق في الجملة السابقة لها والتي فيها قيد «في المجالس» ، فالظاهر أنّ هذه الآية مقيّدة بهذا القيد ، فيمتنع إطلاقها بسبب وجود القرينة.

ثمّ يتطرّق سبحانه إلى الجزاء والأجر الذي يكون من نصيب المؤمنين إذا التزموا بالأمر الإلهي ، حيث يقولعزوجل :( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) (١) .

وذلك إشارة إلى أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمر البعض بالقيام وإعطاء أماكنهم للقادمين ، فإنّه لهدف إلهي مقدّس ، واحتراما للسابقين في العلم والإيمان.

والتعبير بـ (درجات) بصورة نكرة وبصيغة الجمع ، إشارة إلى الدرجات العظيمة والعالية التي يعطيها الله لمثل هؤلاء الأشخاص ، الذين يتميّزون بالعمل والإيمان معا ، أو في الحقيقة أنّ الأشخاص الذين يتفسّحون للقادمين لهم درجة ، وأولئك الذين يؤثرون ويعطون أماكنهم ويتّصفون بالعلم والتقوى لهم درجات أعلى.

وبما أنّ البعض يؤدّي هذه التعليمات ويلتزم بهذه الآداب عن طيب نفس ورغبة ، والآخرون يؤدّونها عن كراهية أو للرياء. والتظاهر فيضيف تعالى في نهاية الآية :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) .

* * *

__________________

(١) «يرفع» في الآية أعلاه مجزومة بسبب صيغة الأمر التي جاءت قبلها ، والتي في الحقيقة تعطي مفهوم الشرط ، ويرفع بمنزلة جزاء هذا الشرط.

١٢٨

بحثان

١ ـ مقام العلماء

بالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد خاصّ ، إلّا أنّ لها مفهوما عامّا ، وبملاحظة أنّ ما يرفع مقام الإنسان عند الله شيئان : الإيمان ، والعلم. وبالرغم من أنّ «الشهيد» في الإسلام يتمتع بمقام سام جدّا ، إلّا أنّنا نقرأ حديثا للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن لنا فيه مقام أهل العلم حيث قال : «فضل العالم على الشهيد درجة ، وفضل الشهيد على العابد درجة وفضل العالم على سائر الناس ، كفضلي ، على أدناهم»(١) .

وعن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام نقرأ الحديث التالي : «من جاءته منيّته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة»(٢) .

ومعلوم أنّ الليالي المقمرة لها بهاء ونضرة ، خصوصا ليلة الرابع عشر من الشهر ، حيث يكتمل البدر ويزداد ضوؤه بحيث يؤثّر على ضوء النجوم هذا المعنى الظريف ورد في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»(٣) .

والطريف هنا أنّ العابد ينجز عبادته التي هي الهدف من خلق الإنسان ، ولكن بما أنّ روح العبادة هي المعرفة ، لذا فإنّ العالم مفضّل عليه بدرجات.

وما جاء حول أفضلية العالم على العابد في الروايات أعلاه يقصد منه بيان الفرق الكبير بين هذين الصنفين ، لذا ورد في حديث آخر حول الاختلاف بينهما بدلا من درجة واحدة مائة درجة ، والمسافة بين درجة واخرى بمقدار عدو الخيل في سبعين سنة(٤) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٣.

(٢) المصدر السابق.

(٣) جوامع الجامع ، مطابق لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦٤ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٤) المصدر السابق.

١٢٩

وواضح أيضا أنّ مقام الشفاعة لا يكون لأي شخص في يوم القيامة ، بل هي مقام المقرّبين في الحضرة الإلهية ، ولكن نقرأ في حديث للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثمّ العلماء ، ثمّ الشهداء»(١) .

وفي الحقيقة أنّ الموفّقية في طريق التكامل وجلب رضا الله والقرب منه مرهون بعاملين أساسين هما : الإيمان والعلم ، أو الوعي والتقوى وكلّ منهما ملازم للآخر ، ولا تتحقّق الهداية بأحدهما دون الآخر.

٢ ـ آداب المجلس في القرآن الكريم

أشار القرآن الكريم مرّات عديدة إلى الآداب الإسلامية في المجالس ضمن المسائل الأساسية ، ومنها آداب التحيّة ، والدخول إلى المجلس ، وآداب الدعوة إلى الطعام. وآداب التكلّم مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآداب التفسّح للأشخاص القادمين ، خصوصا ذوي الفضيلة والسابقين في العلم والإيمان(٢) .

وهذا يرينا بوضوح أنّ القرآن الكريم يرى لكلّ موضوع في محلّه أهميّة وقيمة خاصّة ، ولا يسمح لتساهل الأفراد وعدم اهتمامهم أن تؤدّي إلى الإخلال بالآداب الإنسانية للمعاشرة.

وقد نقلت في كتب الحديث مئات الروايات عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الأطهارعليهم‌السلام حول آداب المعاشرة مع الآخرين. جمعها المحدّث الكبير الشيخ الحرّ العاملي في كتابه وسائل الشيعة ، ج ٨ ، حيث رتّبها في ١٦٦ بابا.

وملاحظة الجزئيّات الموجودة في هذه الروايات ترشدنا إلى مبلغ اهتمام الإسلام بالآداب الاجتماعية. حيث تتناول هذه الروايات حتّى طريقة الجلوس ،

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٦ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٢) جاءت هذه التعليمات من خلال التسلسل في الآيات التالية : آداب التحيّة والسّلام. النساء / ٨٦ ، آداب الدعوة إلى الطعام. الأحزاب / ٥٣ ، آداب التكلّم مع الرّسول. الحجرات / ٢ ، وآداب التفسّح. في الآيات مورد البحث.

١٣٠

وطريقة التكلّم والابتسامة والمزاح والإطعام ، وطريقة كتابة الرسائل ، بل حتّى طريقة النظر إلى الآخرين ، وقد حدّدت التعليمات المناسبة لكلّ منها ، والحديث المفصّل عن هذه الروايات يخرجنا عن البحث التّفسيري ، إلّا أنّنا نكتفي بحديث واحد عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يقول : «ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس ، والاستغناء عنهم ، فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن سيرتك ، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزّك»(١) .

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٤٠١.

١٣١

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان وكذلك جمع آخر من المفسّرين أنّ هذه الآية أنزلت في الأغنياء ، وذلك أنّهم كانوا يأتون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكثرون مناجاته ـ وهذا العمل بالإضافة إلى أنّه يشغل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويأخذ من وقته فإنّه كان يسبّب عدم ارتياح المستضعفين منه ، وحيث يشعرهم بامتياز الأغنياء عليهم ـ فأمر سبحانه بـ (الصدقة) عند المناجاة ، فلمّا رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته ، فنزلت آية الرخصة التي لامت الأغنياء ونسخت حكم الآية الاولى وسمح للجميع بالمناجاة ،

١٣٢

حيث أنّ النجوى هنا حول عمل الخير وطاعة المعبود(١) .

وصرّح بعض المفسّرين أيضا أنّ هدف البعض من «النجوى» هو الاستعلاء على الآخرين بهذا الأسلوب. وبالرغم من أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان غير مرتاح لهذا الأسلوب ، إلّا أنّه لم يمنع منه ، حتّى نهاهم القرآن من ذلك(٢) .

التّفسير

الصدقة قبل النجوى (اختبار رائع):

في قسم من الآيات السابقة كان البحث حول موضوع النجوى ، وفي الآيات مورد البحث استمرارا وتكملة لهذا المطلب.

يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) وكما ذكرنا في سبب نزول هذه الآيات ، فإنّ بعض الناس وخاصّة الأغنياء منهم كانوا يزاحمون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باستمرار ويتناجون معه ولمّا كان هذا العمل يسبّب إزعاجا للرسول بالإضافة إلى كونه هدرا لوقته الثمين ، وفيه ما يشعر بالخصوصية لهؤلاء الذين يناجونه بدون مبرّر لذا نزل الحكم أعلاه ، وكان امتحانا لهم ، ومساعدة للفقراء ، ووسيلة مؤثّرة للحدّ من مضايقة هؤلاء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ يضيف بقوله تعالى :( ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) .

أمّا كون الصدقة «خير» فإنّها كانت للأغنياء موضع أجر وللفقراء مورد مساعدة ، وأمّا كونها (أطهر) فلأنّها تغسل قلوب الأغنياء من حبّ المال ، وقلوب الفقراء من الغلّ والحقد ، لأنّه عند ما تكون النجوى مقرونة بالصدقة تكون دائرتها أضيق ممّا كانت عليه في الحالة المجانية ، وبالتالي فإنّها نوع من التصحيح

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، وكثير من التفاسير الأخرى نهاية الآيات مورد البحث.

(٢) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٧.

١٣٣

والتهذيب الفكري والاجتماعي للمسلمين.

ولكن لو كان التصدّق قبل النجوى واجبا على الجميع ، فإنّ الفقراء عندئذ سيحرمون من طرح المسائل المهمّة كاحتياجاتهم ومشاكلهم أمام الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلذا جاء في ذيل الآية إسقاط هذا الحكم عن المجموعة المستضعفة ممّا مكّنهم من مناجاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتحدّث معه( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وبهذه الصورة فإنّ دفع الصدقة قبل النجوى كان واجبا على الأغنياء دون غيرهم.

والطريف هنا أنّ للحكم أعلاه تأثيرا عجيبا وامتحانا رائعا أفرزه على صعيد الواقع من قبل المسلمين في ذلك الوقت ، حيث امتنع الجميع من إعطاء الصدقة إلّا شخص واحد ، ذلك هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهنا اتّضح ما كان يجب أن يتّضح ، وأخذ المسلمون درسا في ذلك ، لذا نزلت الآية اللاحقة ونسخت الحكم حيث يقول سبحانه :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) .

حيث اتّضح أنّ حبّ المال كان في قلوبكم أحبّ من نجواكم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّضح أيضا أنّ هذه النجوى لم تكن تطرح فيها مسائل أساسية ، وإلّا فما المانع من أن تقدّم هذه المجموعة صدقة قبل النجوى ، خاصّة أنّ الآية لم تحدّد مقدار الصدقة فبإمكانهم دفع مبلغ زهيد من المال لحلّ هذه المشكلة!!

ثمّ يضيف تعالى :( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

ويعكس لنا التعبير بـ (التوبة) أنّهم في نجواهم السابقة كانوا قد ارتكبوا ذنوبا ، سواء في التظاهر والرياء ، أو أذى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أذى المؤمنين الفقراء.

وبالرغم من عدم التصريح بجواز النجوى في هذه الآية بعد هذا الحادث ، إلّا أنّ تعبير الآية يوضّح لنا أنّ الحكم السابق قد رفع.

أمّا الدعوة لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله فقد أكّد عليها

١٣٤

بسبب أهميّتها ، وكذلك هي إشارة إلى أنّه إذا تناجيتم فيما بعد فيجب أن تكون في خدمة الأهداف الإسلامية الكبرى وفي طريق طاعة الله ورسوله.

* * *

بحوث

١ ـ الملتزم الوحيد بآية الصدقة قبل النجوى

إنّ الشخص الوحيد الذي نفّذ آية الصدقة في النجوى ـ كما في أغلب كتب مفسّري الشيعة وأهل السنّة ـ وعمل بهذه الآية هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما ينقل ذلك الطبرسي في رواية عنهعليه‌السلام أنّه قال : «آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبل ولم يعمل بها أحد بعدي ، كان لي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا جئت إلى النبي تصدّقت بدرهم»(١) .

كما نقل هذا المضمون «الشوكاني» عن «عبد الرّزاق» و «ابن المنذر» و «ابن أبي حاتم» و «ابن مردويه»(٢) .

ونقل «الفخر الرازي» هذا الحديث أيضا عن بعض المحدّثين عن ابن عبّاس والعامل الوحيد بمضمون الآية هو الإمام عليعليه‌السلام (٣) .

وجاءت في الدرّ المنثور ـ أيضا ـ روايات متعدّدة بهذا الصدد ، في نهاية تفسير الآيات أعلاه(٤) .

وفي تفسير روح البيان نقل عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنّه قال : «كان لعلي ثلاثة! لو كانت فيّ واحدة منهنّ لكانت أحبّ إليّ من حمر النعم : تزويجه

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ٢٨ ، ص ١٥.

(٢) (البيان في تفسير القرآن) ، ج ١ ، ص ٣٧٥ ، ونقل سيّد قطب أيضا هذه الرواية في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ٢١.

(٣) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٧١.

(٤) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٥.

١٣٥

فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى»(١) .

إنّ ثبوت هذه الفضيلة العظيمة للإمام عليعليه‌السلام قد جاء في أغلب كتب التّفسير ، وهي مشهورة بحيث لا حاجة لشرحها أكثر.

٢ ـ فلسفة تشريع ونسخ حكم الصدقة

لما ذا كانت الصدقة قبل النجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشريعية؟ ثمّ لما ذا نسخت بعد فترة وجيزة؟

يمكن الإجابة على هذا التساؤل ـ بصورة جيّدة ـ من خلال القرائن الموجودة في الآية محلّ البحث ومن سبب النزول كذلك.

الهدف هو اختبار الأفراد المدّعين الذين يتظاهرون بحبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الوسيلة ، فاتّضح أنّ إظهار الحبّ هذا إنّما يكون إذا كانت النجوى مجانية ، ولكن عند ما أصبحت النجوى مقترنة بدفع مقدار من المال تركوا نجواهم.

ومضافا إلى ذلك فإنّ هذا الحكم قد ترك تأثيره على المسلمين ، ووضّح حقيقة عدم إشغال وقت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك القادة الإسلاميين الكبار في النجوى ، إلّا لضرورات العمل الأساسية ، لأنّ ذلك تضييعا للوقت وجلبا لسخط الناس وعدم رضاهم. فكان هذا التشريع في الحقيقة تقنينا للنجوى المستقبلة.

وبناء على هذا فالحكم المذكور كان في البداية مؤقتا ، وبعد ما تحقّق المطلوب نسخ ، لأنّ استمراره سيثير مشكلة ، لأنّ هناك بعض المسائل الضرورية التي تستدعي أن يطّلع عليها النبي على انفراد. ومع بقاء حكم الصدقة فقد تهمل بعض المسائل الضرورية ، وبصورة عامّة ففي موارد النسخ يكون للحكم منذ

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٦ ، ص ٤٠٦ ، كما نقل هذا الحديث الطبرسي في مجمع البيان ، والزمخشري في الكشّاف ، والقرطبي في تفسير الجامع وذلك في نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٦

البداية جانب محدود ومؤقت بالرغم من أنّ الناس أحيانا لا يعلمون بذلك ويتصوّرونه بصورة دائمة.

٣ ـ هل الالتزام بالصدقة فضيلة؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام عليعليه‌السلام لم يكن من طائفة الأغنياء من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث البساطة في حياته وزهده في عيشه ، ومع هذا الحال واحتراما للحكم الإلهي ، تصدّق في تلك الفترة القصيرة ـ ولمرّات عديدة ، وناجى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه المسألة واضحة ومسلّمة بين المفسّرين وأصحاب الحديث كما أسلفنا.

إلّا أنّ البعض ـ مع قبول هذا الموضوع ـ يصرّون على عدم اعتبار ذلك فضيلة وحجّتهم في ذلك أنّ كبار الصحابة عند ما أحجموا عن هذا العمل فذلك لأنّهم لم تكن لهم حاجة عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو لم يكن لديهم وقت كاف ، أو أنّهم كانوا يفكّرون بعدم إحراج الفقراء وبناء على هذا فإنّها لا تحسب فضيلة للإمام علي ، أو أنّها لا تسلب فضيلة من الآخرين(١) .

ويبدو أنّهم لم يدقّقوا في متن الآية التالية حيث يقول سبحانه موبّخا :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) حتّى أنّه سبحانه يعبّر في نهاية الآية بالتوبة ، والتي ظاهرها دالّ على هذا المعنى ، ويتّضح من هذا التعبير أنّ الإقدام على الصدقة والنجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت عملا حسنا ، وإلّا فلا ملامة ولا توبة.

وبدون شكّ فإنّ قسما من أصحاب الرّسول المعروفين قبل هذا الحادث كانت لهم نجوى مع الرّسول (لأنّ الأفراد العاديين والبعيدين قلّما احتاجوا إلى

__________________

(١) الفخر الرازي وروح البيان نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٧

مناجاة الرّسول).

إلّا أنّ هؤلاء الصحابة المعروفين بعد حكم الصدقة ، امتنعوا من النجوى ، والشخص الوحيد الذي احترم ونفّذ هذا الحكم هو الإمام عليعليه‌السلام .

وإذا قبلنا ظاهر الآيات والروايات التي نقلت في هذا المجال وفي الكتب الإسلامية المختلفة ولم نقم أهميّة للاحتمالات الضعيفة الواهية فلا بدّ أن نضمّ صوتنا إلى صوت عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي جعل هذه الفضيلة بمنزلة تزويج فاطمة ، وإعطاء الراية يوم فتح خيبر ، وأغلى من حمر النعم.

٤ ـ مدّة الحكم ومقدار الصدقة :

وحول مدّة الحكم بوجوب الصدقة قبل النجوى مع الرّسول توجد أقوال مختلفة ، فقد ذكر البعض أنّها ساعة واحدة ، وقال آخرون : إنّها ليلة واحدة ، وذكر البعض أنّها عشرة أيّام ، إلّا أنّ الأقوى هو القول الثالث ، لأنّ الساعة والليلة لا تكفي أبدا لمثل هذا الامتحان ، لأنّ بالإمكان الاعتذار في هذه المدّة القصيرة عن عدم وجود حاجة للنجوى ، إلّا أنّ مدّة عشرة أيّام تستطيع أن توضّح الحقائق وتهيء أرضية للوم المتخلّفين.

أمّا مقدار الصدقة فإنّها لم تذكر في الآية ولا في الروايات الإسلامية ، ولكن المستفاد من عمل الإمام عليعليه‌السلام هو كفاية الدرهم الواحد في ذلك.

* * *

١٣٨

الآيات

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) )

١٣٩

التّفسير

حزب الشيطان :

هذه الآيات تفضح قسما من تآمر المنافقين وتعرض صفاتهم للمسلمين ، وذكرها بعد آيات النجوى يوضّح لنا أنّ قسما ممّن ناجوا الرّسول كانوا من المنافقين ، حيث كانوا بهذا العمل يظهرون قربهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتستّرون على مؤامراتهم ، وهذا ما سبّب أن يتعامل القرآن مع هذه الحالة بصورة عامّة.

يقول تعالى في البداية :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) .

هؤلاء القوم الذين «غضب الله عليهم» كانوا من اليهود ظاهرا كما عرّفتهم الآية (٦٠) من سورة المائدة بهذا العنوان حيث يقول تعالى :( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ) (١) .

مّ يضيف تعالى :( ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ ) فهم ليسوا أعوانكم في المصاعب والمشاكل ، ولا أصدقاءكم وممّن يكنون لكم الودّ والإخلاص ، إنّهم منافقون يغيّرون وجوههم كلّ يوم ويظهرون كلّ لحظة لكم بصورة جديدة.

وطبيعي أنّ هذا التعبير لا يتنافى مع قوله تعالى :( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) (٢) ، لأنّ المقصود هناك أنّهم بحكم أعدائكم ، بالرغم من أنّهم في الحقيقة ليسوا منهم.

ويضيف ـ أيضا ـ واستمرارا لهذا الحديث أنّ هؤلاء ومن أجل إثبات وفاءهم لكم فإنّهم يقسمون بالأيمان المغلّظة :( وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) .

وهذه طريقة المنافقين ، فيقومون بتغطية أعمالهم المنفّرة ووجوههم القبيحة بواسطة الأيمان الكاذبة والحلف الباطل ، في الوقت الذي تكون أعمالهم خير كاشف لحقيقتهم.

__________________

(١) المائدة ، الآية ٦٠.

(٢) المائدة ، الآية ٥١.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

بأنبائكم ولا يعزب عنّا شيء من أخباركم ) (١) ، وقولهعليه‌السلام :( إنّا غير مهملين لمراعاتكم ، ولا ناسين لذكركم ، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء ، واصطلمكم الأعداء ، اتقوا الله جلّ جلاله ، وظاهرونا على انتياشكم من فتنة ، قد أنافت عليكم ، يهلك فيها مَن حمّ أجله ، ويحمى عنها مَن أدرك أمله ) (٢) .

دور الإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) في درء الفساد

من الأدوار الأساسية التي يقوم بها خليفة الله في الأرض ، هو منع البشرية من الانحدار في الهاوية ، ودرء خطر استئصالها ، والإبادة التامة والشاملة لها ، سواء كان ذلك نتيجة للحروب ، أم لتفشّي الظلم والجور والفساد ، وانتشار الأمراض والأوبئة وغيرها من الأمور التي تهدّد البشرية بالانقراض .

وهذا المعنى أشار إليه القرآن الكريم ، عند ذكره لاعتراض الملائكة ، في معرض تعريفه للخليفة ، وذلك في قوله تعالى ـ حكاية عن الملائكة :( قَالُوا أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) (٣) ، فالملائكة افترضت أنّ خليفة الله لا يفسد ، ولا يسفك الدماء ، بل هو الذي يقف حائلاً أمام ذلك ، وقد أقرّهم الله تبارك وتعالى على ذلك ، وأجابهم من جهة أخرى ، حيث قال :( إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) .

إذن أوّل دور من الأدوار الأساسية التي يقوم بها خليفة الله في الأرض ، هو درء الفساد ، وممانعة سفك الدماء وهذا ما يلتقي مع التصريحات الكثيرة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المجال ، كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا تخلوا الأرض من حجّة ) ، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض ) وغير ذلك من التصريحات النبويّة ، التي تؤكّد على أنّ من بين الأدوار الأساسية للخلفاء حفظ البشرية من الهلاك ، ومنع وقوعها في الفساد .

ـــــــــــــ

(١) الاحتجاج ، الطبرسي : ج ٢ ص ٣٢٣ ، الخرائج والجرائح ، قطب الدين الراوندي : ج ٢ ص ٩٠٢ .

(٢) الاحتجاج ، الطبرسي : ج ٢ ص ٣٢٣ .

(٣) البقرة : ٣٠ .

١٦١

ثم إنّ السؤال الأساس يقع عمّا هو المراد بالفساد ؟ وهل يشمل كل فساد ولو كان جزئياً ؟

وفي مقام الإجابة عن ذلك نقول : ليس المراد من الفساد ما يشمل الفساد الجزئي والمقطعي ، وذلك بمقتضى اعتراف الملائكة ، حيث إنّهم لم يعترضوا على الفساد القليل ؛ لأنّ الفساد القليل يقابله الخير الكثير ، فاعتراض الملائكة إنّما كان على الفساد المطبق ، والشامل للأرض ومَن عليها ، المستأصل للبشرية ، والموجب لاجتثاثها وهلاكها .

فدور الخليفة إذاً لا يقتصر على فئة معيّنة من الناس ، أو على المسلمين فحسب ، وإنّما هو شامل لكل البشرية ؛ لذا قال تعالى شأنه :( إنّي جاعل في الأرض ) ، وكذا قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا تخلو الأرض من حجّة ) (١) وقوله :( إذا هلكوا ماجت الأرض بأهلها ) ، وقوله :( أهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض ) ، فلم يقل هلك أو ذهب المسلمون خاصة ، أو ماجت الأرض بهم .

فالإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) الذي هو خليفة الله في الأرض ، يمارس دوراً كبيراً في حياة البشرية ، وإن لم يتقلّد الحكومة الرسمية الظاهرة ، فهو (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) كما هو الحال في الخضرعليه‌السلام ، الذي هو وليّ من أولياء الله تعالى ، وعبد من عباده ، قلّده مناصب عالية وحكومة رائدة ، يديرها بالسر والخفاء .

فقصّة الخضرعليه‌السلام ـ الذي هو عبد من مجموعة عباد جعلهم الله أوتاداً للأرض ـ ذكرها الله عزّ وجلّ في قرآنه الخالد ، عظة وعبرة لنا ، وليست هي مجرّد قصة خيالية لا واقع لها ، وإنّما الغاية من هذه القصّة هي الاعتقاد بوجود أولياء وحجج لله تعالى ، يقومون بمهام إلهية ، ويديرون دفّة الحكم الإلهي في الأرض .

إذن ليست الغيبة بمعنى التعطيل والجمود ، كما قد يتخيلها البعض .

إذن فالإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) له دور كبير في فترة غيبته .

ـــــــــــــ

(١) المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٢ ص ١٩٦ ح ١٧٩٤ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٢ ص ٣٤ ح ٣٣٨٦١ ؛ وانظر : تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ٥٠ ص ٢٥٥ ؛ وانظر تاريخ اليعقوبي ، اليعقوبي : ج ٢ ص ٢٠٦ ؛ وانظر ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : ج ١ ص ٨٩ ؛ وانظر المناقب ، الخوارزمي : ص ٣٦٦ .

١٦٢

أضف إلى ذلك كله ، أنّ هناك أعمالاً وأفعالاً أوكل الإمامعليه‌السلام مهمّة القيام بها إلى من قلّدهم النيابة العامة في زمن الغيبة ، وهم العلماء والفقهاء العدول ؛ ليكونوا بذلك ممثّلين لهعليه‌السلام ، ينوبون عنه في بعض المهام التي أُوكلت إليهم ، كما ورد ذلك عنهعليه‌السلام ، حيث قال :( وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجّة الله عليهم ) (١) .

وقد أشار باقي الأئمّةعليهم‌السلام أيضاً إلى هذا الدور المهم للعلماء في عصر الغيبة الكبرى ـ فمثلاً ـ ما عن الإمام الهاديعليه‌السلام أنّه قال :( لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم عليه الصلاة والسلام من العلماء الداعين إليه ، والذّابين عن دينه بحجج الله ، المنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ، ومن فخاخ النواصب ، لما بقي أحد إلاّ ارتد عن دينه ، ولكنّهم الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكّانها ، أولئك هم الأفضلون عند الله ) (٢) .

ونقتصر في هذا المجال على ما أفاده الشيخ المفيدرحمه‌الله ، حيث قال بعد تعرّضه لبعض مهام الغيبة : ( ولا يحتاج هوعليه‌السلام إلى تولّي ذلك بنفسه ، كما كانت دعوة الأنبياءعليهم‌السلام تظهر بأتباعهم والمقرّين بحقّهم ، وينقطع العذر بها فيما ينأى عن ملتهم ومستقرهم ، ولا يحتاجون إلى قطع المسافات لذلك بأنفسهم ، وقد قامت أيضاً بأتباعهم بعد وفاتهم وكذلك إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام ، وقد يتولاّها أُمراء الأئمّة ، وعمّالهم دونهم ، كما كان يتولّى ذلك أُمراء الأنبياءعليهم‌السلام وولاتهم ، ولا يخرجون هم إلى ذلك بأنفسهم ، وكذلك القول في الجهاد ، ألا ترى أنّه يقوم به الولاة من قبل الأنبياء والأئمّة دونهم ، ويستغنون عن توليه بأنفسهم ، فعُلم بما ذكرناه أنّ الذي أحوج إلى وجود الإمام ، ومنع من عدمه ، ما أختص به من حفظ الشرع ، الذي لا يجوز ائتمان غيره عليه ، ومراعاة الخلق في أداء ما كلّفوه

ـــــــــــــ

(١) الغيبة ، الطوسي : ص ٢٩١ ؛ الاحتجاج : الطبرسي : ج ٢ ص ٢٨٣ ؛ الخرائج والجرائح ، قطب الدين الراوندي : ج ٣ ص ١١١٤ .

(٢) الاحتجاج ، الطبرسي : ج ٢ ص ٢٦٠ .

١٦٣

من أدائه )(١) .

والحاصل : إنّ للإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) طوراً آخر من أطوار الإدارة والحكم في زمن الغيبة ، وأمّا تنفيذ الكثير من الأمور التي تحتاج إلى إجراء بحسب ما هو الظاهر والمعلن ، فقد أوكل ذلكعليه‌السلام إلى العلماء والفقهاء .

خلفيات وفوائد أُخرى للغيبة

أوّلاً : حفظ شخصية الإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)

من أهم فوائد غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) هي حفظ شخصيته (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) من القتل والاغتيال ؛ لأنّ هذه الأمة الإسلامية لا تعدو خطى الأمم السابقة ، كما صرّح بذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ هذه الأمة ستتبع خطى الأمم السالفة ، حذو النعل ، والقذّة بالقذّة ، وقد وقعت الغيبة لكل من إدريس وصالح وإبراهيم ويوسفعليهم‌السلام ، وقد اضطّر موسىعليه‌السلام إلى الهرب من قومه( فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمّا خِفْتُكُمْ ) (٢) ، وكذلك رفع الله عيسىعليه‌السلام ، عندما أراد بنو إسرائيل قتله ، قال تعالى :( بَل رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) (٣) كذلك كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحتجب عن قومه في غار حراء فترة مديدة من الزمن ، وقد اضطر للاعتزال عنهم في الشعب ثلاث سنين ، وأخرج أحمد بن حنبل عن عكرمة قوله : مكث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمس عشرة سنة ، منها أربع أو

ـــــــــــــ

(١) مسائل عشر ، الشيخ المفيد : ص ١٠٦ ـ ١٠٧ .

(٢) الشعراء : ٢١ .

(٣) النساء : ١٥٨ .

١٦٤

خمس يدعو إلى الإسلام سرّاً وهو خائف(١) .

فإذا كانت غيبة واحتجاب أولئك الأنبياءعليهم‌السلام لا تضر ، ولا تقدح في نبوّتهم وبعثتهم للأمم ، بل يعد ذلك من الأساليب المهمة في سبيل انجاز وتحقيق الغاية ، لا سيّما وأنّه امتثال لمشيئة الله تعالى وإرادته ، كذلك ما نجده في غيبة الإمام المهديعليه‌السلام ، إذ إنّ غيبته كغيبتهمعليهم‌السلام ، وظروفه كظروفهم ، من متابعته ومحاولة قتله والقضاء عليه ، بل ما نجده في حياة الإمام المهديعليه‌السلام من الظروف التي تستدعي الغيبة كثيرة جداً ، وفي غاية الوضوح ، حيث كانت السلطات العباسية تسعى حثيثاً للقبض عليه وقتله ، كما نصّ على ذلك المؤرخون والمحدثون :

منهم : ابن الصباغ المالكي ، حيث قال : ( خلّف أبو محمد الحسن ابنه الحجّة القائم المنتظر لدولة الحق ، وكان قد أخفى مولده ، وستر أمره ، لصعوبة الوقت ، وشدّة طلب السلطان ، وتطلّبه للشيعة ، وحبسهم ، والقبض عليهم )(٢) .

ومنهم : ابن أبي الفتح الإربلي في كتابه ( كشف الغمّة ) ، وعبارته قريبة من عبارة ابن الصباغ المتقدمة ، وينقل بالإضافة إلى ذلك رواية أحمد بن عبيد الله بن خاقان ، والي الضياع والخراج بقم ، وجاء فيها : ( وخرجنا وهو على تلك الحال ، والسلطان يطلب أثر ولد الحسن بن علي اليوم ، وهو لا يجد إلى ذلك سبيلاً ، والشيعة مقيمون على أنّه مات وخلّف ولداً ، يقوم مقامه بالإمامة ) (٣) وغيرهم كثير ؛ فراجع .

ـــــــــــــ

(١) كتاب العلل ، أحمد بن حنبل : ج ٢ ص ٥٩٠ ج ٣ ص ٤٢٦ ، وكذا في الدر المنثور السيوطي ج ٥: ص ١٠٢ ، المصنف : الصنعاني ج ٥ ص ٣٦١ .

(٢) الفصول المهمة ، ابن الصباغ المالكي : ص ١٠٩١ .

(٣) كشف الغمة ، الإربلي : ج ٣ ص ٢٠٥ .

١٦٥

وهذا السبب وإن كان غير مختص به دون آبائهعليهم‌السلام ، حيث تعرّضوا للمطاردة والقتل والاغتيال ، إلاّ أنّ السبب الأساس الذي يقف وراء اختصاص الإمام المهدي بالغيبة دونهمعليهم‌السلام ، هو أنّهعليه‌السلام مكلّف بإقامة الدولة الإسلامية العالمية ، وعلى يديه يحقق الله تعالى العدل والقسط على هذه الأرض ، وبواسطته يُظهر الله عزّ وجلّ الإسلام على الدين كلّه ولو كره المشركون ، فلا بد من المحافظة على وجوه المبارك لإنجاز هذه المهمة التي جعلها الله تعالى الغاية الأساسية من بعثة الأنبياء والرسل .

ولا تعني غيبتة واختفاؤه (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) انتفاء إمامته ، أو تخلّيه عن المسؤوليات المُناطة به ، بل هو الحجّة القائمة لله على خلقه ، ولكن ستره الله تعالى عن خلقه خوفاً على حياته من الظالمين ، كما صرّح بذلك أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، حيث قال :( اللّهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم بحجّة ، إما ظاهر مشهور ، وإما خائف مغمور ، لأن لا تبطل حجج الله ، وبيّناته ) (١) ، وخائف مغمور أي خائف مختف ، وقد بيّنا سابقاً أنّ الغيبة لا تعني أنّه ناءٍ وبعيد وعديم الدور في الأمّة ، وإنّما الغيبة هي إدارة الأمور والعمل بالخفاء .

ومعنى الخوف من القتل ليس ما يتبادر إلى الأذهان الساذجة ، من المعاني الأوّلية للخوف ؛ لأنّ هذا النوع من الخوف غير متصوّر في أولياء

ـــــــــــــ

(١) تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ٥٠ ص ٢٥٥ ، وانظر تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ص ٢٠٦ ، وانظر كنز العمال : ج ١٠ ص ٢٦٣ ـ ٢٦٤ ( أخرجها عن ابن الأنباري في المصاحف والمرهبي في العلم ونصر في الحجّة ) ، المعيار والموازنة ، الإسكافي : ص ٨١ ؛ مناقب أمير المؤمنين ، محمد بن سليمان القاضي : ج ٢ ص ٩٦ ؛ دستور معالم الحكم : ابن سلامة : ص ٨٤ ، ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : ج ١: ص٨٩ .

١٦٦

الله تعالى وحججه الذين يأنسون بالموت ولقاء الله عزّ وجلّ ، وإنّما المقصود من خوف القتل هنا هو الخوف على ضياع الغرض والهدف الإلهي الذي أنيط بهعليه‌السلام ، حيث إنّ مسؤوليتهعليه‌السلام جسيمة وعظيمة تشبه مسؤولية الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذي صدع بأمر الله تعالى ، لنشر الدين على وجه الأرض ، كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( هو رجل من عترتي ، يقاتل على سنّتي ، كما قاتلت أنا على الوحي ) (١) .

فالخوف المقصود إنّما هو الخوف من استئصال الحجج الإلهية على الخلق ، كما ورد ذلك في الروايات متضافراً :

منها : ما جاء عن زرارة قال : سمعت أبا عبد الله يقول :إنّ للغلام غيبة قبل أن يقوم ، قال : ( قلت ولم ؟ قال :يخاف ، وأومأ إلى بطنه ، ثم قال :يا زرارة وهو المنتظر )(٢) .

ومنها : ما عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أيضاً قال : (للقائم غيبة قبل قيامه قلت : ـ أي زرارة ـ وَلِمَ ؟ قال :يخاف على نفسه الذبح )(٣) .

ومنها : ما جاء عن أبي بصير قال : سمعت أبا جعفرعليه‌السلام يقول :( في صاحب هذا الأمر أربعة ، من سنن أربعة أنبياء فأمّا من موسى : فخائف يترقب ) (٤) .

ـــــــــــــ

(١) كتاب الفتن ، المروزي : ص ٢٢٩ ؛ ينابيع المودة ، القندوزي : ج ٣ ص ٢٦٣ .

(٢) الكافي ، الكليني : ج ١ ص ٣٣٧ ؛ تاريخ آل زرارة ، أبو غالب الزراري : ج ١ : ص ٢١ ؛ كمال الدين ، الشيخ الصدوق : ص ٣٤٦ ؛ الغيبة : النعماني : ص ١٧٧ .

(٣) كمال الدين وتمام النعمة ، الصدوق : ص ٤٨١ .

(٤) الإمامة والتبصرة : ص ٩٤ ، كمال الدين ، الصدوق : ص ٢٨ ؛ دلائل الإمامة ، محمد بن جرير الطبري : ص ٤٧٠ ؛ كتاب الغيبة ، الطوسي : ص ٤٢٤ .

١٦٧

ومنها : ما عن المفضل بن عمر ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : ( إذا قام القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) قال : ففررت منكم لمّا خفتكم فوهب لي ربي حكماً )(١) .

ومنها : ما جاء في كشف الغمة للإربلي ، عن الإمام الحسينعليه‌السلام قال :( في القائم منّا سنن من الأنبياء ، سنّة من نوح ، وسنّة من إبراهيم ، وسنّة من موسى ، وسنّة من عيسى ، وسنّة من أيوب ، وسنّة من محمد وأمّا من موسى فالخوف ، والغيبة ) (٢) .

وكذلك في كشف الغمّة ، في حديث محمد بن مسلم ، قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول : ( إن قدام القائم بلوى من الله ، قلت : وما هو جعلت فداك ؟ فقرأ :( وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالّثمَرَاتِ وَبَشّرِ الصّابِرِينَ ) (٣) ، ثم قال : الخوف من ملوك بني فلان ، والجوع من غلاء الأسعار ، ونقص الأموال من كساد التجارات ، وقلّة الفضل فيها ، ونقص الأنفس بالموت الذريع ، ونقص الثمرات بقلّة ريع الزرع ، وقلّة بركة الثمار ، ثم قال : وبشّر الصابرين عند ذلك بتعجيل خروج القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف)(٤) .

ثانياً : التمحيص

معنى التمحيص : هو التطهير مع شدّة الاختبار ؛ لأنّ مادة ( محص ) تدلّ على الخلوص ، والتطهير من كل عيب ، كما يقال محّص الذهب بالنار ، أي خلّصه ممّا يشوبه .

ـــــــــــــ

(١) الغيبة ، محمد بن إبراهيم النعماني : ص ١٧٤ .

(٢) كشف الغمّة ، الإربلي : ج ٣ ص ٣٢٩ ، إكمال الدين وإتمام النعمة ، الصدوق : ص ٣٢٢ .

(٣) البقرة : ١٥٥ .

(٤) كشف الغمّة ، الإربلي : ج ٣ ص ٢٦٠ .

١٦٨

وعلى ضوء ذلك كان التمحيص والابتلاء والاختبار سنّة إلهيّة رافقت البشرية منذ بداية خلقها ، قال تعالى :( مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى‏ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى‏ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ ) (١) .

وكذا قال تبارك وتعالى :( وَلِيُمَحّصَ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) (٢) ، وكقوله تعالى :( وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلُِيمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ ) (٣) ، فمن خلال التمحيص يتعيّن مركز الفرد وواقعه تجاه عقيدته وإيمانه ، استقامة أو انحرافاً ، كما يكشف التمحيص عن عناصر القوة والضعف في نفسية الإنسان ، فهو طريق لاستكمال النفوس ورقيّها ، فإذا ورد التمحيص على جماعة من الناس فإنّه يقتضي امتياز المؤمنين من المنافقين .

وتتضاعف أهميّة التمحيص في عصر الغيبة فيما إذا اقترن بالإعداد ليوم الظهور ، لتحمّل المسؤولية ، والمشاركة في إنقاذ العالم من الظلم والجور الذي يفترض فيه وجود عدد كاف ممحص ومطهر من شوائب الكفر والشرك والنفاق ، ليكونوا من المخلصين الذين لهم شرف المشاركة في الدولة الكريمة العادلة بقيادة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) .

ومن هذا المنطلق نعرف أهمية التمحيص والاختبار الذي أشارت إليه الروايات بكثافة .

وممّا يشهد على أهمية التمحيص ودوره في تمييز الخبيث من الطيب ، ما لمسناه واضحاً من الردّة والانقلاب على الأعقاب بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث وجدنا أنّ الكثير ممّن رافقوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يصمدوا أمام غربال التمحيص والاختبار ، بل انحرفوا عمّا رسمه لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصاياه الكثيرة والمتعددة في شأن الإمامة والخلافة ، فضلاً عما صرّح به القرآن الكريم في هذا الشأن ، وهذا يدل على أن كثيراً من هؤلاء الأصحاب لم يكونوا ممحصين ، ولا قادرين على تحمل المسؤولية .

ـــــــــــــ

(١) آل عمران : ١٧٩ .

(٢) آل عمران : ١٤١ .

(٣) آل عمران : ١٥٤ .

١٦٩

ومن هنا نفهم سرّ عدم جعل الأئمةعليهم‌السلام الكفاح العسكري المسلح هو الخيار والحل الوحيد لإقامة الحق والعدل ؛ وذلك لأنّهم لا يرون القيام بالعمل العسكري وحده كافياً للانتصار وإقامة دعائم الحكم الصالح ، بل يتوقّف ذلك على إعداد جيش عقائدي ممحص مطهّر مخلص يؤمن بالإمام وعصمته وحاكميته إيماناً مطلقاً ، ويعي أهدافه الكبيرة ، ويدعم تخطيطه الواسع .

وعلى هذا الأساس نجد أنّ من شرائط ظهور الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) الأساسية هو ظهور عدد من الأصحاب والأنصار المخلصين للإسلام وللإمامعليه‌السلام القادرين على تحمّل المسؤولية ، وهذا لا يتحقّق إلاّ من خلال مرور البشرية بالظروف القاسية والفتن الشديدة .

وممّا ينبغي الإشارة إليه ، هو أنّ التمحيص المقصود الذي من خلاله تتهيّأ البشرية لليوم الموعود ، هو تمحيص البشرية بشكل عام ، وعلى طول امتدادها التاريخي ، بالنحو الذي ينتج أفراداً مخلصين قادرين على تحمّل المسؤولية في الدولة الكريمة .

أمّا روايات التمحيص والابتلاء في زمن الغيبة ، وقبل قيام الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) فهي كثيرة جداً ، وقد وردت في كتب الفريقين :

١٧٠

منها : رواية ابن عباس المتقدمة ، عندما قال جابر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يا رسول الله وللقائم من ولدك غيبة ؟ قال:إي وربي ، ليمحص الله الذين آمنوا ، ويمحق الكافرين )(١) .

ومنها : ماجاء على لسان الإمام عليعليه‌السلام ، عندما قال للإمام الحسينعليه‌السلام :( التاسع من ولدك يا حُسين هو القائم بالحق ، والمظهر للدين ، والباسط للعدل ، قال الحسينعليه‌السلام :فقلت : وإن ذلك لكائن ؟ فقال عليه‌السلام : أي والذي بعث محمّداً بالنبوّة ، واصطفاه على جميع البرية ، ولكن بعد غيبة وحيرة لا يثبت على دينه إلاّ المخلصون المباشرون لروح اليقين الذين أخذ الله ميثاقهم بولايتنا ، وكتب في قلوبهم الإيمان ، وأيدهم بروح منه) (٢) ، فالمخلصون بحسب هذه الرواية هم حاصل ذلك الابتلاء والتمحيص .

ومنها : ما جاء أيضاً عن الإمام عليعليه‌السلام ، حيث قال للأصبغ بن نباته :( الحادي عشر من ولدي هو المهدي ، يملأها عدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً ، تكون له حيرة وغيبة ، يضلّ فيها أقوام ، ويهتدي فيها آخرون ، فقلت : يا أمير المؤمنين وإنّ هذا لكائن ؟ فقال :نعم ، كما أنّه مخلوق ، وأنّى لك بالعلم بهذا الأمر يا أصبغ ، أولئك خيار هذه الأمّة ، مع أبرار هذه العترة ) (٣) .

ـــــــــــــ

(١) ينابيع المودة ، القندوزي : ج ٣ ص ٢٩٧ وص ٣٨٧ ، كشف الغمّة : الإربلي : ج ٣ ص ٣٢٨ .

(٢) كشف الغمة ، الإربلي : ج ٣ ص ٣٢٨ .

(٣) الإمامة والتبصرة ، ابن بابوية القمّي : ص ١٢١ ؛ الغيبة ، النعماني : ص ٦١ ؛ كفاية الأثر ، الخزاز القمّي : ص ٢٢٠ .

١٧١

ومنها : ما ورد عن الإمام محمد الباقرعليه‌السلام ، في قوله تعالى :( فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنّسِ * الْجَوَارِ الْكُنّسِ ) (١) ، قال :( هذا مولود في آخر الزمان ، هو المهدي من هذه العترة ، تكون له حيرة وغيبة ، يضلّ فيها أقوام ، ويهتدي فيها أقوام ) (٢) .

ومنها : ما ورد عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام أيضاً ، قال:( والله لتميزنّ ، والله لتمحصنّ ، والله لتغربلنّ ، كما يغربل الزؤان من القمح ) (٣) .

ومنها : ما ورد عنه أيضاًعليه‌السلام ، قال :( هيهات هيهات ، لا يكون الذي تمدّون إليه أعناقكم حتى تمحصوا ، هيهات ولا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم ، حتى تميزوا ، ولا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم حتى تغربلوا ، ولا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم إلاّ بعد إياس ، ولا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم حتى يشقى مَن شقي ، ويسعد مَن سعد ) (٤) .

ومنها : ما ورد عن أبي عبد الله جعفر بن محمدعليه‌السلام :( والله لتُمحصنّ ، والله لتطيرن يميناً وشمالاً ، حتى لا يبقى منكم إلاّ كل امرئ أخذ الله ميثاقه ، وكتب الإيمان في قلبه ، وأيده بروح منه ) (٥) .

ومنها : ما ورد عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أيضاً قال :( لابدّ للناس أن يمحّصوا ويميّزوا ويغربلوا ، وسيخرج من الغربال خلق كثير ) (٦) .

ـــــــــــــ

(١) التكوير : ١٥ ـ ١٦ .

(٢) إكمال الدين وإتمام النعمة ، الصدوق : ص ٣٣٠ ، انظر : الغيبة ، الطوسي : ص ٣٣٦ .

(٣) الغيبة ، الطوسي : ص ٣٤٠ ، الغيبة ، النعماني : ص ٢٠٥ .

(٤) الغيبة ، النعماني : ص ٢٠٩ .

(٥) المصدر نفسه : ص ٢٦ .

(٦) المصدر نفسه : ص ٢١٢ ؛ دلائل الإمامة : ابن جرير الطبري (الشيعي) : ص ٤٥٦ ؛ العدد القوية ، العلاّمة الحلّي : ص ٧٤ ؛ الكافي ، الكليني : ج ١ ص ٣٧٠ .

١٧٢

ومنها : ما جاء عنه أيضاًعليه‌السلام :( لتُمحصنّ يا شيعة آل محمد ، تمحيص الكحل في العين ) (١) .

ومنها : كذلك ما ورد عنهعليه‌السلام قوله : ( والله لتكسّرن تكسّر الزجاج ، وإنّ الزجاج ليعاد فيعود كما كان ، والله لتكسّرن تكسّر الفخار وإنّ الفخار ليتكسّر فلا يعود كما كان ، ووالله لتغربلن، والله لتميزن ، والله لتمحّصن حتى لا يبقى منكم إلا الأقل ، وصعّر كفه )(٢) .

ومنها : ما ورد عنه أيضاًعليه‌السلام ، قال :( والله لتمحصنّ ، والله لتميزن ، والله لتغربلن ، حتى لا يبقى منكم إلاّ الأندر ) (٣) .

ومنها : ما عن صفوان بن يحيى ، قال : قال أبو الحسن الرضاعليه‌السلام :( والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تمحصوا ، وحتى لا يبقى منكم إلاّ الأندر ، فالأندر ) (٤) .

وأخيراً : يضرب الإمام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام لنا مثلاً في ذلك ، حيث يقول :( وسأضرب لكم مثلاً ، وهو مثل رجل كان له طعام فنقّاه ، وطيّبة ثم أدخله بيتاً ، وتركه فيه ما شاء الله ، ثم عاد إليه ، فإذا هو قد أصابه السوس ، فأخرجه ونقّاه وطيّبه ثم أعاده إلى البيت ، فتركه ما شاء الله ، ثم عاد إليه ، فإذا هو قد أصابته طائفة من السوس ، فأخرجه ونقّاه ، وطيّبه ، وأعاده ، ولم يزل كذلك حتى بقيت منه رزمة

ـــــــــــــ

(١) الغيبة ، النعماني : ص ٢٠٦ ؛ الغيبة ، الطوسي : ص ٣٣٩ .

(٢) المصدر نفسه : ص ٢٠٧ ؛ المصدر نفسه : ص ٣٤٠ .

(٣) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود العياشي : ج ١ ص ١٩٩ ؛ وانظر : الغيبة ، النعماني : ص ٢٠٨ ؛ وانظر : الغيبة ، الشيخ الطوسي : ص ٣٣٧ .

(٤) غيبة ، النعماني : ص ٢٠٨ ؛ الغيبة ، الشيخ الطوسي : ص ٣٣٧ ؛ الخرائج والجرائح : الراوندي : ج ٣ ص ١١٧٠ ؛ انظر : تفسير العياشي : ج ١ ص ١٩٩ .

١٧٣

كرزمة الأندر ، لا يضره السوس شيئاً ، وكذلك أنتم تُميزون ، حتى لا يبقى منكم إلاّ عصابة لا تضرها الفتنة شيئاً ) (١) ، وبنفس المضمون ما جاء عن الإمام الباقرعليه‌السلام (٢) .

وكذلك ما جاء أيضاً على لسان حكيمة عمّه الإمامعليه‌السلام ، عندما قالت لمحمد بن عبد الله المطهري : (لا بد للأمّة من حيرة ، يرتاب فيها المبطلون ، ويخلص فيها المُحقّون ، كيلا يكون للناس على الله حجّة )(٣) .

هذا مضافاً إلى روايات الفتن ، والابتلاء في آخر الزمان التي نقلها الفريقان بنحو التواتر ، والتي لا يخلو منها كتاب واحد من كتب الحديث ، بل عُقدت لروايات الفتن في آخر الزمان كتب وأبواب خاصّة ، وهذا يكشف عن أهمية التمحيص والغربلة في عصر الغيبة لمعرفة وتمييز المخلصين الصالحين للقيام بشؤون الدولة العالمية ، تحت راية الإمام المهديعليه‌السلام عن غيرهم ، ومن تلك الروايات :

١ ـ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم ، يصبح فيها الرجل مؤمناً ويُمسي كافراً ، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً ) (٤) .

٢ ـ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ثم فتنة الدهيماء ، لا تدع أحداً من هذه الأُمّة إلاّ

ـــــــــــــ

(١) الغيبة ، النعماني : ص ٢١٠ .

(٢) كمال الدين وتمام النعمة ، الصدوق : ص ٤٢٦ .

(٣) المصدر نفسه : ص ٤٢٦ .

(٤) مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ٤ ص ٢٧٧ ، البداية والنهاية ، ابن كثير ج ٨ ص ٢٦٧ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٤ ص ٢٢٩ ؛ النهاية في الفتن والملاحم : ابن كثير الدمشقي : ج ١ ص ٥٩ ؛ سنن أبي داود ، السجستاني : كتاب الفتن ، ص ٧٠٨ ح ٤٢٥٣ ؛ سنن الترمذي ، الترمذي : كتاب الفتن ؛ باب ما جاء في اتخاذ سيف من خشب في الفتنة : ص ٢٣٠ ، ح ٢٢٩٣ ؛ كما أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن ، باب التثبيت في الفتنة : ص ١٣١٠ ، ح ٣٩٦١ .

١٧٤

لطمته ، حتى إذا قيل انقضت عادت ، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً حتى يصير الناس فسطاطين ، فسطاط إيمان لا نفاق فيه ، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه ، فإذا كان ذاكم فانتظروا الدجال من يومه أو من غده) (١) .

٣ ـ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتن كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ، يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا قليل ؛ المتمسّك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر ـ أو قال ـعلى الشوك ) (٢) .

ثالثاً : انكشاف عجز وبطلان الأطروحات الأخرى

لا ريب أنّ الغيبة تساهم في إثبات عجز أو فشل المدارس والأطروحات الأخرى التي تدعي تحقيق السعادة والعدل والكمال المنشود للمجتمع البشري ، وهذا بدوره يكون دافعاً للمجتمع عموماً للتفاعل الإيجابي مع المهمّة الإصلاحية الكبرى للإمام المهديعليه‌السلام .

ومن ثم يزيل العقبات التي تمنع عن حصول هذا التفاعل المطلوب ، لتحقيق الأهداف الإلهية ، التي يقوم بإنجازها الإمامعليه‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) النهاية في الفتن والملاحم : ابن كثير الدمشقي : ج ١ ص ٦١ ؛ وكذا لاحظ : سنن أبي داود ؛ كتاب الملاحم ، باب الأمر والنهي : ج ٢ ص ٢٢٩ ، ح ٤٣٤٢ ؛ تهذيب الكمال ، المزي : ج ٢٢ ص ٥٢٧ ؛ مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ٢ ص ١٣٣ باختلاف في اللفظ ؛ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٤ ص ٤٦٧ .

(٢) مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ٢ : ص ٣٩٠ ؛ النهاية في الفتن والملاحم : ابن كثير الدمشقي : ج ١ ص ٥٥ تاريخ دمشق ، ابن عساكر : ج ٧٠ ص ٣٥ ؛ سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ج ٢ ص ٦٢٣ ، ج ٨ ص ٢٨؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١١ : ص ١٥٨ ؛ انظر صحيح البخاري : كتاب أحاديث الأنبياء : باب قصة يأجوج ومأجوج : ج ٢ ص ٣٤٧ ح ٣٣٤٦ ؛ وانظر صحيح مسلم ؛ كتاب الفتن ، باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج : ص ٢٢٠٧ ح ٢٢٨٠ .

١٧٥

إذن فالغيبة تفسح المجال لكي يتضح بطلان كل ما يرفع من شعارات مُزيّفة ومُغرضة ، مهما كان مصدرها ، سواء أكانت من المدارس المادّية أم من مدارس ذات أصول سماوية منحرفة ؛ وبذلك يتبين فشل كل ما يرفع من الشعارات التي نراها براقة في يومنا هذا ، كأطروحة العدالة العالمية ، ومحاربة الإرهاب ، ومنظمة حقوق الإنسان وغيرها ، ومن ثم تسقط مصداقيتها لدى الناس ، وينكشف زيفها وكذبها ، وتتضح سياساتها العنصرية ونواياها السيئة ، وكذا يتضح عجز العقل البشري عن تلبية ما تطمح إليه الفطرة البشرية من السعادة الكاملة ، وإقامة العدل على هذه الأرض .

وهذا بدوره يشكّل عاملاً مهمّاً في نجاح الأطروحة الإلهية على يد الإمام المهديعليه‌السلام ، بإقامة دولته العالمية ، وتفاعل الناس معه .

ولعلّ روايات الفتنة والتمحيص المتقدمة تشير إلى ذلك ، وتؤكّد على عجز الإنتاج البشري عن تقديم ما تطمح إليه البشرية من العدل ، ورفاهية العيش والأمن في هذه الدنيا .

رابعاً : تجلّي مفهوم الانتظار في أحضان الغيبة

إنّ إحساس الفرد المؤمن بوجود الإمامعليه‌السلام ، واطّلاعه عن كثب على أوضاع المجتمع عموماً ، يساهم في حصول الاطمئنان والثبات النفسي عند المؤمنين ، وبذلك تزداد صلتهم بالإمامعليه‌السلام ، ويتغلغل إيمانهم به وبعقيدته إلى داخل أعماقهم ، ومن ثمّ تكون عقيدتهم بإمامهم عقيدة راسخة ، وهو معنى الانتظار الذي يعد من الركائز الأساسية التي اهتمّ بها القرآن الكريم

١٧٦

والرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام ، في عملية إعداد الفرد والمجتمع قال تعالى :( فَانْتَظِرُوا إِنّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ) (١) .

وقد أولى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عناية خاصة بمفهوم الانتظار ، وهذا ما نجده واضحاً من خلال كثافة الروايات الواردة في هذا السياق ، فقد جاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله :( أفضل العبادة انتظار الفرج ) (٢) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( انتظار الفرج بالصبر عبادة ) (٣) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أحب الأعمال إلى الله انتظار الفرج ) (٤) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( انتظار الفرج من الله عبادة ) (٥) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج ) (٦) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أفضل جهاد أُمّتي انتظار الفرج ) (٧) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أفضل العبادة انتظار الفرج ، أي انتظار الفرج بظهور المهدي ) (٨) .

ـــــــــــــ

(١) الأعراف : ٧١ .

(٢) سنن الترمذي ، الترمذي : ج ٥ ص ٢٢٦ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ١٠ ص ١٤٧ ، الجامع الصغير ، السيوطي : ج ١ ص ١٩٢ ؛ المعجم الكبير للطبراني : ج ١٠ ص ١٠١ ، المعجم الأوسط للطبراني : ج ٥ ص ٢٣٠ .

(٣) الجامع الصغير : الطبراني : ج ١ص ٤١٧ ؛ لسان الميزان ، ابن حجر : ج ٤ ص ٣٦٢ ، مسند ابن سلامة : ج ١ ص ٦٢ .

(٤) دستور معالم الحكم ، ابن سلامة : ص ١٠٣ .

(٥) الجامع الصغير ، السيوطي : ج ١ ص ٤١٧ .

(٦) الفرج بعد الشدّة ، القاضي التنوخي : ج ١ ص ٢٧ ؛ مناقب آل أبي طالب : ابن شهر آشوب : ج ٣ ص ٥٢٧ .

(٧) تحف العقول ، ابن شعبة : ص ٣٧ .

(٨) ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : ج ٣ ص ٣٩٧ ؛ لسان الميزان ، ابن حجر : ج ٣ ص ٩٣ .

١٧٧

فالانتظار يمثّل عنصر التوازن في حياة المؤمن وحالة وسطى بين القنوط واليأس من روح الله ، وبين حرمة الأمن من مكر الله ، قال تعالى :( وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رّوْحِ اللهِ إِنّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَوْحِ اللهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) (١) .

ومن خلال الانتظار يتوجه الإنسان إلى ربّه ، ويتمسّك بإمامه ، ويطلب الفرج من الله تعالى ، وهذا ما كشف النقاب عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بقوله :( أفضل العبادة انتظار الفرج ) (٢) .

كذلك نجد أنّ الانتظار في واحدة من أبعاده هو الإيمان بالغيب ، ومن ثمّ يحمل الفرد على العمل والتعبد بعقيدته ، ويكون محبّاً للعدل كارهاً للظلم ، وبذلك يوجّه نفسه ، وسائر إخوانه المؤمنين إلى ما فيه الخير والصلاح للمجتمع .

وكذلك نجد أيضاً أنّ الانتظار يحمل في طيّاته دفع المؤمن وحثّه على الامتثال والالتزام الكامل بتطبيق الأحكام الإلهية ، ليكون فرداً صالحاً مؤهّلاً للعضوية في مجتمع العدالة الكبرى ، ومن ثمّ يكتسب المؤمن الإرادة القوية ، والإخلاص الحقيقي الذي يؤهّله للمشاركة والتشرّف بتحمل المسؤولية الكبيرة في اليوم الموعود ، فيزداد تعلّقه بالأنبياء ورسالاتهم ، وتجديد العهد معهم ، ومع الإمامعليه‌السلام الذي يحقق هدف الأنبياء على هذه الأرض ، وكل هذا إنّما يتجلّى وتشتعل جذوته إذا أحس الإنسان بوجود المصلح حيّاً يرزق قد حفظه الله تعالى وادخره لإنجاز مهمّة الإصلاح .

ـــــــــــــ

(١) يوسف : ٨٧ .

(٢) سنن الترمذي ، الترمذي : ج ٥ ص ٢٢٦ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ١٠ ص ١٤٧ ؛ الجامع الصغير ، السيوطي : ج ١ ص ١٩٢ ؛ المعجم الأوسط ، الطبراني : ج ٥ ص ٢٣٠ .

١٧٨

خامساً : عدم انقطاع سلسلة حجج الله في الأرض

إنّ الغيبة من الوسائل المهمة للحفاظ على وجود الحجّة الإلهية في الأرض ، وعدم خلوّها من تلك الحجّة ، كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا تخلو الأرض من قائم بحجّة ) (١) .

ولا يخفى الأثر المهم والدور الأساس لوجود حجّة الله في الأرض ، من كونها أماناً لأهل الأرض ، كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( النجوم أمان لأهل السماء ، إذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض ) (٢) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لن يزال الدين قائماً إلى اثني عشر من قريش ، فإذا هلكوا ماجت الأرض بأهلها ) (٣) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، مَن ركب فيها نجا ، ومَن تخلّف عنها غرق ، ومَن قاتلنا في آخر الزمان فكأنّما قاتل مع الدجال ) (٤) .

ـــــــــــــ

(١) تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ٥٠ ص ٢٥٥ ؛ ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ١ ص ٨٩ ؛ المناقب ، الخوارزمي : ص ٣٦٦ ، وانظر تاريخ اليعقوبي ، اليعقوبي : ج ٢ ص ٢٠٦ .

(٢) فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : ج ٢ ص ١٦٥ ؛ شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ١ ص ٤٢٦ ؛ ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ١ ص ٧١ وح ٢ ص ١١٤ ؛ ذخائر العقبى ، محب الدين الطبري : ص ١٧ ؛ ونحوه في المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٢ ص ٤٤٨ ج ٣ ص ١٤٩ ص ٤٥٧ ؛ جواهر المطالب : ابن الدمشقي الشافعي : ج ١ ص ٣٤٣ .

(٣) المعجم الكبير ، الطبراني ج : ٢ ص ١٩٦ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٢ ص ٣٤ .

(٤) المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٣ ص ٤٥ ، ح ٢٦٣٦ ؛ مسند ابن سلامة : ج ٢ ص ٢٧٣ .

١٧٩

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( النجوم جُعلت أماناً لأهل السماء ، وإنّ أهل بيتي أمان لأُمّتي ) (١) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( كيف تهلك أمّة أنا أوّلها ، وعيسى بن مريم آخرها ، والمهدي من أهل بيتي في وسطها ) (٢) .

مضافاً إلى أنّ غيبة الإمامعليه‌السلام تؤمّن إتيانه بالإسلام الخالص ، كما أنزله الله تعالى حين الظهور ؛ لأنّه سوف يكون وارثاً عن أبيه عن آبائهعليهم‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإسلام الصحيح ، وتفاصيله التي أملاها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الإمام عليعليه‌السلام وكتبها بخطّه .

بخلاف ما لو قلنا إنّ المهديعليه‌السلام لم يولد بعد ، فإنّه حينئذ كيف يمكنه الإتيان بالإسلام الخالص بعد انقطاع الوحي ، وكيف يحرز الإسلام الصحيح وسط هذه الاختلافات بين المذاهب ، وبعد تضييع سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أضف إلى ذلك أنّ وجود الحجّة والإمام في الأرض لطف من الله تعالى ـ كما تقدم ـ وإتمام للحجّة البالغة على خلقه ، أمّا الغيبة فهي لأسباب وظروف اقتضت ذلك ، وقد تقدم ذكر بعضها .

سادساً : لكي لا تكون في عنقه بيعة لظالم

وهذا من معطيات الغيبة أيضاً ؛ لأنّ أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كلّهم أُجبروا وأُكرهوا على البيعة للحكّام الظالمين ، ابتداءً من الإمام عليعليه‌السلام إلى الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام .

والبيعة من الإمام المعصوم تعني إعطاء عهد يطوق به عنقه ويكبله ويقضي بعدم محاربة الظالم في حال لزومها .

ـــــــــــــ

(١) المعجم الكبير : ج ٧ ص ٢٢ .

(٢) الدر المنثور : ج ٢ ص ٧٤٢ ؛ الجامع الصغير السيوطي : ج ٢ ص ٤٢٣ ؛ تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ٤٧ ص ٥٢٢ ، ونحوها في المستدرك : الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ٤١ ؛ قال فيه : ( حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ) ، فيض القدير : ج ٥ ص ٣٨٣ .

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361