الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء ١

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية15%

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 361

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 361 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 214088 / تحميل: 8508
الحجم الحجم الحجم
الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

بأنبائكم ولا يعزب عنّا شيء من أخباركم ) (١) ، وقولهعليه‌السلام :( إنّا غير مهملين لمراعاتكم ، ولا ناسين لذكركم ، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء ، واصطلمكم الأعداء ، اتقوا الله جلّ جلاله ، وظاهرونا على انتياشكم من فتنة ، قد أنافت عليكم ، يهلك فيها مَن حمّ أجله ، ويحمى عنها مَن أدرك أمله ) (٢) .

دور الإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) في درء الفساد

من الأدوار الأساسية التي يقوم بها خليفة الله في الأرض ، هو منع البشرية من الانحدار في الهاوية ، ودرء خطر استئصالها ، والإبادة التامة والشاملة لها ، سواء كان ذلك نتيجة للحروب ، أم لتفشّي الظلم والجور والفساد ، وانتشار الأمراض والأوبئة وغيرها من الأمور التي تهدّد البشرية بالانقراض .

وهذا المعنى أشار إليه القرآن الكريم ، عند ذكره لاعتراض الملائكة ، في معرض تعريفه للخليفة ، وذلك في قوله تعالى ـ حكاية عن الملائكة :( قَالُوا أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) (٣) ، فالملائكة افترضت أنّ خليفة الله لا يفسد ، ولا يسفك الدماء ، بل هو الذي يقف حائلاً أمام ذلك ، وقد أقرّهم الله تبارك وتعالى على ذلك ، وأجابهم من جهة أخرى ، حيث قال :( إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) .

إذن أوّل دور من الأدوار الأساسية التي يقوم بها خليفة الله في الأرض ، هو درء الفساد ، وممانعة سفك الدماء وهذا ما يلتقي مع التصريحات الكثيرة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المجال ، كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا تخلوا الأرض من حجّة ) ، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض ) وغير ذلك من التصريحات النبويّة ، التي تؤكّد على أنّ من بين الأدوار الأساسية للخلفاء حفظ البشرية من الهلاك ، ومنع وقوعها في الفساد .

ـــــــــــــ

(١) الاحتجاج ، الطبرسي : ج ٢ ص ٣٢٣ ، الخرائج والجرائح ، قطب الدين الراوندي : ج ٢ ص ٩٠٢ .

(٢) الاحتجاج ، الطبرسي : ج ٢ ص ٣٢٣ .

(٣) البقرة : ٣٠ .

١٦١

ثم إنّ السؤال الأساس يقع عمّا هو المراد بالفساد ؟ وهل يشمل كل فساد ولو كان جزئياً ؟

وفي مقام الإجابة عن ذلك نقول : ليس المراد من الفساد ما يشمل الفساد الجزئي والمقطعي ، وذلك بمقتضى اعتراف الملائكة ، حيث إنّهم لم يعترضوا على الفساد القليل ؛ لأنّ الفساد القليل يقابله الخير الكثير ، فاعتراض الملائكة إنّما كان على الفساد المطبق ، والشامل للأرض ومَن عليها ، المستأصل للبشرية ، والموجب لاجتثاثها وهلاكها .

فدور الخليفة إذاً لا يقتصر على فئة معيّنة من الناس ، أو على المسلمين فحسب ، وإنّما هو شامل لكل البشرية ؛ لذا قال تعالى شأنه :( إنّي جاعل في الأرض ) ، وكذا قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا تخلو الأرض من حجّة ) (١) وقوله :( إذا هلكوا ماجت الأرض بأهلها ) ، وقوله :( أهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض ) ، فلم يقل هلك أو ذهب المسلمون خاصة ، أو ماجت الأرض بهم .

فالإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) الذي هو خليفة الله في الأرض ، يمارس دوراً كبيراً في حياة البشرية ، وإن لم يتقلّد الحكومة الرسمية الظاهرة ، فهو (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) كما هو الحال في الخضرعليه‌السلام ، الذي هو وليّ من أولياء الله تعالى ، وعبد من عباده ، قلّده مناصب عالية وحكومة رائدة ، يديرها بالسر والخفاء .

فقصّة الخضرعليه‌السلام ـ الذي هو عبد من مجموعة عباد جعلهم الله أوتاداً للأرض ـ ذكرها الله عزّ وجلّ في قرآنه الخالد ، عظة وعبرة لنا ، وليست هي مجرّد قصة خيالية لا واقع لها ، وإنّما الغاية من هذه القصّة هي الاعتقاد بوجود أولياء وحجج لله تعالى ، يقومون بمهام إلهية ، ويديرون دفّة الحكم الإلهي في الأرض .

إذن ليست الغيبة بمعنى التعطيل والجمود ، كما قد يتخيلها البعض .

إذن فالإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) له دور كبير في فترة غيبته .

ـــــــــــــ

(١) المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٢ ص ١٩٦ ح ١٧٩٤ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٢ ص ٣٤ ح ٣٣٨٦١ ؛ وانظر : تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ٥٠ ص ٢٥٥ ؛ وانظر تاريخ اليعقوبي ، اليعقوبي : ج ٢ ص ٢٠٦ ؛ وانظر ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : ج ١ ص ٨٩ ؛ وانظر المناقب ، الخوارزمي : ص ٣٦٦ .

١٦٢

أضف إلى ذلك كله ، أنّ هناك أعمالاً وأفعالاً أوكل الإمامعليه‌السلام مهمّة القيام بها إلى من قلّدهم النيابة العامة في زمن الغيبة ، وهم العلماء والفقهاء العدول ؛ ليكونوا بذلك ممثّلين لهعليه‌السلام ، ينوبون عنه في بعض المهام التي أُوكلت إليهم ، كما ورد ذلك عنهعليه‌السلام ، حيث قال :( وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجّة الله عليهم ) (١) .

وقد أشار باقي الأئمّةعليهم‌السلام أيضاً إلى هذا الدور المهم للعلماء في عصر الغيبة الكبرى ـ فمثلاً ـ ما عن الإمام الهاديعليه‌السلام أنّه قال :( لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم عليه الصلاة والسلام من العلماء الداعين إليه ، والذّابين عن دينه بحجج الله ، المنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ، ومن فخاخ النواصب ، لما بقي أحد إلاّ ارتد عن دينه ، ولكنّهم الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكّانها ، أولئك هم الأفضلون عند الله ) (٢) .

ونقتصر في هذا المجال على ما أفاده الشيخ المفيدرحمه‌الله ، حيث قال بعد تعرّضه لبعض مهام الغيبة : ( ولا يحتاج هوعليه‌السلام إلى تولّي ذلك بنفسه ، كما كانت دعوة الأنبياءعليهم‌السلام تظهر بأتباعهم والمقرّين بحقّهم ، وينقطع العذر بها فيما ينأى عن ملتهم ومستقرهم ، ولا يحتاجون إلى قطع المسافات لذلك بأنفسهم ، وقد قامت أيضاً بأتباعهم بعد وفاتهم وكذلك إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام ، وقد يتولاّها أُمراء الأئمّة ، وعمّالهم دونهم ، كما كان يتولّى ذلك أُمراء الأنبياءعليهم‌السلام وولاتهم ، ولا يخرجون هم إلى ذلك بأنفسهم ، وكذلك القول في الجهاد ، ألا ترى أنّه يقوم به الولاة من قبل الأنبياء والأئمّة دونهم ، ويستغنون عن توليه بأنفسهم ، فعُلم بما ذكرناه أنّ الذي أحوج إلى وجود الإمام ، ومنع من عدمه ، ما أختص به من حفظ الشرع ، الذي لا يجوز ائتمان غيره عليه ، ومراعاة الخلق في أداء ما كلّفوه

ـــــــــــــ

(١) الغيبة ، الطوسي : ص ٢٩١ ؛ الاحتجاج : الطبرسي : ج ٢ ص ٢٨٣ ؛ الخرائج والجرائح ، قطب الدين الراوندي : ج ٣ ص ١١١٤ .

(٢) الاحتجاج ، الطبرسي : ج ٢ ص ٢٦٠ .

١٦٣

من أدائه )(١) .

والحاصل : إنّ للإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) طوراً آخر من أطوار الإدارة والحكم في زمن الغيبة ، وأمّا تنفيذ الكثير من الأمور التي تحتاج إلى إجراء بحسب ما هو الظاهر والمعلن ، فقد أوكل ذلكعليه‌السلام إلى العلماء والفقهاء .

خلفيات وفوائد أُخرى للغيبة

أوّلاً : حفظ شخصية الإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)

من أهم فوائد غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) هي حفظ شخصيته (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) من القتل والاغتيال ؛ لأنّ هذه الأمة الإسلامية لا تعدو خطى الأمم السابقة ، كما صرّح بذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ هذه الأمة ستتبع خطى الأمم السالفة ، حذو النعل ، والقذّة بالقذّة ، وقد وقعت الغيبة لكل من إدريس وصالح وإبراهيم ويوسفعليهم‌السلام ، وقد اضطّر موسىعليه‌السلام إلى الهرب من قومه( فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمّا خِفْتُكُمْ ) (٢) ، وكذلك رفع الله عيسىعليه‌السلام ، عندما أراد بنو إسرائيل قتله ، قال تعالى :( بَل رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) (٣) كذلك كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحتجب عن قومه في غار حراء فترة مديدة من الزمن ، وقد اضطر للاعتزال عنهم في الشعب ثلاث سنين ، وأخرج أحمد بن حنبل عن عكرمة قوله : مكث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمس عشرة سنة ، منها أربع أو

ـــــــــــــ

(١) مسائل عشر ، الشيخ المفيد : ص ١٠٦ ـ ١٠٧ .

(٢) الشعراء : ٢١ .

(٣) النساء : ١٥٨ .

١٦٤

خمس يدعو إلى الإسلام سرّاً وهو خائف(١) .

فإذا كانت غيبة واحتجاب أولئك الأنبياءعليهم‌السلام لا تضر ، ولا تقدح في نبوّتهم وبعثتهم للأمم ، بل يعد ذلك من الأساليب المهمة في سبيل انجاز وتحقيق الغاية ، لا سيّما وأنّه امتثال لمشيئة الله تعالى وإرادته ، كذلك ما نجده في غيبة الإمام المهديعليه‌السلام ، إذ إنّ غيبته كغيبتهمعليهم‌السلام ، وظروفه كظروفهم ، من متابعته ومحاولة قتله والقضاء عليه ، بل ما نجده في حياة الإمام المهديعليه‌السلام من الظروف التي تستدعي الغيبة كثيرة جداً ، وفي غاية الوضوح ، حيث كانت السلطات العباسية تسعى حثيثاً للقبض عليه وقتله ، كما نصّ على ذلك المؤرخون والمحدثون :

منهم : ابن الصباغ المالكي ، حيث قال : ( خلّف أبو محمد الحسن ابنه الحجّة القائم المنتظر لدولة الحق ، وكان قد أخفى مولده ، وستر أمره ، لصعوبة الوقت ، وشدّة طلب السلطان ، وتطلّبه للشيعة ، وحبسهم ، والقبض عليهم )(٢) .

ومنهم : ابن أبي الفتح الإربلي في كتابه ( كشف الغمّة ) ، وعبارته قريبة من عبارة ابن الصباغ المتقدمة ، وينقل بالإضافة إلى ذلك رواية أحمد بن عبيد الله بن خاقان ، والي الضياع والخراج بقم ، وجاء فيها : ( وخرجنا وهو على تلك الحال ، والسلطان يطلب أثر ولد الحسن بن علي اليوم ، وهو لا يجد إلى ذلك سبيلاً ، والشيعة مقيمون على أنّه مات وخلّف ولداً ، يقوم مقامه بالإمامة ) (٣) وغيرهم كثير ؛ فراجع .

ـــــــــــــ

(١) كتاب العلل ، أحمد بن حنبل : ج ٢ ص ٥٩٠ ج ٣ ص ٤٢٦ ، وكذا في الدر المنثور السيوطي ج ٥: ص ١٠٢ ، المصنف : الصنعاني ج ٥ ص ٣٦١ .

(٢) الفصول المهمة ، ابن الصباغ المالكي : ص ١٠٩١ .

(٣) كشف الغمة ، الإربلي : ج ٣ ص ٢٠٥ .

١٦٥

وهذا السبب وإن كان غير مختص به دون آبائهعليهم‌السلام ، حيث تعرّضوا للمطاردة والقتل والاغتيال ، إلاّ أنّ السبب الأساس الذي يقف وراء اختصاص الإمام المهدي بالغيبة دونهمعليهم‌السلام ، هو أنّهعليه‌السلام مكلّف بإقامة الدولة الإسلامية العالمية ، وعلى يديه يحقق الله تعالى العدل والقسط على هذه الأرض ، وبواسطته يُظهر الله عزّ وجلّ الإسلام على الدين كلّه ولو كره المشركون ، فلا بد من المحافظة على وجوه المبارك لإنجاز هذه المهمة التي جعلها الله تعالى الغاية الأساسية من بعثة الأنبياء والرسل .

ولا تعني غيبتة واختفاؤه (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) انتفاء إمامته ، أو تخلّيه عن المسؤوليات المُناطة به ، بل هو الحجّة القائمة لله على خلقه ، ولكن ستره الله تعالى عن خلقه خوفاً على حياته من الظالمين ، كما صرّح بذلك أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، حيث قال :( اللّهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم بحجّة ، إما ظاهر مشهور ، وإما خائف مغمور ، لأن لا تبطل حجج الله ، وبيّناته ) (١) ، وخائف مغمور أي خائف مختف ، وقد بيّنا سابقاً أنّ الغيبة لا تعني أنّه ناءٍ وبعيد وعديم الدور في الأمّة ، وإنّما الغيبة هي إدارة الأمور والعمل بالخفاء .

ومعنى الخوف من القتل ليس ما يتبادر إلى الأذهان الساذجة ، من المعاني الأوّلية للخوف ؛ لأنّ هذا النوع من الخوف غير متصوّر في أولياء

ـــــــــــــ

(١) تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ٥٠ ص ٢٥٥ ، وانظر تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ص ٢٠٦ ، وانظر كنز العمال : ج ١٠ ص ٢٦٣ ـ ٢٦٤ ( أخرجها عن ابن الأنباري في المصاحف والمرهبي في العلم ونصر في الحجّة ) ، المعيار والموازنة ، الإسكافي : ص ٨١ ؛ مناقب أمير المؤمنين ، محمد بن سليمان القاضي : ج ٢ ص ٩٦ ؛ دستور معالم الحكم : ابن سلامة : ص ٨٤ ، ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : ج ١: ص٨٩ .

١٦٦

الله تعالى وحججه الذين يأنسون بالموت ولقاء الله عزّ وجلّ ، وإنّما المقصود من خوف القتل هنا هو الخوف على ضياع الغرض والهدف الإلهي الذي أنيط بهعليه‌السلام ، حيث إنّ مسؤوليتهعليه‌السلام جسيمة وعظيمة تشبه مسؤولية الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذي صدع بأمر الله تعالى ، لنشر الدين على وجه الأرض ، كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( هو رجل من عترتي ، يقاتل على سنّتي ، كما قاتلت أنا على الوحي ) (١) .

فالخوف المقصود إنّما هو الخوف من استئصال الحجج الإلهية على الخلق ، كما ورد ذلك في الروايات متضافراً :

منها : ما جاء عن زرارة قال : سمعت أبا عبد الله يقول :إنّ للغلام غيبة قبل أن يقوم ، قال : ( قلت ولم ؟ قال :يخاف ، وأومأ إلى بطنه ، ثم قال :يا زرارة وهو المنتظر )(٢) .

ومنها : ما عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أيضاً قال : (للقائم غيبة قبل قيامه قلت : ـ أي زرارة ـ وَلِمَ ؟ قال :يخاف على نفسه الذبح )(٣) .

ومنها : ما جاء عن أبي بصير قال : سمعت أبا جعفرعليه‌السلام يقول :( في صاحب هذا الأمر أربعة ، من سنن أربعة أنبياء فأمّا من موسى : فخائف يترقب ) (٤) .

ـــــــــــــ

(١) كتاب الفتن ، المروزي : ص ٢٢٩ ؛ ينابيع المودة ، القندوزي : ج ٣ ص ٢٦٣ .

(٢) الكافي ، الكليني : ج ١ ص ٣٣٧ ؛ تاريخ آل زرارة ، أبو غالب الزراري : ج ١ : ص ٢١ ؛ كمال الدين ، الشيخ الصدوق : ص ٣٤٦ ؛ الغيبة : النعماني : ص ١٧٧ .

(٣) كمال الدين وتمام النعمة ، الصدوق : ص ٤٨١ .

(٤) الإمامة والتبصرة : ص ٩٤ ، كمال الدين ، الصدوق : ص ٢٨ ؛ دلائل الإمامة ، محمد بن جرير الطبري : ص ٤٧٠ ؛ كتاب الغيبة ، الطوسي : ص ٤٢٤ .

١٦٧

ومنها : ما عن المفضل بن عمر ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : ( إذا قام القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) قال : ففررت منكم لمّا خفتكم فوهب لي ربي حكماً )(١) .

ومنها : ما جاء في كشف الغمة للإربلي ، عن الإمام الحسينعليه‌السلام قال :( في القائم منّا سنن من الأنبياء ، سنّة من نوح ، وسنّة من إبراهيم ، وسنّة من موسى ، وسنّة من عيسى ، وسنّة من أيوب ، وسنّة من محمد وأمّا من موسى فالخوف ، والغيبة ) (٢) .

وكذلك في كشف الغمّة ، في حديث محمد بن مسلم ، قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول : ( إن قدام القائم بلوى من الله ، قلت : وما هو جعلت فداك ؟ فقرأ :( وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالّثمَرَاتِ وَبَشّرِ الصّابِرِينَ ) (٣) ، ثم قال : الخوف من ملوك بني فلان ، والجوع من غلاء الأسعار ، ونقص الأموال من كساد التجارات ، وقلّة الفضل فيها ، ونقص الأنفس بالموت الذريع ، ونقص الثمرات بقلّة ريع الزرع ، وقلّة بركة الثمار ، ثم قال : وبشّر الصابرين عند ذلك بتعجيل خروج القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف)(٤) .

ثانياً : التمحيص

معنى التمحيص : هو التطهير مع شدّة الاختبار ؛ لأنّ مادة ( محص ) تدلّ على الخلوص ، والتطهير من كل عيب ، كما يقال محّص الذهب بالنار ، أي خلّصه ممّا يشوبه .

ـــــــــــــ

(١) الغيبة ، محمد بن إبراهيم النعماني : ص ١٧٤ .

(٢) كشف الغمّة ، الإربلي : ج ٣ ص ٣٢٩ ، إكمال الدين وإتمام النعمة ، الصدوق : ص ٣٢٢ .

(٣) البقرة : ١٥٥ .

(٤) كشف الغمّة ، الإربلي : ج ٣ ص ٢٦٠ .

١٦٨

وعلى ضوء ذلك كان التمحيص والابتلاء والاختبار سنّة إلهيّة رافقت البشرية منذ بداية خلقها ، قال تعالى :( مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى‏ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى‏ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ ) (١) .

وكذا قال تبارك وتعالى :( وَلِيُمَحّصَ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) (٢) ، وكقوله تعالى :( وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلُِيمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ ) (٣) ، فمن خلال التمحيص يتعيّن مركز الفرد وواقعه تجاه عقيدته وإيمانه ، استقامة أو انحرافاً ، كما يكشف التمحيص عن عناصر القوة والضعف في نفسية الإنسان ، فهو طريق لاستكمال النفوس ورقيّها ، فإذا ورد التمحيص على جماعة من الناس فإنّه يقتضي امتياز المؤمنين من المنافقين .

وتتضاعف أهميّة التمحيص في عصر الغيبة فيما إذا اقترن بالإعداد ليوم الظهور ، لتحمّل المسؤولية ، والمشاركة في إنقاذ العالم من الظلم والجور الذي يفترض فيه وجود عدد كاف ممحص ومطهر من شوائب الكفر والشرك والنفاق ، ليكونوا من المخلصين الذين لهم شرف المشاركة في الدولة الكريمة العادلة بقيادة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) .

ومن هذا المنطلق نعرف أهمية التمحيص والاختبار الذي أشارت إليه الروايات بكثافة .

وممّا يشهد على أهمية التمحيص ودوره في تمييز الخبيث من الطيب ، ما لمسناه واضحاً من الردّة والانقلاب على الأعقاب بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث وجدنا أنّ الكثير ممّن رافقوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يصمدوا أمام غربال التمحيص والاختبار ، بل انحرفوا عمّا رسمه لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصاياه الكثيرة والمتعددة في شأن الإمامة والخلافة ، فضلاً عما صرّح به القرآن الكريم في هذا الشأن ، وهذا يدل على أن كثيراً من هؤلاء الأصحاب لم يكونوا ممحصين ، ولا قادرين على تحمل المسؤولية .

ـــــــــــــ

(١) آل عمران : ١٧٩ .

(٢) آل عمران : ١٤١ .

(٣) آل عمران : ١٥٤ .

١٦٩

ومن هنا نفهم سرّ عدم جعل الأئمةعليهم‌السلام الكفاح العسكري المسلح هو الخيار والحل الوحيد لإقامة الحق والعدل ؛ وذلك لأنّهم لا يرون القيام بالعمل العسكري وحده كافياً للانتصار وإقامة دعائم الحكم الصالح ، بل يتوقّف ذلك على إعداد جيش عقائدي ممحص مطهّر مخلص يؤمن بالإمام وعصمته وحاكميته إيماناً مطلقاً ، ويعي أهدافه الكبيرة ، ويدعم تخطيطه الواسع .

وعلى هذا الأساس نجد أنّ من شرائط ظهور الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) الأساسية هو ظهور عدد من الأصحاب والأنصار المخلصين للإسلام وللإمامعليه‌السلام القادرين على تحمّل المسؤولية ، وهذا لا يتحقّق إلاّ من خلال مرور البشرية بالظروف القاسية والفتن الشديدة .

وممّا ينبغي الإشارة إليه ، هو أنّ التمحيص المقصود الذي من خلاله تتهيّأ البشرية لليوم الموعود ، هو تمحيص البشرية بشكل عام ، وعلى طول امتدادها التاريخي ، بالنحو الذي ينتج أفراداً مخلصين قادرين على تحمّل المسؤولية في الدولة الكريمة .

أمّا روايات التمحيص والابتلاء في زمن الغيبة ، وقبل قيام الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) فهي كثيرة جداً ، وقد وردت في كتب الفريقين :

١٧٠

منها : رواية ابن عباس المتقدمة ، عندما قال جابر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يا رسول الله وللقائم من ولدك غيبة ؟ قال:إي وربي ، ليمحص الله الذين آمنوا ، ويمحق الكافرين )(١) .

ومنها : ماجاء على لسان الإمام عليعليه‌السلام ، عندما قال للإمام الحسينعليه‌السلام :( التاسع من ولدك يا حُسين هو القائم بالحق ، والمظهر للدين ، والباسط للعدل ، قال الحسينعليه‌السلام :فقلت : وإن ذلك لكائن ؟ فقال عليه‌السلام : أي والذي بعث محمّداً بالنبوّة ، واصطفاه على جميع البرية ، ولكن بعد غيبة وحيرة لا يثبت على دينه إلاّ المخلصون المباشرون لروح اليقين الذين أخذ الله ميثاقهم بولايتنا ، وكتب في قلوبهم الإيمان ، وأيدهم بروح منه) (٢) ، فالمخلصون بحسب هذه الرواية هم حاصل ذلك الابتلاء والتمحيص .

ومنها : ما جاء أيضاً عن الإمام عليعليه‌السلام ، حيث قال للأصبغ بن نباته :( الحادي عشر من ولدي هو المهدي ، يملأها عدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً ، تكون له حيرة وغيبة ، يضلّ فيها أقوام ، ويهتدي فيها آخرون ، فقلت : يا أمير المؤمنين وإنّ هذا لكائن ؟ فقال :نعم ، كما أنّه مخلوق ، وأنّى لك بالعلم بهذا الأمر يا أصبغ ، أولئك خيار هذه الأمّة ، مع أبرار هذه العترة ) (٣) .

ـــــــــــــ

(١) ينابيع المودة ، القندوزي : ج ٣ ص ٢٩٧ وص ٣٨٧ ، كشف الغمّة : الإربلي : ج ٣ ص ٣٢٨ .

(٢) كشف الغمة ، الإربلي : ج ٣ ص ٣٢٨ .

(٣) الإمامة والتبصرة ، ابن بابوية القمّي : ص ١٢١ ؛ الغيبة ، النعماني : ص ٦١ ؛ كفاية الأثر ، الخزاز القمّي : ص ٢٢٠ .

١٧١

ومنها : ما ورد عن الإمام محمد الباقرعليه‌السلام ، في قوله تعالى :( فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنّسِ * الْجَوَارِ الْكُنّسِ ) (١) ، قال :( هذا مولود في آخر الزمان ، هو المهدي من هذه العترة ، تكون له حيرة وغيبة ، يضلّ فيها أقوام ، ويهتدي فيها أقوام ) (٢) .

ومنها : ما ورد عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام أيضاً ، قال:( والله لتميزنّ ، والله لتمحصنّ ، والله لتغربلنّ ، كما يغربل الزؤان من القمح ) (٣) .

ومنها : ما ورد عنه أيضاًعليه‌السلام ، قال :( هيهات هيهات ، لا يكون الذي تمدّون إليه أعناقكم حتى تمحصوا ، هيهات ولا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم ، حتى تميزوا ، ولا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم حتى تغربلوا ، ولا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم إلاّ بعد إياس ، ولا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم حتى يشقى مَن شقي ، ويسعد مَن سعد ) (٤) .

ومنها : ما ورد عن أبي عبد الله جعفر بن محمدعليه‌السلام :( والله لتُمحصنّ ، والله لتطيرن يميناً وشمالاً ، حتى لا يبقى منكم إلاّ كل امرئ أخذ الله ميثاقه ، وكتب الإيمان في قلبه ، وأيده بروح منه ) (٥) .

ومنها : ما ورد عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أيضاً قال :( لابدّ للناس أن يمحّصوا ويميّزوا ويغربلوا ، وسيخرج من الغربال خلق كثير ) (٦) .

ـــــــــــــ

(١) التكوير : ١٥ ـ ١٦ .

(٢) إكمال الدين وإتمام النعمة ، الصدوق : ص ٣٣٠ ، انظر : الغيبة ، الطوسي : ص ٣٣٦ .

(٣) الغيبة ، الطوسي : ص ٣٤٠ ، الغيبة ، النعماني : ص ٢٠٥ .

(٤) الغيبة ، النعماني : ص ٢٠٩ .

(٥) المصدر نفسه : ص ٢٦ .

(٦) المصدر نفسه : ص ٢١٢ ؛ دلائل الإمامة : ابن جرير الطبري (الشيعي) : ص ٤٥٦ ؛ العدد القوية ، العلاّمة الحلّي : ص ٧٤ ؛ الكافي ، الكليني : ج ١ ص ٣٧٠ .

١٧٢

ومنها : ما جاء عنه أيضاًعليه‌السلام :( لتُمحصنّ يا شيعة آل محمد ، تمحيص الكحل في العين ) (١) .

ومنها : كذلك ما ورد عنهعليه‌السلام قوله : ( والله لتكسّرن تكسّر الزجاج ، وإنّ الزجاج ليعاد فيعود كما كان ، والله لتكسّرن تكسّر الفخار وإنّ الفخار ليتكسّر فلا يعود كما كان ، ووالله لتغربلن، والله لتميزن ، والله لتمحّصن حتى لا يبقى منكم إلا الأقل ، وصعّر كفه )(٢) .

ومنها : ما ورد عنه أيضاًعليه‌السلام ، قال :( والله لتمحصنّ ، والله لتميزن ، والله لتغربلن ، حتى لا يبقى منكم إلاّ الأندر ) (٣) .

ومنها : ما عن صفوان بن يحيى ، قال : قال أبو الحسن الرضاعليه‌السلام :( والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تمحصوا ، وحتى لا يبقى منكم إلاّ الأندر ، فالأندر ) (٤) .

وأخيراً : يضرب الإمام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام لنا مثلاً في ذلك ، حيث يقول :( وسأضرب لكم مثلاً ، وهو مثل رجل كان له طعام فنقّاه ، وطيّبة ثم أدخله بيتاً ، وتركه فيه ما شاء الله ، ثم عاد إليه ، فإذا هو قد أصابه السوس ، فأخرجه ونقّاه وطيّبه ثم أعاده إلى البيت ، فتركه ما شاء الله ، ثم عاد إليه ، فإذا هو قد أصابته طائفة من السوس ، فأخرجه ونقّاه ، وطيّبه ، وأعاده ، ولم يزل كذلك حتى بقيت منه رزمة

ـــــــــــــ

(١) الغيبة ، النعماني : ص ٢٠٦ ؛ الغيبة ، الطوسي : ص ٣٣٩ .

(٢) المصدر نفسه : ص ٢٠٧ ؛ المصدر نفسه : ص ٣٤٠ .

(٣) تفسير العياشي ، محمد بن مسعود العياشي : ج ١ ص ١٩٩ ؛ وانظر : الغيبة ، النعماني : ص ٢٠٨ ؛ وانظر : الغيبة ، الشيخ الطوسي : ص ٣٣٧ .

(٤) غيبة ، النعماني : ص ٢٠٨ ؛ الغيبة ، الشيخ الطوسي : ص ٣٣٧ ؛ الخرائج والجرائح : الراوندي : ج ٣ ص ١١٧٠ ؛ انظر : تفسير العياشي : ج ١ ص ١٩٩ .

١٧٣

كرزمة الأندر ، لا يضره السوس شيئاً ، وكذلك أنتم تُميزون ، حتى لا يبقى منكم إلاّ عصابة لا تضرها الفتنة شيئاً ) (١) ، وبنفس المضمون ما جاء عن الإمام الباقرعليه‌السلام (٢) .

وكذلك ما جاء أيضاً على لسان حكيمة عمّه الإمامعليه‌السلام ، عندما قالت لمحمد بن عبد الله المطهري : (لا بد للأمّة من حيرة ، يرتاب فيها المبطلون ، ويخلص فيها المُحقّون ، كيلا يكون للناس على الله حجّة )(٣) .

هذا مضافاً إلى روايات الفتن ، والابتلاء في آخر الزمان التي نقلها الفريقان بنحو التواتر ، والتي لا يخلو منها كتاب واحد من كتب الحديث ، بل عُقدت لروايات الفتن في آخر الزمان كتب وأبواب خاصّة ، وهذا يكشف عن أهمية التمحيص والغربلة في عصر الغيبة لمعرفة وتمييز المخلصين الصالحين للقيام بشؤون الدولة العالمية ، تحت راية الإمام المهديعليه‌السلام عن غيرهم ، ومن تلك الروايات :

١ ـ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم ، يصبح فيها الرجل مؤمناً ويُمسي كافراً ، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً ) (٤) .

٢ ـ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ثم فتنة الدهيماء ، لا تدع أحداً من هذه الأُمّة إلاّ

ـــــــــــــ

(١) الغيبة ، النعماني : ص ٢١٠ .

(٢) كمال الدين وتمام النعمة ، الصدوق : ص ٤٢٦ .

(٣) المصدر نفسه : ص ٤٢٦ .

(٤) مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ٤ ص ٢٧٧ ، البداية والنهاية ، ابن كثير ج ٨ ص ٢٦٧ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٤ ص ٢٢٩ ؛ النهاية في الفتن والملاحم : ابن كثير الدمشقي : ج ١ ص ٥٩ ؛ سنن أبي داود ، السجستاني : كتاب الفتن ، ص ٧٠٨ ح ٤٢٥٣ ؛ سنن الترمذي ، الترمذي : كتاب الفتن ؛ باب ما جاء في اتخاذ سيف من خشب في الفتنة : ص ٢٣٠ ، ح ٢٢٩٣ ؛ كما أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن ، باب التثبيت في الفتنة : ص ١٣١٠ ، ح ٣٩٦١ .

١٧٤

لطمته ، حتى إذا قيل انقضت عادت ، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً حتى يصير الناس فسطاطين ، فسطاط إيمان لا نفاق فيه ، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه ، فإذا كان ذاكم فانتظروا الدجال من يومه أو من غده) (١) .

٣ ـ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتن كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ، يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا قليل ؛ المتمسّك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر ـ أو قال ـعلى الشوك ) (٢) .

ثالثاً : انكشاف عجز وبطلان الأطروحات الأخرى

لا ريب أنّ الغيبة تساهم في إثبات عجز أو فشل المدارس والأطروحات الأخرى التي تدعي تحقيق السعادة والعدل والكمال المنشود للمجتمع البشري ، وهذا بدوره يكون دافعاً للمجتمع عموماً للتفاعل الإيجابي مع المهمّة الإصلاحية الكبرى للإمام المهديعليه‌السلام .

ومن ثم يزيل العقبات التي تمنع عن حصول هذا التفاعل المطلوب ، لتحقيق الأهداف الإلهية ، التي يقوم بإنجازها الإمامعليه‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) النهاية في الفتن والملاحم : ابن كثير الدمشقي : ج ١ ص ٦١ ؛ وكذا لاحظ : سنن أبي داود ؛ كتاب الملاحم ، باب الأمر والنهي : ج ٢ ص ٢٢٩ ، ح ٤٣٤٢ ؛ تهذيب الكمال ، المزي : ج ٢٢ ص ٥٢٧ ؛ مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ٢ ص ١٣٣ باختلاف في اللفظ ؛ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٤ ص ٤٦٧ .

(٢) مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ٢ : ص ٣٩٠ ؛ النهاية في الفتن والملاحم : ابن كثير الدمشقي : ج ١ ص ٥٥ تاريخ دمشق ، ابن عساكر : ج ٧٠ ص ٣٥ ؛ سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ج ٢ ص ٦٢٣ ، ج ٨ ص ٢٨؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١١ : ص ١٥٨ ؛ انظر صحيح البخاري : كتاب أحاديث الأنبياء : باب قصة يأجوج ومأجوج : ج ٢ ص ٣٤٧ ح ٣٣٤٦ ؛ وانظر صحيح مسلم ؛ كتاب الفتن ، باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج : ص ٢٢٠٧ ح ٢٢٨٠ .

١٧٥

إذن فالغيبة تفسح المجال لكي يتضح بطلان كل ما يرفع من شعارات مُزيّفة ومُغرضة ، مهما كان مصدرها ، سواء أكانت من المدارس المادّية أم من مدارس ذات أصول سماوية منحرفة ؛ وبذلك يتبين فشل كل ما يرفع من الشعارات التي نراها براقة في يومنا هذا ، كأطروحة العدالة العالمية ، ومحاربة الإرهاب ، ومنظمة حقوق الإنسان وغيرها ، ومن ثم تسقط مصداقيتها لدى الناس ، وينكشف زيفها وكذبها ، وتتضح سياساتها العنصرية ونواياها السيئة ، وكذا يتضح عجز العقل البشري عن تلبية ما تطمح إليه الفطرة البشرية من السعادة الكاملة ، وإقامة العدل على هذه الأرض .

وهذا بدوره يشكّل عاملاً مهمّاً في نجاح الأطروحة الإلهية على يد الإمام المهديعليه‌السلام ، بإقامة دولته العالمية ، وتفاعل الناس معه .

ولعلّ روايات الفتنة والتمحيص المتقدمة تشير إلى ذلك ، وتؤكّد على عجز الإنتاج البشري عن تقديم ما تطمح إليه البشرية من العدل ، ورفاهية العيش والأمن في هذه الدنيا .

رابعاً : تجلّي مفهوم الانتظار في أحضان الغيبة

إنّ إحساس الفرد المؤمن بوجود الإمامعليه‌السلام ، واطّلاعه عن كثب على أوضاع المجتمع عموماً ، يساهم في حصول الاطمئنان والثبات النفسي عند المؤمنين ، وبذلك تزداد صلتهم بالإمامعليه‌السلام ، ويتغلغل إيمانهم به وبعقيدته إلى داخل أعماقهم ، ومن ثمّ تكون عقيدتهم بإمامهم عقيدة راسخة ، وهو معنى الانتظار الذي يعد من الركائز الأساسية التي اهتمّ بها القرآن الكريم

١٧٦

والرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام ، في عملية إعداد الفرد والمجتمع قال تعالى :( فَانْتَظِرُوا إِنّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ) (١) .

وقد أولى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عناية خاصة بمفهوم الانتظار ، وهذا ما نجده واضحاً من خلال كثافة الروايات الواردة في هذا السياق ، فقد جاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله :( أفضل العبادة انتظار الفرج ) (٢) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( انتظار الفرج بالصبر عبادة ) (٣) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أحب الأعمال إلى الله انتظار الفرج ) (٤) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( انتظار الفرج من الله عبادة ) (٥) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج ) (٦) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أفضل جهاد أُمّتي انتظار الفرج ) (٧) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أفضل العبادة انتظار الفرج ، أي انتظار الفرج بظهور المهدي ) (٨) .

ـــــــــــــ

(١) الأعراف : ٧١ .

(٢) سنن الترمذي ، الترمذي : ج ٥ ص ٢٢٦ ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ١٠ ص ١٤٧ ، الجامع الصغير ، السيوطي : ج ١ ص ١٩٢ ؛ المعجم الكبير للطبراني : ج ١٠ ص ١٠١ ، المعجم الأوسط للطبراني : ج ٥ ص ٢٣٠ .

(٣) الجامع الصغير : الطبراني : ج ١ص ٤١٧ ؛ لسان الميزان ، ابن حجر : ج ٤ ص ٣٦٢ ، مسند ابن سلامة : ج ١ ص ٦٢ .

(٤) دستور معالم الحكم ، ابن سلامة : ص ١٠٣ .

(٥) الجامع الصغير ، السيوطي : ج ١ ص ٤١٧ .

(٦) الفرج بعد الشدّة ، القاضي التنوخي : ج ١ ص ٢٧ ؛ مناقب آل أبي طالب : ابن شهر آشوب : ج ٣ ص ٥٢٧ .

(٧) تحف العقول ، ابن شعبة : ص ٣٧ .

(٨) ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : ج ٣ ص ٣٩٧ ؛ لسان الميزان ، ابن حجر : ج ٣ ص ٩٣ .

١٧٧

فالانتظار يمثّل عنصر التوازن في حياة المؤمن وحالة وسطى بين القنوط واليأس من روح الله ، وبين حرمة الأمن من مكر الله ، قال تعالى :( وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رّوْحِ اللهِ إِنّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَوْحِ اللهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) (١) .

ومن خلال الانتظار يتوجه الإنسان إلى ربّه ، ويتمسّك بإمامه ، ويطلب الفرج من الله تعالى ، وهذا ما كشف النقاب عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بقوله :( أفضل العبادة انتظار الفرج ) (٢) .

كذلك نجد أنّ الانتظار في واحدة من أبعاده هو الإيمان بالغيب ، ومن ثمّ يحمل الفرد على العمل والتعبد بعقيدته ، ويكون محبّاً للعدل كارهاً للظلم ، وبذلك يوجّه نفسه ، وسائر إخوانه المؤمنين إلى ما فيه الخير والصلاح للمجتمع .

وكذلك نجد أيضاً أنّ الانتظار يحمل في طيّاته دفع المؤمن وحثّه على الامتثال والالتزام الكامل بتطبيق الأحكام الإلهية ، ليكون فرداً صالحاً مؤهّلاً للعضوية في مجتمع العدالة الكبرى ، ومن ثمّ يكتسب المؤمن الإرادة القوية ، والإخلاص الحقيقي الذي يؤهّله للمشاركة والتشرّف بتحمل المسؤولية الكبيرة في اليوم الموعود ، فيزداد تعلّقه بالأنبياء ورسالاتهم ، وتجديد العهد معهم ، ومع الإمامعليه‌السلام الذي يحقق هدف الأنبياء على هذه الأرض ، وكل هذا إنّما يتجلّى وتشتعل جذوته إذا أحس الإنسان بوجود المصلح حيّاً يرزق قد حفظه الله تعالى وادخره لإنجاز مهمّة الإصلاح .

ـــــــــــــ

(١) يوسف : ٨٧ .

(٢) سنن الترمذي ، الترمذي : ج ٥ ص ٢٢٦ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ١٠ ص ١٤٧ ؛ الجامع الصغير ، السيوطي : ج ١ ص ١٩٢ ؛ المعجم الأوسط ، الطبراني : ج ٥ ص ٢٣٠ .

١٧٨

خامساً : عدم انقطاع سلسلة حجج الله في الأرض

إنّ الغيبة من الوسائل المهمة للحفاظ على وجود الحجّة الإلهية في الأرض ، وعدم خلوّها من تلك الحجّة ، كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا تخلو الأرض من قائم بحجّة ) (١) .

ولا يخفى الأثر المهم والدور الأساس لوجود حجّة الله في الأرض ، من كونها أماناً لأهل الأرض ، كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( النجوم أمان لأهل السماء ، إذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض ) (٢) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لن يزال الدين قائماً إلى اثني عشر من قريش ، فإذا هلكوا ماجت الأرض بأهلها ) (٣) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، مَن ركب فيها نجا ، ومَن تخلّف عنها غرق ، ومَن قاتلنا في آخر الزمان فكأنّما قاتل مع الدجال ) (٤) .

ـــــــــــــ

(١) تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ٥٠ ص ٢٥٥ ؛ ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ١ ص ٨٩ ؛ المناقب ، الخوارزمي : ص ٣٦٦ ، وانظر تاريخ اليعقوبي ، اليعقوبي : ج ٢ ص ٢٠٦ .

(٢) فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : ج ٢ ص ١٦٥ ؛ شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ١ ص ٤٢٦ ؛ ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ١ ص ٧١ وح ٢ ص ١١٤ ؛ ذخائر العقبى ، محب الدين الطبري : ص ١٧ ؛ ونحوه في المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٢ ص ٤٤٨ ج ٣ ص ١٤٩ ص ٤٥٧ ؛ جواهر المطالب : ابن الدمشقي الشافعي : ج ١ ص ٣٤٣ .

(٣) المعجم الكبير ، الطبراني ج : ٢ ص ١٩٦ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٢ ص ٣٤ .

(٤) المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٣ ص ٤٥ ، ح ٢٦٣٦ ؛ مسند ابن سلامة : ج ٢ ص ٢٧٣ .

١٧٩

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( النجوم جُعلت أماناً لأهل السماء ، وإنّ أهل بيتي أمان لأُمّتي ) (١) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( كيف تهلك أمّة أنا أوّلها ، وعيسى بن مريم آخرها ، والمهدي من أهل بيتي في وسطها ) (٢) .

مضافاً إلى أنّ غيبة الإمامعليه‌السلام تؤمّن إتيانه بالإسلام الخالص ، كما أنزله الله تعالى حين الظهور ؛ لأنّه سوف يكون وارثاً عن أبيه عن آبائهعليهم‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإسلام الصحيح ، وتفاصيله التي أملاها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الإمام عليعليه‌السلام وكتبها بخطّه .

بخلاف ما لو قلنا إنّ المهديعليه‌السلام لم يولد بعد ، فإنّه حينئذ كيف يمكنه الإتيان بالإسلام الخالص بعد انقطاع الوحي ، وكيف يحرز الإسلام الصحيح وسط هذه الاختلافات بين المذاهب ، وبعد تضييع سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أضف إلى ذلك أنّ وجود الحجّة والإمام في الأرض لطف من الله تعالى ـ كما تقدم ـ وإتمام للحجّة البالغة على خلقه ، أمّا الغيبة فهي لأسباب وظروف اقتضت ذلك ، وقد تقدم ذكر بعضها .

سادساً : لكي لا تكون في عنقه بيعة لظالم

وهذا من معطيات الغيبة أيضاً ؛ لأنّ أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كلّهم أُجبروا وأُكرهوا على البيعة للحكّام الظالمين ، ابتداءً من الإمام عليعليه‌السلام إلى الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام .

والبيعة من الإمام المعصوم تعني إعطاء عهد يطوق به عنقه ويكبله ويقضي بعدم محاربة الظالم في حال لزومها .

ـــــــــــــ

(١) المعجم الكبير : ج ٧ ص ٢٢ .

(٢) الدر المنثور : ج ٢ ص ٧٤٢ ؛ الجامع الصغير السيوطي : ج ٢ ص ٤٢٣ ؛ تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ٤٧ ص ٥٢٢ ، ونحوها في المستدرك : الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ٤١ ؛ قال فيه : ( حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ) ، فيض القدير : ج ٥ ص ٣٨٣ .

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الآيات

( وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) )

التّفسير

يوم البعث والنشور :

تأتي هذه الآيات لتواصل البحث عن الكفّار الذين كذّبوا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يذعنوا للحقّ حيث أعرضوا عن جميع المعاجز التي شاهدوها.

والآيات أعلاه تشرح حال هؤلاء الأفراد وموضّحة المصير البائس الذي ينتظر هؤلاء المعاندين في يوم القيامة.

يقول سبحانه إنّ هؤلاء لم يعدموا الإنذار والإخبار ، بل جاءهم من الأخبار ما يوجب انزجارهم عن القبائح والذنوب :( وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) وذلك ليلقي عليهم الحجّة.

وبناء على هذا فلا يوجد نقص في تبليغ الدعاة الإلهيين ، وما يوجد من

٣٠١

نقصان أو خلل يمكن فيهم ، حيث ليس لديهم روح تواقة لمعرفة الحقّ ولا آذان صاغية ، ونفوسهم متنكّبة عن التقوى والتدبّر في الآيات الإلهية.

والقصد من «الأنباء» الإخبار عن الأمم والأقوام السابقة الذين هلكوا بألوان العذاب المدمّر الذي حلّ بهم ، وكذلك أخبار يوم القيامة وجزاء الظالمين والكفّار ، حيث اتّضحت كلّ تلك الأخبار في القرآن الكريم.

ويضيف تعالى :( حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ ) فهذه الآيات حكم إلهيّة بليغة ومواعظ مؤثّرة ، إلّا أنّها لا تفيد أهل العناد(١) (٢) .

تبيّن هذه الآية أن لا نقص في «فاعلية الفاعل» ، أو تبليغ الرسل. لكن الأمر يكمن في مدى استعداد الناس وأهليتهم لقبول الدعوة الإلهيّة ، وإلّا فإنّ الآيات القرآنية والرسل والأخبار التي وردتهم عن الأمم السابقة والأخبار التي تنبؤهم عن أحوال يوم القيامة كلّ هذه الأمور هي حكمة بالغة ومؤثّرة في النفوس الخيّرة ذات الفطرة السليمة.

الآية التالية تؤكّد على أنّ هؤلاء ليسوا على استعداد لقبول الحقّ ، فأتركهم لحالهم وأعرض عنهم وتذكّر يوم يدعو الداعي الإلهي إلى أمر مخيف ، وهو الدعوة إلى الحساب ، حيث يقول سبحانه :( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ ) (٣) .

وعلى هذا تكون عبارة :( يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ) عبارة مستقلّة ومنفصلة عن جملة :( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ) . لكن البعض يرى أنّ كلّ واحدة من الجملتين مكمّلة للأخرى ، حيث يذهبون إلى أنّ قوله تعالى :( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ) جاءت بصيغة الأمر للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإعراض عن المشركين الذين يرجون الشفاعة منه يوم القيامة عند ما يدعوهم

__________________

(١) (حكمة بالغة) خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هذه حكمة بالغة).

(٢) نذر جمع نذير ويعني (المنذرين) والمقصود بالمنذرين هي الآيات القرآنية وأخبار الأمم والأنبياء الذين وصل صوتهم إلى أسماع الناس ، ويحتمل البعض أنّ (نذر) مصدر بمعنى إنذار. لكن المعنى الأوّل هو الأنسب. وضمنا فإنّ (ما) في عبارة (ما تغن بالنذر) نافية وليست استفهامية.

(٣) في الآية أعلاه (يوم) يتعلّق بمحذوف تقديره (اذكر) ويحتمل البعض أنّها تتعلّق بـ (يخرجون) ولكن ذلك مستبعد.

٣٠٢

الداعي الإلهي للحساب. وهذا الرأي مستبعد جدّا.

وهنا يثار السؤال التالي : هل الداعي هو الله سبحانه؟ أم الملائكة؟ أم إسرافيل الذي يدعو الناس ليوم الحشر عند ما ينفخ في الصور؟ أم جميع هؤلاء؟

ذكر المفسّرون احتمالات عدّة للإجابة على هذا التساؤل ، ولكن بالرجوع إلى قوله تعالى :( يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ) ،(١) يرجّح الرأي الأوّل. رغم أنّ الآيات اللاحقة تتناسب مع كون الداعي هم الملائكة المختّصون بشؤون الحساب والجزاء.

أمّا المراد من( شَيْءٍ نُكُرٍ ) (٢) فهو الحساب الإلهي الدقيق الذي لم يكن معلوما من حيث وقته قبل قيام الساعة ، أو العذاب الذي لم يخطر على بالهم ، أو جميع هذه الأمور ، ذلك لأنّ يوم القيامة في جميع أحواله حالة غير مألوفة للبشر.

وفي الآية اللاحقة يبيّن الله سبحانه وتعالى توضيحا أكثر حول هذا الموضوع ويذكر أنّ هؤلاء يخرجون من القبور في حالة :( خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ ) .

نسبة «الخشوع» هنا للأبصار لأنّ المشهد مرعب ومخيف إلى حدّ لا تستطيع الأنظار رؤيته ، لذلك فإنّها تتحوّل عنه وتطرّق نحو الأسفل.

والتشبيه هنا بالجراد المنتشر لأنّ النشور في يوم الحشر يكون بصورة غير منتظمة لحالة الهول التي تعتري الناس فيه ، كما هي حركة انتشار الجراد التي تتمثّل فيها الفوضى والاضطراب خلافا للقسم الأكبر من حركة الطيور التي تطير وفق نظم خاصّة في الجو ، مضافا إلى أنّهم كالجراد من حيث الضعف وعدم القدرة.

نعم ، إنّ حالة هؤلاء الفاقدين للعلم والبصيرة ، حالة ذهول ووحشة وتخبّط في المسير كالسكارى يرتطم بعضهم ببعض فاقدين للوعي والإرادة كما في قوله

__________________

(١) الإسراء ٢

(٢) (نكر) مفرد من مادّة (نكارة) وتعني الشيء المبهم المخيف.

٣٠٣

تعالى :( وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى ) .(١)

والحقيقة أنّ هذا التشبيه هو ما ورد أيضا في الآية (٤) من سورة القارعة حيث يقول سبحانه :( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ ) .

وأمّا قوله تعالى :( مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ) فإنّ كلمة «مهطعين» تأتي من مادّة (إهطاع) أي مدّ الرقبة ، والبعض يرجعها إلى النظر بانتباه أو الركض بسرعة نحو الشيء ، ويحتمل أن تكون كلّ واحدة من هذه المعاني هي المقصودة ، ولكن المعنى الأوّل هو الأنسب ، لأنّ الإنسان عند سماعه لصوت موحش يمدّ رقبته على الفور وينتبه إلى مصدر الصوت ، ويمكن أن تكون هذه المفاهيم مجتمعة في الآية الكريمة حيث أنّ بمجرّد سماع صوت الداعي الإلهي تمدّ الرقاب إليه ثمّ يتبعه التوجّه بالنظر نحوه ، ثمّ الإسراع إليه والحضور في المحكمة الإلهيّة العادلة عند دعوتهم إليها.

وهنا يستولي الخوف من الأهوال العظيمة لذلك اليوم على وجود الكفّار والظالمين ، لذا يضيف سبحانه معبّرا عن حالة البؤس التي تعتري الكافرين بقوله :( يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ ) .

والحقّ أنّه يوم صعب وعسير. وهذا ما يؤكّده البارئعزوجل بقوله :( وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً ) .(٢)

ويستفاد من هذا التعبير أنّ يوم القيامة يوم غير عسير بالنسبة للمؤمنين.

* * *

__________________

(١) الحجّ ، ٢.

(٢) الفرقان ، ٢٦.

٣٠٤

مسألة

لماذا كان يوم القيامة يوما عسيرا؟ :

ولماذا لا يكون عسيرا؟ في الوقت الذي يحاط فيه المجرمون بكلّ أجواء الرهبة والوحشة ، وخاصّة عند ما يستلمون صحائف أعمالهم حيث يصطرخون :( يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) ،(١) هذا من جهة.

ومن جهة اخرى فإنّهم يواجهون بما ليس في الحسبان ، حيث يحاسبون بدقّة حتّى على أصغر الأعمال التي أدّوها ، سواء كانت صالحة أم طالحة :( إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) .(٢)

ومن جهة ثالثة ، لا سبيل يومئذ للتكفير عن الذنوب والتعويض بالطاعة ، والاعتذار عن التقصير ، حيث لا عذر يقبل ولا مجال للعودة مرّة اخرى إلى الحياة يقول تعالى :( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) .(٣)

ونقرأ كذلك في قوله تعالى :( وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .(٤) . ولكن هيهات.

ومن جهة رابعة فإنّ العذاب الإلهي شديد ومرعب إلى درجة تنسي الامّهات أولادها ، وتسقط الحوامل أجنّتهن ، ويكون الجميع يومئذ في حيرة وذهول وفقدان للوعي كالسكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد ، قال تعالى :( يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى

__________________

(١) الكهف ، ٤٩.

(٢) لقمان ، ١٦.

(٣) البقرة ، ٤٨.

(٤) الأنعام ، ٢٧.

٣٠٥

النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ ) .(١)

والدليل على اضطراب وهلع العاصين هو حالة التشبّث بالافتداء بكلّ ما في الدنيا أملا في الخلاص من العذاب الأليم ، قال تعالى :( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ، وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ، كَلَّا إِنَّها لَظى ) .(٢)

إذا ، هل يمكن مع كلّ هذه الأوصاف والأوصاف الأخرى المهولة التي وردت في آيات اخرى أن يكون ذلك اليوم يوما مريحا وبعيدا عن الهمّ والغمّ والشدّة؟!

(حفظنا الله جميعا في ظلّ لطفه ورعايته).

* * *

__________________

(١) الحجّ ، ٢.

(٢) المعارج ، ١١ ـ ١٥.

٣٠٦

الآيات

( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) )

التّفسير

قصّة قوم نوح عبرة وعظة :

جرت السنّة القرآنية في كثير من الموارد أنّ الله سبحانه يستعرض حالة الأقوام السابقة والعاقبة المؤلمة التي انتهوا إليها إنذارا وتوضيحا (للكفّار والمجرمين) بأنّ الاستمرار في طريق الضلال سوف لن يؤدّي بهم إلّا إلى المصير البائس الذي لاقته الأقوام السابقة.

٣٠٧

وفي هذه السورة ، إكمالا للبحث الذي تناولته الآيات السابقة ، في إثارات وإشارات مختصرة ومعبّرة حول تاريخ خمسة من الأقوام المعاندة ابتداء من قوم نوح كما في قوله تعالى :( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ) . فمضافا إلى تكذيبه واتّهامه بالجنون صبّوا عليه ألوان الأذى والتعذيب ومنعوه من الاستمرار في أداء رسالته.

فتارة يقولون له مهدّدين ومنذرين( قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ) .(١)

وتارة اخرى يضغطون رقبته بأيديهم حتّى يفقد وعيه ، ولكنّه ما أن يفيق إلى وعيه حتّى يقول : «اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون»(٢) .

وخلاصة القول فإنّ قوم نوح مارسوا كلّ وسيلة لأذى نبيّهم ، ومع ذلك فإنّه لم يتوقّف عن التبليغ والإرشاد أملا في هدايتهم.

والجدير بالذكر أنّنا نلاحظ أنّ لفظ (التكذيب) قد ورد مرّتين ، ولعلّ السبب أنّه ورد في الحالة الاولى (مختصرا) وفي الثانية (مفصّلا).

والتعبير بـ «عبدنا» إشارة إلى أنّ هؤلاء القوم المعاندين والمغرورين في الواقع يبارزون الله تعالى لا مجرّد شخص «نوح».

كلمة (وازدجر) أصلها (زجر) بمعنى الطرد ، وهو الإبعاد المقترن بصوت شديد ، كما أنّه يطلق على كلّ عمل يراد منه منع الشخص من الاستمرار به.

والظريف في هذه الآية أنّ الفعل (قالوا) أتى بصورة فعل معلوم (وازدجر) بصيغة فعل مجهول ولعلّ ذلك للإشارة إلى أنّ عدم ذكر الفاعل هنا للترفّع عن ذكر قوم نوح بسبب سوء وقبح الأعمال التي مارسوها والتي كانت أقذر وأقبح من أقوالهم ، ممّا يكون سببا في عدم ذكرهم بالصيغة المعلومة كما في قوله تعالى :

__________________

(١) الشعراء ، ١١٦.

(٢) تفسير الكشّاف وأبو الفتوح والرازي هامش الآية مورد البحث

٣٠٨

( قالُوا ) .

ثمّ يضيف تعالى أنّ نوح عند ما يئس من هداية قومه تماما :( فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) (١) .

والغلبة المذكورة في الآية الكريمة لم تكن غلبة في الحجّة والدليل أو البرهان على عدم صحّة الدعوة ، وإنّما كانت تتجسّد بالظلم والجناية والتكذيب والإنكار وأنواع الزجر والضغوط ولهذا فإنّ هؤلاء القوم لا يستحقّون البقاء ، فانتقم لنا منهم وانصرنا عليهم.

نعم ، فهذا النّبي العظيم كان يطلب من الله المغفرة لقومه ما دام يأمل في هدايتهم وصلاحهم ، ولكن عند ما يئس منهم غضب عليهم ولعنهم ودعا ربّه أنّ ينتقم منهم.

ثمّ يشير هنا إشارة معبّرة وقويّة في كيفية العذاب الذي ابتلوا به وصبّ عليهم حيث يقول سبحانه :( فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ) .

إنّ تعبير انفتاح أبواب السماء لتعبير رائع جدّا ، ويستعمل عادة عند هطول الأمطار الغزيرة.

(منهمر) من مادّة (همر) على وزن (صبر) وتعني النّزول الشديد للدموع أو الماء ، ويستعمل هذا التعبير أيضا عند ما يستدر الحليب من الضرع حتّى النهاية.

والعجيب هنا أنّه ورد في أقوال المفسّرين أنّ قوم نوح كانوا قد أصيبوا بالجدب لعدّة سنوات قد خلت ، وكانوا يرتقبون بتلهّف سقوط المطر عليهم ، وفجأة ينزل المطر ولكن لا ليحيي أرضهم ويزيد خيرهم بل ما حقا ومميتا لهم(٢) .

ويذكر أنّ الماء الذي أدّى إلى الطوفان لم يكن من هطول الأمطار فقط ، بل

__________________

(١) (انتصر) : طلب العون كما في الآية (٤١) سورة الشورى ، وهنا جاءت بمعنى طلب الانتقام على أساس العدل والحكمة كما فسّرها البعض في التقدير (انتصر لي).

(٢) روح المعاني هامش الآية مورد البحث.

٣٠٩

كان من تفجير العيون في الأرض حيث يقول تعالى :( وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً ) (١) وهكذا اختلط ماء السماء بماء الأرض بمقدار مقدّر وملأ البسيطة :( فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) .

إنّ هذا التعبير يجسّد حالة الطوفان الذي غمر الأرض ، إلّا أنّ بعض المفسّرين فسّروا عبارة (قد قدر) بقولهم : إنّ كميّتي المياه المتدفّقة من الجانبين المتقابلين كانتا متساويتين في مقاديرهما بصورة دقيقة ، إلّا أنّ الرأي الأوّل هو الأرجح.

وخلاصة الأمر : إنّ الماء قد فار من جميع جهات الأرض وفجّرت العيون وهطلت الأمطار من السماء ، واتّصل الماء بعضه ببعض وشكّل بحرا عظيما وطوفانا شديدا.

وتترك الآيات الكريمة مسألة الطوفان ، لأنّ ما قيل فيها من الآيات السابقة يعتبر كافيا فتنتقل إلى سفينة نجاة نوحعليه‌السلام حيث يقول تعالى :( وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ ) .

(دسر) جمع (دسار) على وزن (كتاب) ، كما يقول الراغب في المفردات ، أنّها في الأصل بمعنى الإبعاد أو النهر بشدّة مقترنا مع حالة عدم الرضا ، ولكون المسمار عند ما يتعرّض للطرق الشديد يدخل في الخشب وما شاكل فيقال له (دسار).

وذكر قسم من المفسّرين أنّ معنى هذه الكلمة هو (الحبل) مشيرين بذلك إلى حبال أشرعة السفينة وما إلى ذلك ، والتّفسير الأوّل هو الأرجح نظرا لذكر كلمة (ألواح).

على كلّ حال ، فإنّ التعبير القرآني هنا ظريف ، لأنّه كما يقول البارئعزوجل بأنّنا وفي وسط ذلك الطوفان العظيم ، الذي غمر كلّ شيء أودعنا أمر نجاة

__________________

(١) «عيونا» : يمكن أن تكون تميّزا للأرض والتقدير فجرنا عيون الأرض ، ثمّ إنّ العيون مفعول به منفصل وقد جاءت بصورة تمييز كي تعبّر عن المبالغة والأهميّة وكأنّ الأرض جميعا تحوّلت إلى عيون.

٣١٠

نوح وأصحابه إلى مجموعة من المسامير وقطع من الخشب ، وأنّها أدّت هذه الوظيفة على أحسن وجه ، وهكذا تتجلّى القدرة الإلهيّة العظيمة.

ويمكن أن يستفاد من هذا التعبير طبيعة البساطة التي كانت عليها سفن ذلك الزمان والتي هي بعيدة عن التعقيد والتكلّف قياسا مع السفن المتقدّمة في العصور اللاحقة. ومع ذلك فإنّ سفينة نوحعليه‌السلام كان حجمها بالقدر المطلوب وطبق الحاجة ، وطبقا للتواريخ فإنّ نوحعليه‌السلام قد أمضى عدّة سنين في صنعها كي يتمكّن من وضع (من كلّ زوجين إثنين) من مختلف الحيوانات فيها.

ويشير سبحانه إلى لطف عنايته للسفينة المخصّصة لنجاة نوحعليه‌السلام حيث يقول سبحانه( تَجْرِي بِأَعْيُنِنا ) أي أنّ هذه السفينة تسير بالعلم والمشيئة الإلهيّة ، وتشقّ الأمواج العالية بقوّة وتستمر في حركتها تحت رعايتنا وحفظنا.

إنّ التعبير (بأعيننا) كناية ظريفة للدلالة على المراقبة والرعاية للشيء ويتجسّد هذا المعنى بوضوح في قوله تعالى في الآية (٣٧) من سورة هود :( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ) .

بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ المقصود من( تَجْرِي بِأَعْيُنِنا ) هو الإشارة إلى الشخصيات المهمّة التي كانت على ظهر السفينة ، وبناء على هذا فإنّ المقصود من قوله تعالى :( تَجْرِي بِأَعْيُنِنا ) (١) أنّ تلك السفينة كانت تحمل عباد الله الخالصين المخلصين ، ونظرا لطبيعة الموارد التي استعمل فيها هذا التعبير في الآيات القرآنية الاخرى فإنّ الرأي الأوّل هو الأصحّ.

ويحتمل أيضا أنّ المراد بجملة (بأعيننا) هو الملائكة التي كان لها الأثر في هداية سفينة نوحعليه‌السلام ، ولكن هذا الرأي ضعيف أيضا لسبب أعلاه.

ثمّ يضيف تعالى :( جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ ) (٢) .

__________________

(١) «أعين» جمع عين ، وإحدى معانيها العين الباصرة ، والمعنى الآخر لها هو : الشخصية المعتبرة ، ولها معان اخرى.

(٢) يجدر بالملاحظة هنا أنّ فعل (كفر) مبني للمجهول ، والمراد به نوحعليه‌السلام الذي كفر به ، وليس فعلا معلوما يشير إلى

٣١١

نعم إنّ نوحعليه‌السلام كسائر الأنبياء الإلهيين يعتبر نعمة إلهيّة عظيمة وموهبة من مواهبه الكبيرة على البشرية ، إلّا أنّ قومه الحمقى كفروا به وبرسالته(١) .

ثمّ يقول سبحانه وكنتيجة لهذه القصّة العظيمة موضع العظّة والإعتبار :( وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) .

والحقيقة أنّ كلّ ما كان يستحقّ الذكر في هذه القصّة قد قيل ، وكلّما ينبغي للإنسان الواعي المتّعظ أن يدركه فهو موجود.

واستنادا إلى هذا التّفسير المنسجم مع الآيات السابقة واللاحقة ، فإنّ الضمير في (تركناها) يرجع إلى قصّة الطوفان وماضي نوحعليه‌السلام ومخالفيه. ولكن البعض يرى أنّ المراد هو (سفينة نوح) لأنّها بقيت مدّة من الزمن شاخصة لأنظار العالم ، وكلّما يراها أحد تتجسّد أمامه قصّة الطوفان الذي حلّ بقوم نوحعليه‌السلام ، ومع علمنا بأنّ بقايا سفينة نوحعليه‌السلام كانت حتّى عصر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أنّ البعض من المعاصرين ادّعى رؤية بقاياها في جبال (آرارات) في القفقاز ، عندئذ يمكن أن يكون المعنيان مقصودين في الآية الكريمة.

ولهذا فإنّ قصّة نوحعليه‌السلام كانت آية للعالمين ، وكذا سفينته التي بقيت ردحا من الزمن بين الناس(٢) .

وفي الآية اللاحقة يطرح الله سبحانه سؤالا معبّرا ومهدّدا للكافرين الذين اتّبعوا نفس المنهج الذي كان عليه قوم نوح حيث يقول سبحانه :( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) .

هل هذه حقيقة واقعة ، أم قصّة واسطورة؟

__________________

الكفّار.

(١) إذا لم يكن في الآية شيء مقدّر فيكون نائب الفاعل للفعل (كفر) هو شخص نوحعليه‌السلام حين أنّهعليه‌السلام يكون النعمة التي (كفر) بها ، أمّا إذا قلنا أنّ للآية محذوف مقدّر ، فيكون تقديره (كفر به) فعندئذ تكون إشارة إلى عدم الإيمان بنوحعليه‌السلام وتعاليمه.

(٢) لقد ذكرت أبحاث مفصّلة حول قصة قوم نوحعليه‌السلام في هامش الآيات الكريمة ٢٥ ـ ٤٩ من سورة هود

٣١٢

ويضيف مؤكّدا هذه الحقيقة في آخر الآية مورد البحث في قوله تعالى :( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) .

نعم إنّ هذا الكتاب العظيم الخالي من التعقيد والمجسّد لعناصر التأثير من حيث عذوبة ألفاظه وجاذبيتها ، وحيوية عباراته وصراحتها في عرض المطالب ترغيبا وتهديدا ، وطبيعة قصصه الواقعية ذات المحتوى الغزير بالإضافة إلى قوّة دلائله وأحكامها ومنطقه المتين ، واحتوائه على كلّ ما يلزم من عناصر التأثير لذا فإنّ القلوب المهيأة لقبول الحقّ والمتفاعلة مع منطق الفطرة والمستوعبة لمنهج العقل تنجذب بصورة متميّزة ، والشاهد على هذا أنّ التأريخ الإسلامي يذكر لنا قصصا عديدة عجيبة محيّرة من حالات التأثير العميق الذي يتركه القرآن الكريم على القلوب الخيّرة.

ولكن ما العمل حينما تكون النطفة لبذرة ما ميتة ، حتّى لو هيّأ لزراعتها أخصب الأراضي ، وسقيت بماء الكوثر ، واعتني بها من قبل أمهر المزارعين ، فإنّها لن تنمو ولن تزهر وتثمر أبدا.

* * *

٣١٣

الآيات

( كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) )

التّفسير

مصير قوم عاد :

تستعرض الآيات الكريمة أعلاه وباختصار أخبار نموذج آخر من الكفّار والمجرمين بعد قوم نوح ، وهم (قوم عاد) وذلك كتحذير لمن يتنكّب طريق الحقّ والهداية الإلهية.

وتبدأ فصول أخبارهم بقوله تعالى :( كَذَّبَتْ عادٌ ) .

لقد بذل هودعليه‌السلام غاية جهده في توعية قومه وتبليغهم بالحقّ الذي جاء به من عند الله ، وكانعليه‌السلام كلّما ضاعف سعيه وجهده لانتشالهم من الكفر والضلال ازدادوا إصرارا ونفورا ولجاجة في غيّهم وغرورهم الناشئ من الثراء والإمكانات المادية ، بالإضافة إلى غفلتهم نتيجة انغماسهم في الشهوات ، جعلتهم صمّ الآذان ،

٣١٤

عمّي العيون ، فجازاهم الله بعقاب أليم وعذاب شديد ، ولهذا تشير الآية الكريمة باختصار حيث يقول سبحانه :( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) .

كما نلاحظ التفصيل في الآيات اللاحقة بعد هذا الإجمال حيث يقول سبحانه :( إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ) .

«صرصر» من مادّة (صرّ) على وزن (شرّ) ، وفي الأصل تعني (الإغلاق والإحكام) ويأتي تكرارها في هذا السياق للتأكيد ، ولأنّ الرياح التي عذّبوا بها كانت باردة وشديدة ولاذعة ومصحوبة بالأزيز ، لذا اطلق عليها (صرصر).

أمّا (نحس) ففي الأصل معناها (الاحمرار الشديد) الذي يظهر في الأفق أحيانا ، كما يطلق العرب أيضا كلمة (نحاس) على وهج النار الخالية من الدخان ، ثمّ أطلق هذا المصطلح على كلّ (شؤم) مقابل (السعد).

«مستمر» صفة لـ (يوم) أو لـ (نحس) ومفهومه في الحالة الاولى هو استمرار حوادث ذلك اليوم كما في قوله تعالى :( سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ) .(١)

وتعني في الحالة الثانية استمرار نحوسة ذلك اليوم حتّى هلك الجميع.

كما يفسّر البعض معنى (النحس) بأنّه حالة الجو المكفهر المغبّر ، لأنّ العاصفة كانت مغبرة إلى درجة أنّها لم تسمح برؤية بعضهم البعض. وعند ما شاهدوا العاصفة من بعيد ظنّوا أنّها غيوم محملة بالأمطار متّجهة نحوهم ، وسرعان ما تبيّن لهم أنّها ريح عاتية لا تبقي ولا تذر أمرت بعذابهم والانتقام منهم ، كما في قوله تعالى :( فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ. مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ) .(٢)

إنّ هذين التّفسيرين غير متنافيين ، ويمكن جمعهما في معنى الآية الكريمة

__________________

(١) الحاقّة ، ٧

(٢) الأحقاف ، ٢٤.

٣١٥

مورد البحث.

ثمّ يستعرض سبحانه وصف الريح بقوله :( تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ) .

«منقعر» من مادّة (قعر) بمعنى أسفل الشيء أو نهايته ، ولذا يستعمل هذا المصطلح بمعنى قلع الشيء من أساسه.

كما يحتمل أن يكون المقصود من هذا التعبير أنّ ضخامة الهياكل وقوّة الأبدان التي كان عليها قوم عاد لم تغنهم من فتك الريح بهم وهلاكهم حيث ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ قوم عاد حاولوا التخلّص من العذاب الذي باغتهم وذلك بأن التجأوا إلى حفر عميقة وملاجئ تحت الأرض لحفظ أنفسهم ، ولكن دون جدوى حيث أنّ الريح كانت من القوّة بحيث قلعتهم من أعماق تلك الحفر وقذفت بهم من جهة إلى اخرى ، حتّى قيل أنّها كانت تدحرجهم وتجعل أعلى كلّ منهم أسفله وتفصل رؤوسهم عن أجسادهم.

«أعجاز» جمع (عجز) ـ على وزن (رجل) ـ بمعنى خلف أو تحت ، وقد شبّهوا بالقسم الأسفل من النخلة وذلك حسبما يقول البعض لأنّ شدّة الريح قطّعت أيديهم ورؤوسهم ودفعتها باتّجاهها ، وبقيت أجسادهم المقطّعة الرؤوس والأطراف كالنخيل المقطّعة الرؤوس ، ثمّ قلعت أجسادهم من الأرض وكانت الريح تتقاذفها.

وللسبب المذكور أعلاه ، يكرّر الله سبحانه وتعالى إنذاره للكفّار بقوله :( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) .

فنحن كذلك فعلنا وجازينا الأقوام السالفة التي سلكت سبيل الغي والطغيان والعصيان ، فعليكم أن تتفكّروا في مصيركم وأنتم تسلكون نفس الطريق الذي سلكوه!!

وفي نهاية القصّة يؤكّد قوله سبحانه :( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) فهل هنالك من آذان صاغية وقلوب واعية لهذا النداء الإلهي والإنذار

٣١٦

الربّاني؟.

والنقطة الأخيرة الجديرة بالذكر هي تأكيد قوله سبحانه :( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) حيث تكرّرت مرّتين : الأولى : في بداية الحديث عن قصّة قوم عاد ، والثانية : في نهايتها. ولعلّ سبب هذا الاختلاف بين قوم عاد والأقوام الاخرى ، أنّ عذاب قوم عاد كان أكثر شدّة وانتقاما ، رغم أنّ جميع ألوان العذاب الإلهي شديد.

* * *

بحث

سعد الأيّام ونحسها :

الشيء المتعارف بين الناس ، هو أنّ بعض الأيّام سعيدة ومباركة ، والبعض الآخر نحس ومشؤوم ، مع وجود اختلاف كثير في تشخيصها.

ويدور الحديث حول مدى قبولها إسلاميا ، وهل أنّها مأخوذة من تعاليم الإسلام أم لا؟.

من الناحية العقلية لا يعدّ اختلاف أجزاء الزمان من هذه الجهة محالا ، بأن يتّصف بعضها بالنحوسة والاخرى بالبركة والسعد. ولا نملك أي استدلال عقلي لإثبات أو نفي هذا المعنى ، ولهذا نستطيع القول : إنّ هذا الأمر بهذا القدر شيء ممكن ، ولكنّه غير ثابت من الناحية العقلية.

وبناء على ذلك فإذا كانت لدينا دلائل شرعية لهذا المعنى ثبتت عن طريق الوحي فلا مانع من قبولها ، بل الالتزام بها.

وحول (نحس الأيّام) تشير الآيات القرآنية مرّتين إلى هذا الموضوع ، الاولى في الآيات مورد البحث ، والثانية : في قوله تعالى :( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً

٣١٧

صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ ) (١) (٢) .

وفي مقابل «النحوسة» فإنّنا نلاحظ في بعض الآيات القرآنية تعبير (مبارك) كما في قوله تعالى حول ليلة القدر :( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) .(٣)

وقلنا إنّ «نحس» مأخوذ في الأصل من صورة الاحمرار الشديد في الأفق ، الذي يشبه النار المتوهّجة الخالية من الدخان والتي يطلق عليها (النحاس). وبهذه المناسبة استعمل في معنى الشؤم.

ومن هنا نلاحظ أنّ القرآن الكريم لم يتطرّق لهذه المسألة إلّا من خلال إشارة مغلقة فقط. لكنّنا حينما نقرأ في الكتب الإسلامية ، يواجهنا العديد من الرّوايات في هذا المجال ، مع العلم أنّ الكثير منها ضعيف ، وأنّ البعض الآخر منها موضوع أو ملفّق ، أو مشوب بالخرافات. وليست جميعا كذلك ، بل هناك ما هو معتبر منها وموضع اطمئنان كما يؤكّد المفسّرون صحّة ذلك من خلال تفسير الآيات أعلاه.

ويذكر لنا المحدّث الكبير العلّامة المجلسي روايات عديدة في هذا المجال في بحار الأنوار(٤) .

وفي هذا المجال نستطيع إيراد الملاحظات التالية :

أ ـ لقد ذكروا في روايات عديدة (سعد ونحس) الأيّام ، وكذلك الحوادث التي وقعت فيها ، حيث نقرأ في الرّواية التالية في أسئلة الشامي لأمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : (أخبرني عن يوم الأربعاء والتطيّر منه وثفله ، وأي أربعاء هو) ، قالعليه‌السلام : «آخر أربعاء من الشهر ، وهو المحاق ، وفيه قتل قابيل هابيل أخاه ، ويوم الأربعاء أرسل

__________________

(١) يجدر الانتباه إلى أنّ نحسات جاءت صفة للأيّام ، وذلك يعني أنّ الأيّام المذكورة وصفت بالنحوسة ، في الوقت الذي ذكرت كلمة (يوم) في الآية الكريمة (في يوم نحس مستمر) إضافة لـ (النحس) وليست وصفا ولكن بقرينة الآية أعلاه يجب القول : إنّ الإضافة هنا تكون إضافة موصوف إلى صفة (يرجى الانتباه).

(٢) فصّلت ، ١٦.

(٣) الدخان ، ٣.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٥٩ كتاب السماء والعالم ، ص ١ ـ ٩١ وما بعدها.

٣١٨

اللهعزوجل الريح على قوم عاد»(١) .

ومن هنا فإنّ الكثير من المفسّرين يرتّبون أثرا على هذه الرّوايات ، ويعتبرون أنّ آخر أربعاء من كلّ شهر هو يوم نحس ، ويطلقون عليه (أربعاء لا تدور) أي لا تتكرّر.

ونقرأ في بعض الرّوايات أنّ اليوم الأوّل من كلّ شهر هو سعد ومبارك ، وذلك لأنّ آدمعليه‌السلام خلق في هذا اليوم ، وكذلك فإنّ اليوم ٢٦ من كلّ شهر يوم مبارك ، حيث : (ضرب موسى فيه البحر فانفلق)(٢) .

كما أنّ اليوم الثالث من كلّ شهر ، هو يوم نحس ، نزع عن آدم وحواء لباسهما وأخرجا من الجنّة(٣) .

كما أنّ اليوم السابع من كلّ شهر هو يوم مبارك ، لأنّ نوحعليه‌السلام قد ركب في السفينة (ونجا من الغرق)(٤) .

ونقرأ في الحديث التالي عن الإمام الصادقعليه‌السلام في هذا المعنى حول يوم (النوروز) حيث يقول :

«... يوم مبارك استوت فيه سفينة نوح على الجودي ، وهو اليوم الذي نزل فيه جبرائيل على النبي ، وهو اليوم الذي حمل فيه رسول الله أمير المؤمنين على منكبه حتّى رمى أصنام قريش من فوق البيت الحرام فهشّمها وهو اليوم أمر النّبي أصحابه أن يبايعوا عليا بإمرة المؤمنين ...»(٥) .

وقد اقترن سعد ونحس الأيّام بذكر بعض الوقائع التأريخية الحسنة والسيّئة كما في العديد من الرّوايات ، فمثلا ما ذكر عن يوم عاشوراء الذي اعتبره الامويون

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٨٣ حديث (٢٥).

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٠٥.

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٨.

(٤) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٦١.

(٥) بحار الأنوار ، ج ٥٩ ، ص ٩٢.

٣١٩

يوم سعد لمّا حقّقوا فيه وبظنّهم من انتصار على أهل البيتعليه‌السلام نلاحظ الرّوايات تنهى بشدّة عن التبرّك في مثل هذا اليوم ، كما تحذر من ادّخار الأقوات السنوية فيه ، والابتعاد عن أجواء الاحتفالات التي كان يقيمها الامويون في هذا اليوم وكذلك تؤكّد على تعطيل الأعمال فيه.

ومن ملاحظة مجموعة الرّوايات السابقة ، دفع البعض أن يفسّر مسألة سعد ونحس الأيّام على أنّها مجعولة من أجل شدّ المسلمين بهذه الحوادث التاريخيّة المهمّة ، وحثّهم عمليّا على تطبيق ما تستلزمه تلك الحوادث من التفاعل وما تفرزه من معطيات ، وكذلك الابتعاد عن محطّات الحوادث السيّئة واجتناب سبلها.

ويمكن أن يصدّق هذا التّفسير في قسم من هذه الرّوايات ولا يصدق على القسم الآخر منها ، ذلك لأنّ المستفاد من البعض منها أنّ هنالك تأثيرا ملموسا في بعض الأيّام (إيجابا وسلبا) وليس لنا تفسير أو علم لهذا التأثير.

ب ـ ممّا يجدر الانتباه إليه أنّ هنالك من يفرط في موضوع سعد ونحس الأيّام ، بحيث إنّهم يمتنعون من الشروع بأي عمل إلّا بالاعتماد على هذه الخلفية ، وبذلك يفوتون عليهم فرصا كثيرة يمكن الاستفادة منها.

وبدلا من التعمّق في البحث الموضوعي الذي تحسب فيه حسابات الربح والخسارة والاستفادة من الفرص والتجارب الثرية فإنّهم يرجعون كسب الأرباح إلى سعد الأيّام والانتكاسات والخسارة إلى شؤم الأيّام وهذا المنهج يعبّر عن الانهزام من الواقع والهروب من الحقيقة والإفراط في التعليل الخرافي لحوادث الحياة الذي يجب أن نحذّره ونتجنّبه بشدّة.

والجدير بنا في هذه المسائل أن لا نعطي آذانا صاغية لأقوال المنجّمين والإشاعات المنتشرة في الأجواء الاجتماعية المتخلّفة ، ولا لحديث أولئك الذين يدّعون المعرفة المستقبلية لفأل الأشخاص ، ونستمرّ في حياتنا العملية بجهد حثيث وخطى ثابتة وبالتوكّل على الله وبروح موضوعية بعيدة عن التأثّر بهذه

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361