الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء ١

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية15%

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 361

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 361 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 214089 / تحميل: 8508
الحجم الحجم الحجم
الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

منكم فلا يصلون ، فأقول : يا ربّ ! هؤلاء من أصحابي ، فيجيبني مَلَك ، فيقول : وهل تدري ما أحدثوا بعدك ؟ ) (١) .

وروى مسلم أيضاً ، عن أنس بن مالك ، قال : إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( ليردنّ عليّ الحوض رجال ممّن صاحبني حتى إذا رأيتهم ، ورفعوا إليّ ، اختلجوا دوني ، فلأقولنّ : أي ربّ أصيحابي أصيحابي ، فليقالنَّ لي : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) (٢) .

وروى ابن جرير الطبري في تفسيره بسنده عن قتادة في تفسير قوله تعالى :( يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ ) (٣) ، لقد كفر أقوام بعد إيمانهم كما تسمعون ، ولقد ذكر لنا أنّ نبي الله كان يقول :( والذي نفس محمد بيده ، ليردنّ عليّ الحوض ممّن صحبني أقوام ، حتى إذا رفعوا إليّ ورأيتهم اختلجوا دوني ، فلأقولن : ربّ أصحابي أصحابي ، فليقالنّ : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) (٤) .

وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، قال : ( وكان يقال : أطوع الناس في قومه الجارود بن بشر بن المعلّى ، لمّا قُبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فارتدّت العرب ، خطب قومه فقال : أيّها الناس ، إن كان محمد قد مات فإنّ الله حي لا يموت )(٥) . وقد أنبأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاًعليه‌السلام بذلك الارتداد

ـــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ، محمد بن مسلم النيسابوري : ج ١ ص ٢١٧ ح ٢٤٧ ، كتاب الطهارة باب استحباب إطالة الغرة والتجميل في الوضوء .

(٢) صحيح مسلم ، النيسابوري : ج ١ ص ١٨٠٠ ح ٢٣٠٤ ، كتاب الفضائل ، باب فضل نسب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(٣) آل عمران : ١٠٦ .

(٤) جامع البيان ، الطبري : ج ٤ ص ٥٥ .

(٥) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ج ١٨ ص ٥٧ .

٢٤١

وغدر الأمة له ، حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ الأمة ستغدر بك بعدي ، وأنت تعيش على ملّتي وتُقتل على سنّتي ، مَن أحبك أحبّني ، ومَن أبغضك أبغضني ، وإن هذه ستخضب ) (١) ، وسنده صحيح ولم يتكلّموا فيه إلاّ من جهة ثعلبة بن يزيد الحماني ولكن قال النسائي فيه : إنّه ( ثقة )(٢) وقال ابن عدي : ( لم أر له حديثاً منكراً )(٣) وقال ابن حجر : ( صدوق شيعي )(٤) ، وقال الحاكم فيه : ( صحيح )(٥) .

وأخرج الحاكم في المستدرك ، عن عليعليه‌السلام أنّه قال :( إنّ ممّا عهد ليّ النبي : إنّ الأمة ستغدر بي بعده ) (٦) قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .

والحاصل أنّ الانقلاب والزيغ عن جادة الصواب في أمر الخلافة ممّا تنبّأ به القرآن والرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وبعد هذا كلّه ، كيف يستغرب في عصيان الصحابة ، ومخالفتهم في أمر الخلافة والإمامة التي هي من أصعب المنعطفات التي مرّت بها الأمة الإسلامية بعد وفاة الرسول الأكرم ، كما عبّر عن ذلك الشهرستاني في

ـــــــــــــ

(١) التاريخ الكبير : البخاري : ج ٢ ص ١٧٤ ح ٢١٠٣ ؛ تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ٤٢ ص ٤٤٨ ؛ البداية والنهاية ، ابن كثير : ج ٦ ص ٢٤٤ ـ ٣٦٠ ؛ تهذيب الكمال ، المزي : ج ٤ ص ٣٩٩ ؛ تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : ج ١١ ص ٢١٦ ح ٥٩٢٨ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١١ ص ٢٩٧ ح ٣١٥٦٢ .

(٢) ميزان الاعتدال ، الذهبي : ج ١ ص ٣٧١ .

(٣) المصدر نفسه .

(٤) تهذيب الكمال ، المزي : ج ٤ ص ٣٩٩ .

(٥) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٤٣ .

(٦) المصدر نفسه : ج ٣ ص ١٤٠ ؛ وجاء بهذا اللفظ في مجمع الزوائد : ج ٩ ص ١٣٧ .

٢٤٢

كتابه ( الملل والنحل ) بقوله : ( ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كل زمان )(١) .

الخلاصة

إنّ انحراف الناس عن الأنبياءعليهم‌السلام في الأمم السابقة أمر معهود في التاريخ ، كما يحدثنا القرآن الكريم والتاريخ بذلك ، وعلى هذا الضوء فإنّ الأُمّة الإسلامية لم يستثنها الله تعالى من باقي الأمم التي يجمعها قاسم مشترك ، وهو طبيعة النفس الإنسانية وميلها للشهوات والأطماع ، لا سيّما وأنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ وأكّد على أنّ الأمة الإسلامية تحذو حذو هذه الأمم السابقة في كل شيء .

ومن هنا فعدول الصحابة عن وصية نبيهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر لا يخرج عن الأسباب التي دفعت الأمم السابقة بالعدول عن أنبيائهم ، ويمكن إجمال خلفيات عدول الصحابة فيما يلي :

١ ـ طبيعة قريش وما تحمله من تطلّع نحو الزعامة والملك والسلطان .

٢ ـ وجود عدد كبير من المنافقين ومرضى القلوب في صفوف المسلمين .

٣ ـ التنافس والنزاع بين القبائل كما هو الحال بين قبيلتي الأوس والخزرج .

٤ ـ التناحر والتحاسد بين المهاجرين والأنصار .

ـــــــــــــ

(١) الملل والنحل ، الشهرستاني : ج ١ ص ٢٠ .

٢٤٣

٥ ـ سياسة الإرهاب في السقيفة .

٦ ـ تجاسر الصحابة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أحصى التاريخ عدداً وافراً من المخالفات للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها :

أ ـ مخالفة أوامر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند فرارهم في معركة أحد .

ب ـ عصيانهم لله ورسوله بفرارهم من الزحف كما في يوم حنين .

ج ـ اعتراض الصحابة على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديبية ، حيث أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنحر فاعترضوا عليه ولم يقم منهم أحد .

د ـ الإشفاق من التصدّق عندما أمر الله تعالى بتقديم صدقة عند مناجاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتركوا مناجاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خشية من دفع الصدقة .

هـ ـ تخلّف القوم عن الالتحاق بجيش أُسامة الذي أمرهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإنفاذه .

٧ ـ إنّ ارتداد الصحابة قد أنبأنا به القرآن الكريم ، كما في قوله تعالى :( وَمَا مُحمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى‏ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشّاكِرِينَ ) (١) .

بالإضافة إلى إنباء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في روايات مستفيضة بارتداد بعض أصحابة .

ـــــــــــــ

(١) آل عمران : ١٤٤ .

٢٤٤

الفصل السادس: العصمة والغلو

العصمة والغلو

الشبهة :

عصمة أهل البيت من أبرز مظاهر الغلو .

الجواب :

لكي تتضح عصمة أهل البيتعليهم‌السلام بشكل واضح ، ينبغي أن نقف قليلاً لنفهم معنى وحقيقة العصمة ، فنقول :

العصمة لغةً :

العصمة : هي المنع والوقاية ، قال في القاموس : ( أعصم ، يعصم : اكتسب ومنع ، ووقى والعصمة بالكسر المنع )(١) .

وجاء في كتاب العين : ( أن يعصمك الله من الشر ، أي : يدفع عنك واعتصمت بالله ، أي : امتنعت به من الشر واستعصمت ، أي : أبيت وأعصمت ، أي : لجأت إلى شيء اعتصمت به )(٢) .

وقال في لسان العرب : ( العصمة في كلام العرب : المنع وعصمة الله عبده : أن يعصمه ممّا يوبقه عصمه يعصمه عصماً : منعه ووقاه ، وفي التنزيل : لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رحم ، أي لا معصوم إلاّ المرحوم )(٣) .

وجاء في مختار الصحاح : ( ع ص م العصمة المنع ، يقال عصمه الطعام ،

ـــــــــــــ

(١) القاموس، الفيروزآبادي : ج ٤ ص ١٥١ .

(٢) كتاب العين ، الخليل أحمد الفراهيدي : ج ١ ص ٣١٣ .

(٣) لسان العرب ، ابن منظور : ج ١٢ ص ٤٠٣ .

٢٤٥

أي منعه من الجوع ، والعصمة أيضاً الحفظ ، وقد عصمه يعصمه بالكسر عصمة فانعصم ، واعتصم بالله أي امتنع بلطفه من المعصية )(١) .

العصمة اصطلاحاً :

لا يختلف معنى العصمة اصطلاحاً عن المعنى اللغوي إلاّ في خصوصيات مصداق العصمة الشرعية من أجزاء وشرائط مرتبطة بالأفراد المعصومين ، فالعصمة لدى الأنبياء والرسل والأولياء والأئمّةعليهم‌السلام تعني المنع من ارتكاب المعصية والوقاية من كل رجس ، فلابد أن نعرف أسباب هذا المنع وموجبات هذه الوقاية .

منشأ العصمة :

إنّ الأساس الذي تعتمد عليه العصمة هو العلم ، وهذا الضرب من العلم ليس من سنخ العلم العادي الموجود عند جميع أفراد البشر على السواء ، والذي يسمّى في الاصطلاح العلمي بالعلم الحصولي ، وهو الذي أشارت إليه الآية المباركة بقوله تعالى :( وَاللهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٢) وهذا النوع من العلم موجود عند كل إنسان سواء كان فاسقاً فاجراً أم مؤمناً عادلاً .

وقد أشار القرآن الكريم إلى حقيقة العلم الذي يكون منشأ للعصمة في موارد متعددة :

١ ـ قوله تعالى في حكايته عن النبي يوسفعليه‌السلام :( وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنّ

ـــــــــــــ

(١) مختار الصحاح ، محمد بن عبد القادر : ص ٢٣٠ .

(٢) النحل : ٧٨ .

٢٤٦

أَصْبُ إِلَيْهِنَ وَأَكُن مِنَ الْجَاهِلِينَ ) (١) .

فالآية تؤكّد بكل صراحة أنّ الذي يصبو إلى المعصية هو الجاهل الذي يقوده هوى النفس إلى ارتكاب ما حرّمه الله تعالى .

فإذا كان الجهل هو الذي يقود إلى المعصية فالعلم هو المانع والحائل عن المعصية ؛ ولذلك قالعليه‌السلام ( وَأَكُن مِنَ الْجَاهِلِينَ ) ولم يقل : ( وأكن من الظالمين ) كما قال لامرأة العزيز : إنّه لا يفلح الظالمون أو أكن من الخائنين ، وكما قال للملك :( وَأَنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ) .

فالنبي يوسفعليه‌السلام فرّق في الخطاب بينه وبين امرأة العزيز والملك من جهة ، وبينه وبين ربّه من جهة أخرى ، فخاطب امرأة العزيز والملك ( بالظلم ، والخيانة ) ، وأنّ الظالم لا يفلح ، والله لا يهدي كيد الخائنين ، وخاطب ربّه تعالى بخطاب آخر وهو أنّ الصبوة إليهن من الجهل .

فيتضح من هذه الآية أن منشأ العصمة هو العلم .

٢ ـ قوله تعالى :( وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَن يُضِلّوكَ وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرّونَكَ مِن شَيْ‏ءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) (٢) .

وهذه الآية واضحة الدلالة على أنّ المنشأ الرئيس للعصمة هو العلم الذي أنعم الله به على الأنبياءعليهم‌السلام ، فالآية أشارت إلى أنّ المنافقين لا يتمكّنون من إضلال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو التأثير عليه وذلك لما منحه الله تعالى من

ـــــــــــــ

(١) يوسف : ٣٣ .

(٢) النساء : ١١٣ .

٢٤٧

قدرات علمية خاصة جعلته في حصانة تامة من الضلال ؛ ولذا يقول الفخر الرازي في صدر تفسيره للآية : ( وهذا من أعظم الدلائل على أنّ العلم أشرف الفضائل والمناقب )(١) .

وهذا بدوره يكشف عن سر تركيز القرآن الكريم وتأكيده على أهمية العلم الذي يحمله الأنبياءعليهم‌السلام ، وهو العلم الذي يحمل في طيّاته خصائص ومميّزات عديدة تؤهّل الإنسان لأن يكون نبيّاً مرسلاً من الله تبارك وتعالى

قال تعالى حكاية عن النبي يوسفعليه‌السلام :( وَلَمّا بَلَغَ أَشُدّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ) (٢) ، وقال تعالى :( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً ) (٣) .

أمّا حقيقة هذا العلم ـ كما ستأتي الإشارة إليه في مبحث علم الإمام ـ هو سنخ علم ليس كالعلوم التي يتعلّمها الناس ، وإنّما هو علم يلقيه الله تعالى على قلب مَن يشاء ، وهو من سنخ العلم الذي كان وصي سليمان ( آصف بن برخيا ) يتصرف في التكوين بواسطته ، مع أنّه كان عنده بعض هذا العلم لا كلّه ، كما في قوله تعالى :( قَالَ الّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذَا مِن فَضْلِ رَبّي ) (٤) .

ومن الواضح أنّه تعالى قال :( عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ ) فإنّ ( من ) تفيد التبعيض ، وبهذا البعض من العلم استطاع نقل عرش بلقيس من مملكتها إلى مقام سليمان في لحظة واحدة .

وعلى هذا الأساس ، فإنّ هذا السنخ من العلم كلّه موجود عند أهل البيت وسنشير إلى جملة من الشواهد الروائية التي تثبت ذلك في مبحث (علم الإمام) ، ونكتفي هنا بالإشارة لروايتين فقط .

ـــــــــــــ

(١) التفسير الكبير ، الفخر الرازي : مج ٦ ، ج ١١ ص ٤٠ .

(٢) يوسف : ٢٢ .

(٣) النمل : ١٥ .

(٤) النمل : ٤٠ .

٢٤٨

الرواية الأولى : أخرج القندوزي الحنفي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : ( علم الكتاب والله عندنا وما أعطي وزير سليمان بن داود ، إنّما عنده حرف واحد من الاسم الأعظم ، وعلم بعض الكتاب كان عنده وقال في عليعليه‌السلام ومن عنده علم الكتاب وعلم بعض الكتاب سمّاه عنده الكتاب )(١) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً عن آبائهعليهم‌السلام أنّه قال :( ألا وإنّا أهل بيت من علم الله علمنا وبحكم الله حكمنا ) (٢) .

الرواية الثانية : ما أخرجه ابن المغازلي عن عليعليه‌السلام قال :قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أعطينا أهل البيت سبعةً لم يُعطَها أحدٌ قبلنا ، ولا يعطاها أحد بعدنا : الصباحة والفصاحة والسماحة والشجاعة والحلم والعلم والمحبّة من النساء ) (٣) .

إذن هذا العلم الخاص إفاضة منه تعالى لأهل البيتعليهم‌السلام وهو منشأ عصمتهم ، مضافاً إلى جملة وافرة من الأدلة العقلية والنقلية الدالة على عصمتهمعليهم‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) ينابيع المودة ، القندوزي : ج ١ ص ٣٠٦ .

(٢) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ج ١ ص ٢٦٧ ؛ جواهر المطالب في مناقب الإمام الجليل علي بن أبي طالب : أحمد بن محمد الدمشقي الشافعي : ج ١ ص ٣٤٣ ؛ ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ١ ص ٨٠؛ ج ٣ ص ٤٠٨ .

(٣) مناقب علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ابن المغازلي : ص ٢٩٥ ، ط ٢ .

٢٤٩

الدليل العقلي على عصمة أهل البيتعليهم‌السلام

تقدم سابقاً أنّ الإمامة متمّمة للنبوّة في مجال الدين بمعنى أنها واجبة لأداء وظيفة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيانه لأحكام الدين والعمل لهداية الناس إلى مصالحهم الواقعية وتزكية الناس وتربيتهم على الكمال اللائق بهم وحفظ التشريع عن التحريف والزيادة والنقصان .

وعلى هذا يعود الدليل الدال على عصمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعينه ليكون دليلاً على وجوب عصمة الإمام .

فالدليل العقلي القائم على عصمة النبي ، من أنّه لو جاز على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخطأ والمعصية ، مع أنّ الله تعالى أمر باتباعه والاقتداء به والانصياع والطاعة لإوامره ، فإنّ هذا يعني أنّ الله تعالى جوّز لنا ارتكاب المعصية والخطأ الذي يصدر من النبي ، وهذا محال لأنّ الله تعالى لا يأمر بالمعصية والانحراف عن المسار الصحيح الذي رسمه للبشرية .

إذن بالنظر إلى موقعية الإمام من الدين وكونه حافظاً للشريعة وقيّماً عليها لابد من القول بعصمته ، كما هو الحال بالنسبة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحيث لا يخامرنا الشك بعصمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّها أمر واضح ، وخلافها لا ينسجم مع الحكمة الإلهية ، فكذلك الإمام بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للسبب ذاته .

وبذلك يتضح ضرورة عصمة الأئمّةعليهم‌السلام بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّها واجبة كعصمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

مضافاً إلى أنّه لو افترضنا إمكان صدور الخطأ أو الوقوع في الذنب من النبي أو الإمام فإنّ هذا بدوره يؤدّي إلى إنكار الآخرين عليه ونفورهم منه ، وهو أمر ينافي ويضادد ما أمر الله تعالى به من طاعته ، وبالتالي يؤدّي الإنكار عليه إلى تفويت غرض الله تعالى من وصول الناس إلى كمالهم المرسوم ، الناتج عن طاعتهم للنبي أو الإمام .

٢٥٠

الأدلة القرآنية على عصمة الأئمّةعليهم‌السلام

يطالعنا القرآن الكريم بعدّة من الآيات الصريحة الدالة على عصمة الأئمّةعليهم‌السلام :

الآية الأُولى : قوله تعالى( وَإِذِ ابْتَلَى‏ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (١) .

بيان الاستدلال :

لا ريب أنّ الظالم في منطق الشريعة هو كل مَن يعصي الله تعالى ؛ لأّنه ظالم لنفسه على أقل تقدير ، أمّا العهد في الآية المباركة فالمراد منه الإمامة ، بقرينه قوله تعالى في نفس الآية :( إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً ) ، فالظالم المرتكب للمعصية في أي فترة من فترات حياته لا يمكن أن يكون إماماً .

وربّما يُعترض على ذلك بالقول : إنّ الإنسان قد يرتكب في شوط من أشواط حياته معصية ما ، وقد يكون ظالماً لنفسه في مرتبة من مراتب عمره ثم يتوب ، فما المانع من أن يشمله اللطف الإلهي بالإمامة ؟

ـــــــــــــ

(١) البقرة : ١٢٤ .

٢٥١

والجواب عن ذلك بالبيان التالي :

يمكننا تصنيف الناس إلى أربعة أصناف لا خامس لها :

الصنف الأول : مَن كان ظالماً من أوّل عمره إلى آخره .

الصنف الثاني : مَن كان ظالماً في بداية عمره فحسب ، وكان تائباً مؤمناً في أواخر حياته .

الصنف الثالث : مَن كان مؤمناً أوّل عمره ، ظالماً في آخره .

الصنف الرابع : مَن كان في كل مراحل حياته مؤمناً من أوّلها إلى آخرها.

وبالعودة إلى إبراهيم ودعائه وطلبه الإمامة لذرّيته نجد أنّه من غير المعقول أن يطلب الإمامة لمَن كان ظالماً في جميع عمره أو ظالماً آخر عمره وإن كان في أوّله مؤمناً ، وهذا واضح .

إذن يبقى الصنف الثاني والثالث هما اللذان طلب إبراهيمعليه‌السلام لهما الإمامة ، وقد نصّ الله تعالى في الآية المباركة على أنّ العهد والإمامة لا ينالها الظالم ، وينحصر المقصود بالظالم لا محالة بالصنف الثاني ، وهو مَن يكون ظالماً في بداية عمره فحسب ، وتائباً في آخر حياته .

وحينئذٍ يبقى الصنف الرابع وهو مَن كان مؤمناً في طول حياته ، وهو المعصوم عن الخطأ .

لا سيّما مع الالتفات إلى أنّ النبي إبراهيم من أنبياء أُولي العزم ، وقد تحدّث القرآن الكريم عن خلقه وأدبه مع الله تعالى في الطلب والمسألة .

كما في قوله تعالى :( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاّ عَن مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيّاهُ فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَدُوّ للهِ‏ِ تَبَرّأَ مِنْهُ إِنّ إِبْرَاهِيمَ لأَوّاهٌ حَلِيمٌ ) (١) .

فالنبي إبراهيمعليه‌السلام تبرأ من عمّه آزر بعد اطلاعه وعلمه بأنّه عدو لله .

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ١٤ .

٢٥٢

إذن إبراهيمعليه‌السلام يتبرأ من كل عدو وعاص لله تعالى ؛ لأنّ العاصي هو عدو لله بمرتبة من المراتب ، وعلى هذا الأساس فإنّ كل ظالم لنفسه ولو مرة واحدة في حياته يخرج عن محوطة دعاء إبراهيمعليه‌السلام له ، بعد أن أعلمه الله تعالى بأنّ هذا الصنف غير مستحق لعهد الإمامة ، وبذلك يخرج كل مَن كان ظالماً لنفسه في أي مقطع من مقاطع حياته ، فيبقى القسم الرابع وهو مَن كان غير ظالم من أوّل عمره إلى آخره .

إذن الآية الشريفة تدل بكل وضوح على عصمة كل مَن ينال ويستحق مقام الإمامة منذ اليوم الأول ، فلابد أن يكون الإمام معصوماً قبل الإمامة وبعدها .

وبذلك تدل الآية المباركة على عصمة أهل البيتعليهم‌السلام ، بعد ثبوت إمامتهم للأُمّة بالأدلة القرآنية والروائية المذكورة في محلّها .

الآية الثانية : قوله تعالى :( إِنّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) وهذه الآية المباركة تبيّن كيفية تعلّق إرادة الله تعالى بإذهاب الرجس عن أهل البيتعليهم‌السلام وأن يكونوا مطهّرين معصومين ، ولمّا كانت إرادة الله تعالى لا تنفك عن مراده سبحانه فإنّ الذي أراده الله تعالى وهو تطهير أهل البيتعليهم‌السلام واقع لا محالة .

وقد نوقش الاستدلال بالآية في قوله تعالى ( إنّما يريد ... ) فإنّه إما يقصد الإرادة التشريعية وهي تتخلّف عن المراد ، مضافاً لعدم اختصاصها بأهل البيتعليهم‌السلام ، حيث إنّ الله تعالى أراد من الناس كافة أن يطّهروا بأن يكونوا طائعين مهتدين سائرين في طريق الكمال ، ونهاهم عن الرجس وارتكاب المحرمات كشرب الخمر والفسق والفجور وغيرها ، فهذه الإرادة التشريعية تعلقت بكل البشرية ولا خصوصية لها بأهل البيتعليهم‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) الأحزاب : ٣٣ .

٢٥٣

وإمّا أن تكون تلك الإرادة تكوينية وقد تعلقت بطهارة أهل البيتعليهم‌السلام فهذا يعني أنّهم مطهّرون جزماً ، إذ يستحيل أن تتخلّف إرادة الله التكوينية عن المراد ، لكن الملاحظة التي تقف بوجه هذا التقريب من الاستدلال ، هي أنّ هذا هو الجبر بعينه ، وأنّ أهل البيتعليهم‌السلام مجبورون عن الابتعاد عن الرجس بإرادة الله التكوينية التي لا تتخلف عن المراد ، وهذا يعني أنّ عصمة أهل البيتعليهم‌السلام ليست شرفاً أو مدحاً لهم ؛ لأنّ العصمة لم تكن باختيارهم .

والجواب على ذلك سيأتي مفصّلاً في مبحث علم الإمام بالغيب ، إلاّ أنّه يمكننا أن نكتفي بالإشارة المفهمة للجواب ، فنقول : حيث إنّ الله تعالى عالم بكل شيء لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ، فهو يعلم بأفعال عبيده قبل خلقهم ويعلم ما يصدر من الإنسان قبل أن يخلقه ، ومحيط بما هو صائر إليه .

وعلى هذا الأساس : فإنّ الله تعالى لمّا علم من هؤلاء النفر وهم أهل البيتعليهم‌السلام بأنّهم لا يريدون لأنفسهم إلاّ الطاعة المطلقة لله سبحانه أعانهم على ذلك ، وأراد لهم من الطهارة ما يتناسب مع ما علمه من إرادتهم ؛ لأنّه علم منهم أنّهم لا يريدون لأنفسهم إلاّ الطاعة ، فلم تتعلّق إرادته التكوينية بعصمتهم إلاّ بعد العلم بأنّهم سوف لا يكون لهم همّ إلاّ الطاعة والعبودية .

٢٥٤

وقد ركّزت الآيات القرآنية على هذه الحقيقة ، كما في قوله تعالى :

( كُلّاً نمدّ هؤُلاَءِ وَهؤُلاَءِ ) (١) وقوله عزّ وجلّ :( وَإِن من شَيْ‏ءٍ إِلاّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (٢) وقوله تعالى : ( أَنزَلَ مِنَ السّماءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةُ بِقَدَرِهَا ) (٣) ، وهكذا قوله تبارك وتعالى :( إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ إِمّا شَاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ) (٤) .

إذن فالمسألة لا ترجع إلى اختيار جزافي بل تتحرّك في إطار هادف ، وعلمه تعالى بهم صار منشأ لهذه الإرادة التكوينية ؛ وبذلك يتبين عدم التنافي بين كون الله تعالى علم منهم أنّهم يريدون طاعة الله باختيارهم ، وبين تعلّق إرادته عزّ وجلّ التكوينية بتطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم ، النابع عن ذلك الاختيار بعد علم الله تعالى به ، ويمكن استظهار ما ذكرناه من الآية ذاتها ، حيث إنّها عبرت بـ( إنّما يريد ) ومن الواضح أنّ الفعل المضارع دالّ على الاستمرارية ، أي أنّ النفر والأشخاص الذين أخبرت الآية عن عصمتهم متصفون بهذه الصفة على الدوام والاستمرار ، وهذا لا ينطبق إلاّ على العترة خاصة دون سواهم ، مع مطابقة ذلك التسديد الإلهي لما يريدونه من الطهارة حيناً فحيناً .

فالآية المباركة تدل على عصمة أهل البيتعليهم‌السلام ، وقد تقدّم(٥) ما يدل على عدم مشاركة غير أهل البيت في الآية الشريفة ، وهنالك قرائن قطعية

ـــــــــــــ

(١) الإسراء : ٢٠ .

(٢) الحجر : ٢١ .

(٣) الرعد : ١٧ .

(٤) الإنسان : ٣ .

(٥) راجع : بحث آية التطهير السابق عند ردّ شمولها لبني هاشم عامة .

٢٥٥

وشواهد روائية صريحة تؤكّد على انحصار هذه الآية الشريفة بأهل البيتعليهم‌السلام .

ومنها مثلاً اهتمام وحرص الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تشخيص عنوان أهل البيتعليهم‌السلام بالعترة الطاهرة والمنع من استعمال هذه الكلمة في غير عترتهعليهم‌السلام وإدخال المسيء فيهم ، وقد جاء ذلك في روايات كثيرة ، منها :

ما ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : (ادعوا لي ، ادعوا لي ، فقالت صفية : مَن ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أهل بيتي عليّاً وفاطمة والحسن والحسين ، فجيء بهم فألقى عليهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كساءه ، ثم رفع يديه ، ثم قال :اللّهمّ هؤلاء آلي فصلّي على محمد وعلى آله محمّد ، وأنزل الله عز وجلّ ،( إِنّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) ، ثم يؤكّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الحصر والتشخيص بقوله:( اللّهمّ هؤلاء آلي فصل على محمّد وآل محمّد ) ، فنزّل الله تعالى فيهم قرآناً محكماً ، وهو قوله تعالى:( إِنّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ولا يخفى ما في هذه الكلمة :( اللّهمّ هؤلاء آلي ) من الدلالة على حصر أهل البيت .

ـــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٤٨ والآية ٣٣ من سورة الأحزاب .

٢٥٦

الأدلة الروائيّة

أوّلاً : حديث الثقلين

عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) (١) ، وأوّل سؤال يطالعنا في هذا المجال : هل صدر هذا الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم لا ؟

والجواب : إنّ هذا الحديث ما لا شك في صدوره عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد نقله أهل السنّة ، وروه في كتبهم أكثر من نقل الشيعة له .

وهذا الحديث وإن قيل إنّه صدر بصيغة ( وسنّتي بدل وعترتي ) إلاّ أنّه لا تنافي بينهما ؛ لأنّ العترة هي في موقع بيان السنّة ، فالعترة هي المبيّن الواقعي للسنّة ، وإنّ السنّة بتمامها لدى العترة ، وفحوى ( كتاب الله وعترتي ) يتمثّل بوجوب تلقيّنا السنّة عن العترة ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى أنّه إذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد صرّح بعبارة ( وسنّتي ) في موطن واحد فإنّه قد نطق بصيغة ( كتاب الله وعترتي ) في مواطن متعددة ومتواترة(٢) .

ـــــــــــــ

(١) المعجم الكبير ، الطبري : ج ٥ ص ١٧٠ ص ١٨٦ ؛ تفسير ابن كثير : ج ٤ ص ١٢٢ ؛ قال فيه : ( وثبت في الصحيح أنّ الرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في خطبة بغدير ( الحديث ) ، ونحوه صحيح مسلم : ج ٤ ص ١٨٧٣ ؛ ونحوه مجمع الزوائد : ج ٩ ص ١٦٢ ـ ١٦٣، وقال فيه : ( رواه أحمد وإسناده جيد ) ؛ الصواعق المحرقة : ص ٣٤١ ، ونحوه صحيح الترمذي : ج ٥ ص ٣٢٩ ؛ ونحوه السنن الكبرى ، النسائي : ج ٥ ص ٤٥ .

(٢) المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٥ ص ١٧٠ وص ١٨٦ ؛ السنن الكبرى ، النسائي : ج ٥ ص ٤٥ وص ١٣٠ وغيرها من المصادر .

٢٥٧

دلالة الحديث على عصمة أهل البيتعليهم‌السلام

فمن الملاحظ أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد حثّ أُمّته على الالتزام والتمسّك بالثقلين ، وأخذ دينهم من هذين المصدرين : ( الكتاب والعترة ) ، فكما أنّ القرآن معصوم عن الزيغ ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ بلا خلاف في ذلك ـ كذلك يكون العدل الآخر له معصوماً أيضاً ؛ لأنّه من المحال أن يدعو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أخذ الدين من مرجع بشكل حاسم ، ثم يتخلّل الخطأ والسهو والزيغ بعض كلام ذلك المرجع .

فالعترة مرجع إلهي عيّنه الله تعالى لهذا الموقع إلى جوار القرآن الكريم بالنحو الذي لا يمكن الأخذ بأحدهما دون الآخر ، وإلاّ سوف ينتهي الأخذ بأحدهما دون الآخر إلى الضلال .

وعليه فإنّه من المحال أن يدعو الله تعالى ورسوله إلى مصدر ومرجع في حال يمكن فيه المعصية والخطأ والاشتباه ؛ لأنّ ذلك يعني تجويز الله سبحانه وتعالى المعصية والخطأ ، وهو أمر مستحيل ، وعلى هذا الأساس يتعيّن القول بعصمة أهل البيتعليهم‌السلام .

ثانياً : النص على العصمة والطهارة

كما في قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهّرون معصومون ) (١) .

وهو صريح الدلالة في إثبات العصمة لأهل البيتعليهم‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ٢ ص ٣١٦ وج ٣ ص ٢٩١ وص ٣٨٤ .

٢٥٨

ثالثاً : طاعتهم طاعة لله ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي أمير المؤمنينعليه‌السلام :( مَن أطاعني فقد أطاع الله ومَن عصاني فقد عصا الله ، ومَن أطاع عليّاً فقد أطاعني ، ومَن عصا عليّاً فقد عصاني ) (١) .

ومن مميّزات هذا الحديث أنّ الذهبي الذي هو إمام النقد والتجريح عند السنّة ، والذي عمل كل ما يستطيع لإسقاط عمدة أحاديث فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام ، قد صحّح هذا الحديث ، ففي هذا الحديث النبوي الكريم أصل وفرع ، وشجرة وثمرة فالأصل والشجرة هو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والفرع هو عليعليه‌السلام ، وهذا الحديث واضح الدلالة في عصمة الإمام عليعليه‌السلام ؛ لأنّه يدل على أنّ إرادة عليعليه‌السلام لا يمكن أن تتخلّف عن إرادة الله تعالى ، ولا تتخلّف كراهته عن كراهته الله تعالى ، ولو أمكن أن تتخلّف لكان قوله : ( ومَن أطاعه فقد أطاع الله ) خطأ واشتباهاً ، والعياذ بالله .

وحيث تثبت عصمة الإمام عليعليه‌السلام تثبت عصمة بقيّة أهل البيتعليهم‌السلام ؛ لأنّهم نور واحد وورثة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلفاؤه كما هو واضح .

ثم إنّه بعد ثبوت العصمة لأهل البيتعليهم‌السلام في العقل والقرآن والسنّة ، لا يبقى مجال لدعوى الغلو في مبدأ العصمة لأهل البيتعليهم‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢١ ؛ وقال فيه : ( حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ) .

٢٥٩

الخلاصة

إنّ عصمة أهل البيتعليهم‌السلام أمر لا يمكن التردد فيه بعد الوقوف على حقيقة العصمة والأدلة القرآنية والروائية .

فالعصمة لغةً : المنع والوقاية أي إنّ العصمة مَلَكة تمنع صاحبها من ارتكاب المعصية ، وهذا هو المعنى الاصطلاحي للعصمة .

منشأ العصمة

إنّ منشأ العصمة هو العلم ، إلاّ أنّه ليس العلم العادي الموجود عند جميع أفراد البشر المسمّى بالعلم الحصولي ، بل هو سنخ علم خاص يفيضه الله تعالى على قلب من يشاء من عباده ، وقد أشارت إلى هذا النمط من العلم عدة من الآيات القرآنية ، كما هو الحال في قضية وصي سليمان آصف بأقل من طرفة عين ، كما في قوله تعالى :( قَالَ الّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذَا مِن فَضْلِ رَبّي ) (١) .

ولا ريب أنّ هذا السنخ من العلم ، هو في صدور أهل البيتعليهم‌السلام ، وقد تقدّمت عدّة شواهد وأدلة على ذلك .

إذن منشأ وسبب العصمة إنّما هو العلم الخاص الذي عند أهل البيتعليهم‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) النمل: ٤٠ .

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الآيات

( وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) )

التّفسير

يوم البعث والنشور :

تأتي هذه الآيات لتواصل البحث عن الكفّار الذين كذّبوا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يذعنوا للحقّ حيث أعرضوا عن جميع المعاجز التي شاهدوها.

والآيات أعلاه تشرح حال هؤلاء الأفراد وموضّحة المصير البائس الذي ينتظر هؤلاء المعاندين في يوم القيامة.

يقول سبحانه إنّ هؤلاء لم يعدموا الإنذار والإخبار ، بل جاءهم من الأخبار ما يوجب انزجارهم عن القبائح والذنوب :( وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) وذلك ليلقي عليهم الحجّة.

وبناء على هذا فلا يوجد نقص في تبليغ الدعاة الإلهيين ، وما يوجد من

٣٠١

نقصان أو خلل يمكن فيهم ، حيث ليس لديهم روح تواقة لمعرفة الحقّ ولا آذان صاغية ، ونفوسهم متنكّبة عن التقوى والتدبّر في الآيات الإلهية.

والقصد من «الأنباء» الإخبار عن الأمم والأقوام السابقة الذين هلكوا بألوان العذاب المدمّر الذي حلّ بهم ، وكذلك أخبار يوم القيامة وجزاء الظالمين والكفّار ، حيث اتّضحت كلّ تلك الأخبار في القرآن الكريم.

ويضيف تعالى :( حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ ) فهذه الآيات حكم إلهيّة بليغة ومواعظ مؤثّرة ، إلّا أنّها لا تفيد أهل العناد(١) (٢) .

تبيّن هذه الآية أن لا نقص في «فاعلية الفاعل» ، أو تبليغ الرسل. لكن الأمر يكمن في مدى استعداد الناس وأهليتهم لقبول الدعوة الإلهيّة ، وإلّا فإنّ الآيات القرآنية والرسل والأخبار التي وردتهم عن الأمم السابقة والأخبار التي تنبؤهم عن أحوال يوم القيامة كلّ هذه الأمور هي حكمة بالغة ومؤثّرة في النفوس الخيّرة ذات الفطرة السليمة.

الآية التالية تؤكّد على أنّ هؤلاء ليسوا على استعداد لقبول الحقّ ، فأتركهم لحالهم وأعرض عنهم وتذكّر يوم يدعو الداعي الإلهي إلى أمر مخيف ، وهو الدعوة إلى الحساب ، حيث يقول سبحانه :( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ ) (٣) .

وعلى هذا تكون عبارة :( يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ) عبارة مستقلّة ومنفصلة عن جملة :( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ) . لكن البعض يرى أنّ كلّ واحدة من الجملتين مكمّلة للأخرى ، حيث يذهبون إلى أنّ قوله تعالى :( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ) جاءت بصيغة الأمر للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإعراض عن المشركين الذين يرجون الشفاعة منه يوم القيامة عند ما يدعوهم

__________________

(١) (حكمة بالغة) خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هذه حكمة بالغة).

(٢) نذر جمع نذير ويعني (المنذرين) والمقصود بالمنذرين هي الآيات القرآنية وأخبار الأمم والأنبياء الذين وصل صوتهم إلى أسماع الناس ، ويحتمل البعض أنّ (نذر) مصدر بمعنى إنذار. لكن المعنى الأوّل هو الأنسب. وضمنا فإنّ (ما) في عبارة (ما تغن بالنذر) نافية وليست استفهامية.

(٣) في الآية أعلاه (يوم) يتعلّق بمحذوف تقديره (اذكر) ويحتمل البعض أنّها تتعلّق بـ (يخرجون) ولكن ذلك مستبعد.

٣٠٢

الداعي الإلهي للحساب. وهذا الرأي مستبعد جدّا.

وهنا يثار السؤال التالي : هل الداعي هو الله سبحانه؟ أم الملائكة؟ أم إسرافيل الذي يدعو الناس ليوم الحشر عند ما ينفخ في الصور؟ أم جميع هؤلاء؟

ذكر المفسّرون احتمالات عدّة للإجابة على هذا التساؤل ، ولكن بالرجوع إلى قوله تعالى :( يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ) ،(١) يرجّح الرأي الأوّل. رغم أنّ الآيات اللاحقة تتناسب مع كون الداعي هم الملائكة المختّصون بشؤون الحساب والجزاء.

أمّا المراد من( شَيْءٍ نُكُرٍ ) (٢) فهو الحساب الإلهي الدقيق الذي لم يكن معلوما من حيث وقته قبل قيام الساعة ، أو العذاب الذي لم يخطر على بالهم ، أو جميع هذه الأمور ، ذلك لأنّ يوم القيامة في جميع أحواله حالة غير مألوفة للبشر.

وفي الآية اللاحقة يبيّن الله سبحانه وتعالى توضيحا أكثر حول هذا الموضوع ويذكر أنّ هؤلاء يخرجون من القبور في حالة :( خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ ) .

نسبة «الخشوع» هنا للأبصار لأنّ المشهد مرعب ومخيف إلى حدّ لا تستطيع الأنظار رؤيته ، لذلك فإنّها تتحوّل عنه وتطرّق نحو الأسفل.

والتشبيه هنا بالجراد المنتشر لأنّ النشور في يوم الحشر يكون بصورة غير منتظمة لحالة الهول التي تعتري الناس فيه ، كما هي حركة انتشار الجراد التي تتمثّل فيها الفوضى والاضطراب خلافا للقسم الأكبر من حركة الطيور التي تطير وفق نظم خاصّة في الجو ، مضافا إلى أنّهم كالجراد من حيث الضعف وعدم القدرة.

نعم ، إنّ حالة هؤلاء الفاقدين للعلم والبصيرة ، حالة ذهول ووحشة وتخبّط في المسير كالسكارى يرتطم بعضهم ببعض فاقدين للوعي والإرادة كما في قوله

__________________

(١) الإسراء ٢

(٢) (نكر) مفرد من مادّة (نكارة) وتعني الشيء المبهم المخيف.

٣٠٣

تعالى :( وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى ) .(١)

والحقيقة أنّ هذا التشبيه هو ما ورد أيضا في الآية (٤) من سورة القارعة حيث يقول سبحانه :( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ ) .

وأمّا قوله تعالى :( مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ) فإنّ كلمة «مهطعين» تأتي من مادّة (إهطاع) أي مدّ الرقبة ، والبعض يرجعها إلى النظر بانتباه أو الركض بسرعة نحو الشيء ، ويحتمل أن تكون كلّ واحدة من هذه المعاني هي المقصودة ، ولكن المعنى الأوّل هو الأنسب ، لأنّ الإنسان عند سماعه لصوت موحش يمدّ رقبته على الفور وينتبه إلى مصدر الصوت ، ويمكن أن تكون هذه المفاهيم مجتمعة في الآية الكريمة حيث أنّ بمجرّد سماع صوت الداعي الإلهي تمدّ الرقاب إليه ثمّ يتبعه التوجّه بالنظر نحوه ، ثمّ الإسراع إليه والحضور في المحكمة الإلهيّة العادلة عند دعوتهم إليها.

وهنا يستولي الخوف من الأهوال العظيمة لذلك اليوم على وجود الكفّار والظالمين ، لذا يضيف سبحانه معبّرا عن حالة البؤس التي تعتري الكافرين بقوله :( يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ ) .

والحقّ أنّه يوم صعب وعسير. وهذا ما يؤكّده البارئعزوجل بقوله :( وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً ) .(٢)

ويستفاد من هذا التعبير أنّ يوم القيامة يوم غير عسير بالنسبة للمؤمنين.

* * *

__________________

(١) الحجّ ، ٢.

(٢) الفرقان ، ٢٦.

٣٠٤

مسألة

لماذا كان يوم القيامة يوما عسيرا؟ :

ولماذا لا يكون عسيرا؟ في الوقت الذي يحاط فيه المجرمون بكلّ أجواء الرهبة والوحشة ، وخاصّة عند ما يستلمون صحائف أعمالهم حيث يصطرخون :( يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) ،(١) هذا من جهة.

ومن جهة اخرى فإنّهم يواجهون بما ليس في الحسبان ، حيث يحاسبون بدقّة حتّى على أصغر الأعمال التي أدّوها ، سواء كانت صالحة أم طالحة :( إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) .(٢)

ومن جهة ثالثة ، لا سبيل يومئذ للتكفير عن الذنوب والتعويض بالطاعة ، والاعتذار عن التقصير ، حيث لا عذر يقبل ولا مجال للعودة مرّة اخرى إلى الحياة يقول تعالى :( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) .(٣)

ونقرأ كذلك في قوله تعالى :( وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .(٤) . ولكن هيهات.

ومن جهة رابعة فإنّ العذاب الإلهي شديد ومرعب إلى درجة تنسي الامّهات أولادها ، وتسقط الحوامل أجنّتهن ، ويكون الجميع يومئذ في حيرة وذهول وفقدان للوعي كالسكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد ، قال تعالى :( يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى

__________________

(١) الكهف ، ٤٩.

(٢) لقمان ، ١٦.

(٣) البقرة ، ٤٨.

(٤) الأنعام ، ٢٧.

٣٠٥

النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ ) .(١)

والدليل على اضطراب وهلع العاصين هو حالة التشبّث بالافتداء بكلّ ما في الدنيا أملا في الخلاص من العذاب الأليم ، قال تعالى :( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ، وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ، كَلَّا إِنَّها لَظى ) .(٢)

إذا ، هل يمكن مع كلّ هذه الأوصاف والأوصاف الأخرى المهولة التي وردت في آيات اخرى أن يكون ذلك اليوم يوما مريحا وبعيدا عن الهمّ والغمّ والشدّة؟!

(حفظنا الله جميعا في ظلّ لطفه ورعايته).

* * *

__________________

(١) الحجّ ، ٢.

(٢) المعارج ، ١١ ـ ١٥.

٣٠٦

الآيات

( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) )

التّفسير

قصّة قوم نوح عبرة وعظة :

جرت السنّة القرآنية في كثير من الموارد أنّ الله سبحانه يستعرض حالة الأقوام السابقة والعاقبة المؤلمة التي انتهوا إليها إنذارا وتوضيحا (للكفّار والمجرمين) بأنّ الاستمرار في طريق الضلال سوف لن يؤدّي بهم إلّا إلى المصير البائس الذي لاقته الأقوام السابقة.

٣٠٧

وفي هذه السورة ، إكمالا للبحث الذي تناولته الآيات السابقة ، في إثارات وإشارات مختصرة ومعبّرة حول تاريخ خمسة من الأقوام المعاندة ابتداء من قوم نوح كما في قوله تعالى :( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ) . فمضافا إلى تكذيبه واتّهامه بالجنون صبّوا عليه ألوان الأذى والتعذيب ومنعوه من الاستمرار في أداء رسالته.

فتارة يقولون له مهدّدين ومنذرين( قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ) .(١)

وتارة اخرى يضغطون رقبته بأيديهم حتّى يفقد وعيه ، ولكنّه ما أن يفيق إلى وعيه حتّى يقول : «اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون»(٢) .

وخلاصة القول فإنّ قوم نوح مارسوا كلّ وسيلة لأذى نبيّهم ، ومع ذلك فإنّه لم يتوقّف عن التبليغ والإرشاد أملا في هدايتهم.

والجدير بالذكر أنّنا نلاحظ أنّ لفظ (التكذيب) قد ورد مرّتين ، ولعلّ السبب أنّه ورد في الحالة الاولى (مختصرا) وفي الثانية (مفصّلا).

والتعبير بـ «عبدنا» إشارة إلى أنّ هؤلاء القوم المعاندين والمغرورين في الواقع يبارزون الله تعالى لا مجرّد شخص «نوح».

كلمة (وازدجر) أصلها (زجر) بمعنى الطرد ، وهو الإبعاد المقترن بصوت شديد ، كما أنّه يطلق على كلّ عمل يراد منه منع الشخص من الاستمرار به.

والظريف في هذه الآية أنّ الفعل (قالوا) أتى بصورة فعل معلوم (وازدجر) بصيغة فعل مجهول ولعلّ ذلك للإشارة إلى أنّ عدم ذكر الفاعل هنا للترفّع عن ذكر قوم نوح بسبب سوء وقبح الأعمال التي مارسوها والتي كانت أقذر وأقبح من أقوالهم ، ممّا يكون سببا في عدم ذكرهم بالصيغة المعلومة كما في قوله تعالى :

__________________

(١) الشعراء ، ١١٦.

(٢) تفسير الكشّاف وأبو الفتوح والرازي هامش الآية مورد البحث

٣٠٨

( قالُوا ) .

ثمّ يضيف تعالى أنّ نوح عند ما يئس من هداية قومه تماما :( فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) (١) .

والغلبة المذكورة في الآية الكريمة لم تكن غلبة في الحجّة والدليل أو البرهان على عدم صحّة الدعوة ، وإنّما كانت تتجسّد بالظلم والجناية والتكذيب والإنكار وأنواع الزجر والضغوط ولهذا فإنّ هؤلاء القوم لا يستحقّون البقاء ، فانتقم لنا منهم وانصرنا عليهم.

نعم ، فهذا النّبي العظيم كان يطلب من الله المغفرة لقومه ما دام يأمل في هدايتهم وصلاحهم ، ولكن عند ما يئس منهم غضب عليهم ولعنهم ودعا ربّه أنّ ينتقم منهم.

ثمّ يشير هنا إشارة معبّرة وقويّة في كيفية العذاب الذي ابتلوا به وصبّ عليهم حيث يقول سبحانه :( فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ) .

إنّ تعبير انفتاح أبواب السماء لتعبير رائع جدّا ، ويستعمل عادة عند هطول الأمطار الغزيرة.

(منهمر) من مادّة (همر) على وزن (صبر) وتعني النّزول الشديد للدموع أو الماء ، ويستعمل هذا التعبير أيضا عند ما يستدر الحليب من الضرع حتّى النهاية.

والعجيب هنا أنّه ورد في أقوال المفسّرين أنّ قوم نوح كانوا قد أصيبوا بالجدب لعدّة سنوات قد خلت ، وكانوا يرتقبون بتلهّف سقوط المطر عليهم ، وفجأة ينزل المطر ولكن لا ليحيي أرضهم ويزيد خيرهم بل ما حقا ومميتا لهم(٢) .

ويذكر أنّ الماء الذي أدّى إلى الطوفان لم يكن من هطول الأمطار فقط ، بل

__________________

(١) (انتصر) : طلب العون كما في الآية (٤١) سورة الشورى ، وهنا جاءت بمعنى طلب الانتقام على أساس العدل والحكمة كما فسّرها البعض في التقدير (انتصر لي).

(٢) روح المعاني هامش الآية مورد البحث.

٣٠٩

كان من تفجير العيون في الأرض حيث يقول تعالى :( وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً ) (١) وهكذا اختلط ماء السماء بماء الأرض بمقدار مقدّر وملأ البسيطة :( فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) .

إنّ هذا التعبير يجسّد حالة الطوفان الذي غمر الأرض ، إلّا أنّ بعض المفسّرين فسّروا عبارة (قد قدر) بقولهم : إنّ كميّتي المياه المتدفّقة من الجانبين المتقابلين كانتا متساويتين في مقاديرهما بصورة دقيقة ، إلّا أنّ الرأي الأوّل هو الأرجح.

وخلاصة الأمر : إنّ الماء قد فار من جميع جهات الأرض وفجّرت العيون وهطلت الأمطار من السماء ، واتّصل الماء بعضه ببعض وشكّل بحرا عظيما وطوفانا شديدا.

وتترك الآيات الكريمة مسألة الطوفان ، لأنّ ما قيل فيها من الآيات السابقة يعتبر كافيا فتنتقل إلى سفينة نجاة نوحعليه‌السلام حيث يقول تعالى :( وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ ) .

(دسر) جمع (دسار) على وزن (كتاب) ، كما يقول الراغب في المفردات ، أنّها في الأصل بمعنى الإبعاد أو النهر بشدّة مقترنا مع حالة عدم الرضا ، ولكون المسمار عند ما يتعرّض للطرق الشديد يدخل في الخشب وما شاكل فيقال له (دسار).

وذكر قسم من المفسّرين أنّ معنى هذه الكلمة هو (الحبل) مشيرين بذلك إلى حبال أشرعة السفينة وما إلى ذلك ، والتّفسير الأوّل هو الأرجح نظرا لذكر كلمة (ألواح).

على كلّ حال ، فإنّ التعبير القرآني هنا ظريف ، لأنّه كما يقول البارئعزوجل بأنّنا وفي وسط ذلك الطوفان العظيم ، الذي غمر كلّ شيء أودعنا أمر نجاة

__________________

(١) «عيونا» : يمكن أن تكون تميّزا للأرض والتقدير فجرنا عيون الأرض ، ثمّ إنّ العيون مفعول به منفصل وقد جاءت بصورة تمييز كي تعبّر عن المبالغة والأهميّة وكأنّ الأرض جميعا تحوّلت إلى عيون.

٣١٠

نوح وأصحابه إلى مجموعة من المسامير وقطع من الخشب ، وأنّها أدّت هذه الوظيفة على أحسن وجه ، وهكذا تتجلّى القدرة الإلهيّة العظيمة.

ويمكن أن يستفاد من هذا التعبير طبيعة البساطة التي كانت عليها سفن ذلك الزمان والتي هي بعيدة عن التعقيد والتكلّف قياسا مع السفن المتقدّمة في العصور اللاحقة. ومع ذلك فإنّ سفينة نوحعليه‌السلام كان حجمها بالقدر المطلوب وطبق الحاجة ، وطبقا للتواريخ فإنّ نوحعليه‌السلام قد أمضى عدّة سنين في صنعها كي يتمكّن من وضع (من كلّ زوجين إثنين) من مختلف الحيوانات فيها.

ويشير سبحانه إلى لطف عنايته للسفينة المخصّصة لنجاة نوحعليه‌السلام حيث يقول سبحانه( تَجْرِي بِأَعْيُنِنا ) أي أنّ هذه السفينة تسير بالعلم والمشيئة الإلهيّة ، وتشقّ الأمواج العالية بقوّة وتستمر في حركتها تحت رعايتنا وحفظنا.

إنّ التعبير (بأعيننا) كناية ظريفة للدلالة على المراقبة والرعاية للشيء ويتجسّد هذا المعنى بوضوح في قوله تعالى في الآية (٣٧) من سورة هود :( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ) .

بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ المقصود من( تَجْرِي بِأَعْيُنِنا ) هو الإشارة إلى الشخصيات المهمّة التي كانت على ظهر السفينة ، وبناء على هذا فإنّ المقصود من قوله تعالى :( تَجْرِي بِأَعْيُنِنا ) (١) أنّ تلك السفينة كانت تحمل عباد الله الخالصين المخلصين ، ونظرا لطبيعة الموارد التي استعمل فيها هذا التعبير في الآيات القرآنية الاخرى فإنّ الرأي الأوّل هو الأصحّ.

ويحتمل أيضا أنّ المراد بجملة (بأعيننا) هو الملائكة التي كان لها الأثر في هداية سفينة نوحعليه‌السلام ، ولكن هذا الرأي ضعيف أيضا لسبب أعلاه.

ثمّ يضيف تعالى :( جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ ) (٢) .

__________________

(١) «أعين» جمع عين ، وإحدى معانيها العين الباصرة ، والمعنى الآخر لها هو : الشخصية المعتبرة ، ولها معان اخرى.

(٢) يجدر بالملاحظة هنا أنّ فعل (كفر) مبني للمجهول ، والمراد به نوحعليه‌السلام الذي كفر به ، وليس فعلا معلوما يشير إلى

٣١١

نعم إنّ نوحعليه‌السلام كسائر الأنبياء الإلهيين يعتبر نعمة إلهيّة عظيمة وموهبة من مواهبه الكبيرة على البشرية ، إلّا أنّ قومه الحمقى كفروا به وبرسالته(١) .

ثمّ يقول سبحانه وكنتيجة لهذه القصّة العظيمة موضع العظّة والإعتبار :( وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) .

والحقيقة أنّ كلّ ما كان يستحقّ الذكر في هذه القصّة قد قيل ، وكلّما ينبغي للإنسان الواعي المتّعظ أن يدركه فهو موجود.

واستنادا إلى هذا التّفسير المنسجم مع الآيات السابقة واللاحقة ، فإنّ الضمير في (تركناها) يرجع إلى قصّة الطوفان وماضي نوحعليه‌السلام ومخالفيه. ولكن البعض يرى أنّ المراد هو (سفينة نوح) لأنّها بقيت مدّة من الزمن شاخصة لأنظار العالم ، وكلّما يراها أحد تتجسّد أمامه قصّة الطوفان الذي حلّ بقوم نوحعليه‌السلام ، ومع علمنا بأنّ بقايا سفينة نوحعليه‌السلام كانت حتّى عصر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أنّ البعض من المعاصرين ادّعى رؤية بقاياها في جبال (آرارات) في القفقاز ، عندئذ يمكن أن يكون المعنيان مقصودين في الآية الكريمة.

ولهذا فإنّ قصّة نوحعليه‌السلام كانت آية للعالمين ، وكذا سفينته التي بقيت ردحا من الزمن بين الناس(٢) .

وفي الآية اللاحقة يطرح الله سبحانه سؤالا معبّرا ومهدّدا للكافرين الذين اتّبعوا نفس المنهج الذي كان عليه قوم نوح حيث يقول سبحانه :( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) .

هل هذه حقيقة واقعة ، أم قصّة واسطورة؟

__________________

الكفّار.

(١) إذا لم يكن في الآية شيء مقدّر فيكون نائب الفاعل للفعل (كفر) هو شخص نوحعليه‌السلام حين أنّهعليه‌السلام يكون النعمة التي (كفر) بها ، أمّا إذا قلنا أنّ للآية محذوف مقدّر ، فيكون تقديره (كفر به) فعندئذ تكون إشارة إلى عدم الإيمان بنوحعليه‌السلام وتعاليمه.

(٢) لقد ذكرت أبحاث مفصّلة حول قصة قوم نوحعليه‌السلام في هامش الآيات الكريمة ٢٥ ـ ٤٩ من سورة هود

٣١٢

ويضيف مؤكّدا هذه الحقيقة في آخر الآية مورد البحث في قوله تعالى :( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) .

نعم إنّ هذا الكتاب العظيم الخالي من التعقيد والمجسّد لعناصر التأثير من حيث عذوبة ألفاظه وجاذبيتها ، وحيوية عباراته وصراحتها في عرض المطالب ترغيبا وتهديدا ، وطبيعة قصصه الواقعية ذات المحتوى الغزير بالإضافة إلى قوّة دلائله وأحكامها ومنطقه المتين ، واحتوائه على كلّ ما يلزم من عناصر التأثير لذا فإنّ القلوب المهيأة لقبول الحقّ والمتفاعلة مع منطق الفطرة والمستوعبة لمنهج العقل تنجذب بصورة متميّزة ، والشاهد على هذا أنّ التأريخ الإسلامي يذكر لنا قصصا عديدة عجيبة محيّرة من حالات التأثير العميق الذي يتركه القرآن الكريم على القلوب الخيّرة.

ولكن ما العمل حينما تكون النطفة لبذرة ما ميتة ، حتّى لو هيّأ لزراعتها أخصب الأراضي ، وسقيت بماء الكوثر ، واعتني بها من قبل أمهر المزارعين ، فإنّها لن تنمو ولن تزهر وتثمر أبدا.

* * *

٣١٣

الآيات

( كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) )

التّفسير

مصير قوم عاد :

تستعرض الآيات الكريمة أعلاه وباختصار أخبار نموذج آخر من الكفّار والمجرمين بعد قوم نوح ، وهم (قوم عاد) وذلك كتحذير لمن يتنكّب طريق الحقّ والهداية الإلهية.

وتبدأ فصول أخبارهم بقوله تعالى :( كَذَّبَتْ عادٌ ) .

لقد بذل هودعليه‌السلام غاية جهده في توعية قومه وتبليغهم بالحقّ الذي جاء به من عند الله ، وكانعليه‌السلام كلّما ضاعف سعيه وجهده لانتشالهم من الكفر والضلال ازدادوا إصرارا ونفورا ولجاجة في غيّهم وغرورهم الناشئ من الثراء والإمكانات المادية ، بالإضافة إلى غفلتهم نتيجة انغماسهم في الشهوات ، جعلتهم صمّ الآذان ،

٣١٤

عمّي العيون ، فجازاهم الله بعقاب أليم وعذاب شديد ، ولهذا تشير الآية الكريمة باختصار حيث يقول سبحانه :( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) .

كما نلاحظ التفصيل في الآيات اللاحقة بعد هذا الإجمال حيث يقول سبحانه :( إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ) .

«صرصر» من مادّة (صرّ) على وزن (شرّ) ، وفي الأصل تعني (الإغلاق والإحكام) ويأتي تكرارها في هذا السياق للتأكيد ، ولأنّ الرياح التي عذّبوا بها كانت باردة وشديدة ولاذعة ومصحوبة بالأزيز ، لذا اطلق عليها (صرصر).

أمّا (نحس) ففي الأصل معناها (الاحمرار الشديد) الذي يظهر في الأفق أحيانا ، كما يطلق العرب أيضا كلمة (نحاس) على وهج النار الخالية من الدخان ، ثمّ أطلق هذا المصطلح على كلّ (شؤم) مقابل (السعد).

«مستمر» صفة لـ (يوم) أو لـ (نحس) ومفهومه في الحالة الاولى هو استمرار حوادث ذلك اليوم كما في قوله تعالى :( سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ) .(١)

وتعني في الحالة الثانية استمرار نحوسة ذلك اليوم حتّى هلك الجميع.

كما يفسّر البعض معنى (النحس) بأنّه حالة الجو المكفهر المغبّر ، لأنّ العاصفة كانت مغبرة إلى درجة أنّها لم تسمح برؤية بعضهم البعض. وعند ما شاهدوا العاصفة من بعيد ظنّوا أنّها غيوم محملة بالأمطار متّجهة نحوهم ، وسرعان ما تبيّن لهم أنّها ريح عاتية لا تبقي ولا تذر أمرت بعذابهم والانتقام منهم ، كما في قوله تعالى :( فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ. مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ) .(٢)

إنّ هذين التّفسيرين غير متنافيين ، ويمكن جمعهما في معنى الآية الكريمة

__________________

(١) الحاقّة ، ٧

(٢) الأحقاف ، ٢٤.

٣١٥

مورد البحث.

ثمّ يستعرض سبحانه وصف الريح بقوله :( تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ) .

«منقعر» من مادّة (قعر) بمعنى أسفل الشيء أو نهايته ، ولذا يستعمل هذا المصطلح بمعنى قلع الشيء من أساسه.

كما يحتمل أن يكون المقصود من هذا التعبير أنّ ضخامة الهياكل وقوّة الأبدان التي كان عليها قوم عاد لم تغنهم من فتك الريح بهم وهلاكهم حيث ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ قوم عاد حاولوا التخلّص من العذاب الذي باغتهم وذلك بأن التجأوا إلى حفر عميقة وملاجئ تحت الأرض لحفظ أنفسهم ، ولكن دون جدوى حيث أنّ الريح كانت من القوّة بحيث قلعتهم من أعماق تلك الحفر وقذفت بهم من جهة إلى اخرى ، حتّى قيل أنّها كانت تدحرجهم وتجعل أعلى كلّ منهم أسفله وتفصل رؤوسهم عن أجسادهم.

«أعجاز» جمع (عجز) ـ على وزن (رجل) ـ بمعنى خلف أو تحت ، وقد شبّهوا بالقسم الأسفل من النخلة وذلك حسبما يقول البعض لأنّ شدّة الريح قطّعت أيديهم ورؤوسهم ودفعتها باتّجاهها ، وبقيت أجسادهم المقطّعة الرؤوس والأطراف كالنخيل المقطّعة الرؤوس ، ثمّ قلعت أجسادهم من الأرض وكانت الريح تتقاذفها.

وللسبب المذكور أعلاه ، يكرّر الله سبحانه وتعالى إنذاره للكفّار بقوله :( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) .

فنحن كذلك فعلنا وجازينا الأقوام السالفة التي سلكت سبيل الغي والطغيان والعصيان ، فعليكم أن تتفكّروا في مصيركم وأنتم تسلكون نفس الطريق الذي سلكوه!!

وفي نهاية القصّة يؤكّد قوله سبحانه :( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) فهل هنالك من آذان صاغية وقلوب واعية لهذا النداء الإلهي والإنذار

٣١٦

الربّاني؟.

والنقطة الأخيرة الجديرة بالذكر هي تأكيد قوله سبحانه :( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) حيث تكرّرت مرّتين : الأولى : في بداية الحديث عن قصّة قوم عاد ، والثانية : في نهايتها. ولعلّ سبب هذا الاختلاف بين قوم عاد والأقوام الاخرى ، أنّ عذاب قوم عاد كان أكثر شدّة وانتقاما ، رغم أنّ جميع ألوان العذاب الإلهي شديد.

* * *

بحث

سعد الأيّام ونحسها :

الشيء المتعارف بين الناس ، هو أنّ بعض الأيّام سعيدة ومباركة ، والبعض الآخر نحس ومشؤوم ، مع وجود اختلاف كثير في تشخيصها.

ويدور الحديث حول مدى قبولها إسلاميا ، وهل أنّها مأخوذة من تعاليم الإسلام أم لا؟.

من الناحية العقلية لا يعدّ اختلاف أجزاء الزمان من هذه الجهة محالا ، بأن يتّصف بعضها بالنحوسة والاخرى بالبركة والسعد. ولا نملك أي استدلال عقلي لإثبات أو نفي هذا المعنى ، ولهذا نستطيع القول : إنّ هذا الأمر بهذا القدر شيء ممكن ، ولكنّه غير ثابت من الناحية العقلية.

وبناء على ذلك فإذا كانت لدينا دلائل شرعية لهذا المعنى ثبتت عن طريق الوحي فلا مانع من قبولها ، بل الالتزام بها.

وحول (نحس الأيّام) تشير الآيات القرآنية مرّتين إلى هذا الموضوع ، الاولى في الآيات مورد البحث ، والثانية : في قوله تعالى :( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً

٣١٧

صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ ) (١) (٢) .

وفي مقابل «النحوسة» فإنّنا نلاحظ في بعض الآيات القرآنية تعبير (مبارك) كما في قوله تعالى حول ليلة القدر :( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) .(٣)

وقلنا إنّ «نحس» مأخوذ في الأصل من صورة الاحمرار الشديد في الأفق ، الذي يشبه النار المتوهّجة الخالية من الدخان والتي يطلق عليها (النحاس). وبهذه المناسبة استعمل في معنى الشؤم.

ومن هنا نلاحظ أنّ القرآن الكريم لم يتطرّق لهذه المسألة إلّا من خلال إشارة مغلقة فقط. لكنّنا حينما نقرأ في الكتب الإسلامية ، يواجهنا العديد من الرّوايات في هذا المجال ، مع العلم أنّ الكثير منها ضعيف ، وأنّ البعض الآخر منها موضوع أو ملفّق ، أو مشوب بالخرافات. وليست جميعا كذلك ، بل هناك ما هو معتبر منها وموضع اطمئنان كما يؤكّد المفسّرون صحّة ذلك من خلال تفسير الآيات أعلاه.

ويذكر لنا المحدّث الكبير العلّامة المجلسي روايات عديدة في هذا المجال في بحار الأنوار(٤) .

وفي هذا المجال نستطيع إيراد الملاحظات التالية :

أ ـ لقد ذكروا في روايات عديدة (سعد ونحس) الأيّام ، وكذلك الحوادث التي وقعت فيها ، حيث نقرأ في الرّواية التالية في أسئلة الشامي لأمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : (أخبرني عن يوم الأربعاء والتطيّر منه وثفله ، وأي أربعاء هو) ، قالعليه‌السلام : «آخر أربعاء من الشهر ، وهو المحاق ، وفيه قتل قابيل هابيل أخاه ، ويوم الأربعاء أرسل

__________________

(١) يجدر الانتباه إلى أنّ نحسات جاءت صفة للأيّام ، وذلك يعني أنّ الأيّام المذكورة وصفت بالنحوسة ، في الوقت الذي ذكرت كلمة (يوم) في الآية الكريمة (في يوم نحس مستمر) إضافة لـ (النحس) وليست وصفا ولكن بقرينة الآية أعلاه يجب القول : إنّ الإضافة هنا تكون إضافة موصوف إلى صفة (يرجى الانتباه).

(٢) فصّلت ، ١٦.

(٣) الدخان ، ٣.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٥٩ كتاب السماء والعالم ، ص ١ ـ ٩١ وما بعدها.

٣١٨

اللهعزوجل الريح على قوم عاد»(١) .

ومن هنا فإنّ الكثير من المفسّرين يرتّبون أثرا على هذه الرّوايات ، ويعتبرون أنّ آخر أربعاء من كلّ شهر هو يوم نحس ، ويطلقون عليه (أربعاء لا تدور) أي لا تتكرّر.

ونقرأ في بعض الرّوايات أنّ اليوم الأوّل من كلّ شهر هو سعد ومبارك ، وذلك لأنّ آدمعليه‌السلام خلق في هذا اليوم ، وكذلك فإنّ اليوم ٢٦ من كلّ شهر يوم مبارك ، حيث : (ضرب موسى فيه البحر فانفلق)(٢) .

كما أنّ اليوم الثالث من كلّ شهر ، هو يوم نحس ، نزع عن آدم وحواء لباسهما وأخرجا من الجنّة(٣) .

كما أنّ اليوم السابع من كلّ شهر هو يوم مبارك ، لأنّ نوحعليه‌السلام قد ركب في السفينة (ونجا من الغرق)(٤) .

ونقرأ في الحديث التالي عن الإمام الصادقعليه‌السلام في هذا المعنى حول يوم (النوروز) حيث يقول :

«... يوم مبارك استوت فيه سفينة نوح على الجودي ، وهو اليوم الذي نزل فيه جبرائيل على النبي ، وهو اليوم الذي حمل فيه رسول الله أمير المؤمنين على منكبه حتّى رمى أصنام قريش من فوق البيت الحرام فهشّمها وهو اليوم أمر النّبي أصحابه أن يبايعوا عليا بإمرة المؤمنين ...»(٥) .

وقد اقترن سعد ونحس الأيّام بذكر بعض الوقائع التأريخية الحسنة والسيّئة كما في العديد من الرّوايات ، فمثلا ما ذكر عن يوم عاشوراء الذي اعتبره الامويون

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٨٣ حديث (٢٥).

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٠٥.

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٨.

(٤) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٦١.

(٥) بحار الأنوار ، ج ٥٩ ، ص ٩٢.

٣١٩

يوم سعد لمّا حقّقوا فيه وبظنّهم من انتصار على أهل البيتعليه‌السلام نلاحظ الرّوايات تنهى بشدّة عن التبرّك في مثل هذا اليوم ، كما تحذر من ادّخار الأقوات السنوية فيه ، والابتعاد عن أجواء الاحتفالات التي كان يقيمها الامويون في هذا اليوم وكذلك تؤكّد على تعطيل الأعمال فيه.

ومن ملاحظة مجموعة الرّوايات السابقة ، دفع البعض أن يفسّر مسألة سعد ونحس الأيّام على أنّها مجعولة من أجل شدّ المسلمين بهذه الحوادث التاريخيّة المهمّة ، وحثّهم عمليّا على تطبيق ما تستلزمه تلك الحوادث من التفاعل وما تفرزه من معطيات ، وكذلك الابتعاد عن محطّات الحوادث السيّئة واجتناب سبلها.

ويمكن أن يصدّق هذا التّفسير في قسم من هذه الرّوايات ولا يصدق على القسم الآخر منها ، ذلك لأنّ المستفاد من البعض منها أنّ هنالك تأثيرا ملموسا في بعض الأيّام (إيجابا وسلبا) وليس لنا تفسير أو علم لهذا التأثير.

ب ـ ممّا يجدر الانتباه إليه أنّ هنالك من يفرط في موضوع سعد ونحس الأيّام ، بحيث إنّهم يمتنعون من الشروع بأي عمل إلّا بالاعتماد على هذه الخلفية ، وبذلك يفوتون عليهم فرصا كثيرة يمكن الاستفادة منها.

وبدلا من التعمّق في البحث الموضوعي الذي تحسب فيه حسابات الربح والخسارة والاستفادة من الفرص والتجارب الثرية فإنّهم يرجعون كسب الأرباح إلى سعد الأيّام والانتكاسات والخسارة إلى شؤم الأيّام وهذا المنهج يعبّر عن الانهزام من الواقع والهروب من الحقيقة والإفراط في التعليل الخرافي لحوادث الحياة الذي يجب أن نحذّره ونتجنّبه بشدّة.

والجدير بنا في هذه المسائل أن لا نعطي آذانا صاغية لأقوال المنجّمين والإشاعات المنتشرة في الأجواء الاجتماعية المتخلّفة ، ولا لحديث أولئك الذين يدّعون المعرفة المستقبلية لفأل الأشخاص ، ونستمرّ في حياتنا العملية بجهد حثيث وخطى ثابتة وبالتوكّل على الله وبروح موضوعية بعيدة عن التأثّر بهذه

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361