الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء ١

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية15%

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 361

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 361 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 213200 / تحميل: 8439
الحجم الحجم الحجم
الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ثُمّ إنّ القرآن في الأصل مصدر نحو رجحان ، قال سبحانه :( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ) .(١)

قال ابن عبّاس : إذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به

وقد خُصّ بالكتاب المُنزَّل على نبيِّنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصار له كالعَلَم ، كما أنّ التوراة لمّا أُنزل على موسىعليه‌السلام ، والإنجيل لمّا أُنزل على عيسىعليه‌السلام

قال بعض العلماء : تسمية هذا الكتاب قُرآناً من بين كتب اللّه ، لكونه جامعاً لثَمرَة كُتبِه ، بل لجمعه ثَمرَة جميع العلوم ، كما أشار تعالى إليه بقوله :( وَتَفصيلاً لكلِّ شيء ) .(٢)

وعلى هذا ، فالقرآن مِن قَرَأَ بمعنى : جمع ، ولكن يُحتمل أن يكون بمعنى القراءة ، كما في قوله سبحانه : ( وَقُرآنَ الفَجْر ) (٣) ، أي : قراءته

الحلف بالكتاب :

حلف سبحانه بالكتاب مرَّتين وقال :

١ ـ( حم * والكتابِ المُبِين * إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرين ) (٤)

٢ ـ( حم * وَالكتابِ المُبِين * إِنّا جَعَلْناهُ قُرآناً عَرَبياً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ) (٥)

ــــــــــــــــ

(١) القيامة : ١٧ـ ١٨

(٢) الأنعام : ١٥٤

(٣) الإسراء : ٧٨

(٤) الدخان : ١ـ٣

(٥) الزخرف : ١ـ٣

٦١

فالمُقسَم به هو الكتاب ، والمُقسَم عليه في الآية الأولى قوله :( إِنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَة مُباركة ) ، والصِلة بينهما واضحة ، حيث يحلف بالكتاب على أنّه مُنزَّل من جانبه سبحانه في ليلة مباركة

كما أنّ المُقسَم به في الآية الثانية هو الكتاب المبين ، والمُقسَم عليه هو الحلف على أنّه سبحانه جعله قرآناً عربيّاً للتعقّل ، والصِلة بينهما واضحة

ووُصف الكتاب بالمُبين دون غيره ؛ لاَنّ الغاية من نزول الكتاب هو إنذارهم وتعقّلهم ، كما جاء في الآيتين ، حيث قال :( إِنّا كُنّا مُنذرين ) ، وقال :( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ) ، وهذا النوع من الغاية ، أي : الإنذار والتعقّل ، يطلب لنفسه أن يكون الكتاب واضحاً مفهوماً ، لا مجهولاً ومعقداً

والكتاب في الأصل مصدر ، ثُمّ سُمّي المكتوب فيه كتاباً

إلى هنا تمّ الحلف بالقرآن والكتاب

بقي هنا الكلام في عظمة المُقسَم به

ويكفي في ذلك أنّه فعله سبحانه ، حيث أنزله لهداية الناس وإنقاذهم من الضلالة

وقد تكلّم غير واحد من المُفكّرين الغربيّين حول عظمة القرآن ، والأحرى بنا أن نرجع إلى نفس القرآن ونَستنطِقه حتى يُبدي رأيه في حقِّ نفسه

أ ـ القرآن نور ينير الطريق لطلاّب السعادة ، قال سبحانه :( قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِين ) (١)

ب ـ إنّه هدى للمُتَّقين ، قال سبحانه : ( هُدىً لِلْمُتَّقين ) (٢) فهو وإن كان هدى لعامّة الناس ، إلاّ أنّه لا يستفيد منه إلاّ المُتَّقون ؛ ولذلك خصَّهم بالذِكر

ــــــــــــــــ

(١) المائدة : ١٥

(٢) البقرة : ٢

٦٢

ج ـ هو الهادي إلى الشريعة الأقوَم ، قال سبحانه :( إِنَّ هذا القُرآنَ يَهدِي لِلَّتي هِي أَقْوم ) (١)

د ـ الغاية من إنزاله قيام الناس بالقِسط ، قال سبحانه :( وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ ) .(٢)

هـ ـ لا يتطرَّق إليه الاختلاف في فصاحته وبلاغته ، ولا في مضامينه ولا محتواه ، قال سبحانه :( وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللّهِ لوَجَدُوا فِيهِ اختلافاً كَثِيراً ) (٣)

و ـ يحثّ الناس إلى التدبُّر والتفكّر فيه :( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُباركٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ) (٤)

ز ـ تبيان لكلّ شيء :( وَنَزلْنا عَليْكَ الكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيء ) (٥)

ح ـ نذير للعالمين :( تَبارَكَ الَّذي نَزَّل الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) (٦)

ط ـ فيه أحسن القَصص :( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَص ) (٧)

ــــــــــــــــ

(١) الإسراء : ٩

(٢) الحديد : ٢٥

(٣) النساء : ٨٢

(٤) ص : ٢٩

(٥) النحل : ٨٩

(٦) الفرقان : ١

(٧) يوسف : ٣

٦٣

ي ـ ضُرب فيه للناس من كلِّ مَثل :( وَلَقَدْ صَرَّفْنا في هذا الْقُرآنِ لِلنّاسِ من كُلِّ مَثَل ) (١)

هذه نماذج من الآيات الّتي تصف القرآن ببعض الأوصاف

وللنبي والأئمّة المعصومين كلمات قيِّمة حول التعريف بالقرآن ، ننقل شذرات منها :

قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطيباً ، فقال :( أيّها الناس ، إنّكم في دار هُدنة ، وأنتم على ظَهرِ سفر ، والسير بكم سريع ، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يُبليان كلّ جديد ، ويُقرّبان كلّ بعيد ، ويأتيان بكلّ موعود ، فأعدّوا الجهاز لبُعد المُجاز )

فقام المُقداد بن الأسود وقال : يا رسول اللّه ، و ما دار الهُدنة ؟

قال : ( دار بلاغٍ وانقطاعٍ .

فإذا التبست عليكم الفِتن كقطع اللّيل المُظلِم ، فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافِع مُشفَّع وماحِل مُصدَّق ، ومَن جعله أَمامَه قادَه إلى الجنّة ، ومَن جعله خلفه ساقه إلى النار

وهو الدليل ، يدلُّ على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفَصل ليس بالهَزل ، وله ظَهْر وبَطْن ، فظاهره حكم وباطنه عِلم ، ظاهره أنيق وباطنه عَميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تُحصى عجائبه ولا تبلَى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمَن عرف الصِفة

فليَجل جال بَصَره ، وليبلغ الصِفة نظره ، ينج مَن عطب ، ويتخلَّص مَن نشب ، فإنّ التَفكُّر حياة قلبِ البصير ، كما يمشي المُستنير في الظلمات بالنور ، فعليكم بحُسنِ التخلّص وقلَّة التربّص ) (٢)

ــــــــــــــــ

(١) الكهف : ٥٤

(٢) الكافي : ٢/٥٩٩ ، كتاب فضل القرآن

٦٤

وقال الإمام علي أمير المؤمنينعليه‌السلام في وصف القرآن :

( ثُمّ أنزلَ عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبُو توقُّده ،وبحراً لا يُدرك قعرُه ، فهو ينابيع العلم وبحوره ، وبحر لا يَنزِفه المُستنزفون ، وعيون لا يُنضِبُها الماتِحُون ، ومناهل لا يَغيضُها الواردون ) (١)

إلى غير ذلك من الخُطب والكلم حول التعريف بالقرآن ، الواردة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام

ــــــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٩٨

٦٥

الفصل الخامس : القَسَمُ بالعَصْر

حلف سبحانه بالعصر مرّةً واحدة ، دون أن يقرنه بمُقسَمٍ به آخر ، وقال :( وَالعَصْر * إِنّ الإنْسانَ لَفي خُسْر ) (١)

تفسير الآيات :

العَصْر يُطلق ويراد منه تارة : الدَهر ، وجَمْعه عصور

وأُخرى : العَشيّ مقابل الغداة ، يُقال : العصران : الغداة والعشي ، والعصران : الليل والنهار ، كالقمرين للشمس و القمر

وثالثة : بمعنى الضَغْط ، فيكون مصدر عَصَرْتُ ، والمَعصور الشيء العصر ، والعُصارة نفاية ما يُعصَر ، قال سبحانه :( أَراني أَعْصِرُ خَمراً ) (٢) ، وقال :( وفيهِ يَعْصِرُون ) (٣) ، وقال :( وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً ) (٤) أي : السُّحُب الّتي تعتصرُ بالمَطَر

ورابعة : بمعنى ما يُثير الغبار ، قال سبحانه :( فَأَصابَها إعصار ) (٥) .(٦)

والمُراد من الآية أحد المَعنيين الأوّليين :

الأوّل : الدَهر والزمان

الثاني : العَصْر مقابل الغداة

ولا يناسب المعنى الثالث ، أعني : الضغط ، ولا الرابع ، كما هو واضح

ــــــــــــــــ

(١) العصر : ١ـ٢

(٢) يوسف : ٣٦

(٣) يوسف : ٤٩

(٤) النبأ : ١٤

(٥) البقرة : ٢٦٦

(٦) مفردات القرآن : مادّة عصر ، و مجمَع البيان : ٥/٥٣٥

٦٦

وإليك بيان المَعنَيين الأوّلين

١ ـ العَصْر : الدَهْر . وإنّما حلف به ؛ لأنّ فيه عبرة لذوي الأبصار من جهة مرور الليل والنهار

وقد نُسب ذلك القول إلى ابن عبّاس ، والكلبي ، والجبائي

قال الزَمخشري : وأقسَمَ بالزمان ؛ لما في مروره من أصناف العجائب(١)

ولعلّ المُراد من الدهر والزمان اللّذين يُفسِّرون بهما العصر هو تاريخ البشريّة ؛ وذلك لأنّه سبحانه جعل المُقسَم عليه كون الإنسان لفي خسر إلاّ طائفة خاصّة ، ومن المعلوم أنّ خسران الإنسان أنّه هو مِن تصرّم عُمْره ، ومضي حياته من دون أن ينتفع بأغلى رأس مالٍ وقع في يده

وقد نقل الرازي هنا حكاية طريفة ، نأتي بنصِّها :

قال : وعن بعضِ السَلَف ، تعلّمتُ معنى السورة من بائع الثلج ، كان يصيح ويقول : ارحموا مَن يذوب رأس ماله ، ارحموا مَن يذوب رأس ماله ، فقلت : هذا معنى أنّ الإنسان لفي خُسْر ؛ يمرّ به العصر فيمضي عمره ولا يكتسب ، فإذا هو خاسر(٢)

٢ ـ العصر : أحدُ طَرفَي النهار . وأقسم بالعَصر كما أَقسم بالضُحى ، وقال :( والضحى * واللَّيل إذا سَجى ) (٣) ، كما أقسم بالصبح وقال :( والصُّبح إِذا أَسفَر ) (١)

وإنّما أقسَمَ بالعَصرِ لأهمّيّته ، إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام المَعيشة وحياة البشر ، فالأعمال اليوميّة تنتهي ، والطيور تعود إلى أوكارها ، وتبدأ الشمس بالميل نحو الغروب ، ويستولي الظلام على السماء ، ويخلد الإنسان إلى الراحة

ــــــــــــــــ

(١) الكشّاف : ٣/٣٥٧

(٢) تفسير الفخر الرازي : ٣٢/٨٥

(٣) الضحى : ١ـ٢

٦٧

وهناك قولان آخران :

أ ـ المرادُ عَصْر الرسول ذلك لما تضمَّنته الآيتان التاليتان من شمول الخسران للعالم الإنساني ، إلاّ لمَن اتَّبع الحقّ وصبر عليه ، وهم المؤمنون الصالحون عملاً ، وهذا يؤكّد على أن يكون المراد من العصر عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو عصر بزوغ نجم الإسلام في المجتمع البشري ، وظهور الحقّ على الباطل

ب ـ المراد به وقت العصر وهو المروي عن مقاتل ، وإنّما أقسَمَ بها ، لفضلها ، بدليل قوله :( حافِظُوا عَلى الصَّلواتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطى ) (٢) ، كما قيل أنّ المراد من قوله تعالى :( تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ ) (٣) هو صلاة العصر

أضف إلى ذلك ، أنّ صلاة العصر يحصل بها ختم طاعات النهار ، فهي كالتوبةِ تُختَم بها الأعمال.

ولا يخفى أنّ القول الأخير في غاية الضعف ؛ إذ لا صِلة بين القَسَم بصلاة العصر والمُقسَم عليه ، أعني :( الإنْسان لفي خُسر ) ، على أنّه لو كان المُقسَم به هو صلاة العصر ، لماذا اكتفى بالمضاف إليه وحذف المضاف ، مع عدم توفُّر قرينة عليه ؟! ومنه يظهر حال الوجه المُتقدّم عليه

والظاهر أنّ الوجه الأوّل هو الأقوى ؛ حيث أنّ الحلف بالزمان وتاريخ البشرية يتناسب مع الجواب ، أي : خسران الإنسان في الحياة ، كما سيوافيك بيانه

ــــــــــــــــ

(١) المُدّثّر : ٣٤

(٢) البقرة : ٢٣٨

(٣) المائدة : ١٠٦

٦٨

وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله سبحانه :( إِنَّ الإنسانَ لَفي خُسْر ) ، والمراد من الخسران هو : مضيّ أثمَن شيء لديه وهو عمره ، فالإنسانُ في كلّ لحظة يفقد رأس ماله ، بنحوٍ لا يُعوَّض بشيء أبداً ، وهذه هي سُنَّة الحياة الدنيويّة ، حيث ينصرم عمره ووجوده بالتدريج ، كما تنصرم طاقاته إلى أن يهرم ويموت ، فأيُّ خسران أعظم من ذلك ؟!

وأمّا الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه فأوضح من أن يخفى ؛ لاَنّ حقيقة الزمان حقيقة مُتصرّمة غير قارة ، فهي تنقضي شيئاً فشيئاً ، وهكذا الحال في عمر الإنسان ، فيخسر وينقص رأس ماله بالتدريج

ثُمّ أنّه سبحانه استثنى من الخسران مَن آمن وعمل صالحاً ، وتواصى بالحقِّ وتواصى بالصبر

ووجه الاستثناء واضح ؛ لأنّه بدَّلّ رأس ماله بشيء أغلى وأثمَن ، يستطيع أن يقوم مقام عمره المُنقضي ، فهو بإيمانه وعمله الصالح اشترى حياة دائمة ، حافلة برضوانه سبحانه ونِعمه المادِّية والمعنويّة

يقول سبحانه :( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (١)

ــــــــــــــــ

(١) التوبة : ١١١

٦٩

الفصل السادس : القَسَم بالنَجْم

وردتْ كلمة النجم في القرآن الكريم أربع مرّات في أربع سور(١) ، وحلف به مرَّة واحدة وقال :( وَالنَّجمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى ) (٢) ، وهي من السور المكِّية

تفسير الآيات :

النَجْمُ في اللغة : الكوكب الطالِع ، وجمعه نُجوم ، فالنجوم مرّة اسم كالقلوب والجيوب ، ومرّة مصدر كالطلوع والغروب

وأمّا ( هوى ) في قوله :( إِذا هَوى ) ، فيُطلق تارة على ميل النفس إلى الشهوة ، وأُخرى على السقوط من علوٍ إلى سفل

ولكنّ تفسيره بسقوط النجم وغروبه لا يُساعده اللفظ ، وإنّما المُراد هو ميله

وسيوافيك وجه الحلف بالنجم إذا هوى ، أي : إذا مالَ

ثُمّ إنّ المراد من النجم أحد الأمرين :

أ ـ أمّا مُطلَق النجم ، فيشمل كافّة النجوم الّتي هي من آيات عظمة اللّه سبحانه ، ولها أسرار ورموز يعجز الذهن البشري عن الإحاطة بها

ــــــــــــــــ

(١) وهي : النحل : ١٦ ، النجم : ١ ، الرحمن : ٦ ، الطارق : ٣

(٢) النجم : ١ـ٤

٧٠

ب ـ المراد هو نجم الشِعْرَى ، الّذي جاء في نفس السورة ، قال سبحانه :( وَانَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعرى ) (١)

ونظيره القول بأنّ المراد هو الثُريّا ، وهي مجموعة من سبعة نجوم ، ستَّة منها واضحة وواحد خافت النور ، وبه تُختبر قوَّة البَصَرِ

وربّما فُسّر بالقرآن الّذي نزل على قلب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة ٢٣ سنة ؛ لنزوله نجوماً(٢) ، لكنّ لفظ الآية لا يُساعد على هذا المعنى ، فاللّه سبحانه إمّا أن يحلف بعامّة النجوم ، أو بنجم خاصِّ يهتدي به السائر

ويدلّ على ذلك أنّه قيَّد القَسَم بوقت هويِّه ، ولعلّ الوجه هو أنّ النجم إذا كان في وسط السماء يكون بعيداً عن الأرضِ لا يهتدي به الساري ، لأنّه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال ، فإذا زال ، تبيَّن بزواله جانب المغرب من المشرق(٣)

وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله سبحانه :( ما ضَلَّ صاحِبكُمْ وَما غوى * وما ينطق عن الهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحيٌ يُوحى )

جمع سبحانه هناك بين الضلال والغَيِّ فنفاهما عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والقرآنُ يستعمل الضلالة في مقابل الهدى ، يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذا اهْتَدَيْتُمْ ) (٤)

ــــــــــــــــ

(١) النجم : ٤٩

(٢) انظر الميزان : ١٩/٢٧ ، مجمع البيان : ٥/١٧٢

(٣) تفسير الفخر الرازي : ٢٨/٢٧٩

(٤) المائدة : ١٠٥

٧١

كما يستعمل الغَيّ في مقابل الرُشد ، يقول سبحانه :( وَإِنْ يَرَوا سَبيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخذوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوا سَبيلَ الغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبيلاً ) (١)

والمُهمُّ بيان الفرق بين الضلالةِ والغواية ، فنقول :

ذكرَ الرازي : أنّ الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصَده طريقاً أصلاً ، والغِواية أن لا يكون له طريق مُستقيم إلى المقصَد يدلّك على هذا أنّك تقول للمؤمن الّذي ليس على طريق السَداد : إنّه سَفيه غير رشيد ، ولا تقول إنّه ضالّ ، والضالّ كالكافر ، والغاوي كالفاسق(٢)

وإلى ذلك يرجع ما يقول الراغب : الغيّ جهلٌ من اعتقادٍ فاسد ، وذلك أنّ الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد اعتقاداً لا صالحاً ولا فاسداً ، وقد يكون من اعتقاد شيء ، وهذا النحو الثاني يُقال له : غَيّ(٣)

وعلى هذا ، فالآية بصَدَد بيان نفي الضلالة والغَي عن النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وردّ كلّ نوع من أنواع الانحراف والجهل والضلال والخطأ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليردّ به التُهم المُوجّهة إليه من جانب أعدائه

وأمّا بيان الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه فواضح ، لما ذكرنا من أنّ النجم عند الهوى والميل يهتدي به الساري ، كما أنّ النبي يهتدي به الناس ، أي : بقوله وفعله وتقريره

فكما أنّه لا خطأ في هداية النجم لأنّها هداية تكوينيّة ، وهكذا لا خطأ في هداية الوحي المُوحى إليه ، ولذلك قال :( إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى )

ــــــــــــــــ

(١) الأعراف : ١٤٦

(٢) تفسير الفخر الرازي : ٢٨/٢٨٠

(٣) مفردات الراغب : ٣٦٩

٧٢

الفصل السابع : القسم بمواقع النجوم

حَلَفَ سبحانه وتعالى في سورة الواقعة بمواقع النجوم وقال :( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُوم * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيم * إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيم * فِي كِتابٍ مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إِلاّ المُطَهَّرُون ) (١)

تفسير الآيات :

المُراد من مواقع النجوم مساقِطها حيث تغيب

قال الراغب : الوقوع : ثبوت الشيء وسقوطه ، يُقال : وقع الطائر وقوعاً ، وعلى ذلك يراد منه مطالِعها ومَغاربها ، يقال : مواقع الغَيث أي : مَساقِطه(٢)

ويدلُّ على أنّ المراد هو مطالع النجوم ومغاربها ، أنّ اللّه سبحانه يُقسِم بالنجوم وطلوعها وجَريها وغروبها ، إذ فيها وفي حالاتها الثلاث آية وعبرة ودلالة ، كما في قوله تعالى :( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الجَوارِ الكُنَّس ) (٣) ، وقال :( وَالنَّجْم إِذا هَوى ) ، وقال :( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِب )

ــــــــــــــــ

(١) الواقعة : ٧٥ـ ٧٩

(٢) مفردات الراغب : ٥٣٠ ، مادَّة وَقَعَ

(٣) التكوير : ١٥ـ ١٦ .

٧٣

ويرجح هذا القول أيضاً : أنّ النجوم حيث وقعت في القرآن ، فالمراد منها الكواكب ، كقوله تعالى :( وَإدْبار النُّجوم ) (١) ، وقوله :( وَالشَّمْسُ وَالْقَمرُ وَالنُّجُوم ) (٢)

وأمّا المُقسَم عليه : فهو قوله سبحانه :( إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَريم * في كِتابٍ مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَّهَرُون )

وصفَ القرآن بصفاتٍ أربع :

أ ـ ( لقُرآنٌ كَريم ) والكريم هو البَهيّ الكثير الخير العظيم النفع ، وهو من كلّ شيء أحسنه وأفضله ، فاللّه سبحانه كريم ، وفعله ـ أعني القرآن ـ مثله

وقال الأزهري : الكريم : اسم جامع لما يُحمَد ، فاللّه كريم يُحمَد فِعاله ، والقرآن كريم يُحمَد ؛ لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة

ب ـ( في كتابٍ مَكنُون ) ولعلّ المراد منه هو اللوح المحفوظ ، بشهادة قوله :( بَلْ هُوَ قُرآنٌ مَجيد * في لَوحٍ مَحْفُوظ ) (٣) ويُحتمَل أن يكون المراد الكتاب الّذي بأيدي الملائكة ، قال سبحانه :( في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرةٍ * بِأَيدِي سَفَرَةٍ * كِرامٍ بَررَةٍ ) (٤)

ج ـ( لا يَمَسُّه إِلاّ المُطهَّرون ) فلو رجع الضمير إلى قوله :( لقُرآنٌ كَريم ) ، كما هو المتبادَر ، لأنّ الآيات بصَدَد وصفه وبيان منزلته ، فلا يمسّ المصحف إلاّ طاهر ، فيكون الإخبار بمعنى الإنشاء ، كما في قوله سبحانه :( وَالمُطلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء ) (٥)

ــــــــــــــــ

(١) الطور : ٤٩

(٢) الحجّ : ١٨

(٣) البروج : ٢١ ـ ٢٢

(٤) عبس : ١٣ ـ ١٦

(٥) البقرة : ٢٢٨

٧٤

ولو قيل برجوع الضمير إلى ( كتابٍ مَكنُون ) ، فيكون المعنى لا يمسّ الكتاب المَكنون إلاّ المطهَّرون

وربّما يُؤيَّد هذا الوجه بأنّ الآية سيقت تنزيهاً للقرآن من أن ينزل به الشياطين ، وأنّ محلّه لا يصل إليه ، فلا يمسّه إلاّ المطهّرون ، فيستحيل على أخابثِ خلق اللّه وأنجسِهم أن يصلوا إليه أو يَمسُّوه ، قال تعالى :( وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطين * وَما يَنْبَغي لَهُمْ وَما يَسْتَطيعُون ) (١)

د ـ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمين ) وهذا هو الّذي يُركِّز عليه القرآن في مواقف مختلفة ، وأنّه كتاب اللّه وليس من صنع البشر

وأمّا الصِلة بين القَسَمِ والمُقسَم به فهو واضح ؛ فلاَنّ النجوم بمواقعها ـ أي طلوعها وغروبها ـ يهتدي بها البشر في ظلمات البرِّ والبحر ، فالقرآن الكريم كذلك ، يهتدي به الإنسان في ظلمات الجهل والغَي ، فالنجوم مصابيح حسّية في عالم المادَّة ، كما أنّ آيات القرآن مصابيح معنويَّة في عالم المُجرَّدات

إكمال :

إنّه سبحانه قال :( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُوم ) ، فالمراد منه القَسَم بلا شكّ ، بشهادة أنّه قال بعده :( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيم ) ، فلو كان معنى الآية هو نفي القَسَم ، فلا يُناسب ما بعده ؛ حيث يصفه بأنّه حلف عظيم

وقد اختلف المفسِّرون في هذه الآيات ونظائرها إلى أقوال :

١ ـ ( لا ) زائدة ، مثلها قوله سبحانه :( لئلاّ يَعْلَم )

٢ ـ أصلها ( لأُقسِمُ ) بلام التأكيد ، فلمّا أُشبعَت فتحتها صارت ( لا ) كما في الوقف

٣ ـ ( لا ) نافية ، بمعنى نفي المعنى الموجود في ذهن المُخاطَب ، ثُمّ الابتداء بالقَسَمِ ، كما نقول : لا واللّه ، لا صحَّة لقول الكفّار ، أُقسِم عليه

ــــــــــــــــ

(١) الشعراء : ٢١٠ـ٢١١

٧٥

ثُمّ إنّه سبحانه يصف هذا القَسَم بكونه عظيماً ، كما في قوله :( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) ، فقوله : ( عظيم ) وصف ( القَسَم ) ، أُخِّر لحفظِ فواصل الآيات

وهذا القَسَم هو القَسَم الوحيد الّذي وصفه سبحانه بأنّه عظيم

فالحديث هنا هو حديث على الأبعاد ، أبعاد النجوم عنّا وعن بعضها البعض ، في مجرّتنا وفي كلّ المَجرّات

ولأنّها كلّها تتحرَّك ، فإنّ الحديث عن مواقعها يصير أيضاً حديثاً على مداراتها ، وحركاتها الأُخرى العديدة ، وسرعاتها ، وعلى علاقاتها بالنجوم الأُخرى ، وعلى القوى العظيمة والحسابات المُعقَّدة الّتي وضعت كلّ نجم في موقعه الخاصّ به ، وحفظته في علاقات متوازنة دقيقة مُحكمَة ، فهي لا يعتريها الاضطراب ، ولا تتغيَّر سُنَنها وقوانينها ، وهي لا تسير خَبطَ عَشواء ، أو في مساراتٍ متقاطعةٍ أو متعارضة ، بل هي تسير كلّها بتساوق وتناغم ، وانسجام وانتظام تامّين دائمين ، آيات على قدرة القادر سبحانه(١)

يقول الفلكيُّون : إنّ من هذه النجوم والكواكب ـ الّتي تزيد على عدَّة بلايين نجم ـ ما يمكن روَيته بالعين المُجرَّدة ، وما لا يُرى إلاّ بالمجاهر والأجهزة ، وما يمكن أن تَحسَّ به الأجهزة دون أن تراه

هذه كلّها تسبحُ في الفلك الغامض ، ولا يوجد أيّ احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجمٍ من مجال نجمٍ آخر ، أو يصطدم كوكب بآخر ، إلاّ كما يُحتمَل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسّط بآخر في المحيط الهادي ، يسيران في اتّجاه واحد وبسرعة واحدة ، وهو احتمال بعيد ، وبعيداً جداً ، إن لم يكن مستحيلاً(٢)

ــــــــــــــــ

(١) أسرار الكون في القرآن : ١٩٢

(٢) اللّه والعلم الحديث : ٢٤

٧٦

الفصل الثامن : القَسَمُ بالسماءِ ذات الحُبُك

حَلَفَ سبحانه في سورة الذاريات بأُمورٍ خمسة ، وجعل للأربعة الأُوَل جواباً خاصّاً ، كما جعل للخامس من الأقسام جواباً آخر ، وبما أنّ المُقسَم عليه مُتعدِّد ؛ فصلنا القَسَم الخامس عن الأقسام الأربعة ، وعقدنا له فصلاً في ضمن فصول القَسَمِ المُفرَد

قال سبحانه :( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) (١)

ترى أنّه ذكر للأقسام الأربعة جواباً خاصاً ، أعني قوله :( إِنّما تُوعَدُون لَصادِق * وانّ الدِّين لواقِع )

ثُمّ شرع بحلفٍ آخر ، وقال :( وَالسَّماءِ ذات الحُبُكِ * إِنَّكُم لَفِي قَولٍ مُختَلِف ) (٢)

فهناك قَسَم خامس وهو : ( والسماء ذات الحُبُك ) ، وله جواب خاصّ لا يمتّ لجواب الأقسام الأربعة ، وهو قوله :( إِنَّكُمْ لَفي قولٍ مختلِف )

ــــــــــــــــ

(١) الذاريات : ١ـ ٦

(٢) الذاريات : ٧ـ ٨

٧٧

تفسير الآيات :

الحُبُك : جمع الحِباك ، كالكتب جمع كتاب ، تُستعمَل تارة في الطرائق ، كالطرائق الّتي تُرى في السماء ، وأُخرى في الشَعْرِ المجعد ، وثالثة في حُسن أثرِ الصنعة في الشيء واستوائه

قال الراغب :( والسَّماء ذات الحُبُك ) أي : ذات الطرائق ، فمن الناس مَن تصوّر منها الطرائق المحسوسة بالنجوم والمجرّة

ولعلّ المراد منه هو المعنى الأوّل ، أي : السماء ذات الطرائق المختلفة ، ويؤيّده جواب القَسَم ، وهو اختلاف الناس وتشتُّت طرائقهم ، كما في قوله :( إنّكم لفي قولٍ مختلِف )

وربّما يحتمل أنّ المراد هو المعنى الثالث ، أي : أُقسم بالسماء ذات الحُسنِ والزينة ، نظير قوله تعالى :( إِنّا زَيَّنا السَّماءَ الدُّنيا بزِينةٍ الكَواكِب ) .(١)

ولكنّه لا يناسبه الجواب ، إذ لا يصحّ أن يحلفَ حالِف بالأمواج الجميلة الّتي ترتَسِم بالسُحب أو بالمجرّات العظيمة ، الّتي تبدو كأنّها تجاعيد الشَعْرِ على صفحة السماء ، ثُمّ يقول :( إِنّكم لفي قولٍ مختلِف ) ، أي : إنّكم متناقضون في الكلام

وعلى كلّ حال ، فالمُقسَم عليه هو : التركيز على أنّهم متناقضون في الكلام ، فتارة ينسبون عقائدهم إلى آبائهم وأسلافهم ، فينكرون المعاد ، وأُخرى يستبعدون إحياء الموتى بعد صيرورتهم عظاماً رميم ، وثالثة يرفضون القرآن والدعوة النبويّة ويصفونه بأنّه قول شاعر ، أو ساحر ، أو مجنون ، أو ممّا علّمه بشر ، أو هي من أساطير الأوَّلين

وهذا الاختلاف دليل على بطلان ادّعائكم ، إذ لا تعتمدون على دليلٍ خاصّ ، فانّ تناقض المُدَّعي في كلامه أقوى دليل على بطلانه ونفاقه

ــــــــــــــــ

(١) الصافّات : ٦

٧٨

ثُمّ إنّه سبحانه يقول : إنّ الإعراض عن الإيمان بالمعاد ليس أمراً مختصَّاً بشخصٍ أو بطائفة ، بل هو شيمة كلّ مُخالِف للحقِّ يقول :( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) . (١)

والأفْك : الصَرف ، والضمير في ( عنه ) يرجع إلى الكتاب ، من حيث اشتماله على وعد البأس والجزاء ، أي : يُصرَف عن القرآن من صُرف وخالفَ الحقّ

وأمّا الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه فقد ظهر ممّا ذكرنا ؛ لما عرفتَ من أنّ معنى الحُبُك هو الطرائق المختلفة المتنوِّعة ، فناسب أن يحلفَ به سبحانه على اختلافهم وتشتّت آرائهم ، في إنكارهم نبوّة النبي ورسالته ، والكتاب الّذي أُنزل معه ، والمعاد الّذي يدعو إليه

ــــــــــــــــ

(١) الذاريات : ٩

٧٩

القسم الثاني : القَسَم المُتَعدِّد

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : القَسَم في سورة الصافّات

حلف سبحانه بالملائكة في السور الأربع التالية :

١ ـ الصافّات ، ٢ ـ الذاريات ، ٣ ـ المُرسلات ، ٤ ـ النازعات

وليس المُقسَم به هو لفظ المَلَكِ أو الملائكة ، وإنّما هو الصِفات البارزة للملائكة ، وأفعالها ، وإليك الآيات :

١ ـ( وَالصّافاتِ صَفّاً * فَالزّاجراتِ زَجْراً * فَالتّالياتِ ذِكراً *إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحد ) .(١)

٢ ـ( والذّارِياتِ ذَرْواً * فَالحامِلاتِ وِقْراً * فَالجارِياتِ يُسراً * فَالمُقَسِّماتِ أَمْراً * إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادق * وَانَّ الدِّين لواقع ) (٢)

٣ ـ( وَالْمُرسَلات عُرفاً * فَالعاصِفاتِ عَصْفاً * وَالنّاشراتِ نَشْراً * فالفارِقات فَرقاً * فالمُلقِياتِ ذِكراً * عُذراً أَو نُذراً * إنّما تُوعَدُونَ لَواقِع ) (٣)

ــــــــــــــــ

(١) الصافّات : ١ـ٤

(٢) الذاريات : ١ـ٦

(٣) المُرسَلات : ١ـ٧

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

منكم فلا يصلون ، فأقول : يا ربّ ! هؤلاء من أصحابي ، فيجيبني مَلَك ، فيقول : وهل تدري ما أحدثوا بعدك ؟ ) (١) .

وروى مسلم أيضاً ، عن أنس بن مالك ، قال : إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( ليردنّ عليّ الحوض رجال ممّن صاحبني حتى إذا رأيتهم ، ورفعوا إليّ ، اختلجوا دوني ، فلأقولنّ : أي ربّ أصيحابي أصيحابي ، فليقالنَّ لي : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) (٢) .

وروى ابن جرير الطبري في تفسيره بسنده عن قتادة في تفسير قوله تعالى :( يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ ) (٣) ، لقد كفر أقوام بعد إيمانهم كما تسمعون ، ولقد ذكر لنا أنّ نبي الله كان يقول :( والذي نفس محمد بيده ، ليردنّ عليّ الحوض ممّن صحبني أقوام ، حتى إذا رفعوا إليّ ورأيتهم اختلجوا دوني ، فلأقولن : ربّ أصحابي أصحابي ، فليقالنّ : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) (٤) .

وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، قال : ( وكان يقال : أطوع الناس في قومه الجارود بن بشر بن المعلّى ، لمّا قُبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فارتدّت العرب ، خطب قومه فقال : أيّها الناس ، إن كان محمد قد مات فإنّ الله حي لا يموت )(٥) . وقد أنبأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاًعليه‌السلام بذلك الارتداد

ـــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ، محمد بن مسلم النيسابوري : ج ١ ص ٢١٧ ح ٢٤٧ ، كتاب الطهارة باب استحباب إطالة الغرة والتجميل في الوضوء .

(٢) صحيح مسلم ، النيسابوري : ج ١ ص ١٨٠٠ ح ٢٣٠٤ ، كتاب الفضائل ، باب فضل نسب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(٣) آل عمران : ١٠٦ .

(٤) جامع البيان ، الطبري : ج ٤ ص ٥٥ .

(٥) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ج ١٨ ص ٥٧ .

٢٤١

وغدر الأمة له ، حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ الأمة ستغدر بك بعدي ، وأنت تعيش على ملّتي وتُقتل على سنّتي ، مَن أحبك أحبّني ، ومَن أبغضك أبغضني ، وإن هذه ستخضب ) (١) ، وسنده صحيح ولم يتكلّموا فيه إلاّ من جهة ثعلبة بن يزيد الحماني ولكن قال النسائي فيه : إنّه ( ثقة )(٢) وقال ابن عدي : ( لم أر له حديثاً منكراً )(٣) وقال ابن حجر : ( صدوق شيعي )(٤) ، وقال الحاكم فيه : ( صحيح )(٥) .

وأخرج الحاكم في المستدرك ، عن عليعليه‌السلام أنّه قال :( إنّ ممّا عهد ليّ النبي : إنّ الأمة ستغدر بي بعده ) (٦) قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .

والحاصل أنّ الانقلاب والزيغ عن جادة الصواب في أمر الخلافة ممّا تنبّأ به القرآن والرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وبعد هذا كلّه ، كيف يستغرب في عصيان الصحابة ، ومخالفتهم في أمر الخلافة والإمامة التي هي من أصعب المنعطفات التي مرّت بها الأمة الإسلامية بعد وفاة الرسول الأكرم ، كما عبّر عن ذلك الشهرستاني في

ـــــــــــــ

(١) التاريخ الكبير : البخاري : ج ٢ ص ١٧٤ ح ٢١٠٣ ؛ تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ٤٢ ص ٤٤٨ ؛ البداية والنهاية ، ابن كثير : ج ٦ ص ٢٤٤ ـ ٣٦٠ ؛ تهذيب الكمال ، المزي : ج ٤ ص ٣٩٩ ؛ تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : ج ١١ ص ٢١٦ ح ٥٩٢٨ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١١ ص ٢٩٧ ح ٣١٥٦٢ .

(٢) ميزان الاعتدال ، الذهبي : ج ١ ص ٣٧١ .

(٣) المصدر نفسه .

(٤) تهذيب الكمال ، المزي : ج ٤ ص ٣٩٩ .

(٥) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٤٣ .

(٦) المصدر نفسه : ج ٣ ص ١٤٠ ؛ وجاء بهذا اللفظ في مجمع الزوائد : ج ٩ ص ١٣٧ .

٢٤٢

كتابه ( الملل والنحل ) بقوله : ( ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كل زمان )(١) .

الخلاصة

إنّ انحراف الناس عن الأنبياءعليهم‌السلام في الأمم السابقة أمر معهود في التاريخ ، كما يحدثنا القرآن الكريم والتاريخ بذلك ، وعلى هذا الضوء فإنّ الأُمّة الإسلامية لم يستثنها الله تعالى من باقي الأمم التي يجمعها قاسم مشترك ، وهو طبيعة النفس الإنسانية وميلها للشهوات والأطماع ، لا سيّما وأنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ وأكّد على أنّ الأمة الإسلامية تحذو حذو هذه الأمم السابقة في كل شيء .

ومن هنا فعدول الصحابة عن وصية نبيهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر لا يخرج عن الأسباب التي دفعت الأمم السابقة بالعدول عن أنبيائهم ، ويمكن إجمال خلفيات عدول الصحابة فيما يلي :

١ ـ طبيعة قريش وما تحمله من تطلّع نحو الزعامة والملك والسلطان .

٢ ـ وجود عدد كبير من المنافقين ومرضى القلوب في صفوف المسلمين .

٣ ـ التنافس والنزاع بين القبائل كما هو الحال بين قبيلتي الأوس والخزرج .

٤ ـ التناحر والتحاسد بين المهاجرين والأنصار .

ـــــــــــــ

(١) الملل والنحل ، الشهرستاني : ج ١ ص ٢٠ .

٢٤٣

٥ ـ سياسة الإرهاب في السقيفة .

٦ ـ تجاسر الصحابة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أحصى التاريخ عدداً وافراً من المخالفات للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها :

أ ـ مخالفة أوامر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند فرارهم في معركة أحد .

ب ـ عصيانهم لله ورسوله بفرارهم من الزحف كما في يوم حنين .

ج ـ اعتراض الصحابة على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديبية ، حيث أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنحر فاعترضوا عليه ولم يقم منهم أحد .

د ـ الإشفاق من التصدّق عندما أمر الله تعالى بتقديم صدقة عند مناجاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتركوا مناجاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خشية من دفع الصدقة .

هـ ـ تخلّف القوم عن الالتحاق بجيش أُسامة الذي أمرهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإنفاذه .

٧ ـ إنّ ارتداد الصحابة قد أنبأنا به القرآن الكريم ، كما في قوله تعالى :( وَمَا مُحمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى‏ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشّاكِرِينَ ) (١) .

بالإضافة إلى إنباء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في روايات مستفيضة بارتداد بعض أصحابة .

ـــــــــــــ

(١) آل عمران : ١٤٤ .

٢٤٤

الفصل السادس: العصمة والغلو

العصمة والغلو

الشبهة :

عصمة أهل البيت من أبرز مظاهر الغلو .

الجواب :

لكي تتضح عصمة أهل البيتعليهم‌السلام بشكل واضح ، ينبغي أن نقف قليلاً لنفهم معنى وحقيقة العصمة ، فنقول :

العصمة لغةً :

العصمة : هي المنع والوقاية ، قال في القاموس : ( أعصم ، يعصم : اكتسب ومنع ، ووقى والعصمة بالكسر المنع )(١) .

وجاء في كتاب العين : ( أن يعصمك الله من الشر ، أي : يدفع عنك واعتصمت بالله ، أي : امتنعت به من الشر واستعصمت ، أي : أبيت وأعصمت ، أي : لجأت إلى شيء اعتصمت به )(٢) .

وقال في لسان العرب : ( العصمة في كلام العرب : المنع وعصمة الله عبده : أن يعصمه ممّا يوبقه عصمه يعصمه عصماً : منعه ووقاه ، وفي التنزيل : لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رحم ، أي لا معصوم إلاّ المرحوم )(٣) .

وجاء في مختار الصحاح : ( ع ص م العصمة المنع ، يقال عصمه الطعام ،

ـــــــــــــ

(١) القاموس، الفيروزآبادي : ج ٤ ص ١٥١ .

(٢) كتاب العين ، الخليل أحمد الفراهيدي : ج ١ ص ٣١٣ .

(٣) لسان العرب ، ابن منظور : ج ١٢ ص ٤٠٣ .

٢٤٥

أي منعه من الجوع ، والعصمة أيضاً الحفظ ، وقد عصمه يعصمه بالكسر عصمة فانعصم ، واعتصم بالله أي امتنع بلطفه من المعصية )(١) .

العصمة اصطلاحاً :

لا يختلف معنى العصمة اصطلاحاً عن المعنى اللغوي إلاّ في خصوصيات مصداق العصمة الشرعية من أجزاء وشرائط مرتبطة بالأفراد المعصومين ، فالعصمة لدى الأنبياء والرسل والأولياء والأئمّةعليهم‌السلام تعني المنع من ارتكاب المعصية والوقاية من كل رجس ، فلابد أن نعرف أسباب هذا المنع وموجبات هذه الوقاية .

منشأ العصمة :

إنّ الأساس الذي تعتمد عليه العصمة هو العلم ، وهذا الضرب من العلم ليس من سنخ العلم العادي الموجود عند جميع أفراد البشر على السواء ، والذي يسمّى في الاصطلاح العلمي بالعلم الحصولي ، وهو الذي أشارت إليه الآية المباركة بقوله تعالى :( وَاللهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٢) وهذا النوع من العلم موجود عند كل إنسان سواء كان فاسقاً فاجراً أم مؤمناً عادلاً .

وقد أشار القرآن الكريم إلى حقيقة العلم الذي يكون منشأ للعصمة في موارد متعددة :

١ ـ قوله تعالى في حكايته عن النبي يوسفعليه‌السلام :( وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنّ

ـــــــــــــ

(١) مختار الصحاح ، محمد بن عبد القادر : ص ٢٣٠ .

(٢) النحل : ٧٨ .

٢٤٦

أَصْبُ إِلَيْهِنَ وَأَكُن مِنَ الْجَاهِلِينَ ) (١) .

فالآية تؤكّد بكل صراحة أنّ الذي يصبو إلى المعصية هو الجاهل الذي يقوده هوى النفس إلى ارتكاب ما حرّمه الله تعالى .

فإذا كان الجهل هو الذي يقود إلى المعصية فالعلم هو المانع والحائل عن المعصية ؛ ولذلك قالعليه‌السلام ( وَأَكُن مِنَ الْجَاهِلِينَ ) ولم يقل : ( وأكن من الظالمين ) كما قال لامرأة العزيز : إنّه لا يفلح الظالمون أو أكن من الخائنين ، وكما قال للملك :( وَأَنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ) .

فالنبي يوسفعليه‌السلام فرّق في الخطاب بينه وبين امرأة العزيز والملك من جهة ، وبينه وبين ربّه من جهة أخرى ، فخاطب امرأة العزيز والملك ( بالظلم ، والخيانة ) ، وأنّ الظالم لا يفلح ، والله لا يهدي كيد الخائنين ، وخاطب ربّه تعالى بخطاب آخر وهو أنّ الصبوة إليهن من الجهل .

فيتضح من هذه الآية أن منشأ العصمة هو العلم .

٢ ـ قوله تعالى :( وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَن يُضِلّوكَ وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرّونَكَ مِن شَيْ‏ءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) (٢) .

وهذه الآية واضحة الدلالة على أنّ المنشأ الرئيس للعصمة هو العلم الذي أنعم الله به على الأنبياءعليهم‌السلام ، فالآية أشارت إلى أنّ المنافقين لا يتمكّنون من إضلال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو التأثير عليه وذلك لما منحه الله تعالى من

ـــــــــــــ

(١) يوسف : ٣٣ .

(٢) النساء : ١١٣ .

٢٤٧

قدرات علمية خاصة جعلته في حصانة تامة من الضلال ؛ ولذا يقول الفخر الرازي في صدر تفسيره للآية : ( وهذا من أعظم الدلائل على أنّ العلم أشرف الفضائل والمناقب )(١) .

وهذا بدوره يكشف عن سر تركيز القرآن الكريم وتأكيده على أهمية العلم الذي يحمله الأنبياءعليهم‌السلام ، وهو العلم الذي يحمل في طيّاته خصائص ومميّزات عديدة تؤهّل الإنسان لأن يكون نبيّاً مرسلاً من الله تبارك وتعالى

قال تعالى حكاية عن النبي يوسفعليه‌السلام :( وَلَمّا بَلَغَ أَشُدّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ) (٢) ، وقال تعالى :( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً ) (٣) .

أمّا حقيقة هذا العلم ـ كما ستأتي الإشارة إليه في مبحث علم الإمام ـ هو سنخ علم ليس كالعلوم التي يتعلّمها الناس ، وإنّما هو علم يلقيه الله تعالى على قلب مَن يشاء ، وهو من سنخ العلم الذي كان وصي سليمان ( آصف بن برخيا ) يتصرف في التكوين بواسطته ، مع أنّه كان عنده بعض هذا العلم لا كلّه ، كما في قوله تعالى :( قَالَ الّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذَا مِن فَضْلِ رَبّي ) (٤) .

ومن الواضح أنّه تعالى قال :( عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ ) فإنّ ( من ) تفيد التبعيض ، وبهذا البعض من العلم استطاع نقل عرش بلقيس من مملكتها إلى مقام سليمان في لحظة واحدة .

وعلى هذا الأساس ، فإنّ هذا السنخ من العلم كلّه موجود عند أهل البيت وسنشير إلى جملة من الشواهد الروائية التي تثبت ذلك في مبحث (علم الإمام) ، ونكتفي هنا بالإشارة لروايتين فقط .

ـــــــــــــ

(١) التفسير الكبير ، الفخر الرازي : مج ٦ ، ج ١١ ص ٤٠ .

(٢) يوسف : ٢٢ .

(٣) النمل : ١٥ .

(٤) النمل : ٤٠ .

٢٤٨

الرواية الأولى : أخرج القندوزي الحنفي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : ( علم الكتاب والله عندنا وما أعطي وزير سليمان بن داود ، إنّما عنده حرف واحد من الاسم الأعظم ، وعلم بعض الكتاب كان عنده وقال في عليعليه‌السلام ومن عنده علم الكتاب وعلم بعض الكتاب سمّاه عنده الكتاب )(١) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً عن آبائهعليهم‌السلام أنّه قال :( ألا وإنّا أهل بيت من علم الله علمنا وبحكم الله حكمنا ) (٢) .

الرواية الثانية : ما أخرجه ابن المغازلي عن عليعليه‌السلام قال :قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أعطينا أهل البيت سبعةً لم يُعطَها أحدٌ قبلنا ، ولا يعطاها أحد بعدنا : الصباحة والفصاحة والسماحة والشجاعة والحلم والعلم والمحبّة من النساء ) (٣) .

إذن هذا العلم الخاص إفاضة منه تعالى لأهل البيتعليهم‌السلام وهو منشأ عصمتهم ، مضافاً إلى جملة وافرة من الأدلة العقلية والنقلية الدالة على عصمتهمعليهم‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) ينابيع المودة ، القندوزي : ج ١ ص ٣٠٦ .

(٢) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ج ١ ص ٢٦٧ ؛ جواهر المطالب في مناقب الإمام الجليل علي بن أبي طالب : أحمد بن محمد الدمشقي الشافعي : ج ١ ص ٣٤٣ ؛ ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ١ ص ٨٠؛ ج ٣ ص ٤٠٨ .

(٣) مناقب علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ابن المغازلي : ص ٢٩٥ ، ط ٢ .

٢٤٩

الدليل العقلي على عصمة أهل البيتعليهم‌السلام

تقدم سابقاً أنّ الإمامة متمّمة للنبوّة في مجال الدين بمعنى أنها واجبة لأداء وظيفة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيانه لأحكام الدين والعمل لهداية الناس إلى مصالحهم الواقعية وتزكية الناس وتربيتهم على الكمال اللائق بهم وحفظ التشريع عن التحريف والزيادة والنقصان .

وعلى هذا يعود الدليل الدال على عصمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعينه ليكون دليلاً على وجوب عصمة الإمام .

فالدليل العقلي القائم على عصمة النبي ، من أنّه لو جاز على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخطأ والمعصية ، مع أنّ الله تعالى أمر باتباعه والاقتداء به والانصياع والطاعة لإوامره ، فإنّ هذا يعني أنّ الله تعالى جوّز لنا ارتكاب المعصية والخطأ الذي يصدر من النبي ، وهذا محال لأنّ الله تعالى لا يأمر بالمعصية والانحراف عن المسار الصحيح الذي رسمه للبشرية .

إذن بالنظر إلى موقعية الإمام من الدين وكونه حافظاً للشريعة وقيّماً عليها لابد من القول بعصمته ، كما هو الحال بالنسبة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحيث لا يخامرنا الشك بعصمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّها أمر واضح ، وخلافها لا ينسجم مع الحكمة الإلهية ، فكذلك الإمام بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للسبب ذاته .

وبذلك يتضح ضرورة عصمة الأئمّةعليهم‌السلام بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّها واجبة كعصمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

مضافاً إلى أنّه لو افترضنا إمكان صدور الخطأ أو الوقوع في الذنب من النبي أو الإمام فإنّ هذا بدوره يؤدّي إلى إنكار الآخرين عليه ونفورهم منه ، وهو أمر ينافي ويضادد ما أمر الله تعالى به من طاعته ، وبالتالي يؤدّي الإنكار عليه إلى تفويت غرض الله تعالى من وصول الناس إلى كمالهم المرسوم ، الناتج عن طاعتهم للنبي أو الإمام .

٢٥٠

الأدلة القرآنية على عصمة الأئمّةعليهم‌السلام

يطالعنا القرآن الكريم بعدّة من الآيات الصريحة الدالة على عصمة الأئمّةعليهم‌السلام :

الآية الأُولى : قوله تعالى( وَإِذِ ابْتَلَى‏ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (١) .

بيان الاستدلال :

لا ريب أنّ الظالم في منطق الشريعة هو كل مَن يعصي الله تعالى ؛ لأّنه ظالم لنفسه على أقل تقدير ، أمّا العهد في الآية المباركة فالمراد منه الإمامة ، بقرينه قوله تعالى في نفس الآية :( إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً ) ، فالظالم المرتكب للمعصية في أي فترة من فترات حياته لا يمكن أن يكون إماماً .

وربّما يُعترض على ذلك بالقول : إنّ الإنسان قد يرتكب في شوط من أشواط حياته معصية ما ، وقد يكون ظالماً لنفسه في مرتبة من مراتب عمره ثم يتوب ، فما المانع من أن يشمله اللطف الإلهي بالإمامة ؟

ـــــــــــــ

(١) البقرة : ١٢٤ .

٢٥١

والجواب عن ذلك بالبيان التالي :

يمكننا تصنيف الناس إلى أربعة أصناف لا خامس لها :

الصنف الأول : مَن كان ظالماً من أوّل عمره إلى آخره .

الصنف الثاني : مَن كان ظالماً في بداية عمره فحسب ، وكان تائباً مؤمناً في أواخر حياته .

الصنف الثالث : مَن كان مؤمناً أوّل عمره ، ظالماً في آخره .

الصنف الرابع : مَن كان في كل مراحل حياته مؤمناً من أوّلها إلى آخرها.

وبالعودة إلى إبراهيم ودعائه وطلبه الإمامة لذرّيته نجد أنّه من غير المعقول أن يطلب الإمامة لمَن كان ظالماً في جميع عمره أو ظالماً آخر عمره وإن كان في أوّله مؤمناً ، وهذا واضح .

إذن يبقى الصنف الثاني والثالث هما اللذان طلب إبراهيمعليه‌السلام لهما الإمامة ، وقد نصّ الله تعالى في الآية المباركة على أنّ العهد والإمامة لا ينالها الظالم ، وينحصر المقصود بالظالم لا محالة بالصنف الثاني ، وهو مَن يكون ظالماً في بداية عمره فحسب ، وتائباً في آخر حياته .

وحينئذٍ يبقى الصنف الرابع وهو مَن كان مؤمناً في طول حياته ، وهو المعصوم عن الخطأ .

لا سيّما مع الالتفات إلى أنّ النبي إبراهيم من أنبياء أُولي العزم ، وقد تحدّث القرآن الكريم عن خلقه وأدبه مع الله تعالى في الطلب والمسألة .

كما في قوله تعالى :( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاّ عَن مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيّاهُ فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَدُوّ للهِ‏ِ تَبَرّأَ مِنْهُ إِنّ إِبْرَاهِيمَ لأَوّاهٌ حَلِيمٌ ) (١) .

فالنبي إبراهيمعليه‌السلام تبرأ من عمّه آزر بعد اطلاعه وعلمه بأنّه عدو لله .

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ١٤ .

٢٥٢

إذن إبراهيمعليه‌السلام يتبرأ من كل عدو وعاص لله تعالى ؛ لأنّ العاصي هو عدو لله بمرتبة من المراتب ، وعلى هذا الأساس فإنّ كل ظالم لنفسه ولو مرة واحدة في حياته يخرج عن محوطة دعاء إبراهيمعليه‌السلام له ، بعد أن أعلمه الله تعالى بأنّ هذا الصنف غير مستحق لعهد الإمامة ، وبذلك يخرج كل مَن كان ظالماً لنفسه في أي مقطع من مقاطع حياته ، فيبقى القسم الرابع وهو مَن كان غير ظالم من أوّل عمره إلى آخره .

إذن الآية الشريفة تدل بكل وضوح على عصمة كل مَن ينال ويستحق مقام الإمامة منذ اليوم الأول ، فلابد أن يكون الإمام معصوماً قبل الإمامة وبعدها .

وبذلك تدل الآية المباركة على عصمة أهل البيتعليهم‌السلام ، بعد ثبوت إمامتهم للأُمّة بالأدلة القرآنية والروائية المذكورة في محلّها .

الآية الثانية : قوله تعالى :( إِنّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) وهذه الآية المباركة تبيّن كيفية تعلّق إرادة الله تعالى بإذهاب الرجس عن أهل البيتعليهم‌السلام وأن يكونوا مطهّرين معصومين ، ولمّا كانت إرادة الله تعالى لا تنفك عن مراده سبحانه فإنّ الذي أراده الله تعالى وهو تطهير أهل البيتعليهم‌السلام واقع لا محالة .

وقد نوقش الاستدلال بالآية في قوله تعالى ( إنّما يريد ... ) فإنّه إما يقصد الإرادة التشريعية وهي تتخلّف عن المراد ، مضافاً لعدم اختصاصها بأهل البيتعليهم‌السلام ، حيث إنّ الله تعالى أراد من الناس كافة أن يطّهروا بأن يكونوا طائعين مهتدين سائرين في طريق الكمال ، ونهاهم عن الرجس وارتكاب المحرمات كشرب الخمر والفسق والفجور وغيرها ، فهذه الإرادة التشريعية تعلقت بكل البشرية ولا خصوصية لها بأهل البيتعليهم‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) الأحزاب : ٣٣ .

٢٥٣

وإمّا أن تكون تلك الإرادة تكوينية وقد تعلقت بطهارة أهل البيتعليهم‌السلام فهذا يعني أنّهم مطهّرون جزماً ، إذ يستحيل أن تتخلّف إرادة الله التكوينية عن المراد ، لكن الملاحظة التي تقف بوجه هذا التقريب من الاستدلال ، هي أنّ هذا هو الجبر بعينه ، وأنّ أهل البيتعليهم‌السلام مجبورون عن الابتعاد عن الرجس بإرادة الله التكوينية التي لا تتخلف عن المراد ، وهذا يعني أنّ عصمة أهل البيتعليهم‌السلام ليست شرفاً أو مدحاً لهم ؛ لأنّ العصمة لم تكن باختيارهم .

والجواب على ذلك سيأتي مفصّلاً في مبحث علم الإمام بالغيب ، إلاّ أنّه يمكننا أن نكتفي بالإشارة المفهمة للجواب ، فنقول : حيث إنّ الله تعالى عالم بكل شيء لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ، فهو يعلم بأفعال عبيده قبل خلقهم ويعلم ما يصدر من الإنسان قبل أن يخلقه ، ومحيط بما هو صائر إليه .

وعلى هذا الأساس : فإنّ الله تعالى لمّا علم من هؤلاء النفر وهم أهل البيتعليهم‌السلام بأنّهم لا يريدون لأنفسهم إلاّ الطاعة المطلقة لله سبحانه أعانهم على ذلك ، وأراد لهم من الطهارة ما يتناسب مع ما علمه من إرادتهم ؛ لأنّه علم منهم أنّهم لا يريدون لأنفسهم إلاّ الطاعة ، فلم تتعلّق إرادته التكوينية بعصمتهم إلاّ بعد العلم بأنّهم سوف لا يكون لهم همّ إلاّ الطاعة والعبودية .

٢٥٤

وقد ركّزت الآيات القرآنية على هذه الحقيقة ، كما في قوله تعالى :

( كُلّاً نمدّ هؤُلاَءِ وَهؤُلاَءِ ) (١) وقوله عزّ وجلّ :( وَإِن من شَيْ‏ءٍ إِلاّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (٢) وقوله تعالى : ( أَنزَلَ مِنَ السّماءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةُ بِقَدَرِهَا ) (٣) ، وهكذا قوله تبارك وتعالى :( إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ إِمّا شَاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ) (٤) .

إذن فالمسألة لا ترجع إلى اختيار جزافي بل تتحرّك في إطار هادف ، وعلمه تعالى بهم صار منشأ لهذه الإرادة التكوينية ؛ وبذلك يتبين عدم التنافي بين كون الله تعالى علم منهم أنّهم يريدون طاعة الله باختيارهم ، وبين تعلّق إرادته عزّ وجلّ التكوينية بتطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم ، النابع عن ذلك الاختيار بعد علم الله تعالى به ، ويمكن استظهار ما ذكرناه من الآية ذاتها ، حيث إنّها عبرت بـ( إنّما يريد ) ومن الواضح أنّ الفعل المضارع دالّ على الاستمرارية ، أي أنّ النفر والأشخاص الذين أخبرت الآية عن عصمتهم متصفون بهذه الصفة على الدوام والاستمرار ، وهذا لا ينطبق إلاّ على العترة خاصة دون سواهم ، مع مطابقة ذلك التسديد الإلهي لما يريدونه من الطهارة حيناً فحيناً .

فالآية المباركة تدل على عصمة أهل البيتعليهم‌السلام ، وقد تقدّم(٥) ما يدل على عدم مشاركة غير أهل البيت في الآية الشريفة ، وهنالك قرائن قطعية

ـــــــــــــ

(١) الإسراء : ٢٠ .

(٢) الحجر : ٢١ .

(٣) الرعد : ١٧ .

(٤) الإنسان : ٣ .

(٥) راجع : بحث آية التطهير السابق عند ردّ شمولها لبني هاشم عامة .

٢٥٥

وشواهد روائية صريحة تؤكّد على انحصار هذه الآية الشريفة بأهل البيتعليهم‌السلام .

ومنها مثلاً اهتمام وحرص الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تشخيص عنوان أهل البيتعليهم‌السلام بالعترة الطاهرة والمنع من استعمال هذه الكلمة في غير عترتهعليهم‌السلام وإدخال المسيء فيهم ، وقد جاء ذلك في روايات كثيرة ، منها :

ما ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : (ادعوا لي ، ادعوا لي ، فقالت صفية : مَن ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أهل بيتي عليّاً وفاطمة والحسن والحسين ، فجيء بهم فألقى عليهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كساءه ، ثم رفع يديه ، ثم قال :اللّهمّ هؤلاء آلي فصلّي على محمد وعلى آله محمّد ، وأنزل الله عز وجلّ ،( إِنّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) ، ثم يؤكّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الحصر والتشخيص بقوله:( اللّهمّ هؤلاء آلي فصل على محمّد وآل محمّد ) ، فنزّل الله تعالى فيهم قرآناً محكماً ، وهو قوله تعالى:( إِنّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ولا يخفى ما في هذه الكلمة :( اللّهمّ هؤلاء آلي ) من الدلالة على حصر أهل البيت .

ـــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٤٨ والآية ٣٣ من سورة الأحزاب .

٢٥٦

الأدلة الروائيّة

أوّلاً : حديث الثقلين

عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) (١) ، وأوّل سؤال يطالعنا في هذا المجال : هل صدر هذا الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم لا ؟

والجواب : إنّ هذا الحديث ما لا شك في صدوره عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد نقله أهل السنّة ، وروه في كتبهم أكثر من نقل الشيعة له .

وهذا الحديث وإن قيل إنّه صدر بصيغة ( وسنّتي بدل وعترتي ) إلاّ أنّه لا تنافي بينهما ؛ لأنّ العترة هي في موقع بيان السنّة ، فالعترة هي المبيّن الواقعي للسنّة ، وإنّ السنّة بتمامها لدى العترة ، وفحوى ( كتاب الله وعترتي ) يتمثّل بوجوب تلقيّنا السنّة عن العترة ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى أنّه إذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد صرّح بعبارة ( وسنّتي ) في موطن واحد فإنّه قد نطق بصيغة ( كتاب الله وعترتي ) في مواطن متعددة ومتواترة(٢) .

ـــــــــــــ

(١) المعجم الكبير ، الطبري : ج ٥ ص ١٧٠ ص ١٨٦ ؛ تفسير ابن كثير : ج ٤ ص ١٢٢ ؛ قال فيه : ( وثبت في الصحيح أنّ الرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في خطبة بغدير ( الحديث ) ، ونحوه صحيح مسلم : ج ٤ ص ١٨٧٣ ؛ ونحوه مجمع الزوائد : ج ٩ ص ١٦٢ ـ ١٦٣، وقال فيه : ( رواه أحمد وإسناده جيد ) ؛ الصواعق المحرقة : ص ٣٤١ ، ونحوه صحيح الترمذي : ج ٥ ص ٣٢٩ ؛ ونحوه السنن الكبرى ، النسائي : ج ٥ ص ٤٥ .

(٢) المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٥ ص ١٧٠ وص ١٨٦ ؛ السنن الكبرى ، النسائي : ج ٥ ص ٤٥ وص ١٣٠ وغيرها من المصادر .

٢٥٧

دلالة الحديث على عصمة أهل البيتعليهم‌السلام

فمن الملاحظ أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد حثّ أُمّته على الالتزام والتمسّك بالثقلين ، وأخذ دينهم من هذين المصدرين : ( الكتاب والعترة ) ، فكما أنّ القرآن معصوم عن الزيغ ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ بلا خلاف في ذلك ـ كذلك يكون العدل الآخر له معصوماً أيضاً ؛ لأنّه من المحال أن يدعو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أخذ الدين من مرجع بشكل حاسم ، ثم يتخلّل الخطأ والسهو والزيغ بعض كلام ذلك المرجع .

فالعترة مرجع إلهي عيّنه الله تعالى لهذا الموقع إلى جوار القرآن الكريم بالنحو الذي لا يمكن الأخذ بأحدهما دون الآخر ، وإلاّ سوف ينتهي الأخذ بأحدهما دون الآخر إلى الضلال .

وعليه فإنّه من المحال أن يدعو الله تعالى ورسوله إلى مصدر ومرجع في حال يمكن فيه المعصية والخطأ والاشتباه ؛ لأنّ ذلك يعني تجويز الله سبحانه وتعالى المعصية والخطأ ، وهو أمر مستحيل ، وعلى هذا الأساس يتعيّن القول بعصمة أهل البيتعليهم‌السلام .

ثانياً : النص على العصمة والطهارة

كما في قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهّرون معصومون ) (١) .

وهو صريح الدلالة في إثبات العصمة لأهل البيتعليهم‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ٢ ص ٣١٦ وج ٣ ص ٢٩١ وص ٣٨٤ .

٢٥٨

ثالثاً : طاعتهم طاعة لله ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي أمير المؤمنينعليه‌السلام :( مَن أطاعني فقد أطاع الله ومَن عصاني فقد عصا الله ، ومَن أطاع عليّاً فقد أطاعني ، ومَن عصا عليّاً فقد عصاني ) (١) .

ومن مميّزات هذا الحديث أنّ الذهبي الذي هو إمام النقد والتجريح عند السنّة ، والذي عمل كل ما يستطيع لإسقاط عمدة أحاديث فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام ، قد صحّح هذا الحديث ، ففي هذا الحديث النبوي الكريم أصل وفرع ، وشجرة وثمرة فالأصل والشجرة هو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والفرع هو عليعليه‌السلام ، وهذا الحديث واضح الدلالة في عصمة الإمام عليعليه‌السلام ؛ لأنّه يدل على أنّ إرادة عليعليه‌السلام لا يمكن أن تتخلّف عن إرادة الله تعالى ، ولا تتخلّف كراهته عن كراهته الله تعالى ، ولو أمكن أن تتخلّف لكان قوله : ( ومَن أطاعه فقد أطاع الله ) خطأ واشتباهاً ، والعياذ بالله .

وحيث تثبت عصمة الإمام عليعليه‌السلام تثبت عصمة بقيّة أهل البيتعليهم‌السلام ؛ لأنّهم نور واحد وورثة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلفاؤه كما هو واضح .

ثم إنّه بعد ثبوت العصمة لأهل البيتعليهم‌السلام في العقل والقرآن والسنّة ، لا يبقى مجال لدعوى الغلو في مبدأ العصمة لأهل البيتعليهم‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢١ ؛ وقال فيه : ( حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ) .

٢٥٩

الخلاصة

إنّ عصمة أهل البيتعليهم‌السلام أمر لا يمكن التردد فيه بعد الوقوف على حقيقة العصمة والأدلة القرآنية والروائية .

فالعصمة لغةً : المنع والوقاية أي إنّ العصمة مَلَكة تمنع صاحبها من ارتكاب المعصية ، وهذا هو المعنى الاصطلاحي للعصمة .

منشأ العصمة

إنّ منشأ العصمة هو العلم ، إلاّ أنّه ليس العلم العادي الموجود عند جميع أفراد البشر المسمّى بالعلم الحصولي ، بل هو سنخ علم خاص يفيضه الله تعالى على قلب من يشاء من عباده ، وقد أشارت إلى هذا النمط من العلم عدة من الآيات القرآنية ، كما هو الحال في قضية وصي سليمان آصف بأقل من طرفة عين ، كما في قوله تعالى :( قَالَ الّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذَا مِن فَضْلِ رَبّي ) (١) .

ولا ريب أنّ هذا السنخ من العلم ، هو في صدور أهل البيتعليهم‌السلام ، وقد تقدّمت عدّة شواهد وأدلة على ذلك .

إذن منشأ وسبب العصمة إنّما هو العلم الخاص الذي عند أهل البيتعليهم‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) النمل: ٤٠ .

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361