الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء ١

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية21%

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 361

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 361 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 213929 / تحميل: 8499
الحجم الحجم الحجم
الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

والمستفاد من خبر الحسين بن أبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار عند ما قصد زيارة الحسين (عليه السّلام) قادماً من الكوفة لأواخر عهد الدولة الاُمويّة ذكر باب الحائر وكرّر لفظه، بينما ابن اُخته الحسين اقتصر على ذكر القبر دون إيراد لفظ الباب(1) .

ومن الممكن إن لم يكن يقصد بالباب حدود حومة الحائر وجود بناء على سبيل الإجمال على التربة الطاهرة، وكلاهما يصرّخان إنّهما كانا على خوف ووجل من القتل، وصرح ابن الثمالي بوجود المسلحة المطوّقة للحفرة الطاهرة من الجند الاُموي للحيلولة دون مَنْ يؤم قصده.

كان لحركة الشيعة في استعراضهم لجند الشام بعين الوردة بزعامة سليمان بن صرد الخزاعي واستماتتهم بطلب ثأر الحسين (عليه السّلام)، وإعادتهم الكرّة تحت لواء إبراهيم الأشتر، واستقصائهم للجندي الاُموي مع زعيمهم ابن زياد، مستهونين غير محتفين بكلّ ما سامهم معاوية من خطوب وخسف، وما أذاقهم من مرّ العذاب وصنوف التنكيل بغارات بسر بن أرطأة، وصلب وقتل وسمل في ولاية زياد بن أبيه وسمرة بن جندب وابن زياد، ممّا خلف أثراً عميقاً سيئاً في نفوس آل مروان ودويّاً هائلاً.

فبعد أن تسنّى لعبد الملك بن مروان وصل حلقات فترة الحكم الذي دهم دور حكم آل أمية بموت يزيد بإقصائه آل الزبير عن منصّة الحكم والإمرة، أراد أن يستأصل الثورة من جذورها؛ لذلك اتّبع سياسة القسوة والشدّة تجاه أهل العراق، وضغط ما لا مزيد عليه لمستزيد، خصوصاً في ولاية الحجاج بن يوسف.

ونهج خلفاؤه عين خططه دون أيّ شذوذ مع تصلّب بالغ؛ كابن هبيرة،

____________________

(1) يقول في خبر طويل بعد أن نزل الغاضرية وقد أدركه الليل، وهدأت العيون ونامت، أقبل بعد أن اغتسل يريد القبر الشريف يقول: حتّى إذا كنت على باب الحير... وساق في خبره وقد كرّر لفظ الباب حيث يقول بعد ذلك: فلمّا انتهيت إلى باب الحائر... (إقبال الأعمال - لابن طاووس / 28)، ومجلد المزار من بحار الأنوار 22 / 120.

٦١

وخالد بن عبد الله القسري، ويوسف بن عمر.

فترى ممّا تقدّم أنّ من المستحيل إفساحهم المجال بأن يُشيّد بناء على قبر الحسين (عليه السّلام)، ويكون موضعاً للتعظيم والتقدير؛ ممّا يتنافى وسياستهم المبنية على الكراهية لآل البيت (عليهم السّلام) والتنكيل بشيعتهم.

وإن سلّمنا بتحقق خبر الحسين بن أبي حمزة الثمالي على سبيل استدراك الورود لفظ الباب، من الممكن أن نقول: أي وجود بناء في الفترة بين سنة أربع وستين لإحدى وسبعين، ونلتزم بتغاضي المروانيين من التعرّض لهم، وبقائه ليوم ورود الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي لزيارة الضريح الأقدس.

وورد خبر لا يوثق به ولا يعوّل عليه من أنّ المختار بن أبي عبيدة الثقفي بنى على القبر الشريف وأقام حوله قرية(2) .

وقيل: إنّ سكينة بنت الحسين (عليه السّلام) أقامت بناء على الرمس الأقدس أمد اقترانها بمصعب في ولايته للكوفة، ففي أمد الفترة لسنة ست وستين عندما أمَّ التوّابون (عند مسيرهم للتلاقي مع جند عين الوردة) التربة الزاكية، وازدحموا على القبر

____________________

(1) جاء في مزار بحار الأنوار - للمولى محمّد باقر المجلسي / 120 ما نصه: (عن الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي قال: خرجت في آخر زمان بني مروان إلى قبر الحسين (عليه السّلام) مستخفياً من أهل الشام حتّى انتهيت إلى كربلاء، فاختفيت في ناحية القرية، حتّى إذا ذهب من الليل نصفه أقبلت نحو القبر، فلمّا دنوت منه... حتّى كاد يطلع الفجر أقبلت... فقلت له عافاك الله، وأنا أخاف أن أصبح فيقتلوني أهل الشام إن أدركوني ها هنا... وصلّيت الصبح وأقبلت مسرعاً مخافة أهل الشام.

(2) ذكر هذا القبر صاحب كنز المصائب دون إسناد، وفضلاً عن ذلك فإنّ هذا الكتاب لا يُعتمد عليه كثيراً؛ لِما حُشي متنه من الأخبار الغير واردة.

وقد ذكر هذا الخبر عند سرده لما دار بين المختار ومصعب بن الزبير، وعدد المواقع التي دارت بينهم والتي انتصر في جميعها المختار، =

٦٢

كازدحام الناس على الحجر الأسود(1) .

لم يكن حينذاك ما يظلل قبره الشريف أيّ ساتر، واستقصوا أمد البقية من الفترة، المختار بن أبي عبيدة الثقفي، ومصعب، وابن أخيه حمزة؛ فالأخبار الواردة في زيارة الحسين (عليه السّلام) عن السجّاد علي، والباقر(2) محمّد بن علي (عليه السّلام) (لكونهما قضيا حياتهما في الدولة المروانية) يشفان عن خوف ووجل.

وممّا يؤيد وجود بناء بسيط (بل له بعض الشأن) على القبر الشريف في زمن ورود الحسين ابن بنت أبي حمزة للزيارة، ما جاء من الألفاظ في الزيارات الواردة عن الصادق (سلام الله عليه) لجدّه الحسين (عليه السّلام)(3) ، حيث يقول في خبر: «... بعد الغسل بحيال قبره الشريف في الفرات، فتتوجه إلى القبر حتّى تدخل الحير من جانبه الشرقي، وتقول:...، ثمّ إذا استقبلت القبر...، ثمّ اجلس عند رأسه الشريف...، ثمّ تحوّل عند رجليه...، ثمّ تحوّل عند رأس علي بن الحسين...، ثمّ تأتي قبور الشهداء»(4) .

وفي خبر المفضل بن عمر عن الصادق (سلام الله عليه): «إذا أتيت باب الحير

____________________

= وهزيمة مصعب، إلى أن تمكّن مصعب من المختار آخر الأمر.

وإذ لم ترد مثل هذه الأخبار في الكتب التأريخية - والمعروف بل المحقّق أنّه لم يكن بين المختار ومصعب من مواقف سوى ما كان بالمذار، ثمّ تحصّن المختار بقصر إمارة الكوفة إلى أن قُتل -؛ لذا قلّ الاعتماد على ما ورد في هذا الكتاب من قيام المختار بتشييد قبر الحسين (عليه السّلام)، وإن كان المحلّ مناسب لإعطاء مثل هذه النسبة له.

كيف لا وقد قام المختار بأخذ ثأر الحسين (عليه السّلام)، وقتل قاتليه وصلبهم، وأحرق بعضهم بالنار؟ فلا يبعد من أن يقوم بتشييد قبره الشريف، إلاّ أنّنا نحكم بوقوع مثل هذا الأمر وجداناً لا استناداً على ما ورد في هذا الكتاب؛ للأسباب السالفة.

(1) تاريخ الطبري 7 / 70، وكان ذلك سنة 65 هـ.

(2) مجلد المزار 22 / 110.

(3) فقد توفي الصادق (عليه السّلام) سنة 148، والثمالي توفي في زمن المنصور.

(4) مجلد المزار / 145.

٦٣

فكبر الله أربعاً، وقل:...»(1) .

وفي خبر ابن مروان عن الثمالي عند آخر فصول الزيارة يقول: ثمّ تخرج من السقيفة وتقف بحذاء قبور الشهداء وتومئ إليهم، وتقول:...(2) .

وفي خبر صفوان الجمّال عن الصادق (عليه السّلام) يقول: «فإذا أتيت باب الحائر فقف... وقل:... ثمّ تأتي باب القبة وقف من حيث يلي الرأس، وقل:...، ثمّ اخرج من الباب الذي عند رجلي علي بن الحسين (عليه السّلام) وقل:...، ثمّ توجه إلى الشهداء وقل:...»(3) .

وفي خبر آخر عن صفوان يقول: «فإذا أتيت الباب فقف خارج القبة وارم بطرفك نحو القبر وقل:...، ثمّ ادخل رجلك اليمنى القبر وأخّر اليسرى، ثم ادخل الحائر وقم بحذائه وقل:...»(4) . وهذا ما يدلّك على أنّ له باباً شرقيّاً وغربيّاً.

فخلاصة القول: إنّ المستفاد من هذه الزيارات هو وجود بناء ذو شأن على قبره في عصر الصادق (سلام الله عليه).

ومع هذا فقد كان الاُمويّون يقيمون على قبره المسالح لمنع الوافدين إليه من زيارته، ولم يزل القبر بعد سقوط بني اُميّة وهو بعيد عن كلّ انتهاك؛ وذلك لانشغال الخلفاء العباسيِّين بإدارة شؤون الملك، ولظهورهم بادئ الأمر مظهر القائم بإرجاع سلطة الهاشميِّين، وهو غير خفي أنّ القائمين بالدعوة كانوا من أهل خراسان، وأكثر هؤلاء إن لم نقل كلّهم كانوا من أنصار آل البيت (عليهم السّلام).

ولمّا رسخت قدم العباسيِّين في البلاد، وقمعوا الثورات جاهروا بمعاداة شيعة علي (عليه السّلام)، ولكنّها كانت خفيفة الوطأة أيام السفّاح، فتوارد الزائرون

____________________

(1) المصدر نفسه / 148.

(2) المصدر نفسه / 105.

(3) المصدر نفسه / 159.

(4) المصدر نفسه / 179.

٦٤

لقبر الحسين (عليه السّلام) من شيعته عند سنوح هذه الفرصة جهاراً، واشتدّت الوطأة أيام المنصور بوقيعته بوجوه آل الحسن(1) ، وخفّت ثانية في أيام المهدي والهادي.

فلمّا كانت أيام الرشيد(2) ، وكانت قد استقرّت الأوضاع، وثبتت دعائم الحكم، وقضت على ثورات العلويِّين بما دبّرته من طرق الغدر والخيانة، فأرغمت أنوفهم الحمية، وأخمدت نفوسهم الطاهرة، فأرادت القضاء عليهم في محو قبور أسلافهم، فسلكوا سلوك بني اُميّة؛ إذ أمر الرشيد بهدم قبره الشريف ومحو أثره، فأخذت الشيعة الوسائط بالاهتداء إلى تعيين موضع القبر، وتعيين محلّ الحفرة منها السدرة، فبلغ الرشيد ذلك فأمر بقطعها(3) ، ثمّ وضع المسالح على حدوده إلى أن انتقل إلى طوس ومات فيها.

فلم يتتبع الأمين ذلك لِما كان منشغلاً باللهو والطرب وصنوف المجون والبذل، فاغتنموا الحال وبادروا إلى تشييد قبره الشريف، وقد اتخذوا عليه بناءً عالياً.

ولمّا جاء دور المأمون وتمكّن من سرير الخلافة تنفس الشيعة الصعداء، واستنشقوا ريح الحرية، ولم يتعرّض لذلك، وكان المأمون يتظاهر بحبّه لآل البيت (عليهم السّلام) حبّاً جمّاً حتّى إنّه استعاض بلبس السواد - وهو شعار العباسيِّين - بلبس الخضرة - وهو شعار العلويِّين -، وأوصى بالخلافة من بعده لعلي الرضا

____________________

(1) مروج الذهب - للمسعودي 2 / 171.

(2) الظاهر إنّ الرشيد لم يتعرّض لقبر الحسين (عليه السّلام) إلاّ في اُخريات أيامه، ولعل سبب ذلك غضبه ممّا كان يشاهد من إقبال الناس لزيارة الحسين (عليه السّلام) وتعظيمه والسكنى بجواره، وكان قبل ذلك يجري ما أجرته أمّ موسى من الأموال على الذين يخدمون قبر الحسين في الحير. انظر الطبري 10 / 118. (عادل)

(3) روى ذلك محمّد بن الحسن الطوسي في أماليه / 206 طبع إيران، بسنده إلى جرير بن عبد الحميد، وذكر أنّه عندما سمع جرير بالخبر رفع يديه قائلاً: الله أكبر! جاءنا فيه حديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: «لعن الله قاطع السدرة» ثلاثاً. فلم نقف على معناه حتّى الآن.

٦٥

ابن موسى الكاظم (عليه السّلام)، ولعل ذلك كيد منه، وكان هذا الوقوع بعد قتل أخيه الأمين، واسترضاء لمناصريه الخراسانيين.

وقد زعم البعض أنّه هو الذي شيّد قبره الشريف، وبنى عليه لهذه الفترة(1) ، وفي ورود أبي السرايا بن السري بن المنصور إلى قبر الحسين (عليه السّلام) أيام المأمون عام تسعة وتسعين بعد المئة حين قام ببيعة محمّد بن إبراهيم بن إسماعيل طباطبا بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن السبط، دليل على تشييد قبر الحسين(2) بعد مضي الرشيد إلى طوس.

وبقي الحال على هذا المنوال والشيعة في حالة حسنة حتّى قام حول قبره الشريف سوقاً، واتخذت دوراً حوله، وأخذ الشيعة بالتوافد إلى قبره للسكنى بجواره، إلى أن كان من المغنّية الشهيرة التي قصدت من سامراء في شعبان زيارة قبره الشريف، وكانت تبعث بجواريها إلى المتوكّل قبل أن يلي الخلافة يغنين له إذا شرب، وقد بعث إليها بعد استخلافه فأخبر بغيبتها، فأسرعت بالرجوع عندما أبلغها الخبر بطلب المتوكّل لها، فبعثت إليه بجارية وكان يألفها، فقال لها: أين كنتم؟

قالت: خرجت مولاتي إلى الحج وأخرجتنا معها.

فقال: إلى أين حججتم في شعبان؟

قالت: إلى قبر الحسين (عليه السّلام).

فاستطير غضباً(3) ، وفيه من بغض آل أبي طالب ما هو غني عن البيان، فبعث بالديزج بعد أن استصفى أملاك المغنّية - وكان الديزج يهودياً قد أسلم - إلى قبر الحسين (عليه السّلام)، وأمره بحرث قبره الشريف ومحوه، وهدم كلّ ما حوله من الدور والأسواق، فمضى لذلك وعمل بما أمر به، وقد حرث نحو مئتي جريب من جهات القبر، فلمّا بلغ الحفرة لم يتقدّم

____________________

(1) نزهة الحرمين - للعلاّمة السيد حسن الصدر (مخطوط) نقلاً عن تسلية المجالس.

(2) انظر مقاتل الطالبيِّين - لأبي الفرج الإصبهاني / 341 ط النجف.

(3) المصدر نفسه / 386.

٦٦

إليه أحد، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه، وأجرى الماء عليه(1) ، فحار الماء عند حدود قبره الشريف(2) ، ثمّ وكّل به المسالح بين كلّ مسلحتين ميل، ولا يزوره أحد إلاّ وأخذوه ووجهوا به إلى المتوكّل(3) ، فحصل للشيعة من ذلك كرب عظيم لِما طرأ على قبره من الجور، ولم يعهد مثله إلى هذا الحد.

فضاق بمحمد بن الحسين الأشناني بعد طول عهده بالزيارة، فوطّن نفسه على المخاطر، وساعده رجل من العطّارين، فخرجا يمكثان النهار ويسيران الليل حتّى بلغا الغاضرية، وخرجا منها نصف الليل، فسارا بين مسلحتين وقد ناموا حتّى دنا من القبر الشريف، فخفى عليهما موضعه، فجعلا يتحرّيان موضع القبر حتّى أتياه وقد قُلع الصندوق الذي كان عليه واُحرق، وفي الموضع اللبن قد خُسف وصار الخندق، فزاراه وانكبّا عليه، وقد شمّا من القبر رائحة ما شمّا مثلها قطّ من الطيب.

فقال الأشناني للعطّار: أي رائحة هذه؟

فقال: والله ما شممت مثلها بشيء من العطر.

فودّعاه وجعلا حوله علامات في عدّة مواضع، وبعد قتل المتوكّل حضر مع بعض الطالبيِّين والشيعة فأخرجوا العلامات وأعادوا القبر إلى ما كان عليه أوّلاً.

وقد نالت الشيعة شيء من الحرية على عهد المنتصر، وكان هذا محبّاً لآل البيت (عليهم السّلام)، مقرّباً لهم، رافعاً مكانتهم، معظّماً قدرهم، ومن حسناته إليهم أنّه شيّد قبر الحسين (عليه السّلام)، ووضع ميلاً عالياً يرشد الناس إليه(4) ، وذلك في عام السابع والأربعين بعد المئتين.

ولم يُهدم بناء المنتصر ظلماً؛ لعدم تعرّض أخلافه له؛ لِما ظهر من الوهن في دولتهم، وانحلال أمرهم، وتسلّط الأتراك عليهم، وانشغالهم بأنفسهم.

وفي خلافة المسترشد ضاقت الأرض على رحبها على الشيعة؛ وذلك عندما أمر بأخذ جميع ما اجتمع من هدايا

____________________

(1) المصدر نفسه / 386.

(2) المصدر نفسه / 386.

(3) المصدر نفسه / 387.

(4) فرحة الغري - لعبد الكريم بن طاووس.

٦٧

الملوك والأمراء والوزراء والأشراف من وجوه الشيعة من الأموال والمجوهرات في خزانة الروضة المطهّرة، وأنفقه على العسكر، واعتذر بأنّ القبر لا يحتاج إلى الخزانة(1) ، إلاّ أنّه لم يتعرّض للبناء ولم يمسّه؛ لقصور يده، وضعف شأنه لا لشيء آخر.

وكان البناء الذي شيّد في عهد المنتصر قد سقط في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين ومئتين(2) ، فقام إلى تجديده محمّد بن زيد القائم بطبرستان في خلافة المعتضد بالله العباسي(3) لسنة ثلاث وثمانين ومئتين(4) ، وقد أخذ حال القبر الشريف منذ تشييد المنتصر إيّاه بالعروج إلى مدارج العمران يوماً بعد يوم حيث أمن الناس من إتيانه واتخاذ الدور عند رمسه.

وقد زار القبر عضد الدولة بن بويه سنة (370 هـ) بعد أن بالغ في تشييد الأبنية حول الضريح وزخرفتها(5) ، وكان آل بويه يناصرون الشيعة.

وقد استحفل التشيّع على عهدهم حتّى إنّ معزّ الدولة أمر سنة 352 بإقامة المآتم في عاشوراء، وكان ذلك أوّل مأتم أُقيم في بغداد.

____________________

(1) المناقب - لابن شهر آشوب، وكان ذلك سنة 511 هـ.

(2) فرحة الغري / 61.

(3) جاء في بحر الأنساب (العائد لخزانة المرحوم الشيخ عبد الحسين شيخ العراقيين الطهراني) عند ذكره لنسب المعتضد بالله العباسي بقوله: وأمر بعمارة مشهد الغري بالكوفة ومشهد كربلاء، وافتقد الخزائن بدار الخلافة، فأخرج منها ما وجده من نهب الواثق من مال مشهد الحسين بن علي (عليه السّلام) وأعاده إليه.

(4) فرحة الغري، وكان محمّد بن زيد هذا دائم التصدّق على العلويِّين في المشاهد؛ فقد بعث في خلافة المعتضد بالله اثنين وثلاثين ألف دينار لمحمد بن ورد ليفرّقها على العلويِّين. (انظر الكامل 6 / 80، والطبري 12 / 346).

(5) تسلية المجالس - لمحمد المجدي (بالفارسية)، طبع حجر.

٦٨

(وعندما عفا عضد الدولة عن عمران بن شاهين البطائحي بنى الرواق المشهور برواق عمران بن شاهين في المشهدين الشريفين الغروي والحائري (على مشرفهما السّلام»(1) .

وفي سنة سبع وأربعمئة هجـ احترق الحرم الشريف إثر اندلاع حريق عظيم كان سببه إشعال شمعتين كبيرتين سقطتا في الليل على التأزير واحترق، وتعدّت النار بعد الحرق القبة إلى الأروقة(2) ، فكان البناء على القبر الشريف بعد وقوع هذا الحريق ما وصفه الطنجي في رحلته، إلاّ أنّي لم أقف على خبر مَنْ شيّد هذا البناء، وفي أيّ تاريخ كان ذلك(3) ، ولعله كان قد تبقى شيء من البناء الذي

____________________

(1) فرحة الغري / 67.

(2) الكامل - لابن الأثير 9 / 110 ط ليدن، و7 / 295 من ط القاهرة، والمنتظم - لابن الجوزي 7 / 283، البداية - لابن كثير 12 / 4، والنجوم الزاهرة - لابن تغري بردى 4 / 241.

(3) ذكر كلّ من العلاّمة السيد حسن الصدر الكاظمي في نزهة الحرمين / 35، والعلامة السيد محسن الأمين العاملي في أعيان الشيعة 4 / 302، ومن أخذ عنهما، أنّ أبا محمّد الحسن بن الفضل بن سهلان وزير سلطان الدولة البويهي هو الذي جدّد بناء الحائر بعد وقوع هذا الحريق، لكن المصادر التي عوّلوا عليها لم تنسب إلى ابن سهلان هذا سوى بناء سور الحائر وليس تجديد بنائه، كما في المنتظم 7 / 283، والبداية والنهاية 12 / 16، ومجالس المؤمنين / 211، والنجوم الزاهرة 4 / 259.

هذا فضلاً عن أنّ ابن سهلان بدأ ببناء سور الحائر في سنة 400 هـ، أيّ قبل وقوع الحريق بسبعة أعوام، وهي نفس السنة التي أمر ببناء سور على مشهد أمير المؤمنين(عليه السّلام). (الكامل 7 / 249. ط القاهرة).

فقد ورد في المنتظم 7 / 246: وفي جمادى الأولى (سنة 400 هجـ) بدأ ببناء السور على المشهد بالحائر، وكان أبو محمّد الحسن بن الفضل بن سهلان قد زار هذا المشهد، وأحبّ أن يؤثر فيه مؤثراً، ثمّ ما نذر لأجله أن يعمل عليه سوراً حصيناً مانعاً؛ لكثرة مَنْ يطرق الموضع من العرب، وشرع في قضاء هذا النذر، ففعل وعمل السور، وأحكم وعرض، ونصبت عليه أبواب وثيقة وبعضها حديد، وتمّم وفرغ منه، وتحسّن المشهد به، وحسن الأثر فيه. (عادل).

٦٩

شيّده عضد الدولة، إلى أن شيّد عليه البناء الموجود اليوم على القبر الشريف، أو إنّه قد جدّده بعد الحريق أخلاف عضد الدولة؛ إذ كانت دولتهم قائمة عند وقوع الحريق.

هذا وكان إكمال بناء الحرم في سنة سبع وستين وسبعمئة، وقد أمر بتشييده السلطان أويس الإيلكاني، وأتمّه وأكمله ولده السلطان حسين(1) .

____________________

(1) زينة المجالس - لمحمد المجدي (مخطوط) باللغة الفارسية / 84، والمجدي من معاصري الشيخ البهائي، وقد صنّف كتابه هذا سنة 1004 هجـ، فقد جاء فيه: إلى أن أمر السلطان أويس الإيلكاني، وابنه السلطان حسين ببناء عمارة عالية.

وللسيد المؤلّف (عبد الحسين) ملاحظة مهمة في هذا الخصوص، خطر لي أن أثبتها هنا، يقول: ذكر سماحة السيد محسن الأمين العاملي في المجلد 3 / 593، من أعيان الشيعة، قال فضيلته عن آخر كتاب الأماقي في شرح الإيلاقي لعبد الرحمن العتايقي الحلّي المجاور بالنجف الأشرف، في نسخته المخطوطة في خزانة العلوية الذي تمّت كتابته في محرّم سنة 755 هجـ، قال: (في هذه السنة احترقت الحضرة الغروية (صلوات الله على مشرّفها)، وعادت العمارة وأحسن منها في سنة 760 سبعمئة وستون). انتهى.

أقول: هذا الحريق هو الذي ذكره ابن مهنا الداودي في العمدة / 5، ولكنّه لم يذكر اسم المجدّد للبناء الذي شيّد على الروضة المطهّرة الحيدرية، حيث المدّة تقارب زمن البناء الذي قام به السلطان أويس، وولده السلطان حسين الإيلكانية في سنة (767) على قبر الحسين (سلام الله عليه) الموجود اليوم على الروضة الطاهرة.

من المقتضي أن يكون السلطان حسين الإيلكاني هو منفرداً أقام البناء على الروضة الطاهرة الحيدرية، وبالخاصة لموقع قبورهم التي ظهرت في سنة الخامس عشر بعد الثلاثمئة والألف هـ وسط الصحن الشريف ما يلي باب الطوسي، أحد أبواب الصحن الشريف، في القسم الشمالي من الروضة الزاكية؛ إذ ظهر سرب فيه ثلاثة قبور على أحدهم في القاشاني مرقوم (توفي الشاهزاده الأعظم معزّ الدين عبد الواسع في 15 جمادى الأوّل سنة 790)، وعلى لوح القبر الثاني (هذا ضريح الطفل الصغير سلالة السلاطين الشاهزادة ابن الشيخ أويس (طاب ثراه). توفي يوم الأربعاء حادي عشر محرّم الحرام سنة إحدى وثلاثين وثمانمئة).

وعلى لوح القبر الثالث (هذا قبر الشاهزادة سلطان بايزيد (طاب ثراه). توفي في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وثمانمئة هلالية)، وعلى قبر آخر (هذا قبر المرحومة السعيدة بايندة السلطان).

وقد ابتدأ حكم الأسرة الإيلكانية الجلائرية في بغداد وآذربايجان بعد موت أبي سعيد بن أولجياتو محمّد خدابنده بقليل بالشيخ حسن الكبير، تقريباً بين سنة تسع وثلاثين وسبعمئة، أو سنة الأربعون، وكانت وفاته سنة 757 هـ، ثمّ تلاه في الحكم ولده السلطان أويس سنة 757 هـ، وتوفي سنة 776 هـ، ثمّ تلاه ولده السلطان حسين من سنة 776 هـ، إلى أن توفي في سنة 784 هـ، ثمّ تلا السلطان حسين أخوه السلطان أحمد الجلائري ابن أويس، إلى أن قُتل في تبريز بين سنة ثلاث عشرة وثمانمئة وأربع عشرة، وبه تقريباً انتهت أيامهم.

٧٠

وكان تاريخ هذا البناء موجوداً فوق المحراب الذي موضعه اليوم الرخام المنعوت بنخل مريم(1) فيما يلي الرأس الشريف، وقد شاهد ذلك التأريخ بنفسه محمّد بن سليمان بن زوير السليماني، وذكره في كتابه المسمّى بـ (الكشكول).

وقد كان إنزال هذا التاريخ سنة السادس عشر بعد المئتين والألف (1216)، ومن موضعه، عند عمل المرايا والتزيينات للحرم الشريف بأمر محمّد علي خان القواينلو كما تشير إلى ذلك الكتابة

____________________

(1) جاء في كتاب (دلائل الدين) تأليف عبد الله ابن الحاج هادي ما ترجمته: روى عن السجّاد (عليه السّلام): أنّ الله تعالى ذكر في القرآن أنّ السيدة مريم (عليها السّلام) عندما أرادت أن تلد ابنها المسيح ابتعدت عن قومها، وذهبت إلى كربلاء - بصورة معجزة - بجنب نهر الفرات، وقد ولد المسيح قرب مكان ضريح الحسين (عليه السّلام)، وفي نفس الليلة عادت السيدة مريم إلى دمشق.

ومصداق هذا الخبر ما ورد عن الباقر (عليه السّلام) - على ما أتذكر - أنّ صخرة على مقربة من قبر الحسين نُصبت في الحائط قد أجمع ساكنوا هذا المقام على أنّ الرأس الشريف قد حزّ على هذه الصخرة، ويقولون أنّ المسيح قد ولد على نفس تلك الصخرة أيضاً.

٧١

الموجودة في أعلى الباب الثالث من أبواب الحرّم المقابل للشبكة المباركة: (واقفه محمّد علي خان القواينلو سنة 1216) هـ.

وكذلك هذا التأريخ موجود بعينه في الكُتيبة القرآنية داخل القبّة على الضريح المقدّس، وفي سنة 920 هـ أهدى الشاه إسماعيل الصفوي صندوقاً(1) إلى القبر الشريف،

____________________

(1) عندما دخل الشاه إسماعيل الصفوي الأوّل - مؤسس الدولة الصفوية في إيران والذي يرتقي نسبه إلى الإمام السابع موسى بن جعفر (عليه السّلام) - بغداد فاتحاً سنة 914 هـ كان همّه الأول هو التبرّك بزيارة أجداده الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام)، فقصد زيارة مرقد الحسين (عليه السّلام)، وعمل ثوباً حريرياً لقبره الشريف، وعلّق اثنى عشر قنديلاً من الذهب أطراف القبر، وفرش تلك الحضيرة القدسية بالبسط، وجلّله بأنواع الحرير والإستبرق، وبذل الأموال الكثيرة لللائذين بقبره الشريف، ثمّ خرج قاصداً النجف الأشرف. (وقد ترجم النص المتقدّم العلاّمة المؤلّف عن (حبيب السير) لخواند مير بالفارسية - مخطوط في 3 مجلدات في مكتبة المؤلّف سنة 1008 هـ).

وقد جاء أيضاً في (عالم آراى عباسي) لإسكندر منشي جـ 2 عن زيارة هذا الشاه ما ترجمته: توجه الشاه من بغداد إلى تربة كربلاء بعد إخلاص النيّة، وتشرّف بزيارة مرقد الحسين المنوّر وشهداء كربلاء، وقد زيّن الروضة وأنعم على المجاورين، ثمّ توجه من هناك إلى زيارة علي المرتضى (عليه السّلام) عن طريق الحلّة. راجع أيضاً فارسنامه ناصري 1 / 93.

وزار كربلاء أيضاً الشاه عباس الأول الصفوي، فقد جاء في فارسنامه ناصري ما ترجمته: غادر الشاه عباس الأول الصفوي أصفهان في سنة 1033 هجري متجهاً نحو بغداد، وفي غرّة ربيع الأوّل من نفس السنة دخل بغداد فاتحاً...، ثمّ توجه إلى النجف الأشرف في محرّم الحرام، وعلى بعد (30) كيلو متر ترجّل عن فرسه وخلع نعله، وأنعم على كافة سكنة النجف، وتوجه بعد ذلك مسروراً فرحاً إلى زيارة كربلاء وطاف بالبقعة الطاهرة، ثمّ أقفل راجعاً إلى بغداد وزار الإمامين الكاظمين وسامراء.

وفي ربيع هذه السنة أعاد الكرّة لزيارة كربلاء والنجف الأشرف، وقبل أعتاب هاتين الحضرتين أدّى لوازم الزيارة، وأهدى من الصناديق القيمة والطنافس الحريرية المطرّزة والديباج الشيء الكثير، ورجع مقفلاً إلى بغداد، وأعاد الزيارة مرّة أخرى إلى الروضة الحسينيّة.

وانظر أيضاً =

٧٢

ولم يرد ما يهمّ خبره من أخلافه الصفوية إلاّ الإقدام بأمور طفيفة لا مجال لذكرها، إلاّ أنّه بلغني - ولم أتثبّت من ذلك أنّ الشاه سليمان الصفوي قام ببناء القسم الشمالي من الصحن المطهّر، والإيوان الكبير الذي فيه المسمّى (بصافي صفا) نسبة إلى الصفويِّين، وليس اليوم في هذا الإيوان دليل على ذلك سوى إنّ الكاشي المعرّق الموجود في سقف هذا الإيوان، والزخارف المعمولة من البورق فيه يستدل منها أنّ بناء هذه الجهة أقدم بناء من الجهات الثلاث للصحن الشريف، فضلاً عن أنّ نقوش الكاشي المعرّق وصنعتها تشبه إلى حدّ كبير نقوش الكاشي المعرّق الموجود في روضة الجوادين (سلام الله عليهما)، وحرم حضرة الرضا (عليه السّلام)، ومقبرة خواجه ربيع، والقدم كاه.

وقد كان في حواشي الكاشي المعرّق الموجود في جنبتي هذا الإيوان - الشرقي والغربي - كُتيبة تنص على اسم الباني وتأريخ بنائه، ولكن مع مرور الزمن تلف واندرس أثره، ومع شديد الأسف لم يسعَ أحد بعد

____________________

= عالم آراي عباسي، وهناك مصدر لا بدّ من الإشارة إليه في هذا الخصوص هو (تاريخ دهامر الألماني) الذي تُرجم من اللغة الفرنسية إلى الفارسية باسم: سلطان التواريخ، في تاريخ سلاطين آل عثمان، يقع في ثلاث مجلدات ضخام، تحتوي على 72 باباً، ينتهي به مؤلفه إلى آخر عهد عبد الحميد الأول العثماني، بعد حرب الروس والأتراك وعقد معاهدة (كنارجة).

وفي سنة 1034 هـ أعاد السلطان مراد الرابع العثماني العراق إلى حوزة دولته، وفي 27 جمادى الأولى سنة 1039 هـ احتل بغداد مرّة أخرى الشاه صفي حفيد الشاه عباس الأول، وزار كربلاء في سنة 1048 هـ في يوم عيد، فقبّل أعتاب ضريح سيد الشهداء وأخيه العباس بعد أن أنذر النذور، وأكرم ذوي الحاجة. (روضة الصفاي ناصري المجلد الثامن).

وفي سنة 1156 هـ توجه نادر شاه من النجف الأشرف إلى تقبيل أعتاب الحسين (عليه السّلام) الذي حرمه مطاف ملائكة الرحمن، وقدّمت زوجته رضية سلطان بيكم كريمة الشاه سلطان حسين الصفوي عشرين ألف نادري لتعمير جامع الحرم الشريف (التاريخ النادري).

٧٣

ذلك لإرجاع هذا النص التأريخي المهم إلى موضعه.

وعندما أرادوا دفن ميرزا موسى الوزير فيه(1) عملوا موضعية الكُتيبة

____________________

(1) وقد شيّد هذا الإيوان الكبير في سنة 1281 هـ من قبل المرحوم ميرزا موسى وزير طهران، لتكون مقبرة له ولعائلته، وقد جدّد المرايا والكُتيبة القرآنية، وزوّق جدرانها الداخلية بالكاشي النفيس.

وقد نظم الشاعر (قلزم) الذي كان من الشعراء الشهيرين في تلك الفترة، هذه القصيدة بالمناسبة:

اي نمودار حريمت حرم عرش برين

ظـل دركـاهت خـركه زده بر عليين

قـدسيان بسته بفرمان تو از عرش كمر

آسمان سوده در ايوان تو بر فرش جبين

بـوده دارلـت شـاهنشه اقـليم شهود

بـيشكا رانـت فـرمان ده سرحد يقين

ظل خركاه تو را قبله كند روح القدس

خاك دركاه تو را سجده برد حور العين

از ازل تـاج شـهادة جه نهادي بر سر

شـد ترا ملك شفاعت همه در زير نكين

از بـهاي كـهر باك تو اين توده خاك

كعبه دين شود وشد سجده كه أهل زمين

إلى أن يقول:

قـصة طـور كـليم الله فاخلع نعليك

هـمه از خاك درت مظهر آيات مبين

عكس از شمسه ايوان تو شد شمس فلك

بر تو اوبر همه كون مكان كشت مكين

سـاكـنان حـرم وجـلال مـلكوت

هـه بـرخاك رهـت بايد خاك نشين

=

٧٤

الموجودة اليوم من المرايا، رُقمت بهذه الآية:( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً

____________________

=

بـهر فـراشي حجابت هر شام وسحر

قيصر أز روم كمر بندى وفقفور أز جين

إلى أن يقول:

اين هـمان وادى دوروا تـش شـوق

صـه جـه موسى باميد قبسي خاك نشين

انـدرين عـهد هـمايون از فـو ظـفر

رايـت دولـت اسـلام بر از جرخ برين

شـاه شـاهان جهان ظل خدا كهف زمان

خـسرو مـلك مـلل بـادشاه دولت ودين

شـهـر بـازيكه زأواز كـوي سـخطش

تـااب درشـده در جـحمه كـوه طـنين

مـير فـرخنده نـزادى زد راوكـه بـود

افـتـاب فـلك ورفـعت كـوه وتـمكين

داشـت جـون كوهري آراسته نور صفا

كـرد ايـن صـفه ايـوان صفارا ترين

دولت نـاصرى وسـعى امـام مـلت

أنـدرين عـهد بـود مـحيي آثار جنين

افـتـخار فـضلا قـبله أربـاب فـلاح

بـيشواى دو جـهان بـادشاه شرع مبين

انـكه از بـندكي صـاحب روضـه باك

شـده بـرخا جـكي علم ازل صدر تشين

جون زفيض كف موسى شد اين طور صفا

..........................................

كـلك قـلزم بي تاريخ سخنور شده وكفت

بـا كـف مـوسى آراسـته طـور سنين

٧٥

وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ... ) .

هذا وقام السلطان مراد الرابع العثماني سنة ثمان وأربعين وألف بتعمير وتجديد القبّة السامية، وجصّصها من الخارج(1) .

وفي سنة 1135 هـ نهضت زوجة نادر شاه وكريمة حسين الصفوي إلى تعمير المسجد المطهّر، وأنفقت على ذلك عشرين ألف نادري.

وقام أغا محمّد خان (الخصي) مؤسس الدولة القاجارية في إيران بتذهيب القبّة السامية للسنة السابعة بعد المئتين والألف الهجرية(2) .

وقد نظم بهذه المناسبة الميرزا سليمان خان المشهور بصباحي الشاعر، مؤرّخاً هذا التذهيب بقوله:

كلك صباحي از اين تاريخ أونوشت

در كبند حسين علي زيب بافت زر

1207 هـ

____________________

(1) لم نعثر على مصدر هذا الخبر، ولكنّه قد جاء في كلشن خلفاء (ص 102 وجه) لنظمي زاده بالتركية: أنّ الوالي علي باشا الوند زادة، بأمر من السلطان مراد الثالث العثماني قد جدّد بناء جامع الحسين وقبّته المنوّرة، وذلك سنة 984 هـ.

وقد أرّخ هذا البناء أحد الشعراء المشهورين بأبيات مطلعها:

بـحمد الله كه از عون الهي

نـموده خـدمت شاه شهيدان

شه كشور ستان خاقان اعظم

مـراد بن سليم ابن سليمان

وقد وهم الأستاذ حسن الكليدار في كتابه (مدينة الحسين / 38) إذ ذكر أنّ هذه الأبيات قد قيلت بمناسبة تشييد القبّة من قبل مراد الرابع العثماني، إلاّ أنّ الصحيح ما ذكرناه. (عادل)

(2) مجلد القاجارية من ناسخ التواريخ - للسان الملك سبيهر / 33 سنة 1206 هـ.

٧٦

وفي أوائل القرن التاسع عشر (1214هـ) أهدى فتح علي شاه القاجاري - أحد ملوك إيران - شبكة فضية(1) ، وهي إلى اليوم موجودة على القبر الشريف، وحوالي هذا التاريخ أمرت زوجته بتذهيب المأذنتين حتّى حدّ الحوض.

وفي سنة 1259 هـ قام محمّد علي شاه - ملك أود - سلطان الهند بتذهيب الإيوان الشريف وصياغة بابه بالفضة.

ويوجد اليوم على الفردة اليمنى من باب الفضة في إيوان الذهب: (هو الله الموفّق المستعان، قد أمر بصنع هذا الباب المفتوح لرحمة الملك المنان، وبإتمام تذهب هذا الإيوان الذي هو مختلف ملائكة الرحمن، وبحفر الحسينيّة وبناء قناطرها التي هي معبر أهل الجنان).

وعلى الفردة الثانية، الجانب الأيسر تتمته: (وتعمير بقعة قدوة الناس مولانا وسيدنا أبو الفضل العباس، السلطان ابن السلطان، والخاقان ابن الخاقان، السلطان الأعظم والخاقان الأكرم، سلطان الهند، محمّد على شاه (تغمّده الله بغفرانه، وأسكنه فسيح جناته)، وكان ذلك في سنة 1259 هـ ألف ومئتين وتسعة وخمسين).

وقام بعد ذلك أمراء الأكراد البختيارية إلى تزيين المسجد والأروقة، وقد وسع الضلع الغربي من الصحن الشريف، وجدّد بناءه المتغمّد برحمته المرحوم الشيخ عبد الحسين الطهراني(2) (شيخ العراقين) من قبل شاه

____________________

(1) مجلد القاجارية من ناسخ التواريخ / 63.

(2) جاء في مستدرك الوسائل - للعلاّمة النوري 3 / 397 في ترجمة الشيخ عبد الحسين الطهراني: (شيخي وأستاذي ومَنْ إليه في العلوم الشرعية استنادي، أفقه الفقهاء، وأفضل العلماء، العالم الرباني، الشيخ عبد الحسين الطهراني... حتّى يقول: وجاهد في الله في محو صولة المبتدعين، وأقام أعلام الشعائر في العتبات العاليات، وبالغ مجهوده في عمارة القباب الساميات).

وقد توفي في الكاظمية في 22 شهر رمضان سنة 1286 هـ، ونُقل إلى كربلاء، ودُفن في إحدى حجرات الصحن الحسيني.

٧٧

إيران ناصر الدين شاه القاجاري سنة 1275 هـ، وشيّد إيوانه الكبير وحجر جهتيه.

وقد أنشد الشيخ جابر الكاظمي الشاعر الكبير مؤرّخاً لهذا البناء بالفارسية يقول:

بـنائي ناصر الدين شاه بنا كرد

زخـاك أوست بائين كاخ خضرا

نه صحن وكنبدي جرخي مكوكب

زنـور أو مـنور روي غـبرا

بـراي كـشوار عـرش يـعني

حـسين بـن عـلي دلبند زهرا

بـناي سـال أو جابر همي كوي

أز ايوان شـكست كـسرى

بكو تأريخ ايوانش مؤرخ 1275 هـ

وله تأريخ بالعربية:

لـله إيوانٌ سما رفعةً

فطاول العرشَ به الفرشُ

قال لسانُ الغيب تأريخه

أنت لأملاك السما عرشُ

ولم يحدث بعد ذلك ما يهمّ ذكره سوى ما جدّدت إنشاءه إدارة الأوقاف في العهد الأخير، في القسم الغربي من الصحن؛ لظهور الصدع فيه.

وفي المشهد الحسيني عدّة نقوش وكتابات تدلّ على تواريخ إصلاحه والزيارات فيه؛ ففي أعلى عمود وسط الضلع الجنوبي من شبكة الفولاد المنصوبة على قبر الحسين (عليه السّلام) ما يقابل الوجه الشريف، هذه العبارة: (مَنْ بكى وتباكى على الحسين فله الجنّة صدق الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سنة 1185 هـ).

وما يقابل الزوايا الأربعة من القبر الشريف عبارة: (واقفه الموفّق بتوفيقات الدارين، ابن محمّد تقي خان اليزدي محمّد حسين سنة 1222 هـ).

٧٨

ويوجد في الإيوان الخارج من جدار الرواق الغربي المقابل للشبكة المباركة في الكاشي، فوق الشباك: (عمل أوسته أحمد المعمار سنة 1296 هـ).

ويستفاد من أبيات منظومة بالفارسية فوق شباك المقبرة الشمالية المقابلة للضريح أنّه بمباشرة الحاج عبد الله ابن القوام على نفقة الحاج محمّد صادق التاجر الشيرازي الأصفهاني الأصل، قد قام بتكميل تعمير سرداب الصحن الحسيني، وتطبيق الأروقة الثلاثة الشرقي والشمالي والغربي بالكاشي في سنة ألف وثلاثمئة الهجرية.

إيضاح ما يوجد في خارطة كربلاء من المواقع

أنهار كربلاء

(النهرين): فرعان يشتقان من عمود الفرات، ويتصلان ببعضهما في قرية نينوى في جوار الحاير الحسيني، ويتجهان إلى الشمال الشرقي إلى الكوفة معاً على سبيل توحيد وتفرد؛ وللفارق يعرفان بنهري كربلاء، يتوضّح على ضوء ما سرده أبو الفرج في المقاتل(1) ، ونورد بين قوسين ما تفرّد بإيراده صاحب الدرّ النظيم(2) :

قال أبو الفرج: لمّا قُتل زيد بن علي دفنه ابنه يحيى، تفرّق عنه الناس ولم يبقَ معه إلاّ عشرة نفر. قال سلمة بن ثابت: قلت له: أين تريد؟

قال: أريد النهرين. ومعه الصياد العبدي.

قلت: إن كنت تريد النهرين فقاتل ها هنا حتّى تُقتل.

قال: اُريد نهري كربلاء (وظننت أنّه يريد أن يتشطط الفرات)، فقلت له: النجاء قبل الصبح. فخرجنا فلمّا

____________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 61 ط القاهرة.

(2) الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم - لجمال الدين الشامي جـ 2 خط.

٧٩

جاوزنا الأبيات سمعنا الأذان، فخرجنا مسرعين، فكلّما استقبلني قوم استطعمتهم فيطعموني الأرغفة، فأطعمه إيّاها وأصحابي حتّى أتينا نينوى، فدعوت سابقاً فخرج من منزله ودخله يحيى، ومضى سابق إلى الفيوم فأقام به.

(فلمّا خرجنا من الكوفة سمعنا أذان المؤذنين فصلّينا الغداة بالنخيلة، ثمّ توجهنا سراعاً قبل نينوى، فقال: اُريد سابقاً مولى بشر بن عبد الملك. فأسرع السير إلى أن انتهينا إلى نينوى وقد أظلمتنا، فأتينا منزل سابق فاستخففت الباب فخرج إلينا).

وذكر ابن كثير في البداية(1) عن محمّد بن عمرو بن الحسن قال: كنّا مع الحسين بنهري كربلاء. وأورد ابن شهر آشوب في المناقب: مضى الحسين قتيلاً يوم عاشوراء بطفّ كربلاء بين نينوى والغاضرية من قرى النهرين(2) .

قال الطبري(3) بعد مهادنة أهل الحيرة لخالد بن الوليد في مفتتح الفتح، وخضوع الدهاقين لأداء جزية وضريبة، وزع بينهم العمال؛ ولتمهيد الأمن أقام مخافر عهد بعمالة النهرين إلى بشر بن الخصاصية، فاتخذ بشر الكويفة ببابنورا قاعدة لعمالته.

وذكر عند حوادث سنة 278 هـ(4) ابتداء أمر القرامطة: وردت الأخبار بحركة قوم يعرفون بالقرامطة بسواد الكوفة، فكان ابتداء أمرهم قدوم رجل من خوزستان، ومقامه بموضع يُقال له: النهرين، يظهر الزهد والتقشّف، ويسفّ الخوص ويأكل من كسبه، ويكثر الصلاة.

إذا قعد إليه إنسان ذكّره أمر الدين، وزهده في الدنيا، وأعلمه أنّ الصلاة المفروضة

____________________

(1) ج 8 / 188.

(2) المناقب 4 / 83، ط بمبي.

(3) ج 4 / 17، ط ليدن.

(4) ج 8 / 159، ط الاستقامة.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

حيث يشير القرآن الكريم في الآيات المباركة إلى هذه السنّة التاريخية وتعميمها لتشمل الآباء والإخوان ، كما في قوله تعالى ومن آبائهم وذريتهم وإخوانهم ، وكذلك ما ورد في سورة مريم عندما تحدث القرآن عن عدد من الأنبياء ، وهم إبراهيم وبعض ذريته ، وإدريس من قبل إبراهيم ، وبعد ذلك يذكر القانون العام في الذرية( أُولئِكَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِنَ النّبِيّينَ مِن ذُرّيّةِ آدَمَ وَمِمّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى‏ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرّحْمنِ خَرّوا سُجّداً وَبُكِيّاً ) (١) ، ويشير القرآن الكريم إلى هذا المعنى عندما يتحدث عن نوح وإبراهيم ، وأنّه تعالى جعل في ذريّتهما النبوّة ، قال تعالى :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرّيّتِهِمَا النّبُوّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) (٢) .

وغيرها من الموارد الكثيرة التي لا يسع المجال لاستعراضها .

وبعد أن اتضح أنّ هذه سنّة إلهية تحكم مسيرة وحركة الأنبياء ، ويبرز لنا عنوان آخر في عدد من الآيات القرآنية ، ولعلّه يعد السبب الرئيس من وراء جعل هذه السنّة في حركة الأنبياء وكونهم من ذرية واحدة ، وهو ما تحدث عنه القرآن الكريم في مناسبات متعددة ، ذلك هو الاصطفاء والاجتباء .

ما هو الاصطفاء ؟

الاصطفاء لغة هو الاختيار والاجتباء ، فمعنى اصطفاهم أي جعلهم

ـــــــــــــ

(١) مريم : ٥٨ .

(٢) الحديد : ٢٦ .

٣٠١

صفوة خلقه ، كما في قوله تعالى لموسىعليه‌السلام :( قَالَ يَا مُوسَى‏ إِنّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى الْنّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ ) (١) ، وقال في إبراهيمعليه‌السلام :( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبصَارِ * إِنّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ * وَإِنّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ ) (٢) ، فالاصطفاء يمثّل ظاهرة واضحة في حركة الأنبياء ، كما جاء ذلك أيضاً في قوله تعالى :( إِنّ اللهَ اصْطَفَى‏ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٣) ، فنلاحظ أنّ الله تعالى اصطفى آدم اصطفاءً واختياراً خاصاً ثم اختار نوحاً ، ثم اختار إبراهيم وآل إبراهيم ثم عمران ، وآل عمران مضافاً إلى تأكيد القرآن الكريم إنّ هذا الاختيار والاصطفاء ليس أمراً واقفاً على هذه الأسماء وهذه الجماعات ، وإنّما هي قضية ذات امتداد في هذه الذرية( ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ) .

الاصطفاء والعدالة الإلهية

إنّ اصطفاء واختيار الله تعالى للأنبياء ، إنّما جاء وفقاً للعدالة الإلهية ووفقاً لقوله تعالى : ( وَأَن ليْسَ للإنسان إِلاّ مَا سَعَى ) (٤) و ( إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) (٥) إلاّ أنّ النقطة الجديرة بالالتفات ، هي أنّ الكيفية والآلية التي اختارهم الله عزّ وجلّ على أساسها ، إنّما جاءت نتيجة علمه تعالى بأن هؤلاء الأنبياء مطيعون له طاعة لا نظير لها دون غيرهم ، ويمتلكون إرادة واستعداداً خاصاً لتحمّل المسؤولية ، والفناء في ذات الله تعالى وإرادته ، بحيث يعجز غيرهم عن الوصول لما وصلوا إليه .

ـــــــــــــ

(١) الأعراف : ١٤٤ .

(٢) ص : ٤٥ ـ ٤٧ .

(٣) آل عمران : ٣٣ ـ ٣٤ .

(٤) النجم : ٣٩ .

(٥) الحجرات : ١٣ .

٣٠٢

إذن ، لعلمه تعالى السابق بهم وبكفاءتهم في تحمّل المسؤولية اصطفاهم واختارهم دون غيرهم من الناس ؛ لأنّه تعالى يعلم بأفعال المكلّفين قبل حصولها ؛ ولا ينافي ذلك اختيارهم كما هو واضح .

وعلى هذا الأساس ، فإنّ الله تعالى ، بعد علمه السابق بهم ، وأنّهم يفوقون غيرهم ، سوف يوليهم عناية خاصة لكي يكونوا قادرين على تحقيق ما كانوا مستعدين لتحقيقه .

ولا ريب أنّ هذا المنطق هو منطق عقلائي ، يمارسه العقلاء في حياتهم ، ألا ترى لو وجد بين طلاب مدرسة ، طالب يمتاز بنبوغ عال ، فهل من العدالة والإنصاف أن يترك مع بقية الطلبة ، ويعامل بمستواهم العلمي الذي يقلّ عن مستواه بمراتب ؟ طبعاً لا ، وإنّما من العدالة أن يحضى برعاية استثنائية ، ويُوفّر له من الإمكانيات ما يجعله قادراً على الإنتاج وتحقيق الغايات المرجوة من نبوغه بحسب قابليته ، بل لو كان لديك أولاد ، وكان لأحدهم نبوغ وكفاءة ، فالمنطق العقلائي يُحتم عليك أن توفّر وتهيّئ له الظروف وتهتم به وترعاه ، ومن الظلم له أن تتركه وتساويه مع غيره في العناية ؛ لأنّ قوام العدل وأساسه ليس التساوي ، وإنّما هو إعطاء كل ذي حق حقّه ، فمن حق الذي تتوفّر فيه القابلية والكفاءة أن تهيّئ له ما يستلزم استثمار كفاءته واستعداده .

وعلى ضوء هذا نجد أنّ الله تعالى أولى عناية خاصة بالأنبياء والمرسلين ، لعلمه السابق تعالى بهم وبقابليتهم على طاعته بتلك الدرجة دون غيرهم ، بل نجد الآن في علم الهندسة الوراثية أنّهم يدرسون جينة الشخص ؛ ليتمكنوا من تشخيص قابلياته ، ومعرفة كفاءته واستعداده ليضعوه في الموضع المناسب ، وأنّه هل له قدرة على القيادة والعطاء أم لا ؟ وهذا هو منهج الاصطفاء .

الذرية الصالحة للأنبياء عناية إلهية

من الواضح أنّ الوراثة والأبوّة والجدودة من الأمور التي لها نوع تأثير ومدخلية على تركيبة وشخصية الإنسان ومزاجه ، بما ينسجم مع عالم الدنيا المادي الذي نعيش فيه ؛ ولذلك شاء الله تعالى لهؤلاء الأنبياء والمرسلين والأئمة الذين اصطفاهم واختارهم أن يجعلهم من ذرية صالحة وأرحام مطهّرة ، وهذا ما نلمسه في روايات متضافرة في هذا الصدد .

٣٠٣

تقلّبهم في الأرحام المطهّرة

وهو ما يسمّى بأخبار الطينة والأصلاب المطهّرة ، فقد أخرج بن مردويه عن ابن عباس ، قال : سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : بأبي أنت وأمي أين كنت وآدم في الجنة ؟ فتبسّم حتى بدت نواجذه ، ثم قال :( إنّي كنت في صلبه وهبط إلى الأرض وأنا في صلبه ، وركبت السفينة في صلب أبي نوح ، فقذفت في النار في صلب أبي إبراهيم ، لم يلتق أبواي قط على سفاح ، لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيّبة إلى الأرحام الطاهرة ، مصفّى مهذباً ، لا تتشعب شُعبتان إلاّ كنت في خيرهما ، قد أخذ الله بالنبوّة ميثاقي ، وبالإسلام هداني ، وبيّن في التوراة والإنجيل ذكري ، وبيّن كل شيء من صفتي في شرق الأرض وغربها ، وعلّمني كتابه في سمائه ، وشق لي من أسمائه ، فذو العرش محمود وأنا محمد ، ووعدني أن يحبوني بالحوض وأعطاني الكوثر ، وأنا أوّل شافع وأوّل مشفّع ، ثم أخرجني في خير قرون أُمّتي ، وأُمّتي الحمادون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) (١) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( ما بال أقوام ينتقصون عليّاً ، مَن تنقّص عليّاً فقد تنقّصني ، ومَن فارق عليّاً فقد فارقني وإنّ عليّاً منّي وأنا منه ، خلق من طينتي وخلقت من طينة إبراهيم وأنا أفضل من إبراهيم ، ذريّة بعضها من بعض ، والله سميع عليهم ) (٢) .

وعن رسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( خُلقت أنا وهارون ابن عمران ويحيى بن زكريا وعلي بن أبي طالب من طينة واحدة ) (٣) .

أبعاد أُخرى

إذن ظاهرة اختيار واصطفاء الأنبياء والمرسلين والأئمّة ، وجعلهم في ذرية واحدة ، لا ينحصر أثرها في عناية الله تعالى بهم وجعلهم في أصلاب وأرحام مطهّرة فحسب ، وإنّما نجد لهذه الظاهرة أبعاداً وأهدافاً أخرى ذات أهمية فائقة ، منها :

ـــــــــــــ

(١) الدر المنثور ، السيوطي : ج ٦ ص ٣٣٢ ؛ تاريخ مدينة دمشق ابن عساكر: ج ٣ ص ٤٠٨ ، وكذلك البداية والنهاية ، ابن كثير : ج ٢ ص ٣١٨ ، وكذلك اليرة النبوية : ابن كثير : ج ١ ص ١٩٦ .

(٢) مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٢٨ .

(٣) تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : ج ٦ ص ٥٦ ؛ تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ٤٢ ص ٦٣ .

٣٠٤

أوّلاً : البعد التاريخي

وهذا واضح كما في اختيار الله تعالى أوصياء الأنبياء ، حيث نجد أنّ اختياره تعالى للأوصياء يتركّز على أولئك المقرّبين للأنبياء من أقاربهم أو ذراريهم ممّن يرتبطون بالنبي أو الرسول القائد ارتباطاً نسبياً ، كما في قوله تعالى :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرّيّتِهِمَا النّبُوّةَ وَالْكِتَابَ ) (١) وغيرها من الآيات(٢) .

ثانياً : البعد الرسالي

ونقصد بذلك ما يترتّب على الذرية الصالحة للأنبياء من تحقيق مصالح الرسالة ، وإعداد الأفراد المؤهّلين للقيام بمهامّها وتحمّل أعبائها الثقيلة ؛ وذلك لأنّ عُمر الرسول ـ عادة ـ يكون أقصر من عمر الرسالة ، ومن ثمّ يحتاج إلى مَن يقوم بتحمّل أعبائها ومسؤولياتها ، وهذا إنّما يحتاج إلى إعداد يتناسب مع طبيعة وحكم هذه الأعباء والمسؤوليات الضخمة ، ولا ريب أنّ الإعداد الأفضل والأكمل لا يتم إلاّ في داخل البيت الرسالي ، ومن الأفراد الذين انحدروا من صاحب الرسالة الذين لم يروا النور إلاّ في كنفه وفي إطار تربيته ، دون غيرهم من الأفراد الذين يفتقرون إلى الكفاءة والاستعداد ، وإن كانوا من نفس ذرية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في قوله تعالى :( وَإِذِ ابْتَلَى‏ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (٣) .

ـــــــــــــ

(١) الحديد : ٢٦ .

(٢) الأنعام : ٨٣ ـ ٨٧ .

(٣) البقرة : ١٢٤ .

٣٠٥

ما هي حقيقة وراثة الأنبياء ؟

على ضوء ما سلف آنفاً يتضح أنّ وراثة الأنبياء أعم من الوراثة المتعارفة ، فهي شاملة لوراثة العلم والنور والملك ، ومن هنا نجد الفخر ، الرازي يفسّر آية( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ) (١) على أنّها أعمّ من وراثة النبوّة والمال حيث قال : ( الله تعالى جعل سبب الإرث فيمن يرث الموت على شرائط ، وليس كذلك النبوّة ؛ لأنّ الموت لا يكون سبباً لنبوة الولد فمن هذا الوجه يفترقان ، وذلك لا يمنع من أن يوصف بأنّه ورث النبوة لما قام به عند موته ، كما يرث الولد المال إذا قام به عند موته ) ، ثم ذكر وجوهاً عديدة لشمول الإرث للمال والنبوّة والمقامات الرسالية ، إلى أن قال : ( فبطل بما ذكرنا قول مَن زعم أنّه لم يرث إلاّ المال )(٢) .

فمن أبرز ما يورث في أُسرة التوحيد بين الأنبياء والمرسلين والأئمّة هو العلم ، ولا يخفى ما في العلم من فضل ومزية ، ولذا فإنّ الفخر الرازي في ذيل الآية المباركة :( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ للهِ‏ِ الّذِي فَضّلَنَا عَلَى‏ كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) (٣) ، قال : ( في الآية دليل على علوّ مرتبة العلم ؛ لأنّهما أوتيا من الملك ما لم يؤت غيرهما ، إن تلك الفضيلة ليست إلاّ ذلك العلم )(٤) .

وبهذا يتبيّن أنّ الأنبياء والمرسلين والأئمّة وراثتهم نورية ، فضلاً عن الوراثة المتعارفة ، وأن أبرز شيء متوارث فيما بينهم هو العلم والنبوة والحكمة ، كما في قوله تعالى :( ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) قال الثعلبي في مراثي المجالس في آية( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد ) : ( يعني نبوّته وحكمته وملكه ) .

ـــــــــــــ

(١) النمل : ١٦ .

(٢) التفسير الكبير ، للفخر الرازي : المجلد الثاني عشر ج ٢٤ ص ١٨٧ .

(٣) النمل : ١٥ .

(٤) التفسير الكبير ، الفخر الرازي : المجلّد الثاني عشر : ج ٢٤ ص ١٨٦ .

٣٠٦

أهل البيتعليهم‌السلام ورثة الأنبياء

وحيث إنّ أهل البيتعليهم‌السلام من تلك الشجرة المباركة ، ومن أسرة التوحيد ، ومن تلك الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة المصطفاة المجتباة المتمثّلة بالأنبياء والمرسلين ، وعلى رأسهم سيّدهم وأفضلهم نبيّنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهمعليهم‌السلام ورثة الأنبياء وممّن اصطفاهم واختارهم واجتباهم الله سبحانه وتعالى لسابق علمه بطاعتهم وحبّهم وفنائهم في ذات الله تعالى .

وإليك نموذجاً من الشواهد الروائية المؤكّدة لوراثة أهل البيتعليهم‌السلام للأنبياء :

١ ـ الإمام علي وذرّيتهعليهم‌السلام وارثو رسول الله

ففي المناقب للخوارزمي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند المؤاخاة أنّه قال :( والذي بعثني بالحق ما أخّرتك إلاّ لنفسي فأنت عندي بمنزلة هارون من موسى ووارثي ، فقال :يا رسول الله ما أرث منك ؟ قال :ما ورثت الأنبياء ، قال :وما أورثت الأنبياء قبلك ؟ قال :كتاب الله وسنة نبيّهم ) (١) .

وفي ينابيع المودّة ، عن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام قال :قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يا

ـــــــــــــ

(١) المعجم الكبير ، الطبراني: ج ٥ ص ٢٢١ ؛ وذكره ابن حبان في الثقات : ج ١ ص ١٤٢؛ تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر: ج ٢١ ص ٤١٥، ج ٤٢ ص ٥٣؛ مناقب الخوارزمي : ص ١٥٢ .

٣٠٧

علي أنت أخي ووارثي ووصيي ، محبّك محبّي ، ومبغضك مبغضي ، يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأُمّة ، يا علي أنا وأنت والأئمّة من ولدك سادات في الدنيا وملوك في الآخرة ، مَن عرفنا فقد عرف الله عزّ وجلّ ، ومَن أنكرنا فقد أنكر الله عزّوجلّ ) (١) .

وعن أبي ذررضي‌الله‌عنه أنّه قال :

( أيّها الناس مَن عرفني فقد عرفني ، ومَن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري ، أنا جندب بن جنادة الربذي ، إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض ، والله سميع عليم ، محمد الصفوة من نوح ، فالأوّل من إبراهيم ، والسلالة من إسماعيل ، والعترة الهادية من محمد ، إنّه شرف شريفهم ، واستحقوا الفضل في قوم هم فينا كالسماء المرفوعة وكالكعبة المستورة ، أو كالقبلة المنصوبة ، أو كالشمس الضاحية ، أو كالقمر الساري ، أو كالنجوم الهادية ، أو كالشجر الزيتونية أضاء زيتها ، وبورك زبدها ، ومحمد وارث علم آدم وما فضل به النبيون ، وعلي بن أبي طالب وصيّ محمد ، ووارث علمه ، أيّتها الأمة المتحيّرة بعد نبيها ! أما لو قدّمتم مَن قدّم الله ، وأخّرتم مَن أخّر الله ، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم لأكلتم من فوق رؤوسكم ، ومن تحت أقدامكم ، ولما عال ولي الله ، ولا طاش سهم من فرائض الله ، ولا اختلف اثنان في حكم الله ، إلاّ وجدتم على ذلك عندهم من كتاب الله وسنّة نبيّه ، فأمّا إذ فعلتم ما فعلتم ، فذوقوا وبال أمركم ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )(٢) .

ـــــــــــــ

(١) ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ١ ص ٣٧٠ .

(٢) تاريخ اليعقوبي ، اليعقوبي : ج ٢ ص ١٧١ .

٣٠٨

٢ ـ الأنبياء يقرّون بولاية على وذرّيتهعليهم‌السلام

أخرج الحاكم الحسكاني في شواهده : ( إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة أُسري به جمع الله تعالى بينه وبين الأنبياء ، ثم قال : سلهم يا محمد على ماذا بُعثتم ؟ [ فسألهم ] فقالوا : بُعثنا على شهادة أن لا إله إلا الله ، وعلى الإقرار بنبوّتك ، والولاية لعلي بن أبي طالب )(١) .

وأخرج أيضاً عن أنس أنّه قال : ( قلنا لسلمان : سل النبي مَن وصيّه فقال له سلمان : يا رسول الله مَن وصيّك ، قال :( يا سلمان مَن كان وصيّ موسى ؟ فقال : يوشع بن نون قال :فإنّ وصيّي ووارثي يقضي ديني وينجز موعودي علي بن أبي طالب ) (٢) .

وعن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :( إنّ الفضل والشرف والمنزلة والولاية لرسول الله وذرّيته فلا تذهب بكم الأباطيل ) (٣) ، ونحوها من الروايات الكثيرة .

وهذه الروايات فيها دلالة صريحة على وراثة الإمام علي وأهل البيتعليهم‌السلام لعلم النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن الواضح أنّ إقرار الأنبياء بولاية الإمام عليعليه‌السلام يستلزم كونه حامل علم الأنبياءعليهم‌السلام وإلاّ فلا معنى لكونه وليّاً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣ ـ أهل البيتعليهم‌السلام ورثة الكتاب

لقد وردت جملة من الروايات تؤكّد على أنّ أهل البيتعليهم‌السلام هم ورثة الكتاب الكريم .

ـــــــــــــ

(١) شواهد التنزيل : الحاكم الحسكاني : ج ٢ ص ٢٢٤ .

(٢) المصدر نفسه : ج ١ ص ٩٩ .

(٣) ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ١ ص ٧٨ .

٣٠٩

منها : ما أخرجه السيوطي في تفسيره عن قتادة في قوله تعالى :( إِنّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) قال : ( هم أهل بيت طهّرهم الله من السوء واختصهم برحمته ، قال : وحدّث الضحاك بن مزاحم أنّ نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول :نحن أهل بيت طهّرهم الله ، من شجرة النبوّة ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة وبيت الرحمة ومعدن العلم )(١) .

ومنها : ما أخرجه الحاكم الحسكاني في شواهده ، عن الحرث ، قال سألت أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام عن هذه الآية:( فَسْأَلُوا أَهْلَ الذّكْرِ ) قال :( والله إنّا أهل الذكر ، ونحن أهل العلم ، ونحن معدن التأويل والتنزيل ، وقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، فمَن أراد العلم فليأت من بابه ) (٢) .

ومنها : ما ورد عن عبد الله بن أعين قال : سمعت جعفر الصادقعليهم‌السلام يقول :( قد ولدني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أعلم كتاب الله ، وفيه بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة ، وفيه خبر السماء وخبر الأرض ، وخبر الجنة وخبر النار ، وخبر ما كان وخبر ما يكون ، وأنا أعلم ذلك كلّه كأنّما أنظر إلى كفّي ، وأنّ الله يقول : ( تِبْيَاناً لِكُلّ شَيْ‏ءٍ ) ويقول تعالى : ( ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) فنحن الذين اصطفانا الله جلّ شأنه ، وأورثنا هذا الكتاب ، فيه تبيان لكل شيء ) (٣) .

ـــــــــــــ

(١) الدر المنثور ، السيوطي : ج ٦ ص ٦٠٦ .

(٢) شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : ج ١ ص ٤٣٢ .

(٣) ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ١ ص ٨١ .

٣١٠

ومنها : ما جاء عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه قال :( لا يقاس بآل محمد صلّى الله عليه من هذه الأمة أحد ، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً ، هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصيّة والوراثة ، الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله ) (١) .

ومنها : ما في ينابيع المودّة عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال :( ونحن مستودع مواريث الأنبياء ونحن العلم المرفوع للحق ) (٢) .

وغيرها من الروايات التي لا يسع المجال لذكرها ، ولا يخفى ما في دلالتها على أنّ أهل البيتعليهم‌السلام ورثة علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن هنا نجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكّد على بيان منزلة أهل البيت وفضلهم في الأُمّة ، كما في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ الفضل والشرف والمنزلة والولاية لرسول الله وذرّيّته فلا تذهبنّ بكم الأباطيل ) (٣) .

أعلميّة أهل البيت في القرآن الكريم

من الأدلة القرآنية على أعلمية أهل البيتعليهم‌السلام مضافاً إلى ما تقدّم :

قوله تعالى :( كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) (٤) .

ففي هذه الآية المباركة يبيّن الله تعالى لرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيفية الإجابة والمحاججة مع الكفّار الذين ينكرون نبوّته ورسالته ، بقوله تعالى :( وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) حيث لقّن الله تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام إثبات نبوّته بأن يستشهد بشهادتين :

ـــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي حديد : ج ١ ص ٣٠ .

(٢) ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ١ ص ٧٧ .

(٣) نظم درر السمطين ، الزرندي : ص ٢٠٨ ؛ ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ١ ص ٧٨، ج ٢ ص ٤٥، ٣٨٢، ٤٦٥ .

(٤) الرعد : ٤٣ .

٣١١

الشهادة الأُولى : وهي شهادة الله تعالى :( قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) وأنّه تعالى هو الذي أوحى إليه القرآن الكريم ، وأنّه معجزة خالدة ، وهذه شهادة إلهية عظيمة لا تعدلها شهادة ، ولا يضر معها جحود هؤلاء الكافرين .

الشهادة الثانية : شهادة من عنده علم الكتاب:( قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) فجعل شهادة الذي عنده علم الكتاب لإثبات رسالته وصحّة دعوته ، وكفى بهذه الشهادة كرامة وفضلاً ، لاقترانها بشهادة الله تعالى .

ولكي نقف على عظمة هذه الشهادة ينبغي التعرّف على حقيقة علم الكتاب :

حقيقة علم الكتاب

لمعرفة حقيقة علم الكتاب ينبغي أن نقف متأمّلين قليلاً عند قوله تعالى :( قَالَ يَا أَيّهَا الملأ أَيّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مّنَ الْجِنّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مّقَامِكَ وَإِنّي عَلَيْهِ لَقَوِيّ أَمِينٌ * قَالَ الّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذَا مِن فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ أَم أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنّ رَبّي غَنِيّ كَرِيمٌ ) (١) .

فإنّ هذه الآية المباركة تبيّن أنّ وصي سليمانعليه‌السلام كان عنده بعض علم الكتاب وليس علم الكتاب كلّه ، كما هو واضح من قوله :( قَالَ الّذِي عِندَهُ عِلْمٌ منَ الْكِتَابِ ) حيث إنّ ( من ) في الآية الكريمة تبعيضية ، أي عنده بعض علم الكتاب ، وبهذا البعض من العلم من الكتاب كان لوصي سليمان ( آصف بن برخيا ) القدرة على الإتيان بعرش بلقيس من سبأ في اليمن إلى بيت المقدس في أقل من طرفة عين ، فكيف بمَن عنده علم الكتاب كلّه ؟!

ـــــــــــــ

(١) النمل: ٣٨ ـ ٤٠ .

٣١٢

حدود علم الكتاب

وُصِف الكتاب في القرآن الكريم بأنّه يحتوي على كل شيء ، قال تعالى :( وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلّ شَيْ‏ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى‏ لِلْمُسْلِمِينَ ) (١) .

وكلمه ( شيء ) في الآية مفهوم مطلق لا يوجد أعم منه ، فلا يخرج من هذا التعميم مخلوق من الأزل إلى الأبد ، لا سيّما مع ملاحظة أنذ الشيء في الآية جاء مشفوعاً بكلمة ( كل ) التي تؤكّد العموم ، إذن الكتاب بيان لكل شيء .

ومن البديهي أنّ هذا الضرب من العلم بالكتاب الذي تشير إليه الآية الكريمة آنفة الذكر : ( قَالَ الّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ ) والآية المباركة : ( قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَاب ) (٢) أنّ هذا العلم ليس هو العلم المتعارف بين الناس المسمّى بالعلم الحصولي ، بل هو سنخ آخر من العلم ميزته أنّ لصاحبه القدرة على التصرّف بنظام التكوين ، وبواسطته استطاع وصي سليمان ـ الذي عنده علم من الكتاب ـ أن يأتي بعرش بلقيس من سبأ إلى بيت المقدس في أقلّ من طرفة عين .

ـــــــــــــ

(١) النحل : ٨٩ .

(٢) الرعد : ٤٣ .

٣١٣

مَن الذي عنده علم الكتاب ؟

استفاضت الروايات ، واحتشدت دلالاتها على أنّ المراد بمَن عنده علم الكتاب في الآية :( قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَاب ) أنّه الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقد جاءت هذه الشواهد الروائية بألسنة مختلفة ملتقية في نقطة واحدة ، وهي أنّ الذي عنده علم الكتاب في الآية هو علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، منها :

الإمام عليعليه‌السلام أحصى علم كلّ شيء

١ ـ أخرج القندوزي في ينابيع المودّة بسنده عن الحسين بن عليعليه‌السلام :لما نزلت هذه الآية : ( وَكُلّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) قالوا يا رسول الله هو التوراة أو الإنجيل أو القرآن ؟ قال : ( لا ، فأقبل أبي عليه‌السلام فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا هو الإمام الذي أحصى الله فيه علم كل شيء ) (١) .

٢ ـ أخرج الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ، في هذا المجال ستة أحاديث عن ابن عباس ، وأبي صالح ، والإمام الباقرعليه‌السلام ومحمد بن الحنفية ، وأبي سعيد الخدري ، نكتفي بنقل حديث واحد منها ، وهو ما جاء عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري قال : ( سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قول الله تعالى :( وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) قال :ذاك أخي علي بن أبي طالب )(٢) .

ـــــــــــــ

(١) ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ١ ص ٢٣٠ .

(٢) شواهد التنزيل ، الحسكاني عبد الله بن أحمد : ج ١ ص ٤٠٠ ـ ٤٠٥ .

٣١٤

٣ ـ أخرج أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره حديثين ، الأول عن ابن عبد الله بن عطاء أنّه قال : ( كنتُ جالساً مع أبي جعفر في المسجد فرأيت ابن عبد الله بن سلام جالساً في ناحية ، فقلت : لأبي جعفر : زعموا أنّ الذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام ، فقال :إنّما ذلك علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، والثاني ؛ عن أبي عمر زاذان ، عن أبن الحنفية : (( وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) ، قال : هو علي بن أبي طالب )(١) .

٤ ـ أخرج القرطبي في تفسيره ، عن عبد الله بن عطاء أنّه قال : ( قلت : لأبي جعفر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، زعموا أنّ الذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام ، فقال : (إنّما ذلك علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وكذلك قال محمد بن الحنفية )(٢) .

٥ ـ أخرج الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتابه ( ما نزل من القرآن في عليعليه‌السلام ، عن إسماعيل بن سليمان : عن [محمّد] بن الحنفية في قوله عزّ وجلّ :( قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) قال : ( هو علي بن أبي طالبعليه‌السلام )(٣) .

٦ ـ قال الآلوسي في تفسيره : ( قال محمد بن الحنفية ، والباقر كما في البحر : المراد بـ ( من ) ، علي (كرّم الله تعالى وجهه) ، الظاهر أنّ المراد بالكتاب حينئذٍ القرآن ، ولعمري إنّ عندهرضي‌الله‌عنه علم

ـــــــــــــ

(١) الكشف والبيان ، الثعلبي أبو إسحاق أحمد : ج ٥ ص ٣٠٣ ـ ٣٠٢ .

(٢) الجامع الأحكام القرآن ، القرطبي محمد بن أحمد : ج ٩ ص ٣٣٦ .

(٣) النور المشتعل من كتاب ما نزل من القرآن في عليعليه‌السلام ، الأصبهاني ؛ أحمد بن عبد الله بن أحمد (أبو نعيم) : ص ١٢٥ ؛ تحقيق محمد باقر المحمودي .

٣١٥

الكتاب كملاً )(١) ! .

٧ ـ ابن مردويه(٢) روى في كتابه ( مناقب علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، عن ابن عباس في قوله تعالى :( وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) قال : ( هو علي بن أبي طالب )(٣) .

اختصاص أهل البيتعليهم‌السلام بعلم الكتاب

بعد أن اتضح أنّ الذي عنده علم الكتاب هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام بمقتضى الروايات الآنفة الذكر ، فهنالك عدّة آيات قرآنية تشير إلى اختصاص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيتعليهم‌السلام علم الكتاب فضلاً عن الروايات الصحيحة ، ومن جملة هذه الآيات ما يلي :

أولاً : قوله تعالى :( وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلّ شَيْ‏ءٍ ) (٤) ، وقوله تعالى :( مَا فَرّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْ‏ءٍ ) ، حيث دلّت هاتان الآيتان على أنّ القرآن فيه تبيان كل شيء ، ثم إنّنا لو سألنا القرآن الكريم عن سبب وجود الاختلافات الكثيرة بين المسلمين مع أنّ القرآن الكريم موجود بين أيديهم ؟ لأجابنا بأنّ هذا الكتاب الذي فيه تبيان لكل شيء يحمله ثلّة

ـــــــــــــ

(١) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، الآلوسي : ج ١٣ ص ١٧٦ .

(٢) قال الذهبي في حقّه : ابن مردويه الحافظ ، المجوّد ، العلاّمة ، محدّث أصبهان ، كان من فرسان الحديث ، فهماً يقظاً متقياً كثير الحديث جداً ، ومن نظر في تواليفه عرف محلّه من الحفظ ، راجع : الذهبي : سير أعلام النبلاء : ج ١٧ : ص ٣٠٨ ـ ٣٠٩ .

(٣) مناقب علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، الأصبهاني ؛ ابن مردويه أحمد بن موسى : ص ٢٦٨ ؛ جمعه وقد له عبد الرزاق محمد حسين حرز الدين .

(٤) النحل : ٨٩ .

٣١٦

مطهّرة من الأمة ، وهم الثقل الآخر للقرآن الكريم بتعبير حديث الثقلين وهو :( إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً ) وهذا الحديث متواتر سنداً ومضموناً ، وصريح من حيث الدلالة على أنّ أهل البيتعليهم‌السلام هم الثقل الآخر في الأمة ، وأنّهم عِدل للقرآن ، وهذا المعنى يلتقي مع قوله تعالى ـ الذي يدلنا على مكان وموضع علم الكتاب ـ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ فِي صُدُورِ الّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاّ الظّالِمُونَ ) (١) ولم يدّعِ أحد من المسلمين أنّه عنده علم ما في القرآن إلاّ همعليهم‌السلام لا يفترقون عنه إلى قيام الساعة ، فقد ورد عن عمر أنّه قال : ( سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ قوله تعالى :( وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) ، وسمعته يقول :( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ فِي صُدُورِ الّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) ، وقد أثبتنا أنّ الذي عنده علم الكتاب هو الإمام علي وولدهعليهم‌السلام وهذه دلالة واضحة على أنّ المراد بـ( صُدُورِ الّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) هم أهل بيت النبيعليهم‌السلام وفي مقدّمتهم أمير المؤمنينعليه‌السلام .

ثانياً : قوله تعالى :( إِنّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسّهُ إِلاّ الْمُطَهّرُونَ ) .

ولأجل أن نتفهّم الآية المباركة ينبغي بيان مقدّمة تساهم في الوصول إلى المطلوب : وملخّص هذه المقدّمة : هي أنّ لكلّ شيء أربعة وجودات :

الوجود الأوّل : وهو الوجود الكتبي مثل كتابة ( زيد ) .

الوجود الثاني : الوجود اللفظي كما لو تلفّظنا بكلمة ( زيد ) فقط .

الوجود الثالث : الوجود الذهبي كوجود صورة زيد في ذهننا .

الوجود الرابع : الوجود الخارجي وهو وجود زيد حقيقة في الخارج .

ـــــــــــــ

(١) العنكبوت : ٤٩ .

٣١٧

والقرآن الكريم لا يخرج عن هذه الحقيقة التكوينية ، فهو له أربعة وجودات أيضاً ، فوجوده اللفظي هو القرآن المصوت به ، وكذا له وجود كتبي وهو هذه النسخة الشريفة الموجودة والتي لها أحكام شرعية خاصة بها .

ووجوده الذهني الذي هو عبارة عن تدبّر معانيه السامية ، والتأمّل فيها ، وهي ما دعانا الباري تعالى إلى التدبّر والتأمّل فيها .

ووجوده الخارجي هو نفس حقيقة القرآن الكريم ، وهي التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى :( لَوْ أَنزَلْنَا هذَا الْقُرْآنَ عَلَى‏ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ ) ، فتصدع الجبل لا يحصل بوجود القرآن اللفظي أو الكتبي بتلاوته أو كتابته أو وضعه على الجبل ، ولا بوجود القرآن الذهني بل تصدّع الجبل فيما إذا نزلت حقيقة القرآن الخارجية على الجبل ، وهذا هو ما نصّت عليه الآية المباركة .

وبعد أن اتضحت هذه المقدمة وهي أنّ للقرآن حقيقة خارجية تكوينية سامية ، فإنّ هذه الحقيقة لا يمكن أن يصل إليها إلاّ المطهّرون ، كما في قوله تعالى :( إِنّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسّهُ إِلاّ الْمُطَهّرُونَ ) ومعنى ( مكنون ) أي محفوظ ؛ ولذا قال الراغب الأصفهاني في مفرداته في معنى قوله تعالى: (( لا يَمَسّهُ إِلاّ الْمُطَهّرُونَ ) أي لا يبلغ حقائق معرفته إلاّ مَن طهّر نفسه وتنقّى من درن الفساد )(١) .

ـــــــــــــ

(١) المفردات في غريب القرآن ، الراغب : ص ٣٠٨ .

٣١٨

مَن هم المطهّرون ؟

لقد بادر القرآن الكريم لبيان ماهية وحقيقة المطهّرين ، وأنّهم أهل البيتعليهم‌السلام ، قال تعالى :( إِنّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، وقد بيّن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في روايات متضافرة بأنّ المطهّرين هم أهل بيتهعليهم‌السلام ، ومن هذه الروايات :

١ ـ ما ورد عن عبد الله بن جعفر لمّا نظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الرحمة هابطة قال :( ادعوا لي ، ادعوا لي ، فقالت صفية : مَن ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أهل بيتي : عليّاً وفاطمة والحسن والحسين ، فجيء بهم فألقى عليهم كساءه ، ثم رفع يديه ، ثم قال :اللّهمّ هؤلاء آلي فصلّ على محمد وعلى آل محمد ، وأنزل الله عزّ وجلّ ،( إِنّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ) ، [قال الحاكم] : ( هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وقد صحّت الرواية على شرط الشيخين ، أنّه علّمهم الصلاة على أهل بيته كما علّمهم الصلاة على آله )(١) .

٢ ـ ما ورد عن أبي سلمة : فدعا حسناً وحسيناً ، وفاطمة ، فأجلسهم بين يديه ، ودعا عليّاً فأجلسه خلفه فتجلّل هو وهم بالكساء ، ثم قال :( هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ) (٢) .

ومنها : ما رواه ابن كثير في تفسيره قال : ( حدثنا شداد بن عمار قال دخلت على واثلة بن الأسقع رضي الله عنه ، وعنده قوم فذكروا عليّاً رضي

ـــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ : ص ١٤٨ .

(٢) جامع البيان ، الطبري : ج ٢٢ : ص ١٢ ؛ المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٩ : ص ٢٦ ؛ شواهد التنزيل : الحاكم الحسكاني : ج ٢ : ص ١٢٠ ؛ تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ١٤ ص ١٤٥ .

٣١٩

الله عنه فشتموه ، فشتمته معهم ، فلمّا قاموا قال لي شتمت هذا الرجل ؟ قلت : قد شتموه فشتمته معهم ، ألا أخبرك بما رأيت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قلت : بلى ، قال : أتيت فاطمة رضي الله عنها أسألها عن علي رضي الله عنه ، فقالت توجّه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجلست أنتظره ، حتى جاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه علي وحسن وحسين رضي الله عنهم آخذاً كل واحد منهما بيده حتى دخل فأدنى علياً وفاطمة رضي الله عنهما وأجلسهما بين يديه ، وأجلس حسناً وحسيناً رضي الله عنهما كل واحد منهما على فخذه ثم لفّ عليهم ثوبه ، أو قال : كساءه ، ثم تلىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية( إِنّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، وقال :اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحق )(١) .

٣ ـ وعنه أيضاً في رواية أخرى عن أُمّ سلمة قالت : ( فأخذصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضل الكساء فغطاهم به ، ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء ، ثم قال :اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، قالت ـ أم سلمة ـ : فأدخلت رأسي البيت ، فقلت وأنا معكم يا رسول الله ؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّك إلى خير ، إنك إلى خير )(٢) .

٤ ـ وفي رواية ثالثة عنها أيضاً قالت : ( فلمّا رآهم مقبلين مدّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده إلى كساء كان على منامه ، فمدّه وبسطه ، وأجلسهم عليهم ، ثم أخذ بأطرف الكساء الأربعة بشماله فضمّه فوق رؤوسهم وأومأ به بيده اليمنى إلى ربّه ، فقال :اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي

ـــــــــــــ

(١) تفسير ابن كثير، ابن كثير : ج ٣ : ص ٤٩٢ .

(٢) المصدر نفسه : ج ٣ ص ٤٩٢ .

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361