الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء ١

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية15%

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 361

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 361 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 214023 / تحميل: 8507
الحجم الحجم الحجم
الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية

الأجوبة الوافية في رد شبهات الوهابية الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دهكده جهاني آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

محمّد البدر، آخر أئمة الزيديّة، فليرجع إلى كتابنا (بحوث في الملل والنحل). (1)

فكما قامت للزيديّة دولة في المغرب واليمن، فهكذا قامت دولة زيديّة في طبرستان بين الأعوام (250 - 360هـ)؛ حيث ظهر الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن زيد بن الحسين في طبرستان أيّام المستعين الله، وتمكّن من بسط نفوذه على طبرستان وجُرجان، وقام بعده أخوه محمّد بن زيد، ودخل بلاد الديلم عام 277هـ، ثُمَّ ملك طبرستان بعد ذلك الناصر للحق الحسن بن عليّ المعروف بالأطروش، وجاء بعده الحسن بن القاسم، وبعده محمّد بن الحسن بن القاسم المتوفّى 360هـ.

هذه إلمامة موجزة وضعتها أمام القارئ عن ثوّارهم ودولهم.

عقائد الزيديّة

لم يكن زيد الشهيد صاحب نهج كلامي ولا فقهي، فلو كان يقول بالعدل والتوحيد ويكافح الجبر والتشبيه، فلأجل أنّه ورثهما عن آبائه (عليهم السّلام)، وإن كان يفتي في مورد أو موارد، فهو يصدر عن الحديث الّذي يرويه عن آبائه.

نعم، جاء بعد زيد مفكّرون وعاة، وهم بين دعاة للمذهب، أو بناة للدولة في اليمن وطبرستان، فساهموا في إرساء مذهب باسم المذهب الزيدي، متفتّحين في الأُصول والعقائد مع المعتزلة، وفي الفقه وكيفيّة الاستنباط مع الحنفيّة، ولكن الصلة بين ما كان عليه زيد الشهيد في الأُصول والفروع وما أرساه

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 7/371 - 386.

٢٤١

هؤلاء في مجالي العقيدة والشريعة منقطعة إلاّ في القليل منهما.

ولا أُغالي إذا قلت: إنّ المذهب الزيدي مذهب ممزوج ومنتزع من مذاهب مختلفة في مجالي العقيدة والشريعة، ساقتهم إلى ذلك الظروف السائدة عليهم، وصار مطبوعاً بطابع مذهب زيد، وإن لم يكن له صلة بزيد إلاّ في القسم القليل.

ومن ثَمَّ التقت الزيديّة في العدل والتوحيد مع شيعة أهل البيت جميعاً، إذ شعارهم في جميع الظروف والأدوار رفض الجبر والتشبيه، والجميع في التديّن بذينك الأصلين عيال على الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، كما أنّهم التقوا في الأُصول الثلاثة: ـ

1 - الوعد والوعيد.

2 - المنزلة بين المنزلتين.

3 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - مع المعتزلة حيث أدخلوا هذه الأُصول في مذهبهم ورتّبوا عليه:

1 - خلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة، وحرمانه من الشفاعة؛ لأنّها للعدول دون الفسّاق.

2 - الشفاعة؛ بمعنى ترفيع الدرجة، لا الحطّ من الذنوب.

3 - الفاسق في منزلة بين المنزلتين؛ فهو عندهم لا مؤمن ولا كافر بل فاسق.

فاستنتجوا الأمرين الأوّلين من الأصل الأوّل، والثالث من الأصل الثاني.

٢٤٢

وأمّا الأصل الثالث، فهو ليس من خصائص الاعتزال، ولا الزيديّة، بل يشاركهم الإماميّة. هذه عقائدهم في الأُصول.

وأمّا الفروع فقد التفّت الزيديّة حول القياس والاستحسان والإجماع، وجعلوا الثالث بما هو هو حجّة، كما قالوا بحجيّة قول الصحابي وفعله، وبذلك صاروا أكثر فِرق الشيعة انفتاحاً على أهل السنّة.

ولكن العلامة الفارقة والنقطة الشاخصة الّتي تميّز هذا المذاهب عمّا سواه من المذاهب، ويسوقهم إلى الانفتاح على الإماميّة والإسماعيليّة، هو القول بإمامة عليّ والحسنين بالنصّ الجليّ أو الخفيّ عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، والقول بأنّ تقدّم غيرهم عليهم كان خطأ وباطلاً.

وها نحن نأتي برؤوس عقائدهم الّتي يلتقون في بعضها مع المعتزلة والإماميّة:

1 - صفاته سبحانه عين ذاته، خلافاً للأشاعرة.

2 - إنّ الله سبحانه لا يُرى ولا تجوز عليه الرؤية.

3 - العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها.

4 - الله سبحانه مريد بإرادة حادثة.

5 - إنّه سبحانه متكلّم بكلام، وكلامه سبحانه فعله: وهو الحروف والأصوات.

6 - أفعال العباد ليست مخلوقة لله سبحانه.

7 - تكليف ما يطاق قبيح، خلافاً للمجبّرة والأشاعرة.

8 - المعاصي ليس بقضاء الله.

٢٤٣

9 - الإمامة تجب شرعاً لا عقلاً، خلافاً للإمامية.

10 - النصّ على إمامة زيد والحسنين عند الأكثريّة.

11 - القضاء في فدك صحيح، خلافاً للإماميّة.

12 - خطأ المتقدّمين على عليّ في الخلافة قطعيّ.

13 - خطأ طلحة والزبير وعائشة قطعيّ.

14 - توبة الناكثين صحيحة.

15 - معاوية بن أبي سفيان فاسق لبغيه لم تثبت توبته.

هذه رؤوس عقائد الزيديّة استخرجناها من كتاب (القلائد في تصحيح الاعتقاد)، المطبوع في مقدّمة البحر الزخّار. (1)

فرق الزيديّة:

قد ذكر مؤرّخو العقائد للزيديّة فِرقاً، بين مقتصر على الثلاث، وإلى مفيض إلى ست، وإلى ثمان، منهم: الجاروديّة والسليمانيّة والبتريّة والنعيميّة، إلى غير ذلك من الفِرق، وبما أنّ هذه الفِرق كلّها قد بادت وذهبت أدراج الريح، مع بقاء الزيديّة في اليمن، ولا يوجد اليوم في اليمن بين الزيديّة من المفاهيم الكلاميّة المنسوبة إلى الفِرق كالجاروديّة أو السليمانيّة أو البتريّة أو الصالحيّة إلاّ مفهوم واحد، وهو المفهوم العام الّذي تعرفت عليه، وهو القول بإمامة زيد والخروج

____________________

(1) البحر الزخّار: 52 - 96.

٢٤٤

على الظلمة، واستحقاق الإمامة بالطلب والفضل، لا بالوراثة، مع القول بتفضيل عليّ - كرم الله وجهه - وأولويتّه بالإمامة، وقصرها من بعده في البطنين الحسن والحسين.

وأمّا أسماء تلك الفِرق والعقائد المنسوب إليهم، فلا توجد اليوم إلاّ في بطون الكتب والمؤلَّفات في الفِرق الإسلاميّة كالمِلل والنحل ونحوها، فإذا كان الحال في اليمن كما ذكره الفضيل شرف الدين، فالبحث عن هذه الفِرق من ناحية إيجابيّاتها وسلبيّاتها ليس مهمّاً بعد ما أبادهم الدهر، وإنّما اللاّزم دراسة المفهوم الجامع بين فِرقهم.

٢٤٥

15

الإسماعيليّة

الإسماعيليّة فِرقة من الشيعة القائلة بأنّ الإمامة بالتنصيص من النبيّ أو الإمام القائم مقامه، غير أنّ هناك خلافاً بين الزيديّة والإماميّة والإسماعيليّة في عدد الأئمّة ومفهوم التنصيص.

فالأئمّة المنصوصة خلافتهم وإمامتهم بعد النبيّ عند الزيديّة لا يتجاوز عن الثلاثة: عليّ أمير المؤمنين (عليه السّلام)، والسبطين الكريمين: الحسن والحسين (عليهما السّلام)، وبشهادة الأخير أغلقت دائرة التنصيص وجاءت مرحلة الانتخاب بالبيعة كما تقدم.

وأمّا الأئمّة المنصوصون عند الإماميّة فاثنا عشر إماماً آخرهم غائبهم يظهره الله سبحانه عندما يشاء، وقد حوّل أمر الأُمّة - في زمان غيبته - إلى الفقيه العارف بالأحكام والسنن والواقف على مصالح المسلمين على النحو المقرّر في كتبهم وتآليفهم.

وأمّا الإمامة عند الإسماعيليّة فهي تنتقل عندهم من الآباء إلى الأبناء، ويكون انتقالها عن طريق الميلاد الطبيعي، فيكون ذلك بمثابة نصّ من الأب بتعيين الابن، وإذا كان للأب عدّة أبناء فهو بما أُوتي من معرفة خارقة للعادة يستطيع أن يعرف من هو الإمام الّذي وقع عليه النص، فالقول بأنّ الإمامة عندهم بالوراثة أولى من القول بالتنصيص.

٢٤٦

وعلى كلّ حال فهذه الفِرقة منشقّة عن الشيعة، معتقدة بإمامة إسماعيل بن جعفر بن الإمام الصادق (عليه السّلام)، وإليك نبذة مختصرة عن سيرة إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

الإمام الأوّل للدعوة الإسماعيليّة:

إنّ إسماعيل هو الإمام الأوّل والمؤسّس للمذهب، فوالده الإمام الصادق (عليه السّلام) غنيّ عن التعريف وفضله أشهر من أن يُذكر، وأُمّه فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن الحسين الّتي أنجبت أولاداً ثلاثة هم:

1 - إسماعيل بن جعفر.

2 - عبد الله بن جعفر.

3 - أُم فروة.

وكان إسماعيل أكبرهم، وكان أبو عبد الله (عليه السّلام) شديد المحبّة له والبرَّ به والإشفاق عليه، مات في حياة أبيه (عليه السلام) (بالعريض) وحمل على رقاب الرّجال إلى أبيه بالمدينة حتّى دفنه بالبقيع. (1)

استشهاد الإمام الصادق (عليه السّلام) على موته:

كان الإمام الصادق حريصاً على إفهام الشيعة بأنّ الإمامة لم تُكتب لإسماعيل، فليس هو من خلفاء الرسول الاثني عشر الّذين كُتبت لهم الخلافة والإمامة بأمر السماء وإبلاغ الرسول الأعظم.

____________________

(1) إرشاد المفيد: 284.

٢٤٧

ومن الدواعي الّتي ساعدت على بثّ بذر الشبهة والشكّ في نفوس الشيعة في ذلك اليوم؛ هو ما اشتهر من أنّ الإمامة للولد الأكبر، وكان إسماعيل أكبر أولاده، فكانت أماني الشيعة معقودة عليه، ولأجل ذلك تركّزت جهود الإمام الصادق (عليه السّلام) على معالجة الوضع واجتثاث جذور تلك الشبهة وأنّ الإمامة لغيره، فتراه تارة ينصّ على ذلك، بقوله وكلامه، وأُخرى بالاستشهاد على موت إسماعيل وأنّه قد انتقل إلى رحمة الله ولن يصلح للقيادة والإمامة.

وإليك نموذجاً يؤيّد النهج الّذي انتهجه الإمام لتحقيق غرضه في إزالة تلك الشبهة.

روى النعماني عن زرارة بن أعين، أنّه قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السّلام) وعند يمينه سيّد ولده موسى (عليه السّلام) وقدّامه مرقد مغطّى، فقال لي: «يا زرارة جئني بداود بن كثير الرقي وحمران وأبي بصير» ودخل عليه المفضّل بن عمر، فخرجت فأحضرت من أمرني بإحضاره، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد حتّى صرنا في البيت ثلاثين رجلا.

فلمّا حشد المجلس قال: «يا داود اكشف لي عن وجه إسماعيل»، فكشف عن وجهه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا داود أحيٌّ هو أم ميّت؟» ، قال داود: يا مولاي هو ميّت، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل، حتّى أتى على آخر من في المجلس، وانتهى عليهم بأسرهم، وكل يقول: هو ميّت يا مولاي، فقال: «اللّهم اشهد» ثُمَّ أمر بغسله وحنوطه، وإدراجه في أثوابه.

فلمّا فرغ منه قال للمفضّل: (يا مفضّل أحسر عن وجهه)، فحسر عن وجهه، فقال: «أحيُّ هو أم ميّت؟» فقال له: ميّت، قال(عليه السّلام): «اللّهم اشهد عليهم» ، ثُمَّ

٢٤٨

حمل إلى قبره، فلمّا وضع في لحده، قال: «يا مفضّل اكشف عن وجهه»، وقال للجماعة: (أحيّ هو أم ميّت؟)، قلنا له: ميّت، فقال: «اللّهم اشهد، واشهدوا فانّه سيرتاب المبطلون، يريدون إطفاء نور الله بأفواههم - ثُمَّ أومأ إلى موسى - والله متمّ نوره ولو كره المشركون»، ثُمَّ حثونا عليه التراب، ثُمَّ أعاد علينا القول، فقال: «الميّت، المحنّط، المكفّن المدفون في هذا اللحد من هو؟» قلنا: إسماعيل، قال: «اللّهم اشهد». ثُمَّ أخذ بيد موسى (عليه السّلام) وقال: «هو حقّ، والحقّ منه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها». (1)

هل كان عمل الإمام تغطية لستره؟

إنّ الإسماعيليّة تدّعي أنّ ما قام به الإمام الصادق (عليه السّلام) كان تغطية؛ لستره عن أعين العباسيّين، الّذين كانوا يطاردونه بسبب نشاطه المتزايد في نشر التعاليم الّتي اعتبرتها الدولة العباسيّة منافية لقوانينها. والمعروف أنّه توجّه إلى سلمية ومنها إلى دمشق فعلم به عامل الخليفة، وهذا ما جعله يغادرها إلى البصرة ليعيش فيها متستّراً بقيّة حياته.

مات في البصرة سنة 143هـ، وكان أخوه موسى بن جعفر الكاظم حجاباً عليه، أمّا وليّ عهده محمّد فكان له من العمر أربع عشرة سنة عند موته. (2)

ما ذكره أُسطورة حاكتها يدُ الخيال، ولم يكن الإمام الصادق (عليه السّلام) ولا أصحابه الأجلاّء، ممّن تتلمذوا في مدرسة الحركات السريّة، حتّى يفتعل موت ابنه بمرأى ومسمع من الناس وهو بعد حيّ يرزق، ولم يكن عامل الخليفة

____________________

(1) غيبة النعماني: 327، الحديث 8، ولاحظ؛ بحار الأنوار: 48/21.

(2) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 180.

٢٤٩

بالمدينة المنوّرة بليداً، يكتفي بالتمويه، حتّى يتسلّم المحضر ويبعث به إلى دار الخلافة العبّاسيّة.

والظاهر أنّ إصرارهم بعدم موت إسماعيل في حياة أبيه جعفر الصادق (عليه السّلام)، لأجل تصحيح إمامة ابنه عبد الله بن إسماعيل؛ حتّى يتسنّى له أخذ الإمامة من أبيه الحيّ بعد حياة الإمام الصادق (عليه السّلام).

لكن الحقّ أنّه توفّي أيّام حياة أبيه، بشهادة الأخبار المتضافرة الّتي تعرّفت عليها، وهل يمكن إغفال أُمّة كبيرة وفيهم جواسيس الخليفة وعمّالها؟!، وستْر رحيل إسماعيل إلى البصرة بتمثيل جنازة بطريقة مسرحيّة يُعلن بها موته، فإنّه منهج وأُسلوب السياسيّين المخادعين، المعروفين بالتخطيط والمؤامرة، ومن يريد تفسير فعل الإمام عن هذا الطريق فهو من هؤلاء الجماعة (وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح). وأين هذا من وضع الجنازة مرّات وكشف وجهه والاستشهاد على موته وكتابة الشهادة على كفنه؟!

والتاريخ يشهد على أنّه لم يكن لإسماعيل ولا لولَده الإمام الثاني، أيّة دعوة في زمان أبي جعفر المنصور ولا ولَده المهدي العبّاسي، بشهادة أنّ ابن المفضّل كتب كتاباً ذكر فيه صنوف الفِرق، ثُمَّ قرأ الكتاب على الناس، فلم يذكر فيه شيئاً من تلك الفِرقة مع أنّه ذكر سائر الفِرق الشيعيّة البائدة.

والحق إنّ إسماعيل كان رجلاً ثقة، محبوباً للوالد، وتوفّي في حياة والده وهو عنه راض، ولم تكن له أي دعوة للإمامة، ولم تظهر أي دعوة باسمه أيّام خلافة المهدي العبّاسي الّذي توفّي عام 169هـ، وقد مضى على وفاة الإمام الصادق (عليه السّلام) إحدى وعشرون سنة.

٢٥٠

الخطوط العريضة للمذهب الإسماعيلي

إنّ للمذهب الإسماعيلي آراء وعقائداً:

الأُولى: انتماؤهم إلى بيت الوحي والرسالة:

كانت الدعوة الإسماعيليّة يوم نشوئها دعوة بسيطة لا تتبنّى سوى: إمامة المسلمين، وخلافة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) واستلام الحكم من العباسيّين بحجة ظلمهم وتعسّفهم، غير أنّ دعوة بهذه السذاجة لا يُكتب لها البقاء إلاّ باستخدام عوامل تضمن لها البقاء، وتستقطب أهواء الناس وميولهم.

ومن تلك العوامل الّتي لها رصيد شعبي كبير هو ادّعاء انتماء أئمّتهم إلى بيت الوحي والرسالة وكونهم من ذريّة الرسول وأبناء بنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، وكان المسلمون منذ عهد الرسول يتعاطفون مع أهل بيت النبيّ، وقد كانت محبّتهم وموالاتهم شعار كلّ مسلم واع.

وممّا يشير إلى ذلك أنّ الثورات الّتي نشبت ضد الأُمويّين كانت تحمل شعار حبّ أهل البيت (عليهم السّلام) والاقتداء بهم والتفاني دونهم، ومن هذا المنطلق صارت الإسماعيليّة تفتخر بانتماء أئمّتهم إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى إذا تسلّموا مقاليد الحكم وقامت دولتهم اشتهروا بالفاطميّين، وكانت التسمية يومذاك تهزّ المشاعر وتجذب العواطف بحجّة أنّ الأبناء يرثون ما للآباء من الفضائل والمآثر، وأنّ

٢٥١

تكريم ذريّة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تكريم له (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فشتّان ما بين بيت أُسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوانه وبيت أُسّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم.

الثانية: تأويل الظواهر:

إنّ تأويل الظواهر وإرجاعها إلى خلاف ما يتبادر منها في عرف المتشرّعة هي السمة البارزة الثانية للدعوة الإسماعيليّة، وهي إحدى الدعائم الأساسيّة؛ بحيث لو انسلخت الدعوة عن التأويل واكتفت بالظواهر لم تتميّز عن سائر الفِرق الشيعيّة إلاّ بصرف الإمامة عن الإمام الكاظم (عليه السّلام) إلى أخيه إسماعيل بن جعفر، وقد بنوا على هذه الدعامة مذهبهم في مجالي العقيدة والشريعة، وخصوصاً فيما يرجع إلى تفسير الإمامة وتصنيفها إلى أصناف.

إنّ تأويل الظواهر والتلاعب بآيات الذكر الحكيم وتفسيرها بالأهواء والميول جعل المذهب الإسماعيلي يتطوّر مع تطوّر الزمان، ويتكيّف بمكيّفاته، ولا ترى الدعوة أمامها أي مانع من مماشاة المستجدات وإن كانت على خلاف الشارع أو الضرورة الدينيّة.

الثالثة: تطعيم مذهبهم بالمسائل الفلسفيّة:

إنّ ظاهرة الجمود على النصوص والظواهر ورفض العقل في مجالات العقائد، كانت من أهم ميّزات العصر العبّاسي، هذه الظاهرة ولّدت رد فعل عند أئمّة الإسماعيليّة، فانجرفوا في تيّارات المسائل الفلسفيّة وجعلوها من صميم

٢٥٢

الدّين وجذوره، وانقلب المذهب إلى منهج فلسفي يتطوّر مع تطوّر الزمن، ويتبنّى أُصولاً لا تجد منها في الشريعة الإسلاميّة عيناً ولا أثراً.

يقول المؤرّخ الإسماعيلي المعاصر مصطفى غالب: إنّ كلمة (إسماعيليّة) كانت في بادئ الأمر تدلّ على أنّها من إحدى الفِرق الشيعيّة المعتدلة، لكنّها صارت مع تطوّر الزمن حركة عقليّة تدلّ على أصحاب مذاهب دينيّة مختلفة، وأحزاب سياسيّة واجتماعيّة متعدّدة، وآراء فلسفيّة وعلميّة متنوّعة. (1)

الرابعة: تنظيم الدعوة:

ظهرت الدعوة الإسماعيليّة في ظروف ساد فيها سلطان العبّاسيّين شرق الأرض وغربها، ونشروا في كلِّ بقعة جواسيس وعيوناً ينقلون الأخبار إلى مركز الخلافة الإسلاميّة، ففي مثل هذه الظروف العصيبة لا يُكتب النجاح لكلّ دعوة تقوم ضدّ السلطة إلاّ إذا امتلكت تنظيماً وتخطيطاً متقناً يضمن استمرارها، ويصون دعاتها وأتباعها من حبائل النظام الحاكم وكشف أسرارهم.

وقد وقف الدعاة على خطورة الموقف، وأحسّوا بلزوم إتقان التخطيط والتنظيم، وبلغوا فيه الذروة؛ بحيث لو قُورنت مع أحدث التنظيمات الحزبيّة العصريّة، لفاقتها وكانت لهم القدح المعلّى في هذا المضمار، وقد ابتكروا أساليب دقيقة يقف عليها من سبر تراجمهم وقرأ تاريخهم، ولم يكتفوا بذلك فحسب بل جعلوا تنظيمات الدعوة من صميم العقيدة وفلسفتها.

____________________

(1) تاريخ الدعوة الإسماعيليّة: 14.

٢٥٣

الخامسة: تربية الفدائيّين للدفاع عن المذهب:

إنّ الأقلّية المعارضة من أجل الحفاظ على كيانها لا مناص لها من تربية فدائيّين مضحّين بأنفسهم في سبيل الدعوة؛ لصيانة أئمتهم ودعاتهم من تعرّض الأعداء، فينتقون من العناصر المخلصة المعروفة بالتضحية والإقدام، والشجاعة النادرة، والجرأة الخارقة ويكلّفون بالتضحيات الجسديّة، وتنفيذ أوامر الإمام أو نائبه، وإليك هذا النموذج:

في سنة 500 هـ فكّر فخر الملك بن نظام وزير السلطان سنجر، أن يُهاجم قلاع الإسماعيليّة، فأوفد إليه الحسن بن الصباح أحد فدائيّيه فقتله بطعنة خنجر، ولقد كانت قلاعه في حصار مستمر من قبل السلجوقيّين.

السادسة: كتمان الوثائق:

إنّ استعراض تاريخ الدعوات الباطنيّة السرّيّة وتنظيماتها رهن الوقوف على وثائقها ومصادرها الّتي تنير الدرب لاستجلاء كنهها، وكشف حقيقتها وما غمض من رموزها ومصطلحاتها، ولكن للأسف الشديد أنّ الإسماعيليّة كتموا وثائقهم وكتاباتهم ومؤلّفاتهم وكلّ شيء يعود لهم، ولم يبذلوها لأحد سواهم، فصار البحث عن الإسماعيليّة بطوائفها أمراً مستعصياً، إلاّ أن يستند الباحث إلى كتب خصومهم وما قيل فيهم، ومن المعلوم أنّ القضاء في حقّ طائفة استناداً إلى كلمات مخالفيهم خارج عن أدب البحث النزيه.

٢٥٤

السابعة: الأئمّة المستورون والظاهرون:

إنّ الإسماعيليّة أعطت للإمامة مركزاً شامخاً، وصنّفوا الإمامة إلى رُتب ودرجات، وزوّدوها بصلاحيّات واختصاصات واسعة، غير أنّ المهمَّ هنا الإشارة إلى تصنيفهم الإمام إلى مستور دخل كهف الاستتار، وظاهر يملك جاهاً وسلطاناً في المجتمع، فالأئمّة المستورون هم الّذين نشروا الدعوة سرّاً وكتماناً، وهم:

1 - إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

2 - محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الحبيب) (132 - 193هـ)، ولد في المدينة المنوّرة وتسلّم شؤون الإمامة واستتر عن الأنظار خشية وقوعه بيد الأعداء. ولقّب بالإمام المكتوم لأنّه لم يعلن دعوته وأخذ في بسطها خفية.

3 - عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الوافي) (179 - 212هـ)، ولد في مدينة محمّد آباد، وتولّى الإمامة عام 193هـ بعد وفاة أبيه، وسكن السلمية عام 194هـ مصطَحباً بعدد من أتباعه؛ وهو الّذي نظّم الدعوة تنظيماً دقيقاً.

4 - أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (التقي) (198 - 265هـ)، وتولّى الإمامة عام 212هـ، سكن السلمية سرّاً حيث أصبحت مركزاً لنشر الدعوة.

5 - الحسين بن أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الرضي) (212 - 289هـ) تولّى الإمامة عام 265هـ، ويقال أنّه اتّخذ عبد الله بن ميمون القدّاح حجّة له وحجاباً عليه.

٢٥٥

الأئمّة الظاهرون:

6 - عبيد الله المهدي (260 - 322هـ) والمعروف بين الإسماعيليّة أنّ عبيد الله المهدي الّذي هاجر إلى المغرب وأسّس هناك الدولة الفاطميّة كان ابتداءً لعهد الأئمّة الظاهرين الّذين جهروا بالدعوة وأخرجوها عن الاستتار.

7 - محمّد بن عبيد الله القائم بأمر الله (280 - 334هـ)، ولد بالسلمية، ارتحل مع أبيه عبيد الله المهدي إلى المغرب وعهد إليه بالإمامة من بعده.

8 - إسماعيل المنصور بالله (303 - 346هـ)، ولد بالقيروان، تسلّم شؤون الإمامة بعد وفاة أبيه سنة 334هـ.

9 - معد بن إسماعيل المعزّ لدين الله (319 - 365هـ)، مؤسس الدولة الفاطميّة في مصر.

10 - نزار بن معد العزيز بالله (344 - 386هـ)، ولي العهد بمصر سنة 365هـ، واستقلّ بالأمر بعد وفاة أبيه، وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً.

11 - منصور بن نزار الحاكم بأمر الله (375 - 411هـ)، بويع بالخلافة سنة 386هـ وكان عمره أحد عشر عاماً ونصف العام، وهو من الشخصيّات القليلة الّتي لم تتجلّ شخصيّته بوضوح، وقام بأعمال إصلاحيّة زعم مناوئوه أنّها من البدع.

وأمّا عن مصير الحاكم، فمجمل القول فيه أنّه فُقد في سنة 411هـ، ولم يُعلم مصيره، وحامت حول كيفيّة اغتياله أساطير لا تتلاءم مع الحاكم المقتدر.

٢٥٦

وبعد اختفائه انشقّت فِرقة من الإسماعيليّة ذهبت إلى إلوهيّة الحاكم وغيبته، وهم المعروفون اليوم بـ (الدروز) يقطنون لبنان.

12 - عليّ بن منصور الظاهر لإعزاز دين الله (395 - 427هـ)، بويع بالخلافة وعمره ستة عشر عاماً، وشنّ حرباً على الدروز محاولاً إرجاعهم إلى العقيدة الفاطميّة الأصيلة.

13 - معد بن عليّ المستنصر بالله (420 - 487هـ)، بويع بالخلافة عام 427هـ، وكان له من العمر سبعة أعوام، وقد ظلّ في الحكم ستّين عاماً، وهي أطول مدّة في تاريخ الخلافة الإسلاميّة.

إلى هنا تمّت ترجمة الأئمّة الثلاثة عشر الّذين اتّفقت كلمة الإسماعيليّة على إمامتهم وخلافتهم، ولم يشذّ منهم سوى الدروز الّذين انشقوا عن الإسماعيليّة في عهد خلافة الحاكم بأمر الله، وصار وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق آخر وظهور طائفتين من الإسماعيليّة، بين مستعلية تقول بإمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ونزاريّة تقول بإمامة نزار بن المستنصر.

وسنأتي بالحديث عن الإسماعيليّة المستعلية والنزاريّة فيما يلي.

٢٥٧

الإسماعيليّة المستعلية

صارت وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق الإسماعيليّة مرّة ثانية - بعد انشقاق الدروز في المرّة الأُولى - فمنهم من ذهب إلى إمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ومنهم من ذهب إلى إمامة نزار من المستنصر بالله، وإليك الكلام في أئمّة المستعلية في هذا الفصل مقتصرين على أسمائهم وتاريخ ولادتهم ووفاتهم:

1 - الإمام أحمد بن معد بن عليّ المستعلي بالله (467 - 495هـ).

2 - الإمام منصور بن أحمد الآمر بأحكام الله (490 - 524هـ).

قال ابن خلّكان: مات الآمر بأحكام الله ولم يعقب، وربّما يقال: أنّ الآمر مات وامرأته حامل بالطيّب. فلأجل ذلك عهد الآمر بأحكام الله الخلافة إلى الحافظ، الظافر، الفائز، ثُمَّ إلى العاضد، وبما أنّ هؤلاء لم يكونوا من صلب الإمام السابق، بل كانوا من أبناء عمّه صاروا دعاة؛ حيث لم يكن في الساحة إمام، ودخلت الدعوة المستعلية بعد اختفاء الطيّب بالستر، وما تزال تنتظر عودته، وتوقّفت عن السير وراء الركب الإمامي واتّبعت نظام الدعاة المطلقين.

3 - الداعي عبد المجيد بن أبي القاسم محمّد بن المستنصر الحافظ لدين الله (467 - 544هـ).

4 - الداعي إسماعيل بن عبد المجيد الظافر بأمر الله (527 - 549 هـ).

٢٥٨

5 - الداعي عيسى بن إسماعيل الفائز بنصر الله (544 - 555هـ).

6 - عبد الله بن يوسف العاضد لدين الله (546 - 567هـ).

ثُمَّ إنّ العاضد فوّض الوزارة إلى صلاح الدين الأيّوبي الّذي بذل الأموال على أصحابه وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم يزل أمره في ازدياد وأمر العاضد في نقصان، حتّى تلاشى العاضد وانحلّ أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة، وتتبّع صلاح الدين جُند العاضد، وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم فوهبها لأصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله، فقدموا من الشام عليه، وعزل قُضاة مصر الشيعة، واختفى مذهب الشيعة إلى أنّ نُسي من مصر، وقد زادت المضايقات على العاضد وأهل بيته، حتّى مرض ومات وعمره إحدى وعشرون سنة إلاّ عشرة أيام، وهو آخر الخلفاء الفاطميّين بمصر، وكانت مدّتهم بالمغرب ومصر منذ قام عبيد الله المهدي إلى أن مات العاضد 272 سنة، منها بالقاهرة 208 سنين.(1)

تتابع الدعاة عند المستعلية:

قد عرفت أنّ ركب الإمامة قد توقّف عند المستعلية وانتهى الأمر إلى الدعاة الّذين تتابعوا إلى زمان 999هـ، وعند ذلك افترقت المستعلية إلى فِرقتين: داوديّة، وسليمانيّة، وذلك بعد وفاة الداعي المطلق داود بن عجب شاه، انتخبت مستعلية كجرات داود بن قطب شاه خلفاً له، ولكن اليمانيّين عارضوا ذلك وانتخبوا داعياً آخر، يُدعى سليمان بن

____________________

(1) انظر الخطط المقريزيّة: 1/358 - 359.

٢٥٩

الحسن، ويقولون: إنّ داود قد أوصى له بموجب وثيقة ما تزال محفوظة.

إنّ الداعي المطلق للفِرقة الإسماعيليّة المستعلية الداوديّة اليوم هو طاهر سيف الدّين، ويُقيم في بومباي الهند، أمّا الداعي المطلق للفِرقة المستعلية السليمانيّة فهو عليّ بن الحسين، ويقيم في مقاطعة نجران بالحجاز. (1)

جناية التاريخ على الفاطميّين:

لاشكّ أنّ كلّ دولة يرأسها غير معصوم لا تخلو من أخطاء وهفوات، وربّما تنتابها بين آونة وأُخرى حوادث وفتن تضعضع كيانها وتشرفها على الانهيار.

والدولة الفاطميّة غير مستثناة عن هذا الخط السائد؛ فقد كانت لديها زلاّت وعثرات، إلاّ أنّها قامت بأعمال ومشاريع كبيرة لا تقوم بها إلاّ الدولة المؤمنة بالله سبحانه وشريعته، كالجامع الأزهر الّذي ظلّ عبر الدهور يُنير الدرب لأكثر من ألف سنة، كما أنّهم أنشأوا جوامع كبيرة ومدارس عظيمة مذكورة في تاريخهم، وبذلك رفعوا الثقافة الإسلاميّة إلى مرتبة عالية، وتلك الأعمال جعلت لهم في قلوب الناس مكانة عالية.

غير أنّا نرى أنّ أكثر المؤرّخين يصوّرها بأنّها من أكثر العصور ظلاماً في التاريخ؛ شأنها في ذلك شأن سائر الفراعنة، وليس هذا إلاّ حدسيّات وتخمينات أخذها أصحاب أقلام السِّير والتاريخ من رُماة القول على عواهنه دون أن يُمعنوا فيه.

____________________

(1) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 162.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً )(١) .

٥ ـ وفي رواية رابعة كذلك قالت : ( فاجتمعوا فجلّلهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكساء كان عليه ثم قال :اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط ، قالت ، فقلت : يا رسول الله وأنا ؟ قالت : فو الله ما أنعم ، وقال :إنّك إلى خير )(٢) .

٦ ـ وفي رواية خامسة عن أُمّ سلمة أيضاً : ( بينما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيتي يوماً ، إذ قالت : الخادم إنّ فاطمة وعلياً بالسدة ، قالت: فقال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :قومي فتنحّي عن أهل بيتي )(٣) .

٧ ـ وفي رواية سادسة عن أم سلمة : ( قالت : إنّ هذه الآية نزلت في بيتي( إِنّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، قالت : وأنا جالسة على باب البيت ، فقلت يا رسول الله : ألست من أهل البيت ؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّك إلى خير ، أنت من أزواج النبي ... )(٤) .

وهذه الروايات وغيرها صريحة في الدلالة على أنّ المراد بأهل البيت هم : علي وفاطمة والحسن والحسين وتسعة من أولاد الحسينعليهم‌السلام .

وممّا يزيد هذه الحقيقة تأكيداً ـ وهي أنّ أهل البيتعليهم‌السلام لديهم علم وحقيقة القرآن ـ قوله تعالى :( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ،

ـــــــــــــ

(١) تفسير ابن كثير ، ابن كثير : ج ٣ ص ٤٩٣ ؛ جامع البيان ، الطبري : ج ٢٢ ص ١١ ؛ شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ٢ ص ١٠٣ .

(٢) تفسير ابن كثير ، ابن كثير : ج ٣ ص ٤٩٣ ؛ وانظر : المعجم الأوسط ، ج ٤ ص ١٣٤ ؛ وانظر : شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ٢ ص ١٠٢ .

(٣) تفسير ابن كثير : ج ٣ ص ٤٩٣ .

(٤) تفسير ابن كثير ، ابن كثير : ج ٣ ص ٤٦٦ .

٣٢١

وقد ورد عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه خطب الناس قائلاً :( أين الذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا ، أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يستعطى الهدى ، ويستجلى العمى إنّ الأئمة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم ) (١) .

إذن تبيّن من هذه الروايات أنّ علم الكتاب إنّما هو عند أهل البيتعليهم‌السلام بفضل الله تعالى واصطفائه لهم .

الروايات الخاصة في علم أهل البيتعليهم‌السلام

وأمّا على صعيد البحث الروائي فقد تواترت الروايات المؤكِّدة على أعلمية أهل البيتعليهم‌السلام ، فضلاً عن كونهم ورثة النبيعليهم‌السلام ، منها :

١ ـ علم الأنبياء عند أهل البيتعليهم‌السلام :

أخرج القندوزي الحنفي في الينابيع ، عن عمر بن أذينة عن جعفر الصادقعليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين :( ألا إنّ العلم الذي هبط به آدم عليه‌السلام من السماء إلى الأرض وجميع ما فضلّت به النبيّون إلى خاتم النبيّين في عترة خاتم النبيّين ) (٢) .

٢ ـ علم الكتاب كلّه عند أهل البيتعليهم‌السلام :

أخرج القندوزي الحنفي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : (علم الكتاب والله عندنا ، وما أُعطي وزير سليمان بن داود ، إنّما عنده حرف واحد من

ـــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد : ج ٢ ص ٢٧، ج ٩ ص ٨٤؛ ينابيع المودة، القندوزي: ج ٣ ص ٢٩٣.

(٢) ينابيع المودة، القندوزي: ج ١ ص ٣٠٦ .

٣٢٢

الاسم الأعظم ، وعلم بعض الكتاب كان عنده ... وقال في عليعليه‌السلام ومن عنده علم الكتاب )(١) ، وعن الإمام عليعليه‌السلام أنّه قال :( ألا وإنّا أهل بيت من علم الله علمنا وبحكم الله حكمنا ) (٢) .

٣ ـ أُعطي أهل البيت سبعاً لم يعطها أحد قبلهم

أخرج ابن المغازلي عن عليعليه‌السلام قال :( قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أُعطينا أهل البيت سبعةً لم يُعطَها أحدٌ قبلنا ، ولا يُعطاها أحدٌ بعدنا : الصباحة والفصاحة والسماحة والشجاعة والحلم والعلم ) (٣) .

٤ ـ الإمام عليعليه‌السلام عيبة علم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

أخرج ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق عن ابن عباس قال :( علي عيبة علمي ) (٤) .

٥ ـ الإمام عليعليه‌السلام يعلم ظاهر القرآن وباطنه

أخرج القندوزي الحنفي في ينابيع المودّة عن ابن مسعود أنّه قال : ( نزل القرآن على سبعة أحرف له ظهر وبطن ، وأنّ عليّاًعليه‌السلام علم القرآن ظاهره وباطنه )(٥) .

ـــــــــــــ

(١) ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ١ ص ٣٠٦ .

(٢) شرح نهج البلاغة : ج ١ ص ٢٧٦ ؛ جواهر المطالب : أحمد بن محمد الدمشقي الشافعي : ج ١ ص ٣٤٣ ؛ ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ١ ص ٨٠ ؛ ج ٣ ص ٤٠٨ .

(٣) مناقب علي بن أبي طالبعليه‌السلام : ابن المغازلي ص ٢٩٥ ، ط ٢ .

(٤) تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ٤٢ ص ٣٨٥ ، وكذا جاء في الكامل : ج ٤ ص ١٠١ ؛ ميزان الاعتدال : ج ٢ ص ٣٢٧ ؛ فيظ القدير في شرح الجامع الصغير : ج ٤ ص ٤٦٩ .

(٥) ينابيع المودّة ، القندوزي ج ١ ص ٢١٥ ، ٢٢٣ ، ج ٣ ص ١٤٦ .

٣٢٣

هل أنّ أهل البيتعليهم‌السلام يعلمون الغيب ؟

إنّ جدلية العلم بالغيب من قبل الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيتعليهم‌السلام من الجدليات التي اتخذها المناوئون ذريعة للنيل من مذهب الشيعة الاثني عشرية ، وهذه الجدلية قائمة على مغالطة واضحة .

وجه المغالطة

محصّل ومنشأ هذه المغالطة وجود بعض الآيات القرآنية التي تنفي علم الغيب عن الأنبياء ، كما في الآية الكريمة :( مَا كُنتُ بِدْعاً مِنَ الرّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ ) (١) وكذا قوله تعالى :( قُل لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنّي مَلَكٌ ) ، وقوله تعالى :( قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسّنِيَ السّوءُ ) (٢) .

إذن على ضوء هذه الآيات يتبين عدم اطّلاع الأنبياء مطلقاً على الغيب ، وأنّ علم الغيب مختص بالله تعالى .

والمغالطة المخبوءة في هذا الاستدلال هو أنّ المستدل بالآيات على نفي علم الغيب عن الأنبياء كما تقدّم اقتصر على بعض الآيات ، بل في آية واحدة اقتصر على صدر الآية وطرح ذيلها ، مع أنّ هذا الأسلوب من التعامل مع القرآن الكريم من الوقوف على آية واحدة فقط ، أو صدر آية وطرح ذيلها ، أو غض النظر عن الآيات الأخرى أسلوب يخالف حتى أسلوب المحاورات العرفية ؛ فإنّ المتكلم لا يصح نسبة الكلام إليه إلاّ بعد ملاحظة مجموع كلامه ، ولبيان ذلك نقول :

ـــــــــــــ

(١) الأحقاف : ٩ .

(٢) الأنعام: ٥٠ .

٣٢٤

إنّ صدر الآية وإن كان يحكي قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه لا يعلم الغيب ، إلاّ أنّه ورد في ذيلها استثناء ـ وهو الذي أغفله المستشكل ـ وهو قوله تعالى :( إِلاّ مَا يُوحَى‏ إِلَيّ ) ، فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد القول بأنّ علم بالغيب بنحو الاستقلال مختص بالله تعالى ولا يشاركه أحد في ذلك قط ، بل يستحيل أن يشاركه فيه أحد ، ولكن قد يفيض الله تعالى من علوم الغيب على بعض عباده كالأنبياء والمرسلين والأئمّةعليهم‌السلام ، ولا ينافي ذلك كونهمعليهم‌السلام مخلوقين ، فقراء إلى الله تعالى ، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً إلاّ ما شاء الله ، وهذا لا ينافي استقلاله تعالى بعلم الغيب ، وهذا ما تكفلت ببيانه آيات كثيرة منها :

١ ـ قوله تعالى :( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى‏ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضَى‏ مِن رّسُولٍ فَإِنّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ) (١) .

٢ ـ قوله تعالى :( إِنّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى‏ نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسى‏ وَأَيّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنَا دَاوُود زَبُوراً ) (٢) ، وقوله تعالى :( قُل لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنّي مَلَكٌ إِنْ أَتّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَى‏ إِلَيّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى‏ وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكّرُونَ ) (٣) ، وقوله تعالى :( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا

ـــــــــــــ

(١) الجن: ٢٦ ـ ٢٧ .

(٢) النساء : ١٦٣ .

(٣) الأنعام : ٥٠ .

٣٢٥

كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذَا فَاصْبِرْ إِنّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتّقِينَ ) (١) ، وغيرها هذه الآيات ممّا يشاركها في هذا المعنى ، من هنا قال الآلوسي في تفسيره للآية المباركة( قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السّماوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ اللهُ ) (٢) : ( لعلّ الحق أن يقال إنّ نفي علم الغيب عن غيره جلّ وعلا ، هو ما كان للشخص بذاته أي بلا واسطة في ثبوته لهم ، وما وقع للخواص ليس من هذا العلم المنفي في شيء ، وإنّما هو من الواجب عزّ وجلّ إفاضة منه عليهم بوجه من الوجوه ، فلا يقال إنّهم علموا بالغيب بذلك المعنى [ يعني الاستقلال ] ، فإنّ ذلك كفرٌ ، بل يقال إنّهم أظهروا وأطلعوا على الغيب )(٣) .

وهذا المعنى يلتقي مع ما أثر عن أهل البيتعليهم‌السلام ، فقد ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال :( يبسط لنا العلم فنعلم ، ويقبض عنّا فلا نعلم ) (٤) وهو عين معنى الآية ، هي قوله تعالى :( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى‏ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضَى‏ مِن رسُولٍ فَإِنّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ) (٥) ولا شك أنّ الرسول هو المرتضى ، وأهل البيتعليهم‌السلام ورثته .

ـــــــــــــ

(١) هود : ٤٩ .

(٢) النمل : ٦٥ .

(٣) تفسير روح المعاني ، الآلوسي : ص ٩ .

(٤) أصول الكافي ، الكيني : ج ١ ص ٢٥٦ ، بصائر الدرجات ، الصفار : ص ٥٣٣ .

(٥) الجن : ٢٦ ـ ٢٧ .

٣٢٦

وحاصل ما تقدّم :

إنّ الآيات الدالة على اختصاص علم الغيب به سبحانه ، هو ما يليق بساحة الواجب الذي لا يشاركه فيه أحد ، وهو العلم الذاتي بالاستقلال والأصالة ، بل هذا النوع من العلم يمتنع أن يشاركه أحد فيه ؛ لاستلزامه الشرك وتعدد الواجب الغني ، فإطلاع غير الله تعالى إنما يكون بالتبع ، نظير قوله تعالى :( اللهُ يَتَوَفّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (١) الذي يكون ظاهراً في أنّ التوفّي منحصر بالله تعالى ، مع أنّه تعالى أسنده إلى ملك الموت في موارد ، وإلى رسله في موارد أخرى ، كما في قوله تعالى :( قُلْ يَتَوَفّاكُم مَلَكُ الْمَوْتِ الّذِي وُكّلَ بِكُمْ ثُمّ إِلَى‏ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ ) (٢) ، وقوله تعالى :( تَوَفّتْهُ رُسُلُنَا ) (٣) .

إذن لا إشكال في علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالغيب بإذن الله تعالى وفضله ، بل هنالك موارد لا يمكن التغاضي والتغافل عنها ، كالتي أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بعضها بما يتعلّق بالمغيّبات ، كما تقدّمت الإشارة إليه .

أهل البيتعليهم‌السلام يعلمون الغيب

بعد أن تبيّن أنّ المراد بعلم الغيب الممتنع هو العلم بالأصالة والاستقلال ، وهو خاص بالله تعالى ، وأمّا العلم بالغيب بإذن الله تعالى وبمشيئته وبإفاضته على من يرتضيه فلا إشكال فيه ، يثبت على هذا الأساس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما يعلم الغيب بإذن الله تعالى ومشيئته .

ـــــــــــــ

(١) الزمر : ٤٢ .

(٢) السجدة : ١١ .

(٣) الأنعام : ٦١ .

٣٢٧

وعلى ضوء ما تقدّم من أنّ أهل البيت هم ورثة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما أشرنا إليه ـ يثبت علمهمعليهم‌السلام بالغيب بإنباء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، وقد ورد في الأثر إخبار أمير المؤمنين عليعليه‌السلام بالغيب في مواطن متعددة ، منها :

أوّلاً : إخبارهعليه‌السلام بقتل ( ذي الثدية ) من الخوارج وعدم عبور الخوارج النهر ، بعد أن قيل له قد عبروا(١) .

ثانياً : إخباره بمقتل ولده الحسينعليه‌السلام لما اجتاز أرض كربلاء ، حيث بكىعليه‌السلام وقال :( هاهنا ناخ ركابهم وهاهنا موضع رحالهم وها هنا مهراق دمائهم فتية من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقتلون بهذه العرصة تبكي عليهم السماء والأرض ) (٢) .

ثالثاً : قولهعليه‌السلام قبل قتاله الفرق الثلاث : ( أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ) والمقصود من هؤلاء هم أصحاب الجمل وأصحاب معاوية وخوارج النهروان ، الذين قاتلهم في الجمل وصفين والنهروان ، فقاتلهمعليه‌السلام وكان الأمر كما أخبر بهعليه‌السلام (٣) .

رابعاً : إخباره بملك معاوية من بعده ، وإخباره بعدّة الجيش الوارد إليه من الكوفة لما شخص لحرب البصرة ، وإخباره بمَن يقتل من أصحابه أو يصلب ، وإخباره عن مقتل عبد الله بن الزبير ، وإخباره عن هلاك أهل

ـــــــــــــ

(١) مروج الذهب ، المسعودي : ج ٢ ص ٤٢٥ ، الكامل في التاريخ ، ابن الأثير ، ج ٣ ص ٣٤٧ ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ج ١٩ ص ١١٩ .

(٢) ذخائر العقبى : ص ٩٧ ؛ ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ٢ ص ١٨٦ ؛ وانظر شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ج ٣ ص ١٦٩ ـ ١٧١ .

(٣) النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : ج ٥ ص ١١٤ ؛ البداية والنهاية ، ابن كثير : ج ٧ ص ٣٨٨ ؛ جواهر المطالب في مناقب الإمام عليعليه‌السلام ، ابن الدمشقي : ج ٢ ص ٨١ .

٣٢٨

البصرة بالغرق ، وإخباره عن النفس الزكية ونحوها(١) .

خامساً : قال الحافظ الجويني في فرائد السمطين : ( الإمام الثامن [ علي بن موسى الرضا ] مظهر خفيات الأسرار ، ومبرز خبيات الأمور والواقف على غوامض السر المكتوم والمخبر بما هو آتٍ وعمّا غبر ومضى والمرضي عند الله )(٢) .

هل الاعتقاد بعلم النبي وأهل بيته بالغيب غلو ؟

عرّفوا الغلو : بأنّه مجاوزة الحد ، يقال غلا فلان في الدين غلوّاً تشدّد حتى تجاوز الحد(٣) ، وكل مَن تجاوز حد الاعتدال وغلا ، يصح لُغوياً تسميته بالمتطرّف ، جاء في المعجم الوسيط في معنى تطرف ( تجاوز حد الاعتدال ولم يتوسط )(٤) .

وقد عرّف ابن تيمية الغلو شرعاً ( بأنّه مجاوزة الحد بأن يزاد في الشيء في حمده أو ذمّه على ما يستحق )(٥) .

وجاء في فتح الباري : ( إذ إنّ الغلو هو المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد )(٦) .

وبذلك تبين أنّ الغلو هو تجاوز الحد الذي حدده الله تعالى ورسوله للشيء ، فالمغالي هو الذي يتجاوز ما حدده الله ورسوله لذلك الشيء اتّباعاً للهوى ، وخروجاً عن الحق إلى الباطل ، بحيث يصفه بوصف لم يسبق أن يصفه الله ورسوله به من غير دليلٍ عقلي عليه .

ـــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة : ج ٧ ص ٤٧ ـ ٤٩ .

(٢) فرائد السمطين : ج ٢ ص ١٨٧ .

(٣) انظر : الصحاح للجوهري مادة (غلا) واللسان لابن منظور (غلو) .

(٤) المعجم الوسيط : مادة (طرف) .

(٥) اقتضاء الصراط المستقيم ، ابن تيمية : ج ١ ص ١٠٦ .

(٦) فتح الباري ، ابن حجر : ج ١٣ ص ٢٣٤ .

٣٢٩

وعلى ضوء ما سلف هل يمكن إطلاق الغلو على مَن قال : إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر بالمغيبات كما تقدم إثبات ذلك ؟ وهل من الغلو أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلم وأفضل الأنبياء السابقين ؟ وهل من الغلو أن نقول : إنّ الله تعالى اصطفاه واختاره ؟

وهل من الغلو أن نقول : إنّ علم أهل البيت من علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورّثهم إيّاه كما ثبت ذلك في جملة من الروايات المتضافرة ؟

هل تعظيم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته من الغلو ؟

ولكي تكون الإجابة واضحة بعيدة عن الملابسات ، ينبغي أن نعرض هذا السؤال على الشريعة الإسلامية :

وبدءاً نقول : إنّ الذي نلمسه من الشريعة هو أنّه ليس كل تعظيم وإكبار واحترام يكون تأليهاً للشخص المعظّم ، وغالباً ما نجد أنّ الأمر بتعظيم واحترام هذه المخلوقات مشفوع ببيان السبب من وراء ذلك التعظيم ، وهو أنّ نفس الإعظام والإكبار بأمر من الله لمخلوق معين هو طاعة لله تعالى وتعظيم له ، ومَن استكبر وأبى ورفض تعظيم مَن أمر الله تعالى بتعظيمه يُعدّ عصياناً لله تعالى وإنكاراً عليه .

وهذا ما يتجلّى واضحاً من أمر الله تعالى للملائكة بالسجود لآدم ، فهو إعظام لآدم بأمر منه تعالى ، وحاشا لله تعالى أن يشرك أحداً في كبريائه .

٣٣٠

إذن إعظام الملائكة لآدم إنّما هو إعظام لله تعالى ؛ لأنّه متسبّب عن أمره تعالى ، ولذا نجد أنّ الله جعل مصير إبليس مرهوناً بإعظام آدم والسجود له ، فرفض إبليس لإعظام آدم يعدّ استكباراً على الله تعالى ، كما هو صريح قوله تعالى :( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوْا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَى‏ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) (١) .

وهذا الأمر يكشف عن حقيقة مهمّة جدّاً على صعيد العقيدة أو الإيمان ، وهي أنّ تعظيم أولياء الله تعالى يعتبر طاعة وامتثالاً لأوامر الله عزّ وجلّ ، وما إبليس إلاّ مثل ضربة الله تعالى للذين ينكرون ذلك ؛ إذ لم يكن عصيان إبليس لربّه إنكاراً لتوحيده تعالى .

ومن هنا فإنّ الروايات المختلفة لدى الشيعة والسنّة تشير إلى أنّ كفر إبليس لم يكن كفر شرك كما تقدم ؛ لأنّه لم يعبد غير الله ، وإنّما كان جحوده واستكباره على الله عزّ وجلّ في توحيده في مقام الطاعة ، وقد ورد في بعض الروايات أنّه طلب من الله تعالى إعفاءه السجود لآدمعليه‌السلام ، وسوف يعبده لا نظير لها ، وكان الجواب من الحق تعالى هو : ( إنّي أُحب أن أطاع من حيث أريد )(٢) ، وفي رواية أخرى : ( إنّما أريد أن أعبد من حيث أريد لا من حيث تُريد )(٣) .

ومن موارد أمر الله تعالى بتعظيم مخلوقاته ، أمره تعالى بتعظيم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ورد ذلك في آيات عديدة :

ـــــــــــــ

(١) البقرة : ٣٤ .

(٢) بحار الأنوار ، المجلسي : ج ٢ ص ٢٦٢ ، وج ١١ ص ٤٥ .

(٣) المصدر نفسه : ج ١١ ص ١٤١ .

٣٣١

منها : قوله تعالى :( لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) (١) ، وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية : تُعَزّروه : تجُلوه ، وقال المبرد : تُعزّروه : تبالغوا في تعظيمه(٢) .

ومنها : قوله تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ * إِنّ الّذِينَ يَغُضّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتّقْوَى‏ لَهُم مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ) (٣) .

وليست هذه الأوامر من الله تعالى إلاّ لبيان وجوب احترام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعظيمه ، وقد نقل القاضي عياض أنّ هذه الآية نزلت في محاورة كانت بين أبي بكر وعمر بين يدي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واختلاف جرى بينهما ، حتى ارتفعت أصواتهما(٤) ، فهنا يأمر الله تعالى بوجوب إعظام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوقيره ، وأن ترك الأدب بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤدّي إلى حبط العمل ، والخروج عن ربقة الإيمان ؛ ولذا ورد عن الفريقين أنّ الشاتم للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الذي يستهزئ بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقتل ، ويحكم عليه بالكفر .

ومنها : قوله تعالى : ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرسُولِهِ وَاتّقُوا اللهَ إِنّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٥) وهذه الآية صريحة في وجوب التعظيم والخضوع بين يدي الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ـــــــــــــ

(١) الفتح : ٩ .

(٢) انظر : الشفا بتعريف حقوق المصطفى ، القاضي عياض : ج ٢ ص ٣٥ ط بيروت ـ دار الفكر ، ١٤٠٩ هـ .

(٣) الحجرات : ٢ ـ ٤ .

(٤) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ، القاضي عياض : ج ٢ ص ٣٦ .

(٥) الحجرات : ١ .

٣٣٢

ومنها : قوله تعالى :( لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً ) ونقل القاضي عياض أنّ معنى ذلك : أن لا تسابقوه بالكلام ، وتُغلظوا له بالخطاب ، ولا تنادوه باسمه نداء بعضكم بعضاً ، ولكن عظّموه ووقّروه بأشرف ما يحب أن ينادى به : يا رسول الله ، يا نبي الله(١) .

وقد بلغ الأمر في شدّة تعظيم الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل البيتعليهم‌السلام أنّ مالك بن أنس قال : ( لقد كنت أرى جعفر بن محمد الصادق ، وكان كثير الدعابة والتبسّم ، فإذا ذكر عنده النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اصفرّ ، وما رأيته يحدث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ على طهارة ، وقد اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلاّ على ثلاث خصال : إمّا مصلّياً ، وإمّا صامتاً ، وإمّا يقرأ القرآن ، ولا يتكلّم فيما لا يعنيه ، وكان من العلماء والعبّاد الذين يخشون الله عزّ وجلّ)(٢) ، وكان مالك نفسه إذا ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتغيّر لونه(٣) ، إلى غير ذلك من إعظام المسلمين للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتبرّك به بما لا يسع المقام ذكره .

تعظيم أهل البيتعليهم‌السلام جذره قرآني

إنّ التعظيم الإلهي لأهل البيتعليهم‌السلام يمكن أن نلمسه من خلال عدّة إضاءات قرآنية في آيات متعددة كما في آية المباهلة التي أمر الله تعالى نبيّه فيها بأن يباهل النصارى بهؤلاء الخمسة ، فهمعليهم‌السلام شركاء للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إثبات أحقّية وصدق رسالتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذا آية التطهير :( إِنّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، وآية المودّة :( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى‏ ) ونحوها .

ـــــــــــــ

(١) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ، القاضي عياض : ج ٢ ص ٣٥ ـ ٣٦ .

(٢) المصدر نفسه : ج ٢ ص ٤٢ .

(٣) المصدر نفسه : ج ٢ ص ٤٢ .

٣٣٣

إذن القرآن الكريم يعظم هؤلاء النخبة من البشر وهم الأئمّة المطهّرون .

فضلاً عن الروايات الكثيرة التي تعظّم أهل البيتعليهم‌السلام وتأمر المسلمين بذلك ، وإليك بعضها :

منها : قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّي تارك فيكم ثقلين أوّلهما كتاب الله عزّ وجلّ فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله تعالى واستمسكوا به ، فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ، ثم قال :وأهل بيتي أذكّركم في أهل بيتي ، أذكّركم في أهل بيتي ، أذكّركم في أهل بيتي ) (١) ومن الواضح أن تكرارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قول :( أذكّركم في أهل بيتي ) ثلاث مرات يدل بوضوح على وجوب تعظيمهمعليهم‌السلام .

ومنها : ما أخرجه الخوارزمي في مناقبه عن أُمّ سلمة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لها : (قومي فافتحي له الباب ، فقالت : يا رسول الله من هذا الذي بلغ من خطره ما أفتح له الباب فأتلقاه بمعاصمي ، وقد نزلت فيّ آية في كتاب الله بالأمس ؟ فقال لها كالمغضب :إنّ طاعة الرسول طاعة [الله] ومَن عصى الرسول فقد عصى [الله] إنّ بالباب رجلاً ليس بالنزق ولا بالخرق ، يحب الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، ففتحت له الباب ، فأخذ بعضادتي الباب

ـــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ، مسلم : ج ٧ ص ١٢٣ ؛ مسند أحمد بن حنبل ، أحمد بن حنبل : ج ٤ ص ٣٦٧ ، وانظر : مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٥ ص ١٦٣ .

٣٣٤

حتى إذا لم يسمع حسّاً ولا حركة وصرت إلى خدري استأذن فدخل ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أتعرفينه ؟ قلت : نعم ، هذا علي بن أبي طالب ، قال :صدقت ، سحنته من سحنتي ، ولحمه من لحمي ، ودمه من دمي ، وهو عيبة علمي ، اسمعي واشهدي )(١) .

ومنها : قال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فلا تقتلوهم ولا تقهروهم ، ولا تقصروا عنهم ، وإنّي سألت لهم اللطيف الخبير فأعطاني أن يردوا عليّ الحوض كهاتين ، وأشار بالمسبحتين ،ناصرهما إليّ ناصر ، وخاذلهما إليّ خاذل ، ووليهما إليّ والي ، وعدوهما لي عدو) (٢) .

ومنها : قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :(من حفظني في أهل بيتي فقد اتخذ عند الله عهداً ) (٣) .

ومنها : قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( استوصوا بأهل بيتي خيراً ، فإنّي أخاصمكم عنهم غداً ، ومَن أكن خصمه أخصمه ، ومَن أخصمه دخل النار ) (٤) .

ومنها : عن ابن عمر قال : كان آخر ما تكلّم به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( اخلفوني في أهل بيتي ) (٥) .

ومنها : ما ورد في شرح نهج البلاغة عن أمير المؤمنين الإمام عليعليه‌السلام أنّه قال :( أين الذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا ،

ـــــــــــــ

(١) المناقب ، الخوارزمي : ص ٨٧ .

(٢) نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : ص ٢٣٤ .

(٣) ذخائر العقبى ، أحمد بن عبد الله الطبري : ص ١٨ .

(٤) المصدر نفسه : ص ١٨ .

(٥) المعجم الأوسط ، الطبراني : ج ٤ ص ١٥٧ ؛ الجامع الصغير ، السيوطي : ج ١ ص ٥٠ .

٣٣٥

أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يُستعطى الهدى ويُستجلى العمى ، إنّ الأئمّة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم ) (١) .

ومنها : ما أخرجه الحاكم الحسكاني أنّ الحسن بن عليعليه‌السلام خطب الناس حين قُتل عليعليه‌السلام ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : ( وساق كلامه عليه السلام إلى أن قال :أيّها الناس مَن عرفني فقد عرفني ، ومَن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي ، وأنا ابن الوصي وأنا ابن البشير ، وأنا ابن النذير ، وأنا ابن الداعي إلى الله بإذنه والسراج المنير ، وأنا من أهل البيت الذين افترض الله مودّتهم على كل مسلم ، فقال لنبيّه : ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى‏ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً ) ، فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت )(٢) .

ولا يخفى ما في هذه الروايات من دلالة واضحة وصريحة على عظمة ومكانة أهل البيتعليهم‌السلام ووجوب تعظيمهم وإكرامهم وتوقيرهم .

فلسفة هذا التعظيم

عند التأمّل في السرّ الذي يكمن وراء أمر الله بتعظيم بعض مخلوقاته ، وما هي الحقيقة التي تنضوي تحت هذا الأمر ؛ نجد أنّ هذا الأدب يصب في دائرة التوحيد ، بحيث إنّ الاعتقاد بالنبي والإمام وتوقيرهما وتعظيمها هو إعظام لله تعالى ، وتوحيد له عزّ وجلّ ، وهو عين طاعة الله تعالى وتوحيده ؛ لأنّه نابع عن الانقياد للأوامر الإلهية ، وهذا بنفسه يعد دليلاً عقلياً على وجوب إعظام الأنبياء لا سيّما خاصتهم ، وهو نبيّنا الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام بحدود ما أمرنا به الله تعالى .

ـــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ج ٩ ص ٨٤ .

(٢) شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : ج ٢ ص ٢٠٦ ؛ وانظر : ذخائر العقبى ، الطبري : ص ١٣٨ .

٣٣٦

ومن هنا نجد أنّ استكبار إبليس ـ كما مرّ سابقاً ـ وعدم سجوده لآدمعليه‌السلام كان سبباً لخروجه من رحمة الله ، وموجباً لكفره ، قال تعالى :( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوْا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَى‏ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) (١) فعدم إعظامه واحترامه لآدمعليه‌السلام كان موجباً لحبط عمله وخروجه من رِبقة الإيمان بالله تعالى إلى الكفر .

وممّا تقدّم يتحصّل أنّ تعظيم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته بما وصفهم الباري عزّ وجلّ ليس من الغلو بشيء ، بل يُعدّ امتثالاً لما أمرنا به الله ورسوله .

أهل البيتعليهم‌السلام وظاهرة الغلو

لقد واجه أهل البيتعليهم‌السلام ظاهرة الغلو بقوّة وشدّة ، وعبّأوا كل إمكاناتهم وقدراتهم من أجل تقويض أركان الغلو ، معتبرين الغلو أحد أقسام الكفر الذي يجب محاربته ، ومحذّرين شيعتهم وأتباعهم من مغبّة الانخراط في مخاطر العقيدة الفاسدة ، وقد ورد في هذا السياق جملة من الأخبار منها :

ما جاء عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :( إيّاكم والغلو ، فإنّما أهلك مَن كان قبلكم الغلو في الدين ) (٢) .

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال :( بُني الكفر على أربع دعائم : الفسق والغلو

ـــــــــــــ

(١) البقرة : ٣٤ .

(٢) مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ١ ص ٢١٥ وص ٣٤٧ .

٣٣٧

والشك والشبهة ) (١) .

كذلك عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال :( لعن الله مَن قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا ، لعن الله مَن أزالنا من العبودية لله الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا ) (٢) .

وعن الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام ، قال :( احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدونهم ، فإنّ الغلاة شرّ خلق الله ، يصغرون عظمة الله ، ويدّعون الربوبية لعباد الله ، والله إنّ الغلاة شرّ من اليهود والنصارى والمجوس الذين أشركوا ) (٣) .

موقف علماء الشيعة من الغلاة

أمّا موقف ورأي علماء الشيعة في الغلاة ، فقد كان موقفاً ورأياً مستمدّاً من بيانات أهل البيتعليهم‌السلام ، حيث كان موقفاً يتّسم بالشدّة والرفض لمثل هذه الظواهر الفاسدة .

فعلى سبيل المثال نجد الشيخ المفيد وسم الغلاة بالكفّار الضلاّل ، حيث قال : ( والغلاة من المتظاهرين بالإسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين والأئمّة من ذرّيته إلى الألوهية والنبوّة ووصفوهم من الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحد ، وخرصوا عن القصد ، وهم ضلاّل كفّار حكم فيهم أمير المؤمنين بالقتل والتحريق بالنار ، وقضت الأئمّة عليهم

ـــــــــــــ

(١) أُصول الكافي ، الكليني : ج ٢ ص ٣٩١ .

(٢) بحار الأنوار ، المجلسي : ج ٢٥ ص ٢٩٧ .

(٣) الأمالي ، الطوسي : ص ٦٥٠ ح ١٣٤٩ / ١٢ .

٣٣٨

بالكفر والخروج عن الإسلام )(١) .

وقد وصف الشيخ الصدوق الغلاة بأنّهم شرّ من اليهود والنصارى والمجوس ، حيث قال : ( اعتقادنا في الغلاة والمفوضية أنّهم كفّار بالله تعالى ، وإنّهم شرّ من اليهود والنصارى والمجوس والقدرية والحرورية ، ومن جميع أهل البدع والأهواء المعتلّة )(٢) .

أمّا الشيخ كاشف الغطاء فقد برّأ الأئمّةعليهم‌السلام والشيعة من هؤلاء الغلاة ، حيث قال : ( أمّا الشيعة الإمامية وأئمّتهم فيبرأون من تلك الفرق براءة التحريم )(٣) ، وقال أيضاً ( أما الشيعة الإمامية ويبرأون من تلك الفرق المقالات ويعدّونها من أشنع [ إشكالات ] الكفر والضلالات ، وليس دينهم إلاّ التوحيد المحض ، وتنزيه الخالق عن كل مشابهة للمخلوق )(٤) .

الخلاصة

١ ـ اتضح أنّ حقيقة وجوهر علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنخ علم خاص يفترق عن علوم سائر البشر التي تسمّى بالعلوم الحصولية .

وقد سجل القرآن الكريم هذه الحقيقة إلى جوار حقيقة أخرى ، شاطرت الروايات الشريفة القرآن في النصّ عليها ، وهي أفضلية نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كل الأنبياء ، وأنّه أعلمهم على الإطلاق .

٢ ـ وقد اتضح أيضاً أنّ علم الغيب وإن كان منحصراً بالله تعالى إلاّ أنّ هناك آيات عديدة تصرّح بأنّ الله تعالى يفيض هذا العلم على مَن ارتضى من عباده المنتجبين ، وعلى هذا الأسس يتضح أنّ علم الله بالغيب بنحو الاستقلال لا يشاركه فيه غيره ، أمّا علم الأنبياء فهو بالتبع ، أي بإرادة الله تعالى وعطائه لهم ، وقد تقدّمت عدّة شواهد قرآنية وروائية دلّت على علم الأنبياء بالغيب .

ـــــــــــــ

(١) تصحيح اعتقادات الإمامية ، المفيد : ص ١٣١ .

(٢) اعتقادات الإمامية ، الصدوق : ص ٩٧ .

(٣) أصل الشيعة وأُصولها ، كاشف الغطاء : ص ١٧٣ .

(٤) المصدر نفسه : ص ١٧٧ .

٣٣٩

٣ ـ كذلك ثبت أنّ علم أهل البيتعليهم‌السلام امتداد لعلوم النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّهم ورثته بروايات متضافرة ، فتكون حقيقة علمهمعليهم‌السلام هي من سنخ علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو سنخ علم إفاضي خاص يفيضه الله تعالى على بعض عباده .

٤ ـ ثبت أنّ الإمام هو خليفة الله تعالى في الأرض ، فلابد أن يتوفّر على علم خاص يؤهّله لأداء مسؤوليته ، وتمثيل الله تعالى في الأرض .

٥ ـ يتجلّى في عدة من الآيات أنّ علم الكتاب إرث للمصطفين المنتجبين من الله تعالى ، ولا ريب أنّ أهل البيتعليهم‌السلام ورثة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم الذين اصطفاهم واختارهم .

وإنّ هذه الوراثة أعمّ من كونه وراثة مادية ، أو وراثة نورية جعلها الله تعالى في صلب الأنبياء ، كما في قوله تعالى :

( أُولئِكَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِنَ النّبِيّينَ مِن ذُرّيّةِ آدَمَ وَمِمّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى‏ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرّحْمنِ خَرّوا سُجّداً وَبُكِيّاً ) (١) .

ـــــــــــــ

(١) مريم : ٨٥ .

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361