رسالة المحقق الكركي الجزء ٢

رسالة المحقق الكركي21%

رسالة المحقق الكركي مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 271

  • البداية
  • السابق
  • 271 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29956 / تحميل: 5979
الحجم الحجم الحجم
رسالة المحقق الكركي

رسالة المحقق الكركي الجزء ٢

مؤلف:
العربية

رسالة المحقق الكركي الجزء الثاني

تأليف

الشيخ علي بن الحسين الكركي

المتوفى سنة ٩٤٠ هـ

المجموعة الثانية

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى

قريبة إنشاء الله تعالى.

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله، والصلاة على محمد وآله.

لما كانت العدالة تستلزم ثبوت التقوى والمروء‌ة، والتقوى انما تتحقق باجتناب الكبائرو عدم الاصرار على الصغائر، لزم معرفة الكبائر على المكلفين.وقد اختلف فقهاء الاسلام فيها، والاصح في المذهب الحق أن الكبيرة: هي الذنب الذي توعد الشرع بخصوصه، وبذلك وردت الاخبار عن الائمة الاطهار صلوات الله عليهم.

قال شيخنا الشهيد في قواعده: وقد ضبط ذلك بعضهم فقال: هي الشرك بالله والقتل بغير حق، واللواط، والزنا، والفرار، من الزحف، والسحر، والربا، وقذف المحصنات، وأكل مال اليتيم، والغيبة بغير حق، واليمين الغموس، وشهادة الزور، وشرب الخمر، واستحلال الكعبة، والسرقة، ونكث الصفقة، والتعرب بعد الهجرة، والياس من روح الله، والامن من مكر الله، وعقوق الوالدين.

قال: وكل هذا ورد في الحديث منصوصا " عليه بأنه كبيرة

____________________

١ - انظر: كنز العمال ٢: ١١٠، وسائل الشيعة ١١: ٢٥٢.، وورد يضا "

٢ - انظر: كنز العمال ٢: ١١٠ حديث ١ ٢٦٧، ٢٦٨٤ (*)

٣

النميمة، وترك السنة، ومنع ابن السبيل فضل الماء، وعدم التنزه من البول، والتسبب إلى شتم الوالدين، والاضرار في الوصية(١) .فأما الغيبة فهي ذكر الغير بما يكرهه، روي انهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: " الغيبة أن تذكر في المرء ما يكره أن يسمع " قيل: يارسول الله وان كان حقا "؟ قال: " وان قلت باطلا فذلك البهتان "(٢) .ولاريب أن الغيبة غير مقصورة على القول باللسان، والقول باللسان غير مقصور على الصريح، فان الاشارة باليد والرأس والعين وما جرى مجراها اذا أفادت عيب الغير وتنقصه عدت من الغيبة.وكذا حكاية حركاته ومشيته: وماجرى هذا المجرى.وكذا التعريض به مثل: أنا لااحضر مجلس الحكام، أنا لا آكل مال الايتام، مشيرا بذلك إلى أن زيدا مثلا يفعل هذا.

ومثل ذلك أن يقول: الحمد لله الذي نزهنا عن كذا، مريدا مثل ذلك فهو غيبة، وان كانت صورته صورة الشكر.ومن ذلك قول القائل عن غيره: لوفعل كذا لكان خيرا، ولولم يفعل كذا لكان حسنا.

ومنه تنقص مستحق الغيبة لينبه به على عيوب شخص آخر غير مستحق لها.وكذا لو ذم نفسه بطرائق غير محمودة فيه، أوليس متصفا " بها، لينبه على عورات غيره.

وضابط الغيبة المحرمة: مايكون الغرض منها التفكه بعرض الغير، وليس

____________________

١ - القواعد والفوائد ١: ٢٢٤ قاعدة ٦٨.

٢ - سنن أبى داود، كتاب الادب باب في الغيبة حديث ٢٨٧٤.

(*)

٤

مقصودا به غرض صحيح، فلذلك استثنى العلماء مواضع ستة، والحق بعضهم بها سابعا:

الاول: أن يكون المقول فيه مستحقا " لذلك، لاحرمة له لتظاهره بالمحرم كالفاسق متظاهر بفسقه، مثل شارب الخمر المتظاهر به، والظالم المنتهك بظلمه، فيجوز ذكره بذلك الذي هو فيه لا بغيره، لماروي من أنه: " لاغيبة لفاسق "(١) ومنع بعض الناس من هذا القسم، وأوجب التعزير غيبة الفاسق أيضا ".وظن بعض العامة في حديث: " لاغيبة لفاسق " بأنه لا أصل له.وربما حمل على ارادة النهي به وان كانت صورته صورة الخبر.والقول بالجواز أوجه خصوصا " من يتبجح بفسقه، وربما أمكن جعل الطعن عليه واللعن له من جملة القرب.

الثاني: شكاية المتظلم، فلا تعد غيبة، وقد وقع ذلك بحضرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مثل قول المرأة عن زوجها: هو رجل شحيح(٢) .

الثالث: نصيحة المستشير في نكاح، أو معاملة، أو مجاورة، أو غيرها.لما روي أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لفاطمة بنت قيس حين استشارته في خطابها: " أما فلان فرجل صعلوك لامال له، وأما فلان فلايضع العصا عن عائثقه "(٣) ولانه مما

____________________

١ - أمالى الصدوق: ٣٤ وفيه: " اذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة "، وفي كنز العمال ٣: ٥٩٥ حديث ١ ٨٠٧ " ليس للفاسق غيبة ".

٢ - روي أن هندا قالت للنبىصلى‌الله‌عليه‌وآله : ان أبا سفيان رجل شحيح لا يعطينى ما يكفينى أنا وولدى، أفآخذ من غير علمه؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : " خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف ".

انظر: صحيح البخارى ٣: ٢٨٩، ٤: ٢٤١، سنن ابن ماجة ٢: ٧٦٩ حديث ٢٢٩٣، احياء علوم الدين ٣: ١٥٢.

٣ - انظر سنن ابن ماجة كتاب النكاح(١٠) باب لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حديث ١٨٦٩، صحيح مسلم كتاب الطلاق(٦) باب المطلقة ثلاثا لا نفقة بها حديث ٣٦، ٤٧، ٤٨.

والمقصود ن (فلان) الاول هو معاوية بن ابى سفيان، ومن (فلان) الثانى هو ابوالجهم.

(*).

٥

تعم به البلوى.ويجب الاقتصار على موضع الحاجة، ولو اقتضت المصلحة التحذير والنصيحة ابتداء‌ا ولم يستدع الغير بالاشارة فلا فرق بينه وبين وبين الاول، وربما يجب ذلك اذا كان الضرر متوقعا.

الرابع: الجرح والتعديل للشاهد والراوي، ولذلك وضع العلماء كتب الرجال، قسموهم إلى ثقات والمجروحين، وذكروا أسباب الجرح في كثير من المواضع.ويجب رعاية الاخلاص في ذلك، بأن يقصد به حفظ أموال المسلمين، وصيانة الفروج، وضبط السنة المطهرة وحمايتها عن الكذب.ولايكون الباعث على ذلك العداوة والتعصب.ويجب الاقتصار على مايحصل به الغرض من القدح فيه بما يمنع من قبول الشهادة والرواية منه مازاد على ذلك.

الخامس: ذكر المبتدعة وتصانيفهم الفاسدة وآرائهم المضلة، وليقتصر على ما يحصل به المطلوب في ذلك شرعا، ومن كان منهم عدوا لاهل البيتعليهم‌السلام ، فلا حرج في ذكر معايبهم وقبائحهم، والقدوح في انسابهم واعراضهم بما هو صحيح مطابق للواقع تصريحا وتعريضا، كما وقع من أميرالمؤمنينعليه‌السلام ، وما صدر من أبى محمد الحسن صلوات الله عليه في مجلس معاوية لعنه الله في ذكره لمعايبه ومعايب عمرو بن العاص والوليد بن المغيرة وأمثالهم عليهم اجمعين من اللعن ما لا يحصى إلى يوم الدين.ولا حرج في تكرار ذلك والاكثار منه في المجالس لتنفير الناس منهم، وتطهير قلوب الخلق من الاعتقاد فيهم، والموالاة لهم بحيث يبرؤن منهم.وكذا لعنهم والطعن فيهم على مرور الاوقات مع مجانبة الكذب.

٦

ومن تأمل كلام سيدنا أميرالمؤمنين صلوات الله عليه في نهج البلاغة وجده مشحونا بذلك.وأما ما يصدر عن أهل الحق وعلماء الدين في المسائل الباطلة والاراء الفاسدة فيجوز ذكره والقدح في صحته وبيان دلائل بطلانه، ولو استدعى المقام التشنيع على قائله والخشونة في رده لعظم النفوس من الاعتقاد له جاز.ويجب في ذلك تخليص النية عما عدا قصد وجه الله تعالى، واظهار الحق، وصيانتها عن مخالطة سبب العداوة والحسد.ولو كان ثم مقالة متروكة وقد انقرض القائل بها ولا قائل بها الان، ولا يتوقع ذهاب أحد اليها، ولا حصول مفسدة بسببها، فان ترك التعرض إلى ذكر قائلها أولى وأحرى، فان الستر بستر الله تعالى من الامور المطلوبة شرعا.

السادس: القذف بما يوجب الحد والتعزير من الشهود اللذين يثبت بشهادتهم أحد الامرين، وكذا القذف من الزوج الموجب للعان.كل ذلك في مجلس الحاكم، لما في ذلك من فائدة دفع هذا النوع من المفاسد، ولوقوع ذلك في مجلس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأما السابع: فقد قيل انه اذا علم اثنان من شخص معصية بشاهدة ونحوها فتذاكراها فيما بينهما جاز، لان ذلك لايؤثر عند كل منهما شيئا زائدا على ما هو معلوم لهما، ولا زيادة هتك لعرضه.والاولى التنزه عن ذلك، لانهما مأموران بالستر، وربما وقع ذلك بعد عروض النسيان لاحدهما، أوكان سببا لاشتهاره.

فائدة: ينبغي أن يعتبر في الغيبة كون المذكور غيبة محصورا، فلو ذكر أهل بلدة كثير أهلها محصورين بتعداد، أو غير محصورين كبني تميم بمكروه يعد ذلك غيبة شرعا لانتفاء تشخص من تعلقت به، وانتفاء هتك العرض بذلك من حيث عدم انضباطهم

٧

بحيث يلزم تعلق القول بأحد منهم على اليقين، ولذلك لا تقبل الشهادة على غير المحصور بنجاسة ونحوها من الادميين وغيرهم، كالثياب والجلود ونحوها.ولو كانت الشهادة على النفي لم تسمع، لعدم ضبطه فلا يتعين أحد الافراد لتعلق الشهادة به.والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.

٨

(٨) رسالة في التقية

٩

الحمد لله كما ينبغي، والصلاة على محمد وآله.

اعلم أن التقية جائزه وربما وجبت، والمراد بها: اظهار موافقة أهل الخلاف في ما يدينون به خوفا.

والاصل فيه قبل الاجماع ما اشتهر من أقوال أهل البيتعليهم‌السلام وأفعالهم.وقد قيل في قوله تعالى: " ان اكرمكم عند الله اتقاكم "(١) ان معناه: عملكم بالتقية.

وعن الصادقعليه‌السلام : " التقية دينى ودين آبائي "(٢) ، وناهيك بقول أميرالمؤمنينعليه‌السلام : " أما السب فسبوني، فانه لي زكاة ولكم نجاة "(٣) اذا تقرر ذلك فاعلم أن التقية قد تكون في العبادات، وقد تكون في غيرها من المعاملات، وربما كان متعلقها مأذونا فيه بخصوصه كغسل الرجلين في الوضوء، والكتف في الصلاة.وقد لا يكون مأذونا فيه بخصوصه بل جواز التقية فيه مستفاد

____________________

١ - الحجرات: ١٣ (*)

٢ - الكافى ٢: ١٧٤ حديث ١٢ باب التقية.

٣ - الكافى ٢: ١٧٣ حديث ١٠ باب

١٠

من العمومات السالفة ونحوها.فما ورد فيه نص بخصوصه اذا فعل على الوجه المأذون فيه كان صحيحا مجزيا سواء كان للمكلف مندوحة عن فعله كذلك أم لم يكن، التفاتا إلى أن الشارع أقام ذلك الفعل مقام المأمور به حين التقية، فكان الاتيان به امتثالا فيقضى الاجزاء.وعلى هذا فلا تجب الاعادة ولو تمكن منها على غير وجه التقية قبل خروج الوقت، ولا اعلم في ذلك خلافا بين الاصحاب.ومالم يرد فيه نص بخصوصه كفعل الصلاة إلى غير القبلة، وبالوضوء بالنبيذ ومع الاخلال بالموالاة بحيث يجف البلل كما يراه بعض العامة، ونكاح الحليلة مع تخلل الفاصل بين الايجاب والقبول، فان المكلف يجب عليه اذا اقتضت الضرورة موافقة أهل الخلاف فيه اظهار الموافقة لهم، كما في المقارنة بالنية لاول الحجر في الطواف مع محاذاة أول جزء من مقاديم بدنه له.

ومع التعذر: فان كان له مندوحة عن ذلك الفعل لم يجب الاتيان به، والا أتى به مجزيا.

ثم ان أمكن الاعادة في الوقت بعد الاتيان به لوفق التقية وجب.ولو خرج الوقت نظر في دليل يدل على وجوب القضاء، فان حصل الظفر به أوجبناه، والا فلا، لان القضاء انما يجب بأمر جديد، هذا في العبادات.

وأما في المعاملات فلا يحل له باطنا وطء المنكوحة للتقية على خلاف مذهب أهل الحق، ولا التصرف في المال المأخوذ من المضمون عنه لو اقتضت التقية أخذه، ولا تزوج الخامسة لو طلق الرابعة على مقتضى مذهب أهل الخلاف دون المذهب الحق، و (في) الباب وجود نص بخصوصه في فعل مخصوص فحيث وجد ثبت الحكم الاول، وحيث انتفى انتفى.وربما قيل بعدم الفرق بين المقامين في كون المأتي به شرعا مجزيا على كل تقدير، وهو مردود.

١١

لنا ان الشارع كلف بالعبادة على وجه مخصوص ورتب الاثر في المقالة لوقوعها على وجه مخصوص، فلا يثبت الاجزاء والصحة بمعنى ترتب الاثر من دونهما وهو ظاهر.والاذن في التقية من جهة الاطلاق لا يقتضي أزيد من اظهار الموافقة، أما كون المأتي به هو المكلف به أو المعاملة المعتبرة عند أهل البيتعليهم‌السلام فأمر زائد على ذلك، لا يدل عليه الاذن في التقية من جهة الاطلاق باحدى الدلالات ثم نقول: يلزم القائل بعدم الفرق بين المقامين صحة الصلاة إلى غير القبلة، سواء كان إلى محض اليمين والشمال أو إلى دبر القبلة للتقية.وفي جلد الكلب كذلك، ومع الاخلال بالموالاة كما سبق، وجواز وطء الحليلة بنكاحهم، وتزوج الخامسة بايقاع الطلاق عندهم لضرورة التقية، وأخذ المال من المضمون لاجلها والتصرف فيه.ويلزمه أيضا عدم وجوب الاعادة وان بقي الوقت في العبادة لكون المأني به عنده شرعيا مجزيا.ويلزمه أيضا عدم اشتراط المندوحة في المقام الثاني كالاول.وجميع اللوازم باطلة.وقد نازع في التستر بجلد الكلب وادعى أن المكلف اذا لم يتمكن من نزعه لاجل التقية وضاق الوقت وصلى فيه تكون الصلاة صحيحة مجزية، واحتج عليه مع التقية بأن الستر ليس شرطا في الصلاة مطلقا بل في الجملة، وبالاجماع على الصحة والاجزاء في ذلك.

والجواب: ان الستر في الثوب المعين في موضعه شرط في الصلاة بالاجماع، للامر الدال على الوجوب في قوله تعالى: " خذوا زينتكم "(١) ، وغيره مما هو كثير، وقد جوز الشارع الصلاة بغير ساتر وفي الثوب المتنجس، وفي الحرير للرجل في مواضع مخصوصة، فلذلك لم يكن الستر شرطا مطلقا.نعم لا يجوز

____________________

١ - الاعراف: ٣١.

(*)

١٢

تعدي هذه المواضع ونحوها، مما هو مستفاد من النصوص، لان العام اذا خصص كان حجة في ما بقي، وكذا المطلق اذا قيد.وأما دعوى الاجماع فتوقف على اثباته باستقراء فتاوى الفقهاء في هذه المسألة، وكونها على وفق ما يدعيه، وأنى له بذلك.

وربما يقال: انه يحتج بعبارة شيخنا في المقنعة المشهورة في الصلاة المعروفة بالالفية وهي: وكذا باقي الشروط فيصح القضاء في فاقدها، لا فاقد الطهارة.

وجوابه: ان هذه العبارة لو كانت حجة يعول عليها لم تدل على مطلوبه، لان جلد الكلب من موانع الصلاة، والعبارة انما تدل على الجواز من دون الشرط، ولا دلالة لها على المانع بوجه من الوجوه.

وقدورد في مرسل ابن أبي عمير عن الصادقعليه‌السلام : " لا تصل في شئ من جلد الميتة، ولا بشسع ".وقد تقرر في الاصول أن النهي في العباده يدل على الفساد، وهو دال على المراد في محل النزاع، كاف لمن كان له ملاحظة الانصاف.

١٣

(٩) رسالة في ملاقى الشبهة المحصورة

١٤

١٥

الحمد لله رب العالمين، والصلاة على محمد وآله الطاهرين.

هذا تحقيق لمسألة شرعية اتفق خفاؤها، فطلب من لا يسع مخالفته إلى هذا الضعيف املاء شئ في كشفها، فكتبت هذه الاسطر مستعينا بالله ومتوكلا عليه.

وتحرير المسألة: ان الشئ اذا تنجس بعضه وكان محصورا كالثوب والقطعة من الارض، واشتبه لايعلم موضع النجاسة أي جزء هو من أجزائه، فلا ريب أن المجموع قد تكافأ فيه - باعتبار كل جزء من أجزائه - احتمال طهارته ونجاسته، واعتدل هذان الاحتمالان، بحيث لم يبق لشئ من تلك الاجزاء رجحان أحد الاحتمالين على الاخر، وذلك ناقل عن حكم الطهارة الذي كان قبل ذلك لامحاله سواء كان حكم الطهارة مستندا إلى الاصل أو غيره.وحينئذ فكلما يشترط فيه الطهارة لا يجوز الاكتفاء بأحدهما فيه، فلو لبس أحد الثوبين وصلى لم يجزئه، لفوات الشرط.وكذا لو جعل مسجده جزء‌ا من تلك الارض المشتبهة، لمثل ما قلناه.لكن لو لاقى أحدهما شئ معلوم الطهارة فما

١٦

الذي يكون حكمه شرعا من طهارة وغيرها؟ الذي يقتضيه ظاهر المذهب، ويدل عليه الدليل بقاؤه على طهارته من غير أن يتغير حكمه الذي كان عليه قبل الملاقاة.ولا نعرف للاصحاب كلاما صريحا في ذلك الا ما ذكره العلامة في النهاية، فانه استشكل الحكم في ذلك(١) .وفي المنتهى ذكر شيئا في باب الانية المشتبهة(٢) ، قد يتخيل انه مما نحن فيه وسنذكر تحقيقه في ما بعد انشاء الله تعالى.

يدل على ما ذكرناه وجوه:

الاول: التمسك بأصالة البراء‌ة المقتضي لعدم ثبوت التكليف لوجوب اجتنابه لعدم الدليل الناقل عن حكم الاصل، فيجب التمسك به إلى أن يثبت ما ينافيه.

الثاني: استصحاب الحال الذي كان قبل الملاقاة، فان الاصل بقاؤه إلى أن يتحقق ما ينافيه، واستصحاب الحال حجة كما تقرر في الاصول، ومن ادعى منافيا من الكتاب والسنة أو الاجماع فعليه البيان.

الثالث: انتفاء المقتضي لوجوب الاجتناب، فينتفي الحكم.

أما الاولى، فلان المقتضي لوجوب الاجتناب في محل النزاع: اما الحكم بنجاسته، أو اشتباهه بالنجس.

والاول منتف قطعا، لان النجاسة حكم شرعي مناطها ظاهر الحال، لا ما في نفس الامر.وحيث لم تتحقق ملاقاته للجنس لم يتحقق الرافع لطهارته المقطوع بها قبل ذلك، فتحقق انتفاء الحكم بالنجاسة.وأما اشتباهه بالنجس، فلان الاشتباه به عبارة عن وقوع اللبس في تعيين الشئ المقطوع بنجاسته من الشيئين أو الاشياء، لانتفاء العلم بعينه منهما، وتطرق الاحتمال إلى كون كل واحد منهما هو النجس كما يتطرق إلى الاخر، ومعلوم

____________________

١ - نهاية الاحكام ١: ٩ ٢٤.

٢ - منتهى المطلب: ١: ٢٠.

(*)

١٧

انتفاء هذا المعنى عن محل النزاع.واذا انتفى كل من الامرين اللذين انحصر المقتضي لوجوب الاجتناب فيهما وجب الحكم بانتفاء وجوب الاجتناب، والا لم يكن المقتضي مقتضيا، هذا خلف.

الرابع: ان عدم بقاء المنازع على طهارته لو ثبت فانما يكون ثبوته لاحتمال ملاقاته للنجس، للاتفاق على انتفاء غيره مما يكون صالحا للعلة.وأما احتمال ملاقلاته للنجس فانه بمجرده لايزيل حكم الاصل الموضوع به، فان الشك الطارئ لا يزيل اليقين السابق قطعا.وعند التحقيق فليس هناك ما يتخيل منافاته الامجرد احتمال ملاقاته النجس المنفي بأصالة العدم، وبأن احتمال ملاقاته النجس معارض باحتمال كون الملاقي هو الطاهر فيتكافآن ويرجع إلى أصل الطهارة المعلوم قبل ذلك، كما هو مقرر في باب الترجيح في الاصول.

الخامس: ان من صور النزاع مالو كان الملاقي لاحد الشيئين ماء معلوم الطهارة، وعلى القول بارتفاع الحكم بطهارته يجب الحكم بالتيمم مع وجوده والتالي باطل، لقوله تعالى: " فلم تجدوا ماء فتيمموا "(١) شرط لجواز التيمم فقد الماء، الا ما أخرجه الدليل، فيبقى محل النزاع داخلا، لعدم الدليل الدال على اخراجه المقتضي للتخصيص من كتاب أو سنة أو اجماع.فان المخصص للكتاب منحصر في الامور المذكورة، ومن ادعى مخصصا وجب عليه البيان.وأما بيان الملازمة فظاهر، لان شرط جواز الوضوء والغسل كون الماء محكوما بطهارته شرعا، وعلى ما يدعيه الخصم من ارتفاع الطهارة ينتفي الشرط.

واذا كان الحكم في الماء مع الملاقاة المذكورة الطهارة، فكذا غيره، لعدم الفاضل.وفي معنى الاية المذكورة جميع العمومات والاطلاقات الواردة في السنة بالامر

____________________

١ - المائدة: ٦.

(*)

١٨

بالطهارة وازالة النجاسة مطلقا، فتكون كلها بعمومها أو باطلاقها دليلا على ما ذهبنا اليه.والعام والمطلق من الدلائل التي لا راد لها الا أن يتحقق ما يخص العام أو يقيد المطلق.ومعلوم انتفاؤه في محل النزاع، الا ما يخطر في الاوهام على خواطر من لم ترض نفسه بمعرفة طرق الاستدلال الفقهية، فتراه يخبط خبط عشواء في الليلة الظلماء، لا يتميز عنده غث ما في يدين من سمينه.اذا عرفت ذلك فأفصى ما يمكن أن يحتج به من ينازع في هذا الباب أمران:

الاول: ان المحل الملاقي لاحد الشيئين المقطوع بنجاسة أحدهما من غير تعيين لا يبقى على طهارته، لملاقاته ما ألحقه الشارع بالنجس في حكمه، واذا انتفى الحكم بالطهارة ثبت اما التنجيس أو المساواة للنجس في حكمه، وهو المدعى.

الثاني: ان كلا من الشيئين المشتبهين ثبت له الحكم بالاشتباه قطعا، فوجب اجتنابه لذلك، ومتى ثبت ذلك لزم في الملاقي له مثله وحقية المقدم ظاهرة بيان الملازمة: ان ملاقاة أحد الشيئين للاخر برطوبة تقتضي المساواة في الحكم بزوال الطهارة وثبوت النجاسة والاشتباه، وتحقق المساواة في موضع النزاع يقتضي زوال الحكم بالطهارة، وهو المدعى.على أن العلامة في المنتهى قال ما صورته: الرابع: لو استعمل الانائين وأحدهما نجس مشتبه، وصلى لم تصح صلاته ولم يرتفع حدثه، سواء قدم الطهارتين، أو صلى بكل واحدة صلاة، لانه ما يجب اجتنابه فكان كالنجس.وكذا لو استعمل أحدهما وصلى به لم تصح صلاته، ووجب عليه غسل ما أصابه المشتبه بماء متيقن الطهارة كالنجس، وهو أحد وجهي الحنابلة، وفي الاخر لايجب غسله، لان المحل طاهر بيقين فلا يزول بشك النجاسة(١)

____________________

١ - انظر: المغنى ١: ٨١، الشرح الكبير ١: ٨١.

(*).

١٩

والجواب: لا فرق في المنع بين تيقن النجاسة وشكها هنا، بخلاف غيره(١) .هذا آخر كلامه.

والجواب عن الامر الاول: ان المشتبه بالنجس ليس ملحقا بالنجس في نجاسته قطعا، ولا في القطع بتنجيس الملاقي له أيضا، لانتفاء العلم بنجاسته، فان نجاسته بعينه أمر محتمل، وان كان نجاسة أحدهما مقطوعا بها، وانما المتحقق حاقه له فيه هو وجوب اجتنابة في الامر المشروط باطهارة، لتكافؤ الطهارة والنجاسة فيه.والحاصل أن نقول في الجواب: ان اريد أن المشتبه بالنجس قد ألحقه الشارع به في جميع أحكامه فهو باطل.وان اريد الحاقه به في تنجيس ما يلاقيه، أو في وجوب اجتناب ما يلاقيه فهو ممنوع، ولا يلزم من ثبوت المنع ثبوته في ما يلاقيه.

والجواب عن الثاني: انا لا نسلم أن ملاقاة أحد الشيئين للاخر برطوبة تقتضي المساواة بينهما في الحكم مطلقا، وانما يثبت التساوي بينهما اذا كان المحل الملاقي معلوم النجاسة فيتساويان فيها.

أما وصف الاشتباه فقد عرفت انه انما يثبت اذا كان احتمال النجاسة مكافئا " لاحتمال الطهارة وناقلا عن حكم الاصل، وذلك انما يكون اذا قطع بنجاسة أحدهما ولم يتعين.وهذا المعنى معلوم الانتفاء عن محل النزاع، فانه انما وقع الشك في كون الملاقي له هو الطاهر فيبقى على اصله، أو النجس فيخرج عنه إلى النجاسة استسلاف يقين الطهارة الحاصل قبل تدافع الاحتمالين، ومع تقدم اليقين المذكور يتعقل حصول الشك.

وجملة القول في الامرين: المستدل يرجع إلى أن المشتبه بالنجس اذا لاقاه جسم آخر برطوبة أفاده حكم الاشتباه، وهذا مجرد دعوى لا دليل عليه، والمنع متوجه اليه ما بلغ وجه.

____________________

١ - منتهى المطلب ١: ٣٠.

(*)

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

لا يقول به إلاّ شرذمة من القائلين بالقدم ؛ قال صدر المحقّقين في رسالة اثبات الواجب : وأمّا نسبة التزام هذه التسلسل إلى الحكماء فافتراء ؛ وقال ولده غياث المدقّقين في شرحه : اي قدماء الحكماء المحقّقين ، فانّهم انكروا ذلك كما لا يخفى على من تصفّح الصحف الموروثة عنهم ، وانّما التزمه قوم من المتفلسفين المتأخّرين ممّن لا اعتماد على كلامهم. والمنكرون للتسلسل في الشروط الحادثة بيّنوا كيفية حدوث الحوادث اليومية بوجه آخر ، وهو انّهم اثبتوا حركة سرمدية وهي أمر واحد متّصل وله اجزاء فرضية فكلّ فرد من الحوادث مستند إلى بعض معيّن من تلك الحركة الواحدة ؛(١) انتهى.

وذلك لأنّ التصفّح يعطي بأنّ الفلاسفة متّفقون على التزام التسلسل في الشروط الحادثة ؛ واذعانهم بوجود الحركة السرمدية دليل قاطع على ذلك ، لأنّ الحركة القديمة ذو اجزاء كلّ جزء منها متوقّف على جزء سابق عليه ، فيلزم التسلسل في الأمور المتعاقبة. فجعل استناد الحوادث اليومية إلى الحركة السرمدية دليلا على عدم توقّف الحادث على الشروط الحادثة الغير المتناهية أمر غريب.

وقال بعض أهل التحقيق : انكار كون هذه المقدّمة مسلّمة عند الحكماء غريب جدا ، إذ لا ريب لمن تصفّح كتبهم في انّهم يقولون بها.

وما تخيّله من أنّهم قالوا باستناد الحوادث إلى الحركة وهي موجود واحد قديم بلا توقّف على شرط فلم تكن المقدّمة مسلّمة عندهم ، ففيه : انّ نظرهم إلى انّ الحركة لها أجزاء غير متناهية يتوقّف كلّ جزء منها على سابقه. وحينئذ لا بأس باستناد الحوادث إليها ، إذ توقّف كلّ حادث على شرط حادث على سبيل التسلسل على التعاقب ، فليس في ذلك دلالة على تجويزهم استناد الحادث بالقديم بلا توقّف على شرط حادث. كيف ولو جوّزوا ذلك فما بالهم ارتكبوا تلك الحركة وتورّطوا فيما تورطوا فيه؟!. فظهر انّ تعليل عدم امكان جعل الاستدلال المذكور جدليا والزاميا للحكماء لعدم كون المقدّمة(٢) المذكورة مسلّمة عندهم غير صحيح. فالصحيح تعليله

__________________

(١) ما عثرت على هاتين الرسالتين ، والظاهر انّهما لم تطبعا بعد.

(٢) الاصل : المسألة.

٢٦١

بما ذكروا بانّ الحكيم قائل بتوقّف الحادث على الشرط الحادث مطلقا ، سواء كان الفاعل مختارا أو موجبا ، فعلى تقدير جعله جدليا والزاميا للحكيم يتوجّه على المعتزلة النقض قطعا ؛ هذا.

وقيل في بيان عدم جواز استعمال الدليل المذكور لا برهانيا ولا جدليا من قبل المعتزلة وورود المعارضة عليهم مع انّهم يجوز لهم على الظاهر أن يقولوا ـ لم لا يجوز أن تكون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور وان اعتقدنا بطلانها في نفسها كما في كثير من توالي المتّصلات اللزومية ـ : انّ القول بالمقدمة المذكورة كما انّه لا يصحّ في نفسه عندهم كذلك ليس لازما لفرض الايجاب المذكور في الواقع حتّى يصحّ استعمال المعتزلة لها على فرضه ، وحينئذ لا يجوز لهم استعمالها أصلا.

بيان عدم اللزوم : انّ معنى الايجاب المذكور هو امتناع انفكاك الذات عن ايجاد العالم مطلقا في الازل ، فيلزمه حصول جميع شرائط التأثير فيه في الأزل وعدم توقّفه على شيء اصلا فلا يمكن مع استلزامه عدم التوقّف المذكور أن يستلزم أيضا توقّفه على الشروط للزوم اجتماع النقيضين ، وهو محال ؛ فثبت انّ توقّف العالم حال حدوثه على حادث آخر لا يمكن أن يكون لازما لفرض الايجاب المذكور ؛ انتهى.

وفيه : ما تقدم من انّ بناء الاستدلال على قطع النظر عن استحالة اجتماع الايجاب المذكور مع حدوث الأثر ، ولولاه لم يصحّ للأشعري أيضا نفي مطلق الايجاب. وإذا كان اجتماع هذين الأمرين ـ أعني : القدم والحدوث ـ محالا ومع ذلك فرض وقوعه واستدلّ على تقديره فلا مانع من لزوم محال آخر منه ـ أعني : اجتماع عدم التوقّف على شيء والتوقّف على الشرط ـ ، لأنّ المحال قد يستلزم فرضه محالا آخر والاستدلال بفرض وقوع محال وترتّب محال آخر عليه أمر شائع بينهم ، ولو منعه مانع محتجّا بعدم فائدة فيه وعدم الاحتياج إليه فهو كلام آخر. وسنذكر انّ من وجوه الاختلال في هذا الاستدلال عدم الاحتياج إليه ، للزوم القدم على فرض الايجاب المذكور ضرورة ، ونشير إلى / ٥٩ MB / أنّ من وجوه الاختلال فيه وان كان مندفعا بما ذكر من لزوم اجتماع النقيضين ـ أعني : الايجاب بالمعنى المذكور والحدوث ـ ، والمحال قد يستلزم المحال.

٢٦٢

فلقائل أن يقول : حينئذ لا مانع من لزوم التسلسل في الشروط المتعاقبة لامكان استلزام المحال المحال ، والمطلوب هاهنا انّه مع قطع النظر عن هذه الوجوه من الاختلال يلزم اختلال آخر أيضا ، وهو المعارضة من قبل الحكماء على المعتزلة.

الثاني : انّ المعارضة يرد على الأشعري أيضا. فان أجيب : بانّ للأشعرية الجواب بالتزام التخلّف والترجيح بلا مرجّح ويكون كلامه في الاستدلال على سبيل الجدل والالزام ؛

قلنا : للمعتزلة أيضا التزام عدم توقّف الحادث على شرط حادث ويكون كلامهم في الدليل على سبيل الجدل ؛ انتهى.

ولا يخفى ضعفه على ما بيّناه ، لأنّ الاستدلال المذكور على مذهب الاشعري برهاني لا يتوجّه عليه النقض مطلقا ، لأنّ في صورة الاختيار يجوز الترجيح بلا مرجّح عنده بخلاف صورة الايجاب. وما ذكره من امكان جعل الدليل المذكور جدليا من قبل المعتزلة فقد عرفت فساده.

وبذلك يندفع ما ذكره بعض آخر : انّ الدليل المذكور لا يمكن اجرائه من قبل الأشعري أيضا لا برهانيا / ٥٦ DA / ـ لتجويزه الترجيح بلا مرجّح ـ ولا جدليا ـ لابتنائه على استحالة التسلسل في الشروط المتعاقبة ـ ، مع أنّ الحكماء يجوّزوه ، فلا يصحّ استعماله الزاما عليهم. فالحقّ انّ هذا الدليل لا يصحّ اجرائه اصلا لا من قبل الأشعري ولا من قبل غيره ، لا برهانيا ـ لابتنائه على التوقّف على الشرط الحادث وهو غير ممنوع عند المتكلّمين ، أمّا عند الأشاعرة منهم فلتجويزهم الترجيح بلا مرجّح ، وأمّا عند غيرهم فلأنّ المرجح عندهم إمّا علم الفاعل وإمّا ذات الوقت ـ ؛ ولا الزاميا ـ لابتنائه على استحالة جميع انحاء التسلسل ، وهو غير ممنوع عند الحكماء ـ أيضا ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع ما عرفت من صحّة جعله برهانيا من قبل الأشعري.

والحقّ انّه يمكن أن يكون من قبله جدلا والزاما على الحكماء أيضا. وما استدلّ به على عدم امكان جعله جدليا يرد عليه : انّه لا ريب في أنّ أحد مقدّمات هذا الدليل ـ وهو لزوم التسلسل في الشروط ـ جدليّ للزومه على مذهب الحكيم دون

٢٦٣

الأشعري ، وهو يكفي لكونه جدليا ، ولا يلزم أن يكون باقي مقدّماته أيضا جدليا. ولا يلزم من استعمال مقدّمة في الدليل جدلا أن يكون جميع مقدّماته ممّا يسلّمه الخصم ، بل يجوز أن يكون بعض مقدّماته ممّا يعتقد المستدلّ كونه برهانيا وإن لم يسلّمه الخصم فاذا كان لزوم التسلسل في الشروط مسلّما عند الحكيم لزم كونه جدليا وان كان بطلانه غير مسلّم عنده ، بل كان ممّا اعتقده الأشعري وثبت عنده بالبرهان ، هذا.

وقال بعض الفضلاء : انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة غير تامّ ، إذ هم يجوّزون تخلّف المعلول عن العلّة التامّة واستحالته مأخوذة في الدليل.

واجاب عنه بعض الأعلام : بانّ المذكور في الاستدلال هو التخلّف عن الموجب التامّ وهو باطل باتفاق العقلاء ، لكن الأشاعرة ينفون الموجب مطلقا لا أنّهم يجوّزون التخلّف ؛ كيف وهو في قوّة اجتماع النقيضين؟!. وأمّا تخلف المعلول عن العلّة التامة فهو وان كان جائزا عقلا عندهم لكنّه غير واقع ومستحيل عادة نعم! تخلّف العلّة التامة عن المعلول بمعنى انفكاك ذاته في الأزل عن ايجاد الفعل مطلقا جائز وواقع عند أكثر المتكلّمين ، لأنّ ذاته ـ تعالى ـ مع علمه وارادته علّة تامة في الأزل لوجود العالم عندهم ، بل موجب تامّ عند بعضهم ـ كالمحقق الطوسي واتباعه ـ ، والعالم غير موجود فيه وبناء تجويز ذلك عند كلّ طائفة أمر وعند المحقّق الطوسي هو العلم بالأصلح ؛ انتهى.

وحاصله : انّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ والكلام في الاستدلال انّما هو فيه ، وهو صحيح لا غبار عليه ، كما مرّ غير مرّة من أنّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ وإن جوّزوا التخلّف عن الفاعل المختار بسبب الإرادة ، لا بأن يكون التخلّف جائزا بعد تعلّق الإرادة بالفعل ـ لوجوبه حينئذ عندهم ـ ، بل قبل تعلّقها بمعنى انّ تعلّقها بالفعل ليس بواجب ، فيجوز للفاعل المستجمع لجميع الشرائط أن يريد الفعل وأن لا يريد ، لجواز الترجيح بلا مرجّح.

فالتخلّف الجائز عن الفاعل المختار هو التخلّف عن المختار المستجمع للشرائط من الدواعي وغيرها سوى الإرادة ، ومع الإرادة لا يجوّزون التخلّف. ولا ريب انّ الفاعل بدون تعلّق الإرادة ليس علّة تامّة وان حصل جميع ما سواه من شرائط

٢٦٤

التأثير. فما ذكره المجيب المذكور من أنّ التخلّف عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ليس على ما ينبغي!.

قال بعض أهل التحقيق : ان مذهب الاشاعرة في صدور الفعل عن الفاعل المختار انّه يصدر عنه بدون اللزوم والوجوب في الاختيار والإرادة ، كما هو زعم المعتزلة من انّه لا بدّ من مرجّح في الفعل يوجب تعلّق الإرادة مثل كونه أصلح للصدور ، لأنّ الاشاعرة قالوا : المختار مرجّح بإرادته من غير مرجّح يوجب تعلّق الإرادة وان كان صدور الأثر بعد تعلّق الإرادة واجبا. فلا يتوهّم أنّ الأشاعرة ينفون وجوب الفعل والأثر بعد تعلّق الإرادة ، بل القول بانّ الشيء ما لم يجب لم يوجد متّفق عليه بين الكلّ إلاّ شرذمة قليلة من المتكلّمين القائلين بالأولويّة / ٦٠ MA / الغيرية ، فالوجوب واللزوم اللذان ينفيهما الاشاعرة وجوب تعلّق الإرادة بسبب موجب له ـ كالأصلحية مثلا ـ ، لا وجوب الفعل بغير الإرادة. وقد اعترض عليهم : بانّ ما قيل في وجوب الفعل آت بعينه في تعلّق الإرادة أيضا ؛ انتهى. وقال بعض آخر من الأعاظم : انّ ما نسب إلى الأشعري من انّ تخلّف المعلول عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ممّا لم أقف على مأخذه! ؛ بل ظاهر كلام المواقف وشرحه انّهم يقولون باستحالة التخلّف عقلا. قال في المواقف : الإرادة القديمة يوجب المراد ؛ وفي شرحه : اي : إذا تعلّقت إرادة الله ـ تعالى ـ بفعل من أفعال نفسه لزم وجود ذلك الفعل وامتنع تخلّفه عن ارادته ، اتفاقا من أهل الملّة والحكماء أيضا(١) ؛ انتهى.

وأيضا اورد في بحث الاختيار من جانب القائلين بايجاب السؤال : بأنّ قدرته ـ تعالى ـ متعلّقة في الأزل بهذا الطرف وبه يجب وجوده ، وحينئذ فما الفرق بين الموجب والمختار؟ ؛

وأجاب : بانّ الفرق انّه بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن تعلّق قدرته يستوي إليه الطرفان ، ووجوب هذا الطرف وجوب بشرط تعلّق القدرة والإرادة به ، لا وجوب ذاتي كما في الموجب بالذات / ٥٦ DB / ؛ ولا يمتنع عقلا تعلّق قدرته بالفعل بدلا

__________________

(١) ما وجدت العبارة في المواقف وشرحه.

٢٦٥

من الترك وبالعكس. وأمّا الموجب فانّه يتعين تأثيره في أحدهما ويمتنع في الاخر عقلا ؛ انتهى.

وتوضيح المقام : انّ مذهب الأشاعرة هو أنّ الفعل بعد تعلّق الإرادة به يصير واجبا ، ومرادهم بامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامة هو هذا ـ أي : يمتنع تخلّفه عن الفاعل بعد تعلّق الإرادة واستجماعه لسائر الشرائط ـ. ولكن تعلّق الإرادة به ليس بواجب ، لانّ الفاعل المستجمع لجميع الشرائط يمكن أن يريد الفعل وأن لا يريد ـ بناء على جواز الترجيح بلا مرجّح ـ. والمراد بنفيهم الايجاب هو هذا ؛ أي : ليس شيء من الأفعال ممّا يجب صدوره عن الفاعل ، فانّ عدم ارادته له ممكن وحينئذ لم يصدر ذلك وإن كان بعد تعلّق الإرادة يجب الصدور البتة. وعلى هذا فالوجه في تمشّى الاستدلال المذكور على مذهب الأشاعرة هو انّهم يقولون : إذا كان الفاعل موجبا لا بدّ أن تكون ارادته واجبة الصدور منه ، فحينئذ فجميع الشرائط ان كانت حاصلة في الأزل يجب القدم وإلاّ يتوقّف على شرط حادث ، وأمّا إذا لم يكن موجبا فيجوز أن يكون جميع الشرائط حاصلة في الأزل ، ولكن لم تتعلّق به الإرادة في الأزل ، فلم يوجد الفعل وتعلّقت به فيما لا يزال ، فوجد الفعل ؛ هذا.

وقد بقي في المقام اشتباه ربما يزلّ به بعض الاقدام لا بدّ من الاشارة إلى دفعه. وهو : انّكم قلتم في مقام الاستدلال : لو كان الفاعل موجبا بالمعنى المذكور وكان العالم حادثا لزم التوقّف على شرط حادث لازم لفرض الايجاب بالمعنى المذكور ؛ فنقول : إن كانت المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور على الاطلاق كان الاستدلال حينئذ تامّا من قبل المعتزلة ولا يرد عليهم المعارضة ، كما انّه تامّ من قبل الأشاعرة. ولو لم تكن لازمة له على الاطلاق لم يكن الاستدلال المذكور تامّا من قبل الاشاعرة أيضا ، كما انّه ليس تامّا من قبل المعتزلة ، لأنّ المقدّمة المذكورة إذا لم تكن لازمة للايجاب بالمعنى المذكور كيف يجوز للأشعري أن يقول ـ على فرض الايجاب المذكور ـ : إذا كان العالم حادثا لزم التسلسل في الحوادث إن كان تأثيره ـ تعالى ـ في الحادث محتاجا إلى مرجّح غير الإرادة؟! ، وأنّى له أن يدّعى اللزوم بين غير المتلازمين؟!.

٢٦٦

ووجه الدفع فيه : انّ المراد بعدم كون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب بالمعنى المذكور ـ أي : الايجاب بالمعنى الاخصّ المساوق للقدم في مقام المعارضة ـ انّها ليست لازمة لفرض هذا الايجاب المخصوص على أن يكون للخصوصية دخل في الاستلزام وإن كان لازما لمطلق الايجاب ـ أي : الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء ، وهو الايجاب الخاصّ المذكور المساوق للقدم ـ والايجاب بالاعتبار الّذي قال به المعتزلة ـ أي : وجوب الفعل في آن حدوثه بسبب الداعي ـ ، فالمراد بعدم لزوم تلك المقدّمة للايجاب المذكور هو انّ تلك المقدمة ليست لازمة لفرض خصوص هذا الايجاب الّذي قصد هاهنا ابطاله ، فلا يمكن استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي قال به المعتزلة ، لأنّه لو كان لخصوصية الايجاب المذكور دخل في استلزام المقدّمة لامكن أن يبطل بها الايجاب المذكور ويثبت بها الايجاب الآخر ، ولكن لم يكن اللزوم لخصوصية الايجاب المذكور ، بل كان لمطلق الايجاب لم يمكن ابطال قسم منه واثبات قسم آخر.

والمراد بلزوم المقدّمة المذكورة للايجاب بالمعنى المذكور في الاستدلال هو لزومها له في ضمن مطلق الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء وايجاب المعتزلة ، وعلى هذا فالايجاب سواء كان بالمعنى المقصود هاهنا ـ أعني : امتناع / ٦٠ MB / الانفكاك المساوق للقدم ـ أو بالمعنى الّذي اثبته المعتزلة ـ وهو الوجوب بالداعى في آن الحدوث المسمّى بالاختيار المقابل للايجاب المقصود هاهنا ـ مستلزم للمقدّمة المذكورة. فكما يرد حينئذ لزوم المقدّمة المذكورة على الحكيم يرد على المعتزلى أيضا ، فالمعارضة واردة على المعتزلة. ولو كانت المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص ايجاب الحكماء لزم ورودها عليهم فقط لا على المعتزلة ، وكان لهم أن يقولوا : الايجاب الّذي نحن نثبته غير مستلزم لتلك المقدمة ، فلم يتوجّه عليهم المعارضة.

ثمّ لمّا كانت تلك المقدّمة لازمة للايجاب المطلق فيمكن للأشعري ـ الّذي لا يقول بالايجاب اصلا ـ ابطال مطلق الايجاب بلزومها ؛ فانّ للأشاعرة في هذا المقام مطلوبين : أحدهما نفى الايجاب الخاصّ المستلزم للقدم المخصوص بالحكماء ؛ وثانيهما : نفى مطلق

٢٦٧

الايجاب المشترك بين الحكماء والمعتزلة ، بل اثبات الاختيار المستلزم لجواز الترجيح بلا مرجّح المختصّ بهم والمقدمة المذكورة وان كانت غير مسلّمة عندهم أيضا ولا لازمة لفرض الايجاب الأوّل لكنّها لازمة لفرض الايجاب الثاني على زعمهم ، بل لنفي الاختيار المخصوص بهم ، فيصحّ استعمالهم في اثبات المطلوب الثاني دون الأوّل. وعلى ما ذكر يندفع الاشتباه ولا تبقى شبهة أصلا.

والعجب انّ بعض الاعاظم بعد أن / ٥٧ DA / أورد في المقام حاصل ما ذكرناه قال : فان قيل : كيف يجوز عند الأشاعرة لزوم تلك المقدّمة لفرض الايجاب المطلق ولا يجوز للايجاب الخاصّ ؛ واجاب : بانّ عدم لزوم تلك المقدّمة للايجاب الراجع إلى القدم من جهة انّ فرض الحدوث المذكور فيها مناف لفرض ذلك الايجاب ، إذ محصّل الكلام انّه على تقدير قدم العالم لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ، وبطلانه ظاهر. بخلاف الايجاب المطلق ، فانّه لا منافاة بين فرضه وفرض حدوث العالم ، فيحتمل لزوم تلك المقدّمة على فرضه دون الاول ؛ انتهى.

ووجه التعجّب : عدم توجّه السؤال وازالة الاشتباه بالكلّية بعد ذكر ما أوردناه ، لأنّا ذكرنا انّا لا نقول بعدم لزومها للايجاب الخاصّ ، بل نقول انّه ليس لخصوص ذلك الايجاب دخل في لزومها ، فلا يتمشّى استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي تجري المقدّمة المذكورة في ابطاله أيضا. نعم! يمكن استعماله في ابطال مطلق الايجاب كما هو رأي الأشعري ؛ وعلى هذا يتمّ المطلوب ولا يبقى مقام للاشتباه والسؤال ، فلا ايراد.

ثمّ ما ذكره في الجواب فلا يخفى وهنه! ، لانّا ذكرنا مرارا انّ بناء الاستدلال على فرض اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور وقطع النظر عن استحالته. على انّه على ما ذكره تكون المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص الايجاب الّذي يقول به المعتزلة لا ما يقول به الحكماء أيضا ، فلا يمكن للأشعري نفي مطلق الايجاب بلزومها ، مع انّه قد صرّح بلزومها للايجاب المطلق ؛ هذا.

وربما يتراءى في المقام أن يقال : انّ للايجاب المقصود هنا ـ أعني : ايجاب

٢٦٨

الحكماء ـ معنى آخر غير الايجاب الّذي يقول به الحكماء والمعتزلة ـ أي : صدور الشيء بالوجوب واللزوم ـ وهو المراد بالايجاب المطلق. وليس الايجاب الأوّل ـ أعني : ايجاب الحكيم ـ فرد ، فلا يلزم من لزوم تلك المقدّمة للايجاب الثاني لزومها للأوّل أيضا. وعلى هذا فلا تكون المقدّمة المذكورة لازمة للايجاب بالمعنى المقصود هاهنا ، لا بخصوصه ولا في ضمن مطلق الايجاب الّذي أثبته الحكيم والمعتزلي ؛ فلا يمكن ابطال الايجاب المذكور بلزومها اصلا.

وهو مردود بأنّ ايجاب الحكيم وإن كان معنى آخر لكن لا شكّ في انّه مستلزم للايجاب بالمعنى الثاني ، إذ امتناع انفكاك الأثر عن المؤثّر لا يكون إلاّ إذا كان صدوره عنه بالوجوب واللزوم ، وإذا كان مستلزما له فيكون مستلزما للازمه أيضا ؛ على انّه لو كان الأمر على ما توهّم لما كان للأشعري أيضا أن يبطل الايجاب المختصّ بالحكماء بلزوم المقدّمة المذكورة.

تنبيه

على ما ذكرنا من تمشّي الدليل المذكور من قبل الأشاعرة في نفي المرجّح ونفي الايجاب المطلق لا يتوهّم أحد منهم انّ كلامهم صحيح واستدلالهم في الواقع ونفس الأمر تامّ! ، بل هو عند التحقيق ساقط.

وتوضيح الكلام في هذا المقام : انّ الاشاعرة جوّزوا الترجيح بلا مرجّح ونفوا الاحتياج إلى المرجّح مطلقا وقالوا بجواز صدور الفعل عن الفاعل بدونه. وانّما أقاموا الدليل المذكور أوّلا على ذلك المطلوب ، وحاصله : انّه لو كان تأثير الواجب في الحادث يحتاج إلى مرجّح غير الإرادة لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث. ولمّا كان هذا الدليل المذكور أوّلا على نفي الايجاب أيضا استعملوه فيه أيضا ، فان استعملوه في نفي الايجاب المطلق المقصود منه الايجاب بالاختيار أيضا ـ أي : الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة ـ كان حاصل كلامهم حينئذ انّ تأثيره ـ تعالى ـ في العالم ليس بالايجاب بمعنى وجوب الفعل ولزومه ، بل بالاختيار بدون الوجوب واللزوم بأن يكون المرجّح نفس

٢٦٩

إرادة الفاعل المختار ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في / ٦١ MA / الحوادث ؛ وان استعملوه في نفي الايجاب المقصود هاهنا ـ أعني : امتناع الانفكاك ـ كان حاصل كلامهم انّ تاثيره ـ تعالى ـ في العالم ليس بالايجاب بمعنى امتناع الانفكاك ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في الحوادث. ولا ريب انّ قولهم بنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة انّما هو مبني على قولهم الأوّل ـ أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح ـ ، إذ على تقدير جوازه لا يتحقّق لشيء من الفعل والترك وجوب ولا اولوية بالنسبة إلى الفاعل في شيء من الاوقات ، وانّما التعيين والتخصيص من جهة الإرادة من دون وجوب تعلّقها بشيء من الطرفين وإن وجب بعد تعلّقها.

ثمّ لا يخفى انّ قولهم الأوّل ـ أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح ـ اصل من اصولهم وليس مبتنيا على أصل آخر مسلّم عندهم ، وهذا الأصل في غاية الفساد ، ودليلهم المذكور في اثباته في غاية الضعف والوهن ؛

أمّا أوّلا : فلأنّه لا يدلّ إلاّ على نفي المرجّح الحادث ، اذ القدم أو التسلسل في الحوادث انّما يلزم إذا كان التأثير في الحوادث موقوفا على مرجّح حادث ، وامّا إذا اكتفى بتوقّفه على مرجّح قديم يرجّح وجود الحادث على عدمه في وقت خاصّ ـ أعني : الداعي القديم ـ كالعلم بالأصلح على ما ذهب إليه جماعة من المعتزلة أو قلنا بانّ المرجّح هو ذات الوقت وعدم وقت قبل وقت الحدوث على ما هو الحقّ ، فلا يلزم قدم ولا تسلسل ، إذ كلّ واحد من الداعي وذات الوقت يكفي لتخصيص ايجاد الحادث.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الإرادة المجرّدة من دون انضمام المرجّح لتعلّقها بأحد الطرفين / ٥٧ DB / لا تكفي للترجيح ـ كما مرّ ـ ، فقولهم بنفي الايجاب الخاصّ صحيح على أصولهم.

وأمّا قولهم الثاني ـ أعني : نفي الايجاب الخاصّ ـ فهو مبني على قولهم الأوّل ، فانّه إن كان صحيحا مسلّما لكان هذا أيضا صحيحا ، إلاّ انّه لمّا كان اصلهم الّذي بنى عليه هذا القول فاسدا لكان هذا القول أيضا فاسدا في الواقع ونفس الأمر ، لأنّه إذا لم يجز الترجيح بلا مرجّح لم يجز صدور الفعل بدون الوجوب واللزوم ، فلا بدّ في صدور الفعل حينئذ من

٢٧٠

وجوبه. والوجوب في فعل الواجب يكون عند المليين إمّا بالداعى أو بذات الوقت ، فهما يكفيان لتصحيح الايجاب الخاصّ وتخصيص ايجاد الحادث بوقته لئلاّ يلزم قدم ولا تسلسل ، لأنّ الداعي القديم أو عدم وقت قبل وقت الحدوث اقتضى على سبيل الوجوب ايجاد الحادث في وقته المعين ، فهو كاف للترجيح ولا يفتقر إلى مرجّح آخر ؛ فمع حدوث الحادث بهذا المرجّح لا يلزم قدم ولا تسلسل. فلو استدل الأشعري بالحدوث وجعله وسطا لنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة فلنا أن نقول : الوسط في هذا الدليل يجمع مع الايجاب الخاصّ فلا يدلّ على نفيه ، وحينئذ فيمكن أن يمنع الشرطية القائلة بانّه لو كان حادثا لتوقّف المحال مستندا بانّه مع فرض الايجاب الخاصّ لا يتوقّف الحادث على شيء آخر ، بل يكفى الداعي أو ذات الوقت للتخصيص والترجيح. وحينئذ فيمكن أن يلتزم جواز التخلّف عن الموجب بهذا الايجاب. لانّه لا تخلّف حقيقة عن العلّة التامة حينئذ ، لأنّ العلّة التامة هي الواجب مع الداعي على نحو ما تعلّق. وأيضا لا يقتضي شيء من قواعد الأشاعرة لزوم التوقّف المذكور لفرض الايجاب بالاختيار ، إذ هما متنافيان ظاهرا ، إذ فرضه ـ أي : فرض الايجاب بالاختيار ـ في قوّة فرض عدم احتياج الحادث في التخصيص إلى حادث آخر ، فظهر انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة على جواز الترجيح بلا مرجّح وعلى نفي الايجاب بالاختيار في ضمن الايجاب المطلق غير تامّ. ولذا لم يتعرّض أكثرهم في اثبات جواز الترجيح بلا مرجّح لهذا الدليل ولم يذكر في الكتب الكلامية دليل من قبلهم على هذا المطلب ، بل ادّعوا فيه الضرورة ونبّهوا عليه ببعض الأمثلة كرغيفي الجائع وطريقي الهارب. وقد ظهر أيضا انّ القول بجواز الترجيح بلا مرجّح يستلزم القول بنفي الايجاب الخاصّ المعتبر عند المعتزلة. وأمّا العكس فغير ثابت ، لأنّ الحكماء قائلون بنفي الخاصّ لقولهم بامتناع الانفكاك المنافي للقول بالايجاب الخاصّ الّذي يعتبر فيه نحو من الانفكاك.

وأمّا القول بامتناع الترجيح بلا مرجّح فلا يستلزم القول بثبوت الايجاب الخاصّ ، لما مرّ من مذهب الحكماء ؛ ولما ذهب إليه محمود الخوارزمي كما نقل عنه فخر الدّين

٢٧١