رسالة المحقق الكركي الجزء ٣

رسالة المحقق الكركي18%

رسالة المحقق الكركي مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 319

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 319 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 40618 / تحميل: 5528
الحجم الحجم الحجم
رسالة المحقق الكركي

رسالة المحقق الكركي الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

[السابع: الموالاة: وهي متابعة الافعال بحيث لا يجف السابق من الاعضاء إلا مع التعذر كشدة الحر] قوله: بحيث لا يجف..عبارة المصنف وإن كانت ظاهرة في أن الموالاة مراعاة الجفاف، إلا أنها قد توهم اعتبار المتابعة من حيث جعلها تفسيرا لها في قوله: وهي متابعة الافعال، لكن قوله بحيث لا يجف..مخلص عن هذا الوهم، إذ التقدير: الموالاة هي المتابعة بهذا المعنى لا مطلقا، واسناده الجفاف إلى السابق من الاعضاء يحتمل ارادة العضو الذي انتهى في الغسل إليه، على أن تكون (من) للتبعيض، فيكون جفاف ذلك العضو هو المخل بالموالاة دون غيره.وهذا مذهب المرتضى وابن ادريس.ويحتمل أن يكون بالجفاف المبطل جفاف جميع ما تقدم، فتكون (من) للتبيين، فهذا هو ظاهر مذهب أكثر الاصحاب ومنهم المصنف، وعليه دلت الاخبار.وهذا الثاني أولى في عبارة الرسالة، لموافقته مذهب المصنف في غيرها.ولا فرق في تفسير الموالاة بين كون الهواء مفرط الحرارة أوا لرطوبة أو معتدلا، وقد كان يجب على المصنف التصريح بكون الترتيب والموالاة على تفسيرنا شرطين للوضوء، للاجماع على بطلان الوضوء بالاخلال بأحدهما إذا جف البلل قبل التدارك في الترتيب، سواء في ذلك العمد والسهو.

وقول بعض الشارحين أن الموالاة ليست شرطا في الوضوء وانما هي واجبة فيه فلو تركها سهوا لم يبطل وضوء‌ه، غلط ظاهر.

قوله: كشدة الحر.أي: بحيث لا يمكن الاسباغ التام المانع من الجفاف.

١٦١

[وقلة الماء.

الثامن: المباشرة بنفسه اختيارا، فلو وضأه غير لا لعذر بطل.

التاسع: طهارة الماء وطهوريته، وطهارة المحل.] قوله: وقلة الماء.أي: مع قلة الماء، لان التعذر إنما يتحقق باجتماعهما، وهل يجوز الاستئناف للمسح والحال هذه، أم ينتقل فرضه إلى التيمم؟ اطلق القول بالمنع من الاستئناف العلامة في المنتهى مع تجويزه البناء لو تعذر الموالاة.فعلى هذا ينتقل فرضه إلى التيمم، لتعذر الطهارة المعتبرة، ووجوزه المصنف في الذكرى تفاديا من الضرورة ولوزم الحرج.وكل محتمل، غير أنه لو أمكنه ابطاء غسل بعض يده اليسرى واسراع الصب عليه والسمح بمائه تعين على القولين وإن فرض تخلل الجفاف للضرورة، وكذا الحكم لو أمكن غمس العضو في الماء، إذ الظاهر جواز المسح بمائه اختيارا.

قوله: فلو وضأه.ويتحقق ذلكبصب الغير الماء، على نفس العضو الموضأ لا بدونه، وفي حكمه ما لو أجراه بفعله من محل إلى آخر.

قوله: لا لعذر.فيجوز للمعذور لكن يتولى النية المعذور.

قوله: طهارة الماء وطهوريته.

إن قيل: لم جمع بين الطهارة والطهورية، مع أن الطهروية مغنية عنها، فإن الطهورية عبارة عن كون الماء طهورا، والطهور هو المطهر عند المحققين؟

١٦٢

[العاشر: اجراؤه على العضو، فلو مسه في الغسل من غير جريان لم يجزئ، أما في المسح فيجزئ.

الحادي عشر: اباحة المكان، فلو توضأ في مكان مغصوب عالما مختارا بطل، ومتى عرض له الشك في اثنائه اعاده وما بعده.

أجبنا: بأن في جمعهما فوائد:

الاولى: التنبيه على الفرق بينهما باعتبار أصل الوضع، فإن الطهارة أعم مطلقا، والطهورية أخص مطلقا، وذلك لان الطالب ينبعث عزمه إلى البحث عن معناهما إذا وقف عليهما، فلو اقتصر على أحدهما لانتفت هذه الفائدة.

الثانية: الاحتراز بالطهورية عن الماء المستعمل في الطهارة الكبرى، وعن الماء المضاف.

أما الاول، فلانه غير طهور عند بعض الاصحاب مع الاتفاق على كونه طاهرا، وإنما احترز عنه مع أنه لا يقول به، لانه لما لم ينص على مذهبه في هذه المسألة هنا أتى بما ينطبق على المذهبين هربا من احالة الطالب على غير معلوم.وأما المضاف فإنه وإن لم يصدق عليه اسم الماء حقيقة، إلا أنه يصدق عليه مجازا، أو يسوغ الاحتراز عن المجاز اذا اريد دلالة اللفظ على المعنى نصا.

الثالثة: وهي أمتنها، أن الاصحاب لما ذكروا اشتراط الطهارة في ماء الوضوء على كل حال، وفروع ذلك في مبحث يخصه، واشتراط الطهورية، وفروع ذلك أيضا في مبحث يخصه، وكان المصنف بصدد الاشارة إلى رؤوس المباحث على جهة الاختصار، لم يحسن منه رعاية للاختصار حذف عنوان بعض المباحث بالكلية، لما فيه من مخالفة عادة الجماعة من جريان الاطلاق على ما حذف من المباحث ولو اجمالا، فكان ذلك بالاقتصار أشبه من الاختصار.

قوله: أعاده.أي: المشكوك فيه وما بعده، إلا أن يكثر شكه فيسقط عنه، ويستفاد منه أنه لو

١٦٣

[وواجب الغسل اثنا عشر:

الاول: النية مقارنة لجزء من الرأس إن كان مرتبا، ولجميع البدن إن كان مرتمسا، مستدامة الحكم إلى آخره.] كان الشك بعده لم يلتفت، وهو حق، ويتحقق بالفراغ منه وإن لم يتصرف من موضعه.

قوله: ولجميع البدن.يفهم منه وجوب ايقاع النية عند ملاقاة الماء لمجموع البدن، وليس مرادا للمصنف، إذ لا يقول به أحد من المسلمين.وكأنه أراد أن مجموع البدن سواء في ايقاع النية عند أي جزء كان من اجزائه، فإنه بسقوط الترتيب قد صار بمنزلة عضو واحد، فلم تساعده العبارة.ولا يجوز أن يكون صدور ذلك منهرحمه‌الله عن قصد على أن يكون مذهبا له، كما سرى إلى افهمام ذوي الاوهام من أهل عصرنا ومن تقدمهم بقليل، حتى صار اعتقادا لهم يتناقلونه ويفتون به، لان ذلك مخالف لا جماع المسلمين: أما أصحابنا فلان الاكثر منهم يكتفون في الارتماس بالاغتسال تحت المطر الغزير والميزاب والمجرى، مما لا يستوعب الماء فيه البدن إلا في زمان متراخ، يتعذر استحضار النية فيه فعلا، وهؤلاء بمعزل عن هذا الوهم الفاسد.والباقون من الاصحاب وإن منعوا الارتماس في مثل ذلك، لفوات معنى الدفعة عرفا، إلا أنهم يكتفون بالدفعة العرفية، وإن قارنها تراخ يسير، حتى أن بعضهم يكتفي بغسل اللمعة لو وجدها المرتمس بعد الغسل.واين هذا من ذاك، فهؤلاء أصحابنا.وأما العامة فظاهره أنهم لايقولون بذلك.فقد مخالفة هذا الوهم لاجماع المسلمين، ومع ذلك فهو مخالف لظاهر النصوص كما حققناه فيما خرج من شرح

١٦٤

[ووصفه: اغتسل لاستباحة الصلاة لوجوبه قربة إلى الله، ويجوز للمختار ضم الرفع والاجتزاء به.

الثاني: غسل الرأس والرقبة وتعاهد ما ظهر من الاذنين، وتخليل الشعر المانع.] الراسلة على أنه ليس معنى يتعقل، لان الواجب من النية في العبادات باعتبار ما استفيد من النصوص بعد بذل الجهد إنما هو قارن أول لعبادة فقط، فما الذي أخرج هذا الغسل من البين، لكن لا داء أعيى من الجهل.

قوله: والاجتزاء به.يفهم منه أن دائم الحدث ليس له الاقتصار على نية الرفع، والحق أن ذلكفي الحدث الاكبر، أما الاصغر فغير مانع في الجنابة وغيره، خصوصا على القول بأن تخلل الحدث لا يبطل الغسل.

قوله: وتعاهد ما ظهر.الافصح تعهد، نص عليه في الصحاح، والمراد به: التحفظ بالشئ وتجديد العهد به.والمراد بما ظهر من الاذنين: من الصماخين دون ما بطن، وعليه نبه الشيخان، والصدوق، وغيرهم.

قوله: وتخليل الشعر المانع.ولا يجب غسله عندنا، ولو توقف ايصال الماء إلى البشرة على نقض ضفر المرأة

١٦٥

[الثالث: غسل الجانب الايمن.

الرابع: غسل الجانب الايسر، ويتخير في غسل العورتين مع أي جانب شاء، والاولى غسلهما مع الجانبين.

الخامس: تخليل ما لا يصل الماء إليه بدونه.

السادس: عدم تخلل حدث في أثنائه.] وجب، لابدونه.والفرق بين شعر البدن في الغسل وشعر اليدين في الوضوء النص على عدم الوجوب في الغسل من طرقنا وطرق المخالفين تخالفه ثم.

قوله: ويتخير في غسل العورتين.وكذا السرة، والاولى يستحب.

فرع

يجب أن يغسل الحد المشترك بين لاأعضاء مع كل واحد منها، لعدم المفصل المحسوس من باب ما لا يتم الواجب إلا به قوله: تخليل ما لا يصل الماء إليه.فيه توسع، إذ ليس المراد وصول الماء إلى الشئ المخلل عندنا قطعا، بل إلى البشرة.

وكان الاؤلى أن يقول: تخليل ما لا يصل الماء إلى البشرة بدونه، أو نحوه.

قوله: عدم تخلل حدث.المراد بهالاصغر، لانه المتعارف من لفظ الحدث مجردا عن التقييد، ومقتضى كلام المصنف بطلان الغسل بتخلله واعادته من رأس، وهو ما عليه المتأخرون، والمعتمد عدم البطلان.ثم إن كان غسل الجنابة كفاه اتمامه، وإن كان غيره

١٦٦

[السابع: المباشرة بنفسه اختيارا.

الثامن: الترتيب كما ذكر، ولا تجب المتابعة.

التاسع: طهارة الماء وطهوريته وطهارة المحل.

العاشر: اباحته.

الحادي عشر: اجراؤه كغسل الوضوء.

الثاني عشر: اباحة المكان، فلو شك في أفعاله وهو على حاله] وجب معه الوضوء، ولا فرق بين المرتمس والمرتب.

قوله: ولا تجب المتابعة.

لو قال: ولا تجب الموالاة، لكان أولى، لان الموالاة غير المتابعة عنده، إلا أن يقال: أراد بالمتابعة ما تقدم ذكره في الوضوء، وهو قوله: بحيث لا يجف السابق..فاللام للعهد الذكري.غير أن التصريح به أدل على المراد، بل لو قال: لا تجب الموالاة بمعنييها لكان أكمل.والمراد عدم وجوبها بأصل الشرع وإن وجبت بعارض كنذر وشبهه وضيق الوقت ودوام الحدث الاكبر، أما الاصغر فيبني على أن تخلله مبطل أم لا، وقد تقدم.

فرع

لو فرق أعضاء غسله لم يجب استئناف النية بغسل المتأخر منها ما لم يحدث نية تخالف الاولى، وما يوجد في كلام بعض المتأخرين من وجوب تجديد النية ليس بشئ.

قوله: وهو على حاله.أي: حال الغسل، ولو كان الشك بعد الانصراف منه: فإن كان مرتبا وهو ممن

١٦٧

[فكالوضوء.وواجب التيمم اثنا عشر:

الاول: النية مقارنة للضرب على الارض، لا لمسح الجبهة، مستدامة الحكم.وصورتها: اتيمم بدلا من الوضوء أو الغسل لاستباحة الصلاة، لوجوبه قربة إلى الله تعالى.] يعتاد التفريق أعاد على ما يشك فيه وما بعده، لاصالة عدم فعله.وإن كان مرتمسا أو معتادا الموالاة فوجهان، أقربهما عدم الالتفات، عملا بالظاهر، ولعموم رواية زرارة عن الصادقعليه‌السلام : (اذا خرجت من شئ ثم دخلت في غيره فشككت فيه ليس شكك بشئ).ولو كثر شكه سقط اعتباره مطلقا على الاقرب.

قوله: مقارنة للضرب.المراد به: وضع اليدين عليها وإن لم يكن باعتماد، نعم لابد من مقارنة النية لابتدائه، فلا يكفي مقارنتها لاستدامته، إذ لا يسمى وضعها.

قوله: على الارض.

يستفاد منه مسائل:

الاولى: وجوب وضع اليدين على الارض فلا يجزئ التعرض لمهب الريح.

الثانية: وجوب الوضع باعتماد تحصيلا لمسمى الضرب، والظاهر عدم وجوبه.

الثالثة: كون المضروب عليه من جنس الارض، فيخرج عنه المعدن وما خرج

١٦٨

بالاستحالة عنها.

الرابعة: وجوب الضرب باليدين، فلا تيجزئ بآلة غيرهما عندنا.

الخامسة: الضرب بهما، فلا تجزئ الواحدة اتباعا للمنقول.

السادسة: كونهما معا، فلايجزئ الضرب بواحدة ثم بالاخرى، وفي رواية الضرب باليسرى لمسح اليمين وباليمين لمسح اليسرى، وعمل بها ابن بابويه، والمشهور خلافه.

السابعة: وجوب الضرب ببطونهما، فلا يجزئ بظهورهما، ولا بظهر احداهما مع بطلان الاخرى.

الثامنة: اعتبار الضرب بالبطن إنما هو مع الاختيار، فعند الضرورة يجوز بالظهر، ومع تعذره أيضا يجب معك الجبهة بالتراب مع النية.

التاسعة: يجب استيعاب محل الضرب، فلو تجافى بعضه عن المضروب عليه اختيارا لم يجزء، ولا تجب المبالغة لفصل اجزاء التراب إلى شقوق اليد وما بين الاصابع، لجواز التيمم بالحجر وتعذر ذلك فيه خصوصا، ومستوى السطوح منه قليل.ومنه يعلم عدم اشتراط ملاقاة المضروب عليه لجميع اجزاء محل الضرب دفعة واحدة، نعم لابد من استيعاب الملاقاة وإن لم يكن دفعة، فلو كان في الحجر ثقوب، أو في التراب خليط متميز كالشر، حرك يديه بعد الضرب ليستوعب محل الضرب اصابة ما به يصح التيمم.

العاشرة: سيأتي أنه لابد من طهارة محل الضرب، فلو كان نجسا مائلة او متعدية وتعذرت الازالة والتجفيف، انتقل إلى الظهر ثم الجبهة، ومع الاستيعاب فلا يتم.

١٦٩

[ولامدخل للرفع هنا.].

الحادية عشرة: سيأتي في العبارة وجوب نزع الحائل كالخاتم ونحوه، وهذه قد يستفاد من قوله هنا: ببطونها، أي: بجميع بطهونهما، والباء تدل على معنى الالصاق، ولا يمنع ذلك من تصريحه به بعد، لان دلالة المطابقة أقوى.

قوله: ولا مدخل للرفع.إذ لا يتصور في التيمم كونه رافعا بوجه من الوجوه، وإلا لما انتقض بوجود الماء مع التمكن من استعماله باجماع العلماء، إلا من شذ من العامة، وهذا بخلاف طهارة صاحب الضرورة فإنها ترفع حكم الحدث السابق على أن جنس الطهارة المائية رافع وإن تخلف الحكم في البعض، وليس كذلك التيمم.

فلان قلت: لا يلزم من انتقاضه بالتمكن من استعمال الماء عدم رفعه الحدث، ولم لا يكون التمكن علة الرفع، كما يكون طريان الحدث غاية له في التيمم وغيره، كما نبه عليه المصنف في القواعد.

قلت: هذا كلام ظاهري بعيد عن التحقيق، لانه ليس رفع الحدث في الطهارة الرافعة أعني المائية مغيا بغاية أصلا ورأسا، وإنما المانع الذي هو أثر السبب السابق عليها أعني الحدث الموجب للطهارة مرتفع بها وزائل بالكلية، حتى كأنه لم يكن، ثم لا يعود إلى الوجود مرة اخرى ذلك المانع بعينه.بل الحاصل بالحدث الطارئ مانع آخر غير الاول.غاية ما في الباب أنه مبطل لفائدة الطهارة الحاصلة، إذ ذلك لانه من نواقضها بوضع الشرع، ولا يلزم من ذلك كون المانع الحاصل هو المانع الزائل أولا، كذلك التيمم، فإن ازالة المانع من الصلاة ليست ازالة بالكلية بل إلى أمد مضروب، وهو

١٧٠

[الثاني: الضرب على الارض بكلتا يديه ببطونهما مع الاختيار.] ما طروء الحدث أو التمكن من استعمال الماء، فإذا وجد احدهما عاد المانع الاول بعينه حتى كأنه لم يزل، ولهذا يجب الغسل على المتيمم بدلا منه عند التمكن.

ولو كان التيمم رافعا لما وجب إلا بحدث آخر موجب للغسل، لان الرفع عبارة إما عن رفع الشئ من أصله، أو عن رفعه من حينه بحيث يزول من حينه بالكلية، ولما امتنع الاول، لامتناع رفع الواقع من أصله تعين الثاني، إذ لا يعد ابطال تأثير الشئ إلى غاية بسبب رفعا له، كحال التيمم فإنه مبطل لاثر المانع، أعني تحريم الصلاة إلى أمد معين ولا يزيله جملة.

فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون التمكن من استعمل الماء بالنسبة إلى التيمم حدثنا كسائر الاحداث المبطلة للطهارة؟ قلت: هذا خيال باطل، لان التمكن إنما أبطل التيمم، لان صحته من أول الامر مشروطة بتعذر استعمال الماء لقوله تعالى: (فلم تجدوا)، فإذا حصل انتفى الشرط فبطل المشروط، فلم يتجدد مانع غير الاول ولا كذلك الحدث.على أنه لو صح ذلك لاستوى الجنب والمحدث في الموجب، لكن الجنب لا يتوضأ والمحدث لا يغتسل.

فإن قلت: ما تقول في مقالة المرتضى إن من تيمم بدلا من غسل الجنابة ثم أحدث أصغرا ووجد من الماء ما يكفيه للوضوء توضأ به، لان حدثه الاول قد ارتفع وجاء بما يوجوب الصغر، أليس تصريحا بأن التيمم رافع؟ قلت: هذا على ضعفه ليس فيه تصريح بالرفع، وإلا لما وجب الغسل بعد ذلك، وهو لا يقول به.وكأنه نظر إلى أن التيمم يرفع الحدث إلى غاية لم تحصل فيبقى على فائدته، والموجب الطارئ إنما هو حدث آخر موجب للوضوء، وهو خيال

١٧١

[الثالث: مسح الجبهة من قصاص شعر الرأس حقيقة أو حكما إلى طرف الانف الاعلى،] ضعيف، لان التيمم لما لم يزل حكم السبب السابق جملة، أفاد اباحة الصلاة بمنع تأثيره إلى غاية ما، فكل شئ منع من الصلاة أبطل فائدته وأزال حكمه أصلا ورأسا، فمن أراد عود الاباحة لم يجدبدا من اعادة التيمم الاول.وبهذا التحقيق يظهر ضعف قول المصنف في القواعد بقوة القول بأن التيمم يرفع الحدث، وقوله في الدروس بأنه إن نوى رفع الماضي صح، كأنه ينحو به نحو دائم الحدث.وبينهما فرق، فإن لدائم الحدث حدثا سابقا ومقارنا، وطهارته مائية ترفع الحدث اذا أمكن وامكانه في السابق خاصة، لان المقارن للنية يمتنع تأثيرها فيه.أما التيمم فإنما هو عن حدث سابق، إذ هو المفروض، وقد عرفت أنه لا يصلح للرفع، على أنه لو صلح لم يكن للتقييد بالماضي معنى.

وكذا قوله في الذكرى: ولو نوى رفع المانع من الصلاة صح وكان في معنى الاستباحة، فإن ظاهره الفرق بين رفع الحدث ورفع المانع، إذ صرح بالمنع في الاول وبالصحة في الثاني، وليس بجيد، لان معنى رفع الحدث زوال المانع من الصلاة الحاصل بشئ من أسباب الطهارة، وحينئذ فقوله: ولا مدخل للرفع هنا، أجود عباراته، وهذا هو التحقيق الذى يرحل إليه.

قوله: مسح الجبهة.وكذا الجبينين والحاجبين.

١٧٢

[وإلى الاسفل أولى.

الرابع: مسح ظهر كفه اليمنى ببطن اليسرى من الزند إلى أطراف الاصابع.

الخامس: مسح ظهر كفه اليسرى كذلك.

السادس: نزع الحائل كالخاتم.

السابع: الترتيب كما ذكر.

قوله: الثامن: الموالاة وهي متابعة الافعال هنا.

التاسع: طهارة التراب المضروب عليه، والمحمل.] قوله: وإلى الاسفل أولى.

يستحب خروجا من الخلاف، إذ قد حكى ابن ادريس فيه قولا بالوجوب لبعض أصحابنا، وقد اشكل وجه الاولوية على بعض الشارحين فناقش فيه الصمنف.

قوله: وهي متابعة الافعال هنا.إذ لا يتصور الجفاف.

قوله: طهارة التراب.

فلا يجرئ النجس اختيارا واضطرارا سواء تعدت نجاسته أم لا.

قوله: والمحل.إلا عند الضرورة فيعتبر جفاف النجاسة وعدم حيلولتها.

١٧٣

[ويجزئ الحجر اختيارا، ولا يشترط علوق شئ من التراب، بل يستحب النقض.

العاشر: اباحته.]

قوله: ويجزئ الحجر اختيارا.ثم الغبار، ثم الوحل، ثم الدلك بالثلج دهنا لاعضاء الوضوء أو الغسل.

قوله: بل يستحب النقض.

إن قيل: هذا مناف لموضوع الرسالة، لان موضعها كما تقدم بيان واجبات الصلاة الواجبة دون مندوباتها.

قلت: ليس المقصود من ذكر استحباب النفض بيان حكمه، بل الاشارة إلى دليل المسألة، أعني عدم اشتراط علوق شئ من التراب على محل الضرب، ليكون حجة على المخالف، وهو ابن الجنيد منا، وكثير من العامة.

والعبارة في قوة قولنا: لو اشترط علوق شئ من التراب لما استحب نفضه، والتالي باطل، لثبوت الاستحباب فكذا المقدم.وإنما أضرب ببل الدالة على الترقي من الادنى إلى الاعلى، لانه يكفي في عدم اشتراط العلوق جواز النفض بحيث يرتفع الحرج عن فعله، فإذا كان مستحبا كان أبلغ في الدلالة، وهو ظاهر.

فائدة:

من واجبابت التيمم المباشرة بنفسه كما في الطهارتين، واخلال المصنف في عبارته لا عذر له فيه.

قوله: اباحته.ولو بشاهد الحال.

١٧٤

[الحادي عشر: اباحة المكان.

الثاني عشر: امرار الكفين معا على الوجه، وبطن كل واحدة على ظهر الاخرى مستوعبا.]

قوله: على الوجه.أي: على الواجب مسحه من الوجه.

قوله: وبطن كل.أي: وامرار بطن كل منهما على ظهر الاخرى من الزند إلى أطراف الاصابع.ويجب قراء‌ة بطن بالجر حذفا للمضاف وابقاء للمضاف إليه على اعرابه، وإن ضعف ذلك في العربية.ولا ينبغي قراء‌ته بالرفع، إذ يصير اللفظ موهما وجوب وضع باطن احدى اليدين على ظهر الاخرى حال مسح الوجه، كما توهمه بعض القاصرين، فإنه مع بطلانه لا تدل عليه العبارة وإن كانت توهمه في بادئ النظر قبل التأمل على قراء‌ة الرفع، فإن وضع كل من بطن اليدين على ظهر الاخرى حال مسح الوجه غير ممكن الوجود.غير أن القراء‌ة بالجر أبعد من هذا الوهم، فيكون أولى، لان المقصد من هذا الكلام استيعاب محل الفرض في التيمم، أعني أعضائه الثلاثة.

قوله: مستوعبا.حال مؤكدة للمعنى المستفاد مما قبله، فإن الكلام السابق دال بظاهره على استيعاب الممسوح.ومثله قولك: زيد أبوك عطوفا، فإن العطف والحذف مستفاد من معنى الابوة.

١٧٥

[للممسوح خاصة، والشك في أثنائه كالمبدل، وينقضه التمكن من البدل.ثم إن كان عن الوضوء، فضربة، وإن كان عن الجنابة فضربتان، وإن كان من غيرها من الاغسال فتيممان.].

قوله: للممسوح.أي: للعضو الممسوح، على ارادة الجنس إذ المراد الاعضاء.

قوله: خاصة.أي: دون الماسح إذ لا يمكن استيعاب الممسوح به دفعة واحدة.

قوله: من المبدل.أي: بالتمكن من الطهارة التي تيمم المحدث عنه بدل عنها، فلا ينقض بظن وجود الماء، ولا بوجوده من ع عدم التمكن من استعماله، خلافا لبعض العامة، ولا بالتمكن من الوضوء.

وتيممه بدل من غسل الجنابة، أما لو كان بدلا من غير غسل الجنابة فإن تيمم الغسل لا ينتقض بل ينتقض تيمم الوضوء، لان الواجب في غير الجنابة تيممان وكذا لو تمكن من الغسل خاصة انتقض تيممه فقط.وهذا هو السر في عدول المصنف عن التمكن من استعمال الماء، أو التمكن من المائية، ونحوها إلى قوله: والتمكن من المبدل، إذ لا تستفاد الاحكام الثلاثة الاخيرة إلا منه.ويستفاد منه أيضا أن من استعمال الماء في بعض أعضاء الطهارة لا ينتقض تيممه وهو كذلك، لان الطهارة عندنا لا تتبعض.

قوله: عن الجنابة فيه مناقشة، إذ غير الجنابة كذلك، فلا معنى لافرادها بالذكر مع الاخلال

١٧٦

[وللميت ثلاثة. ولا يجب تعدده بتعدد الصلاة، وينبغي ايقاعه مع ضيق الوقت.

المقدمة الثانية: في ازالة النجاسات العشرة عن الثوب والبدن

وهي: البول والغائط من غير المأكول اذا كان له نفس سائلة، والدم من ذي النفس السائلة مطلقا والميتة منه ما لم يطهر مسلم] ببيان حكم غيرها، لان قوله: وإن كان عن غيرها، لا يدل على كيفية الفعل، فكان الاصوب أن يقول: وإن كان عن الغسل فضربتان ولغير الجنابة تيممان، وللميت ثلاثة.

قوله: وللميت ثلاثة.ويتخير في افراد كل بنية، وجمعها بنية واحدة، وهل يجب غسل اليدين بين كل تيممين أو كل ضربتين بناء على النجاسة؟ الظاهر لا.

قوله: وينبغي ايقاعه.الاولى اعتبار الضيق إذ رجا زوال العذر قبل خروج وقت الصلاة، وإلا جاز مع السعة، على أن القول بالجواز مع السعة مطلقا قوي جدا وهو حقيق بالترجيح.

قوله: مطلقا.أي: اكل لحمه أم لا.

قوله: ما لم يطهر.هي ظرف بمعنى المدة، أي: من النجاسات الميتة من ذي النفس مطلقا مدة لم

١٧٧

[خاصة، والكلب وأخواه.والمسكر وحكمه] يطهر المسلم.

وقوله: يطهر، يحتمل قراء‌ته بالتخفيف وبالتشديد.فعلى الاول يكون المعنى مدة عدم طهر المسلم، أي: الحكم بطهره شرعا.وعلى الثاني مدة عدم تطهيره، أي: مدة فعل ما به يحصل طهارته.

وعلى الاول يندرج في العبارة المعصوم والشهيد، ومن تقدم غسله إذا قتل بالسبب الذي اغتسل له، ومن غسل صحيحا، ومن لم يبرد بالموت، لا العضو الذي كملت طهارته وإن ادعاه المصنف في حواشيه، إذ لا يصدق عليه اسم ميت طهر.ويخرج منها من غسل فاسدا، ومن غسله كافر، ومن لم يكمل طهارته، ومن اقتصر فيه على طهارة الضرورة، والميت بعد غسله المقدم والمقتول بغير سببه، والكافر، والبهيمة.لكن على هذه لا معنى للتقييد بالمسلم.وعلى الثانية يستقيم التقييد، لكن لا يندرج فيها الشهيد والمعصوم ومن لم يبرد، فلا يخلو من مؤاخذة.ما لم يطهر المسلم، أي: لم يحكم بطهره شرعا، أو بفعل ما به تحصل طهارته.

قوله: خاصة.أي: دون غيره من كافر أو بهيمة، ويدخل في السملم من له حكمه تغليبا.

قوله: وأخواه.أي: الخنزير، والكافر بانواعه حتى الخوارج، والغلاة، والنواصب، والمجسمة بالحقية.

قوله: وحكمه.أي: حكم المكسر وهو شيئان:

١٧٨

[بماء طهور،] - العصير العنبي إذا غلى واشتد بأن صار أعلاه أسفله حتى يذهب ثلثاه، أو يصير دبسا على المشهور بين متأخري الاصحاب، مع أنه لا نص فيه ولا اجماع، ولا يلحق به الزبيبي.

الثاني: الفقاع: وهو المستخرج من الشعير، ويسمى الا سكركة كما ذكره المرتضى في الانتصار، وقال انه خمر الحبشة.وما يوجد في أسواق أهل الخلاف مطلقا عليه اسم الفقاع لا يجب اجتنابه.ولو شوهد انسان بالعيان يستخرج ماء الزبيب ويضعه في الكوز لم يحرم وإن سماه فقاعا، إلا أن يغيب به عن العين.

قوله: بماء طهور.الباء تتعلق بقوله أول الكلام: ازالة النجاسات، واختار التقييد بالطهور على الطاهر لينطبق على مذهب من قال يمنع الازالة بالمستعمل لزوال الاجمال.وفيه رد على المرتضى إذ يقول بجواز الازالة بالمضاف، وفإن اسم الماء يقع على المضاف مجازا.ولما كان ازالة النجاسات شاملا لازالة البول والغائط عن مخرجهما المتعاد للآدمي المعبر عنه بالاستنجاء، ولايتعين الماء في الغائط غير المتعدي، عطف بأو الدالة على التخيير بين معطوفها وبين الماء في الاستنجاء المخصوص.وقد اشتملت هذه العبارة الوجيزة على أكثر أحكام الاستجمار، وهي في مسائل:

أ: يجب بدل الماء مسحات ثلاث لا أقل وإن نقى بما دونها، كما يدل عليه اطلاق العبارة، وهو الاصح.

١٧٩

ب: التعبير بالمسحات مؤذن بأن الحجر غير شرط وإن جاء في بعض الاخبار.

ج: اطلاق المسحات يشمل استيعاب المحل بكل منها وتوزيعها على أجزاء المحل، فيجريان على الاصح في الثاني.

د: يستفاد من قوله: فصاعدا، أي: فزائدا على الثلاثة، أنه لو لم يحصل النقاء بها وجب الاكمال بما به يحصل.

ه‍: يدخل في قوله: بطاهر، الخشب والخرق ونحوهما، فيجزئ للاستجمار، فإن الباء فيه تتعلق بمسحات.

و: يدخل فيه الحجر الواحد ذوالجهات وذوالجهة الوحدة إذ طهر.

ز: يدخل فيه المنهي عنه كالمطعوم وإن حرم على الاصح فيه وفيما قبله.

ح: يدخل فيه أيضا ما استعمل من الثلاث بعد النقاء فيجزئ لطارته.

ط: تدخل فيه أوراق المصحف، وتربة الحسينعليه‌السلام ، ونحوهما.ويجب الاحتراز عنه، إذ لا يطهر المستجمر بها بل يكفر مع علمه، وتصريح بعض الاصحاب بالاجزاء فيه مدخول.

ي: يدخل فيه الصقيل الذي يزلق عن النجاسة، ويجب اخراجه قطعا.

يا: يدخل فيه الرخو، ويجب اخراجه.

يب: يدخل فيه الرطب، ولا يجزئ كما نص عليه في المنتهى يج: يدخل فيه التراب، ولا يجزئ، لا لتصاقه بالمحل حيث تنفصل منه أجزاء، ومثله ما لو كان التراب على الحجر وغيره.

يد: يخرج عنه النجس، فلا يطهر، ومنه المستعمل.

يه: الجار في قوله: في الاستنجاء، متعلق بما دل عليه العطف بأو من معنى

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

محمّد البدر، آخر أئمة الزيديّة، فليرجع إلى كتابنا (بحوث في الملل والنحل). (1)

فكما قامت للزيديّة دولة في المغرب واليمن، فهكذا قامت دولة زيديّة في طبرستان بين الأعوام (250 - 360هـ)؛ حيث ظهر الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن زيد بن الحسين في طبرستان أيّام المستعين الله، وتمكّن من بسط نفوذه على طبرستان وجُرجان، وقام بعده أخوه محمّد بن زيد، ودخل بلاد الديلم عام 277هـ، ثُمَّ ملك طبرستان بعد ذلك الناصر للحق الحسن بن عليّ المعروف بالأطروش، وجاء بعده الحسن بن القاسم، وبعده محمّد بن الحسن بن القاسم المتوفّى 360هـ.

هذه إلمامة موجزة وضعتها أمام القارئ عن ثوّارهم ودولهم.

عقائد الزيديّة

لم يكن زيد الشهيد صاحب نهج كلامي ولا فقهي، فلو كان يقول بالعدل والتوحيد ويكافح الجبر والتشبيه، فلأجل أنّه ورثهما عن آبائه (عليهم السّلام)، وإن كان يفتي في مورد أو موارد، فهو يصدر عن الحديث الّذي يرويه عن آبائه.

نعم، جاء بعد زيد مفكّرون وعاة، وهم بين دعاة للمذهب، أو بناة للدولة في اليمن وطبرستان، فساهموا في إرساء مذهب باسم المذهب الزيدي، متفتّحين في الأُصول والعقائد مع المعتزلة، وفي الفقه وكيفيّة الاستنباط مع الحنفيّة، ولكن الصلة بين ما كان عليه زيد الشهيد في الأُصول والفروع وما أرساه

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 7/371 - 386.

٢٤١

هؤلاء في مجالي العقيدة والشريعة منقطعة إلاّ في القليل منهما.

ولا أُغالي إذا قلت: إنّ المذهب الزيدي مذهب ممزوج ومنتزع من مذاهب مختلفة في مجالي العقيدة والشريعة، ساقتهم إلى ذلك الظروف السائدة عليهم، وصار مطبوعاً بطابع مذهب زيد، وإن لم يكن له صلة بزيد إلاّ في القسم القليل.

ومن ثَمَّ التقت الزيديّة في العدل والتوحيد مع شيعة أهل البيت جميعاً، إذ شعارهم في جميع الظروف والأدوار رفض الجبر والتشبيه، والجميع في التديّن بذينك الأصلين عيال على الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، كما أنّهم التقوا في الأُصول الثلاثة: ـ

1 - الوعد والوعيد.

2 - المنزلة بين المنزلتين.

3 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - مع المعتزلة حيث أدخلوا هذه الأُصول في مذهبهم ورتّبوا عليه:

1 - خلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة، وحرمانه من الشفاعة؛ لأنّها للعدول دون الفسّاق.

2 - الشفاعة؛ بمعنى ترفيع الدرجة، لا الحطّ من الذنوب.

3 - الفاسق في منزلة بين المنزلتين؛ فهو عندهم لا مؤمن ولا كافر بل فاسق.

فاستنتجوا الأمرين الأوّلين من الأصل الأوّل، والثالث من الأصل الثاني.

٢٤٢

وأمّا الأصل الثالث، فهو ليس من خصائص الاعتزال، ولا الزيديّة، بل يشاركهم الإماميّة. هذه عقائدهم في الأُصول.

وأمّا الفروع فقد التفّت الزيديّة حول القياس والاستحسان والإجماع، وجعلوا الثالث بما هو هو حجّة، كما قالوا بحجيّة قول الصحابي وفعله، وبذلك صاروا أكثر فِرق الشيعة انفتاحاً على أهل السنّة.

ولكن العلامة الفارقة والنقطة الشاخصة الّتي تميّز هذا المذاهب عمّا سواه من المذاهب، ويسوقهم إلى الانفتاح على الإماميّة والإسماعيليّة، هو القول بإمامة عليّ والحسنين بالنصّ الجليّ أو الخفيّ عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، والقول بأنّ تقدّم غيرهم عليهم كان خطأ وباطلاً.

وها نحن نأتي برؤوس عقائدهم الّتي يلتقون في بعضها مع المعتزلة والإماميّة:

1 - صفاته سبحانه عين ذاته، خلافاً للأشاعرة.

2 - إنّ الله سبحانه لا يُرى ولا تجوز عليه الرؤية.

3 - العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها.

4 - الله سبحانه مريد بإرادة حادثة.

5 - إنّه سبحانه متكلّم بكلام، وكلامه سبحانه فعله: وهو الحروف والأصوات.

6 - أفعال العباد ليست مخلوقة لله سبحانه.

7 - تكليف ما يطاق قبيح، خلافاً للمجبّرة والأشاعرة.

8 - المعاصي ليس بقضاء الله.

٢٤٣

9 - الإمامة تجب شرعاً لا عقلاً، خلافاً للإمامية.

10 - النصّ على إمامة زيد والحسنين عند الأكثريّة.

11 - القضاء في فدك صحيح، خلافاً للإماميّة.

12 - خطأ المتقدّمين على عليّ في الخلافة قطعيّ.

13 - خطأ طلحة والزبير وعائشة قطعيّ.

14 - توبة الناكثين صحيحة.

15 - معاوية بن أبي سفيان فاسق لبغيه لم تثبت توبته.

هذه رؤوس عقائد الزيديّة استخرجناها من كتاب (القلائد في تصحيح الاعتقاد)، المطبوع في مقدّمة البحر الزخّار. (1)

فرق الزيديّة:

قد ذكر مؤرّخو العقائد للزيديّة فِرقاً، بين مقتصر على الثلاث، وإلى مفيض إلى ست، وإلى ثمان، منهم: الجاروديّة والسليمانيّة والبتريّة والنعيميّة، إلى غير ذلك من الفِرق، وبما أنّ هذه الفِرق كلّها قد بادت وذهبت أدراج الريح، مع بقاء الزيديّة في اليمن، ولا يوجد اليوم في اليمن بين الزيديّة من المفاهيم الكلاميّة المنسوبة إلى الفِرق كالجاروديّة أو السليمانيّة أو البتريّة أو الصالحيّة إلاّ مفهوم واحد، وهو المفهوم العام الّذي تعرفت عليه، وهو القول بإمامة زيد والخروج

____________________

(1) البحر الزخّار: 52 - 96.

٢٤٤

على الظلمة، واستحقاق الإمامة بالطلب والفضل، لا بالوراثة، مع القول بتفضيل عليّ - كرم الله وجهه - وأولويتّه بالإمامة، وقصرها من بعده في البطنين الحسن والحسين.

وأمّا أسماء تلك الفِرق والعقائد المنسوب إليهم، فلا توجد اليوم إلاّ في بطون الكتب والمؤلَّفات في الفِرق الإسلاميّة كالمِلل والنحل ونحوها، فإذا كان الحال في اليمن كما ذكره الفضيل شرف الدين، فالبحث عن هذه الفِرق من ناحية إيجابيّاتها وسلبيّاتها ليس مهمّاً بعد ما أبادهم الدهر، وإنّما اللاّزم دراسة المفهوم الجامع بين فِرقهم.

٢٤٥

15

الإسماعيليّة

الإسماعيليّة فِرقة من الشيعة القائلة بأنّ الإمامة بالتنصيص من النبيّ أو الإمام القائم مقامه، غير أنّ هناك خلافاً بين الزيديّة والإماميّة والإسماعيليّة في عدد الأئمّة ومفهوم التنصيص.

فالأئمّة المنصوصة خلافتهم وإمامتهم بعد النبيّ عند الزيديّة لا يتجاوز عن الثلاثة: عليّ أمير المؤمنين (عليه السّلام)، والسبطين الكريمين: الحسن والحسين (عليهما السّلام)، وبشهادة الأخير أغلقت دائرة التنصيص وجاءت مرحلة الانتخاب بالبيعة كما تقدم.

وأمّا الأئمّة المنصوصون عند الإماميّة فاثنا عشر إماماً آخرهم غائبهم يظهره الله سبحانه عندما يشاء، وقد حوّل أمر الأُمّة - في زمان غيبته - إلى الفقيه العارف بالأحكام والسنن والواقف على مصالح المسلمين على النحو المقرّر في كتبهم وتآليفهم.

وأمّا الإمامة عند الإسماعيليّة فهي تنتقل عندهم من الآباء إلى الأبناء، ويكون انتقالها عن طريق الميلاد الطبيعي، فيكون ذلك بمثابة نصّ من الأب بتعيين الابن، وإذا كان للأب عدّة أبناء فهو بما أُوتي من معرفة خارقة للعادة يستطيع أن يعرف من هو الإمام الّذي وقع عليه النص، فالقول بأنّ الإمامة عندهم بالوراثة أولى من القول بالتنصيص.

٢٤٦

وعلى كلّ حال فهذه الفِرقة منشقّة عن الشيعة، معتقدة بإمامة إسماعيل بن جعفر بن الإمام الصادق (عليه السّلام)، وإليك نبذة مختصرة عن سيرة إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

الإمام الأوّل للدعوة الإسماعيليّة:

إنّ إسماعيل هو الإمام الأوّل والمؤسّس للمذهب، فوالده الإمام الصادق (عليه السّلام) غنيّ عن التعريف وفضله أشهر من أن يُذكر، وأُمّه فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن الحسين الّتي أنجبت أولاداً ثلاثة هم:

1 - إسماعيل بن جعفر.

2 - عبد الله بن جعفر.

3 - أُم فروة.

وكان إسماعيل أكبرهم، وكان أبو عبد الله (عليه السّلام) شديد المحبّة له والبرَّ به والإشفاق عليه، مات في حياة أبيه (عليه السلام) (بالعريض) وحمل على رقاب الرّجال إلى أبيه بالمدينة حتّى دفنه بالبقيع. (1)

استشهاد الإمام الصادق (عليه السّلام) على موته:

كان الإمام الصادق حريصاً على إفهام الشيعة بأنّ الإمامة لم تُكتب لإسماعيل، فليس هو من خلفاء الرسول الاثني عشر الّذين كُتبت لهم الخلافة والإمامة بأمر السماء وإبلاغ الرسول الأعظم.

____________________

(1) إرشاد المفيد: 284.

٢٤٧

ومن الدواعي الّتي ساعدت على بثّ بذر الشبهة والشكّ في نفوس الشيعة في ذلك اليوم؛ هو ما اشتهر من أنّ الإمامة للولد الأكبر، وكان إسماعيل أكبر أولاده، فكانت أماني الشيعة معقودة عليه، ولأجل ذلك تركّزت جهود الإمام الصادق (عليه السّلام) على معالجة الوضع واجتثاث جذور تلك الشبهة وأنّ الإمامة لغيره، فتراه تارة ينصّ على ذلك، بقوله وكلامه، وأُخرى بالاستشهاد على موت إسماعيل وأنّه قد انتقل إلى رحمة الله ولن يصلح للقيادة والإمامة.

وإليك نموذجاً يؤيّد النهج الّذي انتهجه الإمام لتحقيق غرضه في إزالة تلك الشبهة.

روى النعماني عن زرارة بن أعين، أنّه قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السّلام) وعند يمينه سيّد ولده موسى (عليه السّلام) وقدّامه مرقد مغطّى، فقال لي: «يا زرارة جئني بداود بن كثير الرقي وحمران وأبي بصير» ودخل عليه المفضّل بن عمر، فخرجت فأحضرت من أمرني بإحضاره، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد حتّى صرنا في البيت ثلاثين رجلا.

فلمّا حشد المجلس قال: «يا داود اكشف لي عن وجه إسماعيل»، فكشف عن وجهه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا داود أحيٌّ هو أم ميّت؟» ، قال داود: يا مولاي هو ميّت، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل، حتّى أتى على آخر من في المجلس، وانتهى عليهم بأسرهم، وكل يقول: هو ميّت يا مولاي، فقال: «اللّهم اشهد» ثُمَّ أمر بغسله وحنوطه، وإدراجه في أثوابه.

فلمّا فرغ منه قال للمفضّل: (يا مفضّل أحسر عن وجهه)، فحسر عن وجهه، فقال: «أحيُّ هو أم ميّت؟» فقال له: ميّت، قال(عليه السّلام): «اللّهم اشهد عليهم» ، ثُمَّ

٢٤٨

حمل إلى قبره، فلمّا وضع في لحده، قال: «يا مفضّل اكشف عن وجهه»، وقال للجماعة: (أحيّ هو أم ميّت؟)، قلنا له: ميّت، فقال: «اللّهم اشهد، واشهدوا فانّه سيرتاب المبطلون، يريدون إطفاء نور الله بأفواههم - ثُمَّ أومأ إلى موسى - والله متمّ نوره ولو كره المشركون»، ثُمَّ حثونا عليه التراب، ثُمَّ أعاد علينا القول، فقال: «الميّت، المحنّط، المكفّن المدفون في هذا اللحد من هو؟» قلنا: إسماعيل، قال: «اللّهم اشهد». ثُمَّ أخذ بيد موسى (عليه السّلام) وقال: «هو حقّ، والحقّ منه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها». (1)

هل كان عمل الإمام تغطية لستره؟

إنّ الإسماعيليّة تدّعي أنّ ما قام به الإمام الصادق (عليه السّلام) كان تغطية؛ لستره عن أعين العباسيّين، الّذين كانوا يطاردونه بسبب نشاطه المتزايد في نشر التعاليم الّتي اعتبرتها الدولة العباسيّة منافية لقوانينها. والمعروف أنّه توجّه إلى سلمية ومنها إلى دمشق فعلم به عامل الخليفة، وهذا ما جعله يغادرها إلى البصرة ليعيش فيها متستّراً بقيّة حياته.

مات في البصرة سنة 143هـ، وكان أخوه موسى بن جعفر الكاظم حجاباً عليه، أمّا وليّ عهده محمّد فكان له من العمر أربع عشرة سنة عند موته. (2)

ما ذكره أُسطورة حاكتها يدُ الخيال، ولم يكن الإمام الصادق (عليه السّلام) ولا أصحابه الأجلاّء، ممّن تتلمذوا في مدرسة الحركات السريّة، حتّى يفتعل موت ابنه بمرأى ومسمع من الناس وهو بعد حيّ يرزق، ولم يكن عامل الخليفة

____________________

(1) غيبة النعماني: 327، الحديث 8، ولاحظ؛ بحار الأنوار: 48/21.

(2) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 180.

٢٤٩

بالمدينة المنوّرة بليداً، يكتفي بالتمويه، حتّى يتسلّم المحضر ويبعث به إلى دار الخلافة العبّاسيّة.

والظاهر أنّ إصرارهم بعدم موت إسماعيل في حياة أبيه جعفر الصادق (عليه السّلام)، لأجل تصحيح إمامة ابنه عبد الله بن إسماعيل؛ حتّى يتسنّى له أخذ الإمامة من أبيه الحيّ بعد حياة الإمام الصادق (عليه السّلام).

لكن الحقّ أنّه توفّي أيّام حياة أبيه، بشهادة الأخبار المتضافرة الّتي تعرّفت عليها، وهل يمكن إغفال أُمّة كبيرة وفيهم جواسيس الخليفة وعمّالها؟!، وستْر رحيل إسماعيل إلى البصرة بتمثيل جنازة بطريقة مسرحيّة يُعلن بها موته، فإنّه منهج وأُسلوب السياسيّين المخادعين، المعروفين بالتخطيط والمؤامرة، ومن يريد تفسير فعل الإمام عن هذا الطريق فهو من هؤلاء الجماعة (وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح). وأين هذا من وضع الجنازة مرّات وكشف وجهه والاستشهاد على موته وكتابة الشهادة على كفنه؟!

والتاريخ يشهد على أنّه لم يكن لإسماعيل ولا لولَده الإمام الثاني، أيّة دعوة في زمان أبي جعفر المنصور ولا ولَده المهدي العبّاسي، بشهادة أنّ ابن المفضّل كتب كتاباً ذكر فيه صنوف الفِرق، ثُمَّ قرأ الكتاب على الناس، فلم يذكر فيه شيئاً من تلك الفِرقة مع أنّه ذكر سائر الفِرق الشيعيّة البائدة.

والحق إنّ إسماعيل كان رجلاً ثقة، محبوباً للوالد، وتوفّي في حياة والده وهو عنه راض، ولم تكن له أي دعوة للإمامة، ولم تظهر أي دعوة باسمه أيّام خلافة المهدي العبّاسي الّذي توفّي عام 169هـ، وقد مضى على وفاة الإمام الصادق (عليه السّلام) إحدى وعشرون سنة.

٢٥٠

الخطوط العريضة للمذهب الإسماعيلي

إنّ للمذهب الإسماعيلي آراء وعقائداً:

الأُولى: انتماؤهم إلى بيت الوحي والرسالة:

كانت الدعوة الإسماعيليّة يوم نشوئها دعوة بسيطة لا تتبنّى سوى: إمامة المسلمين، وخلافة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) واستلام الحكم من العباسيّين بحجة ظلمهم وتعسّفهم، غير أنّ دعوة بهذه السذاجة لا يُكتب لها البقاء إلاّ باستخدام عوامل تضمن لها البقاء، وتستقطب أهواء الناس وميولهم.

ومن تلك العوامل الّتي لها رصيد شعبي كبير هو ادّعاء انتماء أئمّتهم إلى بيت الوحي والرسالة وكونهم من ذريّة الرسول وأبناء بنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، وكان المسلمون منذ عهد الرسول يتعاطفون مع أهل بيت النبيّ، وقد كانت محبّتهم وموالاتهم شعار كلّ مسلم واع.

وممّا يشير إلى ذلك أنّ الثورات الّتي نشبت ضد الأُمويّين كانت تحمل شعار حبّ أهل البيت (عليهم السّلام) والاقتداء بهم والتفاني دونهم، ومن هذا المنطلق صارت الإسماعيليّة تفتخر بانتماء أئمّتهم إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى إذا تسلّموا مقاليد الحكم وقامت دولتهم اشتهروا بالفاطميّين، وكانت التسمية يومذاك تهزّ المشاعر وتجذب العواطف بحجّة أنّ الأبناء يرثون ما للآباء من الفضائل والمآثر، وأنّ

٢٥١

تكريم ذريّة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تكريم له (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فشتّان ما بين بيت أُسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوانه وبيت أُسّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم.

الثانية: تأويل الظواهر:

إنّ تأويل الظواهر وإرجاعها إلى خلاف ما يتبادر منها في عرف المتشرّعة هي السمة البارزة الثانية للدعوة الإسماعيليّة، وهي إحدى الدعائم الأساسيّة؛ بحيث لو انسلخت الدعوة عن التأويل واكتفت بالظواهر لم تتميّز عن سائر الفِرق الشيعيّة إلاّ بصرف الإمامة عن الإمام الكاظم (عليه السّلام) إلى أخيه إسماعيل بن جعفر، وقد بنوا على هذه الدعامة مذهبهم في مجالي العقيدة والشريعة، وخصوصاً فيما يرجع إلى تفسير الإمامة وتصنيفها إلى أصناف.

إنّ تأويل الظواهر والتلاعب بآيات الذكر الحكيم وتفسيرها بالأهواء والميول جعل المذهب الإسماعيلي يتطوّر مع تطوّر الزمان، ويتكيّف بمكيّفاته، ولا ترى الدعوة أمامها أي مانع من مماشاة المستجدات وإن كانت على خلاف الشارع أو الضرورة الدينيّة.

الثالثة: تطعيم مذهبهم بالمسائل الفلسفيّة:

إنّ ظاهرة الجمود على النصوص والظواهر ورفض العقل في مجالات العقائد، كانت من أهم ميّزات العصر العبّاسي، هذه الظاهرة ولّدت رد فعل عند أئمّة الإسماعيليّة، فانجرفوا في تيّارات المسائل الفلسفيّة وجعلوها من صميم

٢٥٢

الدّين وجذوره، وانقلب المذهب إلى منهج فلسفي يتطوّر مع تطوّر الزمن، ويتبنّى أُصولاً لا تجد منها في الشريعة الإسلاميّة عيناً ولا أثراً.

يقول المؤرّخ الإسماعيلي المعاصر مصطفى غالب: إنّ كلمة (إسماعيليّة) كانت في بادئ الأمر تدلّ على أنّها من إحدى الفِرق الشيعيّة المعتدلة، لكنّها صارت مع تطوّر الزمن حركة عقليّة تدلّ على أصحاب مذاهب دينيّة مختلفة، وأحزاب سياسيّة واجتماعيّة متعدّدة، وآراء فلسفيّة وعلميّة متنوّعة. (1)

الرابعة: تنظيم الدعوة:

ظهرت الدعوة الإسماعيليّة في ظروف ساد فيها سلطان العبّاسيّين شرق الأرض وغربها، ونشروا في كلِّ بقعة جواسيس وعيوناً ينقلون الأخبار إلى مركز الخلافة الإسلاميّة، ففي مثل هذه الظروف العصيبة لا يُكتب النجاح لكلّ دعوة تقوم ضدّ السلطة إلاّ إذا امتلكت تنظيماً وتخطيطاً متقناً يضمن استمرارها، ويصون دعاتها وأتباعها من حبائل النظام الحاكم وكشف أسرارهم.

وقد وقف الدعاة على خطورة الموقف، وأحسّوا بلزوم إتقان التخطيط والتنظيم، وبلغوا فيه الذروة؛ بحيث لو قُورنت مع أحدث التنظيمات الحزبيّة العصريّة، لفاقتها وكانت لهم القدح المعلّى في هذا المضمار، وقد ابتكروا أساليب دقيقة يقف عليها من سبر تراجمهم وقرأ تاريخهم، ولم يكتفوا بذلك فحسب بل جعلوا تنظيمات الدعوة من صميم العقيدة وفلسفتها.

____________________

(1) تاريخ الدعوة الإسماعيليّة: 14.

٢٥٣

الخامسة: تربية الفدائيّين للدفاع عن المذهب:

إنّ الأقلّية المعارضة من أجل الحفاظ على كيانها لا مناص لها من تربية فدائيّين مضحّين بأنفسهم في سبيل الدعوة؛ لصيانة أئمتهم ودعاتهم من تعرّض الأعداء، فينتقون من العناصر المخلصة المعروفة بالتضحية والإقدام، والشجاعة النادرة، والجرأة الخارقة ويكلّفون بالتضحيات الجسديّة، وتنفيذ أوامر الإمام أو نائبه، وإليك هذا النموذج:

في سنة 500 هـ فكّر فخر الملك بن نظام وزير السلطان سنجر، أن يُهاجم قلاع الإسماعيليّة، فأوفد إليه الحسن بن الصباح أحد فدائيّيه فقتله بطعنة خنجر، ولقد كانت قلاعه في حصار مستمر من قبل السلجوقيّين.

السادسة: كتمان الوثائق:

إنّ استعراض تاريخ الدعوات الباطنيّة السرّيّة وتنظيماتها رهن الوقوف على وثائقها ومصادرها الّتي تنير الدرب لاستجلاء كنهها، وكشف حقيقتها وما غمض من رموزها ومصطلحاتها، ولكن للأسف الشديد أنّ الإسماعيليّة كتموا وثائقهم وكتاباتهم ومؤلّفاتهم وكلّ شيء يعود لهم، ولم يبذلوها لأحد سواهم، فصار البحث عن الإسماعيليّة بطوائفها أمراً مستعصياً، إلاّ أن يستند الباحث إلى كتب خصومهم وما قيل فيهم، ومن المعلوم أنّ القضاء في حقّ طائفة استناداً إلى كلمات مخالفيهم خارج عن أدب البحث النزيه.

٢٥٤

السابعة: الأئمّة المستورون والظاهرون:

إنّ الإسماعيليّة أعطت للإمامة مركزاً شامخاً، وصنّفوا الإمامة إلى رُتب ودرجات، وزوّدوها بصلاحيّات واختصاصات واسعة، غير أنّ المهمَّ هنا الإشارة إلى تصنيفهم الإمام إلى مستور دخل كهف الاستتار، وظاهر يملك جاهاً وسلطاناً في المجتمع، فالأئمّة المستورون هم الّذين نشروا الدعوة سرّاً وكتماناً، وهم:

1 - إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

2 - محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الحبيب) (132 - 193هـ)، ولد في المدينة المنوّرة وتسلّم شؤون الإمامة واستتر عن الأنظار خشية وقوعه بيد الأعداء. ولقّب بالإمام المكتوم لأنّه لم يعلن دعوته وأخذ في بسطها خفية.

3 - عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الوافي) (179 - 212هـ)، ولد في مدينة محمّد آباد، وتولّى الإمامة عام 193هـ بعد وفاة أبيه، وسكن السلمية عام 194هـ مصطَحباً بعدد من أتباعه؛ وهو الّذي نظّم الدعوة تنظيماً دقيقاً.

4 - أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (التقي) (198 - 265هـ)، وتولّى الإمامة عام 212هـ، سكن السلمية سرّاً حيث أصبحت مركزاً لنشر الدعوة.

5 - الحسين بن أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الرضي) (212 - 289هـ) تولّى الإمامة عام 265هـ، ويقال أنّه اتّخذ عبد الله بن ميمون القدّاح حجّة له وحجاباً عليه.

٢٥٥

الأئمّة الظاهرون:

6 - عبيد الله المهدي (260 - 322هـ) والمعروف بين الإسماعيليّة أنّ عبيد الله المهدي الّذي هاجر إلى المغرب وأسّس هناك الدولة الفاطميّة كان ابتداءً لعهد الأئمّة الظاهرين الّذين جهروا بالدعوة وأخرجوها عن الاستتار.

7 - محمّد بن عبيد الله القائم بأمر الله (280 - 334هـ)، ولد بالسلمية، ارتحل مع أبيه عبيد الله المهدي إلى المغرب وعهد إليه بالإمامة من بعده.

8 - إسماعيل المنصور بالله (303 - 346هـ)، ولد بالقيروان، تسلّم شؤون الإمامة بعد وفاة أبيه سنة 334هـ.

9 - معد بن إسماعيل المعزّ لدين الله (319 - 365هـ)، مؤسس الدولة الفاطميّة في مصر.

10 - نزار بن معد العزيز بالله (344 - 386هـ)، ولي العهد بمصر سنة 365هـ، واستقلّ بالأمر بعد وفاة أبيه، وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً.

11 - منصور بن نزار الحاكم بأمر الله (375 - 411هـ)، بويع بالخلافة سنة 386هـ وكان عمره أحد عشر عاماً ونصف العام، وهو من الشخصيّات القليلة الّتي لم تتجلّ شخصيّته بوضوح، وقام بأعمال إصلاحيّة زعم مناوئوه أنّها من البدع.

وأمّا عن مصير الحاكم، فمجمل القول فيه أنّه فُقد في سنة 411هـ، ولم يُعلم مصيره، وحامت حول كيفيّة اغتياله أساطير لا تتلاءم مع الحاكم المقتدر.

٢٥٦

وبعد اختفائه انشقّت فِرقة من الإسماعيليّة ذهبت إلى إلوهيّة الحاكم وغيبته، وهم المعروفون اليوم بـ (الدروز) يقطنون لبنان.

12 - عليّ بن منصور الظاهر لإعزاز دين الله (395 - 427هـ)، بويع بالخلافة وعمره ستة عشر عاماً، وشنّ حرباً على الدروز محاولاً إرجاعهم إلى العقيدة الفاطميّة الأصيلة.

13 - معد بن عليّ المستنصر بالله (420 - 487هـ)، بويع بالخلافة عام 427هـ، وكان له من العمر سبعة أعوام، وقد ظلّ في الحكم ستّين عاماً، وهي أطول مدّة في تاريخ الخلافة الإسلاميّة.

إلى هنا تمّت ترجمة الأئمّة الثلاثة عشر الّذين اتّفقت كلمة الإسماعيليّة على إمامتهم وخلافتهم، ولم يشذّ منهم سوى الدروز الّذين انشقوا عن الإسماعيليّة في عهد خلافة الحاكم بأمر الله، وصار وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق آخر وظهور طائفتين من الإسماعيليّة، بين مستعلية تقول بإمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ونزاريّة تقول بإمامة نزار بن المستنصر.

وسنأتي بالحديث عن الإسماعيليّة المستعلية والنزاريّة فيما يلي.

٢٥٧

الإسماعيليّة المستعلية

صارت وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق الإسماعيليّة مرّة ثانية - بعد انشقاق الدروز في المرّة الأُولى - فمنهم من ذهب إلى إمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ومنهم من ذهب إلى إمامة نزار من المستنصر بالله، وإليك الكلام في أئمّة المستعلية في هذا الفصل مقتصرين على أسمائهم وتاريخ ولادتهم ووفاتهم:

1 - الإمام أحمد بن معد بن عليّ المستعلي بالله (467 - 495هـ).

2 - الإمام منصور بن أحمد الآمر بأحكام الله (490 - 524هـ).

قال ابن خلّكان: مات الآمر بأحكام الله ولم يعقب، وربّما يقال: أنّ الآمر مات وامرأته حامل بالطيّب. فلأجل ذلك عهد الآمر بأحكام الله الخلافة إلى الحافظ، الظافر، الفائز، ثُمَّ إلى العاضد، وبما أنّ هؤلاء لم يكونوا من صلب الإمام السابق، بل كانوا من أبناء عمّه صاروا دعاة؛ حيث لم يكن في الساحة إمام، ودخلت الدعوة المستعلية بعد اختفاء الطيّب بالستر، وما تزال تنتظر عودته، وتوقّفت عن السير وراء الركب الإمامي واتّبعت نظام الدعاة المطلقين.

3 - الداعي عبد المجيد بن أبي القاسم محمّد بن المستنصر الحافظ لدين الله (467 - 544هـ).

4 - الداعي إسماعيل بن عبد المجيد الظافر بأمر الله (527 - 549 هـ).

٢٥٨

5 - الداعي عيسى بن إسماعيل الفائز بنصر الله (544 - 555هـ).

6 - عبد الله بن يوسف العاضد لدين الله (546 - 567هـ).

ثُمَّ إنّ العاضد فوّض الوزارة إلى صلاح الدين الأيّوبي الّذي بذل الأموال على أصحابه وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم يزل أمره في ازدياد وأمر العاضد في نقصان، حتّى تلاشى العاضد وانحلّ أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة، وتتبّع صلاح الدين جُند العاضد، وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم فوهبها لأصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله، فقدموا من الشام عليه، وعزل قُضاة مصر الشيعة، واختفى مذهب الشيعة إلى أنّ نُسي من مصر، وقد زادت المضايقات على العاضد وأهل بيته، حتّى مرض ومات وعمره إحدى وعشرون سنة إلاّ عشرة أيام، وهو آخر الخلفاء الفاطميّين بمصر، وكانت مدّتهم بالمغرب ومصر منذ قام عبيد الله المهدي إلى أن مات العاضد 272 سنة، منها بالقاهرة 208 سنين.(1)

تتابع الدعاة عند المستعلية:

قد عرفت أنّ ركب الإمامة قد توقّف عند المستعلية وانتهى الأمر إلى الدعاة الّذين تتابعوا إلى زمان 999هـ، وعند ذلك افترقت المستعلية إلى فِرقتين: داوديّة، وسليمانيّة، وذلك بعد وفاة الداعي المطلق داود بن عجب شاه، انتخبت مستعلية كجرات داود بن قطب شاه خلفاً له، ولكن اليمانيّين عارضوا ذلك وانتخبوا داعياً آخر، يُدعى سليمان بن

____________________

(1) انظر الخطط المقريزيّة: 1/358 - 359.

٢٥٩

الحسن، ويقولون: إنّ داود قد أوصى له بموجب وثيقة ما تزال محفوظة.

إنّ الداعي المطلق للفِرقة الإسماعيليّة المستعلية الداوديّة اليوم هو طاهر سيف الدّين، ويُقيم في بومباي الهند، أمّا الداعي المطلق للفِرقة المستعلية السليمانيّة فهو عليّ بن الحسين، ويقيم في مقاطعة نجران بالحجاز. (1)

جناية التاريخ على الفاطميّين:

لاشكّ أنّ كلّ دولة يرأسها غير معصوم لا تخلو من أخطاء وهفوات، وربّما تنتابها بين آونة وأُخرى حوادث وفتن تضعضع كيانها وتشرفها على الانهيار.

والدولة الفاطميّة غير مستثناة عن هذا الخط السائد؛ فقد كانت لديها زلاّت وعثرات، إلاّ أنّها قامت بأعمال ومشاريع كبيرة لا تقوم بها إلاّ الدولة المؤمنة بالله سبحانه وشريعته، كالجامع الأزهر الّذي ظلّ عبر الدهور يُنير الدرب لأكثر من ألف سنة، كما أنّهم أنشأوا جوامع كبيرة ومدارس عظيمة مذكورة في تاريخهم، وبذلك رفعوا الثقافة الإسلاميّة إلى مرتبة عالية، وتلك الأعمال جعلت لهم في قلوب الناس مكانة عالية.

غير أنّا نرى أنّ أكثر المؤرّخين يصوّرها بأنّها من أكثر العصور ظلاماً في التاريخ؛ شأنها في ذلك شأن سائر الفراعنة، وليس هذا إلاّ حدسيّات وتخمينات أخذها أصحاب أقلام السِّير والتاريخ من رُماة القول على عواهنه دون أن يُمعنوا فيه.

____________________

(1) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 162.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319