تذكرة الفقهاء الجزء ٢

تذكرة الفقهاء11%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-5503-35-3
الصفحات: 512

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 512 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35779 / تحميل: 8621
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٥٥٠٣-٣٥-٣
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

ولما انصرف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من وقعة أحد إلى المدينة ، سمع من كل دار قتل من أهلها قتيل نوحا وبكاء ، ولم يسمع من دار عمّه حمزة ، فقالعليه‌السلام : ( لكن حمزة لا بواكي له ) فآلى أهل المدينة أن لا ينوحوا على ميّت ولا يبكوه حتى يبدؤوا بحمزة فينوحوا عليه ويبكوه ، فهم إلى اليوم على ذلك(١) .

ج ـ يجوز الوقف على النائحة لأنه فعل سائغ فلا مانع من الوقف عليه وقال الصادقعليه‌السلام : « قال لي الباقرعليه‌السلام : أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب يندبنني عشر سنين بمنى أيام منى »(٢) وقصدعليه‌السلام بذلك عدم انقطاع ذكره والتسليم عليه.

د ـ كره الشافعي المأتم ـ وهو الاجتماع ـ لما فيه من تجديد الحزن(٣) ، وكذلك قال : يكره المبيت في المقبرة لما فيه من الوحشة(٤) .

هـ ـ يجوز شق الثوب في موت الأب ، والأخ لأن الهاديعليه‌السلام لما قبض شق العسكريعليه‌السلام قميصه من خلف وقدّام(٥) .

مسألة ٢٦٣ : كل ما يفعل من القرب ويجعل ثوابه للميت فإنه يصله نفعه‌ ، أما الدعاء والاستغفار ، والصدقة ، وأداء الواجبات التي تدخلها النيابة فإجماع ، قال الله تعالى( يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا ) (٦)( وَاسْتَغْفِرْ

__________________

(١) الفقيه ١ : ١١٦ ـ ٥٥٣.

(٢) الكافي ٥ : ١١٧ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ٣٥٨ ـ ١٠٢٥.

(٣) الام ١ : ٢٧٩ ، المجموع ٥ : ٣٠٦.

(٤) المجموع ٥ : ٣١٢ ، السراج الوهاج : ١١٤.

(٥) الفقيه ١ : ١١١ ـ ٥١١.

(٦) الحشر : ١٠.

١٢١

 لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

وقال رجل للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : إن أمي ماتت أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال : ( نعم )(٢) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « يدخل على الميت في قبره الصلاة ، والصوم ، والحج ، والصدقة ، والبر ، والدعاء ، ويكتب أجره للذي يفعله وللميت »(٣) .

وأما ما عداها فإنه عندنا كذلك ـ وبه قال أحمد(٤) ـ لأن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف عنهم يومئذ ، وكان له بعدد من فيها حسنات )(٥) .

وقالعليه‌السلام لعمرو بن العاص : ( لو كان أبوك مسلما فأعتقتم عنه ، أو تصدقتم عنه ، أو حججتم عنه بلغه ذلك )(٦) .

ومن طريق الخاصة قول الصادقعليه‌السلام : « من عمل من المسلمين عن ميت عملا صالحا أضعف له أجره ، ونفع الله به الميت »(٧) ، ولأنه عمل برّ وطاعة ، فوصل نفعه وثوابه إليه كالواجبات.

وقال الشافعي : ما عدا الواجبات ، والصدقة ، والدعاء ، والاستغفار لا‌

__________________

(١) محمد : ١٩.

(٢) مسند احمد ٥ : ٢٨٥ ، مصنف ابن أبي شيبة ٣ : ٣٨٦ ، سنن أبي داود ٣ : ١١٨ ـ ٢٨٨٢ ، سنن البيهقي ٤ : ٦٢.

(٣) الفقيه ١ : ١١٧ ـ ٥٥٧.

(٤) المغني ٢ : ٤٢٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٤١٩.

(٥) تفسير القرطبي ١٥ : ٣ ، المغني ٢ : ٤٢٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٤١٨.

(٦) سنن أبي داود ٣ : ١١٨ ـ ٢٨٨٣.

(٧) الفقيه ١ : ١١٧ ـ ٥٥٦.

١٢٢

يفعل عن الميت ، ولا يصل ثوابه إليه(١) لقوله تعالى( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى ) (٢) وقولهعليه‌السلام : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به من بعده ، أو ولد صالح يدعو له )(٣) .

والآية مخصوصة بما وافقنا عليه ، والمختلف في معناه فيحمل عليه ، ولا حجة في الخبر لدلالته على انقطاع عمله ، وهذا ليس من عمله ، ومخصوص بمحل الوفاق فيحمل عليه محل الخلاف للمشاركة في المعنى.

مسألة ٢٦٤ : يستحب تعزية أهل الميت‌ بإجماع العلماء لقولهعليه‌السلام : ( من عزى مصابا فله مثل أجره )(٤) ومن طريق الخاصة قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( من عزى حزينا كسي في الموقف حلة يحبر بها )(٥) وقالعليه‌السلام : ( التعزية تورث الجنّة )(٦) والمراد منها تسلية أهل المصيبة ، وقضاء حقوقهم ، والتقرب إليهم ، وإطفاء نار الحزن عنهم ، وتسليتهم بمن سبق من الأنبياء والأئمةعليهم‌السلام ، وتذكيرهم الثواب على الصبر ، واللحاق بالميت.

فروع :

أ ـ لا خلاف في استحباب التعزية قبل الدفن ، وأما بعده فهو قول أكثر‌

__________________

(١) المجموع ١٥ : ٥١٩ ، المغني ٢ : ٤٢٨.

(٢) النجم : ٣٩.

(٣) مسند أحمد ٢ : ٣٧٢.

(٤) سنن الترمذي ٣ : ٣٨٥ ـ ١٠٧٣ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥١١ ـ ١٦٠٢.

(٥) الكافي ٣ : ٢٠٥ ـ ١ ، ثواب الأعمال : ٢٣٥ ـ ٢.

(٦) ثواب الاعمال : ٢٣٥ ـ ١.

١٢٣

العلماء(١) لقولهعليه‌السلام : ( ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة )(٢) وهو عام قبل الدفن وبعده ، ومن طريق الخاصة قول هشام بن الحكم : رأيت الكاظمعليه‌السلام يعزي قبل الدفن وبعده(٣) .

وعزّى الصادقعليه‌السلام رجلا بابن له ، فقال : « الله خير لابنك منك ، وثواب الله خير لك منه » فبلغه جزعه بعد ذلك فعاد إليه فقال له : « قد مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فما لك به أسوة؟ » فقال : إنه كان مرهقا ، فقال : « إن أمامه ثلاث خصال : شهادة أن لا إله إلا الله ، ورحمة الله ، وشفاعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولن يفوته واحدة منهن إن شاء الله »(٤) ، ولأن القصد التسلية ، والحزن يحصل بعد الدفن كما حصل قبله.

وقال الثوري : لا تستحب التعزية بعد الدفن ، لأنه خاتمة أمره(٥) ، ولقول الصادقعليه‌السلام : « ليس التعزية إلا عند القبر ثم ينصرفون »(٦) وهو غير مناف لبقاء الحزن عند الأحياء بعد خاتمة أمر الميت ، وقول الصادقعليه‌السلام يشمل قبل وبعد.

__________________

(١) فتح العزيز ٥ : ٢٥٢ ، كفاية الأخيار ١ : ١٠٥ ، السراج الوهاج : ١١٢ ، المغني ٢ : ٤٠٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٤٢٥ ، المجموع ٥ : ٣٠٦.

(٢) سنن ابن ماجة ١ : ٥١١ ـ ١٦٠١ ، الجامع الصغير للسيوطي ٢ : ٥٢٢ ـ ٨٠٩٢.

(٣) الكافي ٣ : ٢٠٥ ـ ٩ ، الفقيه ١ : ١١٠ ـ ٥٠٣ ، التهذيب ١ : ٤٦٣ ـ ١٥١٦ ، الإستبصار ١ : ٢١٧ ـ ٧٦٩.

(٤) الكافي ٣ : ٢٠٤ ـ ٧ ، الفقيه ١ : ١١٠ ـ ٥٠٨ ، التهذيب ١ : ٤٦٨ ـ ١٥٣٧ ، ثواب الأعمال : ٢٣٥ ـ ٢٣٦ ـ ٣.

(٥) المجموع ٥ : ٣٠٧ ، المغني ٢ : ٤٠٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٤٢٥.

(٦) الكافي ٣ : ٢٠٣ ـ ١ ، التهذيب ١ : ٤٦٣ ـ ١٥١١.

١٢٤

ب ـ قال الشيخ : التعزية بعد الدفن أفضل(١) ، وهو جيد لقول الصادقعليه‌السلام : « التعزية لأهل المصيبة بعد ما يدفن »(٢) ولاشتغالهم بميتهم ، ولأنه بعد الدفن يكثر الجزع حيث هو وقت المفارقة لشخصه والانقلاب عنه.

ج ـ قال الشيخ : يجوز أن يتميز صاحب المصيبة عن غيره بإرسال طرف العمامة أو أخذ مئزر فوقها على الأب والأخ ، فأما غيرهما فلا يجوز على حال(٣) . والوجه عندي استحباب الامتياز في الأب والأخ وغيرهما لأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وضع رداءه في جنازة سعد بن معاذ وقال : ( رأيت الملائكة قد وضعت أرديتها فوضعت ردائي )(٤) .

ولما مات إسماعيل تقدم الصادقعليه‌السلام السرير بغير رداء ولا حذاء(٥) .

وقالعليه‌السلام : « ينبغي لصاحب المصيبة أن يضع رداءه حتى يعلم الناس أنه صاحب المصيبة »(٦) .

د ـ قد منع من وضع الرداء في مصيبة غيره لئلاّ يشتبه بصاحبها ، وقالعليه‌السلام : ( ملعون ملعون من وضع رداءه في مصيبة غيره )(٧) .

هـ ـ يستحب تعزية جميع أهل المصيبة ، كبارهم وصغارهم ، ويخصّ من ضعف منهم عن تحمل المصيبة لحاجته إليها ، ولا فرق بين الرجل والمرأة‌

__________________

(١) الخلاف ١ : ٧٢٩ مسألة ٥٥٦.

(٢) الكافي ٣ : ٢٠٤ ـ ٢ ، التهذيب ١ : ٤٦٣ ـ ١٥١٢ ، الاستبصار ١ : ٢١٧ ـ ٧٧٠.

(٣) المبسوط للطوسي ١ : ١٨٩.

(٤) الفقيه ١ : ١١١ ـ ٥١٢.

(٥) الكافي ٣ : ٢٠٤ ـ ٥ ، الفقيه ١ : ١١٢ ـ ٥٢٤ ، التهذيب ١ : ٤٦٣ ـ ١٥١٣.

(٦) الكافي ٣ : ٢٢١ ـ ٦ ، علل الشرائع : ٣٠٧ الباب ٢٥٤ الحديث ١.

(٧) الفقيه ١ : ١١١ ـ ٥١٠ ، علل الشرائع : ٣٠٧ الباب ٢٥٤ الحديث ٢.

١٢٥

لقولهعليه‌السلام : ( من عزى ثكلى كسي بردا في الجنّة )(١) .

نعم يكره تعزية الرجل المرأة الشابة الأجنبية حذر الفتنة.

و ـ الأقرب جواز تعزية أهل الذمة ـ وبه قال الشافعي ، وأحمد في رواية(٢) ـ لأنه كالعيادة ، وقد عاد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله غلاما من اليهود مرض ، فقعد عند رأسه فقال له : ( أسلم ) فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال : أطع أبا القاسم فأسلم فقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقول : ( الحمد لله الذي أنقذه من النار )(٣) . وفي أخرى : المنع(٤) لقولهعليه‌السلام : ( لا تبدءوهم بالسلام )(٥) وهذا في معناه.

ز ـ يقول في تعزية الكافر بالكافر : أخلف الله عليك ولا نقص عددك ، ويقصد كثرة العدد لزيادة الجزية ، وفي تعزية المسلم بالكافر : أعظم الله أجرك ، وأخلف عليك ، وفي تعزية الكافر بالمسلم : أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك ، وغفر لميتك.

ح ـ ليس في التعزية شي‌ء موظف ، واستحب بعض الجمهور(٦) ما رواه الصادقعليه‌السلام عن الباقرعليه‌السلام عن زين العابدينعليه‌السلام قال : « لما توفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول : إن في الله عزاء من كل مصيبة ، وخلفا من كل هالك ، ودركا من كل ما فات فبالله فثقوا وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حرم الثواب »(٧) .

__________________

(١) سنن الترمذي ٣ : ٣٨٧ ـ ٣٨٨ ـ ١٠٧٦.

(٢) فتح العزيز ٥ : ٢٥٢ ، المغني ٢ : ٤٠٩ ، الشرح الكبير ٢ : ٤٢٧.

(٣) صحيح البخاري ٢ : ١١٨ ، سنن أبي داود ٣ : ١٨٥ ـ ٣٠٩٥ ، مسند أحمد ٣ : ٢٢٧.

(٤) المغني ٢ : ٤٠٩ ، الشرح الكبير ٢ : ٤٢٧.

(٥) مسند أحمد ٢ : ٣٤٦.

(٦) المغني ٢ : ٤٠٩ ، الشرح الكبير ٢ : ٤٢٧.

(٧) ترتيب مسند الشافعي ١ : ٢١٦ ـ ٦٠٠.

١٢٦

وعزى الصادقعليه‌السلام قوما قد أصيبوا بمصيبة فقال : « جبر الله وهنكم ، وأحسن عزاءكم ، ورحم متوفاكم » ثم انصرف(١) .

ط ـ يكفي في التعزية أن يراه صاحب المصيبة ، قال الصادقعليه‌السلام : « كفاك من التعزية أن يراك صاحب المصيبة »(٢) .

ي ـ قال في المبسوط : يكره الجلوس للتعزية يومين ، أو ثلاثة إجماعا(٣) ، وأنكره ابن إدريس لأنه تزاور فيستحب(٤) .

يا ـ الأقرب أنه لا حدّ للتعزية ، لعدم التوقيت ، وهو أحد وجهي الشافعيّة ، وفي الآخر : حدها ثلاثة أيام إلا أن يكون المعزي أو المعزى غائبا(٥) .

مسألة ٢٦٥ : يستحب إصلاح طعام لأهل الميت يبعث به إليهم‌ إجماعا إعانة لهم ، وجبرا لقلوبهم ، فإنهم ربما اشتغلوا بمصابهم ، وبالواردين عليهم عن إصلاح طعام لأنفسهم ، ولما جاء نعي جعفر ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( اصنعوا لآل جعفر طعاما فإنه قد أتاهم أمر شغلهم )(٦) .

ومن طريق الخاصة قول الصادقعليه‌السلام : « لما قتل جعفر بن أبي طالب ، أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمةعليها‌السلام أن تأتي أسماء بنت عميس ونساءها ، وأن تصنع لهم طعاما ثلاثة أيام ، فجرت بذلك‌

__________________

(١) الفقيه ١ : ١١٠ ـ ٥٠٦.

(٢) الفقيه ١ : ١١٠ ـ ٥٠٥.

(٣) المبسوط للطوسي ١ : ١٨٩.

(٤) السرائر : ٣٤.

(٥) المجموع ٥ : ٣٠٦ ، فتح العزيز ٥ : ٢٥٢ ، كفاية الأخيار ١ : ١٠٥ ـ ١٠٦ ، السراج الوهاج : ١١٢.

(٦) سنن أبي داود ٣ : ١٩٥ ـ ٣١٣٢ ، سنن الترمذي ٣ : ٣٢٣ ـ ٩٩٨ ، سنن الدار قطني ٢ : ٧٩ ـ ١١ و ٨٧ ـ ٨.

١٢٧

السنة »(١) .

وكره أحمد أن يصنع أهل الميت طعاما للناس لأنه فعل أهل الجاهلية(٢) ، ولقول الصادقعليه‌السلام : « الأكل عند أهل المصيبة من عمل أهل الجاهلية ، والسنة البعث إليهم بالطعام »(٣) .

مسألة ٢٦٦ : يستحب للرجال زيارة مقابر المؤمنين‌ إجماعا لأن النبيّعليه‌السلام قال : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها فإنها تذكركم الموت )(٤) . ومن طريق الخاصة قول الرضاعليه‌السلام : « من أتى قبر أخيه المؤمن من أيّ ناحية يضع يده ، وقرأ إنا أنزلناه سبع مرات أمن الفزع الأكبر »(٥) .

ووقف الباقرعليه‌السلام على قبر رجل من الشيعة ثم قال : « اللهم ارحم غربته ، وصل وحدته ، وآنس وحشته ، واسكن إليه من رحمتك رحمة يستغني بها عن رحمة من سواك ، وألحقه بمن كان يتولاه » ثم قرأ إنا أنزلناه سبع مرات(٦) . وسأل جراح الصادقعليه‌السلام كيف التسليم على أهل القبور؟ قال : « تقول : السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، رحم الله المتقدمين منا والمتأخرين(٧) ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون »(٨) .

__________________

(١) المحاسن : ٤١٩ ـ ١٩١.

(٢) المغني ٢ : ٤١٣ ، الشرح الكبير ٢ : ٤٢٣ ، كشاف القناع ٢ : ١٤٩.

(٣) الفقيه ١ : ١١٦ ـ ٥٤٨.

(٤) صحيح مسلم ٢ : ٦٧٢ ـ ٩٧٧ ، سنن أبي داود ٣ : ٢١٨ ـ ٣٢٣٥ ، سنن الترمذي ٣ : ٣٧٠ ـ ١٠٥٤ ، مستدرك الحاكم ١ : ٣٧٥.

(٥) الكافي ٣ : ٢٢٩ ـ ٩ ، التهذيب ٦ : ١٠٤ ـ ١٨٢.

(٦) الكافي ٣ : ٢٢٩ ـ ٦ ، التهذيب ٦ : ١٠٥ ـ ١٨٣.

(٧) في « ش » والكافي : رحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين.

(٨) الفقيه ١ : ١١٤ ـ ٥٣٣ ، والكافي ٣ : ٢٢٩ ـ ٨.

١٢٨

فروع :

أ ـ لا يكره للنساء ذلك لأن الصادقعليه‌السلام قال : « إن فاطمةعليها‌السلام كانت تأتي قبور الشهداء في كل غداة سبت ، فتأتي قبر حمزة وتترحم عليه وتستغفر له »(١) .

ب ـ لا يستحب خلع النعال لانتفاء الكراهة بالأصل ، ولأن الحسن ، وابن سيرين كانا يمشيان بين القبور في نعالهما(٢) .

وكرهه أحمد(٣) ، لأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بإلقائهما(٤) ، ويحمل على من فعل ذلك للخيلاء.

ج ـ لو احتيج إلى النعلين لم يكره المشي فيهما إجماعا.

د ـ نزع الخفين ليس بمستحب إجماعا لأن في نزعهما مشقة ، وهل يتعدى إلى الشمشك(٥) ؟ إشكال.

__________________

(١) الفقيه ١ : ١١٤ ـ ٥٣٧ ، التهذيب ١ : ٤٦٥ ـ ١٥٢٣.

(٢) المغني ٢ : ٤٢٤.

(٣) المغني ٢ : ٤٢٣ ، كشاف القناع ٢ : ١٤١ ، المجموع ٥ : ٣١٢.

(٤) سنن البيهقي ٤ : ٨٠.

(٥) الشمشك بضم الشين وكسر الميم. قيل : إنّه المشاية البغدادية. مجمع البحرين ٥ : ٢٧٧ « شمشك ».

١٢٩
١٣٠

الفصل السادس : في غسل مس الأموات.

مسألة ٢٦٧ : الميت نجس وإن كان آدميّا‌ عند علمائنا أجمع ، ويطهر بالغسل ـ وبه قال أبو حنيفة ، والشافعي في أحد الوجهين(١) ـ لقوله تعالى :( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) (٢) وتحريم الأعيان يستلزم تحريم الانتفاع من جميع الوجوه ، ولأنه حيوان لا يحل أكله ، ذو نفس سائلة ، فينجس بالموت كسائر الحيوانات ، ولأنه لو بان منه عضو كان نجسا.

وروي أن زنجيا مات في زمزم ، فأمر عبد الله بن عباس أن ينزح جميع مائها ، وكان في خلافة ابن الزبير(٣) ولم ينكر ذلك أحد.

ومن طريق الخاصة قول الصادقعليه‌السلام ، وقد سئل عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميت : « يغسل ما أصاب الثوب »(٤) .

وللشافعي قول : إنه لا ينجس الآدمي(٥) ، لأن النبيّعليه‌السلام قال :

__________________

(١) فتح العزيز ١ : ١٦٢ و ١٦٣ ، شرح فتح القدير ٢ : ٧٠.

(٢) المائدة : ٣.

(٣) سنن الدار قطني ١ : ٣٣ ـ ١.

(٤) الكافي ٣ : ١٦١ ـ ٤ ، التهذيب ١ : ٢٧٦ ـ ٨١٢ ، الاستبصار ١ : ١٩٢ ـ ٦٧١.

(٥) المجموع ١ : ١٣٢ ، فتح العزيز ١ : ١٦٢.

١٣١

( لا تنجسوا موتاكم ، فإن المؤمن ليس بنجس حيا ولا ميتا )(١) ولأنه يطهر بالغسل فلا يكون نجس العين.

والحديث محمول على أنه ليس بنجس نجاسة لا تقبل التطهير ، ونمنع الملازمة فإن النجاسات العينية تختلف ، فالكافر يطهر بالإسلام ، والخمر يطهر بالانقلاب.

فروع :

أ ـ نجاسة الميت نجاسة عينية لأنها تتعدى إلى ما يلاقيها ، على ما تضمنه حديث الصادقعليه‌السلام (٢) وتطهر بالغسل بإجماع علماء الإسلام.

ب ـ لو وقع الثوب على الميت بعد غسله لم يجب غسله لطهارته حينئذ ، ولقول الصادقعليه‌السلام : « إن كان الميت غسل فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه ، فإن كان لم يغسل فاغسل ما أصاب ثوبك منه »(٣) .

ج ـ لو وقعت يد الميت بعد برده وقبل غسله في مائع نجس ذلك المائع ، فإن وقع ذلك المائع في آخر نجس الآخر ، خلافا لابن إدريس ، فإنه قال : الثاني لم يلاق الميت ، وحمله على ما لاقاه قياس ، ولأن لمغسّل الميت دخول المسجد واستيطانه ، ولأن المستعمل في الكبرى طاهر(٤) .

وليس بجيد إذ لا قياس هنا ، بل لأن ملاقي يد الميت نجس ، والمائع إذا لاقى نجسا تأثر به ، ونمنع جواز الاستيطان ، وطهارة المستعمل في الكبرى مع حصول نجاسة في المحل ، ولا مس الميت بيده تنجس يده نجاسة عينية ، فإن اغتسل قبل غسل يده نجس الماء بملاقاة يده التي لاقى بها‌

__________________

(١) سنن الدار قطني ٢ : ٧٠ ـ ١ ، مستدرك الحاكم ١ : ٣٨٥.

(٢) الكافي ٣ : ١٦١ ـ ٤ ، التهذيب ١ : ٢٧٦ ـ ٨١٢ ، الإستبصار ١ : ١٩٢ ـ ٦٧١.

(٣) الكافي ٣ : ١٦١ ـ ٧ ، التهذيب ١ : ٢٧٦ ـ ٨١١.

(٤) السرائر : ٣٢.

١٣٢

الميت ، ولو غسل يده ثم اغتسل لم ينجس الماء لأن اغتساله هنا طهارة حكميّة ، وإنما الإشكال لو لاقاه يابسين ، أو لاقى ميتا من غير الناس.

د ـ الميت إنما يطهر بالغسل إذا وقع على الوجه المشروع ، أما لو رماه في ماء كثير ـ ولم يكتف بالقراح ـ لم يطهر.

وكذا لا يطهر غير الآدمي بالغسل ، أما الكافر فالأقرب إلحاقه بغير الآدمي في عدم الطهارة بالغسل ، للنهي عن تغسيله(١) والنهي في العبادة يقتضي الفساد.

مسألة ٢٦٨ : يجب الغسل على من غسل ميتا‌ عند أكثر علمائنا(٢) ـ وهو القول القديم للشافعي ، وهو منقول عن عليعليه‌السلام ، وأبي هريرة(٣) ـ لأن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( من غسل ميتا فليغتسل ، ومن مسه فليتوضأ )(٤) .

ولما مات أبو طالب ، أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله علياعليه‌السلام بغسله ، فلما غسله ، ودفنه رجع إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره فقال : ( اذهب واغتسل )(٥) .

ومن طريق الخاصة قول الصادقعليه‌السلام : « من غسل ميتا فليغتسل »(٦) .

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٥٩ ـ ١٢ ، الفقيه ١ : ٩٥ ـ ٤٣٧ ، التهذيب ١ : ٣٣٥ ـ ٣٣٦ ـ ٩٨٢.

(٢) منهم : المفيد في المقنعة : ٦ ، والصدوق في الفقيه ١ : ٨٧ ، والشيخ الطوسي في النهاية : ٣٥ ، والمبسوط ١ : ١٧٩ ، وابن إدريس في السرائر : ٣٢ ، والمحقق في المعتبر : ٩٦.

(٣) المجموع ٥ : ١٨٥ ـ ١٨٦.

(٤) سنن أبي داود ٣ : ٢٠١ ـ ٣١٦١ ، سنن ابن ماجة ١ : ٤٧٠ ـ ١٤٦٣ ، سنن البيهقي ١ : ٣٠٠ ـ ٣٠٤.

(٥) سنن البيهقي ١ : ٣٠٥.

(٦) الكافي ٣ : ١٦٠ ـ ١ ، التهذيب ١ : ١٠٨ ـ ٢٨٣ ، الاستبصار ١ : ٩٩ ـ ٣٢١.

١٣٣

وحكي عن أبي حنيفة ، والمزني : أنه ليس بمشروع(١) . وقال السيد المرتضى(٢) وابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة ، والفقهاء : مالك ، وأصحاب الرأي ، وأحمد ، وإسحاق ، والشافعي في القول الثاني : إنه مستحب للأصل(٣) . والاحتياط يعارضه.

مسألة ٢٦٩ : لو مس ميتا من الناس بعد برده‌ بالموت وقبل تطهيره بالغسل وجب عليه الغسل عند أكثر علمائنا(٤) ـ خلافا للسيد المرتضى(٥) ، والجمهور كافة ـ لما تقدم(٦) ولقول الصادقعليه‌السلام وقد سئل قلت : فإن مسّه.؟

قال : « فليغتسل »(٧) .

وقال المرتضى : إنه مستحب للأصل(٨) ، وقال أحمد : يجب الوضوء(٩) لقولهعليه‌السلام : ( من غسل ميتا فليغتسل ، ومن مسه فليتوضأ )(١٠) .

فروع :

أ ـ يجب الوضوء أيضا بالمس عملا بعموم قوله تعالى( فَاغْسِلُوا ) (١١)

__________________

(١) المجموع ٥ : ١٨٥.

(٢) حكاه عنه المحقق في المعتبر : ٩٦.

(٣) المجموع ٥ : ١٨٥ و ١٨٦ و ٢ : ٢٠٣ ، بلغة السالك ١ : ١٩٥ ، المغني ١ : ٢٤٣ ، الشرح الكبير ١ : ٢٤٣ ، البحر الرائق ١ : ٦٦.

(٤) منهم الصدوق في الفقيه ١ : ٨٧ ، والشيخ الطوسي في النهاية ٣٥ والمبسوط ١ : ١٧٩ ، وابن إدريس في السرائر : ٢٣.

(٥) حكاه المحقق في المعتبر : ٩٦.

(٦) تقدم في المسألة ٢٦٨.

(٧) الكافي ٣ : ١٦٠ ـ ١ ، التهذيب ١ : ١٠٨ ـ ٢٨٣.

(٨) حكاه المحقق في المعتبر : ٩٦.

(٩) الشرح الكبير ١ : ٢٤٤ ، المجموع ٥ : ١٨٦.

(١٠) سنن أبي داود ٣ : ٢٠١ ـ ٣١٦١ ، سنن ابن ماجة ١ : ٤٧٠ ـ ١٤٦٣ ، سنن البيهقي : ١ : ٣٠٠ ـ ٣٠٤.

(١١) سورة المائدة : ٦.

١٣٤

ولقولهمعليهم‌السلام : « كل غسل لا بدّ معه من الوضوء إلا الجنابة »(١) فلو اغتسل ولم يتوضأ وصلّى بطلت.

ب ـ لو مسه قبل برده لم يجب عليه غسل لقول الصادقعليه‌السلام قال : « إذا مسه وهو سخن فلا غسل عليه ، فإذا برد فعليه الغسل »(٢) والأقرب : وجوب غسل يده لأنه لاقى نجاسة ، إذ الميت نجس عندنا.

ج ـ لو مس ميتا من غير الناس وجب عليه غسل ما مسه به ، وحكم الثوب حكم البدن ، والأقوى عندي هنا اشتراط الرطوبة.

د ـ لو كمل غسل الرأس فمسه قبل إكمال الغسل لم يجب الغسل.

هـ ـ لا فرق بين كون الميت مسلما أو كافرا لامتناع التطهير في حقه ، ولا يمنع ذلك صدق القبلية.

مسألة ٢٧٠ : ويجب الغسل بمس قطعة فيها عظم أبينت من آدمي‌ ، حي أو ميت ـ خلافا للجمهور ـ لأنه ميت.

وقال الصادقعليه‌السلام : « إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة ، فإذا مسه إنسان فكل ما فيه عظم فقد وجب على من يمسه الغسل ، فإن لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه »(٣) .

فلو كانت القطعة خالية من عظم ، أو كانت من غير الناس وجب غسل اليد خاصة ، ولا يجب الغسل ، والأقرب عدم وجوب الغسل بمس نفس العظم.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٥ ـ ١٣ ، التهذيب ١ : ١٣٩ ـ ٣٩١ ، الاستبصار ١ : ١٢٦ ـ ٤٢٨.

(٢) التهذيب ١ : ٤٢٩ ـ ١٣٦٧.

(٣) الكافي ٣ : ٢١٢ ـ ٤ ، التهذيب ١ : ٤٢٩ ـ ١٣٦٩ ، الإستبصار ١ : ١٠٠ ـ ٣٢٥.

١٣٥

مسألة ٢٧١ : كيفيّة هذا الغسل مثل كيفية غسل الحيض‌ بمعنى افتقاره إلى الوضوء ، إما قبله أو بعده ، للصلاة ، أو غيرها مما يشترط فيه الطهارة لا وجوبا في نفسه لقول الصادقعليه‌السلام : « كل غسل لا بد فيه من الوضوء إلا غسل الجنابة »(١) خلافا للمرتضى(٢) لقولهعليه‌السلام : « وأي وضوء أكبر من الغسل »(٣) والأحوط ما قلناه.

تذنيب : لو اغتسل ثم أحدث حدثا أصغر توضأ وضوءا واحدا ولا يعيد الغسل ، ولو قدم الوضوء(٤) أعاده واغتسل ، ولو أحدث في أثناء الغسل أتمه وتوضأ سواء تقدم الغسل أو تأخر.

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٤٣ ـ ٤٠٣.

(٢) حكاه المحقق في المعتبر : ٥٢.

(٣) الكافي ٣ : ٤٥ ذيل الحديث ١٣ ، التهذيب ١ : ١٣٩ ـ ٣٩٠ ، الاستبصار ١ : ١٢٩ ـ ٤٢٧ ، وفيها بدل أكبر : أطهر.

(٤) أي : لو توضّأ أوّلا ثم أحدث.

١٣٦

الفصل السابع : في الأغسال المسنونة.

وهي على الأشهر ثمانية وعشرون غسلا ، ستة عشر للوقت ، وسبعة للفعل ، وخمسة للمكان.

مسألة ٢٧٢ : ذهب أكثر علمائنا إلى أن غسل الجمعة مستحب‌ ليس بواجب(١) ـ وهو قول جمهور أهل العلم(٢) ـ لأن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ، ومن اغتسل فالغسل أفضل )(٣) وقولهعليه‌السلام : ( فبها ) معناه بالفريضة أخذ ، وقوله : ( ونعمت ) يعني الخلّة الفريضة.

ومن طريق الخاصة ما رواه زرارة قال : سألت الصادقعليه‌السلام عن غسل الجمعة ، قال : « سنة في الحضر والسفر إلا أن يخاف المسافر على نفسه القر(٤) »(٥) .

__________________

(١) منهم المفيد في المقنعة : ٦ ، والشيخ الطوسي في المبسوط ١ : ٤٠ ، وأبو الصلاح الحلبي في الكافي : ١٣٥ ، والمحقق في المعتبر : ٩٧.

(٢) المجموع ٢ : ٢٠١ و ٤ : ٥٣٥ ، المغني ٢ : ١٩٩ ، العدة شرح العمدة : ١٠٩ ، المهذب لأبي إسحاق ١ : ١٢٠ ، المبسوط للسرخسي ١ : ٨٩ ، بدائع الصنائع ١ : ٢٦٩.

(٣) سنن أبي داود ١ : ٩٧ ـ ٣٥٤ ، سنن النسائي ٣ : ٩٤.

(٤) القرّ : البرد. الصحاح ٢ : ٧٨٩ « قرر ».

(٥) التهذيب ١ : ١١٢ ـ ٢٩٦ ، الاستبصار ١ : ١٠٢ ـ ٣٣٤.

١٣٧

وقال الصدوق : إنه واجب(١) ـ وبه قال الحسن البصري ، وداود ، ومالك ، وأهل الظاهر(٢) ـ لأن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( غسل الجمعة واجب على كل محتلم )(٣) .

وقال الرضاعليه‌السلام وقد سئل عن غسل الجمعة : « واجب على كل ذكر وأنثى من حر وعبد »(٤) وهو محمول على شدة الاستحباب عملا بالجمع بين الأحاديث وبأصالة البراءة.

فروع :

أ ـ استحباب غسل الجمعة مؤكد للرجال والنساء ، سفرا وحضرا ، وغسل مس الميت آكد ، أما إن قلنا بوجوبه ـ على ما اخترناه ـ فظاهر ، وإن قلنا : إنه سنة فكذلك لأن سببه وجد منه فهو بغسل الجنابة أشبه ، ولأن الخلاف في وجوبه أكثر من خلاف غسل الجمعة ، وهو أحد قولي الشافعي ، والثاني : غسل الجمعة(٥) لورود الأخبار بوجوبه(٦) .

والفائدة تظهر فيما لو اجتمع اثنان على ماء مباح ، أحدهما من أهل الجمعة ، والآخر ليس من أهلها وقد مس ميتا.

ب ـ وهو مستحب لآتي الجمعة وغيره كالنساء ، والعبيد ، والمسافرين‌

__________________

(١) الفقيه ١ : ٦١.

(٢) بداية المجتهد ١ : ١٦٤ ، القوانين الفقهية : ٣٢ ، المحلى ٢ : ٨ ، المجموع ٤ : ٥٣٥ ، المبسوط للسرخسي ١ : ٨٩.

(٣) صحيح البخاري ٢ : ٣ ، صحيح مسلم ٢ : ٥٨٠ ـ ٨٤٦.

(٤) الكافي ٣ : ٤١ ـ ١ و ٤٢ ـ ٢ ، التهذيب ١ : ١١١ ـ ٢٩١ ، الاستبصار ١ : ١٠٣ ـ ٣٣٦.

(٥) المجموع ٢ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤ و ٥ : ١٨٦ ، مغني المحتاج ١ : ٢٩٢.

(٦) صحيح البخاري ٢ : ٣ ، صحيح مسلم ٢ : ٥٨٠ ـ ٨٤٦ ، سنن ابن ماجة ١ : ٢٤٦ ـ ١٠٨٩.

١٣٨

عند علمائنا ـ وبه قال أبو ثور ، والشافعي في أحد القولين(١) ـ لقولهعليه‌السلام : ( غسل الجمعة واجب على كل محتلم )(٢) .

ومن طريق الخاصة قول الرضاعليه‌السلام : « إنه واجب على كل ذكر وأنثى من حر وعبد »(٣) .

والثاني للشافعي : يستحب لآتي الجمعة خاصة(٤) لقولهعليه‌السلام : ( من جاء إلى الجمعة فليغتسل )(٥) وهو يدل من حيث المفهوم ، فلا يعارض المنطوق.

ج ـ لو حضرت المرأة المسجد استحب لها ، أما عندنا فظاهر ، وأما عند الشافعي فللخبر(٦) .

وقال أحمد : لا يستحب لأنها غير مخاطبة بالجمعة(٧) ، وينتقض بالعبد.

د ـ وقته من طلوع الفجر الثاني إلى الزوال ، وكلّما قرب من الزوال كان أفضل ، قاله علماؤنا ـ وبه قال الشافعي(٨) ـ لأن النبيّعليه‌السلام قال :

__________________

(١) المجموع ٢ : ٢٠١ و ٤ : ٥٣٤ ، مغني المحتاج ١ : ٢٩٠ ، السراج الوهاج : ٨٨.

(٢) صحيح البخاري ٢ : ٣ ، صحيح مسلم ٢ : ٥٨٠ ـ ٨٤٦.

(٣) الكافي ٣ : ٤١ ـ ١ و ٤٢ ـ ٢ ، التهذيب ١ : ١١١ ـ ٢٩١ ، الاستبصار ١ : ١٠٣ ـ ٣٣٦.

(٤) المجموع ٢ : ٢٠١ و ٤ : ٥٣٣ ، السراج الوهاج : ٨٨ ، الوجيز ١ : ٦٦ ، مغني المحتاج ١ : ٢٩٠.

(٥) صحيح البخاري ٢ : ٢ و ٤ و ٦ ، صحيح مسلم ٢ : ٥٧٩ ـ ٨٤٤ ، سنن النسائي ٣ : ٩٣ ، سنن الدارمي ١ : ٣٦١ ، سنن ابن ماجة ١ : ٣٤٦ ـ ١٠٨٨ و ٣٤٩ ـ ١٠٩٨ ، سنن البيهقي ١ : ٢٩٧ ، مسند أحمد ١ : ١٥ و ٤٦.

(٦) صحيح البخاري ٢ : ٢ ، صحيح مسلم ٢ : ٥٧٩ ـ ٨٤٤.

(٧) المغني ٢ : ٢٠١ ، الشرح الكبير ٢ : ٢٠١.

(٨) المجموع ٤ : ٥٣٤ ، مغني المحتاج ١ : ٢٩١.

١٣٩

( من اغتسل يوم الجمعة ثم راح فكأنما قرّب بدنة )(١) .

ومن طريق الخاصة قول أحدهماعليهما‌السلام : « إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك للجنابة والجمعة »(٢) .

ولأن القصد التنظيف للصلاة ، وإزالة الرائحة الكريهة من البدن للاجتماع فيستحب عنده وليس شرطا.

وقال مالك : لا يعتد بالغسل إلاّ أن يتصل به الرواح(٣) لقولهعليه‌السلام : ( من جاء إلى الجمعة فليغتسل )(٤) وليس فيه دلالة.

هـ ـ لا يجوز إيقاعه قبل الفجر اختيارا ، فإن قدمه لم يجزئه إلا إذا يئس من الماء ـ وبه قال الشافعي(٥) ـ للإجماع ، ولأن النبيّعليه‌السلام أضاف الغسل إلى اليوم(٦) . وقال الأوزاعي : يجوز قبل الفجر لأنه يوم عيد فجاز قبل الفجر كالعيدين(٧) . ونمنع حكم الأصل ، والفرق أن وقت العيد طلوع الشمس ، فيضيق على الناس وقت الغسل من الفجر فيجوز قبله ، بخلاف الجمعة لأنها بعد الزوال.

__________________

(١) صحيح مسلم ٢ : ٥٨٢ ـ ٨٥٠ ، سنن الترمذي ٢ : ٣٧٢ ـ ٤٩٩ ، الموطأ ١ : ١٠١ ـ ١ ، مسند أحمد ٢ : ٤٦٠.

(٢) الكافي ٣ : ٤١ ـ ١ ، التهذيب ١ : ١٠٧ ـ ٢٧٩.

(٣) المدونة الكبرى ١ : ١٤٥ ، المجموع ٤ : ٥٣٦ ، المغني ٢ : ٢٠٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٢٠٠ ، المحلى ٢ : ٢٢.

(٤) صحيح البخاري ٢ : ٢ و ٤ و ٦ ، صحيح مسلم ٢ : ٥٧٩ ـ ٨٤٤ ، سنن النسائي ٣ : ٩٣ ، مسند أحمد ١ : ١٥ و ٤٦ ، سنن ابن ماجة ١ : ٣٤٦ ـ ١٠٨٨ و ٣٤٩ ـ ١٠٩٨ ، سنن البيهقي ١ : ٢٩٧ ، سنن الدارمي ١ : ٣٦١.

(٥) المجموع ٤ : ٥٣٤ ، مغني المحتاج ١ : ٢٩١.

(٦) صحيح البخاري ٢ : ٣ ، صحيح مسلم ٢ : ٥٨١ ـ ٨٤٦ ، سنن ابن ماجة ١ : ٣٤٦ ـ ١٠٨٩.

(٧) المغني ٢ : ٢٠٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٢٠٠ ، المجموع ٤ : ٥٣٦.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

للآية ، بأن أحد المشركين ـ واسمه العاص بن وائل ـ قد منع أجيره أجره ـ والظاهر أنّه كان مسلما ـ وقال متهكما : إن كان ما يقوله محمّد حقا فنحن أولى من غيرنا بنعم الجنّة ، وسندفع أجر هذا العامل بالكامل هناك! فنزلت هذه الآية وقالت : إنّ الجنّة مختصة بمن كان تقيا.

* * *

٤٨١

الآيتان

( وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) )

سبب النّزول

ذكر جماعة من المفسّرين في سبب نزول هاتين الآيتين ، أنّ الوحي انقطع أيّاما ، ولم يأت جبرئيل رسول الوحي الإلهي إلى النّبي ، فلمّا انقضت هذه المدّة قال له : قال عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما منعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا» ، فنزلت الآية :( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) (1) .

التّفسير

الطاعة التّامة :

بالرّغم من أن لهذه الآية سبب نزول ذكر أعلاه ، إلّا أنّ هذا لا يكون مانعا من

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 352 ، عن مجمع البيان ، وتفسير القرطبي ، الجزء 11 ، ص 416 ، وذيل الآية مورد البحث باختلاف يسير.

٤٨٢

أن يكون لها ارتباطا منطقيا بالآيات السابقة ، لأنّها تأكيد على أنّ كل ما أتى به جبرئيل من الآيات السابقة قد بلغه عن الله بدون زيادة أو نقصان ، ولا شيء من عنده ، فتتحدث الآية الأولى على لسان رسول الوحي فتقول :( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) فكل شيء منه، ونحن عباد وضعنا أرواحنا وقلوبنا على الأكف( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) والخلاصة : فإنّ الماضي والحاضر والمستقبل ، وهنا وهناك وكل مكان ، والدنيا والآخرة والبرزخ ، كل ذلك متعلق بذات الله المقدسة.

وقد ذكر بعض المفسّرين لجملة( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) آراء عديدة بلغت أحيانا أحد عشر قولا ما ذكرنا أعلاه هو أنسبها جميعا كما يبدو

ثمّ تضيف الآية : إن كل ذلك بأمر ربّك( رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ) فإذا كان الأمر كذلك ، وكل الخطوط تنتهي إليه( فَاعْبُدْهُ ) عبادة مقترنة بالتوحيد والإخلاص. ولما كان هذا الطريق ـ طريق العبودية والطاعة وعبادة الله الخالصة ـ مليء بالمشاكل والمصاعب ، فقد أضافت( وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ ) ، وتقول في آخر جملة :( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) .

وهذه الجملة في الواقع ، دليل على ما جاء في الجملة السابقة ، يعني : هل لذاته المقدسة شريك ومثيل حتى تمد يدك اليه وتعبده؟

إنّ كلمة (سمي) وإن كانت تعني «المشترك في الاسم» ، إلّا أن من الواضح أنّ المراد هنا ليس الاسم فقط ، بل محتوى الاسم ، أي : هل تعلم أحدا غير الله خالقا رازقا ، محييا مميتا ، قادرا على كل شيء ، وظاهرا على كل شيء؟

* * *

٤٨٣

الآيات

( وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) )

سبب النّزول

الآيات الأولى ـ على رأي جماعة من المفسّرين ـ نزلت في شأن «أبي بن خلف» ، أو «الوليد بن المغيرة» ، حيث أخذوا قطعة من عظم منخور ، ففتوه بأيديهم ونثروه في الهواء حتى تطايرت كل ذرة منه إلى جهة ، وقالوا انظروا إلى محمّد الذي يظن أن الله يحيينا بعد موتنا وتلاشي عظامنا مثل هذا العظم! إن هذا شيء غير ممكن أبدا. فنزلت هذه الآيات وأجابتهم ، جوابا قاطعا ، جوابا مفيدا ومعلما لكل البشر ، وفي جميع القرون والأعصار.

٤٨٤

التّفسير

حال أهل النّار :

مرّت في الآيات السابقة بحوث عديدة حول القيامة والجنّة والجحيم ، وتتحدث هذه الآيات التي نبحثها حول نفس الموضوع ، فتعيد الآية الأولى أقوال منكري المعاد ، فتقول:( وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ) .

هذا الاستفهام استفهام إنكاري طبعا ، أي إنّ هذا الشيء غير ممكن. أمّا التعبير بالإنسان (وخاصّة مع ألف ولام الجنس) ، مع أنّه كان من المناسب أن يذكر الكافر محله ـ فربّما كان من جهة أن هذا السؤال مخفي في طبع كل إنسان في البداية بزيادة ونقيصة ، وبسماع مسألة الحياة بعد الموت سترتسم في ذهنه علامة الاستفهام فورا.

ثمّ يجيبهم مباشرة بنفس التعبير( أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ) . ويمكن أن يكون التعبير بـ «الإنسان» هنا أيضا إشارة إلى أن الإنسان مع ذلك الاستعداد والذكاء الذي منحه الله إيّاه ، يجب أن لا يجلس ساكتا أمام هذا السؤال ، بل يجب أن يجيب عليه بتذكر الخلق الأوّل ، وإلّا فإنّه لم يستعمل حقيقة إنسانيته.

إنّ هذه الآيات ـ ككثير من الآيات المرتبطة بالمعاد ـ تؤكّد على المعنى الجسماني ، وإلّا فإذا كان القرار أن تبقى الروح فقط ، ولا وجود لرجوع الجسم إلى الحياة ، فلا مكان ولا معنى لذلك السؤال ، ولا لهذا الجواب.

على كل حال ، فقد استعمل القرآن هذا المنطق لإثبات المعاد هنا ، وقد جاء في مواضع أخرى من القرآن أيضا ، ومن جملتها في أواخر سورة يس ، حيث طرح الأمر بنفس تعبير الإنسان :( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ

٤٨٥

يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (1) (2) .

بعض المفسّرين طرح هنا سؤالا ، وهو أن هذا الدليل إذا كان صحيحا ، بأنّ كل شخص إذا ما عمل عملا فإنّه قادر على إعادته ، فلما ذا نقوم بأعمال ثمّ نعجز عن تكرارها أحيانا؟ فمثلا قد ننشد قطعة شعرية رائعة جدّا ، أو نكتب بخط جميل جدّا ، غير أنّنا بعد ذلك نجتهد في الإتيان بمثله ولكن دون جدوى.

الجواب هو : صحيح أنّنا نقوم بأعمالنا بإرادة واختيار ، إلّا أن هناك سلسلة من الأمور غير الإرادية تؤثر في أفعالنا الخاصّة أحيانا ، فإنّ حركة واهتزاز يدنا غير المحسوس يؤثر أحيانا في دقة شكل الحروف. إضافة إلى أن قدرتنا واستعدادنا ليسا متساويين دائما ، فقد تعرض أحيانا عوامل تعبئ كل قوانا الداخلية ، ونستطيع أن نبدع في الأعمال ونأتي بأعلاها، إلّا أنّ هذه الدوافع تكون ضعيفة أحيانا ، فلا تستجمع كل الطاقات ، ولذلك فإن العمل الثّاني لا ينفذ بدقة وجودة العمل الأوّل.

إلّا أنّ الله الذي لا تنتهي قدرته ، لا تثار حوله هذه المسائل ، ولا تقاس قدرته على أعمالنا وقدراتنا ، فإنّه إذا عمل عملا فإنّه يستطيع إعادته بعينه بدون زيادة أو نقصان.

ثمّ تهدد الآية التالية منكري المعاد ، والمجرمين الكافرين :( فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) .

إنّ هذه الآية توحي بأنّ محكمة الأفراد الكافرين والمجرمين قريبة من جهنم! والتعبير بـ «جثيا» ـ مع العلم أن جثي جمع جاثي ، وهو الذي يجثو على ركبتيه ـ ربّما كان إشارة إلى ضعف وعجز وذلة هؤلاء ، حتى أنّهم لا قدرة لهم على الوقوف أحيانا.

__________________

(1) يس ، 77 ـ 79.

(2) لقد بحثنا حول هذا الدليل في ذيل الآية (29) من الأعراف تحت عنوان (أقصر دليل لإثبات المعاد).

٤٨٦

ولهذه الكلمة معاني أخرى أيضا ، فمن جملتها أنّهم فسروا «جثيا» بمعنى جماعة جماعة ، وبعضهم فسّرها بمعنى الكثرة وازدحام بعضهم على بعض كتراكم التراب والحجارة ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب والأشهر.

ولما كانت الأولويات تلاحظ في تلك المحكمة العادلة ، فإنّ الآية التالية تقول :( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ) (1) ونبدأ بحسابهم أوّلا ، فإنّهم عتوا عتوا نسوا معه كل مواهب الله الرحمان ، وجنحوا إلى التمرد والعصيان وإظهار الوقاحة أمام ولي نعمتهم! أجل ، إن هؤلاء أحق من الجميع بالجحيم.

ثمّ تؤكّد على هذا المعنى مرّة أخرى فتقول :( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا ) فسنختار هؤلاء بدقة ، وسوف لا يقع أي اشتباه في هذا الإختيار.

(صلي) مصدر يعطي معنى إشعال النار وإيقادها ، كما يعني حرق الشيء بالنّار.

* * *

__________________

(1) «الشيعة» في الأصل بمعنى الجماعة التي يتعاون أفرادها للقيام بعمل ما ، وانتخاب هذا التعبير في الآية يمكن أن يكون إشارة إلى أن العتاة المردة والضالين الكافرين كانوا يتعاونون في طريق الطغيان ، ونحن سنحاسب هؤلاء أوّلا ، لأنّهم أكثر تمردا وعصيانا من الجميع.

٤٨٧

الآيتان

( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) )

التّفسير

الجميع يردون جهنم!

تستمر الآيات في بحث خصائص القيامة والثواب والعقاب ، وأشارت في البداية إلى مسألة يثير سماعها الحيرة والعجب لدى أغلب الناس ، فتقول :( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) فجميع الناس سيدخلون جهنم بدون استثناء لأنّه أمر حتمي.

( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) فنتركهم فيها جالسين على الركب من الضعف والذّل.

وهناك بحث مفصل بين المفسّرين في تفسير هاتين الآيتين حول المراد من «الورود» في جملة( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) .

فيرى بعض المفسّرين أنّ «الورود» هنا بمعنى الاقتراب والإشراف ، أي إن جميع الناس بدون استثناء ـ المحسن منهم والمسيء ـ يأتون إلى جانب جهنم للحساب ، أو لمشاهدة مصير المسيئين النهائي ، ثمّ ينجي الله المتقين ، ويدع

٤٨٨

الظالمين فيها. وقد استدل هؤلاء لدعم هذا التّفسير بالآية (23) من سورة القصص :( وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ) حيث أن للورود هنا نفس المعنى.

والتّفسير الثّاني الذي اختاره أكثر المفسّرين ، هو أن الورود هنا بمعنى الدخول ، وعلى هذا الأساس فإنّ كل الناس بدون استثناء ـ محسنهم ومسيئهم ـ يدخلون جهنم ، إلّا أنّها ستكون بردا وسلاما على المحسنين ، كحال نار نمرود على إبراهيم( يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ) ، لأنّ النّار ليست من سنخ هؤلاء الصالحين ، فقد تفر منهم وتبتعد عنهم ، إلّا أنّها تناسب الجهنميين فهم بالنسبة للجحيم كالمادة القابلة للاشتعال ، فما أن تمسهم النار حتى يشتعلوا.

وبغض النظر عن فلسفة هذا العمل ، والتي سنشرحها فيما بعد ـ إن شاء الله تعالى ـ فإنّ ممّا لا شك في أنّ ظاهر الآية يلائم وينسجم مع التّفسير الثاني ، لأنّ المعنى الأصلي للورود هو الدخول ، وغيره يحتاج إلى قرينة. إضافة إلى أن جملة( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) وكذلك جملة( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها ) كلتاهما شاهدتان على هذا المعنى. علاوة على الرّوايات المتعددة الواصلة إلينا في تفسير الآية التي تؤيد هذا المعنى ، ومن جملتها :

روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّ رجلا سأله عن هذه الآية ، فأشار جابر بإصبعيه إلى أذنيه وقال : صمتا إن لم أكن سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «الورود الدّخول ، لا يبقى بر ولا فاجر إلّا يدخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، حتى أن للنّار ـ أو قال لجهنم ـ ضجيجا من بردها ، ثمّ ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا»(1) .

وفي حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تقول النّار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن ، فقد أطفأ نورك لهبي»(2) !

__________________

(1) نور الثقلين ، الجزء 3 ، ص 353.

(2) المصدر السّابق.

٤٨٩

ويستفاد هذا المعنى أيضا من بعض الرّوايات الأخرى. وكذلك التعبير العميق المعنى للصراط ، والذي ورد في روايات متعددة بأنّه جسر على جهنم ، وأنّه أدق من الشعرة وأحد من السيف ، هذا التعبير شاهد آخر على هذا التّفسير(1) .

أمّا ما يقوله البعض من أن الآية (101) من سورة الأنبياء :( أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) دليل على التّفسير الأوّل ، فلا يبدو صحيحا ، لأن هذه الآية مرتبطة بمحل إقامة ومقر المؤمنين الدائمي ، حتى أنّنا نقرأ في الآية التالية لهذه الآية :( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) فإذا كان الورود في آية البحث بمعنى الاقتراب ، فهي غير مناسبة لكلمة( مُبْعَدُونَ ) ولا لجملة( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) .

جواب عن سؤال :

السؤال الوحيد الذي يبقى هنا ، هو : ما هي الحكمة هذا العمل؟ وهل أن المؤمنين لا يرون أذى ولا عذابا من هذا العمل؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال ـ التي وردت في الرّوايات حول كلا الشقين ـ ستتضح بقليل من الدقة.

إنّ مشاهدة جهنم وعذابها في الحقيقة ، ستكون مقدمة لكي يلتذ المؤمنون بنعم الجنة بأعلى مراتب اللذة ، لأن أحدا لا يعرف قدر العافية حتى يبتلى بمصيبة (وبضدها تتمايز الأشياء) فهناك لا يبتلى المؤمنون بمصيبة ، بل يشاهدون المصيبة على المسرح فقط ، وكما قرأنا في الرّوايات السابقة ، فإنّ النّار تصبح بردا وسلاما على هؤلاء ، ويطغى نورهم على نورها ويخمده.

إضافة إلى أنّ هؤلاء يمرون على النار بكل سرعة بحيث لا يرى عليهم أدنى أثر ، كما

روي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في حديث : «يرد الناس ثمّ يصدون بأعمالهم ،

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 5 ، ص 572 ذيل آية( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) الفجر ، 14.

٤٩٠

فأوّلهم كلمع البرق ، ثمّ كمر الريح ، ثمّ كحضر الفرس ، ثمّ كالراكب ، ثمّ كشد الرجل ، ثمّ كمشيه»(1) .

وإذا تجاوزنا ذلك ، فإنّ أهل النّار أيضا سيلقون عذابا أشد من رؤية هذا المشهد ، وأن أهل الجنّة يمرون بتلك السرعة وهم يبقون في النّار ، وبهذا سيتّضح جواب كلا السؤالين.

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 353.

٤٩١

الآيات

( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) )

التّفسير

هذه الآيات تتابع ما مر في الآيات السابقة في الحديث عن الظالمين الذين لا إيمان لهم ، وتتعرض لجانب آخر من منطق هؤلاء الظالمين ومصيرهم.

ومن المعلوم أنّ أوّل جماعة آمنت بالرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا من المستضعفين الطاهري القلوب ، والذين خلت أيديهم من مال الدنيا ومغرياتها هؤلاء المحرومون هم الذين جاءت الأديان الإلهية من أجل إنقاذهم من قبضة

٤٩٢

الظالمين الجائرين بلال وسلمان ، وعمار ، وخباب ، وسمية ، وأمثالهم مصاديق بارزة لهؤلاء المؤمنين المظلومين.

ولما كان المعيار في المجتمع الجاهلي في ذلك الزمان ـ وكذا في كل مجتمع جاهلي آخر ـ هو الذهب والزينة والمال والمقام والمنصب والهيئة الظاهرية ، فكان الأثرياء الظالمون ، كالنضر بن الحارث وأمثاله يفتخرون على المؤمنين الفقراء بذلك ويقولون : إنّ علامة شخصيتنا معنا ، وعلامة عدم شخصيتكم فقركم ومحروميتكم ، وهذا بنفسه دليل على أحقيتنا وباطلكم! كما يقول القرآن الكريم في أول آيه من الآيات مورد البحث :( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) .

خاصّة وأنّنا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أن هؤلاء الأشراف المترفين كانوا يلبسون أجمل ملابسهم ، ويتزينون بأبهى زينة ، ويتبخترون أمام أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا ينظرون إليهم نظرة تحقير واستهزاء نعم ، هذه طريقة هذه الطبقة في كل عصر وزمان.

«النديّ» أخذت في الأصل من (الندى) أي الرطوبة ، ثمّ جاءت بمعنى الأفراد الفصحاء والخطباء ، لأن أحد شروط القدرة على التكلم امتلاك القدر الكافي من اللعاب ، ولذلك فإن (نديّ) تعني المجالسة والتحدث ، بل يقال للمجلس الذي يجتمعون فيه للأنس والسمر ، أو يجلسون فيه للتشاور : نادي ، ومن هذا أخذت (دار الندوة) وهي المحل الذي كان في مكّة ، وكان يجتمع فيه زعماؤها للتشاور.

وقد يعبر عن السخاء والبذل والعطاء ب (الندى)(1) وهذه الآية يمكن أن تكون إشارة إلى كل هذه المعاني ، أي : إنّ مجلس أنسنا أجمل من مجلسكم ، وإن مالنا وثروتنا وزينتنا ولباسنا أبهى وأروع ، وإن كلامنا وأشعارنا الفصيحة والبليغة

__________________

(1) مفردات الراغب ، مادة (ندى).

٤٩٣

أبلغ وأحسن!

إلّا أنّ القرآن الكريم يجيب هؤلاء بجواب منطقي ومستدل تماما ، وفي الوقت نفسه قاطع ومفحم ، فيقول : كأن هؤلاء قد نسوا تاريخ البشر ، ولم ينظروا كم دمرنا من الأقوام السابقين عند تمردهم وعصيانهم :( وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً ) (1) فهل استطاعت أموالهم وثروتهم ، ومجالسهم الفاسقة ، وملابسهم الفاخرة ، وصورهم الجميلة أن تمنع العذاب الإلهي وتقف أمامه؟ وإذا كانت هذه الأمور دليلا على شخصيتهم ومنزلتهم عند الله ، فلما ذا ابتلوا بهذا المصير المشؤوم؟

إنّ زخارف الدنيا وبهارجها متزلزلة إلى حدّ أنّها تتلاشى وتزول بمجرّد أن يهب عليها أدنى نسيم هادئ.

«القرن» ـ كما قلنا سابقا في ما مرّ في ذيل الآية (6) من سورة الأنعام ـ تعني عادة الزمان الطويل ، لكن لما كانت قد أخذت من مادة الاقتران ، أي الاقتراب ، فإنّها تقال أيضا للقوم والأناس المجتمعين في زمان واحد.

ثمّ تحذرهم تحذيرا آخر ، بأن لا تظنوا أيّها الظالمون الكافرون أنّ مالكم وثروتكم هذه رحمة ، بل كثيرا ما تكون دليلا على العذاب الإلهي :( قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا. حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ ) إي إمّا العذاب في هذه الدنيا ، وإمّا عذاب الآخرة( فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً ) .

في الحقيقة ، إنّ مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يمكن هدايتهم (والملاحظ أن القرآن يقول :( مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ ) وهو إشارة إلى الاستمرار في الضلال) من

__________________

(1) (الأثاث) بمعنى المتاع وزينة الدنيا ، و (رئي) بمعنى الهيئة والمنظر.

٤٩٤

أجل أن يروا العقاب الإلهي الشديد ، فإنّ الله سبحانه يجعلهم أحيانا يغوصون ويغرقون في النعم لتصبح سببا لغرورهم ، كما تكون سببا لنزول العذاب عليهم ، فإنّ سلب النعم عنهم حينئذ سيجعل لوعة العذاب أشد. وهذا هو ما ذكر في بعض آيات القرآن بعنوان عقاب «الاستدراج»(1) .

جملة( فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ) وإن كانت بصيغة الأمر ، إلّا أنّها بمعنى الخبر ، فمعناها : إنّ الله يمهل هؤلاء ويديهم عليهم النعم.

وقد فسرها بعض المفسّرين بنفس معنى الأمر أيضا ، وأنّه يعني هنا اللعنة ، أو وجوب مثل هذا العمل والمعاملة على الله. إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأقرب.

وكلمة (العذاب) بقرينة وقوعها في مقابل (الساعة) فإنّها إشارة إلى العقوبات الإلهية في عالم الدنيا ، عقوبات كطوفان نوح ، والزلزلة ، والحجارة السماوية التي نزلت على قوم لوط. أو العقوبات التي أصيبوا بها على يد المؤمنين والمقاتلين في جبهات الحق ، كما نقرأ في الآية (14) من سورة التوبة :( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) .

«الساعة» هنا إمّا بمعنى نهاية الدنيا ، أو العذاب الإلهي في القيامة. ويبدو لنا أن المعنى الثّاني هو الأنسب.

هذه عاقبة ومصير الظالمين المخدوعين بزخرف الدنيا وزبرجها ، أمّا أولئك الذين آمنوا واهتدوا ، فإنّ الله يزيدهم هدى وإيمانا( وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ) .

من البديهي أن للهداية درجات ، فإذا طوى الإنسان درجاتها الأولى فإنّ الله يأخذه بيده ويرفعه إلى درجات أعلى ، وكما أنّ الشجرة المثمرة تقطع كل يوم

__________________

(1) راجع ذيل الآيات 182 ، 183 من سورة الأعراف.

٤٩٥

مرحلة جديدة إلى التكامل والإيناع ، فكذلك المهتدون يرتقون كل يوم مراق أعلى في ظل الإيمان والأعمال الصالحة التي يعملونها.

وفي النهاية تجيب الآية هؤلاء الذين اعتمدوا على زينة الدنيا السريعة الزوال ، وجعلوها وسيلة للتفاخر على الآخرين ، فتقول :( وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا ) (1) .

* * *

__________________

(1) «مردّ» ـ على وزن نمدّ بتشديد الدال ـ إمّا مصدر بمعنى الرّد والإرجاع ، أو اسم مكان بمعنى محل الرجوع، والمراد منه هنا الجنّة ، إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أوفق لمعنى الآية.

٤٩٦

الآيات

( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) )

التّفسير

تفكير خرافي ومنحرف :

يعتقد بعض الناس أنّ الإيمان والطهارة والتقوى لا تناسبهم ، وأنّها السبب في أن تدبر الدنيا عنهم ، أمّا إذا خرجوا من دائرة الإيمان والتقوى فإنّ الدنيا ستقبل عليهم ، وتزيد ثروتهم وأموالهم!

إنّ هذا النوع من التفكير ، سواء كان نابعا من البساطة واتباع الخرافات ، أو أنّه غطاء وتستّر للفرار من تحمل المسؤوليات والتعهدات الإلهية ، فهو تفكير خاطئ وخطير.

لقد رأينا عبدة الأوهام هؤلاء يجعلون أحيانا من كثرة أموال وثروات

٤٩٧

الأفراد غير المؤمنين ، وفقر وحرمان جماعة من المؤمنين ، دليلا لإثبات هذه الخرفة ، في حين أنّه لا الأموال التي تصل إلى الإنسان عن طريق الظلم والكفر وترك أسس التقوى تبعث على الفخر ، ولا الإيمان والتقوى يكونان سدا ومانعا في طريق النشاطات المشروعة والمباحة مطلقا.

على كل حال ، فقد كان في عصر النّبي ـ وكذلك في عصرنا ـ أفراد جاهلون يظنون هذه الظنون والأوهام ، أو كانوا يتظاهرون بها على الأقل ، فيتحدث القرآن ـ كمواصلة للبحث الذي بيّنه سابقا حول مصير الكفار والظالمين ـ في الآيات مورد البحث عن طريقة التفكير هذه وعاقبتها ، فيقول في أوّل آية من هذه الآيات :( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً ) (1) .

ثمّ يجيبهم القرآن الكريم :( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) فإنّ الذي يستطيع أن يتكهن بمثل هذا التكهن ، ويقول بوجود علاقة بين الكفر والغنى وامتلاك الأموال والأولاد ، مطلّع على الغيب ، لأنا لا نرى أيّ علاقة بين هاتين المسألتين ، أو يكون قد أخذ عهدا من الله سبحانه ، وهذا الكلام أيضا لا معنى له.

ثمّ يضيف بلهجة حادة : إنّ الأمر ليس كذلك ، ولا يمكن أن يكون الكفر أساسا لزيادة مال وولد أحد مطلقا :( كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ ) .

أجل ، فإنّ هذا الكلام الذي لا أساس له قد يكون سببا في انحراف بعض البسطاء ، وسيثبت كل ذلك في صحيفة أعمال هؤلاء( وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ) .

هذه الجملة قد تكون إشارة إلى العذاب المستمر الخالد ، كما يحتمل أيضا أن

__________________

(1) نقل بعض المفسّرين سببا لنزول الآية وهو : إنّ أحد المؤمنين ـ واسمه خباب ـ كان يطلب أحد المشركين ـ واسمه العاص بن وائل ، فقال المدين مستهزئا : إذا وجدت مالا وولدا في عالم الآخرة فسأؤدي دينك.

إلّا أنّ سبب النّزول هذا لا يناسب الآية التي نبحثها ظاهرا ، خاصّة وأنّ الكلام عن الولد هنا ، ونحن نعلم أنّ الولد في عالم الآخرة غير مطروح للبحث. إضافة إلى أن الآيات التالية تقول بصراحة :( نَرِثُهُ ما يَقُولُ ) ويتّضح من هذا التعبير أنّ المقصود أموال الدنيا لا الأموال في الآخرة.

وعلى كل حال ، فإنّ جماعة من المفسّرين اعتبروا هذه الآية ـ بناء على سبب النّزول هذا ـ إشارة إلى الآخرة ، إلّا أنّ الحق ما قيل.

٤٩٨

تكون إشارة إلى العقوبات التي تحيط بهم في هذه الدنيا نتيجة للكفر وعدم الإيمان. ويحتمل أيضا أنّ هذه الأموال والأولاد التي هي أساس الغرور والضلال هي بنفسها عذاب مستمر لهؤلاء!

( وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ ) من الأموال والأولاد( وَيَأْتِينا فَرْداً ) .

نعم ، إنّه سيترك في النهاية كل هذه الإمكانيات والأملاك المادية ويرحل ، ويحضر في محكمة العدل الإلهية بأيد خالية ، وفي الوقت الذي اسودت فيه صحيفة أعماله من الذنوب والمعاصي ، وخلت من الحسنات هناك ، حيث يرى نتيجة أقواله الجوفاء في دار الدنيا.

وتشير الآية التالية إلى علّة أخرى في عبادة هؤلاء الأفراد للأصنام ، فتقول :( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ) وليشفعوا لهم عند الله ، ويعينوهم في حل مشاكلهم ، لكن ، أي ظن خاطئ وخيال ساذج هذا؟!

ليس الأمر كما يظن هؤلاء أبدا ، فليست الأصنام سوف لا تكون لهم عزّا وحسب، بل ستكون منبعا لذلتهم وعذابهم ، ولهذا فإنّهم سوف ينكرون عبادتهم لها في يوم القيامة:( كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) .

إن هذه الجملة إشارة إلى نفس ذلك المطلب الذي نقرؤه في الآية (14) من سورة فاطر :( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) . وكذلك ما نلاحظه في الآية (6) من سورة الأحقاف :( وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ) .

وقد احتمل بعض كبار المفسّرين أن المراد من الآية : إنّ عبدة الأصنام عند ما ترفع الحجب في القيامة ، وتتضح كل الحقائق ، ويرون أنفسهم قد فضحوا وخزوا ، فإنّهم ينكرون عبادة الأصنام ، وسيقفون ضدها ، كما نقرأ ذلك في الآية (23) من سورة الأنعام :( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب مع ظاهر الآية ، لأن عبّاد الأصنام كانوا يريدون

٤٩٩

أن تكون آلهتهم ومعبوداتهم عزّا لهم ، إلّا أنّهم يصبحون ضدها في النهاية.

ومن الطبيعي أن تكلم المعبودات التي لها عقل وإدراك كالملائكة والشياطين والجن واضح ومعلوم ، إلّا أنّ الآلهة الميتة التي لا روح لها ، من الممكن أن تتكلم بإذن الله وتعلن تنفرها واشمئزازها من عبدتها ومن الممكن أن يستفاد هذا التّفسير من حديث مروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال في تفسير هذه الآية : يكون هؤلاء الذين اتخذوهم آلهة من دون الله ضدا يوم القيامة ويتبرءون منهم ومن عبادتهم إلى يوم القيامة.

والجميل في الأمر أننا نقرأ في ذيل الحديث جملة قصيرة عميقة المحتوى حول العبادة:ليس العبادة هي السجود ولا الركوع ، وإنّما هي طاعة الرجال ، من أطاع مخلوقا في معصية الخالق فقد عبده»(1) .

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 357.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512